سورة البقرة أطول سورة في القرآن الكريم، فقد استغرقت جزءين ونصف جزء تقريباً من ثلاثين جزءاً قسم إليها القرآن. وتبلغ آياتها ستاً وثمانين ومائتي آية. وقيل سبع وثمانون ومائتا آية.
وسميت بذلك لأنها انفردت بذكر قصة البقرة التي كلف قوم موسى بذبحها بعد أن قتل فيهم قتيل ولم يعرفوا قاتله.
وهي مدنية بإجماع الآراء، وقد ابتدأ نزولها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقد نزل معظمها في السنوات الأولى من الهجرة، واستمر نزولها إلى قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بفترة قليلة. وكانت آخر آية من القرآن نزولا منها، هي قوله –تعالى- :
[ واتقوا يوماً تُرجعُون فيه إلى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍِ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون ].
مناسبتها لسورة الفاتحة : هناك مناسبة ظاهرة بين السورتين، لأن سورة الفاتحة قد اشتملت على أحكام الألوهية والعبودية وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم اشتمالا إجمالياً، فجاءت سورة البقرة ففصلت تلك المقاصد، ووضحت ما اشتملت عليه سورة الفاتحة من هدايات وتوجيهات.
فضلها : وقد ورد فضل سورة البقرة أحاديث متعددة، وآثار متنوعة منها ما جاء في مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان.
وروى ابن حيان في صحيحه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة، وإن من قرأها في بيته لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاث أيام ".
وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال : " بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم ذوو عدد فاستقرأ كل واحد منهم عما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سناً فقال : ما معك يا فلان ؟ فقال : معي كذا وكذا وسورة البقرة. فقال : أمعك سورة البقرة ؟ قال : نعم. قال : اذهب فأنت أميرهم. فقال رجل من أشرافهم : والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أني خشيت ألا أقوم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأوا القرآن وتعلموه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب أوكى أي أغلق –على مسك.
قال القرطبي : وهذه السورة فضلها عظيم، وثوابها جسيم، ويقال لها فسطاط القرآن وذلك لعظمها وبهائها وكثرة أحكامها ومواعظها( ١ ).
مقاصدها : عندما نفتح كتاب الله فنطالع فيه سورة البقرة بتدبر وعناية، نراها في مطلعها تنوه بشأن القرآن الكريم، وتصرح بأنه حق لا ريب فيه، وتبين لنا أن الناس أمام هدايته على ثلاثة أقسام :
قسم آمن به وانتفع بهدايته فكانت عاقبته السعادة والفلاح.
[ أولئك على هُدىً منْ رَبِّهم وأُولَئك هُم المفلحُون ].
وقسم جحد واستكبر واستحب العمى على الهدى، فأصبح لا يرجى منه خير ولا إيمان، فكانت عاقبته الحرمان والخسران.
[ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ].
ثم فصلت السورة الحديث عن قسم ثالث هو شر ما تبتلى به الأمم وهم المنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون. وقد تحدثت السورة عنهم في ثلاث عشرة آية، كشفت فيها عن خداعهم، وجبنهم، ومرض قلوبهم، وبينت ما أعده الله لهم من سوء المصير، ثم زادت في فضيحتهم وهتك سرائرهم فضربت مثلين لحيرتهم واضطرابهم، قال –تعالى- :
[ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين. يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ].
إلى أن يقول :[ ولو شَاءَ الله لذهبَ بِسَمْعِهم وأَبْصَارِهم إن الله عَلَى كُلِّ شيء قدير ].
ثم وجهت السورة نداء إلى الناس جميعاً دعتهم فيه إلى عبادة الله وحده وأقامت لهم الأدلة الساطعة على صدق هذه القضية، وتحدثهم –إن كانوا في ريب من القرآن- أن يأتوا بسورة من مثله. وبينت لهم أنهم لن يستطيعوا ذلك لا في الحاضر ولا في المستقبل.
ثم ختم الربع الأول منها ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، جمعت لذائذ المادة والروح، وهم فيها خالدون. ثم قررت السورة الكريمة أن الله –تعالى- لا يمتنع عن ضرب الأمثال بما يوضح ويبين دون نظر إلى قيمة الممثل به في ذاته أو عند الناس، كما قررت أن المؤمنين يقابلون هذه الأمثال بالإيمان والإذعان، أما الكافرون فيقابلونها بالاستهزاء والإنكار.
وقد وبخت السورة بعد ذلك أولئك الكافرين على كفرهم، مع وضوح الدلائل على وحدانية الله في أنفسهم وفي الآفاق فقالت :
[ كيفَ تكفُرون باللَّه وكنتُم أَمواتاً فَأَحْياكُم ثم يُمِيتُكم، ثم يُحْييكُم، ثم إليه تُرْجَعُون. هو الَّذي خلق لكُم ما في الأَرْضِ جَميعاً، ثم اسْتَوَى إِلى السَّمَاء فَسَواهُنَّ سبع سموات وهو بكل شيء عليم ].
ثم ذكرت السورة بعد ذلك جانبا من قصة آدم، وقد حدثتنا فيه عن خلافة آدم في الأرض، وعما كان من الملائكة من استفسار بشأنه –وعن سكن آدم وزوجه الجنة، ثم عن خروجهما منها بسبب أكلهما من الشجرة المحرمة.
[ وإِذْ قال ربُّك لِلْمَلاَئِكة إنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَة، قالُوا : أَتَجْعَل فيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ونحن نُسبح بِحَمْدِك ونقدس لك، قال : إني أعلم ما لا تعلمون ].. الخ. الآيات الكريمة.
هذا، وقد عرفنا قبل ذلك أن سورة البقرة نزلت بالمدينة بعد أن هاجر المسلمون إليها، وأصبحت لهم بها دولة فتية، وكان يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود الذين كان أحبارهم يبشرون. بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم. فأخذت السورة الكريمة تتحدث عنهم –في أكثر من مائة آية- حديثاً طويلا متشعبا..
فنراها في أواخر الربع الثاني توجه إليهم نداء محبباً إلى نفوسهم، تدعوهم فيه إلى الوفاء بعهودهم، وإلى الإيمان بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم فتقول :
[ يا بني إِسْرَائِيل اذكرُوا نعْمَتي الَّتي أَنْعَمْتُ عليكم، وأَوْفُوا بعهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكم وإيَّاي فارْهبُون. وآمنُوا بما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقا لما معكم ولا تكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ، ولا تَشْتَرُوا بآياتي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فاتَّقُون ].
ثم تذكرهم في الربع الثالث بنعم الله عليهم، وبموقفهم الجحودي من هذه النعم، تذكرهم بنعمة تفضيلهم على عالمي زمانهم، وبنعمة إنجائهم من عدوهم، وبنعمة فرق البحر بهم، وبنعمة عفو الله عنهم مع تكاثر ذنوبهم، وبنعمة بعثهم من بعد موتهم، وبنعمة تظليلهم بالغمام، وبنعمة إنزال المن والسلوى عليهم. الخ.
ولقد كان موقف بني إسرائيل من هذه النعم يمثل بالجحود والعناد والبطر، فكانت نتيجة ذلك أن.
[ ضُرِبت عليهم الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ، وباءُوا بغضبٍ منَ اللَّه ].
ثم تحدثت السورة بعد ذلك حديثاً مستفيضاً عن رذائلهم وقبائحهم ودعواهم الباطلة، والعقوبات التي حلت بهم جزاء كفرهم وجحودهم.
فنراها في الربع الرابع تذكر لنا تنطعهم في الدين وإلحاقهم في المسألة عندما قال لهم نبيهم موسى :[ إِنَّ اللَّه يأمرُكُم أَنْ تَذْبحُوا بَقَرَةً ]. ثم تذكر قسوة قلوبهم فتقول على سبيل التوبيخ لهم :
[ ثُمَّ قستْ قلوبُكم من بعد ذلِك فَهي كَالحِجَارَةِ أو أَشَدَّ قَسْوَةً، وإنَّ من الحِجَارةِ لما يتفجر منه الأَنهارُ، وإن منْها لما يَشقّقُ فيخرجُ منه الماء. وإن منْها لما يَهبطُ من خَشْيَةِ اللَّه، وما اللَّهُ بغافلٍ عَمَّا تَعْملُون ].
ونراها في الربع الخامس تحدثنا عن تحريفهم للكلم عن مواضعه عن تعمد وإصرار، وتتوعدهم على ذلك بسوء المصير :
[ فويْلٌ للذين يكتبُون الكتابَ بأيديهم ثمَّ يقولُون هذَا من عنْدِ اللّه ليشْترُوا به ثَمَناً قليلاً، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ].
ثم تحدثنا عن قولهم الباطل :[ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودة ].
وترد عليهم بما يبطل حجتهم، وعن نقضهم لعهودهم ومواثيقهم مع الله ومع الناس ومع أنفسهم، وعن عدائهم لرسول الله، وعن جحودهم للحق بدافع الحسد والعناد فتقول :
[ ولما جاءهُم كتابٌ منْ عنْدِ الله، مُصَدِّقٌ لِمَا معهُم وَكَانُوا من قبلُ يَسْتَفْتِحُون على الذين كفرُوا، فَلما جاءَهُم ما عرفُوا كفرُوا به فلعنةُ اللّهِ على الكافرين. بئْسَما اشْتَرَوْا به أنفسهم أن يكفرُوا بِمَا أنزلَ اللّهُ بغياً، أَن ينزل اللّه من فضلِه على من يشَاءُ من عباده، فباءُوا بغضب على غضبٍ وللكَافِرين عَذَابٌ مُهِينٌ ].
ثم نراها في الربع السادس تحكي لنا نماذج من مزاعمهم الباطلة، ومن ذلك زعمهم أن الجنة خالصة لهم من دون الناس، ثم ترد عليهم بما يخرس ألسنتهم، ويصور جبنهم وحرصهم المشين على أية حياة حتى لو كانت ملطخة بالذل والهوان.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي ذلك بأسلوبه البليغ فيقول :
[ قل إن كانتْ لكُم الدارُ الآخرةُ عندَ اللهِ خالصةً مِن دونِ النَّاس فتمنوا الموتَ إِن كُنتُم صادقين. ولن يَتَمَنوه أبداً بمَا قَدَّمت أيديهم واللهُ عليمٌ بالظالمين ولتجِدَنَّهم أحرصَ النَّاس على حياةٍ، ومن الذين أَشركُوا، يودُّ أحدُهم لو يُعمّرُ ألفَ سنةٍ، وما هو بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذَاب أن يُعَمَّر واللّهُ بصيرٌ بما يعملون ].
ثم تسوق لنا نماذج من سوء أدبهم مع الله، وعداوتهم لملائكته ؛ ونبذهم كتاب الله، واتباعهم للسحر والأوهام.
ثم نراها في الربع السابع تقص علينا بعض الصور من المجادلات الدينية، والمخاصمات الكلامية، التي استعملوها مع النبي صلى الله عليه وسلم لحرب الدعوة الإسلامية، كجدالهم في قضية النسخ، وفي كون الجنة لن يدخلها لا من كان هودا أو نصارى، وفي كون القرآن ليس معجزة –في زعمهم- وإنما هم يريدون معجزة كونية.. الخ.
وقد رد القرآن عليهم بما يزهق باطلهم، ويزيد المؤمنين إيماناً على إيمانهم.
وكما ابتدأ القرآن الحديث معهم ابتداء محببا إلى نفوسهم [ يا بني إسرائيل ]، فقد اختتمه –أيضاً- بالنداء نفسه، لكي يستحثهم على الإيمان فقال :
[ يا بَنِي إسرائيلَ اذكرُوا نعمتي التي أنعمتُ عليكم وأَنِّي فضلتكُم على العالمين. واتَّقٌوا يوماً لا تجزِي نفسٌ عن نفْسٍ شيئاً، ولا يقبلُ منها عدلٌ، ولا تنفعُها شفاعةٌ، ولا هم ينصرون ].
ثم أخذت السورة بعد ذلك في الربع الثامن منها تحدثنا عن الكلمات التي اختبر الله بها نبيه إبراهيم، وعن قصة بنانء البيت الحرام، وعن تلك الدعوات الخاشعات التي كان إبراهيم وإسماعيل يتضرعان بها إلى خالقهما وهما يقومان بهذا العمل الجليل.
[ رَبَّنَا تَقَبَّلْ منا إنك أننت السمِيعُ العلِيمُ. ربَّنا واجْعلنا مُسْلمَيْنِ لَكَ ومنْ ذُرِّيتنا أمةً مسلمةً لكَ، وأَرِنَا مَنَاسِكَنا، وتُبْ علينا، إنك أنت التَّوابُ الرَّحِيمُ ].
ثم أخذت تقيم الحجج الباهرة، والأدلة الساطعة على أن إبراهيم ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً، وعلى أن يعقوب قد وصى ذريته من بعده أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً.
ثم خت
ﰡ
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
سورة البقرة من السور التي ابتدئت ببعض حروف التهجي.
وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة.
فالسور التي بدأت بحرف واحد ثلاثة وهي سور ص، ق، ن.
والسور التي بدأت بحرفين تسعة وهي: طه، يس، طس، وحم في ست سور هي:
غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف.
والسور التي بدأت بثلاثة أحرف ثلاث عشرة سورة وهي: الم في ست سور: البقرة، وآل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة والر في خمس سور هي: يونس، هود، يوسف، الحجر، إبراهيم وطسم في سورتين هما: الشعراء، القصص.
وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما. الرعد، المر، والأعراف، المص، وسورتان- أيضا- بدئتا بخمسة أحرف وهما: مريم كهيعص، والشورى حم عسق.
هذا، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسين:
الرأى الأول يرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها غير معروف، فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس- في إحدى رواياته- كما ذهب إليه الشعبي، وسفيان الثوري، وغيرهم من العلماء، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور. ويروى عن ابن عباس أنه قال: عجزت العلماء عن إدراكها. وعن على- رضي الله عنه- أنه قال: «إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي». وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال:
«سر الله فلا تطلبوه».
ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأى، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس، لأنه من المتشابه، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل، أو مثله كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها..
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإفهام عنها عند كل الناس، فالرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يفهم المراد منها، وكذلك بعض أصحابه المقربين ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل بعض السور.
وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأى يضيق المجال عن ذكرها أما الرأى الثاني فيرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها معلوم، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة، من أهمها ما يأتى:
١- أن هذه الحروف أسماء للسور، بدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم (من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح) وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة ص وسورة يس.
ولا يخلو هذا القول من الضعف، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح، والغرض من التسمية رفع الاشتباه.
٣- وقيل: إنها حروف مقطعة، بعضها من أسماء الله- تعالى- وبعضها من صفاته، فمثلا الم أصلها: أنا الله أعلم.
٤- وقيل: إنها اسم الله الأعظم. إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال، والتي أوصلها السيوطي في «الإتقان» إلى أكثر من عشرين قولا.
٥- ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال: إن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة، وفضلا عن ذلك فإن تصدير السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها، فيستمعوا حكما وحججا قد تكون سببا في هدايتهم واستجابتهم للحق.
هذه خلاصة لآراء العلماء في الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع- مثلا- إلى كتاب «الإتقان» للسيوطي، وإلى كتاب «البرهان» للزركشى، وإلى تفسير الآلوسي.
ثم قال- تعالى-: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.
ذلِكَ اسم إشارة واللام للبعد حقيقة في الحس، مجازا في الرتبة، والكاف للخطاب، والمشار إليه- على الراجح- الكتاب الموعود به صلّى الله عليه وسلّم في قوله- تعالى- إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أخبرنى عن تأليف ذلِكَ الْكِتابُ مع الم قلت:
إن جعلت الم اسما للسورة ففي التأليف وجوه. أن يكون الم مبتدأ وذلِكَ مبتدأ ثانيا، والْكِتابُ خبره. والجملة خبر المبتدأ الأول.
ومعناه أن ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتابا، كما تقول: هو الرجل، أى: الكامل في الرجولية، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال.
وقيل: المشار إليه الم على أنه اسم للسورة والمراد المسمى.
والْكِتابُ مصدر كتب كالكتب، وأصل الكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة. واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، وأريد به هنا المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه.
و (الريب) في الأصل مصدر رابه الأمر إذا حصل عنده فيه ريبة، وحقيقة الريبة، قلق النفس واضطرابها، ثم استعمل في معنى الشك مطلقا. وقال ابن الأثير: الريب هو الشك مع التهمة.
و (هدى). مصدر هداه هدى وهداية وهدية- بكسرها- فهدى، ومعناه الدلالة الموصلة إلى البغية، وضده الضلال.
و (المتقون) جمع متق، اسم فاعل من اتقى وأصله اوتقى- بوزن افتعل- من وقى الشيء وقاية، أى: صانه وحفظه مما يضره ويؤذيه.
والمعنى: ذلك الكتاب الكامل، وهو القرآن الكريم، ليس محلا لأن يرتاب عاقل أو منصف في أنه منزل من عند الله، وأنه هداية وإرشاد للمتقين الذين يجتنبون كل مكروه من قول أو فعل، حتى يصونوا أنفسهم عما يضرها ويؤذيها.
وكانت الإشارة بصيغة البعيد، لأنه سامى المنزلة أينما توجهت إليه، فإن نظرت إليه من ناحية تراكيبه فهو معجز للبلغاء، وإن نظرت إليه من ناحية معانيه فهو فوق مدارك الحكماء، وإن نظرت إليه من ناحية قصصه وتاريخه فهو أصدق محدث عن الماضين، وأدق محدد لتاريخ السابقين، فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن، وقد شاع في كلام البلغاء تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال، لأن الشيء النفيس عزيز على أهله، فمن العادة أن يجعلوه في مكان مرتفع بعيد عن الأيدى.
وصحت الإشارة إلى الكتاب وهو لم ينزل كله بعد، لأن الإشارة إلى بعضه كالإشارة إلى الكل حيث كان بصدد الإنزال، فهو حاضر في الأذهان، فشبه بالحاضر في العيان.
ونفى عنه الريب على سبيل الاستغراق مع وقوع الريب فيه من المشركين حيث وصفوه بأنه
فالجملة الكريمة تنفى الريب في القرآن عمن شأنهم أن يتدبروه، ويقبلوا على النظر فيه بروية، ومن ارتاب في القرآن فلأنه لم يقبل عليه بأذن واعية، أو بصيرة نافذة، أو قلب سليم.
وقدم جملة لا رَيْبَ فِيهِ على جملة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ لأنه أراد أن ينفى عن ساحة كونه كتابا هاديا غبار الريب، وغيوم الشكوك، حتى يستقر في النفوس وصفه، وتطمئن القلوب لآثاره ومقاصده وهداياته.
وفصل جملة لا رَيْبَ فِيهِ عما قبلها لكمال الاتصال، حيث كانت جملة ذلِكَ الْكِتابُ مفيدة لكماله، وجملة لا رَيْبَ فِيهِ مفيدة لنفى الريب عنه.
والمراد بكونه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ مع أنه هداية لهم ولغيرهم، لأنهم هم المنتفعون به دون سواهم.
قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.
