تفسير سورة هود

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة هود من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
الجزء الثاني عشر من أجزاء القرآن الكريم
سورة هود مكية غير آية قوله ﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار ﴾ وحروفها سبعة آلاف وست مائة وخمسة وكلامها ألف وسبع مائة وخمسة عشر وآياتها مائة وثلاثة وعشرون.

[المجلد الرابع]

بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء الثاني عشر من أجزاء القرآن الكريم
(سورة هود)
مكية غير آية قوله وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وحروفها ٧٦٠٥ وكلامها ١٧١٥ وآياتها ١٢٣
[سورة هود (١١) : الآيات ١ الى ٢٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤)
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩)
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩)
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤)
3
القراآت:
وَإِنْ تَوَلَّوْا بإظهار النون وتشديد التاء: البزي وابن فليح فَإِنِّي أَخافُ بفتح الياء، أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. عَنِّي إِنَّهُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابو عمرو.
الوقوف:
الر ق كوفي خَبِيرٍ هـ لا بناء على أنّ ألا يتعلق بما قبله إِلَّا اللَّهَ ط وَبَشِيرٌ هـ لا للعطف فَضْلَهُ ج كَبِيرٍ هـ مَرْجِعُكُمْ ج لاحتمال الحال والاستئناف قَدِيرٌ هـ مِنْهُ ط ثِيابَهُمْ لا بناء على أن عامل حِينَ قوله: يَعْلَمُ يُعْلِنُونَ ج الصُّدُورِ هـ وَمُسْتَوْدَعَها ط مُبِينٍ هـ عَمَلًا ط مُبِينٌ هـ ما يَحْبِسُهُ ط يَسْتَهْزِؤُنَ هـ مِنْهُ ج لحذف جواب لَئِنْ أي لييأسن. وقيل: جوابها إنه والأول أوجه كَفُورٌ هـ عَنِّي ط فَخُورٌ لا للاستثناء الصَّالِحاتِ ط كَبِيرٌ هـ مَلَكٌ ط نَذِيرٌ هـ وَكِيلٌ هـ ط «أم» استفهام تقريع افْتَراهُ ط صادِقِينَ هـ إِلَّا هُوَ ج ط للاستفهام مع الفاء. مُسْلِمُونَ هـ يُبْخَسُونَ هـ إِلَّا النَّارُ ز بناء على أن «ليس» بمنزلة حرف النفي والوصل أوجه لأن «ليس» فعل ماض وهو مع ما عطف عليه المجموع جزاء. يَعْمَلُونَ هـ رَحْمَةً ط يُؤْمِنُونَ بِهِ ط مَوْعِدُهُ ج لاختلاف الجملتين مع الفاء لا يُؤْمِنُونَ هـ كَذِباً ط عَلى رَبِّهِمْ الثاني ج لأن ما بعده يحتمل أن يكون من قول الأشهاد أو ابتداء إخبار. الظَّالِمِينَ هـ لا عِوَجاً ط مِنْ أَوْلِياءَ م لئلا يوهم أن ما بعده صفة أولياء الْعَذابُ ط يُبْصِرُونَ هـ يَفْتَرُونَ
هـ الْأَخْسَرُونَ هـ إِلى رَبِّهِمْ لا لأن ما بعده خبر «إن». الْجَنَّةِ ج خالِدُونَ هـ وَالسَّمِيعِ ط مَثَلًا ط تَذَكَّرُونَ هـ.
التفسير:
الر إن كان اسما للسورة فما بعده خبره، وإن كان واردا على سبيل
4
التعديد أو كان معناه أنا الله أرى فقوله: كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف أي هذا الكتاب.
والإشارة إما إلى هذا البعض وإما إلى مجموع القرآن. ومعنى أُحْكِمَتْ نظمت نظما رصينا من غير نقض ونقص، أو جعلت حكيمة من حكم بالضم إذا صار حكيما، أو منعت من الفساد والبطلان من قولهم: أحكمت الدابة وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح. أي لم ينسخ بكتاب سواه كما نسخ سائر الكتب وذلك لاشتماله على العلوم النظرية والعلمية والظاهرية والباطنية وعلى أصول جميع الشرائع، فلا محالة لا يتطرق إليه تبديل وتغيير. ثُمَّ فُصِّلَتْ كما تفصل القلائد بالفرائد من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص، لكل معنى من هذه المعاني فصل انفرد به. أو جعلت فصولا سورة سورة وآية وآية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة، أو فصل فيها تكاليف العباد وبين ما يحتاجون إليه في إصلاح المعاش والمعاد. ومعنى «ثم» التراخي في الحال كقولك: فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل. وأُحْكِمَتْ صفة كتاب. ومِنْ لَدُنْ صفة ثانية أو خبر بعد خبر أو صلة لأحكمت وفصلت أي من عنده إحكامها وتفصيلها. وفي قوله: حَكِيمٍ خَبِيرٍ لف ونشر لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها خبير عالم بمواقع الأمور. احتج الجبائي بقوله: أُحْكِمَتْ ثُمَّ فُصِّلَتْ على كون القرآن محدثا لأن الإحكام والتفصيل يكون بجعل جاعل، وكذا بقوله: مِنْ لَدُنْ لأن القديم لا يصدر من القديم. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الأصوات والحروف وإنما النزاع في الكلام النفسي. وقوله: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ مفعول له أي لأجل ذلك أو يكون «أن» مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل: ثم قيل للنبي ﷺ قل لهم لا تعبدوا. وجوز في الكشاف أن يكون كلاما مبتدأ منطقعا عما قبله محكيا على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم يغري أمته على اختصاص الله بالعبادة كأنه قال: ترك عبادة غير الله مثل فَضَرْبَ الرِّقابِ [محمد: ٤] والضمير في مِنْهُ لله عز وجل حالا من نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي إنني لكم نذير من جهته إن لم تخصوه بالتعبد، وبشير إن خصصتموه بذلك. ويجوز أن يكون مِنْهُ صلة لنذير أي أنذركم منه ومن عذابه، ويكون صلة بشير محذوفا أي أبشركم بثوابه. ثم عطف على قوله: أَلَّا تَعْبُدُوا قوله: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا أي اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم. ثم بين الشيء الذي به يطلب ذلك وهو التوبة فقال: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فالتوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار، وما كان آخرا في الحصول كان أولا في الطلب، فلهذا قدم الاستغفار على التوبة. وقيل: استغفروا أي توبوا ثم قال: تُوبُوا أي أخلصوا التوبة واستقيموا عليها. وقيل: استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا من أنف الذنوب. وقيل:
استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة. وقيل: الاستغفار أن يطلب من الله الإعانة في
5
إزالة ما لا ينبغي، والتوبة سعي الإنسان في الطاعة والاستعانة بفضل الله مقدم على الاستعانة بسعي النفس. ثم رتب على الامتثال أمرين: الأول التمتع بالمنافع الدنيوية إلى حين الوفاة كقوله فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل: ٩٧].
سؤال: كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الزخرف: ٣٣]
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن» «١»،
«البلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء» ؟ «٢»
وأجيب بأن المراد أن لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أو يرزقهم كيف كان.
والجواب الثاني أن الإنسان إذا كان مشغولا بطاعة الله مستغرقا في نور معرفته وعبادته كان مبتهجا في نفسه مسرورا في ذاته، هينا عليه ما فاته من اللذات العاجلة، قانعا بما يصيبه من الخيرات الزائلة. الثاني قوله: وَيُؤْتِ أي في الآخرة كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي موجب فضل ذلك الشخص ومقتضاه يعني الجزاء المرتب على عمله بحسب تزايد الطاعات. وتسمية العمل الحسن فضلا تشريف ويجوز أن يعود الضمير في فَضْلَهُ إلى الله تعالى. وفيه تنبيه على أن الدرجات في الجنة تتفاضل بحسب تزايد الطاعات. ثم أوعد على مخالفة الأمر فقال: وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تتولوا فحذفت إحدى التاءين والمعنى إن تعرضوا عن الإخلاص في العبادة وعن الاستغفار والتوبة فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة الموصوف بالعظم والثقل أيضا وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الدهر: ٢٧]. ثم بين كبر عذاب ذلك اليوم بقوله: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ أي لا حكم في ذلك اليوم إلا لله ولا رجوع إلا إلى جزائه، وهو مع ذلك كامل القدرة نافذ الحكم فما ظنكم بعذاب يكون المعذب به مثله. وفيه من التهديد ما فيه ولكن الآية تتضمن البشارة من وجه آخر. وذلك أن الحاكم الموصوف بمثل هذه العظمة والقدرة والاستقلال في الحكم إذا رأى عاجزا مشرفا على الهلاك فإنه يرحم عليه ولا يقيم لعذابه وزنا. اللهم لا تخيب رجاءنا فإنك واسع المغفرة. ثم ذكر أن التولي عن الأوامر المذكورة باطنا كالتولي عنها ظاهرا فقال: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ يقال ثنى صدره عن الشيء إذا ازورّ عنه وانحرف وطوى عنه كشحا.
(١) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث: ١. الترمذي في كتاب الزهد باب: ١٦. ابن ماجه في كتاب الزهد باب: ٣. أحمد في مسنده (٢/ ١٩٧، ٣٢٣).
(٢) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب: ٥٧. البخاري في كتاب المرضى باب: ٣. ابن ماجه في كتاب الفتن باب: ٢٣. الدارمي في كتاب الرقاق باب: ٦٧. أحمد في مسنده (١/ ١٧٢/ ١٨٠).
6
قال المفسرون: وهاهنا إضمار أي يثنون صدورهم ويريدون لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي من الله. ثم كرر كلمة أَلا تنبيها على وقت استخفائهم وهو حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي يريدون الاستخفاء في وقت استغشاء الثياب. قال الكلبي: ثني صدورهم كناية عن نفاقهم لما روي أن طائفة من المشركين منهم الأخنس بن شريق قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فكيف يعلم بنا. وعلى هذا لا حاجة إلى الإضمار. وقيل: إنه حقيقة، وذلك أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله ﷺ ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه لئلا يسمع كلام رسول الله ﷺ وما يتلو من القرآن، وليقول في نفسه ما يشتهي من الطعن. ثم استأنف قوله: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ تنبيها على أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء لأنه تعالى عالم بالسرائر كما أنه عالم بالظواهر.
ثم أكد كونه عالما بكل المعلومات بكونه كافلا لأرزاق جميع الحيوانات ضامنا لمصالحها ومهامها فضلا وامتنانا وكرما وإحسانا فقال: وَما مِنْ دَابَّةٍ الآية. والمستقر مكانها من الأرض، والمستودع ما قبل ذلك من الأمكنة من صلب أو رحم أو بيضة. وقال الفراء:
مستقرها حيث تأوي إليه ليلا أو نهارا، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه. وقد مر تمام الأقوال في سورة الأنعام. واستدل الأشاعرة بالآية على أن الحرام رزق لأنها تدل على أن إيصال الرزق إلى كل حيوان واجب على الله بحسب الوعد عندنا أو بحسب الاستحقاق عند المعتزلة شبه النذر. ثم إنا نرى إنسانا لا يأكل من الحلال طول عمره وقد سماه الله تعالى رزقا. ثم ختم الآية بقوله: كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي كل واحد من الدواب.
ورزقها ومستقرها ومستودعها ثابت. في علم الله أو في اللوح المحفوظ. وقد ذكرنا فائدته في قوله: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: ٥٩] يروى أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه تعلق قلبه بأهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه صخرة فانشقت فخرجت منها صخرة ثانية، ثم ضرب فانشقت فخرجت ثالثة، ثم ضربها فخرجت دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، فسمع الدودة تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني. ثم أكد دلائل قدرته بقوله:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قال كعب الأحبار: خلق الله ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ووضع العرش على الماء. وقال أبو بكر الأصم: هذا كقولك: لا سماء إلا على الأرض وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملصقا بالآخر. وعلى هذا فيكون الآن أيضا عرشه على الماء. وقال في الكشاف: المراد أنه ما كان تحت العرش خلق سوى الماء، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض،
7
وعلى أن الملائكة خلقت قبل العرش والماء ليعتبروا بهما وإلا لزم أن يكون خلقهما قبل أن يعتبر بهما عبثا إذ لا يتصور عود نفعهما إليه تعالى. وقال أبو مسلم: العرش البناء أي بناؤه للسموات كان على الماء. وقال حكماء الإسلام: المراد بالماء تحركه شبه سيلان الماء أي وكان عرشه يتحرك. وبالجملة مقصود الآية بيان كمال قدرته في إمساك الجرم العظيم على الصغير. أما قوله: لِيَبْلُوَكُمْ فالمعتزلة قالوا: اللام للتعليل، وذلك أنه خلق هذا العالم الكبير لأجل مصالح المكلفين وأن يعاملهم معاملة المختبر المبتلى لأحوالهم كيف يعملون فيجازي كل فريق بما يستحقه. والأشاعرة قالوا: إن أحكامه غير معللة بالمصالح ومعناه أنه فعل فعلا لو كان يفعله من يجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض. وإنما علق فعل البلوى لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إلى العلم فهو ملابس له كالنظر والاستماع في قولك: انظر أيهم أحسن وجها واسمع أيهم أحسن كلاما. قال في الكشاف: الذين هم أحسن عملا هم المتقون، وإنما خصهم بالذكر وطرح ذكر من وراءهم من الفساق والكفار تشريفا لهم. قلت ويجوز أن يقال إن أحسن بمعنى حسن ليشمل الخطاب جميع المكلفين. ثم لما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك قوله: وَلَئِنْ قُلْتَ الآية. والإشارة في قوله: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ إلى البعث أي هو باطل كبطلان السحر أو إلى القرآن لأنه الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحرا فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث. وقال القفال: معناه أن هذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا واجتذابهم إلى الانقياد لكم والدخول تحت طاعتكم. ومن قرأ ساحر فالإشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم بين أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم الرسول به أخذوا في الاستهزاء وقالوا ما الذي حبسه عنا فقال: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الآية.
والأمة اشتقاقها من الأم وهو القصد والمراد بها الوقت المقصود لإيقاع الموعود. وقيل:
هي في الأصل الجماعة من الناس وقد يسمى الحين باسم ما يحصل فيه كقولك: كنت عند فلان صلاة العصر أي في ذلك الحين. فالمراد إلى حين ينقضي أمة معدودة من الناس. وقال في الكشاف: أي جماعة من الأوقات. والعذاب عذاب الآخرة. وقيل:
عذاب يوم بدر. عن ابن عباس: قتل جبريل المستهزئين. ومعنى ما يَحْبِسُهُ أيّ شيء يمنعه من النزول استعجالا له على جهة الاستهزاء والتكذيب فأجابهم الله بقوله: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ وهو متعلق بخبر ليس أي ليس العذاب مصروفا عنهم يوم يأتيهم. واستدل به من جوز تقديم خبر ليس على ليس لأنه إذا جاز تقديم معمول الخبر عليها فتقديم الخبر عليها أولى وإلا لزم للتابع مزية على المتبوع. ثم قال: وَحاقَ بِهِمْ أي أحاط بهم ما كانُوا بِهِ
8
يَسْتَهْزِؤُنَ أراد يستعجلون ولكنه وضع يَسْتَهْزِؤُنَ موضعه لأن استعجالهم للعذاب كان على وجه الاستهزاء. وإنما قال: وَحاقَ بلفظ الماضي لأنه جعله كالواقع. ثم حكى ضعف حال الإنسان في حالتي السراء والضراء فقال: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ الآية.
واختلف المفسرون فقيل: الإنسان مطلق بدليل صحة الاستثناء في قوله: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ولأن هذا النوع مجبول على الضعف والنقص والعجلة وقلة الثبات. وقيل: المراد الكافر، والاستثناء منقطع واللام للعهد. وقد مر ذكر الكافر، ولأن وصف اليأس والكفران والفرح المفرط بالأمور الزائلة والفخر بها لا يليق إلا بالكافر، وذلك أنه يعتقد أن السبب في حصول تلك النعم من الأمور الاتفاقية، فإذا زالت استبعد حدوثها مرة أخرى فيقع في اليأس الشديد، وعند حصولها كان ينسبها إلى الاتفاق فلا يشكر الله بل يكفره، وإذا انتقل من مكروه إلى محبوب ومن محنة إلى محنة اشتد فرحه بذلك وافتخر بها لذهوله عن السعادات الأخروية الروحانية فيظن أنه قد فاز بغاية الأماني ونهاية المقاصد. وأما المؤمن فحاله على العكس ولذلك استحق وعد الله بالمغفرة والأجر الكبير. أما تفسير الألفاظ فالإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم، وفيه دليل على أن الإنسان لا يصبر عن أقل القليل ولا عليه، وفيه أن جميع نعم الدنيا في قلة الاعتبار وسرعة الزوال تشبه حلم النائمين وخيالات المبرسمين. والرحمة النعمة من صحة أو أمن أو جدة، ونزعها سلبها.
واليؤوس والكفور بناءان للمبالغة، والنعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضراء مضرة كذلك. قال الواحدي لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حوراء وعوراء.
والسيئات يريد بها المصائب التي ساءته. ثم سلى نبيه ﷺ بقوله: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ قال ابن عباس: إن رؤساء مكة قالوا: إن كنت رسولا فاجعل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بالملائكة ليشهدوا لك فخاطب الله سبحانه نبيه بقوله: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ واختلفوا في ذلك البعض فعن ابن عباس أن المشركين قالوا له: ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بكتابك. وقال الحسن: طلبوا منه ﷺ أن يترك قوله: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ [طه: ١٥] وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول أن يترك بعض ما أوحى الله إليه لأنه ينافي المقصود من الرسالة المعتبر فيها الأمانة، فأوّلوا الآية بأن أمثال هذه التهديدات لعلها سبب عدم التقصير في أداء الوحي فلهذا خوطب بها، أو لعله كان ﷺ بين محذورين: أحدهما ترك أداء شيء من الوحي، وثانيهما أنهم كانوا يتلقون الوحي بالطعن والاستهزاء، فنبه بالآية على أن تحمل الضرر الثاني أهون وإذا وقع الإنسان بين مكروهين وجب أن يختار أسهلهما، والعربي يقول لغيره إذا أراد أن يزجره: لعلك تفعل كذا أي لا
9
تفعل. وإنما قال: وَضائِقٌ ولم يقل وضيق بِهِ صَدْرُكَ دلالة على أنه ضيق حادث لأنه ﷺ كان أفسح الناس صدرا. ومعنى أَنْ يَقُولُوا مخافة أن يقولوا: لَوْلا أُنْزِلَ أي هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه.
ثم بين أن حاله مقصور على النذارة لا يتخطاها الى إنزال المقترحات، والذي أرسله هو القادر على ذلك حفيظ عليه وعلى كل شيء، ومن كمال قدرته إنزال القرآن المعجز لدهماء المصاقع وأشار إلى ذلك بقوله: أَمْ يَقُولُونَ الآية. وقد مر مثله في سورة يونس. عن ابن عباس: السور العشر هي من أول القرآن إلى هاهنا. واعترض عليه بأن هذه السورة مكية وبعض السور المتقدمة عليها مدنية، فكيف يمكن أن يشار إلى ما ليس بمنزل بعد. فالأولى أن يقال: إن التحدي وقع بمطلق السور التي تظهر فيها قوة ترتيب الكلام وتأليفه. تحداهم أوّلا بمجموع القرآن في قوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء: ٨٨] الآية. وبعشر سور في هذه الآية وذلك أن العشرة أول عقد من العقود، ثم بسورة في يونس وفي البقرة، وهذا كما يقول الرجل لصاحبه: اكتب كمثل ما أكتب فإذا عجز قال: اكتب عشرة أسطر مثل ما أكتب، فإذا ظهر عجزه عنه قال في آخر الأمر: قد اقتصرت منك على سطر واحد مثله، ثم إذا أراد غاية المبالغة قال: قد جوزت لك أن تستعين بكل من تريد فإذا ظهر عجزه حال الانفراد وحال الاجتماع والتعاون تبين عجزه عن المعارضة على الإطلاق ولهذا قال: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا إلى معارضة القرآن أو إلى الإيمان لَكُمْ أي لك وللمؤمنين لأن رسول الله ﷺ والمؤمنين كانوا يتحدّونهم، أو الجمع لتعظيم رسول الله ﷺ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله من النظم المعجز والاشتمال على العلوم الجمة الظاهرة والغائبة. ومعنى الأمر راجع إلى الثبات أي اثبتوا على ما أنتم عليه من العلم واليقين بشأن القرآن ودوموا على التوحيد الذي استفدتم من القرآن أو دلكم على ذلك عجز آلهتهم عن المعارضة والإعانة. ثم ختم الآية بقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وفيه نوع من التهديد كأنه قيل للمسلمين إذا تبينتم صدق قول محمد ﷺ وازددتم بصيرة وطمأنينة وجب عليكم الزيادة في الإخلاص والطاعة. وتفسير آخر وهو أن يكون الضمير في فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لمن في مَنِ اسْتَطَعْتُمْ والخطاب في لَكُمْ للمشركين، وكذا في قوله:
فَاعْلَمُوا وفي أَنْتُمْ والمعنى فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المظاهرة لعلمهم بالعجز عنه فاعلموا أنه منزل من عند الله وأن توحيده واجب. ثم رغبهم في أصل الإسلام وهددهم على تركه بقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ بعد لزوم الحجة مُسْلِمُونَ ثم أوعد من كانت
10
همته مقصورة على زينة الحياة الدنيا وكان مائلا عن الدين جهلا أو عنادا فقال: مَنْ كانَ يُرِيدُ الآية. عن أنس أنهم اليهود والنصارى. وقيل: المنافقون كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول الغنائم فكان ﷺ يسهم لهم فيها. وقال الأصم: هم منكر والبعث. وقال آخرون:
هي عامة في الكافر والمسلم المرائي. وقال القاضي: المراد من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم، نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما ينالون من الصحة والكفاف وسائر اللذات والمنافع.
عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جامع للقرآن فيقال له: ما عملت فيه؟ فيقول: يا رب قمت فيه آناء الليل والنهار. فيقول الله: كذبت أردت أن يقال فلان قارئ. وقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله ألم أوسع عليك فماذا عملت فيه؟
فيقول: وصلت الرحم وتصدقت فيقول الله: كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك. ثم يؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول: قاتلت في الجهاد حتى قتلت فيقول الله تعالى: كذبت بل أردت أن يقال فلان جريء. قال أبو هريرة: ثم ضرب رسول الله ﷺ ركبتي وقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة»
«١».
وروي أن أبا هريرة ذكر هذا الحديث عند معاوية فبكى معاوية حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق فقال:
صدق الله ورسوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها الآيتان. ثم بين أن بين طالب الدنيا وحدها وبين طالب السعادات الباقية تفاوتا بينا فقال: أَفَمَنْ كانَ والمعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كما كان على بينة أي لا يعقبونهم في المنزلة عند الله ولا يقاربونهم؟
نظيره إذا أتاك العلماء والجهال فاستأذن الجهال للدخول قبل العلماء فتقول: الجهال ثم العلماء كلا وحاشا تريد أن العلماء ينبغي أن يدخلوا أولا ثم الجهال. ويمكن أن يقال:
التقدير أفمن كان عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كمن يريد الحياة الدنيا فحذف الخبر للعلم به ومثله أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر: ٣٥] أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً [الزمر: ٩] واعلم أن أول هذه الآية يشتمل على ألفاظ أربعة مجملة: الأول أن هذا الذي وصفه الله بأنه على بينة من هو؟ الثاني ما المراد بالبينة؟ الثالث ما معنى يتلوه أهو من التلاوة أم من التلو؟ الرابع الشاهد من هو؟ وللمفسرين فيها أقوال: أصحها أن معنى البينة البرهان العقلي الدال على صحة الدين الحق، والذي هو على البينة مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه، ومعنى يتلوه يعقبه وتذكير الضمير العائد إلى البينة
(١) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث ١٥٢. الترمذي في كتاب الزهد باب: ٤٨. النسائي في كتاب الجهاد باب: ٢٢. أحمد في مسنده (٢/ ٣٢٢).
11
بتأويل البيان والبرهان، والمراد بالشاهد القرآن ومنه أي من الله أو من القرآن المتقدم ذكره في قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي ويتلو ذلك البرهان من قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة حال كونها إِماماً أو أعني إماما كتابا مؤتما به في الدين قدوة فيه وَرَحْمَةً ونعمة عظيمة على المنزل إليهم. والحاصل أن المعارف اليقينية المكتسبة إما أن يكون طريق اكتسابها بالحجة والبرهان، وإما أن يكون بالوحي والإلهام، وإذا اجتمع على بعض المطالب هذان الأمران واعتضد كل واحد منهما بالآخر كان المطلوب أوثق. ثم إذا توافقت كلمة الأنبياء على صحته بلغ المطلوب غاية القوة والوثوق، ثم إنه حصل في تقرير صحة هذا الدين هذه الأمور الثلاثة جميعا: البينة. وهي الدلائل العقلية اليقينية، والشاهد وهو القرآن المستفاد من الوحي، وكتاب موسى المشتمل على الشرائع المتقدمة عليه الصالح لاقتداء الخلف به، وعند اجتماع هذه الأمور لم يبق لطالب الحق المنصف في صحة هذا الدين شك وارتياب. وقيل: أفمن كان محمد صلى الله عليه وسلم، والبينة القرآن، ويتلوه يقرؤه شاهد هو جبرائيل نزل بأمر الله وقرأ القرآن على محمد أو شاهد من محمد هو لسانه، أو شاهد هو بعض محمد يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو يتلوه أي يعقب ذلك البرهان شاهد من النبي ﷺ هو صورته ومخايله، فإن من نظر إليه بعقله تفرس أنه ليس بمجنون ولا وجهه وجه كذاب ولا كاهن. وقيل: الكائن على البينة هم المؤمنون، والبينة القرآن، ويتلوه يعقب القرآن شاهد من الله هو محمد ﷺ أو الإنجيل لأنه يعقبه في التصديق والدلالة على المطلوب وإن كان موجودا قبله، أو ذلك الشاهد كون القرآن واقعا على وجه يعرف المتأمل فيه إعجازه لاشتماله على فنون الفصاحة وصنوف البلاغة إلى غير ذلك من المزايا التي قلما يخبر عنها إلا الذوق السليم. ثم مدح الكائن على البينة بقوله: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن. ثم أوعد غيرهم بقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ يعني أهل مكة ومن انحاز معهم كاليهود والنصارى والمجوس فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ في شك مِنْهُ من القرآن أو من الموعد، ولما أبطل بعض عادات الكفرة من شدة حرصهم على الدنيا وذلك قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا ومن إنكارهم نبوة محمد ﷺ وذلك قوله: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ أراد أن يبطل ما كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها شفعاء تشفع لهم فقال: وَمَنْ أَظْلَمُ. ثم قال: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ لم يحمل عليهم العرض لأنهم مخصوصون بالعرض فإن العرض عام، ولكن فائدة الحمل ترجع إلى المعطوف. أراد أنهم يعرضون فيفضحون بقول الأشهاد. ومعنى عرضهم على ربهم أنهم يعرضون على الأماكن المعدة للحساب. والسؤال أو المراد عرضهم على من
12
يوبخ ويبكت بأمر الله من الأنبياء والمؤمنين، أو أراد أنهم يحبسون في المواقف وتعرض أعمالهم على الرب. قال مجاهد: الأشهاد الملائكة الحفظة. وقال قتادة: هم الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد أي الناس. وقيل: هم الأنبياء لقوله: وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: ٦] والأشهاد إما جمع شاهد كصاحب وأصحاب، أو جمع شهيد كشريف وأشراف. قال أبو علي: وهذا أرجح لكثرة ورود شهيد في القرآن وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: ١٤٣] فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: ٤١] والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضيحة. وباقي الآية قد مر تفسير مثلها في «الأعراف». أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لم يكن يمكنهم أن يهربوا من عذابنا لأنه سبحانه قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالنسبة إلى القريب والبعيد والضعيف والقوي. وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ تنصرهم وتمنعهم من عقابه. جمع تعالى بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم وبين بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة. وقيل: هذا من كلام الأشهاد والمراد أنه تعالى لو شاء عقابهم في الدنيا لعاقبهم ولكنه أراد إنظارهم وتأخيرهم إلى هذا اليوم يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ من قبل الكفر والصد أي الضلال والإضلال. ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ يريد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلوب وعمى
البصائر. ثم إن الأشاعرة قالوا: إن ذلك بتخليق الله تعالى حيث صيرهم عاجزين ممتنعين عن الوقوف على دلائل الحق، ويوافقه ما روي عن ابن عباس أنه قال: إنه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وذلك قوله: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ الآية. وفي الآخرة كما قال: يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم: ٤٢]. وقالت المعتزلة: المراد استثقالهم لاستماع الحق ونفورهم عنه كقول القائل: هذا الكلام مما لا أستطيع أن أسمعه، وهذا الشخص لا أستطيع أن أبصره. والمراد بالأولياء الأصنام كأنه قال: الذي سموه أولياء ليسوا في الحقيقة بأولياء. ثم نفى كونهم أولياء بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون فكيف يصلحون للولاية؟ وعلى هذا يكون قوله: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ اعتراضا بوعيد. واعلم أنه سبحانه وصف الكفار في هذه الآيات بصفات كثيرة. الأولى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى الثانية أُولئِكَ يُعْرَضُونَ أي في موقف الذل والهوان. الثالثة بيان الخزي والفضيحة في قوله: وَيَقُولُ الْأَشْهادُ الرابعة اللعنة عليهم. الخامسة الصد عن سبيل الله. السادسة سعيهم في إلقاء الشبهات وذلك قوله: وَيَبْغُونَها عِوَجاً. السابعة كونهم كافرين بالآخرة. الثامنة كونهم عاجزين عن الفرار أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا. التاسعة وَما كانَ لَهُمْ
13
مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ. العاشرة مضاعفة العذاب لهم. الحادية عشرة والثانية عشرة ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ الآية. الثالثة عشرة أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وقد مر في «الأنعام». الرابعة عشرة وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
وقد سبق في «يونس». الخامسة عشرة لا جَرَمَ قال الفراء إنها بمنزلة قولك لا بد ولا محالة ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا. وقال النحويون: «لا» حرف نفي وجرم أي قطع معناه لا قطع قاطع أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ وقال الزجاج «لا» نفي لما ظنوا أنه ينفعهم و «جرم» معناه كسب، والمعنى لا ينفعهم ذلك وكسب لهم ذلك الفعل خسار الدارين. قال الأزهري: وهذا من أحسن ما قيل في هذه اللفظة قوله في وعد المؤمنين وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ معناه اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع من الخبت وهي الأرض المطمئنة، وفيه إشارة إلى أن الأعمال لا بد فيها من الأحوال القلبية الموجبة للالتفات عما سوى الله.
وقيل: المراد اطمئنانهم وتصديقهم كل ما وعد الله به من الثواب وضده. وقيل: المراد كونهم خائفين من قوع الخلل في بعض تلك الأعمال. ثم ضرب للفريقين مثلا وهو إما تشبيهان بأن شبههما تارة بالأعمى والبصير وأخرى بالأصم والسميع، وإما تشبيه واحد والواو لعطف الصفة على الصفة فيكون قد شبه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين البصر والسمع. ولا شك أن الفريق الكافر هو الذي وصفه بالصفات الخمس عشرة، وأما الفريق المؤمن فقيل: المراد به قوله: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ وقيل:
المذكورون في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثم أنكر تساويهما في الأحكام والمراتب بقوله هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي تشبيها. وفي قوله: أَفَلا تَذَكَّرُونَ تنبيه على أن علاج هذا العمى وهذا الصمم ممكن بتبديل الأخلاق وتغيير الأحوال بتيسير الله تعالى وتوفيقه.
التأويل:
الر الألف إشارة إلى الله، واللام الى جبرائيل، والراء إلى الرسول. يعني ما أنزل الله على لسان جبرائيل إلى الرسول كتاب مبين من لدن حكيم خبير كقوله: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا [الكهف: ٦٥] ورأس العلم اللدني أن تقول لأمتك يا محمد أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ مما ضاع من عمركم في غير طلب الله ثُمَّ تُوبُوا ارجعوا إِلَيْهِ بقدم السلوك لتكون التوبة تحلية لكم بعد التزكية بالاستغفار. يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً هو الترقي في المقامات العلية إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو حين انقضاء المقامات وابتداء درجات الوصول وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي يؤت كل ذي صدق واجتهاد في الطلب درجات الوصول، فإن المشاهدات بقدر المجاهدات. والحاصل أن المتاع الحسن في مراتب السير إلى الله وإيتاء الفضل في درجات السير في الله. عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو عذاب الانقطاع عن
14
ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ
الله الكبير أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثياب الجسمية على وجه الروح كان يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من حرمان النور المرشش ومن نقص الحرمان تحت ثياب القالب وَما يُعْلِنُونَ من ثني الصدور إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما في الصدور من القلوب الظلمانية. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها لأن كل حيوان له صفة مخصوصة ومزاج مخصوص وغذاؤه يجب أن يكون ملائما لمزاجه. فعلى ذمة كرم الله أنه كما خلق أجسادها على الأمزجة المتعينة يخلق غذاءها موافقا لمزاج كل منها، ثم يهديها إلى ما هو أوفق لها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها في العدم كيف قدرها مستعدة للصور المختصة بها وَمُسْتَوْدَعَها الذي تؤول إليه عند ظهور ما فيها بالقوة إلى الفعل. لِيَبْلُوَكُمْ فإن العالم بما فيه محل الابتلاء ومحك السعداء والأشقياء. وَلَئِنْ قُلْتَ للأشقياء موتوا عن الطبيعة باستعمال الشريعة ومزاولة الطريقة لتحيوا بالحقيقة فإن الحياة الحقيقية تكون بعد الموت عن الحياة الطبيعية لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا حسن استعدادهم الفطري بتعلق الشهوات الفانية إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي كلام مموه لا أصل له. وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ عذاب البعد إِلى أُمَّةٍ إلى حين ظهور ذوق العذاب فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٥ الى ٤٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩)
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩)
15
القراآت:
إِنِّي لَكُمْ بكسر الهمزة: نافع وابن عامر وعاصم وحمزة. والآخرون بفتحها بادِيَ بالهمزة: أبو عمرو ونصير. الرَّأْيِ بالياء: أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف فَعُمِّيَتْ مجهولا مشددا: حمزة وعلي وخلف وحفص. الباقون بضدهما أَنُلْزِمُكُمُوها باختلاس ضمة الميم: عباس أَجرِيَ إِلَّا بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص وَلكِنِّي أَراكُمْ بالفتح حيث كان: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو نُصْحِي إِنْ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو بِأَعْيُنِنا مدغما.
حيث كان: عباس مِنْ كُلٍّ بالتنوين حيث كان: حفص والمفضل مَجْراها بفتح الميم بالإمالة: حمزة وعلي وخلف وحفص مَجْراها بالضم وبالإمالة: أبو عمرو. والباقون بالضم مفخما. يا بُنَيَّ بفتح الياء: عاصم ارْكَبْ مَعَنا مظهرا: عاصم وحمزة عمل على أنه فعل غير بالنصب: علي وسهل ويعقوب. الآخرون عَمَلٌ غير بالرفع فيهما تَسْئَلْنِ بالنون المشددة المكسورة لإدغام النون المخففة في نون الوقاية بعد حذف ياء المتكلم في
16
الحالين: ابن عامر وقالون: بإثبات الياء في الوصل: أبو جعفر ونافع غير قالون بفتح النون المشددة: ابن كثير تَسْئَلْنِي بغير نون التأكيد وإثبات الياء في الحالين سهل ويعقوب الباقون بغير ياء في الحالين إِنِّي أَعِظُكَ إِنِّي أَعُوذُ بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو.
الوقوف:
مُبِينٌ هـ لا إِلَّا اللَّهَ ط أَلِيمٍ هـ الرَّأْيِ ج كاذِبِينَ هـ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ط كارِهُونَ هـ مالًا ط آمَنُوا ط تَجْهَلُونَ هـ طَرَدْتُهُمْ ط تَذَكَّرُونَ ٥ خَيْراً ط أَنْفُسِهِمْ ج الظَّالِمِينَ هـ الصَّادِقِينَ هـ بِمُعْجِزِينَ هـ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ط تُرْجَعُونَ هـ ط افْتَراهُ ط تُجْرِمُونَ هـ يَفْعَلُونَ هـ ج للآية والعطف ظَلَمُوا ج لاحتمال التعليل. مُغْرَقُونَ هـ سَخِرُوا مِنْهُ هـ تَسْخَرُونَ هـ ط تَعْلَمُونَ هـ لا لأن ما بعده مفعول مُقِيمٌ هـ التَّنُّورُ هـ لا لأن ما بعده جواب «إذا» وَمَنْ آمَنَ ط قَلِيلٌ هـ ط وَمُرْساها ط رَحِيمٌ هـ الْكافِرِينَ هـ مِنَ الْماءِ ط، رَحِمَ ج لاتفاق الجملتين مع اختلاف العامل. الْمُغْرَقِينَ هـ الظَّالِمِينَ هـ الْحاكِمِينَ هـ مِنْ أَهْلِكَ ج عِلْمٌ ط الْجاهِلِينَ هـ عِلْمٌ ط الْخاسِرِينَ هـ مَعَكَ ط أَلِيمٌ هـ إِلَيْكَ ج ط لاحتمال ما بعده الحال أو الاستئناف هذا ط وعلى قوله: فَاصْبِرْ أحسن للابتداء ب «أن» لِلْمُتَّقِينَ هـ.
التفسير:
لما أورد على الكفار أنواع الدلائل أكدها بالقصص على عادته من التفنن في الكلام والنقل من أسلوب إلى أسلوب في الموعظة فبدأ بقصة نوح. ومعنى إِنِّي لَكُمْ أي متلبسا بهذا الكلام وهو قوله: إِنِّي لَكُمْ فلما اتصل به الجار فتح ومن كسر فعلى إرادة القول. وأَنْ لا تَعْبُدُوا بدل من إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ أي أرسلناه بأن لا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ أو يكون «أن» مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير. ووصف اليوم بأليم لوقوع الألم فيه فيكون مجازا. وكذا لو جعل الوصف للعذاب والجر بالجوار. ثم حكى أنه طعن أشراف قومه في نبوته من ثلاث جهات: الأولى أنه بشر مثلهم. الثانية أنه لم يتبعه إلا الأراذل يعنون أصحاب الحرف الخسيسة كالحياكة وغيرها قالوا: لو كنت صادقا لا تبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم. والأراذل جمع أرذل. وقيل: جمع الأرذال جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته. ومعنى بادِيَ الرَّأْيِ أول الرأي وهو نصب على الظرف أي اتبعوك في ابتداء حدوث الرأي من غير روية، أو معناه ظاهر الرأي من قولك بدا الشيء إذا ظهر، ومنه البادية للبرية لظهورها وبروزها للناظر. وهذا تفسير من
17
قرأ بغير همز. وعلى هذا فالمراد أنهم اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه، أو اتبعوك وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يتعلق بادِيَ الرَّأْيِ بقوله: أَراذِلُنا أي كونهم كذلك أمر ظاهر لكل من يراهم عيانا، ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه قرأ إلا الذين هم أراذلنا رأي العين وإنما استرذلوا المؤمنين لاعتقادهم أن المزية عند الله سبحانه بالمال والجاه ولم يعلموا أن ذلك مبعد من الحق لا مقرب منه، وأن الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف يجعل قلة المال طعنا في النبوة وفي متابعة النبي. الشبهة الثالثة: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ لا في العقل ولا في كيفية رعاية المصالح ولا في قوة الجدل بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ خطاب لنوح ولمن آمن به بتبعيته، أو خطاب للأراذل كأنهم نسبوهم إلى الكذب في ادعاء الإيمان. ثم حكى ما أجاب به نوح قومه وهو أن حصول المساواة في صفة البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة وذلك قوله: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ برهان مِنْ رَبِّي وَآتانِي بإيتاء تلك البينة رَحْمَةً وعلى هذا البينة هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة وبالرحمة النبوة وقيل بالعكس فَعُمِّيَتْ خفيت أو أخفيت البينة أو كل من البينة والرحمة أي صارت مظلمة مشتبهة في عقولكم. والبينة توصف بالإبصار والعمى مجازا باعتبار نتيجتها كما أن دليل القوم إن كان بصيرا اهتدوا وإن كان أعمى بقوا خابطين متحيرين. ثم قال: أَنُلْزِمُكُمُوها
أي أنكرهكم على قبول البينة وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ والمراد أنا لا نقدر على إيصال حقيقة البينة إليك. وإنما يقدر على ذلك من هو قادر على الإيجاد والإعدام وتغيير الأحوال وتبديل الأخلاق. ثم ذكر أنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالا حتى يتفاوت الحال بسبب كون المجيب غنيا أو فقيرا وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا عن ابن جريج أنهم قالوا: إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم، فلم يبذل ملتمسهم وعلل ذلك بقوله إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيعاقب من يطردهم أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من الإيمان الصحيح أو النفاق بزعمكم، أو المراد أنهم معتقدون لقاء ربهم وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ لقاء ربكم وأنهم خير منكم، أو قوما تسفهون حيث تسمون المؤمنين أراذل.