ومعنى كونه هدى لهم أنه يزيدهم هدى على ما لديهم من الهدى كما قال- تعالى-:
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ.
ويصح أن يكون المعنى: هدى للناس الذين صاروا متقين بهذه الهداية، كما أقول: هديت مهتديا، أو كتبت مكتوبا، على معنى أنى هديت شخصا صار مهديا بهذه الهداية، وكتبت خطابا صار مكتوبا بهذه الكتابة، وهو أسلوب عربي صحيح. كما ورد في حديث «من قتل قتيلا فله سلبه».
قال صاحب الكشاف: ومحل هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الرفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر مع لا رَيْبَ فِيهِ ل «ذلك»... والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحا، وأن يقال: إن قوله الم جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة برأسها.
وذلِكَ الْكِتابُ جملة ثانية. ولا رَيْبَ فِيهِ ثالثة. وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ رابعة. وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض. فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة: بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. فكان تقريرا لجهة التحدي، وشدا من أعضاده ثم نفى عنه أن يتشبث به من طرف الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله. لأنه لا كمال أكمل من الحق
وقيل لبعض العلماء: فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ثم لم تخل كل واحدة من الأربع- بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق- من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه. وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف «١»...
ثم فصل القرآن بعد ذلك أوصاف المتقين، ومدحهم بجملة من المناقب الحميدة، فقال:
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أى: يصدقون بما غاب عن حواسهم، كالصانع وصفاته، وكاليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب.
والإيمان لغة التصديق والإذعان، وهو إفعال من الأمن. وشرعا التصديق بما علم بالضرورة أنه من الدين، كالايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر... إلخ، وعدى يُؤْمِنُونَ بالباء لتضمينه معنى أقر واعترف.
والغيب: مصدر غاب يغيب، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب، وهو الظاهر من هذه الآية الكريمة. ومعناه: ما لا تدركه الحواس، ولا يعلم ببداهة العقل.
قال بعض العلماء: وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان، لأن الإيمان بالغيب هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله- تعالى- فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما من يعتقد أنه ليس من وراء عالم الماديات عالم آخر، فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة، كما هو حال الماديين الذين يقولون: «ما يهلكنا إلا الدهر «٢» :
والإيمان بالغيب: يستلزم التصديق به على وجه الجزم، وهو لا يحصل إلا عن دليل.
ولا شك أن قيام البراهين على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقا عن دليل، فنحن لا نحتاج في الإيمان بالملائكة والكتب السماوية السابقة، والرسل الذين أرسلوا من قبل، والبعث وما فيه من ثواب وعقاب، لا نحتاج في الإيمان بكل ذلك إلى دليل زائد على الأدلة التي قامت على صدق نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
والإيمان بالغيب دليل على اتساع العقول، وسلامة القلوب، إذ أن معنى الإيمان بالغيب هو
(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ١ ص ١١٨ للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور.
والإيمان بالغيب الذي أخبر به الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم يقوى ويعظم كلما قوى الإيمان في القلوب، واستولى الصفاء على النفوس، وقد مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم المؤمنين بالغيب في أحاديث متعددة، منها ما جاء عن خالد بن دريك، عن ابن محيريز قال: قلت لابن جمعة: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: نعم أحدثك حديثا. تغدينا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال: يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك.
قال: نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يرونى».
قال ابن كثير: فقد مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرا من هذه الحيثية لا مطلقا «١».
وأخرج ابن أبى حاتم والطبراني وابن مندة وأبو نعيم عن بديلة بنت أسلّم قالت: صليت الظهر أو العصر في مسجد بنى حارثة، واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين، ثم جاء من يخبرنا بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استقبل البيت، فتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أولئك قوم آمنوا بالغيب» «٢».
تلك أول صفة نتيجة التقوى وهي الإيمان بالغيب، أما الصفة الثانية التي مدح الله بها المتقين فهي قوله- تعالى-:
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ.
الصلاة في اللغة الدعاء، من صلى يصلّى إذا دعا، واستعملها الشارع في العبادة ذات الركوع والسجود لاشتمالها على الدعاء، والإقامة في الأصل: الدوام والثبات، من قولك: قام الحق أى: ظهر وثبت.
ومعنى يُقِيمُونَ الصَّلاةَ: يؤدونها في أوقاتها المقدرة لها، مع تعديل أركانها، وإيقاعها مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها، فإن الصلاة المقامة بحق هي تلك التي يصحبها
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٢.
وقدم الإيمان بالغيب على إقامة الصلاة تعظيما لعمل القلب، واعتدادا بشرطية الإيمان في صحة أعمال الجوارح.
وقدم إقامة الصلاة على الإنفاق، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولأنها تتكرر في اليوم خمس مرات، ولأنها صلة بين العبد وربه، والإنفاق صلته بالناس، ولأن مشروعيتها كانت سابقة على مشروعية الزكاة.
أما الصفة الثالثة التي مدح الله بها المتقين فهي قوله- تعالى-:
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.
أى: ومما أعطيناهم وملكناهم يتصدقون في وجوه الخير، ويمدون أيديهم بالإحسان إلى الفقير والمسكين.
والرزق عند جمهور العلماء ما صلح للانتفاع به حلالا كان أو حراما، خلافا للمعتزلة الذين يرون أن الحرام ليس برزق. والإنفاق: إخراج المال وإنفاده وصرفه، يقال: نفق- كفرح ونصر- نفد وفنى أو قلّ. وأنفق ماله أنفده، وأصل المادة يدل على الخروج والذهاب، ومنه:
نافق فلان، والنافقاء، والنفق. وقال «ينفقون» ولم يقل أنفقوا، ليشعر بأن الإنفاق منهم يتجدد بين وقت وآخر. ولم يحدد وجوه الانفاق بل تركها مطلقة لتشمل الفرض والواجب وغيرهما من وجوه الإحسان.
وإيراد «من» في قوله تعالى- وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ للإشارة إلى أن مواظبتهم على إنفاق أموالهم بين الحين والحين، كفيل بتوصيلهم إلى زمرة المهتدين المفلحين، وللإشعار بأنهم ينفقون بعض أموالهم مبتعدين عن الإسراف والتبذير حتى لا يتركوا ورثتهم عالة يتكففون وجوه الناس.
هذا، وقد عنى القرآن الكريم عناية فائقة بالحض على الإنفاق في وجوه الخير، ومدح الذين يفعلون ذلك مدحا عظيما في عشرات الآيات، وذلك لأن الأمة التي يكثر فيها المنفقون لأموالهم في وجوه الخير، لا بد أن تعز كلمتها، وتسلّم من كوارث شتى، كالجهل، والفقر، والمرض.
فببذل المال تسد حاجات البؤساء، وتشاد معاهد التعليم، وتقام وسائل حفظ الصحة، وتنمو المحبة والمودة بين الأغنياء والفقراء.
ثم أضاف القرآن إلى صفات المتقين وصفا رابعا فقال:
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ.
والمراد بقوله- تعالى- بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ القرآن الكريم، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي- وإن كان بعضه مترقبا- تغليبا للموجود على ما لم يوجد.
والمراد بقوله- تعالى- وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، الكتب الإلهية السابقة التي أنزلها الله على أنبيائه كموسى وعيسى وداود. وهذا كقوله- تعالى-:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ «١».
والإيمان بما أنزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم يستلزم الإيمان برسالته، ويستوجب العمل بما تضمنته شريعته.
وإيجاب العمل بما تضمنه القرآن الذي أنزله الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم باق على إطلاقه. أما الكتب السماوية السابقة فيكفى الإيمان بأنها كانت وحيا وهداية، وقد تضمن القرآن الكريم ما اشتملت عليه هذه الكتب من هدايات وأصبح بنزوله مهيمنا عليها، قال- تعالى-:
وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ.
وصار من المحتم على كل عاقل أن يعمل بما جاء به القرآن من توجيهات.
وقدم الإيمان بما أنزل عليه على الإيمان بما أنزل على الذين من قبله- مع أن الترتيب يقتضى العكس- لأن إيمانهم بمن قبله لا قيمة له إلا إذا آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم:
ولم يقل: ويؤمنون بما أنزل من قبلك بتكرير يؤمنون، للإشعار بأن الإيمان به وبهم واحد، لا تغاير فيه وإن تعدد متعلقه.
ويرى بعض العلماء أن المراد من الآية الكريمة، أهل الكتاب الذين آمنوا بالكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن، نم لما نزل القرآن على النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وعرفوا أنه الحق- آمنوا به أيضا-، فصار لهم أجران، كما جاء في الحديث الشريف، الذي ثبت في الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين يوم القيامة: رجل من
ثم وصف الله المتقين بوصف خامس فقال: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ الآخرة تأنيث الآخر.
وهذا اللفظ تارة يجيء وصفا ليوم القيامة مع ذكر الموصوف، كما في قوله- تعالى- «وللدار الآخرة خير للذين يتقون» وتارة بهذا المعنى ولكن بدون ذكر الموصوف، كما في الآية التي معنا، وكما في قوله- تعالى- وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا.
وسميت آخرة لأنها تأتى بعد الدنيا التي هي الدار الأولى.
ويُوقِنُونَ من الإيقان وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، بحيث لا يطرأ عليه شك، ولا تحوم حوله شبهة. يقال يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته، ويقال: يقنت- بالكسر- يقنا، وأيقنت، وتيقنت، واستيقنت بمعنى واحد.
والمعنى: وبالدار الآخرة وما فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب هم يوقنون إيقانا قطعيا، لا أثر فيه للادعاءات الكاذبة، والأوهام الباطلة.
وفي إيراد «هم» قبل قوله «يوقنون» تعريض، بغيرهم، ممن كان اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق للحقيقة أو غير بالغ مرتبة اليقين.
ولا شك أن الإيمان باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، له أثر عظيم في فعل الخيرات، واجتناب المنكرات، لأن من أدرك أن هناك يوما سيحاسب فيه على عمله، فإنه من شأنه أن يسلك الطريق القويم الذي يكسبه رضي الله يوم يلقاه.
قال أبو حيان: وذكر لفظة هُمْ في قوله: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ولم يذكرها في قوله:
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد ولأنه لو ذكر هم هناك لكان فيه قلق لفظي، إذ يكون التركيب «ومما رزقناهم هم ينفقون» «١».
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك الثمار التي ترتبت على تقواهم فقال:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
المفلحون: من الفلاح وهو الظفر والفوز بدرك البغية، وأصله من الفلح- بسكون اللام- وهو الشق والقطع، ومنه فلاحة الأرض وهو شقها للحرث. وأستعمل منه الفلاح في الفوز، كأن الفائز شق طريقه وفلحه للوصول إلى مبتغاه، أو انفتحت له طريق الظفر وانشقت.
والآية الكريمة كلام مستأنف لبيان أن أولئك المتقين في المنزلة العليا من الكمال الإنسانى، فقد وصفهم- سبحانه- بأنهم على هدى عظيم، ويدل على عظم هذا الهدى إيراده بصيغة التنكير، إذ من المعلوم عند علماء البيان أن التنكير يدل بمعونة المقام على التعظيم. كما يدل- أيضا- على عظم هذا الهدى وصفه بأنه «من ربهم»، فهو الذي وفقهم إليه، ويسر لهم أسبابه.
وفي قوله- تعالى-: عَلى هُدىً إشعار بأنهم تمكنوا منه تمكن من استعلى على الشيء، وصار في قرار راسخ منه.
وجملة «وأولئك هم المفلحون» بيان لما ظفر به المتقون الحائزون لتلك الخصال، من سعادة في الدنيا والآخرة.
وتعريف الخبر وهو الْمُفْلِحُونَ مع إيراد ضمير الفصل «هم» يفيد أن الفلاح مقصور على أولئك المتقين، فمن لم يؤمن بالغيب، أو أضاع الصلاة، أو بخل بالمال الذي منحه الله إياه فلم يؤده في وجوهه المشروعة، فإنه لا يكون من المهتدين، ولا من المفلحين الذين سعدوا في دنياهم وآخرتهم.
قال الإمام الرازي: «وفي تكرير» أُولئِكَ تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى، فقد ثبت لهم الاختصاص بالفلاح- أيضا- فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين، فإن قيل: فلم جيء بالعاطف؟ وما الفرق بينه وبين قوله: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.
قلنا: قد اختلف الخبران هاهنا فلذلك دخل العاطف، بخلاف الخبرين ثمة فإنهما متفقان، لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد، وكانت الثانية مقررة لما في الأولى، فهي من العطف بمعزل» «١».
وقال صاحب الكشاف بعد تفسيره لهذه الآية الكريمة «... فانظر كيف كرر الله التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى، وهي: ذكر اسم الإشارة، وتكريره، وتعريف المفلحين، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين أولئك، ليبصرك مرتباتهم، ويرغبك في طلب ما طلبوا، وينشطك لتقديم ما قدموا، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد مدحت القرآن الكريم بما يستحقه، وأثنت على من اهتدوا بهديه، ووصفتهم بالصفات السامية، وبشرتهم بالبشارات الكريمة.
وبعد أن انتهى القرآن من بيان شأن الكتاب وأثره في الهداية والإرشاد، وتصوير حال المتقين الذين اهتدوا به، وما اكتسبوه بالهداية من أوصاف سامية، وما كان لهم على ذلك من خير العاقبة وحسن الجزاء، أقول بعد أن انتهى من بيان كل ذلك شرع في بيان حال الكافرين، وما هم عليه من سوء الحال وقبيح الأوصاف فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦ الى ٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
ففي هاتين الآيتين بيان لأحوال طائفة ثانية من الناس، على الضد في طبيعتها وأوصافها ومآلها من الطائفة الأولى التي فازت برضوان الله.
والكفر- بالضم- ضد الإيمان. وأصله المأخوذ منه الكفر- بالفتح- وهو ستر الشيء وتغطيته، ومنه سمى الليل كافرا، لأنه يغطى كل شيء بسواده، وسمى السحاب كافرا لستره ضوء الشمس.
ثم شاع الكفر في مجرد ستر النعمة، كأن المنعم عليه قد غطى النعمة بجحوده لها. ويستعمله الشارع في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وسمى من لم يؤمن بما يجب الإيمان به بعد الدعوة إليه- كافرا، لأنه صار بجحوده لذلك الحق وعدم الإذعان إليه كالمغطى له.
والمراد بالذين كفروا في الآية التي معنا، طائفة معينة صمت آذانها عن الحق، عنادا وحسدا، وليس عموم الكافرين، لأن منهم من دخل في الإسلام بعد نزول هذه الآية.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ.
أى: مستوية.
والإنذار: إخبار معه تخويف في مدة تتسع للتحفظ من المخوف، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار، وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله- تعالى-.
والمعنى: إن الذين كفروا برسالتك يا محمد مستو عندهم إنذارك وعدمه، فهم لا يؤمنون بالحق، ولا يستجيبون لداعي الهدى، لسوء استعدادهم، وفساد فطرهم.
وجاءت جملة «إن الذين كفروا: مستأنفة ولم تعطف على ما قبلها لاختلاف الغرض الذي سيق له الكلام، إذ في الجمل السابقة حديث عن الكتاب وآثاره وعظمته، وهنا حديث عن الكافرين وأحوالهم.
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: «فإن قلت لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف كنحو قوله: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. وغيره من الآيات الكثيرة؟ قلت: ليس وزان هاتين القصتين وزان ما ذكرت. لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هدى المتقين، وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب، وهما على حد لا مجال فيه للعاطف».
وقوله سَواءٌ خبر إن وعَلَيْهِمْ متعلق به، وأَ أَنْذَرْتَهُمْ مؤول بمصدر فاعل سواء.
أى: إن الذين كفروا سواء عندهم إنذارهم وعدم إنذارهم وإنما استوى لديهم الإنذار وعدمه مع أن الإنذار إنما يواجههم به نبي قوى أمين مؤيد من الله- تعالى-، لأنهم لما جحدوا نعم الله، وعموا عن آياته، وحسدوا رسوله على ما آتاه الله من فضله، صاروا بسبب ذلك في حضيض جمد معه شعورهم، وبرد فيه إحساسهم، فلا تؤثر فيهم موجعات القول، ولا تنفذ إلى قلوبهم بالغات الحجج. فهم كما قال الشاعر:
لقد أسمعت إذ ناديت حيا | ولكن لا حياة لمن تنادى |
ولم يقل- سبحانه- سواء عليك أأنذرتهم أم لم تنذرهم.. إلخ، لأنه بالنسبة له صلّى الله عليه وسلّم لا يستوي الأمران، إذ هو في حالة إنذاره لهم مثاب ومأجور، أما في حالة عدم إنذاره فهو
وجملة لا يُؤْمِنُونَ مفسرة لمعنى الجملة التي قبلها ومؤكدة لها، لأنه حيث كان الإنذار وعدمه سواء، فلا يتوقع منهم الإيمان. ولذلك فصلت.
وفي هذه الجملة إخبار بعدم إيمانهم ألبتة، وذلك لأن حرف «لا» إذا دخل على الفعل المضارع- كما هنا- أفاد أن الفعل لا يقع في المستقبل حتى تقوم قرينة تقصر النفي في المستقبل على وقت محدد.
والحكمة في الإخبار بعدم إيمان هذه الطائفة المعينة من الكفار، تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى لا يكون في صدره حرج من تمردهم وعدم إيمانهم بعد أن قام بواجب دعوتهم، وفي ذلك تذكرة لكل داع مصلح بأن لا يحترق قلبه أسفا على قوم أعرضوا عن سلوك الصراط المستقيم بعد أن دعاهم إليه، وبذل قصارى جهده في تبصيرهم وإرشادهم.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك الموانع التي حالت بينهم وبين الاهتداء إلى الحق في الماضي والمستقبل فقال تعالى:
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ.
والختم: الوسم بطابع ونحوه، مأخوذ من وضع الخاتم على الشيء وطبعه فيه للاستيثاق، لكي لا يخرج منه ما هو بداخله، ولا يدخله ما هو خارج عنه.
قال القرطبي: «والختم مصدر ختمت الشيء ختما فهو مختوم مختم، شدد للمبالغة، ومعناه التغطية على الشيء والاستيثاق منه، وقد يكون محسوسا كما في ختم الكتاب والباب، وقد يكون معنويا كالختم على القلوب... » «١»
والقلوب: جمع قلب، وهو المضغة التي توجد بالجانب الأيسر من صدر الإنسان، ويستعمل في القوة العاقلة التي هي محل الفهم والعلم.
والسمع: مصدر سمع. ويطلق على الآلة التي يقع بها السمع.
ولما كان الختم يمنع من أن يدخل في المختوم عليه شيء، استعير لإحداث هيئة في القلب والسمع تمنع من خلوص الحق إليهما.
الأبصار: جمع بصر، وهو في الأصل الإدراك بالعين، ويطلق على القوة التي يقع بها الإبصار، وعلى العين نفسها. وهذا المعنى أقرب ما تحمل عليه الأبصار في الآية. وهو الأنسب
والغشاوة: ما يغطى به الشيء، من غشاه إذا غطاه. يقال:
غشيه غشاوة- مثلثة- وغشاية. أى: ستره وغطاه.
فهذه الآية الكريمة تفيد عن طريق الاستعارة أو التمثيل أن هناك حواجز حصينة، وأقفالا متينة قد ضربت على قلوبهم وعلى أسماعهم، وغشاوات مطبقة على أبصارهم حتى أصبحوا لا يخيفهم نذير ولا يرغبهم بشير.
وعبر في جانب القلب والسمع بالختم، وفي جانب البصر بالغشاوة، لمعنى سام، وحكمة رائعة، ذلك أن آفة البصر معروفة، إذ غشاوة العين معروفة لنا، فالتعبير في جانب العين بالغشاوة مما يحدد لنا مدى عجزهم عن إدراك آيات الله بتلك الجارحة، وأما القلب والسمع فإنهما لما كانا لا تدرك آفتهما إلا بصعوبة، فقد صور لنا موانعهما عن الاستجابة للحق بصورة الختم.
وعبر في جانب القلب والسمع بجملة فعلية تفيد التجدد والحدوث، وفي جانب البصر بجملة اسمية تفيد الثبات والاستقرار، لأنهم قبل الرسالة ما كانوا يسمعون صوت نذير، ولا يواجهون بحجة، وإنما كان صوت النذير وصياغة البراهين بعد ظهور النبي صلّى الله عليه وسلّم. وأما ما يدرك بالبصر من دلائل وجود الله وآيات قدرته، فقد كان قائما في السماوات وفي الأرض وفي الأنفس، ويصح أن يدرك قبل الرسالة النبوية، وأن يستدل به المتبصرون والمتدبرون على وجود ربهم وحكمته، فلم يكن عماهم عن آيات الله القائمة حادثا متجددا، بل هم قد صحبهم العمى من بدء وجودهم، فلما دعوا إلى التبصر والتدبر صمموا على ما كانوا عليه من عمى، وجمع القلوب والأبصار وأفرد السمع، لأن القلوب تختلف باختلاف مقدار ما تفهمه مما يلقى إليها من إنذار أو تبشير، ومن حجة أو دليل، فكان عن ذلك تعدد القلوب بتعدد الناس على حسب استعدادهم، وكذلك شأن الناس فيما تنظره أبصارهم من آيات الله في كونه، فإن أنظارهم تختلف في عمق تدبرها وضحولته، فكان من ذلك تعدد المبصرين بتعدد مقادير ما يستطيعون تدبره من آيات الله في الآفاق. وأما المسموع فهو بالنسبة للناس جميعا شيء واحد هي الحجة يناديهم بها المرسلون، والدليل يوضحه لهم النبيون.
لذلك كان الناس جميعا كأنهم على سمع واحد، فكان إفراد السمع إيذانا من الله بأن حجته واحدة، ودليله واحد لا يتعدد.
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ، وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
وذلك لأنه- سبحانه- في سورة الجاثية قد ذكر الختم معطوفا على قوله «اتخذ إلهه هواه، ومن اتخذ إلهه هواه يكون أول ما يبدو منه للناس ويعرف هو إعراضه عن النصح، ولى رأسه عن استماع الحجة، فكان مظهر عدم السماع منه أول ما يبدو للناظرين، فلذلك قدم السمع على القلب.
وأما آيتنا هذه وهي قوله- تعالى- خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ فقد جاءت إثر الآية المختومة بقوله لا يُؤْمِنُونَ. والإيمان تصديق يقوم على الحجة والبراهين، وإدراك الحجة والبرهان إنما هو بالقلب فكان التعليل المتصل الواضح لنفى الإيمان أن قلوبهم مغلقة لا تنفذ إليها الحجة، أولا يتسرب إليها نور البرهان لذلك قدم القلب على السمع.
هذا وقوله- تعالى- خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ.. إلخ. لا ينفى عنهم تبعة الكفر، لأنهم هم الذين باشروا من فاسد الأعمال، وذميم الخصال، ومتابعة الهوى، ما نسج على قلوبهم الأغلفة السميكة، وأصم إلى جانب ذلك آذانهم وأعمى أبصارهم، ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
ولعلماء الكلام كلام طويل حول هذه المسألة فليرجع إليه من شاء.
ثم بين- سبحانه- ما يستحقونه من عذاب بسبب إغراقهم في الكفر. واستحبابهم للمعاصي فقال:
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
أى: ولهم بسبب سوء أعمالهم عذاب موجع مؤلم لأبدانهم وأجسامهم.
وأصل العذاب: المنع، يقال: عذب الفرس- كضرب- امتنع عن العلف. وعذب الرجل إذا ترك المأكل والنوم، فهو عاذب وعذوب. ثم أطلق على الإيجاع الشديد لما فيه من المنع عن اقتراف الذنب. والعظيم: الكبير، من عظم الشيء، وأصله كبر عظمه، ثم استعير لكل كبير محسوسا كان أو معقولا.
ووصف العذاب بالعظيم على معنى أن سائر ما يجانسه من العذاب يكون بالنسبة إليه حقيرا هينا.
الأول: الخطاب العام اللفظ، الخاص المعنى.
الثاني: الاستفهام الذي يراد به تقرير المعنى في النفس. أي: يتقرر أن الإنذار وعدمه سواء عندهم.
الثالث: المجاز ويسمى الاستعارة وهو في قوله- تعالى- خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وحقيقة الختم وضع محسوس على محسوس يحدث بينهما رقم يكون علامة للخاتم، والختم هنا معنوي فإن القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره استعير اسم المختوم عليه، فبين أنه من مجاز الاستعارة.
الرابع: الحذف وهو في مواضع منها إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.. أي: القوم الذين كفروا بالله وبك وبما جئت به، ومنها لا يُؤْمِنُونَ أى بالله وبما أخبرتهم به عنه «١».
وإلى هنا يكون القرآن قد حدثنا عن طائفتين من الناس: طائفة المتقين وما لها من جميل الصفات، وجزيل الثواب، وطائفة الكافرين وما لها من ذميم النعوت، وشديد العقاب.
ثم ابتدأ القرآن بعد ذلك حديثه عن طائفة ثالثة ليس عندها إخلاص المتقين، وليس لديها صراحة الكافرين، وإنما هي طائفة قلقة مذبذبة لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، تلك الطائفة الثالثة هي طائفة المنافقين الذين فضحهم القرآن. وأماط اللثام عن خفاياهم وخداعهم فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨ الى ١٠]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
قال صاحب الكشاف: «افتتح- سبحانه- كتابه بذكر الذين أخلصوا دينهم لله، وواطأت قلوبهم ألسنتهم، ووافق سرهم علنهم، وفعلهم قولهم، ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهرا
ووصف حال الذين كفروا في آيتين ووصف حال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم، ومكرهم، وفضحهم، وسفههم. واستجهلهم، واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، وسجل طغيانهم، ودعاهم صما بكما عميا، وضرب لهم الأمثال الشنيعة. وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا، كما تعطف الجملة على الجملة» «١».
والناس: اسم لجماعة الإنس. قال القرطبي: «واختلف النحاة في لفظ الناس فقيل: هو من أسماء الجموع، جمع إنسان وإنسانة على غير اللفظ، وتصغيره نويس، فالناس من النوس وهو الحركة، يقال: ناس، ينوس أى: تحرك. وقيل: أصله نسى، فأصل ناس نسى، قلب فصار نيس، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، ثم دخلت الألف واللام فقيل:
الناس، قال ابن عباس: نسى آدم عهد الله فسمى إنسانا. وقيل: سمى إنسانا لأنسه بربه، قال الشاعر:
وما سمى الإنسان إلا لأنسه | ولا القلب إلا أنه يتقلب «٢» |
وقال القرآن في شأن المنافقين وَمِنَ النَّاسِ مجردا إياهم من الوصفين السابقين، وصف الإيمان ووصف الكفر، لأنهم لم يكونوا بحسب ظاهر الأمر مع الكافرين، ولا بحسب باطنه مع المؤمنين، لذا عبر عنهم بالناس لينطبق التعبير على ما حاولوه لأنفسهم من أنهم لا هم مؤمنون.
ولا هم كافرون وفي ذلك مبالغة في الحط من شأنهم. فهم لم يخرجوا عن كونهم ناسا فقط، دون أن يصلوا بأوصافهم إلى أهل اليمين أو إلى أهل الشمال الصرحاء في كفرهم، بل بقوا في منحدر من الأرض، لا يمر بهم سالك الطريق المستقيم ولا سالك المعوج من الطرق.
وعبر القرآن بلفظ يَقُولُ آمَنَّا ليفيد أنه مجرد قول باللسان، لا أثر له في القلوب، وإنما هم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
(٢) تفسير القرطبي ج ١ ص ١٩٢.
وقد كذبهم الله- تعالى- في دعواهم الإيمان، فقال:
وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
فهذه الجملة الكريمة رد لما ادعوه من الإيمان، ونفى له على أبلغ وجه، إذ جاء النفي مؤكدا بالباء في قوله بِمُؤْمِنِينَ. ثم ان الجملة نفت عنهم الإيمان على سبيل الإطلاق، فهم ليسوا بمؤمنين لا بالله ولا باليوم الآخر، ولا بكتب الله ولا برسله ولا بملائكته.
ثم بين- سبحانه- الدوافع التي دفعتهم إلى أن يقولوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فقال:
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا.
والخدع في أصل اللغة: الإخفاء والإبهام، يقال خدعه- كمنعه- خدعا، ختله وأراد به مكروها من حيث لا يعلم وأصله من خدع الضب حارسه إذ أظهر الإقبال عليه ثم خرج من باب آخر.
وخداعهم لله- تعالى- معناه إظهارهم الإيمان وإبطانهم الكفر ليحقنوا دماءهم وأموالهم، ويفوزوا بسهم من الغنائم، وسمى فعلهم هذا خداعا لله- تعالى- لأن صورته صورة الخداع، فالجملة الكريمة مسوقة على أسلوب المشاكلة، ولا يجوز حملها على الحقيقة، لأنه- سبحانه- لا يخفى عليه صنع المنافقين بل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. قال- تعالى- إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ.
أما خداعهم للمؤمنين فمن مظاهره إظهارهم لهم أنهم إخوانهم في العقيدة وأنهم لا يريدون لهم إلا الخير. بينما هم في الحقيقة يضمرون لهم العداوة ويتربصون بهم الدوائر.
وجاءت الآية الكريمة هكذا بدون عطف، لأنها جواب سؤال نشأ من الآية السابقة، إذ أن قول المنافقين «آمنا» وما هم بمؤمنين، يثير في نفس السامعين استفهاما عما يدعو هؤلاء لمثل تلك الحال المضطربة والحياة القلقة المقامة على الكذب، فكان الجواب: إنهم يفعلون ذلك محاولين مخادعة المؤمنين، جهلا منهم بصفات خالقهم.
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وقال- تعالى- مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ.
ثم بين- سبحانه- غفلتهم وغباءهم فقال: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ.
الأنفس: جمع نفس بمعنى ذات الشيء وحقيقته. وتطلق على الجوهر اللطيف الذي يكون به الحس والحركة والإدراك.
ويشعرون: مضارع شعر بالشيء- كنصر وكرم- يقال: شعر بالشيء أى: فطن له، ومنه الشاعر لفطنته، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني ودقائقها.
والشعور: العلم الحاصل بالحواس، ومنه مشاعر الإنسان أى: حواسه.
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين لم يخادعوا الله لعلمه بما يسرون، ولم يخادعوا المؤمنين لأن الله يدفع عنهم ضرر خداع المنافقين، وإنما يخدعون أنفسهم لأن ضرر المخادعة عائد عليهم، ولكنهم لا يشعرون بذلك. لأن ظلام الغي خالط قلوبهم، فجعلهم عديمي الشعور، فاقدى الحس.
وأتى بجملة «وما يخدعون إلا أنفسهم»، بأسلوب القصر مع أن خداعهم للمؤمنين قد ينالهم بسببه ضرر، لأن أولئك المنافقين سيصيبهم عذاب شديد بسبب ذلك، أما المؤمنون فحتى لو نالهم ضرر فلهم عند الله ثوابه.
ونفى عنهم الشعور مع سلامة مشاعرهم، لأنهم لم ينتفعوا من نعمتها، ولم يستعملوها فيما خلقت له، فكانوا كالفاقدين لها.
ثم بين- سبحانه- العلة في خداعهم لله وللمؤمنين فقال: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ.
والمرض: العلة في البدن ونقيضه الصحة، وقد يستعمل على وجه الاستعارة فيما يعرض للمرء فيخل بكمال نفسه، كسوء العقيدة والحسد، والبغضاء والنفاق، وهو المراد هنا.
وسمى ما هم فيه من نفاق وكفر مرضا، لكونه مانعا لهم من إدراك الفضائل. كما أن مرض الأبدان يمنعها من التصرف الكامل.
وجعل القرآن قلوبهم ظرفا للمرض، للإشعار بأنه تمكن منها تمكنا شديدا كما يتمكن الظرف من المظروف فيه.
فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً.
لأنهم استمروا في نفاقهم وشكهم، ومن سنة الله أن المريض إذا لم يعالج مرضه زاد لا محالة مرضه، إذ المرض ينشئ المرض، والانحراف يبدأ يسيرا ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد.
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين قد زادهم الله رجسا على رجسهم، ومرضا على مرضهم، وحسدا على حسدهم، لأنهم عموا وصموا عن الحق، ولأنهم كانوا يحزنون لأى نعمة تنزل بالمؤمنين. كما قال- تعالى-: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبتهم فقال: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ.
أَلِيمٌ أى: مؤلم وموجع وجعا شديدا. من ألم- كفرح- فهو ألم، وآلمه يؤلمه إيلاما، أى:
أوجعه إيجاعا شديدا.
والكذب: الإخبار عن الشيء بخلاف الواقع. ولقد كان المنافقون كاذبين في قولهم «آمنا بالله وباليوم الآخر» وهم غير مؤمنين، وجعلت الآية الكريمة العذاب الأليم مرتبا على كذبهم مع أنهم كفرة، والكفر أكبر معصية من الكذب، للإشعار بقبح الكذب، وللتنفير منه بأبلغ وجه، فهؤلاء المنافقون قد جمعوا الخستين، الكفر الذي توعد الله مرتكبه بالعذاب العظيم، والكذب الذي توعد الله مقترفه بالعقاب الأليم.
وعبر بقوله: كانُوا يَكْذِبُونَ لإفادة تجدد الكذب وحدوثه منهم حينا بعد حين، وأن هذه الصفة هي أخص صفاتهم، وأبرز جرائمهم، ثم وصفهم الله- تعالى- بعد ذلك بجملة من الرذائل والقبائح مضافة إلى قبائحهم السابقة فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١ الى ١٣]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)
والمراد به هنا كفرهم، ومعاصيهم، ومن كفر بالله وانتهك محارمه فقد أفسد في الأرض، لأن الأرض لا تصلح إلا بالتوحيد والطاعة.
ومن أبرز معاصى هؤلاء المنافقين، ما كانوا يدعون إليه في السر من تكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإلقاء الشبه في طريق دعوته، والتحالف مع المشركين ضد المسلمين كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
وسلك القرآن هذا الأسلوب فقال: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ بالبناء للمفعول دون أن يسند الفعل إلى فاعله، لأن مصدر القول المعبر عن النهى عن الإفساد ليس مصدرا واحدا، فقد يصل آذانهم هذا النهى مرة من صريح القول. وأخرى مما كانوا يقابلون به من ناحية الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من تجهم وإعراض.
وعلق بالفعل الذي هو الإفساد قوله: فِي الْأَرْضِ إيذانا بأن الإفساد مهما ضاقت حدوده، فإنه لا بد يوما أن يتعدى الحدود إلى ما وراء ذلك فقد يعم ويشمل إذا لم يشتد في الاحتياط له، لذلك جعل ظرف إفسادهم الأرض كلها مع أنهم موجودون في بقعة محصورة هي المدينة المنورة.
ولقد حكى القرآن جوابهم على نصيحة الناصحين وما فيه من تبجح وادعاء فقال:
قالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ.
فقد بالغوا في الرد فحصروا أنفسهم أولا في الإصلاح مبالغة المفجوع الذي أذهلته المفاجأة بكشف أستار حقيقته، فتراهم لم يقتصروا على أن يقولوا: إنا مصلحون بل قالوا «إنما».
ثم أكدوا الجملة بكونها اسمية ليدلوا بذلك على أن شأنهم في الإصلاح ثابت لازم.
قال الراغب: صوروا إفسادهم بصورة الإصلاح لما في قلوبهم من المرض، كما في قوله- تعالى- أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً. وقوله: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. وقوله: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.
ولقد كذبهم الله- تعالى- تكذيبا مؤكدا في دعواهم أنهم مصلحون فقال:
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ.
فأنت ترى أن القرآن الكريم قد وضع في الرد عليهم جملة صدرها بأداة الاستفتاح إيذانا بأن
ثم أكد الجملة بعدة تأكيدات منها: وصل «ألا» «بإن» الدالة على تأكيد الخبر وتحقيقه، ومنها تأكيد الضمير بضمير منفصل حتى يتم التصاق الخبر بالمبتدأ، ومنها اسمية الجملة، ومنها إفادة قصرهم على الإفساد في مقابل تأكيدهم أنهم هم المصلحون.
ولما كان هذا الرد المؤكد عليهم يستدعى عجبا، لأنهم زعموا أنهم لا حال لهم إلا الإصلاح، مع أنهم في الحقيقة لا حال لهم إلا الإفساد، لما كان الأمر كذلك، فقد أزال القرآن هذا العجب بقوله:
وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ.
أى: أنهم ما قالوه إلا عن غباء استولى على إحساسهم، ونفى عنهم الشعور بما يصدر عنهم من الفساد، فأمسوا لا يدركون من شأن أنفسهم شيئا، ومن أسوأ ألوان الجهل أن يكون الإنسان مفسدا ولا يشعر بذلك، مع أن أثر فساده ظاهر في العيان، مرئى لكل ذي حس.
فعدم شعورهم بالفساد الواقع منهم منبئ باختلاف آلات إدراكهم، حتى صاروا يحسبون الفساد صلاحا، والشر خيرا.
وليس عدم شعورهم رافعا العقاب عنهم، لأن الجاهل لا يعذر بجهله خصوصا إذا كان جهله يزول بأدنى تأمل لوضوح الأدلة، وسطوع البراهين.
ثم بين القرآن أن الناصحين قد أمروهم بالمعروف بعد أن نهوهم عن المنكر فقال:
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ، قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ.
المراد من الناس: المؤمنون بالرسول صلّى الله عليه وسلّم الصادقون في إيمانهم.
السفهاء: جمع سفيه، وأصل السفه: الخفة والرقة والتحرك والاضطراب يقال: ثوب سفيه، إذا كان رديء النسج خفيفه، أو كان باليا رقيقا. وتسفهت الريح الشجر. أى: مالت به. وزمام سفيه: كثير الاضطراب، لمنازعة الناقة إياه، وشاع في خفة العقل وضعف الرأى.
وهو المعنى المقصود بالسفهاء في الآية. فقد كان المنافقون يصفون المسلمين بذلك فيما بينهم.