ثم أكد عدم طردهم بقوله: وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ من يمنعني من عقابه إِنْ طَرَدْتُهُمْ لأن العقل والشرع توافقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر المتقي ومن إهانة الكافر الفاجر فكيف يليق بنبي الله أن يقلب هذه القضية. سؤال: إن كان طرد المؤمن لطلب مرضاة الكافر معصية فكيف فعل ذلك رسول الله ﷺ حتى نهي عنه بقوله: وَلا
18
تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ؟ الجواب أنه لم يكن ذلك طردا مطلقا وإنما عين لأجلهم أوقاتا مخصوصة، ولأشراف قريش أوقاتا أخرى فعوتب على ذلك القدر. احتجت المعتزلة بالآية على عدم الشفاعة للفاسق إذ لو كانت جائزة لكانت في حق نوح أولى، فلم يقل من الذي يخلصني من عذابه. وأجيب بأنه مخصوص بآيات العفو. ثم ذكر أنه كما لا يسألهم مالا فإنه لا يدعي أن عنده خزائن الله حتى يجحدوا أن له فضلا عليهم من هذه الجهة. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ حتى أصل به إلى ما أريده لنفسي ولأتباعي وأطلع على الضمائر وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ أتعظم بذلك عليكم بل طريقي الخضوع والتواضع وعدم الاستنكاف عن مخالطة الفقراء وقد مر في «الأنعام» سائر ما يتعلق بالآية. ومعنى تَزْدَرِي تعيب وتحقر والازدراء افتعال من زرى عليه إذا عابه. وفي قوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ دلالة على أنهم كانوا ينسبون اتباعه مع الفقر والذلة الى النفاق إِنِّي إِذاً أي إن قلت شيئا من ذلك كنت من الظالمين لنفسي. أو إن قلت إن الله لن يؤتيهم خيرا مع أنه لا وقوف لي على باطنهم. ثم إن قومه وصفوه بكثرة الجدال قائلين يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا قال أهل المعاني: أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته كقولك: جاد لي فلان فأكثر. لم ترد أنه أعطى عطيتين أقل فأكثر بل تريد أن الوصف مقارن للموصوف. وفي الآية دلالة على أن الجدال في تقرير دلائل التوحيد من دأب أكابر الأنبياء. ثم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به فأجاب نبي الله بأن ذلك ليس إليّ وإنما هو بمشيئة الله وإرادته ولا يعجزه عن ذلك أحد. وقوله: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي كقول القائل لامرأته:
أنت طالق إن دخلت الدار إن أكلت الخبز لم يقع الطلاق إلا إذا دخل الدار فأكل الخبز.
ولهذا قال الفقهاء: المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى فكأنه قيل: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فإن أردت أن أنصح لكم لم ينفعكم نصحي. واحتجاج الأشاعرة بالآية ظاهر.
وأجابت المعتزلة بأنه لا يلزم من فرض أمر وقوعه، ولعل نوحا إنما قال ذلك ليبين لهم أنه تعالى بنى أمر التكليف على الاختيار وإلا لم يكن للنصح فائدة، ولو تشبت الخصم بالجبر لزم إفحام النبي. ومن الجائز أن يراد بالإغواء التعذيب من غوى الفصيل إذا بشم فهلك، أو يراد به الخيبة كقوله: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: ٥٩] أي خيبة من خير الآخرة، أو يراد به منع الألطاف وقد تقدم أمثال ذلك مرارا. ثم أشار إلى المبدإ والمعاد بقوله: هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ثم أنكر الله سبحانه عليهم قولهم إنما ادعاء نوح أنه أوحي إليه مفترى فقال: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ فأمره بأن يجيب بكلام منصف وهو قوله: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي عقاب إثمي وهو الافتراء. وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ أي من
19
إجرامكم وهو إسناد الافتراء إليّ وهاهنا إضمار كأنه قيل: لكني ما افتريته فالإجرام وعقابه عليكم وأنا بريء منه. وأكثر المفسرين على أن هذه الآية من تمام قصة نوح. وعن مقاتل أنها من قصة محمد ﷺ وقعت في أثناء قصة نوح.
قوله سبحانه: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ إقناط له من إيمانهم الذي كان يتوقعه منهم بدليل قوله: إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فإن «قد» للتوقع. وقوله: فَلا تَبْتَئِسْ تسلية له أي لا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك فقد حان وقت الانتقام منهم. قال أكثر المعتزلة: إنه لا يجوز أن ينزل الله عذاب الاستئصال على قوم يعلم أن فيهم من يؤمن أوفي أولادهم من يؤمن بدليل دعاء نوح رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إلى قوله: إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: ٢٧] علل الإهلاك بمجموع الأمرين فدل ذلك على أنهما لو لم يحصلا لم يجز الإهلاك. وذهب كثير منهم إلى الجواز، فليس كل خبر معلوم بواجب الوقوع نعم كلما يقع يجب أن يكون على الوجه الأصلح. ومذهب الأشاعرة في هذا المعنى ظاهر فله أن يفعل في ملكه ما شاء. ثم عرفه وجه إهلاكهم وألهمه وجه خلاص من آمن فقال: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ وهو أمر إيجاب على الأظهر لأنه لا سبيل إلى صون روحه عن الهلاك في الطوفان إلا بذلك، وصون النفس واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقيل: أمر إباحة كمن أمر أن يتخذ الإنسان لنفسه دارا يسكنها. والإنصاف أن الأمر ظاهره الوجوب وإن قطعنا النظر عن فائدته وغايته. وقوله: بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا في موضع الحال أي متلبسا بذلك. والسبب فيه أن إقدامه على صنعة السفينة مشروط بأمرين:
أحدهما أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل وأشار إليه بقوله: بِأَعْيُنِنا وليست العين بمعنى الجارحة لأنه منزه عن الجوارح والأعضاء فالمراد بها الحفظ والحياطة والكلاءة لأن العين آلة الحفظ والحراسة. والثاني أن يكون عالما بكيفية تركيب الأخشاب ونحتها. عن ابن عباس: لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر. وقيل: المراد عين الملك الذي كان يعرّفه كيفية اتخاذ السفينة. ثم قال: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي في شأنهم. وقيل: علل عدم الخطاب بقوله: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي إنهم محكوم عليهم بالإغراق وقد جف القلم عليهم بذلك فلا فائدة للشفاعة.
وقيل: لا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم يغرقون في الوقت المعين لذلك فلا فائدة في الاستعجال فلكل أمة أجل. وقيل: المراد بالذين ظلموا امرأته واعلة وكنعان ابنه. ثم حكى الحال الماضية بقوله: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ والحال أنه كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ يحتمل أن يكون هذا جوابا ل «كلما» وقوله: قالَ إِنْ تَسْخَرُوا استئناف
20
على تقدير سؤال سائل كأنه قيل: ماذا قال نوح حينئذ؟ ويحتمل أن يكون سَخِرُوا بدلا من مَرَّ أو صفة ل مَلَأٌ وقالَ جواب قيل كانوا يقولون: يا نوح كنت نبيا فصرت نجارا، ولو كنت صادقا في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق.
وقيل: إنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك فكانوا يتعجبون ويسخرون. وقيل: إنها كانت كبيرة وكان يصنعها في مفازة بعيدة عن الماء فكانوا يقولون هذا من باب الجنون. وقيل: طالت مدته وكان ينذرهم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة وليس منه عين ولا أثر فغلب على ظنونهم كونه كاذبا فيسخرون منه فأجابهم بقوله: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا في الحال فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ في المستقبل إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة، أو إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله، أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم لأنكم لا تستجهلون إلا عن الجهل بحقيقة الأمر. والبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الأغمار. وسمي جزاء السخرية سخرية كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠] ثم هددهم بقوله:
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ في الدنيا وهو عذاب الغرق وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ في الآخرة لازم لزوم الدين الحال للغريم. و «من» موصولة أو استفهامية وقد مر في «الأنعام». روي أن نوحا عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا وارتفاعها ثلاثين، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون: الأسفل للوحوش والسباع والهوام، والأوسط للدواب والأنعام، والأعلى للناس ولما يحتاجون إليه من الزاد وحمل معه جسد آدم. وقال الحسن: كان طولها ألفا ومائتي ذراع وعرضها ستمائة.
قوله: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا هي غاية لقوله: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أي كان يصنعها إلى أن جاء وقت الأمر بالإهلاك. وَفارَ التَّنُّورُ أي نبع الماء منه بشدة وسرعة تشبيها بغليان القدر. والتنور هي التي يختبز فيها فقيل: هو مما استوى فيه العربي والعجمي. وقيل:
معرب لأنه لا يعرف في كلام العرب نون قبل راء. عن ابن عباس والحسن ومجاهد: هو تنور نوح. وقيل: كان لآدم وحواء حتى صار لنوح وموضعه بناحية الكوفة قاله مجاهد والشعبي.
وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة وقد صلى فيه سبعون نبيا.
وقيل:
بالشام بموضع يقال له عين وردة قاله مقاتل. وقيل: بالهند. روي أن امرأته كانت تخبز فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في تلك الحال بوضع الأشياء في السفينة وكان الله تعالى جعل هذه الحالة علامة لواقعة الطوفان.
ويروى عن علي رضي الله عنه
21
أيضا أن المراد بالتنور وجه الأرض لقوله: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: ١٢]
وعنه أيضا كرم الله وجهه أن معنى فارَ التَّنُّورُ طلع الصبح.
وقيل: معناه اشتد الأمر كما يقال حمي الوطيس. والمراد إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فاركب في السفينة وذلك قوله قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ والزوجان شيئان يكون أحدهما ذكرا والآخر أنثى.
فمن قرأ بالإضافة فمعناه احمل من كل صنفين بهذا الوصف اثنين، ومن قرأ بالتنوين فالمراد حمل من كل شيء زوجين. واثنين للتأكيد ولا يبعد أن يكون النبات داخلا فيه لاحتياج الناس إليه وَأَهْلَكَ معطوف على مفعول احْمِلْ وكذا مَنْ آمَنَ وقوله إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ قال الضحاك: أراد ابنه وامرأته قدر الله لهما الكفر إذ علم منهما ذلك. ثم قال وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ أي نفر قليل: عن مقاتل أنهم ثمانون وبهم سموا قرية الثمانين بناحية الموصل لأنهم لما خرجوا من السفينة بنوها. وقيل: اثنان وسبعون رجلا وامرأة، وأولاد نوح: سام وحام ويافث ونساؤهم. فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء. وعن محمد بن إسحق كانوا عشرة،
وعن النبي ﷺ كانوا ثمانية، نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم.
وقيل في بعض الروايات: إن إبليس دخل معه السفينة وفيه بعد لأنه جسم ناري فلا يؤثر الغرق فيه.
قوله سبحانه وتعالى حكاية عن نوح وأهله وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها الآية. فيه أبحاث الأول: أن الركوب متعد بنفسه يقال: ركبت الدابة والبحر والسفينة أي علوتها. فما الفائدة في زيادة لفظة «في» ؟ قال الواحدي: فائدته أن يعلم أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهره. الثاني قوله: بِسْمِ اللَّهِ إما أن تتعلق بقوله: ارْكَبُوا حالا من الواو أي مسمين الله، أو قائلين باسم الله ومَجْراها وَمُرْساها مصدران حذف منهما الوقت المضاف كقولهم: جئتك خفوق النجم ومقدم الحاج، أو يراد مكان الإجراء والإرساء أو زمانهما. وانتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل، أو بالقول المقدر. وعلى التقادير يكون مجموع قوله: وَقالَ ارْكَبُوا إلى قوله: وَمُرْساها كلاما واحدا. وإما أن يكون بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها كلاما آخر من مبتدإ وخبر أي باسم الله إجراؤها وإرساؤها.
يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست.
ويجوز أن يقحم الاسم كقوله: تم اسم السلام عليكما، ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها، وكان نوح أمرهم بالركوب أوّلا ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. وجوز في الكشاف أن تكون هذه الجملة في موضع الحال من ضمير الفلك ولا تكون جملة مستأنفة ولكن فضلة من تتمة الكلام الأول كأنه قال اركبوا
22
فيها مقدرين أن إجراءها وإرساءها باسم الله تعالى. يقال: رسا الشيء يرسو إذا ثبت، وأرساه غيره.
يروى أنها سارت لأول يوم من رجب أو لعشر مضين منه فسارت ستة أشهر ثم استوت على الجودي يوم العاشر من المحرم.
ويروى أنها مرت بالبيت وطافت به سبعا فأعتقها الله من الغرق.
البحث الثالث قوله: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ كيف ناسب مقام الإهلاك وإظهار العزة؟ والجواب كان القوم اعتقدوا أنهم نجوا ببركة إيمانهم وعملهم، فنبههم الله تعالى بهذا الذكر على أن الإنسان في كل حال من أحواله لا ينفك عن ظلمات الخطأ والزلل فيحتاج إلى مغفرة الله ورحمته. وفي الآية إشارة إلى أن العاقل إذا ركب في سفينة الفكر ينبغي أن يكون قد برىء من حوله وقوته وقطع النظر عن الأسباب وربط قلبه وعلق همته بفضل واهب العقل فيقول بلسان الحال باسم الله مجريها ومرسيها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل الإيقان، وتتخلص عن أمواج الشبه والظنون والأوهام.
قال في الكشاف: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ متصل بمحذوف كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون باسم الله وهي تجري بهم وهم فيها فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ في التراكم والارتفاع، فلعل الأمواج أحاطت بالسفينة من الجوانب فصارت كأنها في داخل تلك الأمواج.
واختلف المفسرون في قوله: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ فالأكثرون على أنه ابن له في الحقيقة لئلا يلزم صرف الكلام عن الحقيقة الى المجاز من غير ضرورة، ولا استبعاد في كون ولد النبي كافرا كعكسه. واعترض على هذا القول بأنه كيف ناداه مع كفره وقد قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً؟ [نوح: ٢٦] وأجيب بأنه كان منافقا وظن نوح أنه مؤمن أو ظن أنه كافر إلا أنه توقع منه الإيمان عند مشاهدة العذاب بدليل قوله: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ أو لعل شفقة الأبوة حملته على ذلك النداء. وعن محمد بن علي الباقر والحسن البصري أنه كان ابن امرأته ويؤيده ما روي أن عليا رضي الله عنه قرأ ونادى نوح ابنها ويؤكد هذا الظن قوله: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي دون أن يقول «إنه مني» وقيل: إنه ولد على فراشه لغير رشدة وإليه الإشارة بقوله تعالى فَخانَتاهُما [التحريم: ١٠] ورد هذا القول بأنه يجب صون منصب الأنبياء عن مثل هذه الفضيحة لقوله: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور: ٢٦] وفسر ابن عباس تلك الخيانة بأن امرأة نوح كانت تقول زوجي مجنون.
وامرأة لوط دلت الناس على ضيفه. وقوله: وَكانَ فِي مَعْزِلٍ هو مفعل من عزله عنه إذا نحاه أو أبعده أي كان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن السفينة وعمن فيها، أو كان في معزل عن دين أبيه. وقيل في معزل عن الكفار ولهذا ظن نوح أنه يريد مفارقة الكفرة، ولكن قوله: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ لا يساعد هذا القول. وقوله يا بُنَيَّ بكسر الياء
23
لأجل الاكتفاء به عن ياء الإضافة، وبفتحها اكتفاء به عن الألف المبدلة من الياء، ويجوز أن يكون الياء والألف ساقطتين من اللفظ فقط لالتقاء الساكنين. ثم حكى إصرار ابنه على الكفر بأن قال سَآوِي إِلى جَبَلٍ فأجاب نوح بأنه لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ واعترض عليه بأن معنى مَنْ رَحِمَ من رحمه الله وهو معصوم فكيف يصح استثناؤه من العاصم؟ وأجيب بأن «من» فاعلة في المعنى لا مفعول، والمراد نوح لأنه سبب الرحمة والنجاة كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام، أو الرحيم الذي مر ذكره في قوله: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وهو عاصم لا معصوم، أو هو استثناء مفرغ والتقدير لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا لمن رحم، أو العاصم بمعنى ذو العصمة كلابن وتامر.
وذو العصمة المعصوم أو المضاف محذوف والتقدير لا عاصم قط إلا مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني السفينة، أو هو استثناء منقطع كأنه قيل: ولكن من رحمه الله فهو المعصوم وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح فصار من جملة الغرقى.
قوله سبحانه: وَقِيلَ يا أَرْضُ الآية. مما اختص بمزيد البلاغة حتى صارت متداولة بين علماء المعاني فتكلموا فيها وفي وجوه محاسنها فلا علينا أن نورد هاهنا بعض ما استفدنا منهم فنقول: النظر فيها من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني، ومن جهتي الفصاحتين المعنوية واللفظية. أما من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها. فالقول فيه أنه عز سلطانه أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاؤه وإغراق قومه كما وعدناه فقضي، وأن تستوي السفينة على الجودي- وهو جبل بقرب الموصل- فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى، فبنى الكلام على تشبيه الأرض والسماء بالمأمور الذي لا يتأتى منه- لكمال هيبته- العصيان، وعلى تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود تصويرا لاقتداره، وأن السماء والأرض مع عظم جرمهما تابعتان لإرادته إيجادا وإعداما وتغييرا وتصريفا كأنهما عقلاء مميزون قد أحاطا علما يوجب الامتثال والإذعان لخالقهما، فاستعمل قِيلَ بدل «أريد» مجازا إطلاقا للمسبب على السبب، فإن صدور القول إنما يكون بعد إرادته. وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد بقوله: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ والخطابان أيضا على سبيل الاستعارة للشبه المذكور وهو كون السماء والأرض كالمأمورين المنقادين. وأيضا
24
استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال القوة الجاذبة في الطعوم للشبه بين الغور والبلع وهو الذهاب إلى مقر خفيّ. وو جعل قرينة الاستعارة نسبة الفعل إلى المفعول، وفي جعل الماء مكان الغذاء أيضا استعارة لأنه شبه الماء بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوّي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة ابْلَعِي لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ثم أمر الجماد على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره وخاطب في الأمر دون أن يقول ليبلع ترشيحا لاستعارة النداء إذ كونه مخاطبا من صفات الحي كما أن كونه منادى من صفاته ثم قال ماءَكِ بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك. واختار ضمير الخطاب دون أن يقول «ليبلع ماؤها» لأجل الترشيح المذكور. ثم اختار مستعيرا لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر لمثل ما تقدم في ابْلَعِي من ترشيح استعارة النداء. ثم قال وَغِيضَ الْماءُ غاض الماء قل ونضب، وغاضه الله يتعدى ولا يتعدى وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً فلم يصرح بالفاعل سلوكا لسبيل الكناية لأن هذه الأمور لا تتأتى إلا من قدير قهار فلا مجال لذهاب الوهم إلى غيره، ومثله في صدر الآية ليستدل من ذكر الفعل وهو اللازم على الفاعل وهو الملزوم وهذا شأن الكناية، ثم ختم الكلام بالتعريض لأنه ينبىء عن الظلم المطلق وعن علة قيامة الطوفان.
وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة منها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير «يا» للنداء لأنها أكثر استعمالا ولدلالتها على تبعيد المنادى الذي يستدعيه مقام العزة والهيبة، ولهذا لم يقل «يا أرضي» بالإضافة تهاونا بالمنادى، ولم يقل «يا أيتها الأرض» للاختصار مع الاحتراز عن تكلف التنبيه لمن ليس من شأنه التنبيه. واختير لفظ الأرض والسماء لكثرة دورانهما مع قصد المطابقة، واختير ابْلَعِي على ابتلعي لكونه أخصر ولمجيء حظ التجانس بينه وبين أَقْلِعِي أوفر. وقيل: ماءَكِ بلفظ المفرد لما في الجمع من الاستكثار المتأتي عنه مقام العزة والاقتدار، وكذا في إفراد الأرض والسماء. ولم يحذف مفعول ابْلَعِي لئلا يلزم تعميم الابتلاع لكل ما على الأرض. ولما علم اختصاص الفعل فيه اقتصر عليه فحذف من أَقْلِعِي حذرا من التطويل. وإنما لم يقل «ابلعي ماءك فبلعت» لأن عدم تخلف المأمور به عن أمر الآمر المطاع معلوم. واختير غِيضَ على غيض المشددة للاختصار ولمثل هذا عرف الماء والأمر دون أن يقال ماء الطوفان، أو أمر نوح للاستغناء عن الإضافة
25
بالتعريف العهدي ولم يقل سويت لتناسب أول القصة وهي تجري بهم من بناء الفعل للفاعل، ولأن اسْتَوَتْ أخصر لسقوط همزة الوصل. ثم قيل: بُعْداً لِلْقَوْمِ دون أن يقال «ليبعد القوم من بعد» بالكسر يبعد بالفتح إذا هلك، للتأكيد مع الاختصار ودلالة «لام» الملك على أن البعد حق لهم. وقول القائل «بعدا له» من المصادر التي لا يستعمل إظهار فعلها. ثم أطلق الظلم ليتناول ظلم أنفسهم وظلمهم غيرهم. وأما ترتيب الجمل فقدم النداء على الأمر ليتمكن الأمر الوارد عقيب النداء كما في نداء الحي، وقدم نداء الأرض لابتداء الطوفان منها بدليل قوله: وَفارَ التَّنُّورُ ثم بين نتيجة البلع والإقلاع بقوله: وَغِيضَ الْماءُ ثم ذكر مقصود القصة وهو قوله وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء المؤمنين. ثم بين حال استقرار السفينة بقوله: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وكان جبلا منخفضا فكان استواء السفينة عليه دليلا على انقطاع مادة الماء. ثم ختمت القصة بما ختمت من التعريض. قيل: كيف يليق بحكمة الله تغريق الأطفال بسبب إجرام الكفار؟ وأجيب على أصول الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل، وعلى أصول المعتزلة بأنه يعوض الأطفال والحيوانات كما في ذبحها واستعمالها في الأعمال الشاقة. وقد روى جمع من المفسرين أنه سبحانه أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ أربعين. وهذا مع تكلفه لا يتمشى في الجواب عن إهلاك سائر الحيوانات.
والظاهر أن القائل في قوله: وَقِيلَ بُعْداً هو الله تعالى لتناسب صدر الآية، ويحتمل أن يكون القائل نوحا وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع القوم الظلمة أنه يقول مثل هذا الكلام، ولأنه جار مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق.
وأما النظر في الآية من جهة الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية المراد بأبلغ وجه وأتمه. وأما من جهة الفصاحة اللفظية فهي أنها كالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقة عذبة على العذبات سلسة على الأسلات، ولعل ما تركنا من لطائف هذه الآية بل كل آية أكثر مما نذكر والله تعالى أعلم بمراده من كلامه. وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ أي أراده أن يدعوه فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي بعض سواء كان من صلبه أو ربيبا له وَإِنَّ وَعْدَكَ أي كل ما تعد به الْحَقُّ الثابت الذي لا شك في إنجازه وقد وعدتني أن تنجي أهلي وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أعلمهم وأعدلهم لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل، ويجوز أن يكون الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدارع. قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
أي من أهل دينك أو من أهلك الذين وعدتهم الإنجاء معك. ثم صرح
26
بأن العبرة بقرابة الدين والعمل الصالح لا بقرابة النسب فقال: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ من قرأ على لفظ الفعل فمعناه أنه عمل عملا غير صالح وهو الإشراك والتكذيب، ومن قرأ على لفظ الاسم فللمبالغة كما يقال: فلان كرم وجود إذا غلب عليه الكرم والجود وفي قوله: غَيْرُ صالِحٍ دون أن يقول «فاسد» تعريض بل تصريح بأنه إنما نجا من نجا بالصلاح، ويحتمل على هذه القراءة أن يعود الضمير في إِنَّهُ إلى سؤال نوح أي إن نداءك هذا المتضمن لسؤال إنجاء ابنك عمل غير صالح. وقيل: المراد أن هذا الابن ولد زنا وقد عرفت سقوطه. ثم نهاه عن مثل هذا السؤال ووبخه عليه بقوله: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ قال المحققون: الظاهر أن ابنه كان منافقا فلذلك اشتبه أمره على نوح، وحمله شفقة الأبوة أوّلا على دعوته إلى ركوب السفينة، فلما حال بينهما الموج لجأ إلى الله في خلاصه من الغرق، فعوتب على ذلك لأنه لما وعده الله إنجاءه أهله واستثنى منهم من سبق عليه القول كان عليه أن يتوكل على الله حق توكله ويعلم أن كل من كان من أهله مؤمنا فإنه يخلص من الغرق لا محالة. ولما لم يصبر إلى تبين الحال توجه إليه العتاب على ترك الأولى فلذلك تنبه ورجع إلى الله قائلا رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ فيما يستقبل من الزمان ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ تأدبا بآدابك واتعاظا بعظتك. وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما فرط مني من الخطأ في باب الاجتهاد، أو من قلة الصبر على ما يجب عليه الصبر، وهذا التضرع مثل تضرع أبيه وأبينا آدم في قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا [الأعراف: ٢٣] الآية. فلذلك عفى عنه.
وقِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ أي من السفينة بعد استوائها على الجبل، أو انزل من الجبل إلى الفضاء ملتبسا بِسَلامٍ مِنَّا بسلامة من التهديد والوعيد بل من جميع الآفات والمخافات، لأنه لما خرج من السفينة كان خائفا من عدم المأكول والملبوس وسائر جهات الحاجات لأنه لم يبق في الأرض شيء يمكن أن ينتفع به من النبات والحيوانات.
وقيل: أي مسلما عليك مكرما. والبركات الخيرات النامية الثابتة، وفسروها في هذا المقام بأنه وعد له بأن جميع أهل الأرض من الأشخاص الإنسانية يكون من نسله إما لأنه لم يكن في السفينة إلا من هو من ذريته، وإما لأنه لما خرج من السفينة مات من لم يكن من أهله وبقي النسل والتوالد في ذرّيته، دليله قوله سبحانه وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: ٧٧] فنوح آدم الأصغر. وقيل: لما وعده السلامة من الآفات وعده أن موجبات السلامة والراحة تكون في التزايد والثبات لا عليك وحدك بل وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ إن كان «من» للبيان فالمراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات، أو هم أصل
27
الأمم التي انشعبت منه. وإن كان لابتداء الغاية فالمعنى على أمم ناشئة ممن معك إلى آخر الدهر. وهذا شأن الأمة المؤمنة ثم ذكر حال الأمة الكافرة المتوالدة فقال: وَأُمَمٌ وهو رفع على الابتداء والخبر محذوف أي وممن معك أمم سَنُمَتِّعُهُمْ في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ في الآخرة مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ عن ابن زيد: هبطوا والله عنهم راض، ثم أخرج منهم نسلا منهم من رحم ومنهم من عذب. وخصص بعضهم الأمم الممتعة بقوم هود وصالح ولوط وشعيب وتِلْكَ إشارة إلى قصة نوح وهو مبتدأ والجمل بعدها أخبار.
وقوله وَلا قَوْمُكَ للمبالغة كقول القائل: لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا قومك ولا أهل بلدك. والمراد تفاصيل القصة وإلا فمجملها أشهر من أن يخفى. ومعنى مِنْ قَبْلِ هذا أي من قبل هذا الإيحاء أو العلم الذي كسبته بالوحي، أو من قبل هذا الوقت وكأن هذه القصة أعيدت في هذه السورة تثبيتا للنبي ﷺ على إنذار قومه ولذلك ختمت بقوله:
فَاصْبِرْ كما صبر نوح وإِنَّ الْعاقِبَةَ الحميدة لِلْمُتَّقِينَ.
التأويل:
ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أي مخلوقا محتاجا مثلنا. وفيه أن النفس بنظرها السفلي ترى الروح العلوي سفليا فلهذا تنظر إلى النبي ولا ترى نبوته الحميدة، بل تراه بنظر الكذب والسحر والجنون إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ والأراذل من اتباع الروح البدن والجوارح الظاهرة، فإن الغالب على الخلق أن البدن يقبل دعوة الروح ويستعمل الجوارح بالأفعال الشرعية، ولكن النفس الأمارة تكون على كفرها ولا تخلي البدن أن يشتغل بالأعمال الشرعية الدينية إلا لغرض فاسد ومصلحة دنيوية كما هو المعتاد لأكثر الخلق. وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا من طبع النفس أن تتأذى من استعمال البدن وجوارحه في التكاليف الشرعية فتقول للروح: إن ترد أن أو من بك وأتخلق بأخلاقك فأمتع البدن وجوارحه في التكاليف مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ من يمنعني من قهره إن منعت البدن من الطاعة، فاقتصر على مجرد إيمان النفس وتخلقها بأخلاق الروح كما هو معتقد أهل الفلسفة والإباحة يقولون: إن أصل العبودية معرفة الربوبية وجمعية الباطن والتحلي بالأخلاق الحميدة. أَفَلا تَذَكَّرُونَ أن جمعية الباطن ونوره من نتائج استعمال الشرع في الظاهر؟ فالنور في الشرع والظلمة في الطبع، وإنما بعث الأنبياء ليخرجوا الخلق من ظلمات الطبع إلى نور الشرع لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي استعدادا لتحصيل الدرجات العلوية وإنهم مخلوقون من السفليات الله أعلم بما في نفس كل جارحة من استعداد تحصيل الكمال وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ من التكذيب. وفيه أن ذنوب النفس لا تؤثر في صفاء الروح ولا يتكدر بها ما كان الروح متبرئا من ذنوب النفس متأسفا على معاملات
28
النفس وتتبع هواها. وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ الروح أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ وهم القلب وصفاته والسر والنفس وصفاتها والبدن وجوارحه إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ من خواص العباد وهم القلب وصفاتها والسر وصفات النفس والبدن وجوارحه. فأما النفس فإنها لا تؤمن أبدا اللهم إلا نفوس الأنبياء وخواص الأولياء فإنها تسلم أحيانا دون الإيمان فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ لأن أعمال الشر لنفوس السعداء كالجسد للإكسير ينقلب ذهبا مقبولا عند طرح الروح عليها، فكذلك تنقلب أعمال الشر خيرا عند طرح التوبة عليها فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ولا تبتئس على نفوس الأشقياء لأن أعمالها حجة الله على شقاوتهم، وبتلك السلاسل يسحبون في النار على وجوههم وَاصْنَعِ الْفُلْكَ اتخذ يا نوح الروح سفينة الشريعة بنظرنا لا بنظرك فإن نظرك تبع الحواس يبصر ظاهرها ويغفل عن أسرارها وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا فإن الظلم من شيم النفوس إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ في بحر الدنيا وشهواتها. وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ هم النفس وهواها وصفاتها تَسْخَرُونَ من استعمال أركان الشريعة إذ لم يفهموا حقائقها حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وهو حد البلوغ والركوب في سفينة الشريعة وَفارَ ماء الشهوة من تنور القالب قُلْنَا احْمِلْ في سفينة الشريعة من كل صفة وزوجها: كالشهوة وزوجها العفة، والحرص وزوجها القناعة، والبخل وزوجها السخاء، والغضب وزوجها الحلم، وكذا الحقد مع السلامة، والعداوة مع المحبة، والكبر مع التواضع، والتأني مع العجلة وَأَهْلَكَ وهم صفات الروح لا النفس وَمَنْ آمَنَ وهم القلب والسر. وفي قوله تعالى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ إشارة إلى أن من ركب سفينة الشرع بالطبع وتقليد الآباء والمعلمين لم يحصل له النجاة الحقيقية كما ركب إبليس بالطبع في سفينة نوح وإنما النجاة لمن ركب بأمر الله وذكره مجراها من الله ومرساها إلى الله كقوله: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: ٤٢] فِي مَوْجٍ من الفتن كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ الروح ابْنَهُ كنعان النفس المتولد بينه وبين القالب وَكانَ فِي مَعْزِلٍ من معرفة الله وطلبه سَآوِي إِلى جَبَلٍ العقل يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ الفتن لا عاصِمَ الْيَوْمَ أي إذا نبع ماء الشهوات من أرض البشرية ونزل ماء ملاذ الدنيا وزينتها من سماء القضاء فلا يتخلص منه إلا من يرحمه الله بالاعتصام بسفينة الشريعة ابْلَعِي ماء شهواتك أَقْلِعِي عن إنزال مطر الآفات وَغِيضَ ماء الفتن ببركة الشرع وَقُضِيَ الْأَمْرُ ما كان مقدرا من طوفان الفتن للابتلاء والتربية، وَاسْتَوَتْ سفينة الشريعة عَلَى الْجُودِيِّ وهو مقام التمكين بعد مقامات التلوين وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وهو ما وعد نوح الروح عند إهباطه إلى العالم السفلي من
الرجوع إلى العالم العلوي: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ وكان للروح أربعة بنين: ثلاثة من المؤمنين وهم القلب والسر والعقل، وواحد
29
كافر وهو النفس. فنفى عن النفس أهلية الدين والملة لأنها خلقت للأمارية اهْبِطْ من سفينة الشريعة عند مفارقة الجسد والخلاص من طوفان الفتن وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ هم النفوس متعت بالحظوظ الدنيوية ثُمَّ يَمَسُّهُمْ في الآخرة عذاب البعد عن المألوفات، فَاصْبِرْ على تربية الروح والنفس إِنَّ الْعاقِبَةَ لمن اتقى طوفان فتن الدنيا والنفس والهوى.
[سورة هود (١١) : الآيات ٥٠ الى ٦٨]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤)
فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)
القراآت:
فطرني بفتح الياء: أبو جعفر ونافع والبزي غير الخزاعي إِنِّي أُشْهِدُ
30
بالفتح: أبو جعفر ونافع. فَإِنْ تَوَلَّوْا بتشديد التاء: البزي وابن فليح. وَيَسْتَخْلِفُ بالجزم: الخزاز عن هبيرة. الباقون بالرفع يَوْمِئِذٍ بفتح الميم وكذلك في «المعارج» :
أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وعلي الشموني والبرجمي وعباس. الآخرون بالجر. أَلا إِنَّ ثَمُودَ غير منصرف والوقف بغير الألف: حمزة وحفص وسهل ويعقوب. الباقون بالتنوين والوقف بالألف. لِثَمُودَ بالتنوين في الوصل: علي.
الوقوف:
هُوداً ط غَيْرُهُ ط مُفْتَرُونَ هـ أَجْراً ط فَطَرَنِي ط تَعْقِلُونَ هـ مُجْرِمِينَ هـ بِمُؤْمِنِينَ هـ بِسُوءٍ ط تُشْرِكُونَ هـ لا لا تُنْظِرُونِ ٥ وَرَبِّكُمْ ط بِناصِيَتِها ط مُسْتَقِيمٍ هـ بِهِ إِلَيْكُمْ ط للاستئناف إلا لمن قرأ وَيَسْتَخْلِفُ بالجزم غَيْرَكُمْ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال شَيْئاً ط حَفِيظٌ هـ مِنَّا ج لحق المحذوف أي وقد نجيناهم غَلِيظٍ هـ ط عَنِيدٍ هـ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ط رَبَّهُمْ ط هُودٍ هـ صالِحاً م لما مر في «الأعراف». غَيْرُهُ ط إِلَيْهِ ط مُجِيبٌ هـ مُرِيبٍ هـ تَخْسِيرٍ هـ قَرِيبٌ هـ أَيَّامٍ ط مَكْذُوبٍ ط يَوْمِئِذٍ ط الْعَزِيزُ هـ جاثِمِينَ هـ لا لكاف التشبيه فِيها ط رَبَّهُمْ ط لِثَمُودَ ٥.
التفسير:
قد مر في «الأعراف» تفسير قوله: وَإِلى عادٍ الآية، ومعنى قوله: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ أنكم كاذبون في قولكم إن هذه الأصنام يحسن عبادتها مع أنها لا حس لها ولا شعور. ثم قال مثل قول نوح يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً لأن النصيحة لا يمحضها إلا حسم المطامع أَفَلا تَعْقِلُونَ أن نصح من لا يطلب الأجر إلا من الله لا يكون من التهمة في شيء. قيل: إنما قال في قصة نوح مالًا دون أَجْراً لذكر الخزائن بعده، فلفظ المال بها أليق. وحذف الواو من يا قَوْمِ لأنه أراد الاستئناف أو البدل دون العطف. وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ قد مر مثله في أول السورة.
وقال الأصم: المراد سلوه أن يغفر لكم ما تقدم لكم من إسرافكم ثم اعزموا على أن لا تعودوا إلى مثله. ثم قصد استمالتهم وترغيبهم في الإيمان بكثرة المطر وزيادة القوة لأن القوم كانوا حراصا على جميع الأموال من وجوه العمارة والزراعة مفتخرين بما أوتوا من البطش والقوة، فقدم إليهم في باب الدعوة إلى الدين والترغيب فيه ما كانت همتهم معقودة به ليحصل في ضمنه الغرض الكلي والمقصود الأصلي وهو الفوز بالسعادات الأخروية، وكأنه إنما خصص هذين النوعين من السعادات الدنيوية لأن الأول أصل جميع النعم، والثاني أصل في الانتفاع بتلك النعم. وقيل: المراد بالقوة الزيادة في المال. وقيل
31
في النكاح. وروي أنه حبس عنهم القطر بشؤم التكذيب ثلاث سنين وأعقم نساؤهم فوعدوا أنهم إن آمنوا أحيا الله بلادهم ورزقهم المال والولد. والمدرار الكثير الدر كما مر في أول «الأنعام».
عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه وفد على معاوية فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال: إني رجل ذو مال لا يولد لي فقال: عليك بالاستغفار. فكان يكثر الاستغفار حتى إنه ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة فولد له عشرة بنين فبلغ ذلك معاوية فقال: هلا سألته مم قال ذلك؟ فوفد وفدة أخرى فسأله الرجل فقال: ألم تسمع قول هود وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وقول نوح وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نوح: ١٢]
ثم قال هود لا تَتَوَلَّوْا أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه مُجْرِمِينَ مصرين على الإجرام والآثام. فجحدوا هودا وقالوا ما جئتنا ببينة كما قالت قريش لرسول الله ﷺ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الرعد: ٢٧] ولم يشتهر منه معجزة ولكن العلماء قالوا: إظهار الدعوة مع أولئك الأقوام من غير مبالاة وتوان آية من الآيات. وقوله: عَنْ قَوْلِكَ حال من الضمير كأنه قيل: وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ لا يصدق مثلنا مثلك أبدا. ثم زعموا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء أي غشيه وأورثه الخبل والجنون لأنه كان يسب آلهتهم وذلك قولهم: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ وإلا لغو أي ما نقول شيئا إلا هذا القول فمن ثم يتكلم بكلام المجانين. والمراد أن الأصنام كافأته على سوء فعله بسوء الجزاء فأظهر نبي الله الجلادة والثقة بالله فيما هو بصدده وتبرأ منهم ومن شركهم فأشهد الله وذلك إشهاد صحيح، وأشهدهم أيضا وهذا كالتهاون وقلة المبالاة بهم كقول الرجل لمن نوى قطعه بالكلية: اشهد عليّ أني لا أحبك تهكما به. وقد مر قوله: فَكِيدُونِي الآية في آخر سورة الأعراف. وقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها تمثيل لغاية التسخير ونهاية التدليل، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته فكان علامة لقهره. قالت المعتزلة: هذا دليل التوحيد لدلالته على أنه لا مالك إلا هو. وقوله:
إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دليل العدل. والأشاعرة قالوا: معناه معنى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: ١٤] أي لا يخفى عليه شيء ولا يفوته هارب فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ كقول القائل إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك فيما مضى. والمراد فإن تتولوا فأنا غير معاتب ولا مقصر لأني قد قضيت حق الرسالة. وفي قوله: وَيَسْتَخْلِفُ إشارة إلى عذاب الاستئصال وأنه يخلق بعدهم من هو أطوع منهم وأنه لا ينقص من ملكه شيئا إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها، أو يحفظني من شرككم وكيدكم، أو يحفظني من الهلاك وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قيل: كانوا أربعة آلاف
32
بِرَحْمَةٍ مِنَّا أي بفضل وامتنان أو بسبب ما هم فيه من الإيمان والعمل الصالح وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أطلق التنجية أوّلا ثم قيدها على معنى وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ سموم تدخل في أفواههم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضوا عضوا.