وروى أنهم كانوا يقولون: أنؤمن كما آمن سفيه بنى فلان، وسفيه بنى فلان؟! فأوحى الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا الذي كانوا يقولونه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم وصفوهم بالسفه وهم العقلاء المراجيح؟ قلت لأن المنافقين لجهلهم وإخلالهم بالنظر، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق، وأن ما عداه باطل، ومن
وقد رد الله عليهم بما يكبتهم ويفضحهم فقال:
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ لأنهم أعرضوا عن النظر في الدليل وباعوا آخرتهم بدنياهم، وهذا أقصى ما يبلغه الإنسان من سفه العقل.
وقد تضمن هذا الرد تسفيههم وتكذيبهم في دعوى سفه الصادقين في إيمانهم، فإن قوله- تعالى- أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ يفيد أن السفه مقصور عليهم فلا يتجاوزهم إلى المؤمنين، وقد تضمنت هذه الجملة من المؤكدات ما تضمنته الجملة السابقة في قوله- تعالى- أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ.
وإنما قال في الآية السابقة «ولكن لا يشعرون» وقال في هذه الآية وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ لأن الآية السابقة وصفتهم بالإفساد، وهو من المحسوسات التي تدرك بأدنى نظر فيناسبه نفى الشعور الذي هو الإدراك بالمشاعر: الحواس، أما هذه الآية فقد وصفتهم بالسفه، وهو ضعف الرأى والجهل بالأمور، وهذا لا يدركه الشخص في نفسه إلا بعد نظر وإمعان فكر. فيناسبه نفى العلم.
ثم بين القرآن ما هم عليه من سلوك ذميم، وأنهم يقابلون الناس بوجوه مختلفة فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤ الى ١٦]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته وصادفته وكان قريبا منك. والمصدر
وإذا خلوا إلى شياطينهم، أى: انفردوا مع رؤسائهم وقادتهم المشبهين الشياطين في تمردهم وعتوهم وصدهم عن سبيل الحق. يقال: خلا به وإليه ومعه، خلوا وخلاء وخلوة: سأله أن يجتمع به في خلوة ففعل وأخلاه معه.
أو المعنى: وإذا مضوا وذهبوا إلى شياطينهم، يقال: خلا بمعنى مضى وذهب، ومنه قوله تعالى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ. أى مضت.
وعبر عن حالهم مع المؤمنين بالملاقاة، وعن حالهم مع الشياطين بالخلوة إيذانا بأن هؤلاء المنافقين لا أنس لهم بالمؤمنين، ولا طمأنينة منهم إليهم فهم لا يجالسونهم ولا يسامرونهم، وإنما كل ما هنالك أن يلقوهم في عرض طريق، أما شأنهم مع شياطينهم فهم إليهم يركنون، وإليهم يتسامرون ويتحادثون، لذلك هم بهم يخلون.
والمعية في قولهم إِنَّا مَعَكُمْ، المراد منها موافقتهم في دينهم، وأكدوا ما خاطبوا به شياطينهم بحرف التأكيد، إذ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ ليزيلوا ما قد يجرى في خواطرهم من أنهم فارقوا دينهم وانقلبوا إلى دين الإسلام بقلوبهم ولم يؤكدوا ما خاطبوا به المؤمنين، إذ قالوا لهم آمَنَّا ولم يقولوا «إنا آمنا» ليوهموهم أنهم بمرتبة لا ينبغي أن يترددوا في إيمانهم حتى يحتاجوا إلى تأكيد.
وقوله- تعالى- حكاية عنهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. وارد مورد الجواب عما قد يعترض به عليهم شياطينهم إذا قالوا لهم: كيف تدعون أنكم معنا مع أنكم توافقون المؤمنين في عقيدتهم وتشاركونهم في مظاهر دينهم؟
فكان جوابهم عليهم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ والاستهزاء: السخرية والاستخفاف بالغير، يقال: هزأ منه وبه- كمنع وسمع- واستهزأ به، أى: سخر.
والمعنى: إننا نظهر للمؤمنين الموافقة على دينهم استخفافا بهم وسخرية منهم، لا أن ذلك صادر منا عن صدق وإخلاص.
ثم بين- سبحانه- موقفه منهم فقال: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ.
حمل بعض العلماء استهزاء الله بهم على الحقيقة وإن لم يكن من أسمائه المستهزئ، لأن معناه يحتقرهم على وجه شأنه أن يتعجب منه، وهذا المعنى غير مستحيل على الله، فيصح إسناده إليه- تعالى- على وجه الحقيقة.
كما في قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها.
وهذا دليل على غيرة الله على عباده المؤمنين، وانتقامه من كل من يستهزئ بهم أو يؤذيهم.
وعبر بالمضارع في قوله يَسْتَهْزِئُ للإيذان بأن احتقاره لهم، أو مجازاتهم على استهزائهم يتجدد ويقع المرة بعد الأخرى:
ثم بين- سبحانه- لونا آخر من ألوان غضبه عليهم فقال: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
المد: الإمهال والمطاولة والزيادة، من المد بمعنى الإمهال، يقال: مده في غيه- من باب رد- أمهله وطول له، ويقال: مد الجيش وأمده إذا ألحق به ما يقويه ويكثره ويزيده، وقيل:
أكثر ما يستعمل المد في المكروه، والإمداد في المحبوب، والطغيان: مجاوزة الحد، ومنه طغا الماء، أى: ارتفع.
ويعمهون: يعمون عن الرشد، أو يتحيرون ويترددون بين الإظهار والإخفاء، أو بين البقاء على الكفر وتركه إلى الإيمان. يقال: عمه- كفرح ومنع- عمها، إذا تردد وتحير، فهو عمه وعامه، وهم عمهون وعمه كركع والمعنى: أن الله تعالى يجازى هؤلاء المنافقين على استهزائهم وخداعهم، ويمكنهم من المعاصي أو يملى لهم ليزدادوا إثما. حال كونهم يعمون عن الرشد، فلا يبصرون الحق حقا ولا الباطل باطلا.
ثم بين- سبحانه- لونا من ألوان غبائهم وبلادتهم فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى.
الاشتراء: أخذ السلعة بالثمن. والمراد: أنهم استبدلوا ماكره الله من الضلالة بما أحبه من الهدى قال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
والمشار إليه ب «أولئك» هم المنافقون: الموصوفون في الآيات السابقة بالكذب والمخادعة، والإفساد في الأرض، ورمى المؤمنين بالسفاهة واستهزائهم بهم.
والسر في الإشارة إليهم والتعبير عنهم بأولئك تمييزهم وتوضيحهم بأكمل صورة وأجلى بيان.
اختيارها. واستبدالها به.
وعبرت الآية بالاشتراء على سبيل الاستعارة ليتحدد مقدار رغبتهم في الضلالة، وزهدهم في الهدى، فإن المشترى في العادة يكون شديد الرغبة فيما يشترى، رغبة تجعله شديد الزهد فيما يبذله من ثمن. فهم راغبون في الضلالة، زاهدون في الهدى.
وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى لا يقتضى أنهم كانوا على هدى من ربهم فتركوه، بل يكفى فيه أن يجعل تمكنهم من الهدى لقيام أدلته. بمنزلة الهدى الحاصل بالفعل.
ثم بين سبحانه نتيجة أخذهم الضلالة وتركهم الهدى فقال:
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ أى: أنهم لم يحصلوا من اشترائهم الضلالة بالهدى على الربح، وإذا كانت التجارة الحقيقية قد يفوت صاحبها الربح، ولكنه لا يقع في خسارة بأن يبقى له رأس ماله محفوظا، فإن التجارة المقصودة من الآية هي استبدال الضلالة بالهدى، لا يقابل الربح فيها إلا الخسران، فإذا نفى عنها الربح فذلك يعنى أنها تجارة خاسرة.
ثم قال- تعالى-: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أى: وما كانوا مهتدين إلى سبيل الرشاد وما تتجه إليه العقول الراجحة من الدين الحق، وما كانوا مهتدين إلى طرق التجارة الرابحة، فهم أولا لم يربحوا في تجارتهم بل خسروها، وهم ثانيا ذهب نور الهدى من حولهم فبقوا في ظلمة الضلال.
وما أوجع أن يجتمع على التاجر خسارته وتورطه، وما أوجع أن يجتمع عليه أن ينقطع عن غايته، وأن يكون في ظلمة تعوقه عن التبصر.
وبعد أن وصف الله تعالى حال المنافقين في الآيات السابقة، ساق مثلين لتوضيح سوء تصرفهم، وشدة حيرتهم واضطرابهم. فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
واستوقد النار: طلب وقودها بسطوع نارها واندلاع لهيبها، أو أوقدها لأن أوقد واستوقد قد يكونان بمعنى واحد كأجاب واستجاب.
والنار: جوهر لطيف حار محرق من نار ينور إذا نفر لحركتها واضطرابها، وأضاءت ما حوله: جعلت ما حوله مضيئا، أو أشرقت فيما حوله. وحول الشيء: ما يحيط به من جميع نواحيه، ولذا قيل للعام حول، للفه ودورانه حتى يعود كما كان.
والنور: الضوء الذي يكون للشيء المضيء، وهو مأخوذ من النار..
ومعنى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ سلبه منهم، وفي إسناد ذهب إلى الله تعالى- إشعار بأن النور الذي سلب عنهم لن يستطيع أحد أن يرده عليهم، لأن الذي سلبه عنهم إنما هو الله الغالب على أمره.
وقال بِنُورِهِمْ ولم يقل بنارهم، لأن إيقاد النار يكون للإضاءة وللإحراق والمقصود من إيقاد النار الواردة في المثل إنما هو الإضاءة.
وقال بِنُورِهِمْ ولم يقل بنوره، مع أن الضمير يعود على الَّذِي اسْتَوْقَدَ وهو بحسب
وأورد الظلمات بصيغة الجمع للمبالغة في شدتها، فكأنها لشدة كثافتها ظلمات بعضها فوق بعض، وأكد هذا بقوله لا يُبْصِرُونَ أى: أن هذه الظلمات بالغة في الشدة حتى أولئك المحاطين بها لا يتأتى لهم أن يبصروا، كما أن الشان كذلك بالنسبة للذين طمس على أعينهم.
وعبر- سبحانه- بقوله: وَتَرَكَهُمْ ولم يقل: ذهب بنورهم وبقوا في ظلمات، ليدل بذلك على قطع الصلة بينهم وبين ربهم، وأنهم متروكون غضبا عليهم ونكاية بهم.
هذا، وللعلماء رأيان في تطبيق هذا المثل على المنافقين، أما الرأى الأول فيرى أصحابه، أن هذا المثل قد ضرب في قوم دخلوا في الإسلام عند وصول النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ثم تحولوا بعد ذلك إلى الكفر والنفاق فيقال في تطبيق هذا المثل عليهم: إن قصة هؤلاء المنافقين الذين اكتسبوا بإيمانهم نورا، ثم أبطلوا ذلك بنفاقهم، ووقعوا في حيرة عظيمة، كقصة من استوقدوا نارا فلما أضاءت ما حولهم، سلب الله منهم الضوء فراحوا في ظلام لا يهتدون إلى الخروج منه سبيلا.
وأما الرأى الثاني فيرى أصحابه أن هذا المثل إنما ضرب في قوم لم يسبق لهم إيمان وإنما دخلوا في الإسلام من أول أمرهم نفاقا، فيقال في تطبيق هذا المثل عليهم: إن قصة هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام نفاقا، فظفروا بحقن دمائهم وبغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين، وتمتعوا بذلك في الدنيا قليلا ثم صاروا إلى ظلمات العذاب الدائم في الآخرة- قصة هؤلاء كقصة من استوقدوا نارا لتضيء لهم وينتفعوا بها، فأضاءت ما حولهم قليلا، ثم طفئت وصاروا إلى ظلمة شديدة مطبقة.
ثم قال- تعالى-: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ.
قال القرطبي: والصمم في كلام العرب: الانسداد، يقال: قناة صماء إذا لم تكن مجوفة، وصممت القارورة إذا سددتها. فالأصم من انسدت خروق مسامعه. والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم، والعمى ذهاب البصر. وليس الغرض مما ذكرناه نفى الإدراكات عن حواسهم جملة، وإنما الغرض نفيها من جهة ما «١».
والآية الكريمة خبر لضمير مقدر يعود على المنافقين، أى: هم صم بكم عمى.
ووردت هذه الصفات مجردة من حرف العطف، فلم يقل: صم وبكم وعمى، لما عرف من استعمالات البلغاء. أن تجريد أمثال هذه الأوصاف من حرف العطف يفيد تأكيدها، حيث إن المتكلم قد قصد إلى تقرير كل صفة منها على حدة.
ومعنى فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو لا يرجعون عن الضلالة بعد أن اشتروها.
والفاء في قوله- تعالى- فَهُمْ للتفريع أو التسبيب، لأنها توحى بأن عدم رجوعهم عما هم فيه من النفاق متفرع على تلك الآفات، ومسبب عن هذه العاهات.
ثم ساق- سبحانه- المثل الثاني فقال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ.
«أو» للتسوية بين الشيئين وهي مفيدة أن التمثيل بأيهما أو بمجموعهما يؤدى إلى المقصود، فهي مانعة خلو مجوزة للجمع بينهما.
و (الصيب) - كسيد- المطر، من الصوب وهو النزول. يقال: صاب صوبا، إذا نزل أو انحدر، سمى به المطر لنزوله، وفي الجملة الكريمة إيجاز بحذف ما دل عليه المقام دلالة واضحة. والتقدير: أو كمثل ذوى صيب. والمعنى أن قصة هؤلاء المنافقين مشبهة بقصة الذي استوقد نارا، أو بقصة ذوى صيب.
والسماء: كل ما علاك من سقف ونحوه، والمراد بها السحاب.
والرعد: الصوت الذي يسمع بسبب اصطدام سحابتين محملتين بشحنتين كهربيتين إحداهما موجبة والأخرى سالبة.
والبرق: هو الضوء الذي يحدث بسبب الاصطدام ذاته.
وإيراد هذه الألفاظ بصفة التنكير للتهويل، ويكون المعنى: أو أن مثل هؤلاء المنافقين كمثل قول نزل بهم المطر من السماء تصحبه ظلمات كأنها سواد الليل، ورعد يصم الآذان، وبرق يخطف الأبصار وصواعق تحرق ما تصيبه.
ثم قال- تعالى-: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ.
(ومن) في قوله- تعالى-: مِنَ الصَّواعِقِ للتعليل. وإنما كانت الصواعق داعية إلى سدهم آذانهم بأصابعهم، من جهة أنها قد تفضى بصوتها الهائل إلى الموت، وجاء هذا مصرحا به في قوله- تعالى- حَذَرَ الْمَوْتِ.
والمعنى: يسدون آذانهم من أجل الصواعق خوفا من أن تقتلهم بشدة صوتها.
ومن المعروف أن الذي يجعل في الآذان عند الفزع بعض الأصابع لا كلها، إلا أنه عبر بالأصابع مبالغة في فرط فزعهم وشدة اضطرابهم، ومسايرة للمألوف في اللغة من نسبة ما يكون لبعض الشيء إلى ذلك الشيء، حيث يكون المراد جليا واضحا. وهو مجاز مرسل من باب إطلاق الكل وإرادة البعض.
وقوله: حَذَرَ الْمَوْتِ يدل على أنهم لم يموتوا من تلك المفزعات وهذه المروعات. إمدادا في عذابهم. ومطاولة في نكالهم.
وقوله- تعالى-: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ جملة معترضة في أثناء ضرب المثل بذوي الصيب.
وإحاطته- سبحانه- بالكافرين على معنى أنهم لا مهرب لهم منه، فهو محيط بهم إحاطة تامة وهو قادر على النكال بهم متى شاء وكيف شاء.
ولم يقل محيط بهم مع تقدم مرجع الضمير وهو أصحاب الصيب، إيذانا بأنهم إنما استحقوا ذلك العذاب بكفرهم.
ثم قال- تعالى-: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ.
يكاد من الأفعال التي تدخل على اسم يسند اليه فعل بعده نحو الْبَرْقُ يَخْطَفُ. فتدل على أن المسند إليه وهو البرق قد قارب أن يقع منه الفعل وهو خطف الأبصار.
والخطف: الأخذ بسرعة. والأبصار: جمع بصر، وهو قوة مودعة في العين يدرك بها الألوان والأشكال.
والمعنى: أن البرق لشدة لمعانه يقرب من أن يخطف أبصارها، وهو تصوير بليغ لشدة ذلك البرق، وترك بيان شدة الرعد اكتفاء بما ذكره في جانب البرق، ولم يذكر توقيهم للأعين بوضع شيء عليها اكتفاء بما ذكره في توقى الآذان أو لأنهم شغلوا بالآذان عن الأعين.
وقوله- تعالى-: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وصف رائع لما يصنعه
وكل ظرف، وما مصدرية ولاتصالها بكل أفادت الشرط والعامل فيها هو جوابها وهو مَشَوْا وأَضاءَ بمعنى لمع، وأَظْلَمَ من الإظلام وهو اختفاء النور. وقامُوا أى وقفوا وثبتوا في مكانهم. من قام الماء إذا جمد. ويقال: قامت الدابة إذا وقفت.
والمعنى: أنهم إذا صادفوا من البرق وميضا انتهزوا ذلك الوميض فرصة، فخطوا خطوات يسيرة، وإذا خفى لمعانه وقفوا في مكانهم، فالجملة الكريمة تدل على فرط حرصهم على النجاة من شدة ما هم فيه من أهوال.
ثم قال- تعالى-: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ.
لو: أداة شرط، وشاء بمعنى أراد. أى: لو أراد الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لزاد في قصف الرعد فأصمهم، وفي ضوء البرق فأعماهم. أو يقال: إن قصف الرعد ولمعان البرق المذكورين في المثل سببان كافيان لأن يذهبا بسمع ذوى الصيب وأبصارهم لو شاء الله ذلك.
فيكون قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ، إشعارا بأن تأثير الأسباب في مسبباتها إنما هو بإرادته- تعالى-.
وخص السمع والبصر بالذهاب مع أنها من جملة مشاعرهم، لأهمّيّتها. ولأنها هي التي سبق ذكرها، أو من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، لأنه إذا كان قادرا على إذهاب ما حافظوا عليه، كان قادرا على غيره من باب أولى.
ثم ختم الآية بقوله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الشيء في أصل اللغة كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، ويحمل في هذه الآية على الممكن خاصة موجودا كأن أو معدوما، لأن القدرة إنما تتعلق بالممكنات دون الواجب والمستحيل.
والقدير: الفعال لما يريد، يقال: قدره على الشيء أقدره قدرة وقدرا.
وهذه الجملة الكريمة بمنزلة الاستدلال على ما تضمنته الجملة السابقة من أن الله تعالى قادر على أن يذهب بأسماع أصحاب الصيب وأبصارهم متى شاء.
وتطبيق هذا المثل على المنافقين يقال فيه: إن أصحاب الصيب لضعفهم وخورهم لا يطيقون سماع الرعد الهائل، ولا يستطيعون فتح أعينهم في البرق اللامع، فيجعلون أصابعهم في آذانهم فزعا من قصف الرعد، وخوفا من صواعق تجلجل فوق رءوسهم فتدعهم حصيدا خامدين، وكذلك حال هؤلاء المنافقين فإنهم لضعف بصائرهم، وانطماس عقولهم، تشتد عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه، فتشمئز قلوبهم ويصرفون عنه أسماعهم
قال ابن كثير: «وذهب ابن جرير ومن تبعه من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين، وتكون «أو» في قوله تعالى أَوْ كَصَيِّبٍ بمعنى الواو، كقوله تعالى «ولا تطع منهم آثما أو كفورا» أو تكون للتخيير، أى، اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا، أو للتساوى مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين. قلت: وهذا يكون باعتبار أجناس المنافقين، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة بقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي. وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ. إلخ. فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم «١».»
هذا، ويرى فضيلة المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز. أن المثلين لطائفتى الكافرين والمنافقين، فالمثل الأول وهو قوله تعالى «مثلهم كمثل الذين استوقد نارا» ينطبق تمام الانطباق على الأوصاف التي ذكرها الله للكافرين وأن الذي ينطبق على صفات المنافقين إنما هو المثل الثاني وحده وهو قوله تعالى أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ.. فقد ضرب الله لكلتا الطائفتين مثلا يناسبها.
قال فضيلته: فضرب مثلا للمصرّين المختوم على قلوبهم بقوم كانوا يسيرون في ظلام الليل فيهم رجل استوقد لهم نارا يهتدون بضوئها، فلما أضاءت ما حوله لم يفتح بعض القوم أعينهم لهذا الضوء الباهر، بل لأمر ما سلبوا نور أبصارهم، وتعطلت سائر حواسهم عند هذه المفاجأة، فذلك مثل النور الذي طلع به محمد صلّى الله عليه وسلّم في تلك الأمة على فترة من الرسل، فتفتحت له البصائر المستنيرة هنا وهناك، لكنه لم يوافق أهواء المستكبرين الذين ألفوا العيش في ظلام الجاهلية، فلم يرفعوا له رأسا بل نكسوا على رؤسهم، ولم يفتحوا له عينا بل خروا عليه صما وعميانا.
وضرب مثلا للمترددين المخادعين بقوم جاءتهم السماء بغيث منهمر في ليلة ذات رعد وبرق، فأما الغيث فلم يلقوا له بالا ولم ينالوا منه نيلا، فلا شربوا منه قطرة، ولا استنبتوا به ثمرة.. وأما تلك التقلبات الجوية من الظلمات والرعد والبرق فكانت هي مثار اهتمامهم، ومناط تفكيرهم، ولذلك جعلوا يترصدونها، ويدبرون أمورهم على وفقها، لابسين لكل حال لبوسها: سيرا تارة، ووقوفا تارة، واختفاء تارة أخرى.
فكانوا إذا رأوا عرضا قريبا وسفرا قاصدا وبرقت لهم (بروق) الأمل في الغنيمة ساروا مع
ذلك دأب المنافقين في كل أمرهم، إن توقعوا ربحا عاجلا التمسوه في أى صف وجدوه، وإن توقعوا أذى كذلك تنكروا للفئة التي ينالهم في سبيلها شيء مكروه وإذا أظلم عليهم الأمر قاموا بعيدا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء أما الذي يؤمن بالله واليوم الآخر فإن له قبلة واحدة يولى وجهه شطرها، هي قبلة الحق لا يخشى فيها لومة لائم:
وليس يبالى حين يقتل مسلما | على أى جنب كان في الله مصرعه «١». |
وبعد أن بينت السورة الكريمة أقسام الناس الثلاثة، وعاقبة كل قسم منهم، ساقت لهم نداء عاما دعتهم فيه إلى عبادة الله وحده، قال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
و «يا» حرف نداء وهو أكثر حروف النداء استعمالا، فهو أصل حروف النداء.
و «أى» اسم مبهم لكن يزول إبهامه بالاسم المقصود بالنداء الذي يأتى بعده.
و «ها» المتصلة به مؤكدة للتنبيه المستفاد من النداء.
و «العبادة» الخضوع البالغ الغاية.
وقد كثر النداء في القرآن الكريم بهذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيرا ما يقتضيه المقام.
وفي ذكره تعالى باسم الرب، وإضافته إلى المخاطبين، تقوية لداعية إقبالهم على عبادته.
فإن الإنسان إذا اتجه بفكره إلى معنى كون الله مالكا له، أو مربيا له وتذكر ما يحفه به من رفق، وما يجود به عليه من إنعام، لم يلبث أن يخصه بأقصى ما يستطيع من الخضوع والخشوع والإجلال.
وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى، إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإفراد والإضافة إلى جميع الناس إلا الله.
ثم بين- سبحانه- الموجبات التي من شأنها أن تحملهم على عبادته وحده فقال «الذي خلقكم والذين من قبلكم».
والخلق: أصله الإيجاد على تقدير وتسوية، ويطلق في القرآن وفي عرف الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة، فهو إخراجها من العدم إلى الوجود إخراجا لا صنعة فيه للبشر.
والمعنى: اجعلوا أيها الناس عبادتكم لله تعالى وحده، لأنه هو الذي أوجدكم في أحسن تقويم بعد أن كنتم في عدم، كما أوجد الذين تقدموكم.
وقدم وصفه بخلق المخاطبين مع أنه متأخر بالزمان عن خلق من تقدموهم، لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فيه رد على الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم إنما خلقهم آباؤهم فقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر.
فكان قوله: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ تذكيرا لهم بأن آباءهم الأولين لا بد أن ينتهوا إلى أب أول قد خلقه الله تعالى.
و «لعل» حرف موضوع ليدل على الترجي، وهو توقع حصول الشيء عند ما يحصل سيبه وتنتفى موانعه. والشيء المتوقع حصوله في الآية هو التقوى وسببه العبادة، إذ بالعبادة يستعد الإنسان لأن يبلغ درجة التقوى وهي الفوز بالهدى والفلاح، والترجي قد يكون من جهة المتكلم وهو الشائع وقد تستعمل لعل في الكلام على أن يكون الترجي مصروفا للمخاطب، فيكون المترجى هو المخاطب لا المتكلم، وعلى هذا الوجه يحمل الترجي في هذه الآية، لاستحالة توقع حصول الشيء من عالم الغيب والشهادة، لأن توقع الإنسان لحصول الشيء هو أن يكون مترددا بين الوقوع وعدمه مع رجحان الوقوع، وعليه فيكون المعنى: اعبدوا ربكم راجين أن تكونوا من المتقين، الذين بلغوا الغاية في الهدى والفلاح.
ثم أضاف- سبحانه- أسبابا أخرى تحمل الناس على عبادته وطاعته فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً.
الفراش: ما يفترشه الإنسان ليستقر عليه بنحو الجلوس أو المنام. أى: اجعلوا عبادتكم لله الذي صير الأرض لأجلكم مهادا كالبساط المفروش، فذللها لكم ولم يجعلها صعبة غليظة، لكي يتهيأ لكم الاستقرار عليها. والتقلب في مناكبها، والانتفاع بما أودع الله في باطنها من خيرات.
وتصوير الأرض بصورة الفراش لا ينافي كونها كروية، لأن الكرة إذا عظمت جدا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الانتفاع بها.
وَالسَّماءَ بِناءً يقال لسقف البيت بناء أى: جعل السماء كالسقف للأرض، لأنها تظهر كالقبة المضروبة فوقها كما قال- تعالى- وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ.
وقدم خلق الأرض على خلق السماء لأن الأرض أقرب إلى المخاطبين، وانتفاعهم بها أظهر وأكثر من انتفاعهم بالسماء.
قال بعض الأدباء: «إذا تأملت هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منورة كالمصابيح، والإنسان كما لك البيت المتصرف فيه وضروب النبات مهيأة لمنافعه، وضروب الحياة مصروفة لمصالحه «فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل، وتقدير شامل، وحكمة بالغة، وقدرة غير متناهية».
السماء: السحاب. والثمرات: ما ينتجه الشجر. والرزق: ما يصلح لأن ينتفع به. والباء في. (به) للسببية.
أى: أنه جعل الماء سببا في خروج الثمرة، وهو القادر على أن ينشئها بلا سبب كما أنشأ الأسباب.
وأورد ماءً ورِزْقاً في صيغة التنكير التي تستعمل عند إرادة بعض أفراد المعنى الذي وضع له اللفظ لغة، وذلك لأن من الماء ما لم ينزل من السماء، ومن الرزق ما لا يكون من الثمرات. فمعنى الجملة الكريمة: أنزل من السماء بعض الماء، فأخرج به من الثمرات بعض ما يكون رزقا لكم.
ثم قال- تعالى- فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
الأنداد: جمع ند، وهو مثل الشيء الذي يضاده وينافره ويتباعد عنه.
وأصله من: ند البعير يند ندا وندادا وندا، إذا تفرد وذهب على وجهه شاردا.
والمعنى: فلا تجعلوا لله أمثالا ونظراء تعبدونها وتسمونها آلهة، وتعتقدون فيها النفع والضر، وتجعلون لها ما لله تعالى وحده، وأنتم تعلمون أنها أشياء لا يصح جعلها أندادا مساوية له تعالى وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أى: وأنتم من ذوى العلم والنظر، فلو تأملتم أدنى تأمل لانصرفتم بقوة إلى عبادة الله وحده. ولتركتم الإشراك به.
وصدرت الجملة الكريمة بالفاء لترتبها على الكلام السابق، المترتب على الأمر بعبادة الله وحده.
وسمى القرآن الشركاء المزعومين أندادا تهكما بالعابدين لها، ولأن المشركين لما تركوا عبادة الله إلى عبادة الأوثان، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة، قادرة على مخالفته ومضادته، وذلك معنى جعلها أندادا الذي هو مصب النهى في الآية.
وجملة (وأنتم تعلمون)، حالية، ومفعول تعلمون متروك، لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول، بل قصد إثباته لفاعله فقط فنزل منزلة اللازم، وفي هذه الجملة مبالغة في زجرهم عن عبادة الأوثان من دون الله، لأن ارتكاب الباطل من الجاهل قبيح، وهو من العالم ببطلانه أشد قبحا، وأدعى إلى أن يقابل بأغلظ ألوان الإنكار. كما أن فيها إثارة لهممهم ليقلعوا عن عبادة غير الله، فإن من كان من ذوى العلم لا يصح منه أن يفعل أفعال من لا عقل له، وهذا لون جليل من ألوان التربية، فإن من سمات المربى الناجح أن يجمع بين القسوة في النهى عن القبيح، وبين إثارة همة الموعوظ حتى لا يقتل همته باليأس، لأن الإنسان إذا ساءت ظنونه بنفسه
هذا، وقد استفاضت الأحاديث النبوية التي تدعو إلى توحيد الله، وتنهى عن الإشراك، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله أى الذنب أعظم عند الله؟ (قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك).
قال الإمام ابن كثير: وهذه الآية دالة على توحيده- تعالى- بالعبادة وحده لا شريك له، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب وقد سئل:
ما الدليل على وجود الله- تعالى-؟ فقال: يا سبحان الله!! إن البعر ليدل على البعير وإن أثر القدم يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل هذا على وجود اللطيف الخبير) «١».
وبعد أن ساق- سبحانه- في هاتين الآيتين البراهين الساطعة الدالة على وحدانية الله ونفى عقيدة الشرك، أورد بعد ذلك الدلائل الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يبلغه عن ربه، وعلى أن هذا القرآن ليس من صنع بشر، وإنما هو كلام واهب القوى والقدر فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)
ففي هاتين الآيتين انتقال لإثبات الجزء الثاني من جزأى الإيمان، وهو صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم في رسالته، بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك وهو وحدانية الله- تعالى- وعظيم قدرته.
والمعنى: إن رتبتم أيها المشركون في شأن هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد على مهل وتدريج، فأتوا أنتم بسورة من مثله في سمو الرتبة، وعلو الطبقة واستعينوا على ذلك بآلهتكم وبكل من تتوقعون منهم العون، ليساعدوكم في مهمتكم، أو ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بما يماثله، إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم تقدرون على معارضة القرآن الكريم.
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا | نفى الريب عن المنزل عليه وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم بنفيه عن المنزل وهو القرآن الكريم. |
وعبر بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ولم يقل: وإن ارتبتم فيما نزلنا، للإشارة إلى أن ذات القرآن لا يتطرق إليها ريب، ولا يطير إلى أفقها شرارة من شك، وأنه إن أثير حوله أى شك فمرجعه إلى انطماس بصيرتهم، وضعف تفكيرهم، واستيلاء الحقد والعناد على نفوسهم.
وأتى بإن المفيدة للشك مع أن كونهم في ريب مما نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر محقق، تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك فيه، وتنزيها لساحة القرآن عن أن يتحقق الشك فيه من أى أحد، وتوبيخا لهم على وضعهم الأمور في غير مواضعها.
ووجه الإتيان بفي الدالة على الظرفية، للإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف.
وقال نَزَّلْنا دون أنزلنا، لأن المراد النزول على سبيل التدريج، ومن المعروف أن القرآن قد نزل منجما في مدة تزيد على عشرين سنة.
قال صاحب الكشاف: (فإن قلت: لم قيل: (مما نزلنا) على لفظ التنزيل دون الإنزال؟
قلت: لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم وذلك أنهم كانوا يقولون: لو كان هذا القرآن من عند الله، لم ينزل هكذا نجوما سورة بعد سورة، وآيات عقب آيات، على حسب النوازل، وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقا حينا فحينا حسب ما يعن لهم من الأحوال المتجددة... فقيل لهم: إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه، وهاتوا نجما فردا من نجومه: سورة من أصغر السور، أو آيات شتى مفترقات، وهذا غاية التبكيت ومنتهى إزاحة العلل) «١» اهـ ملخصا.
والمراد بالعبد في قوله- تعالى-: عَلى عَبْدِنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وفي إضافته إلى الله- تعالى- تنبيه على شرف منزلته عنده، واختصاصه به.
وفي ذكره صلّى الله عليه وسلّم باسم العبودية، تذكير لأمته بهذا المعنى، حتى لا يغالوا في تعظيمه فيدعوا
والسورة: الطائفة من القرآن المسماة باسم خاص، والتي أقلها ثلاث آيات، والضمير في قوله (من مثله) يعود على المنزل وهو القرآن.
والمراد من مثل القرآن: ما يشابهه في حسن النظم، وبراعة الأسلوب وحكمة المعنى. وهذا الوجه من الإعجاز يتحقق في كل سورة.
وقيل: إن الضمير في قوله (من مثله) يعود على المنزل عليه القرآن، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم ولكن الرأى الأول أرجح.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: وعود الضمير إلى القرآن أرجح لوجوه:
أحدها: أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في باب التحدي لا سيما ما ذكره في سورة يونس من قوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ...
وثانيها: أن البحث إنما وقع في المنزل وهو القرآن، لأنه قال: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا.. فوجب صرف الضمير إليه، ألا ترى أن المعنى، وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم شيئا مما يماثله، وقضية الترتيب لو كان الضمير مردودا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقال: وإن ارتبتم في أن محمدا منزل عليه فهاتوا قرآنا مثله.
وثالثها: أن الضمير لو كان عائدا إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزين عن الإتيان بمثله سواء اجتمعوا أو انفردوا وسواء كانوا أميين أو عالمين، أما لو كان عائدا إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فذلك لا يقتضى إلا كون آحادهم من الأميين عاجزين عنه، لأنه لا يكون مثل محمد إلا الشخص الأمى، فأما لو اجتمعوا وكانوا قارئين لم يكونوا مثل محمد، لأن الجماعة لا تماثل الواحد. والقارئ لا يكون مثل الأمى، ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى.
ورابعها: أننا لو صرفنا الضمير إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم لكان ذلك يوهم أن صدور مثل القرآن مما لم يكن مثل محمد في كونه أميا ممكن، ولو صرفناه إلى القرآن لدل ذلك على أن صدور مثله من الأمى ومن غير الأمى ممتنع فكان هذا أولى) «١».
وقوله- تعالى-: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ معطوف على قوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ.
وادعوا: من الدعاء، والمراد به هنا: طلب حضور المدعو أى: نادوهم.
وشهداءكم: أى: آلهتكم، جمع شهيد وهو القائم بالشهادة، فقد كانوا يزعمون أن آلهتهم
ودون: بمعنى غير: وتطلق في أصل اللغة على أدنى مكان من الشيء، ومنه تدوين الكتب لأنه إدناء البعض من البعض، ودونك هذا أى: خذه من أدنى مكان منك، ثم استعير للتفاوت في الرتب فقيل: زيد دون عمرو أى: في الشرف، ومنه الشيء الدون، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد، وتخطى أمر إلى أمر.
قال الجمل: (والمعنى) : وادعوا إلى المعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وآلهتكم غير الله، فإنه لا يقدر على أن يأتى بمثله إلا الله.. ، أو ادعوا من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم به مثله، ولا تستشهدوا بالله، فإن الاستشهاد به من عادة المبهوت العاجز عن إقامة الحجة، أو شهداءكم الذين اتخذتموهم من دون الله آلهة وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة «١»... ).
وفي أمرهم بدعوة أصنامهم وهي جماد، وفي تسميتها شهداء مع إضافتها إليهم مع أنها لا تعقل ولا تنطق، في كل ذلك أقوى ألوان التهكم، لكي يثير في نفوسهم من الألم ما قد يكون سببا لتنبيههم إلى جهلهم، وانصرافهم عن ضلالهم.
وقوله- تعالى-: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جملة معترضة في آخر الكلام وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام السابق دلالة واضحة حتى صار ذكره في نظم الكلام مما ينزل به عن مرتبة البلاغة.
والمعنى: إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم تقدرون على معارضة القرآن فأتوا بسورة من مثله. وادعوا آلهتكم وبلغاءكم وجميع البشر ليعينوكم أو ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بما يماثله في حكمة معانيه وحسن بيانه.
وفي هذه الآية الكريمة إثارة لحماستهم، إذ عرض بعدم صدقهم، فتتوفر دواعيهم على المعارضة التي زعموا أنهم أهل لها.
ثم قال- تعالى-: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ.
المعنى: فإن لم تفعلوا أى: تعارضوا القرآن، وتبين لكم أن أحدا لا يستطيع معارضته، فخافوا العذاب الذي أعده الله للجاحدين وهو النار التي وقودها الناس والحجارة».
والوقود: ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، والحجارة: الأصنام التي كانوا
واقتران المشركين بما كانوا يعبدون في النار مبالغة في إيلامهم وتحسيرهم والاقتصار على ذكر الناس والحجارة لا يؤخذ منه أن ليس في النار غيرهما بدليل ما ذكر في مواضع أخرى من القرآن أن الجن والشياطين يدخلونها.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: انتفاء إتيانهم بالسورة واجب فهلا جيء ب «إذا» الذي للوجوب دون «ان» الذي للشك؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم، وأن العجز عن المعارضة كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام.
والثاني: أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يعاديه:
إن غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه ويتيقنه تهكما به «١».