ويحتمل أن يراد بالثانية النجاة من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه.
ولما ذكر قصتهم خاطب محمدا وأشار إلى قبورهم وآثارهم بقوله: وَتِلْكَ عادٌ فانظروا واعتبروا. ثم استأنف وصف أحوالهم مجملة فقال: جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فلم يتسلقوا من المعجزات إلى صدق الأنبياء، ولم يرتقوا من الممكنات إلى وجود الواجب بالذات وَعَصَوْا رُسُلَهُ قيل: لم يرسل إليهم إلا هود، وصح الجمع لأن عصيان رسول واحد يتضمن عصيان كلهم لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: ٢٨٥] وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أطاعوا رؤساءهم وكبراءهم المتمردة والمعاندة ولهذا جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين. وفي تكرير «ألا» والنداء على كفرهم، والدعاء عليهم بالبعد بعد إهلاكهم دلالة على تفظيع شأنهم وأنهم كانوا مستأهلين للدعاء عليهم بالهلاك، ويحتمل أن يراد البعد من رحمة الله في الآخرة. وقوله: قَوْمِ هُودٍ عطف بيان لعاد إما للتأكيد ومزيد التقرير، وإما لأن عادا عادان القديمة التي هي قوم هود، والأخرى وهي إرم. قوله في قصة ثمود هُوَ أَنْشَأَكُمْ تقديم الضمير للحصر أي لم ينشئكم إلا هو، ومعنى الإنشاء من الأرض أن الكل مخلوق من صلب آدم وهو مخلوق من الأرض. ويمكن أن يقال: إن الإنسان مخلوق من المني وهو يحصل من الغذاء والغذاء ينتهي إلى النبات ثم إلى الأرض. وقيل: إن «من» بمعنى «في». وَاسْتَعْمَرَكُمْ من العمارة أي جعلكم عمارا للأرض وأمركم بالعمارة. فمنها واجب وندب ومباح ومكروه، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار فعمروا الأعمار الطوال مع ما كان منهم من الظلم.
فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم فأوحى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي وقيل: من العمر نحو استبقاكم من البقاء. وقيل: من العمرى. ومعناه أعمركم الله فيها دياركم ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم، أو جعلكم معمرين دياركم فيها لأن الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنه أعمره إياها لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لوارثه.
ومعنى كونه تعالى قريبا قد مر في قوله: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:
١٨٦] وذلك في «البقرة». قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا عن ابن عباس: فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا. وقيل: كنا نظن بك الرشد والصلاح وكمال العقل وإصابة الرأي. وقيل: كنت تعطف على فقيرنا وتعين ضعيفنا وتعود مرضانا فظننا أنك من الأنصار
33
والأحباب وأهل الموافقة في الدين، فكيف أظهرت العداوة والبغضاء؟ ثم أضافوا إلى هذا الكلام التمسك بالتقليد ومتابعة الآباء، ثم صرحوا بالتوقف والريب في أمره. ومريب من أرابه إذا أوقعه في الريبة، أو من أراب الرجل إذا كان ذا ريبة وهو من الإسناد المجازي واعلم أن قوله وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ بنون الوقاية هاهنا على الأصل، وأما في سورة إبراهيم فإنما قال: وإنا بغير نون الوقاية لقوله بعده: تَدْعُونَنا [الآية: ٩] على الجمع فكان اجتماع النونات مستكرها. فأجابهم هو بقوله: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ الآية. وبنى أمره على الفرض والتقدير لأن خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبول كأنه قال: قدروا أني على بينة مِنْ رَبِّي وأني نبي على الحقيقة فمن يمنعني من عذاب الله إِنْ عَصَيْتُهُ في أوامره فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ أي على هذا التقدير تخسرون أعمالي وتبطلونها، أو فما تزيدونني بما تحملونني عليه إلا أني أنسبكم إلى الخسران وأقول إنكم خاسرون.
والمعنى الأول أقرب لأنه كالدلالة على أن متابعتهم لا تزيده إلا خسران الدارين. وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ قد مر تفسيره في «الأعراف». ومعنى عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يستأخر إلا ثلاثة أيام وغَيْرُ مَكْذُوبٍ من باب الاتساع أي غير مكذوب فيه فحذف الحرف.
وأجرى الضمير مجرى المفعول به أو من باب المجاز كأن الوعد إذا أوفى به فقد صدق ولم يكذب أو المكذوب مصدر كالمجلود وصف به.
قوله: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بالفاء. وفي قصة هود بالواو ولمكان التعقيب هاهنا بدليل قوله: عَذابٌ قَرِيبٌ ومثله في قصة لوط لقوله: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود: ٨١] وأما في قصة هود فإنه قال: وَيَسْتَخْلِفُ بلفظ المستقبل ومثله في قصة شعيب فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ بحرف التسويف فلم يكن الفاء مناسبا. واعتبر هذا المعنى في سائر المواضع كما في سورة يوسف قال: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ [الآية: ٥٩] بالواو أوّلا لأن التعقيب لم يكن مرادا ثم قال: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ [الآية: ٧٠] لمكان التعقيب والله أعلم. قوله:
وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ معطوف على محذوف والتقدير نجينا صالحا ومن معه من العذاب النازل بقومه ومن الخزي الذي لزمهم، أو يتعلق بمعطوف محذوف أي ونجيناهم من خزي يومئذ كما قال: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ والمعنيان كما قلنا هناك. والقراءتان في يَوْمِئِذٍ لأن الظرف المضاف إلى «إذ» يجوز بناؤه على الفتح، والتنوين في «إذ» عوض من المضاف إليه أعني الجملة، والتقدير يوم إذ كان كذا وكسر الذال للساكنين إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ القادر الغالب فمن قدرته ميز المؤمن من الكافر، ومن عزته وقهره أهلك الكفار بالصيحة التي سمعوها من جانب السماء إما بواسطة جبرائيل وإما لإحداثها في
34
سحاب مع برق شديد محرق. وإنما تصير الصيحة سببا للهلاك لأن التموج الشديد في الهواء يوجب تأذي صماخ الإنسان، وقد يتمزق غشاء الدماغ بذلك، والأعراض النفسانية أيضا إذا قويت أوجبت الموت وتمام القصة مذكور في سورة الأعراف. وقوله: أَلا إِنَّ ثَمُودَ إلى آخره. شبيه بما مر في قصة هود، والتأويل كما مر في سورة الأعراف والله أعلم.
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٩ الى ٨٣]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨)
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
القراآت:
سلم بكسر السين بلا ألف فيهما: حمزة وعلي ويَعْقُوبَ بالنصب:
ابن عامر وحمزة وحفص، الآخرون بالرفع. سِيءَ بِهِمْ وبابه كضرب مجهولا: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي ورويس. الآخرون سِيءَ مثل قِيلَ تخزوني بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل. وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل ضيفي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو فَأَسْرِ وبابه بهمزة الوصل:
أبو جعفر ونافع وابن كثير وعباس من طريق الموصلي وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة إلا امرأتك بالرفع: ابن كثير وأبو عمرو. الباقون بالنصب.
35
الوقوف:
سَلاماً ط حَنِيذٍ هـ خِيفَةً ط قَوْمِ لُوطٍ هـ ط بِإِسْحاقَ ط لمن قرأ يعقوب بالرفع يَعْقُوبَ هـ شَيْخاً ط عَجِيبٌ هـ أَهْلَ الْبَيْتِ ط مَجِيدٌ هـ فِي قَوْمِ لُوطٍ ط مُنِيبٌ هـ عَنْ هذا ج لاحتمال التعليل أَمْرُ رَبِّكَ ج للابتداء بأن مع اتصال المعنى. مَرْدُودٍ هـ عَصِيبٌ هـ إِلَيْهِ ج للعطف ولاختلاف النظم السَّيِّئاتِ ط ضَيْفِي ط رَشِيدٌ هـ مِنْ حَقٍّ ج لما مر ما نُرِيدُ هـ شَدِيدٍ هـ. إِلَّا امْرَأَتَكَ ط أَصابَهُمْ ط الصُّبْحُ ط بِقَرِيبٍ هـ مَنْضُودٍ هـ لا لأن ما بعده صفة حجارة عِنْدَ رَبِّكَ ط بِبَعِيدٍ هـ.
التفسير:
الرسل هاهنا الملائكة، وأجمعوا على أن الأصل فيهم جبرائيل، ثم اختلفوا فقيل: كان معه اثنا عشر ملكا على أحسن ما يكون من صورة الغلمان. وقال الضحاك:
كانوا تسعة. وقال ابن عباس: كانوا ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وهم الذين ذكر الله تعالى في سورة الحجر وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الآية: ٥١] وفي الذاريات هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الآية: ٢٤] والظاهر أن البشرى هي البشارة بالولد. وقيل: بهلاك قوم لوط. ومعنى سَلاماً سلمنا عليك. ومعنى سَلامٌ أمركم سلام أو سلام عليكم، ولأن الرفع يدل على الثبات والاستقرار، والنصب يدل على الحدوث لمكان تقدير الفعل. قال العلماء: إن سلام إبراهيم كان أحسن اقتداء بقوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها [النساء: ٨٦] وإنما صح وقوع سَلامٌ مبتدأ مع كونه نكرة لتخصصها بالإضافة إلى المتكلم إذ أصله سلمت سلاما فعدل إلى الرفع لإفادة الثبات. ومن قرأ سلما فمعناه السلام أيضا. قال الفراء: سلم وسلام كحل وحلال وحرم وحرام. وقال أبو علي الفارسي: يحتمل أن يراد بالسلم خلاف الحرب. قالوا: مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتم لذلك فجاءته الملائكة فرأى أضيافا لم ير مثلهم فما لبث أَنْ جاءَ أي فما لبث في أن جاء بل عجل أو فما لبث مجيئه بِعِجْلٍ هو ولد البقرة حَنِيذٍ مشوي في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة وهو من فعل أهل البادية معروف، ومعناه محنوذ كطبيخ بمعنى مطبوخ. وقيل: الحنيذ الذي يقطر دسما لقوله: بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:
٢٦] تقول: حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى يقطر عرقا فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ إلى العجل أو الطعام نَكِرَهُمْ أي أنكرهم واستنكر فعلهم وَأَوْجَسَ أضمر مِنْهُمْ خِيفَةً لأنه ما كان يعرف أنهم ملائكة وكان من عادة العرب أنه إذا نزل بهم الضيف ولم يتناول طعامهم توقعوا منه المكروه والشر. وقيل: إنه كان ينزل في طرف من الأرض بعيد عن الناس، فلما امتنعوا من الأكل خاف أن يريدوا به شرا. وقيل: إنه كان
36
يعرف أنهم ملائكة الله لقولهم: لا تَخَفْ. وإِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ لم يقولوا لا تخف إنا ملائكة بل ذكروا سبب الإرسال وهو إهلاك قوم لوط. وعلى هذا فإنما خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله أو لتعذيب قومه، والاحتمال الأول وهو أنه كان لا يعرف أنهم ملائكة أقرب بدليل إحضاره الطعام واستدلاله بترك أكلهم على توقع الشر منهم.
وإنما ذكروا سبب الإرسال إيجازا واختصارا لدلالة الإرسال على كونهم رسلا لا أضافيا. وإنما أتوه على صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها لأنه كان مشغوفا بالضيافة. وبم عرف الملائكة خوفه؟ قيل: بالتغير في وجهه أو بتعريف الله، أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب وَامْرَأَتُهُ وهي سارة بنت هاران بن ناحورا بنت عم إبراهيم قائِمَةٌ وراء الستر تسمع تحاورهم، أو كانت قائمة على رؤوسهم تخدمهم وهم قعود فَضَحِكَتْ.
قال العلماء: لا بد للضحك من سبب فقيل: سببه السرور بزوال الخيفة. وقيل:
بهلاك أهل الخبائث.
وعن السدي أن إبراهيم قال لهم: ألا تأكلون؟ قالوا: إنا لا نأكل طعاما إلا بالثمن. فقال: ثمنه أن تذكروا اسم الله على أوله وتحمدوه في آخره. فقال جبرائيل لميكائيل: حق لمصل هذا الرجل أن يتخذه ربه خليلا، فضحكت امرأته فرحا بهذا الكلام.
وقيل: كانت تقول لإبراهيم اضمم لوطا ابن أخيك إليك فإني أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب، ففرحت بموافقة قولهم لقولها فضحكت. وقيل: طلب إبراهيم ﷺ منهم معجزة دالة على أنهم من الملائكة فدعوا ربهم بإحياء العجل المشوي فطفر ذلك العجل المشوي إلى مرعاه فضحكت سارة من طفرته. وقيل: ضحكت تعجبا من قوم أتاهم العذاب وهم غافلون. وقيل: تعجبت من خوف إبراهيم مع كثرة خدمه وحشمه من ثلاثة أنفس. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير أي فبشرناها بإسحاق فضحكت سرورا. وعن مجاهد وعكرمة ضحكت أي حاضت ومنه ضحكت الطلعة إذا انشقت يعني استعدادها لعلوق الولد. من قرأ يعقوب بالرفع فعلى الابتداء والخبر محذوف أي يعقوب مولود أو موجود بعد إسحق، ومن قرأ بالنصب فعلى العبارة المتروكة كأنه قيل: ووهبنا لها إسحق ومن بعد إسحق يعقوب. أقول: من المحتمل أن يكون يَعْقُوبَ مجرورا بالعبارة الموجودة أي وبشرناها بيعقوب من بعد إسحق وقيل: الوراء ولد الولد ووجهه أن يراد بيعقوب أولاده كما يقال هاشم ويراد أولاده يا وَيْلَتى كلمة تلهف وقد مرت في «المائدة» في يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ [المائدة: ٣١] وشَيْخاً نصب على الحال والعامل فيه ما في هذا من معنى أنبه أو أشير إِنَّ هذا يعني إن تولد ولد من هرمين لَشَيْءٌ
37
عَجِيبٌ عادة فأزال الملائكة تعجبها منكرين عليها بقولهم على سبيل الاستئناف رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ يا أهل بيت خليل الرحمن. والمقصود أن رحمته عليكم متكاثرة وبركاته فيكم متواترة وخرق العادات في أهل بيت النبوة غير عجيب. ويحتمل أن يكون انتصاب أَهْلَ الْبَيْتِ على الاختصاص. وقيل: الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم. ثم أكدوا إزالة التعجب بقولهم: إِنَّهُ حَمِيدٌ محمود في أفعاله مَجِيدٌ ذو الكرم الكامل فلا يليق به منع الطالب عن مطلوبه.
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ الخوف الذي لحقه حين أنكر أضيافه وَجاءَتْهُ الْبُشْرى البشارة بحصول الولد يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ في معناهم وفي شأنهم وهو جواب «لما» على حكاية الحال، أو لأن «لما» ترد المضارع إلى الماضي عكس «إن»، ويحتمل أن يكون جواب «لما» محذوفا دل عليه يُجادِلُنا أي اجترأ على خطابنا أو قال كذا، ثم ابتدأ فقال: يُجادِلُنا. وقيل: معناه أخذ يجادلنا ولا بد من حذف مضاف أي يجادل رسلنا لا بمعنى مخالفة أمر الله فإن ذلك يكون معصية بل سعيا في تأخير العذاب عنهم رجاء إيمانهم وتوبتهم.
يروى أنهم قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية فقال: أرأيتم لو كان فيها خمسون من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا قال: فأربعون؟ قالوا: لا حتى بلغ العشرة قالوا لا. قال: فإن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فعند ذلك قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ [العنكبوت: ٣٢]
قال الأصوليون: إن إبراهيم كان يقول: إن أمر الله ورد بايصال العذاب ومطلق الأمر لا يوجب الفور، والملائكة يدعون الفور إما للقرائن أو لأن مطلق الأمر يستدعي ذلك، فهذه هي المجادلة.
أو لعل إبراهيم كان يدعي أن الأمر مشروط بشرط لم يحصل بعدوهم لا يسلمون.
وبالجملة فإن العلماء يجادل بعضهم بعضا عند التمسك بالنصوص وليس يوجب القدح في واحد منهم فكذلك هاهنا ولذلك مدحه بقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول في الأمور أَوَّاهٌ كثير التأوّه من الذنوب مُنِيبٌ راجع إلى الله في كل ما يسنح له. وهذه الصفات تدل على رقة القلب والشفقة على خلق الله حتى حملته على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع العذاب عنهم. ولما عرفت الملائكة أن العذاب قد حق عليهم قالوا: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بإهلاكهم وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ لا حق بهم عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ فلا راد لقضائه فلا ينفع فيهم جدال ولا دعاء.
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا المذكورون لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أصله «سوىء» لأنه من ساءه يسوءه نقيض سره يسره، نقلت الكسرة إلى الفاء وأبدلت العين ياء، ومن قرأ سِيءَ
38
بإبدال العين ياء مكسورة فلكراهة اجتماع الواو والهمزة. وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً قال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوه، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فجعل ضيق الذرع عبارة عن قلة الوسع والطاقة، وربما قالوا ضقت بالأمر ذرعا. وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي شديد من العصب الشد كأنه أريد اشتداد ما فيه من الأمور. عن ابن عباس: انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله فساءه مجيئهم واغتم لذلك لأنه خاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم. وقيل: سبب المساءة أنه لم يكن قادرا على القيام بحق ضيافتهم لأنه ما كان يجد ما ينفق عليهم. وقيل: السبب أن قومه منعوه عن إدخال الضيف داره. وقيل: عرف أنهم ملائكة جاؤوا لإهلاك قومه فرق قلبه على قومه. والصحيح هو الأول.
يروى أنه تعالى قال لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات. فلما مشى معهم منطلقا بهم إلى منزله قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا- يقول ذلك أربع مرات- فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها
فذلك قوله: وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال أبو عبيدة: يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضا.
وقال الجوهري: الإهراع الإسراع، وأهرع الرجل على ما لم يسم فاعله فهو مهرع إذا كان يرعد من حمى أو غضب أو فزع، وقيل: إنما لم يسم فاعله للعلم به. والمعنى أهرعه خوفه أو حرصه. ثم بين إسراعهم إنما كان لأجل العمل الخبيث فقال: وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الفواحش فمرنوا عليها فلذلك جاؤوا مجاهرين لا يكفهم حياء. وقيل:
معناه وكان لوط قد عرف عادتهم في ذلك العمل قبل ذلك فأراد أن يقي أضيافه ببناته فقال: هؤُلاءِ بَناتِي عن قتادة: بناته من صلبه. وعن مجاهد وسعيد بن جبير: أراد نساء أمته لأن النبي كالأب لأمته. واختير هذا القول لأن عرض البنات الحقيقيات على الفجار لا يليق بذوي المروءات، ولأن اللواتي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم، ولما روي أنه لم يكن له إلا بنتان وأقل الجمع ثلاثة. والقائلون بالقول الأول قالوا ما دعا القوم إلى الزنا بهن وإنما دعاهم إلى التزوج بهن بعد الإيمان أو مع الكفر، فلعل تزويج المسلمات من الكفار كان جائزا كما في أول الإسلام، زوج رسول الله ﷺ ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع بن عبد العزى- وهما كافران- فنسخ بقوله: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة: ٢٢١] وقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه، وقيل: إن بناته كن أكثر من ثنتين. ويجوز أن يكون قد عرض البنات عليهم لا
39
بطريق الجد بل طمعا فيهم أن يستحيوا منه ويرقوا له. وأَطْهَرُ بمعنى الطاهر لأنه لا طهارة في نكاح الرجال فَاتَّقُوا اللَّهَ بإيثارهن عليهم وَلا تُخْزُونِ ولا تفضحوني من الخزي أو لا تخجلوني من الخزاية وهي الحياء. فِي ضَيْفِي في حق أضيافي فخزي الضيف والجار يورث للمضيف العار والشنار. والضيف يستوي فيه الواحد والجمع ويجوز أن يكون مصدرا. أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ صالح أو مصلح مرشد يمتنع أو يمنع عن مثل هذا العمل القبيح.