وقال: فإن لم تفعلوا، ولم يقل فإن لم تأتوا بسورة من مثله، لأن قوله فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا جار مجرى الكناية التي تعطى اختصارا ووجازة تغنى عن طول المكنى عنه، ولأن الإتيان ما هو إلا فعل من الأفعال، تقول: أتيت فلانا. فيقال لك: نعم ما فعلت.
وجملة وَلَنْ تَفْعَلُوا جملة معترضة بين الشرط والجزاء، جيء بها لتأكيد عجزهم عن معارضته. فإن في نفيها في المستقبل بإطلاق تأكيدا لنفيها في الحال.
قال الإمام الرازي: (فإن قيل: فما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ فالجواب أنه إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار، فاتقاء النار يوجب ترك العناد، فأقيم المؤثر مقام الأثر، وجعل قوله: فَاتَّقُوا النَّارَ قائما مقام قوله فاتركوا العناد، وهذا هو الإيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة، وفيه تهويل لشأن العناد، لإنابة اتقاء النار منابه متبعا ذلك بتهويل صفة النار) «٢».
ومعنى أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ هيئت لهم، لأنهم الذين يخلدون فيها، أو أنهم خصوا بها وإن كانت معدة للفاسقين- أيضا لأنه يريد بذلك نارا مخصوصة لا يدخلها غيرهم كما قال- تعالى- إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٢٢٤.
قال صاحب الكشاف: (فإن قلت: من أين لك أنه إخبار بالغيب على ما هو عليه حتى يكون معجزة؟ قلت: لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه، إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال، لا سيما والطاعنون فيه أكثف عددا من الذابين عنه، فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيب على ما هو به، فكان معجزة) «١».
وقال بعض العلماء: (هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدى الكافرين بالتنزيل الكريم). وقد تحداهم الله في غير موضع منه فقال في سورة القصص:
قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وقال في سورة الإسراء: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً وقال في سورة يونس: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وكل هذه الآيات مكية.
ثم تحداهم أيضا في المدينة بهذه الآية وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ.. إلخ. فعجزوا عن آخرهم، وهم فرسان الكلام، وأرباب النظام، وقد خصوا من البلاغة والحكم ما لم يخص به غيرهم من الأمم، جعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة وفيهم غريزة وقوة. يأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى كل سبب، فيخطبون، ويمدحون، ويقدحون، ويتوسلون، ويتوصلون، ويرفعون، ويضعون، فيأتون بالسحر الحلال... ومع هذا فلم يتصد لمعارضة القرآن منهم أحد، ولم ينهض- لمقدار سورة منه- ناهض من بلغائهم، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإفراط في المضارة والمضادة. وقد جرد لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم الحجة أولا، والسيف آخرا فلم يعارضوا إلا السيف وحده، وما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أنهم أعجز من المعارضة، وبذلك يظهر أن في قوله- تعالى- وَلَنْ تَفْعَلُوا معجزة أخرى، فإنهم ما فعلوا، وما قدروا....
وحيث عجز عرب ذلك العصر فما سواهم أعجز في هذا الأمر.... فدل على أن القرآن ليس من كلام البشر، بل هو كلام خالق القوى والقدر أنزله تصديقا لرسوله، وتحقيقا لمقوله «٢»...
وبعد أن ذكر القرآن الكفار ومآلهم، عطف على ذلك ذكر المؤمنين وما يفوزون به من نعيم
(٢) تفسير القاسمى ج ٢ ص ٧٧.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
البشارة: الخبر السار فهو أخص من الخبر، سمى بذلك لأن أثره يظهر على البشرة وهي ظاهر جلد الإنسان، والمأمور بالتبشير هو النبي صلّى الله عليه وسلّم أو كل من يتأتى منه تفخيما لأمره، وتعظيما لشأنه.
والصالحات: جمع صالحة وهي الفعلة الحسنة، وهي من الصفات التي جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل.
والجنات: جمع جنة، وهي كل بستان ذي شجر متكاثف، ملتف الأغصان، يظل ما تحته ويستره، من الجن وهو ستر الشيء عن الحاسة، ثم صارت الجنة اسما شرعيا لدار النعيم في الآخرة، وهي سبع درجات:
جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعليون | وتتفاوت منازل المؤمنين في كل درجة بتفاوت الأعمال الصالحة. |
وأسند إليه الجري في الآية مع أن الذي يجرى في الحقيقة هو الماء، أخذا بفن معروف بين البلغاء، وهو إسناد الفعل إلى مكانه، توسعا في أساليب البيان.
وقوله: «من تحتها» وارد على طريقة الإيجاز بحذف كلمة «أشجار» اعتمادا على تبادرها إلى الذهن، والمعنى: تجرى من تحت أشجارها الأنهار. ثم بين- سبحانه- أحوال هؤلاء المؤمنين الصالحين فقال:
كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً. قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ.
وفي هذا إشارة إلى أن ثمار الجنة متماثلة في حسن منظرها، ولذة طعمها بحيث لا تفضل ثمرة في ذلك على أخرى، فجميع ثمرها يسر له القلب، ويستحليه الذوق، وإن اختلفت المناظر والطعوم.
ثم قال- تعالى- وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً أى: يشبه بعضه بعضا في الصورة والرائحة، ويختلف في اللذة والطعم، أو في المزية والحسن، وعن ابن عباس: «ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامى» وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها في معنى أن كل ثمر يشابه ما قبله في حسن المنظر ولذة الطعم مشابهة لا يفضل فيها ثمر على آخر بخلاف ثمر الدنيا، فإنه يتفاوت في مناظره حسنا، وفي طعومه لذة.
ويرى بعض العلماء حمل قوله- تعالى-: قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ على تقدير: من قبل دخول الجنة، أى هذا الذي رزقناه في الدنيا، وإلى هذا الرأى مال صاحب الكشاف فقد قال: «فإن قلت: كيف قيل. «هذا الذي رزقنا من قبل؟ وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في الدنيا؟ قلت: معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل وشبهه، بدليل قوله: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: وَأُتُوا بِهِ؟ قلت:
إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعا، لأن قوله: «هذا الذي رزقنا من قبل» انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين. فإن قلت: لأى غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة؟ قلت: لأن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عن طبعه، وعافته نفسه «١» ».
ثم قال- تعالى-: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ.
الأزواج: جمع زوج وهي المرأة يختص بها الرجل، والضمير في «فيها» يعود إلى الجنات.
والمعنى: أن لهؤلاء المؤمنين نساء مختصات بهم، مطهرات غاية التطهير من كل دنس وقذر، حسى ومعنوي، لا كنساء الدنيا، وهم في هذه الجنات باقون على الدوام، لأن النعيم إنما يتم باطمئنان صاحبه على أنه دائم، أما إذا كان محتملا للزوال فإن صاحبه يبقى منغص البال، إذ سيتذكر أنه سيفقده في يوم من الأيام، فجملة «وهم فيها خالدون» جيء بها على سبيل الاحتراس من وهم الانقطاع.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)
روى الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس أن الله- تعالى- لما أنزل قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ وقوله- تعالى-: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً.
لما نزل قال المشركون: أرأيتم أى شيء يصنع بهذا؟! فأنزل الله إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها...
وروى عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بهما المثل ضحك اليهود وقالوا: ما يشبه أن يكون هذا من كلام الله! فأنزل الله هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي. إلخ.
وقال السدى: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين، يعنى قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً.. وقوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال! فأنزل الله هذه الآية.
والاستحياء والحياء واحد، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأجر واستجاب.
وهو في أصل اللغة انقباض النفس وانكسارها من خوف ما يعاب به ويذم. وهذا المعنى غير لائق بجلال الله، لذا ذهب جمع من المفسرين إلى تأويله بإرادة لازمة، وهو ترك ضرب الأمثال بها.
والمعنى: إن الله لا يترك أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها، وإطلاق الفعل كالاستحياء على ما يترتب عليه كترك الفعل، مألوف في الكلام البليغ حيث يكون المراد واضحا.
ومذهب السلف: إمرار هذا وأمثاله على ما ورد، وتفويض علم كنهه وكيفيته إلى الله- تعالى- مع وجوب تنزيهه عما لا يليق بجلاله من صفات المحدثات.
أى: ليس الحياء بمانع لله- تعالى- من ضرب الأمثال بهذه المخلوقات الصغيرة في نظركم كالبعوض والذباب والعنكبوت، فإن فيها من دلائل القدرة، وبدائع الصنعة ما تحار فيه العقول، ويشهد بحكمة الخالق.
والمثل في اللغة: الشبيه. وهو في عرف القرآن: الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع، كالمثلين السابقين اللذين ضربهما الله في حال المنافقين أو وصف غريب نحو قوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ».
وضرب المثل: إيراده، وعبر عن إيراده بالضرب، لشدة ما يحدث عنه من التأثير في نفس السامع.
و (ما) في قوله (مثلا ما) هي ما الإبهامية، تجيء بعد النكرة فتزيدها شيوعا وعموما، كقولك: أعطنى كتابا ما، أى كتاب كان.
والبعوضة واحدة البعوض وهي حشرة صغيرة تطلق على الناموس وهي بدل أو بيان من قوله (مثلا).
وقوله: فَما فَوْقَها عطف على بعوضة، والمراد فما فوقها في الحجم كالذباب والعنكبوت، والكلب والحمار، أو فما فوقها في المعنى الذي وقع التمثيل فيه، وهو الصغر والحقارة كجناحها أو كالذرة.
قال صاحب الكشاف: سيقت هذه الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد
أحدهما: فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة نحو قولك لمن يقول: فلان أسفل الناس وأنذلهم، هو فوق ذلك، تريد هو أعرق فيما وصف من السفالة والنذالة.
والثاني: فيما زاد عليها في الحجم كأنه قصد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة «١».
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك موقف الناس أمام هذه الأمثال فقال:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ.
أما حرف مفيد للشرط والتفصيل والتأكيد، أما الشرط فلوقوع الفاء في جوابها، وأما التفصيل فلوقوعها بعد مجمل مذكور أو مقدر، وأما التأكيد فلأنك إذا قلت: زيد ذاهب، ثم قصدت تأكيد ذلك وإفادة أن ذهابه واقع لا محالة قلت: أما زيد فذاهب.
ولضمير في قوله (أنه) يعود على المثل، أو على ضربه المفهوم من قوله: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا.
والحق: خلاف الباطن، وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره.
ووجه كون المثل أو ضربه حقا، أنه يوضح المبهم، ويفصل المجمل، فهو وسيلة إلى تقرير الحقائق وبيانها.
ووجه تفصيل الناس في هذه الآية إلى قسمين، أنهم بالنسبة إلى التشريع والتنزيل كذلك، فهم مؤمن أو كافر.
والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم، وتيئيس الذين أرادوا تشكيكهم ببيان أن إيمانهم يحول بينهم وبين الشك.
وعبر في جانب المؤمنين بيعلمون تعريضا بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عنادا ومكابرة، وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز.
ومن المعروف في علم البيان أن الخبر قد يؤتى به معرفا بأل، للدلالة على أن المخبر عنه بالغ في الوصف الذي أخبر به عنه مرتبة الكمال.
وقوله: مِنْ رَبِّهِمْ حال من الحق، ومن ابتدائية، أى: إن هذا الكلام وارد من الله، لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب، فهو مؤذن بأنه من كلام الخالق الذي لا يقع منه الخطأ.
ثم بين- سبحانه- موقف الكافرين من هذه الأمثال عند ما تتلى عليهم فقال:
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا.
كلمة (ماذا) مركبة من ما الاستفهامية وذا اسم الإشارة، غير أن العرب توسعوا فيها فاستعملوها اسم استفهام مركبا من كلمتين، وذلك حيث يكون المشار إليه معبرا عنه بلفظ آخر غير الإشارة، حتى تصير الإشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد نحو: ماذا التواني؟ أو حيث لا يكون للإشارة موقع كقوله تعالى: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وقد يتوسعون فيها توسعا أقوى فيجعلون ذا اسم موصول، وذلك حين يكون المسئول عنه معروفا للمخاطب بشيء من أحواله، فلذلك يجرون عليه جملة أو نحوها هي صلة ويجعلون ذا موصولا نحو ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ونحو ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، أى: ما الذي أراده الله بهذا المثل.
والإرادة في أصل اللغة: نزوع النفس إلى الفعل، وإذا أسندت إلى الله دلت على صفة له تتعلق بالممكنات، فيترجح بها أحد وجهى المقدور، وقد كان جائز الوقوع وعدم الوقوع.
وقوله: مَثَلًا واقع في موقع التمييز لاسم الإشارة «هذا» كقولك لمن أجاب بجواب غير مقبول: ماذا أردت بهذا جوابا؟
والاستفهام الذي حكاه القرآن على ألسنة هؤلاء الكافرين، المقصود به الإنكار والتحقير لهذه الأمثال، ولأن يكون الله- تعالى- قد ضربها للناس.
والمعنى: فأما المؤمنون الذين من عادتهم الإنصاف، والنظر في الأمور بنظر العقل واليقين، فإنهم إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمر الشبهة بساحته، وأما الكافرون فإنهم لانطماس بصيرتهم، وتغلب الأحقاد على قلوبهم فإنهم إذا سمعوا ذلك عاندوا وكابروا وقابلوه بالإنكار.
فقد دلت هاتان الجملتان على أن العلم بكون المثل حقا، مما يزداد به المؤمنون رشدا على رشدهم، وأن إنكاره ضلال يزداد به الكافرون تخبطا في ظلمات جهلهم.
ووصف كلا من فريقى المؤمنين والمنكرين له بالكثرة مع أن المهديين وصفوا بالقلة كثيرا كما في قوله: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ، وذلك لأن أهل الهدى كثيرون في أنفسهم، وإذا وصفوا بالقلة فبالقياس إلى أهل الضلال، وأيضا فإن القليل من أهل الهدى كثير في الحقيقة، وإن قلوا في الصورة، فوصفوا بالكثرة ذهابا إلى هذه الحقيقة.
وقدم الإضلال على الهداية، ليكون أول ما يقرع أسماع المبطلين عن الجواب أمرا فظيعا يسوءهم ويفت في أعضادهم.
ثم ختمت الآية بقوله- تعالى-: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ.
الفاسقون: جمع فاسق، من الفسق، وهو في أصل اللغة: الخروج.
يقال: فسقت الرطبة من قشرها. أى: خرجت منه، وشرعا: الخروج عن طاعة الله، فيشمل الخروج من حدود الإيمان، وهو الكفر، ثم ما دون الكفر من الكبائر والصغائر، ولكنه اختص في العرف بارتكاب الكبيرة، ولم يسمع الفسق في كلام الجاهلية، بمعنى الخروج عن الطاعة فهو بهذا المعنى من الألفاظ الإسلامية.
وقصر الإضلال بالمثل على الفاسقين، إيذان بأن الفسق هو الذي أعدهم لأن يضلوا به، حيث إن كفرهم قد صرف أنظارهم عن التدبر فيه حتى أنكروه وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا.
ثم وصف الله- تعالى- هؤلاء الفاسقين بثلاث خصال ذميمة فقال: في بيان الخصلة الأولى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ.
والنقض: في اللغة حقيقة في فسخ وحل ما ركب ووصل، بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب مثل نقض الحبل المفتول وقد استعمل هنا مجازا في إبطال العهد بقرينة إضافته إلى عهد الله.
وعبر عن إبطال العهد بالنقض، لأنه أبلغ في الدلالة على الإبطال من القطع والصرم ونحوهما، لأن في النقض إفسادا لهيئة الحبل.
والعهد: اسم للموثق الذي يلزم مراعاته وحفظه، يقال: عهد إليه في كذا، إذا أوصاه به ووثقه عليه.
والميثاق: التوثقة، وهي التقوية والتثبيت، والمراد به: ما قوى الله به عهده.
وقوله: مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ متعلق بينقضون، ومن لابتداء الغاية، وميثاقه الضمير فيه يجوز أن يعود على العهد، وأن يعود على اسم الله- تعالى- فهو على الأول مصدر مضاف إلى المفعول، وعلى الثاني مضاف للفاعل.
أما الصفة الثانية التي وصفهم الله بها فهي قوله: «ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل» وهو عام في كل قطيعة لا يرضاها الله، كقطع الرحم، والإعراض عن موالاة المؤمنين، وترك الجماعات المفروضة، وعدم وصل الأقوال الطيبة بالأعمال الصالحة، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطى شر، وأما الصفة الثالثة التي وصفهم بها فهي قوله- تعالى-:
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.
والفساد في الأرض يقع بعبادة غير الله، وبالدعاية إلى الكفر به، وبالاستهزاء بالحق، وبالاعتداء على حقوق الغير، وبغير ذلك من الأمور التي حرمها الله- تعالى-.
وعبر بقوله: فِي الْأَرْضِ للإشعار بأن فسادهم لا يقتصر عليهم، وإنما هو يتعداهم إلى غيرهم.
ثم بين- سبحانه- بعد أن دمغهم بتلك الصفات المرذولة- عاقبة أمرهم فقال: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
الخاسرون: جمع خاسر مأخوذ من الخسر والخسران وهو النقص، ومن نقض عهد الله، وقطع ما أمر الله بوصله، وأفسد في الأرض، لا شك أنه قد نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز، وكانت عاقبته الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.
قال ابن جرير: «والخاسرون جمع خاسر، وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم من رحمة الله بسبب معصيتهم له، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك المنافق والكافر قد خسرا بحرمان الله لهما من رحمته التي خلقها لعباده «١»... ».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
كَيْفَ اسم استفهام للسؤال عن الأحوال، وليس المراد به هنا استعلام المخاطبين عن حال كفرهم، وإنما المراد منه معنى تكثر تأديته في صورة الاستفهام وهو الإنكار والتوبيخ، كما تقول لشخص: كيف تؤذى أباك وقد رباك؟ لا تقصد إلا أن تنكر عليه أذيته لأبيه وتوبيخه عليها.
وفي الآية الكريمة التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة تقريعهم والتعجب من أحوالهم الغريبة، لأنهم معهم ما يدعو إلى الإيمان ومع ذلك فهم منصرفون إلى الكفر.
وقوله: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ جار مجرى التنبيه على أن كفرهم ناشئ عن جهل وعدم تأمل في أدلة الإيمان القائمة أمام أعينهم.
والأموات: جمع ميت بمعنى المعدوم. والإحياء: بمعنى الخلق.
والمعنى: كيف تكفرون بالله وحالكم أنكم كنتم معدومين فخلقكم، وأخرجكم إلى الوجود كما قال- تعالى-:
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً.
ويصح أن يفسر الأموات بمعنى فاقدى الحياة. والإحياء بنفخ الروح فيهم فيكون المعنى:
وكنتم أمواتا يوم استقراركم نطفا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها، فنفخ فيكم الأرواح وأصبحتم في طور إحساس وحركة وتفكير وبيان.