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ من شهوة ولا حاجة لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق ولذلك قالوا وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ ويجوز أن يراد إنهن لسن لنا بأزواج فلا حق لنا فيهن من حيث الشرع ومن حيث الطبع، أو يراد إنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ونحن لا نؤمن البتة فلا يتصور لنا حق فيهن. قال لوط لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً وجوابه محذوف أي لفعلت بكم وصنعت وبالغت في دفعكم. قال أهل المعاني: حذف الجواب أبلغ لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من الدفع والمنع. والمراد لو أن لي ما أتقوى به عليكم فسمى موجب القوة بالقوة، ويحتمل أن يريد بالقوة القدرة والطاقة أَوْ آوِي أنضم إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ حام منيع شبه الركن من الجبل في شدته.
وقوله: أَوْ آوِي عطف على الفعل المقدر بعد «لو». والحاصل أنه تمنى دفعهم بنفسه أو بمعاونة غيره، قال ذلك من شدة القلق والحيرة في الأمر النازل به ولهذا قالت الملائكة وقد رقت عليه وحزنت له: إن ركنك لشديد.
وقال النبي ﷺ «رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد فما بعث نبي بعد ذلك إلا في ثروة من قومه» «١»
ويحتمل أن يريد بالركن الشديد حصنا يتحصن به فيأمن من شرهم، ويحتمل أنه لما شاهد سفاهة القوم وإقدامهم على سوء الأدب تمني حصول قوة قوية على الدفع. ثم استدرك وقال بل الأولى أن آوي إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله. روي أنه أغلق بابه لما جاؤوا فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ وهذه جملة موضحة للتي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصل الأعداء إليه ولن يقدروا على ضرره، فأمره الملائكة أن يفتح الباب فدخلوا فاستأذن جبرائيل ربه في عقوبتهم فأذن له، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم كما قال سبحانه وَلَقَدْ راوَدُوهُ
(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب: ١٩. ابن ماجه في كتاب الفتن باب: ٢٣. أحمد في مسنده (٢/ ٣٢٦، ٣٣٢).
40
عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ [القمر: ٣٧] فصاروا لا يعرفون الطريق فخرجوا وهم يقولون إن في بيت لوط سحرة. ثم بين نزول العذاب ووجه خلاص لوط وأهله فقال: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ الباء للتعدية إن كانت الهمزة للوصل من السرى، أو زائدة وإن كانت للقطع من الإسراء. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ عن ابن عباس: أي في آخر الليل بسحر. وقال قتادة: بعد طائفة من الليل. وقيل نصف الليل كأنه قطع نصفين وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي لا ينظر إلى ما وراءه إِلَّا امْرَأَتَكَ أكثر القراء على النصب فاعترض بأن الفصيح في مثله هو البدل لأن الكلام غير موجب فكيف اجتمع القراء على غير فصيح؟ فأجاب جار الله بأن الرفع بدل من أَحَدٌ على القياسي والنصب مستثنى من قوله: فَأَسْرِ لا من قوله لا يَلْتَفِتْ وزيف بأن الاستثناء من فَأَسْرِ يقتضي كونها غير مسرى بها، والاستثناء من لا يَلْتَفِتْ يقتضي كونها مسريا بها لأن الالتفات بعد الإسراء فتكون مسريا بها غير مسرى بها. ويمكن أن يجاب بأن فَأَسْرِ وإن كان مطلقا في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الالتفات إذ المراد أسر بأهلك إسراء لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراء مع الالتفات، فاستثن على هذا إن شئت من فَأَسْرِ وإن شئت من لا يَلْتَفِتْ ولا تناقض.
وبعضهم- كابن الحاجب- جعل إِلَّا امْرَأَتَكَ في كلتا القراءتين مستثنى من لا يَلْتَفِتْ ولم يستبعد اجتماع القراء على قراءة غير الأقوى. ويمكن أن يقال: إنما اجتمعوا على النصب ليكون استثناء من فَأَسْرِ إذ لو جعل استثناء من لا يَلْتَفِتْ لزم أن تكون مأمورة بالالتفات لأن القائل إذا قال لا يقم منكم إلا زيد كان ذلك أمرا لزيد بالقيام اللهم إلا أن يجعل الاستثناء منقطعا على معنى ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم، وإذا كان هذا الاستثناء منقطعا كان التفاتها موجبا للمعصية. قاله في الكشاف.
وروي أنه أمر أن يخلفها مع قومها فلم يسر بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين.
أقول: في هذا الكلام خلل لا يمكن اجتماعهما على الصحة، والقراءتان يجب اجتماعهما على الصحة لتواتر القراآت كلها.
روي أنها لما سمعت هدّة العذاب أي صوته التفتت وقالت: يا قوماه. فأدركها حجر فقتلها.
وقيل: المراد بعدم الالتفات قطع تعلق القلب عن الأصدقاء والأموال والأمتعة. فعلى هذا يصح الاستثناءان من غير شائبة التناقض كأنه أمر لوطا أن يخرج بقومه ويترك هذه المرأة فإنها هالكة من الهالكين. ثم أمر أن يقعطوا العلائق وأخبر أن امرأته تبقى متعلقة القلب بها.
يروى أنه قال لهم متى موعد هلاكهم فقيل له إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ فقال أريد أسرع من ذلك فقالوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بإهلاكهم جَعَلْنا أي جعل
41
رسلنا عالِيَها سافِلَها
روي أن جبرائيل أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصياح الديوك لم يتبدد لهم طعام ولم يتكسر لهم إناء، ثم قلبها دفعة وضربها على الأرض، ثم أمطر عليهم حجارة من سجيل- وهو معرب سنك وكل- كأنه مركب من حجر وطين وهو في غاية الصلابة.
وقيل: سجيل أي مثل السجل وهي الدلو العظيمة أو مثلها في تضمن الأحكام الكثيرة، وقيل: أي مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته. وقيل: أي مما كتب الله أن يعذب به أو كتب عليه أسماء المعذبين من السجل وقد سجل لفلان. وقيل: من سجين أي من جهنم فأبدلت النون لاما. وقيل: إنه اسم من أسماء السماء الدنيا. ومعنى مَنْضُودٍ موضوع بعضها فوق بعض في النزول يأتي على سبيل المتابعة والتلاصق، أو نضد في السماء نضدا معدا لإهلاك الظلمة وفي السماء معادنها في جبال مخصوصة كقوله:
مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النور: ٤٣] مُسَوَّمَةً معلمة للعذاب أو بياض وحمزة، عن الحسن والسدي عليها أمثال الخواتيم. وقال ابن جريج: كان عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض. وقال الربيع: مكتوب على كل حجر اسم من يرمى به. وقال أبو صالح: رأيت منها عند أم هانىء حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. ومعنى عِنْدَ رَبِّكَ أي في خزائنه لا يتصرف في شيء منها إلا هو، أو مقرر في علمه إهلاك من أهلك بكل واحد منها وَما هِيَ أي تلك الحجارة مِنَ الظَّالِمِينَ أي من كل ظالم بِبَعِيدٍ وهو وعيد لأهل مكة
عن رسول الله ﷺ أنه سأل جبرائيل عن هذا فقال يعني من ظالمي أمتك ما من ظالم إلا وهو بصدد سقوط الحجر عليه ساعة فساعة.
وقيل: أي تلك القرى ليست ببعيدة من ظالمي أهل مكة يمرون بها في مسايرهم إلى الشام. وقيل: المراد أنها وإن كانت في السماء إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بالمرمى فكانت كأنها بمكان قريب والله تعالى أعلم بمراده.
[سورة هود (١١) : الآيات ٨٤ الى ١٠٢]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)
42
القراآت:
إني بالفتح أريكم بالإمالة: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو والبزي، وكذلك روى عن أهل مكة. إِنِّي أَخافُ شِقاقِي أَنْ بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وصلواتك كما مر في سورة التوبة في قوله: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ [التوبة: ١٠٣] تَوْفِيقِي بالفتح: أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ونافع أرهطي بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بَعِدَتْ ثَمُودُ بالإظهار: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى.
الوقوف:
شُعَيْباً ط غَيْرُهُ ط مُحِيطٍ هـ مُفْسِدِينَ هـ مُؤْمِنِينَ ج للابتداء بالنفي مع الواو بِحَفِيظٍ هـ ما نَشؤُا ط الرَّشِيدُ هـ حَسَناً ط عَنْهُ ط مَا اسْتَطَعْتُ ط إِلَّا بِاللَّهِ ط أُنِيبُ هـ صالِحٍ ط بِبَعِيدٍ هـ إِلَيْهِ ط وَدُودٌ هـ ضَعِيفاً ج لأن «لولا» للابتداء مع الواو لَرَجَمْناكَ ز لحق النفي وكون الواو للحال أوجه بِعَزِيزٍ هـ مِنَ اللَّهِ ط للفصل بين الاستخبار والاخبار واتحاد المقصود وجه للوصل ظِهْرِيًّا ط مُحِيطٌ هـ عامِلٌ ط تَعْلَمُونَ هـ لا كاذِبٌ ط للفصل بين
43
الخير والطلب رَقِيبٌ هـ جاثِمِينَ هـ لا فِيها ط ثَمُودُ هـ مُبِينٍ هـ لا لتعلق الجار فِرْعَوْنَ ج للنفي مع الواو للعطف أو للحال بِرَشِيدٍ هـ النَّارَ ط الْمَوْرُودُ ٥ الْقِيامَةِ ط الْمَرْفُودُ هـ وَحَصِيدٌ هـ أَمْرُ رَبِّكَ ج تَتْبِيبٍ هـ ظالِمَةٌ ط شَدِيدٌ هـ.
التفسير:
نقص المكيال يشمل معنيين: بأن ينقص في الإيفاء من القدر الواجب، ويزيد في الاستيفاء على القدر الواجب فيلزم في كلا الحالين نقصان حق الغير. ثم علل النهي بقوله: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف، أو بنعمة من الله حقها أن تشكر لتزداد لا أن تكفر فتزال. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عن ابن عباس أنه فسر الخوف بالعلم. وقال آخرون: إنه الظن الغالب لأنه كان يجوز ازدجارهم وانتهاءهم.
والعذاب المحيط المهلك المستأصل كأنه أحاط بهم بحيث لا ينفلت منهم أحد. وزيادة اليوم لأجل المبالغة والإسناد المجازي باعتبار ما هو واقع فيه واشتمل عليه ذلك اليوم.
قيل: هو عذاب الاستئصال في الدنيا. وقيل: عذاب الآخرة والأظهر العموم. قوله:
أَوْفُوا الْمِكْيالَ إلى قوله أَشْياءَهُمْ قد مر تفسير مثله في الأعراف. وقوله: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ مضى تفسيره في أوائل البقرة، بقي في الآية سؤال وهو أنه سبحانه نهى أوّلا عن النقص ثم أمر بالإيفاء فهل فيه فائدة سوى التأكيد والتقرير؟ والجواب بعد تسليم أن النهي عن الشيء أمر بضده، هو أن النهي عن النقص في المبايعة وإن كان يفيد تصريحه تعييرا وتوبيخا لكنه يوهم النهي عن أصل المبايعة، فلدفع هذا الخيال أمر بإيفاء الكيل، ففيه إباحة أصل المبايعة، مع التصريح بالنعت المستحسن في العقول لزيادة الترغيب. وفيه أيضا فائدة أخرى من قبل تقييد الإيفاء بالقسط ليعلم أن ما جاوز العدل ليس بواجب بل هو فضل ومروءة لا تقف عند حد، وإنما الواجب شيء من الإيفاء بقدر ما يخرج عن العهدة بيقين كما أن غسل الوجه لا يحصل باليقين إلا عند غسل شيء من الرأس بَقِيَّتُ اللَّهِ قيل: ثواب الله. وقيل: طاعته ورضاه كقوله: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ [الكهف: ٤٦] وقيل: أي ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم خَيْرٌ لَكُمْ بشرط أن تؤمنوا لأن شيئا من الأعمال لا ينفع مع الكفر إن كنتم مصدقين لي فيما أنصح لكم. ولا ريب أن الأمانة تجر الرزق لاعتماد الناس وإقبالهم عليه فينفتح له أبواب المكاسب، والخيانة تجر الفقر لتنفر الناس عنه وعن معاملته وصحبته. قالت المعتزلة: في إضافة البقية إلى الله دليل على أن الحرام لا يسمى رزق الله. وقرىء تقاة الله بالتاء الفوقانية أي اتقاؤه الصارف عن المعاصي والقبائح وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ
44
أعمالكم لأجازيكم إنما أنا مبلغ ناصح وقد أعذر من أنذر. قوله: أَصَلاتُكَ قيل: أي دينك وإيمانك لأن الصلاة عماد الدين فعبر عن الشيء باسم معظم أركانه. وقيل: المراد الأتباع لأن أصل الصلاة ومنه المصلي للذي يتلو السابق والمعنى دينك أي أتباعه يأمرك بذلك. والأظهر أن المراد به الأعمال المخصوصة
يروى أن شعيبا عليه السلام كان كثير الصلاة فكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا
فقصدوا بقولهم: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ السخرية والهزء فكأن الصلاة التي يداوم عليها ليلا ونهارا هي من باب الجنون والوساوس. ومعنى تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ تأمرك بتكليف أن نترك على حذف المضاف لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. وقوله أَوْ أَنْ نَفْعَلَ معطوف على ما في ما يعبد أي تأمرك صلاتك بترك ما عبد آباؤنا وبترك أن نفعل فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا روي أنه كان ينهاهم عن قطع أطراف الدراهم كما كان يأمرهم بترك التطفيف والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير. إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قيل: إنه مجاز والمراد نسبته إلى غاية السفاهة والغواية فعكسوا تهكما به. وقيل: حقيقة وإنه كان معروفا فيما بينهم بالحلم والرشد فكأنهم قالوا له: إنك المعروف بهذه السيرة فكيف تنهانا عن دين ألفناه وسيرة تعودناها.
ثم أشار عليه السلام إلى ما آتاه الله من العلم والهداية والنبوة والكرامة والرزق الحلال الحاصل من غير بخس ولا تطفيف، وجواب الشرط محذوف اكتفي عنه بما ذكر في قصتي نوح وصالح، والمعنى أرأيتم إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وقد آتاني بعد هذه السعادات الروحانية السعادات الدنيوية من الخيرات والمنافع الجليلة هل يسعني مع هذه الإكرامات أن أخون في وحيه ولا آمركم بترك الشرك وبفعل الطاعة والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ يقال: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه. فالمعنى لا أجعل فعلي مخالفا لقولي فلا أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ إلا أن أصلحكم بالموعظة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. مَا اسْتَطَعْتُ ما للمدة ظرفا للإصلاح أي مدة استطاعتي لإصلاحكم، أو بدل من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته منه، أو المضاف محذوف أي إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت، أو مفعولا للإصلاح فقد يعمل المصدر المعرف كقوله:
ضعيف النكاية أعداءه. أي إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم. ثم بين أن كل ما يأتي ويذر فوقوعه بتسهيل الله وتأييده فقال: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ والتوفيق أن توافق إرادة العبد إرادة الله تعالى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أخصه بتفويض الأمور إليه لأنه مبدأ المبادئ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ لأنه المعاد الحقيقي وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم منه. ثم
45
أوعدهم بقوله لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي لا يكسبنكم خلافي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح العقيم أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الصيحة وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ لم يقل «ببعيدة» حملا على لفظ القوم لأنه مؤنث، ولا «ببعيدين» حملا على معناه ولكنه على تقدير مضاف أي وما إهلاكهم ببعيد لأنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدهم. أو المراد وما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد. وجوزوا أن بسوّى في بعيد وقريب وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما. إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ يجوز أن يكون بمعنى «فاعل» أو «مفعول» كقوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: ٥٤] وهذا حث لهم على الاستغفار والتوبة، وتنبيه على أن سبق الكفر والمعصية لا ينبغي أن يمنعهم عن الإيمان والطاعة. ولما بالغ خطيب الأنبياء في التقرير والبيان قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ إما لقلة الرغبة أو قالوا تهكما واستهانة كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبا بحديثه: ما أدري ما تقول.
كأنهم جعلوا كلامه تخليطا وهذيانا لا ينفعهم كثير منه. وقيل: لأنه كان ألثغ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً عن الحسن: مهينا أي لا عزة لك فيما بيننا ولا قوة فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروها. وفسر بعضهم الضعيف بالأعمى لأن العمى سبب الضعف، أو لأنه لغة حمير. وزيف هذا القول أما عند من جوز العمى على الأنبياء فلأن لفظة فِينا يأباه لأن الأعمى فيهم وفي غيرهم، وأما عند من لا يجوزه- كبعض المعتزلة- فلأن الأعمى لا يمكنه الاحتراز من النجاسات وأنه يخل بجواز كونه حاكما وشاهدا، فلأن يمنع من النبوة كان أولى. ثم ذكروا أنهم إنما لم يريدوا به المكروه ولم يوقعوا به الشر لأجل رهطه- والرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى السبعة- والرجم شر القتل وهو الرمي بالحجارة، أو المراد الطرد والإبعاد ومنه الشيطان الرجيم. ثم أكدوا المذكور بقولهم وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ وإنما العزيز علينا رهطك لا خوفا من شوكتهم ولكن لأنهم من أهل ديننا، فالكلام واقع في فاعل العز لا في الفعل وهو العز ولذلك قال في جوابهم أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ولو قيل وما عززت علينا لم يصح هذا الجواب، وإنما لم يقل أعز عليكم مني إيذانا بأن التهاون بنبي الله كالتهاون بالله كقوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: ٨٠] وَاتَّخَذْتُمُوهُ أي أمر الله أو ما جئت به وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب أي جعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر غير ملتفت إليه. ثم وصف الله تعالى بما يتضمن الوعيد في حقهم قال: إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. ثم زاد في الوعيد والتهديد بقوله: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ وقد مر تفسير مثله في «الأنعام». قال في
46
الكشاف: الاستئناف يعني في سَوْفَ تَعْلَمُونَ وصل خفي تقديري وإنه أقوى من الوصل بالفاء وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه. ثم بالغ في التهديد بقوله:
وَارْتَقِبُوا انتظروا عاقبة الشقاق إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ راقب كالضريب بمعنى الضارب، أو مراقب كالعشير والنديم، أو مرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. وباقي القصة على قياس قصة صالح وأخذ الصيحة وأخذت الصيحة كلتا العبارتين فصيحة لمكان الفاصل إلا أنه لما جاء في قصة شعيب مرة الرجفة ومرة الظلة ومرة الصيحة ازداد التأنيث حسنا بخلاف قصة صالح. وإنما دعا عليهم بقوله: كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ لما روى الكلبي عن ابن عباس قال: لم يعذب الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح. فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأما قوم شعيب فأخذتهم من فوقهم. قوله سبحانه بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ قال في التفسير الكبير: الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات المفيدة للظن وبين الدلائل التي تفيد اليقين. والسلطان اسم لما يفيد القطع وإن لم يتأكد بالحس، والسلطان المبين مخصوص بالدليل القاطع الذي يعضده الحس. وقال في الكشاف: يجوز أن يراد أن الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته، وأن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها أبهرها وقوله: إِلى فِرْعَوْنَ متعلق ب أَرْسَلْنا فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي شأنه وطريقه أو أمره إياهم بالكفر والجحود وتكذيب موسى وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي ليس في أمره رشد إنما فيه غي وضلال، وفيه تعريض بأن الرشد والحق في أمر موسى. ثم إن قومه عدلوا عن اتباعه الى اتباع من ليس في أمره رشد قط، فلا جرم كما كان فرعون قدوة لهم في الضلال فكذلك يقدمهم أي يتقدمهم يوم القيامة إلى النار وهم على أثره، ويجوز أن يراد بالرشد الإحماد وحسن العاقبة فيكون المعنى وما أمر فرعون بحميد العاقبة. ثم فسره بأنه يَقْدُمُ قَوْمَهُ أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته. ويقال: قدمه وقدمه بالتخفيف والتشديد بمعنى تقدمه ومنه مقدمة الجيش ومثله أقدم ومنه مقدم العين. وإنما قال فَأَوْرَدَهُمُ بلفظ الماضي تحقيقا للوقوع. والورد المورود الذي وردوه، شبّه فرعون بمن يتقدم الواردة إلى الماء، وشبه أتباعه بالواردة. ثم نعى عليهم بقوله: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الذي يردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضده. وتذكير بِئْسَ لتذكير الورد وإن كان هو عبارة عن النار كقولك: نعم المنزل دارك ولو قلت: نعمت جاز نظرا إلى الدار. وفي تشبيه النار بالماء نوع تهكم بهم وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ حذف صفته في هذه الآية اكتفاء بما مر في قصة عاد.
وبِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس العطاء المعطى ذلك. وقيل: الرفد العون والمرفود المعان
47
وذلك أن اللعنة في الدنيا رفدت أي أعينت وأمدت باللعنة في الآخرة، قال قتادة: ترادفت عليهم لعنتان لعنة من الله والملائكة واللاعنين في الدنيا ولعنة في الآخرة. ذلِكَ الذي ذكرنا أو ذلك النبأ بعض أَنْباءِ الْقُرى المهلكة نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر. ثم استأنف فقال: مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ أي ومنها حصيد والمراد بعضها باق كالزرع القائم على ساقه وبعضها عافي الأثر كالزرع المحصود وَما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكنا إياهم وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بارتكاب ما به أهلكوا. عن ابن عباس: وما نقصناهم في الدنيا من النعيم والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله فَما أَغْنَتْ فما قدرت أن ترد عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ يعبدون وهي حكاية حال ماضية بأس الله حين جاء وَما زادُوهُمْ يعني آلهتهم غَيْرَ تَتْبِيبٍ تخسير. تب خسر وتببه غيره أوقعه في الخسران.
كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين في الدنيا على تحصيل المنافع ودفع المضار وستنفعهم عند الله في الآخرة فلم تنفعهم في الدنيا حين جاءهم عذاب الله وسيورثهم ذلك الاعتقاد عذاب النار في الآخرة فهم في خسران الدارين. ثم بيّن أن عذابه غير مقصور على أولئك الأقوام ولكنه يعم كل ظالم سيوجد فقال: وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الأخذ أَخْذُ رَبِّكَ فالأخذ مبتدأ وكذلك خبره وقوله وَهِيَ ظالِمَةٌ حال من القرى باعتبار أهلها إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وجيع صعب على المأخوذ وهو تحذير من وخامة عاقبة كل ظلم على الغير أو على النفس فعلى العاقل أن يبادر إلى التوبة ولا يغتر بالإمهال.
التأويل:
وَلا تَنْقُصُوا مكيال المحبة وميزان الطلب، فمكيال المحبة عداوة ما سوى الله، وميزان الطلب السير على قدمي الشريعة والطريقة إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ هو حسن الاستعداد الفطري وإني أخاف عذاب فساد الاستعداد في طلب غير الحق بِالْقِسْطِ في تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ حقوق النصيحة وحسن العشرة في الله ولله وَلا تَعْثَوْا في أرض وجودكم مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ بقاؤكم ببقائه خَيْرٌ لَكُمْ مما فاتكم بإيفاء المكيال والميزان. رِزْقاً حَسَناً نورا تاما أراني به إصلاح الأمور والاستعدادات إن ساعدني التوفيق وَما معاملة قَوْمُ لُوطٍ من معاملتكم بِبَعِيدٍ لأن الكفر كله ملة واحدة. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ لأن فرعون النفس أمارة بالسوء. إِذا أَخَذَ الْقُرى قرى الأجساد مِنْها قائِمٌ قابل لتدارك ما فات، ومنها ما هو محصود بفوات الاستعداد والله تعالى أعلم بالصواب.
[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٣ الى ١٢٣]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
48
القراآت:
وما يؤخره بالياء: يعقوب والمفضل. الباقون بالنون يَوْمَ يَأْتِي بإثبات الياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وعلي في الوصل. الآخرون بحذف الياء لا تَكَلَّمُ بتشديد التاء: البزي وابن فليح سُعِدُوا بضم السين: حمزة وعلي وخلف وحفص. قيل إنه على حذف الهمزة من «أسعدوا» لأن سُعِدُوا لازم ولكنه قد جاء المسعود، الآخرون بفتحها وَإِنَّ كُلًّا بالتخفيف: ابن كثير ونافع وأبو بكر وحماد. الباقون بالتشديد. لَمَّا مشددا: ابن عامر وعاصم ويزيد وحمزة وكذلك في «الطارق». الباقون بالتخفيف وَزُلَفاً بضمتين: يزيد. الآخرون بفتح اللام فُؤادَكَ وبابه بغير همز: الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف يُرْجَعُ مجهولا:
نافع وحفص والمفضل تَعْمَلُونَ خطابا وكذلك في آخر «النمل» : أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص. الباقون على الغيبة.
49
الوقوف:
الْآخِرَةِ ط مَشْهُودٌ هـ مَعْدُودٍ ط بِإِذْنِهِ ج لاختلاف الجملتين مع فاء التعقيب. وَسَعِيدٌ هـ شَهِيقٌ هـ لا لأن ما يتلوه حال والعامل فيه ما في النار من معنى الفعل شاءَ رَبُّكَ ط يُرِيدُ هـ شاءَ رَبُّكَ ط لأن التقدير يعطون عطاء مَجْذُوذٍ هـ هؤُلاءِ ط مِنْ قَبْلُ ط مَنْقُوصٍ هـ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ط بَيْنَهُمْ ط مُرِيبٍ هـ أَعْمالَهُمْ ط خَبِيرٌ هـ وَلا تَطْغَوْا ط بَصِيرٌ هـ النَّارُ لا لأن ما بعده من تمام جزاء ولا تركنوا تُنْصَرُونَ هـ مِنَ اللَّيْلِ ط السَّيِّئاتِ ط لِلذَّاكِرِينَ ٥ الْمُحْسِنِينَ هـ مِنْهُمْ ج لأن التقدير وقد اتبع مُجْرِمِينَ هـ مُصْلِحُونَ هـ مُخْتَلِفِينَ هـ لا رَحِمَ رَبُّكَ ط خَلَقَهُمْ ط أَجْمَعِينَ هـ فُؤادَكَ ج إذ التقدير وقد جاءك لِلْمُؤْمِنِينَ هـ مَكانَتِكُمْ ط عامِلُونَ هـ لا للعطف وَانْتَظِرُوا ج أي فإنا مُنْتَظِرُونَ ط وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ط تَعْمَلُونَ هـ.
التفسير:
إِنَّ فِي ذلِكَ الذي قصصنا عليك من أحوال الأمم لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خافَ أي لمن هو أهل لأن يخاف عَذابَ الْآخِرَةِ كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:
٢] لأن انتفاعه يعود إليهم. قال القفال- في تقرير هذا الاعتبار: إنه إذا علم أن هؤلاء عذبوا على ذنوبهم في الدنيا وهي دار العمل فلأن يعذبوا عليها في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى. واعترض عليه في التفسير الكبير بأن ظاهر الآية يقتضي أن العلم بأن القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بظهور عذاب الاستئصال في الدنيا. والقفال جعل الأمر على العكس قال: والأصوب عندي أن هذا تعريض لمن زعم أن إله العالم موجب بالذات لا فاعل مختار، وأن هذه الأحوال التي ظهرت في أيام الأنبياء عليهم السلام مثل الغرق والخسف والصيحة إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب، وإذا كان كذلك فلا يكون حصولها دليلا على صدق الأنبياء عليهم السلام. أما الذي يؤمن بالقيامة ويخاف عذابها فيقطع بأن هذه الوقائع ليست بسبب الكواكب واتصالاتها فيستفيد مزيد الخشية والاعتبار.
أقول: وهذا نظر عميق والأظهر ما ذكرت أوّلا ومثله في القرآن كثير. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات: ٢٦] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [النحل: ١٣] ثم لما كان لعذاب الآخرة دلالة على يوم القيامة أشار إليه بقوله: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ أي يجمع لما فيه من الحساب والثواب والعقاب. النَّاسُ وأوثر اسم المفعول على فعله لأجل إفادة الثبات وأن حشر الأولين والآخرين فيه صفة له لازمة نظيره قول المتهدد: إنك لمنهوب مالك محروب قومك. فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي مشهود فيه الخلائق فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به. والفرق
50
بين هذا الوصف والوصف الأول أن هذا يدل على حضور الناس فيه مع اطلاع البعض منهم على أحوال الباقين من المحاسبة والمساءلة ليس بحيث لا يعرف كل واحد إلا واقعة نفسه. والجمع المطلق لا يفيد هذا المعنى وإنما فسرنا اليوم بأنه مشهود فيه لا أنه مشهود في نفسه لأن سائر الأيام تشركه في كونها مشهودات، وإنما يحصل التمييز بأنه مشهود فيه دون غيره كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهودا فيه دونها وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لانتهاء لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي انقضاء مدة معلومة عيّن الله وقوع الجزاء بعدها وفيه فائدتان: إحداهما أن وقت القيامة متعين لا يتقدم ولا يتأخر، والثانية أن ذلك الأجل متناه وكل منتاه فإنه يفنى لا محالة وكل آت قريب. ثم ذكر بعض أهوال ذلك اليوم فقال: يَوْمَ يَأْتِ حذف الياء والاكتفاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل، وفاعل يأتي قيل: الله كقوله: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام: ١٥٨] أي أمره أو حكمه دليله قراءة من قرأ وما يؤخره بالياء وقوله: بِإِذْنِهِ. وقيل: المراد الشيء المهيب الهائل المستعظم فحذف ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف. وقيل: فاعله ضمير اليوم والمراد إتيان هو له وشدائده كيلا يصير اليوم ظرفا لإتيان اليوم. وانتصاب يَوْمَ ب لا تَكَلَّمُ أو باذكر مضمرا أو بالانتهاء المقدر أي ينتهي الأجل يوم يأتي وتاء التأنيث محذوفة من لا تكلم، والآيات الدالة على التكلم في ذلك اليوم مع الآيات الدالة على نفي التكلم كقوله تعالى:
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النحل: ١١١] وكقوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ [المرسلات: ٣٥] محمولة على اختلاف المواطن والأزمنة، أو نفى العذر الصحيح المقبول وأثبت العذر الباطل الكاذب. ثم قسم أهل الموقف المجموعين للحساب أو الأفراد العامة التي دلت عليها نفس فقال: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ أي ومنهم سعيد. ولا خلاف في أن الشقاء والسعادة مقترنان بالعمل الفاسد والعمل الصالح ويترتب عليهما الجنة والنار في الآخرة، وإنما النزاع في أن العمل سبب للشقاء مثلا كما هو مذهب المعتزلة، أو الشقاء سبب العمل كما هو مذهب أهل السنة، فيختلف تفسير الشقاء بحسب المذهبين فهو عند المعتزلة الحكم بوجوب النار له لإساءته، وعند السني جريان القلم عليه في الأزل بأنه من أهل النار وأنه يعمل عمل أهل النار والتحقيق في المسألة قد مر مرارا. قيل: قد بقي هاهنا قسم آخر ليسوا من أهل النار ولا من أهل الجنة كالمجانين والأطفال فهم أصحاب الأعراف، وتخصيص القسمين بالذكر لا يدل على نفي الثالث. أما قوله في صفة أهل النار لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ففيه وجوه قال الليث وكثير من الأدباء: الزفير استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه
51
وحينئذ يرتفع صدره وينتفخ جنباه، والشهيق إخراج ذلك الهواء بجهد شديد من الطبيعة، وكلتا الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم. والحاصل أنهم جعلوا الزفير بمنزلة ابتداء نهيق الحمار، والشهيق بمنزلة آخره. وقال الحسن: إن لهب جهنم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلوا إلى أعلى دركات جهنم وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهم الملائكة بمقامع من حديد ويردونهم إلى الدرك الأسفل من النار، فارتفاعهم في النار هو الزفير، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق. وقال أبو مسلم: الزفير ما يجتمع في الصدر من النفس عند البكاء الشديد فينقطع النفس، والشهيق هو الصوت الذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن، وربما يتبعها الغشية، وربما يحصل عقيبه الموت. وقال أبو العالية: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر. وقيل: الزفير الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف. وعن ابن عباس:
لهم فيها بكاء لا ينقطع وحزن لا يندفع. وقال أهل التحقيق: قوة ميلهم إلى الدنيا ولذاتها زفير، وضعفهم عن الاستسعاد بكمالات الروحانيات شهيق. ثم إن قوما ذهبوا إلى أن عذاب الكفار منقطع وله نهاية واستدلوا على ذلك بالقرآن والحديث والمعقول. أما القرآن فقوله سبحانه: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي مدة بقائهما إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وفيه استدلالان: الأول أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض المتناهية بالاتفاق. الثاني استثناء المشيئة ويؤكد هذا النص قوله: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النبأ: ٢٣] وأما
الحديث فما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص «ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد»
وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا. وأما المعقول فهو أن العقاب ضرر خال عن النفع لا في حق الله تعالى ولا في حق المكلف فيكون قبيحا.
وأيضا الكفر جرم متناه ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم. والجمهور من الأمة على أن عذاب الكافر دائم، وأجابوا عن الآية بأن المراد سموات الآخرة وأرضها المشار إليهما بقوله: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [ابراهيم: ٤٨] ولا بد لأهل الآخرة مما يظلهم ويقلهم فهما السماء والأرض، وإذا علق حصول العذاب للكافر بوجودهما لزم الدوام. وأيضا القرآن قد ورد على استعمالات العرب، وإنهم يعبرون عن الدوام والتأبيد بقولهم «ما دامت السموات والأرض» ونظيره قولهم: «ما اختلف الليل والنهار» و «ما أقام ثبير وما لاح كوكب». ويمكن أيضا أن يقال: حاصل الآية يرجع إلى شرطية هي قولنا: إن دامت السموات والأرض دام عقابهم فإذا قلنا لكن السموات والأرض دائمة لزم دوام عقابهم وهو المطلوب، وإن قلنا لكنهما لم تدوما فإنه لا ينتج مطلوب الخصم لأن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئا. وبعبارة أخرى دلت الآية على أنه
52
كلما وجدت السموات والأرض وجد عقابهم. فلو قلنا لكنهما لم يوجدا لم يلزم منه أن لا يوجد عقابهم، أو يوجد فالآية لا تدل إلا على حصول العقاب لهم دهرا طويلا ومدة مديدة. وأما إنه هل يكون له آخر أم لا فذلك إنما يستفاد من دليل آخر كقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨] وأما الاستدلال بالاستثناء فقد ذكر ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء أن هذا الاستثناء لا ينافي عدم المشيئة كقولك و «الله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك» وقد يكون عزمك على ضربه البتة وتعلم أنك لا ترى غير ذلك. وردّ بالفرق، فإن معنى الآية الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء الله، فالمشيئة قد حصلت جزما. ولقائل أن يقول: الماضي هاهنا في معنى الاستقبال مثل وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [النساء: ٤٨] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الزمر: ٧٣] فلم يبق فرق. وقيل: «إلا» بمعنى «سوى» أي سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له. وقال الأصم وغيره: المراد زمان مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو في الموقف. وقيل: الاستثناء يرجع إلى قوله:
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ كأنهم يصيرون آخر الأمر إلى الهمود والخمود. وقيل: فائدة الاستثناء أن يعلم إخراج أهل التوحيد من النار والمراد إلا من شاء ربك، وهذا التأويل إنما يليق بقاعدة الأشاعرة وأكدوه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فكأنه تعالى يقول:
أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد، وليس لأحد عليّ حكم البتة. وأما المعتزلة فكأنهم لا يرضون بهذا ويقولون: إن الاستثناء الثاني لا يساعده لحصول الإجماع على أن أحدا من أهل الجنة لا يدخل النار. فالصواب أن يقال: إنه استثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة، فإن أهل النار ينقلون إلى الزمهرير وإلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، وأهل الجنة ينقلون إلى العرش أو إلى ما هو أعلى حالا من الجنة كقوله: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: ٧٢] ثم قالوا: إنه ختم آية الوعيد بقوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وآية الوعد بقوله: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ رعاية للمطابقة كأنه قال: إنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له والجذ القطع. وأما الجواب عن الحديث فقد قال في الكشاف: إن صح فمعناه أنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها.
وأقول: يحتمل أن يكون الألف سبب عدم الإحساس بالعذاب بل يكون سبب الالتذاذ بالمألوف فيكون خلوّ جهنم إشارة إلى هذا المعنى. وأما الجواب عن المعقول فهو أن السير في الله ومبدأه من عالم التكاليف لما كان غير متناه فعذاب البعد عنه أيضا يجب أن
53
يكون غير متناه. أو نقول: لا نهاية لنوره فلا غاية لظلمة الغافل عنه والمنكر له. أو نقول:
أوضح الأشياء الوجود الواجب فإذا كان الشخص ذاهلا عنه كان مسلوب الاستعداد بالكلية فلا يكون إنسانا في الحقيقة، فلا يتصور له عروج من عالم الطبيعة، والعبارات في هذا المقام كثيرة والمعنى واحد يدركه من وفق له وخلق لأجله. ولما فرغ من أقاصيص عبدة الأصنام وبيان أحوال الأشقياء والسعداء سلّى رسول الله ﷺ بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن نهي له عن الامتراء في سوء مغبتهم قائلا فَلا تَكُ حذف النون لكثرة الاستعمال فِي مِرْيَةٍ في شك مِمَّا يَعْبُدُ «ما» مصدرية أو موصولة أي من عبادة هؤُلاءِ أو من الذي يعبده هؤلاء المشركون والمراد النهي عن الشك في سوء عاقبة عبادتهم. ثم علل النهي مستأنفا فقال: ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ كالذي يعبده آباؤُهُمْ أو كعبادة آبائهم. والحاصل أنهم شبهوا بآبائهم في لزوم الجهل والتقليد. وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ من الرزق والخيرات الدنيوية أو من إزالة العذر وإزاحة العلة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب، أو نصيبهم من العذاب كما وفينا آباؤهم أنصباءهم. وفي الكشاف أن غَيْرَ مَنْقُوصٍ حال من النصيب ليعلم أنه تام كامل إذ يجوز أن يوفي بعض الشيء كقولك وفيته شطر حقه. قلت: هي مغالطة لأن قول القائل: «وفيته شطر حقه» التوفية تعود إلى الشطر. فلو قيل: غير منقوص كان كالمكرر. وعاد السؤال. فالصواب أن يقال:
إنه حال مؤكدة أو صفة تقوم مقام المصدر أي توفية نحو وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: ٦٠] أي إفسادا. ثم أورد نظيرا لإنكارهم نبوّة محمد ﷺ فقال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ آمن به قوم وكفر به قوم آخرون كما اختلف في القرآن، والغرض أن إنكار الحق عادة قديمة للخلق وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ هي أن رحمتي سبقت غضبي أو هي أن دار الجزاء الآخرة لا الدنيا أو هي أن هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الاستئصال.
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين قوم موسى أو بين قومك بتمييز المحق من المبطل بسبب الإنجاء والإهلاك وهذه من جملة التسلية أيضا وَإِنَّهُمْ يعني قوم موسى أو قومك لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من كتابه أو من كتابك أو من أمر المعاد أو القضاء أو الجزاء. ثم جمع الأولين والآخرين في حكم توفية الجزاء ثوابا أو عقابا فقال: وَإِنَّ كُلًّا التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي وإن كلهم يعني أن جميع المختلفين فيه. ومن قرأ بالتخفيف فعلى إعمال المخففة إذ لا يلزم من التخفيف إبطال العمل كما في «لم يكن» «ولم يك». ومن قرأ «لما» مخففا فاللام هي الداخلة في خبر «إن» و «ما» مزيدة للفصل بين لام «إن» وبين لام جواب القسم المقدر كما فصلوا بالألف بين النونات في قولهم «اضربنان». ويمكن أن يكون «ما»
54
نكرة أي لخلق أو جمع. والله ليوفينهم ربك أعمالهم من حسن وقبيح وإيمان وجحود.