وبعد أن وبخهم على كفرهم بمن أخرجهم من الموت إلى الحياة، أورد جملا لاستيفاء الأطوار التي ينتقل فيها الإنسان من مبدأ الحياة إلى مقره الخالد في دار نعيم أو عذاب فقال: ثُمَّ
بقبض أرواحكم عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يبعثكم بعد الموت ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
أى تصيرون إليه دون سواه، فيجمعكم في المحشر ويتولى حسابكم، والحكم في أمركم بمقتضى عدله فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
أما الإماتة فهم يشاهدونها بأعينهم بين الحين والحين، وأما البعث فقد أخبر الله عنه بما يدل على صحته وينفى استبعاده، أو استحالته، بأدلة عقلية ونقلية كثيرة، أما الأدلة العقلية، فمنها: أن الذي قدر على إحيائهم من العدم، قادر على إحيائهم وإعادتهم بعد موتهم فإن الإعادة أهون من البدء دائما، وأما الأدلة النقلية، فمنها قوله- تعالى-:
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ.
وفي قوله- تعالى- ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ترهيب لمن ينزع إلى الشر، ويرتكب المعاصي من غير مبالاة، وترغيب لمن يقبل على فعل الخير، ويقدم على الطاعات.
قال الجمل: «والفاء في قوله فَأَحْياكُمْ على بابها من التعقيب، وثم على بابها من التراخي، لأن المراد بالموت الأول، العدم السابق، وبالحياة الأولى الخلق، وبالموت الثاني الموت المعهود، وبالحياة الثانية الحياة للبعث فجاءت الفاء وثم على بابيهما من التعقيب والتراخي، على هذا التفسير وهو أحسن الأقوال، ويعزى لابن عباس وابن مسعود ومجاهد، والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن البعث» «١».
وبعد أن ذكر- سبحانه- ما يشهد بقدرته ووحدانيته عن طريق الأدلة المتعلقة بذوات المكلفين، أردف ذلك بالكلام عن الأدلة الكونية فقال تعالى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.
أى: أنه خلق جميع ما في الأرض من نحو الحيوان والنبات والمعادن والجبال من أجلكم، فهو المنعم عليكم لتنتفعوا بها في دنياكم، وتستعينوا بها على طاعته.
وقد أخذ العلماء من هذه الآية شاهدا على أن الأشياء التي فيها منافع مأذون فيها حتى يقوم دليل على حرمتها.
ثم استدل- سبحانه- على مظاهر قدرته بخلق السموات فقال:
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
والسماء ليس المراد منها فردا من أفراد السموات، وإنما المراد منها الأجرام العلوية الشاملة لجميع السموات، فصح أن يعود عليها ضمير جمع الإناث في قوله: فَسَوَّاهُنَّ، وكذلك علماء البيان يزيدون أن اللفظ إذا أريد منه جنس ما وضع له صار في معنى الجمع.
فمعنى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ علا إليها وارتفع، من غير تكييف ولا تحديد ولا تشبيه، مع كما التنزيه عن سمات المحدثات، وقد سئل الإمام مالك عن الاستواء على العرش فقال.
الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وقدم الأرض هنا لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة.
وجملة ثُمَّ اسْتَوى معطوفة على جملة (خلق لكم)، وكان العطف بثم لعظم خلق السماء عن خلق الأرض.
وعبر بسواهن للإشعار بأنه- سبحانه- خلقهن في استقامة، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا اضطراب. قال- تعالى-:
ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ.
وجملة وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ مقررة لما ذكر قبلها من خلق السموات والأرض وما فيهما على هذه الصورة الحكيمة، فقد دلت على أن ترتيب أجزاء تلك المصنوعات وموافقة جميعها للمنافع المقصودة منها، إنما حدث عن عالم بحقائق تلك الأجزاء وخواصها، ولإحاطته بكل شيء علما وضع كل جزء في موضعه اللائق به.
وبعد أن بين سبحانه للناس أنه قد من عليهم بنعمة خلقه ما في الأرض جميعا، بدأ بعد ذلك يذكرهم بنعمة أخرى هي نعمة خلقه لأبيهم آدم، وخلق آدم مبدأ لخلق ذريته، وتكريمه موصول بتكريمهم فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)
وإذ وإذا ظرفان للزمان، الأول للماضي والثاني للمستقبل، فإن جاء إذ مع المضارع أفاد لماضى كقوله:
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ... وإن جاء إذا مع الماضي أفاد الاستقبال كقوله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ.
وإذ هنا واقعة موقع المفعول به لعامل مقدر دل عليه المقام.
والمعنى: واذكر يا محمد وقت أن قال ربك للملائكة إنى جاعل في الأرض خليفة.
وقد جاء هذا المقدر هنا مصرحا به في آيات أخرى كما قال تعالى:
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ.
والملائكة جمع ملك. والتاء لتأنيث الجمع، وأصله ملاك، من ملك، نحو شمال من شمل، والهمزة زائدة وهو مقلوب مالك، وقيل: إن ملاك من لأك إذا أرسل، ومنه الألوكة، أى:
الرسالة.
والملائكة، هم جند من خلق الله، ركز الله فيهم العقل والفهم، وفطرهم على الطاعة، وأقدرهم على التشكيل بأشكال مختلفة، وعلى الأعمال العظيمة الشاقة، ووصفهم في القرآن بأوصاف كثيرة منها أنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ومنها: أنهم رسل الله أرسلهم بأمره «ومنهم رسل الوحى إلى من
جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وقال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ وقال- تعالى-: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.
و (الخليفة) من يخلف غيره وينوب منابه، فهو فعيل بمعنى فاعل، والتاء فيه للمبالغة، والمراد به آدم- عليه السلام- لأنه كان خليفة من الله في الأرض، وكذلك سائر الأنبياء استخلفهم الله- تعالى- في عمارة الأرض، وسياسة الناس، وتكميل نفوسهم، وإجراء أحكامه عليهم، وتنفيذ أوامره فيهم. وقيل: آدم وذريته، لأنه يخلف بعضهم بعضا في عمارة الأرض، واستغنى بذكره عن ذكر ذريته لكونه الأصل.
وخطاب الله لملائكته بأنه سيجعل في الأرض خليفة، ليس المقصود منه المشورة، وإنما خاطبهم بذلك من أجل ما ترتب عليه من سؤالهم عن وجه الحكمة من هذه الخلافة، وما أجيبوا به من بعد، أو من أجل تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو- سبحانه- بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة. أو الحكمة تعظيم شأن المجهول، وإظهار فضله، بأن بشر بوجود سكان ملكوته، ونوه بعظيم شأن المجعول بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده، ولقبه بالخليفة.
ثم حكى- سبحانه- إجابة الملائكة فقال:
قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ.
الفساد: الخروج عن الاعتدال والاستقامة ويضاده الصلاح. يقال فسد الشيء فسادا وفسودا وأفسده غيره.
والسفك: الصب والإهراق، يقال: سفكت الدم والدمع سفكا- من باب ضرب- صببته. والفاعل سافك وسفاك، والمراد به حصول التقاتل بين أفراد بنى الإنسان ظلما وعدوانا.
والتسبيح: مشتق من السبح وهو المر السريع في الماء أو في الهواء، فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء.
والتقديس: التطهير والتعظيم ووصفه بما يليق به من صفات الكمال.
فيكون التسبيح نفى ما لا يليق، والتقديس إثبات ما يليق، وقدم التسبيح على التقديس من باب تقديم التخلية على التحلية.
والمعنى: أتجعل في الأرض يا إلهنا من يفسد فيها ويريق الدماء والحال أننا نحن ننزهك عما
وقولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها... إلخ إنما صدر منهم على وجه استطلاع الحكمة في خلق نوع من الكائنات يصدر منه الإفساد في الأرض وسفك الدماء. وقطعهم بحكمة الله في كل ما يفعل لا ينافي تعجبهم من بعض أفعاله، لأن التعجب يصدر عن خفاء سبب الفعل، فمن تعجب من فعل شيء وأحب الاطلاع على الحكمة الباعثة على فعله لا يعد منكرا.
والملائكة لا يعلمون الغيب، فلا بد أن يكونوا قد علموا ماذا سيكون من الفساد في الأرض وسفك الدماء بوجه من الوجوه التي يطلع الله بها على غيبه بعض المصطفين الأخبار من خلقه.
قال الإمام ابن كثير في توضيح هذا المعنى: قوله- تعالى-: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمأ مسنون، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم. ويردعهم عن المحارم والمآثم.. وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبنى آدم كما قد يتوهمه البعض.. وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض، ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، ولا يصدر منا شيء من ذلك فهلا وقع الاقتصار علينا؟ «١».
وقد رد الله- تعالى- على الملائكة بقوله: قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.
أى: إنى أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإنى سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والمحبون له- تعالى- المتبعون رسله.
فالجملة الكريمة إرشاد لهم إلى الأمر الذي من شأنه أن يقف بهم عند حدود الأدب اللائق بمقام الخالق- عز وجل- وتنبيه إلى أنه- تعالى- عالم بما لا يحيط به علم أحد من خلقه، فله أن يفعل ما يشاء ويأمر بما يشاء، وليس من أدب المؤمنين بأنه العليم الحكيم أن يسألوه حين يأمرهم بشيء، أو يعلمهم بأنه
قال بعض العلماء: «وفي هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم عن تكذيب بعض الناس له، لأنه إذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين- وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين، أى: فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين، وترشد المسترشدين، وتأتى أهل الدعوة بسلطان مبين «١».
ثم أخذ- سبحانه- في بيان جانب من حكمة خلق آدم، وجعله خليفة في الأرض، بعد أن أجاب الملائكة على سؤالهم بالجواب المناسب الحكيم فقال- تعالى-:
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
علم: من التعليم وهو التعريف بالشيء. وآدم: اسم لأبى البشر، قيل إنه عبراني مشتق من أدمه، وهي لغة عبرانية معناها التراب، كما أن «حواء» كلمة عبرانية معناها «حي» وسميت بذلك لأنها تكون أم الأحياء.
والْأَسْماءَ جمع اسم، والاسم ما يكون علامة على الشيء، وتأكيد الأسماء بلفظ «كلها» في أنه علمه أسماء كل ما خلق من المحدثات من إنسان وحيوان ودابة، وطير، وغير ذلك.
ويصح حمل الأسماء على خواص الأشياء ومنافعها، فإن الخواص والمنافع علامات على ما تتعلق به من الحقائق.
وقوله: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ عرض الشيء: إظهاره وإبانته والضمير في عَرَضَهُمْ يعود على المسميات، وهي مفهومة من قوله: الْأَسْماءَ كُلَّها إذ الأسماء لا بد لها من مسميات، فإذا أجرى حديث عن الأسماء حضر في ذهن السامع ما هو لازم لها، أعنى المسميات.
ودل على المسميات بضمير جمع الذكور العقلاء فقال: عَرَضَهُمْ ولم يقل عرضها، لأن في جملة هذه المسميات أنواعا من العقلاء: كالملائكة، والإنس، ومن الأساليب المعروفة بين
والأمر في قوله: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ، ليس من قبيل الأوامر التي يقصد بها التكليف، أى: طلب الإتيان بالمأمور به، وإنما هو وارد على جهة إفحام المخاطب بالحجة.
والمعنى: أن الله- تعالى- ألهم آدم معرفة ذوات الأشياء التي خلقها في الجنة، ومعرفة أسمائها ومنافعها، ثم عرض هذه المسميات على الملائكة. فقال لهم على سبيل التعجيز:
أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما اختلج في خواطركم من أنى لا أخلق خلقا إلا وأنتم أعلم منه وأفضل.
قال ابن جرير: «وفي هذه الآيات العبرة لمن اعتبر والذكرى لمن ذكر، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، عما أودع الله في هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن، وذلك أن الله- تعالى- احتج فيها لنبيه صلّى الله عليه وسلم على من كان بين ظهرانيه من يهود بنى إسرائيل، بإطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن- تعالى- أطلع عليها من خلقه إلا خاصا، ولم يكن مدركا علمه إلا بالإنباء والإخبار ليقرر عندهم صدق نبوته، ويعلموا أن ما أتاهم به إنما هو من عند الله».
ثم حكى- سبحانه- ما كان من الملائكة فقال:
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
سبحان: اسم مصدر بمعنى التسبيح أى التنزيه، وهو منصوب بفعل مضمر لا يكاد يستعمل معه.
وهذه الآية الكريمة واقعة موقع الجواب عن سؤال يخطر في ذهن السامع للجملة السابقة، إذ الشأن أن يقال عند سماعهم قوله- تعالى-: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ، ماذا كان من الملائكة؟
هل أنبأوا بأسماء المسميات المعروضة عليهم؟ فقال- تعالى-: قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلخ الآية.
ولو قال الملائكة: لا علم لنا بأسماء هذه المسميات لكان جوابهم على قدر السؤال، ولكنهم قصدوا الاعتراف بالعجز عن معرفة أسماء تلك المسميات المعروضة على أبلغ وجه فنفوا عن أنفسهم أن يعلموا شيئا غير ما يعلمهم الله، ودخل في ضمن هذا النفي العام الاعتراف بالقصور عن معرفة الأسماء المسئول عنها.
ومعنى إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أى: أنت يا ربنا العليم بكل شيء، الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء، لك الحكمة في ذلك، والعدل التام.
وبعد أن بين القرآن أن الملائكة قد اعترفوا بالعجز عن معرفة ما سئلوا عنه، وجه- سبحانه- الخطاب إلى آدم، يأمره فيه بأن يخبر الملائكة بالأسماء التي سئلوا عنها، ولم يكونوا على علم بها، فقال- تعالى-:
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
ففي هذه الآية الكريمة أخبرنا الله- تعالى- أنه قد أذن لآدم في أن يخبر الملائكة بالأسماء التي فاتتهم معرفتها ليظهر لهم فضل آدم، ويزدادوا اطمئنانا إلى أن إسناد الخلافة إليه، إنما هو تدبير قائم على حكمة بالغة.
وعلم الغيب يختص به واجب الوجود- سبحانه- لأنه هو الذي يعلم المغيبات بذاته، وأما العلم بشيء من المغيبات الحاصل من تعليم الله فلا يقال لصاحبه إنه يعلم الغيب.
وقوله- تعالى- أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ... إلخ الآية، استحضار وتأكيد لمعنى قوله قبل ذلك، إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. وإعادة له على وجه من التفصيل أفاد أن علمه يشمل ما يظهرونه بأقوالهم أو أفعالهم، وما يضمرونه في أنفسهم.
وفي قوله: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ... إلخ تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى، حيث بادروا بالسؤال عن الحكمة، وكان الأولى أن يأخذوا بالأدب المناسب لمقام الألوهية، فيتركوا السؤال عنها إلى أن يستبين لهم أمرها بوجه من وجوه العلم.
ومن الفوائد التي تؤخذ من هذه الآيات، أن الله- تعالى- قد أظهر فيها فضل آدم- عليه السلام- من جهة أن علمه مستمد من تعليم الله له، فإن إمداد الله له بالعلم يدل على أنه محاط منه برعاية ضافية، ثم إن العلم الذي يحصل عن طريق النظر والفكر قد يعتريه الخلل، ويحوم حوله الخطأ. فيقع صاحبه في الإفساد من حيث إنه يريد الإصلاح، بخلاف العلم الذي يتلقاه الإنسان من تعليم الله، فإنه علم مطابق للواقع قطعا، ولا يخشى من صاحبه أن يحيد عن سبيل الإصلاح، وصاحب هذا العلم هو الذي يصلح للخلافة في الأرض، ومن هنا، كانت السياسة الشرعية أرشد من كل سياسة، والأحكام النازلة من السماء أعدل من القوانين الناشئة في الأرض.
وبعد أن بين القرآن في الآيات السابقة بعض الكرامات التي خص الله بها آدم، انتقل إلى
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٤ الى ٣٩]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
وقوله- تعالى-: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ.. إلخ، معطوف على قوله- تعالى قبل ذلك وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ.. إلخ، من باب عطف القصة على القصة، وإعادة (إذ) بعد حرف العطف المغني عن إعادة ظرفه، تنبيه على أن الجملة مقصودة بذاتها، لأنها متميزة بهذه القصة العجيبة فجاءت على أسلوب يؤذن بالاستقلال والاهتمام.
والسجود: لغة التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وغيره، وخص في الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة.
وللعلماء في كيفية السجود الذي أمر الله به الملائكة لآدم أقوال: أرجحها أن السجود المأمور به في الآية يحمل على المعنى المعروف في اللغة، أى: أن الله- تعالى- أمرهم بفعل تجاه آدم
وعلى هذا الرأى سار علماء أهل السنة. وقيل: إن السجود كان لله، وآدم إنما كان كالقبلة يتوجه إليه الساجدون تحية له، وإلى هذا الرأى اتجه علماء المعتزلة، وقد قالوا ذلك هربا من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم، فإن أهل السنة قالوا: إبليس من الملائكة، والصالحون من البشر أفضل من الملائكة، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم، وخالفت المعتزلة في ذلك، وقالت:
الملائكة أفضل من البشر، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة.
والذي نراه أن ما سار عليه أهل السنة أرجح، لأن ما ذهب إليه المعتزلة يبعده أن المقام مقام لإظهار فضل آدم على الملائكة، وإظهار فضله عليهم لا يتحقق بمجرد كونه قبلة للسجود.
وأمر الملائكة بالسجود لآدم هو لون من الابتلاء والاختبار، ليميز الله الخبيث من الطيب، وينفذ ما سبق به العلم، واقتضته المشيئة والحكمة:
ثم بين- سبحانه- ما حدث من الملائكة ومن إبليس فقال:
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ.
إبليس: اسم مشتق من الإبلاس، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس، وفعله أبلس، والراجح أنه اسم أعجمى، ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة وهو كائن حي، وقد أخطأ من حمله على معنى داعي الشر الذي يخطر في النفوس، إذ ليس من المعقول أن يكون كذلك مع أن القرآن أخبرنا بأنه يرى الناس ولا يرونه. قال- تعالى- إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ.
وقوله: أَبى وَاسْتَكْبَرَ الإباء: الامتناع عن الفعل أنفة مع التمكن منه. والاستكبار:
التكبر والتعاظم والغرور، بمعنى أن يرى الشخص في نفسه علوا على غيره، وهو خلق مذموم.
وكان في قوله: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ بمعنى صار.
وجاء العطف في قوله فَسَجَدُوا... بالفاء المفيدة للتعقيب، للإشارة إلى أن الملائكة قد بادروا بالامتثال بدون تردد، ولم يصدهم ما كان في نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق، مظهر فساد وسفك دماء، لأنهم منزهون عن المعاصي.
وللعلماء في كون إبليس من الملائكة أم لا قولان:
أحدهما: أنه كان منهم لأنه- سبحانه- أمرهم بالسجود لآدم، ولولا أنه كان منهم لما توجه إليه الأمر بالسجود، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لم يكن عاصيا، ولما استحق الخزي والنكال.
وقيل إنه ليس منهم لقوله- تعالى- إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، فهو أصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس، ولأنه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة. وقد اختار هذا القول الحسن وقتادة وغيرهما.
وقد حاول ابن القيم أن يجمع بين الرأيين فقال: والصواب التفصيل في هذه المسألة، وأن القولين في الحقيقة قول واحد، فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله.