ومن قرأ «لما» مشددا فأصله «لمن ما» قلبت النون ميما فاجتمع ثلاث ميمات، فحذفت الأولى تخفيفا، وجاز حذف الأولى وإبقاء الساكنة لاتصال اللام بها. ويجوز أن يكون أصله «لما» بالتنوين- كما في قراءتي الزهري وسليمن بن أرقم- فحذف فبقى «لما» ممدودا ومعناه ملمومين أي مجموعين. وقرأ أبيّ وإن كل لما ليوفينهم على أن «إن» نافية و «لما» بمعنى «إلا» كما في الطارق. ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات توفية الجزاء وأن شيئا من الحقوق لا يضيع عنده. منها لفظة «إن»، ومنها لام خبر «إن»، ومنها «كل»، ومنها «ما» المزيدة، ومنها القسم، ومنها لام القسم، ومنها نون التأكيد، ومنها لفظ التوفية، ومنها ربك فإن من يربيك يقدر على توفية حقك، ومنها الجمع المضاف، ومنها ختم الآية بقوله: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فإنه إذا كان عالما بكل المعلومات قادرا على كل المقدورات كان عالما بعمل كل أحد وبمقدار جزاء عمله، وقادرا على إيصال ذلك إليه، ثم إن كلامه حق وصدق وقد أخبر عن التوفية مع المؤكدات المذكورة فيقع وعده ووعيده لا محالة. ثم أمر نبيه لتقتدي به أمته بكلمة جامعة للعقائد والأعمال قائلا فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ عن جعفر الصادق رضي الله عنه: معناه افتقر إلى الله بصحة العزم يعني الوثوق به والتوكل عليه وَمَنْ تابَ مَعَكَ عطف على الضمير في فَاسْتَقِمْ وصح للفصل أو هو ابتداء أي ومن تاب معك فليستقم أو مفعول معه. ثم كما أمر بالاستقامة على جادّة الحق نهى عن الانحراف عنها فقال وَلا تَطْغَوْا والطغيان مجاوزة الحد. وقال ابن عباس: يريد تواضعوا للحق ولا تتكبروا على الخلق. وخصص بعضهم الطغيان بالتجاوز عن حدود القرآن بتحليل حرامه وتحريم حلاله. وهذه الآية أصل عظيم في الشريعة فيكون الترتيب في الوضوء واجبا كما ورد في القرآن، وكذلك القول في الحدود والكفارات ونصاب الزكاة وأعداد الركعات وغيرها من جميع المأمورات والمنهيات.
ويجب الاحتياط في المسائل الاجتهادية وفي القياسات، وكذا في الأخلاق والملكات وفي كل ما له طرفا إفراط وتفريط فهما مذمومان. والمحمود هو الوسط وهو الصراط المستقيم المأمور بالاستقامة والثبات عليه. ولا ريب أن معرفته صعبة وبتقدير معرفته فالعمل به والبقاء عليه أصعب ولهذا
قال ابن عباس: ما نزلت على رسول الله ﷺ آية في القرآن أشد ولا أشق من هذه حتى إن أصحابه قالوا له: لقد أسرع فيك الشيب فقال صلى الله عليه وسلم: شيبتني هود
أعني هذه الآية منها. ثم لما كان لقرين السوء مدخل عظيم في تغيير العقائد وتبديل الأخلاق نهى عن مخالطة من يضع الشيء في غير موضعه فقال: وَلا تَرْكَنُوا أي لا
55
تميلوا بالمحبة والهوى إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فقال المحققون: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم وتحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب، فأما مداخلتهم لدفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة فغير داخلة في الركون.
أقول: هذا من طريق المعاش والرخصة، ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: ٣٦] وفي قوله: فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ إشارة إلى أن الظلمة أهل النار بل هم في النار أو كالنار أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:
١٧٤] ومصاحبة النار توجب لا محالة مس النار. وقوله: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ من تتمة الجزاء. وقال في الكشاف: الواو للحال مِنْ أَوْلِياءَ من أنصار أي لا يقدر على منعكم من عذاب الله إلا هو. ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ثم لا ينصركم هو أيضا. وفيه إقناط كلي. وفائدة «ثم» تبعيد النصرة من الظلم. قال أهل التحقيق: الركون الميل اليسير وقوله: إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي الذين حدث منهم الظلم. فلم يقل «ولا تميلوا إلى الظالمين» ليدل على أن قليلا من الميل إلى من حدث منه شيء من الظلم يوجب هذا العقاب، وإذا كان هذا حال من ركن إلى من ظلم فكيف يكون حال الظالم في نفسه؟
عن رسول الله ﷺ «من دعا الظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه»
وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. وعن محمد بن مسلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء. ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا. فقيل له: يموت. فقال: دعه يموت. ثم خص من أنواع الاستقامة إقامة الصلاة تنبيها على شرفها فقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ قيل: تمسك بعض الخوارج بهذه الآية على أن الواجب من الصلاة ليس إلا الفجر والعشاء لأنهما طرفا النهار وهما الموصوفان بكونهما زلفا من الليل، فإن ما لا يكون نهارا يكون ليلا. غاية ما في الباب أن هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف وهو كثير في كلامهم، ولئن سلم وجوب صلاة أخرى إلا أن قوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يشعر بأن إقامة الصلاة طرفي النهار كفارة لترك سائر الصلوات. وجمهور الأمة على بطلان هذا القول واستدلوا بالآية على وجوب الصلوات الخمس لأن طرفي النهار منصوب على الظرف لإضافتهما إلى الوقت فيكتسب المضاف حكم المضاف إليه كقولك «أتيته نصف النهار» والطرفان هما الغدوة وهي الفجر والعشية وفيها الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشيّ وَزُلَفاً جمع زلفة كظلم وظلمة أي ساعات مِنَ اللَّيْلِ قريبة من آخر النهار من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه. وقرىء زُلَفاً بسكون اللام نحو «بسرة» و «بسر». والزلف فيمن قرأ بضمتين نحو «بسر» و «بسر».
56
وقيل: زُلَفاً أي قربا فيكون معطوفا على الصلاة أي أقم الصلاة وأقم زلفا أي صلوات يتقرب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل. وبالجملة فصلاة الزلف والمغرب والعشاء.
وقيل: إن طرفي النهار لا يشمل إلا الفجر والعصر وبه استدل على مذهب أبي حنيفة أن التنوير بالفجر أفضل وتأخير العصر أفضل، لأن الأمة أجمعت على أن نفس الطرفين- وهما وقت الطلوع والغروب- لا يصلح لإقامة الصلاة، فكل وقت كان أقرب إلى الطرفين كان أولى بإقامة الصلاة فيه حملا للمجاز على ما هو أقرب إلى الحقيقة ما أمكن.
هذا ما ذكره فخر الدين الرازي في تفسيره. ولقائل أن يقول: هذا لا يتمشى في صلاة الفجر لأن الطرف الأول للنهار في الشرع هو طلوع الصبح الصادق، والتنوير مبعد الصلاة منه لا مقرّب. ولا أدري كيف ذهب عليه هذا المعنى مع إفراط عصبيته للشافعي. واستدل أيضا لأبي حنيفة على مذهبه في وجوب الوتر أن أقل الجمع ثلاثة فتجب إقامة الصلاة على النبي ﷺ في ثلاث زلف من الليل أي ثلاث ساعات ذهب منها ساعتان للمغرب والعشاء فتعين أن تكون الساعة الثالثة للوتر، وإذا وجب عليه وجب على أمته لقوله: فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: ١٥٣] ولمانع أن يمنع أن أقل الجمع ثلاثة أشياء، ثم إن كل ساعة لأجل صلاة، ثم إن كل ما يجب على النبي ﷺ يجب على الأمة لأن الاتباع هو الإتيان بمثل فعله أعم من أن يكون على تلك الجهة أم لا. إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ
قال المفسرون: نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري، كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته فقال لها: إن في البيت أجود من هذا. فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها وأصاب منها كل ما يصيب الرجل من زوجته سوى الجماع، ثم ندم فأتى رسول الله ﷺ فأخبره بما فعل فقال: أنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة العصر نزلت فقال: نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت. فقيل له: هذا له خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة.
وروي أنه ﷺ قال له: توضأ وضوءا حسنا وصل ركعتين.
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ قال ابن عباس: أي الصلوات الخمس كفارة لسائر الذنوب ما لم تكن كبيرة. وقيل: المراد إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن مجاهد: الحسنات قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وقد يحتج بالآية على أن المعصية لا تضرّ مع الإيمان الذي هو رأس الأعمال الحسنة. ذلِكَ المذكور من قوله: فَاسْتَقِمْ إلى هاهنا ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عظة للمتعظين وإرشاد للمسترشدين. ثم أمر بالصبر على التكاليف المذكورة أمرا ونهيا، ونص عن أن الإتيان بها إحسان وأن جزاءه سيحصل لا محالة فقال: وَاصْبِرْ الآية. ثم عاد إلى أحوال الأمم الخالية وبين أن السبب في حلول عذاب الاستئصال بهم أمران:
57
الأول أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد وذلك قوله: فَلَوْلا أي فهلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ ذوو خير ورشد وفضل، وذلك أن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصارت البقية مثلا في الجودة. يقال: فلان من بقية القوم أي من خيارهم.
ومن أمثالهم «في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا». وجوّز في الكشاف أن يكون من البقوى كالتقية في التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه إِلَّا قَلِيلًا استثناء متصل لأن في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرون ناس ناهون إلا ناسا قليلا. ومن في مِمَّنْ أَنْجَيْنا للبيان أي هم الذين أنجيناهم. قال في الكشاف: لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم.
ولقائل أن يقول: إذا كان النهي عن المنكر فرض كفاية لم يلزم أن تنحصر النجاة في الناهين؟ فيحتمل أن تكون من للتبعيض ويجوز- على ما في الكشاف- أن يكون الاستثناء منقطعا معناه ولكن قليلا ممن أنجيناه من القرون نهوا عن الفساد. قال: ولو جعلته متصلا على ما عليه ظاهر الكلام كان المعنى فاسدا لأنه يكون تحضيضا لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول: هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم. تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن. أقول: لم لا يجوز أن يكون المراد من استثناء الصلحاء منهم أنه لا حاجة لهم إلى التحضيض كأنك قلت:
أحضض قومك على القراءة إلا الصلحاء فإنهم لا يحتاجون إلى ذلك لأنهم مواظبون عليها، على أن في جعل الاستثناء منقطعا شبه تناقض، لأن أول الكلام يدل على أنه لم يكن فيهم ناه وآخره يدل على أن القليل منهم قد نهوا فتأمل في هذا المقام فإنه من مزلة الأقدام. السبب الثاني: في نزول العذاب قوله: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا ما غرقوا فِيهِ من التنعم والتترف من حيث الرياسة والثروة وأسباب العيش الهنيّ ورفضوا ما وراء ذلك مما يتعلق بأمر الدين، فهذه الجملة معطوفة على مدلول الجملة التحضيضية أي ما كان من القرون ناس كذا واتبع الظالمون كذا. ويجوز أن يكون في الكلام إضمار والواو للحال كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاء إترافهم. والمترف الذي أبطرته النعمة، وصبي مترف منعم البدن. وقوله: وَكانُوا مُجْرِمِينَ إما معترضة وإما معطوف على اتَّبَعَ أي وكانوا مجرمين بذلك، أو على أُتْرِفُوا أي اتبعوا الإتراف. وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر. ثم بين أنه ما ينبغي له سبحانه أن يهلك القرى بظلم. قال أهل السنة: أي بسبب مجرد الشرك والحال أنهم مصلحون في المعاملة والعشرة فيما بينهم، وذلك أن حقوق الله تعالى مبنية على
58
المساهلة بخلاف حقوق العباد، وهذا كما قيل: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم.
ويؤكد هذا التفسير أن عذاب الاستئصال إنما نزل بقوم لوط وشعيب لما حكى الله عنهم من إيذاء الناس والإفساد في الأرض. وقالت المعتزلة قوله: بِظُلْمٍ حال من الفاعل والمعنى استحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها وأهلها قوم مصلحون في العمل تنزيها لذاته عن الظلم وإيذانا بأن إهلاك المصلحين ظلم. ثم ذكر أن الكل بمشيئته وإرادته فقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً مهدية. والمعتزلة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر وقد مر مرارا. وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الأديان والأخلاق والأفعال، فمنهم من أنكر العلوم كلها حتى الحسيات والضروريات وهم السوفسطائية، ومنهم من سلم استنتاج العلوم كلها والمعارف ولم يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلا وهم الدهرية، ومنهم من أثبت له مبدأ موجبا بالذات وهم الفلاسفة على ما اشتهر منهم ولهذا المقام تحقيق ليس هاهنا موضع بيانه، ومنهم من أنكر النبوات وهم البراهمة، ومنهم من أثبتها وهم المسلمون والمجوس واليهود والنصارى. وفي كل واحدة من هذه الطوائف اختلافات لا تكاد تدخل تحت الحصر، وإنما لا يحمل الاختلاف في الآية على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمار بل حملناه على الاختلاف في الأديان وما يتعلق بها لأنه ينبو عن ذلك ما قبل الكلام وهو قوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وما بعده وهو قوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ قالت المعتزلة: إلا ناسا هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على الدين الحق. وقال أهل السنة: جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضا في حق الكافر وهذه الرحمة أمر مختص بالمؤمن مرجع لجانب الإيمان وصدوره منه فإذن الإيمان بخلق الله وتكوينه وكذا ضده. ثم قال: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ فاختلف العلماء في المشار إليه بذلك، فالمعتزلة قالوا: ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان منه الاختلاف خلقهم يثيب مختار الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره، أو ولما ذكر من الرحمة خلقهم. والأشاعرة قالوا: ولأجل ما ذكر من الاختلاف خلقهم لما صح
في الحديث أنه خلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلا.
وللدلائل الدالة على أن الكل بإيجاده وتخليقه وأن خلاف معلومه محال وإلى هذا أشار بقوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي علمه وإرادته أو قوله للملائكة لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الآية.
وفرق المعتزلة بين معلومه ومراده. ثم ذكر طرفا من فوائد القصص المذكور في السورة فقال: وَكُلًّا أي وكل نبأ نَقُصُّ عَلَيْكَ وقوله: مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ بيان لكل وما نُثَبِّتُ بدل من كُلًّا أو المراد وكل نوع من الاقتصاص على أنه مصدر أي على
59
الأساليب المختلفة نقص، وما نُثَبِّتُ مفعول. ومعنى تثبيت فؤاده زيادة اليقين والطمأنينة لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم، أو المعنى تثبيت قلبه على أداء الرسالة وتحمل الأذى من قومه أسوة بسائر الأنبياء. وَجاءَكَ فِي هذِهِ السورة أو في هذه الأنباء الْحَقُّ وهو البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والوسط والمعاد وَمَوْعِظَةٌ وهي الدلائل المقنعة الموقعة للتصديق بقدر الإمكان والأول للخواص أنفع والثاني للعوام أنجع. وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ وهي الإرشاد إلى الأعمال الصالحة النافعة في الآخرة المحصلة لما هنالك من السعادة، فإن حسن هذا الدين معلوم لمن رجع إلى نفسه وعمل بمقتضى تذكره وفكره. وأعلم أن المعارف الإلهية لا بد لها من قابل وفاعل، وقابلها القلب وإنه ما لم يكن مستعدا لم يحصل له الانتفاع بسماع الدلائل وورودها عليه فلهذا السبب قدم ذكر إصلاح القلب وعلاجه وهو تثبيت الفؤاد، ثم عقبه بذكر المؤثر الفاعل وهو مجيء هذه السورة بل آية منها وهي قوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ مشتملة على الحق والموعظة والذكرى، وهذا ترتيب في غاية الحسن. ثم أمر بالتهديد لمن لم يؤثر فيهم هذه البيانات من أهل مكة وغيرهم فقال: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا وقد مر تفسير مثله في هذه السورة وفي «الأنعام» وَانْتَظِرُوا ما يعدكم الشيطان إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما وعدنا الرحمن من الغفران والإحسان. وعن ابن عباس: انتظروا بنا الدوائر فإنا منتظرون بكم العذاب كما حل بنظرائكم. ثم ختم السورة بآية مشتملة على جميع المطالب من أمر المبدإ والوسط والمعاد وقد سبق تقريره في آخر «البقرة» في تفسير آية آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة:
٢٨٥] فلا حاجة إلى الإعادة.
التأويل:
ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي ما دامت سموات الأرواح والقلوب وأرض النفوس البشرية إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من الأشقياء، وذلك أن أهل الشقاء ضربان:
شقي وأشقى. فالشقي بالمعاصي سعيد بالتوحيد فيخلص من النار آخرا، والأشقى وهو الكافر يبقى فيها مخلدا، ومن أهل الجنة سعيد يبقى خالدا فيها، وأسعد وهم الذين يترقون إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر. وهناك مقام الوحدة الذي لا انقطاع له كما قال: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ الذي قدر لهم في الأزل من الشقاء. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ باستكمال الشقاء لقضي بينهم بالهلاك عاجلا لَفِي شَكٍّ مِنْهُ إشارة إلى الضلال. وقوله: مُرِيبٍ إشارة إلى الإضلال. وَإِنَّ كُلًّا أي كل واحد من الضالين ومن المضلين فَاسْتَقِمْ أمر التكوين ولذلك قال: كَما أُمِرْتَ أي في الأزل، وفي قوله:
وَمَنْ تابَ مَعَكَ إشارة إلى أن النفوس جبلت على الاعوجاج فيحتاج إلى الرجوع من
60
الطريق المنحرف إلى الصراط المستقيم إلى من اختص بالاستقامة بسبب أمر التكوين كالنبي ﷺ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يعني أن الأعمال الصالحة في الأوقات المعدودة تزيل ظلمات الأوقات المصروفة في قضاء الحوائج النفسانية الضرورية، وذلك أن تعلق الروح النوري العلوي بالجسد الظلماني السفلي موجب لخسران الروح كقوله: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: ١] إلا أن يتداركه أنوار العمل الصالح فيرقيه من حضيض البشرية إلى ذروة الروحانية بل إلى الوحدة الربانية، فتندفع عنه ظلمة الجسد السفلي مثاله:
إلقاء الحبة في الأرض فإنه من خسران الحبة إلا أن يتداركه الماء وسائر الأسباب فيربيها إلى أن تصير الحبة الواحدة إلى سبعمائة. وما زاد ذلك الذي ذكرنا من التدارك عظة للذاكرين الذين يريدون أن يذكروا الله في جميع الأحوال فإنهم إذا حافظوا على هذه الأوقات فكأنهم حافظوا على جميعها لأن الإنسان خلق ضعيفا ليس يقدر على صرف جميع الأوقات في محض العبودية والعبادة. فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ صورة التحضيض وحقيقته السؤال ليجاب بأنه لم يكن كذلك لأنك فاعل مختار، فعال لما تريد، خلقت خلقا للإقرار وخلقت خلقا للإنكار ولا اعتراض لأحد عليك يؤيده قوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً طالبة للحق متوجهة إليه وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ منهم من يطلب الدنيا، ومنهم من يطلب العقبى، ومنهم من يطلب المولى وهم المشار إليهم بقوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ أي لطلب الله خَلَقَهُمْ بحسن الاستعداد ولأن رحمته سبقت غضبه، ولكن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في الوجود وهو قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ جرى به القلم للضرورة وما نثبت به فؤادك التثبيت منه والتشكيك منه، بيده مفاتيح أبواب اللطف والقهر وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ لطلب الحق ووجدانه اعْمَلُوا في طلب المقاصد من باب القهر إِنَّا عامِلُونَ في طلب الحق من باب لطفه وَانْتَظِرُوا نتائج أعمالكم إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ثمرات أعمالنا وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما غاب عنكم مما أودع من لطفه في سموات القلوب ومن قهره في أرض النفوس وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ أمر أهل السعادة والشقاء ومظاهر اللطف والقهر فَاعْبُدْهُ أيها الطالب للحق فإنك مظهر اللطف وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ في الطلب لا على طلبك فإنك إن طلبته بك لم تجده وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ في الأزل عَمَّا تَعْمَلُونَ إلى الأبد والله حسبي.
61
Icon