كان من نار وأصل الملائكة من نور، فالنافي كونه من الملائكة. والمثبت لم يتواردا على محل واحد «١».
ولما كان استثناء إبليس من الساجدين لا يدل على أنه ترك السجود عصيانا، إذ قد يكون تركه لعذر، دل بقول: أَبى وَاسْتَكْبَرَ على أنه امتنع من السجود أنفة، وتعاظما، وأردف هذا التعاظم والغرور باعتراضه على الله- تعالى- في تفضيل آدم، فصار بذلك في فريق الكافرين، ولذا ختمت الآية بقوله- تعالى-: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أى: صار بسبب عصيانه واستكباره من الكافرين بالله، الجاحدين لنعمه، البعيدين عن رحمته ورضوانه.
وقوله- تعالى- وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ معطوف على قوله (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ... إلخ أي: بعد أن أمرنا الملائكة بالسجود لآدم، قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، فهذه تكرمة أكرمه الله بها بعد أن أكرمه بكرامة الإجلال من تلقاء الملائكة.
وقوله: اسْكُنْ أمر من السكنى بمعنى اتخاذ المسكن على وجه الاستقرار.
والزوج: يطلق على الرجل والمرأة والمراد به هنا حواء، حيث تقول العرب للمرأة زوج، ولا تكاد تقول زوجة.
والجنة: هي كل بستان ذي شجر متكاثف، ملتف الأغصان، يظلل ما تحته ويستره، من الجن، وهو ستر الشيء عن الحاسة.
وجمهور أهل السنة على أن المراد بها هنا دار الثواب. التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، لأن هذا هو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق.
ويرى جمهور علماء المعتزلة أن المراد بها هنا بستان بمكان مرتفع من الأرض، خلقه الله
وقد ساق الإمام ابن القيم في كتابه (حادي الأرواح) أدلة الفريقين دون أن يرجح شيئا منها.
والأحوط والأسلم: الكف عن تعيينها وعن القطع به، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو منصور الماتريدى في التأويلات، إذ ليس لهذه المسألة تأثير في العقيدة.
والمخاطب بالأمر، بسكنى الجنة آدم وحواء، ولكن الأسلوب جاء في صيغة الخطاب لآدم وعطفت عليه زوجه، لأنه هو المقصود بالأمر وزوجه تبع له.
ثم بين- سبحانه- أنه قد أباح لهما أن يأكلا من ثمار الجنة أكلا واسعا فقال:
وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما أى كلا من مطاعم الجنة وثمارها أكلا هنيئا أو واسعا في أى مكان من الجنة أردتم.
يقال: رغد عيش القوم أى: اتسع وطاب، وأرغد القوم، أى: أخصبوا وصاروا في رزق واسع.
والضمير في قوله مِنْها يعود إلى الجنة، والمراد بالأكل منها: الأكل من مطاعمها وثمارها، لأن الجنة تستلزم ثمارا هي المقصودة بالأكل.
ثم بين- سبحانه- أنه نهاهم عن الأكل من شجرة معينة فقال: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ.
القرب: الدنو، والمنهي عنه هو الأكل من ثمار الشجرة، وتعليق النهى بالقرب منها إذ قال وَلا تَقْرَبا القصد منه المبالغة في النهى عن الأكل، إذ في النهى عن القرب من الشيء قطع لوسيلة التلبس به، كما قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى فنهى عن القرب من الزنا ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه وهي القرب منه. وأكد النبي بأن جعل عدم اجتناب الأكل من الشجرة ظلما فقال:
فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ وقد ظلما أنفسهما إذ أكلا منها، فقد ترتب على أكلهما منها أن أخرجا من الجنة التي كانا يعيشان فيها عيشة راضية.
وقد تكلم العلماء كثيرا عن اسم هذه الشجرة ونوعها فقيل هي التينة، وقيل: هي السنبلة، وقيل هي الكرم.. إلخ. إلا أن القرآن لم يذكر نوعها على عادته في عدم التعرض لذكر ما لم يدع المقصود من سوق القصة إلى بيانه.
وقد أحسن الإمام ابن جرير في التعبير عن هذا المعنى فقال: «والصواب في ذلك أن يقال:
إن الله- تعالى- نهى آدم وزوجه عن الأكل من شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها، ولا علم عندنا بأى شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يضع لعباده دليلا
ثم بين القرآن بعد ذلك ما وقع فيه آدم من خطأ فقال: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ أى: اذهبهما عن الجنة بكذبه عليهما ومقاسمته أنه لهما من الناصحين.
وأزل من الإزلال وهو الإزلاق: زل يزل زلا وزللا، أى: زلق في طين أو منطق، والاسم الزلة. وأزله غيره واستزله: أى أزلقه. أطلق وأريد به لازمه وهو الإذهاب.
وقرئ فأزالهما أى: نحاهما من الإزالة، تقول أزلت الشيء عن مكانه إزالة. أى:
نحيته وأذهبته عنه.
ثم استعمل هذا اللفظ في ارتكاب الخطيئة كما استعمل في خطأ الرأى مجازا. والضمير في قوله: عَنْها يعود إلى الشجرة، ومعنى أزلهما عن الشجرة أوقعهما في الزلة بسببها.
والتعبير بقوله: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ أبلغ في الدلالة على فخامة الخيرات التي كانا يتقلبان فيها مما لو قيل: فأخرجهما من النعيم أو من الجنة لأن من أساليب البلاغة في الدلالة على عظم الشيء أن يعبر عنه بلفظ مبهم كما هنا. لكي تذهب نفس السامع في تصور عظمته وكماله إلى أقصى ما يمكنها أن تذهب إليه.
ونسبة إخراجهما من الجنة إلى الشيطان في قوله: فَأَخْرَجَهُما من قبيل نسبة الفعل إلى ما كان سببا فيه، وذلك أن أكلهما من الشجرة الذي ترتب عليه إخراجهما من الجنة إنما وقع بسبب وسوسة الشيطان لهما.
وقوله- تعالى- وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ الخطاب فيه لآدم وحواء، وإبليس، وقيل الخطاب لآدم وحواء ونسلهما.
والهبوط: النزول من أعلى إلى أسفل ضد الصعود. يقال: هبط يهبط ويهبط أى: نزل من علو إلى سفل.
والعداوة معناها التناكر والتنافر بالقلوب.
أى: قلنا لآدم وحواء والشيطان انزلوا إلى الأرض متنافرين متباغضين، يبغى بعضكم على بعض.
وعداوة الشيطان لآدم نشأت عن حسد وتكبر منذ أن أمر بالسجود له فأبى وامتنع وقال: أنا خير منه.
قال- تعالى-: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ.
ثم ختمت الآية بقوله- تعالى-: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ.
المستقر: موضع الاستقرار والثبات، وهو مقابل القلق والاضطراب، والمتاع: اسم لما يستمتع به من مأكل ومشرب وملبس وحياة وأنس وغير ذلك، مأخوذ من متع النهار متوعا إذا ارتفع، ويطلق على الانتفاع الممتد الوقت.
والحين: الجزء من الزمان غير محدد بحد، والمراد به هنا وقت الموت أو يوم القيامة.
والمعنى: انزلوا إلى الأرض بعضكم لبعض عدو ولكم فيها منزل وموضع استقرار. وتمتع بالعيش إلى أن يأتيكم الموت.
ومن كان على ذكر دائم من أن استقراره في الأرض وتمتعه بنعيمها سينتهي في وقت، لا يدرى متى يدركه، فشأنه أن ينتفع بخيراتها ويتمتع بطيب العيش فيها، وهو مقبل على العمل لمرضاة الله ما استطاع، وشاكر لأنعمه بالقلب واللسان، لا يشغله عن الشكر شاغل من ملذات هذه الحياة ومظاهر زينتها.
ثم حكى القرآن أن آدم قد بادر بطلب العفو والمغفرة من ربه فقال: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
التلقي في الأصل: التعرض للقاء، ثم استعمل بمعنى أخذ الشيء وقبوله، تقول: تلقيت رسالة من فلان. أى أخذتها منه وقبلتها.
والكلمات: جمع كلمة، وهي اللفظة الموضوعة لمعنى، وأرجح ما قيل في تعيين هذه الكلمات، ما أشار إليه القرآن في سورة الأعراف بقوله:
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ.
والتوبة في أصل اللغة معناها: الرجوع، وإذا عديت بعن كان معناها الرجوع عن المعصية إلى الطاعة، وإذا عديت بعلى- كما في هذه الآية- كان معناها قبول التوبة، فالعبد يتوب عن المعصية، والله يتوب على العبد أى: يقبل توبته.
وجملة إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ واردة مورد التعليل لقوله: فَتابَ عَلَيْهِ.
وبعد أن أخبر القرآن في الآيات السابقة أن الله- تعالى- قد أمر آدم وحواء وإبليس بالهبوط من الجنة، نراه بعد ذلك قد أعاد خبر الأمر بالهبوط فقال:
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وليست هذه الإعادة من قبيل التكرار الذي يقصد منه مجرد التوكيد، بل قص الأمر بالهبوط أولا ليعلق عليه معنى هو كون بعضهم لبعض عدوا.
ثم قصه ثانية ليعلق عليه معنى آخر هو ما ترتب على الهبوط من تفصيل لحال المخاطبين، وانقسامهم إلى مهتدين وضالين.
والفاء في قوله فَإِمَّا لإفادة ترتيب انقسام المخاطبين إلى مهتدين وكافرين على الهبوط المفهوم من قوله: اهْبِطُوا.
وإما هي إن الشرطية دخلت عليها «ما» لإفادة التوكيد، ويغلب على فعل شرطها أن يكون مؤكدا بالنون وأوجب بعضهم ذلك.
والهدى من الله معناه الدلالة على ما هو حق وخير بلسان رسول، أو بآيات كتاب.
وقد صرح- سبحانه- بأن الهدى صار منه بقوله: مِنِّي هُدىً ثم أضافه إلى نفسه بقوله: هُدايَ للإيذان بتعظيم أمر الهدى وأنه أحق بأن يتبع، ويتخذ سبيلا لطمأنينة النفس في الدنيا، والفوز بالسعادة في الأخرى.
والخوف: الفزع وهو تألم النفس من مكروه يتوقع حصوله.
والحزن: الغم الحاصل لوقوع مكروه أو فقد محبوب.
ومعنى فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أن نفوسهم آمنة مطمئنة بحيث لا يعتريها فزع، ولا ينتابها ذعر، كما أن قوله: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ينفى عنهم الاغتمام لفوات مطلوب أو فقد محبوب.
ونفى الخوف والحزن ورد في الآية على وجه الإطلاق، وظاهره أن المهتدين لا يعتريهم الخوف ولا الحزن في دنياهم ولا في آخرتهم، ولكن قوله- تعالى- فيما يقابله من جزاء الكافرين أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، يرجح أن يكون المراد نفى الخوف والحزن في الدار الآخرة.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
إذ هذه الآية الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ. إلخ، وواردة مورد المقابل له في تفصيل أحوال من يأتيهم الهدى من الله.
ولم يقل: والذين لم يتبعوا هداي أولئك أصحاب النار.. وإنما قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ.. إلخ، وذلك لأن من لم يتبع هدى الله يشمل من لم تبلغه الدعوة، وغير المكلفين مثل الصبيان وفاقدى العقل، وهؤلاء ليسوا من أصحاب النار. فظهر أن قوله:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا.. جيء به على قدر من يستحقون الحكم عليهم بأنهم من أصحاب النار والمجازاة بالعذاب الخالد الأليم.
والآيات: جمع آية، وهي في الأصل العلامة، وتستعمل في الطائفة من الكتاب المنزل، وفيما يستدل به على وجود الله وتوحيده، من نحو بدائع مصنوعاته ومظاهر عنايته بالإنسان.
وأضاف- سبحانه- الآيات إلى نفسه فقال: بِآياتِنا ليكون قبح التكذيب بها أظهر، وأتى بنون العظمة فقال (بآياتنا) دون أن يقول «بآياتى» لبعث المهابة في نفوس السامعين، وذلك أدعى إلى تلقى الوعيد باهتمام وخشية.
وأصحاب: جمع صاحب مأخوذ من الصحبة، وهي الاقتران والملازمة، ودل بقوله: هُمْ فِيها خالِدُونَ على أن صحبتهم للنار دائمة، وليست من الصحبة التي تستمر مدة ثم تنقطع.
هذا جانب من قصة آدم كما حكاه القرآن في هذه السورة، ومن الحكم التي تؤخذ منها: أن سياسة الأمم على الطريقة المثلى إنما تقوم على أساس راسخ من العلم، وأن فضل العلم النافع فوق فضل العبادة، وأن روح الشر الخبيثة إذا طغت على نفس من النفوس، جعلتها لا ترى البراهين الساطعة، ولا يوجهها إلى الخير وعد، ولا يردعها عن الشر وعيد.
كما يستفاد منها كيف أن الرئيس يفسح المجال لمرءوسيه المخلصين، يجادلونه في أمر يريد قضاءه، ولا يزيد عن أن يبين لهم وجهة نظره في رفق، وإذا تجاوزوا حدود الأدب اللائق به راعى في عتابهم ما عرفه فيهم من سلامة القلب، وتلقى أوامره بحسن الطاعة.
كما يؤخذ منها أن المتقلب في نعمة يجب أن يحافظ عليها بشكر الله، ولا يعمل عملا فيه مخالفة لأوامر الله لأن مخالفة أوامر الله، كثيرا ما تؤدى إلى زوال تلك النعمة، ومن أراد أن تزداد النعم بين يديه، فعليه أن يلتزم طاعة الله وشكره.
والجواب عن ذلك أن آدم تعمد الأكل من الشجرة، ناسيا النهى عن الأكل منها، وفعل المنهي عنه على وجه النسيان لا يعد من قبيل المعاصي التي يرتكبها الشخص وهو متذكر أنه يرتكب محرما، إذ أن ارتكاب المحرم عن علم وتذكر هو الذي يجعل مرتكبه مستحقا للعقاب، والأنبياء معصومون من ذلك.
وإذا عاتب الله بعض الأخيار من عباده على ما صدر منهم على وجه النسيان، فلأن علمهم بالنهى يدعوهم إلى أن يقع النهى من نفوسهم موقع الاهتمام، بحيث يستفظعون مخالفته استفظاعا يملأ نفوسهم بالنفور منها، ويجعلهم على حذر من الوقوع في بلائها.
فالذي وقع من آدم- عليه السلام- هو أنه غفل عن الأخذ بالحزم في استحضار النهى وجعله نصب عينيه حتى أدركه النسيان، ففعل ما نهى عنه غير متعمد للمخالفة، قال- تعالى-:
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً.
هذا، وبعد أن ذكر القرآن الكريم الناس جميعا بنعم الله عليهم، ليحملهم بذلك على إخلاص العبادة له، وتصديق رسوله صلّى الله عليه وسلم فيما جاء به، ومن بين هذه النعم خلق آدم وإظهار فضله على الملائكة، بعد كل ذلك اتجه إلى تذكير طائفة خاصة من الكافرين المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلم وهم بنو إسرائيل، استمالة لقلوبهم نحو الإيمان بالله، وكسرا لعنادهم ولجاجتهم، فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
ويستعمل مثل هذا التعبير في مقام الترغيب والترهيب، بناء على أن الحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة وهي من بيت النبوة أسوأ، ففي هذا النداء. خير داع لذوي الفطر السليمة منهم إلى الإقبال على ما يرد بعده من التذكير بالنعمة، واستعمالها فيما خلقت له.
ومعنى اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ تنبهوا بعقولكم وقلوبكم لتلك المنافع التي أتتكم على سبيل الإحسان منى، وقوموا بحقوقها وأكثروا من الحديث عنها بألسنتكم، فإن التحدث بنعم الله فيه إغراء بشكرها.
والمراد بالنعمة: المنعم بها عليهم، وتجمع على نعم، وقد وردت في القرآن الكريم بمعنى الجمع كما في قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها فإن لفظ العدد والإحصاء قرينة على أن المراد بالنعمة: النعم الكثيرة. ويبدو أن المراد بالنعمة في الآية التي معنا كذلك النعم المتعددة حيث إنه لم يقم دليل على أن المراد بها نعمة معهودة، وعلماء البيان يعدون استعمال المفرد في معنى الجمع- اعتمادا على القرينة- من أبلغ الأساليب الكلامية.
ثم أمرهم- سبحانه- بالوفاء بما عاهدهم عليه، فقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ العهد ما من شأنه أن يراعى ويحفظ، كاليمين والوصية وغيرهما، ويضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعا، يقال: أوفيت بعهدي، أى بما عاهدت غيرى عليه، وأوفيت بعهدك، أى بما عاهدتني عليه، وعهد الله: أوامره ونواهيه، والوفاء به يتأتى باتباع ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، ويندرج فيه كل ما أخذ على بنى إسرائيل في التوراة، من اتباع محمد صلّى الله عليه وسلم متى بعث، والإيمان بما جاء به من عند الله وتصديقه فيما يخبر عن ربه.
والمعنى: وأوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي، والطاعة لي، والتصديق برسلي، أوف بما عاهدتكم عليه من التمكين في الأرض في الدنيا والسعادة في الآخرة.
ثم أمرهم- سبحانه- بأن يجعلوا خوفهم من خالقهم وحده، فقال- تعالى-: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أى: خافوني ولا تخافوا سواي، ولتكن قلوبكم عامرة بخشيتى وحدي، فإن ذلك يعينكم على طاعتي، ويبعدكم عن معصيتي.
وحذف متعلق الرهبة للعموم، أى ارهبونى في جميع ما تأتون، وما تذرون، حتى لا أنزل
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ.
وبعد أن أمر الله- عز وجل- بنى إسرائيل، أن يوفوا بعهده عموما أتبع ذلك بأمرهم بأن يوفوا بأمر خاص وهو القرآن الكريم، وفي التعبير عنه بذلك تعظيم لشأنه، وتفخيم لأمره.
وأفرد- سبحانه- أمرهم بأن يؤمنوا به مع اندراجه في قوله- تعالى- وَأَوْفُوا بِعَهْدِي للإشارة إلى أن الوفاء بالعهد لا يحصل منهم إلا إذا صدقوا به.
والمراد بما معهم التوراة، والتعبير عنها بذلك للإشعار بعلمهم بتصديقه لها. والمعنى: آمنوا يا بنى إسرائيل بالكتاب المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم وهو القرآن الكريم المصدق لكتابكم التوراة، ومن مظاهر هذا التصديق اشتمال دعوته على ما يحقق دعوتها، من الأمر بتوحيد الله- تعالى- والحث على التمسك بالفضائل، والبعد عن الرذائل، وإخباره بما جاء بها من الإشارة إلى بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم، ومطابقة ما وصفته به مطابقة واضحة جلية وموافقته لها في أصول الدين الكلية، وهيمنته عليها، ولذا قال- عليه الصلاة والسلام-: «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعى» «١».
وفي إخبار بنى إسرائيل بأن القرآن الكريم مصدق لما معهم، إثارة لهممهم لو كانوا يعقلون- للإقبال عليه، متدبرين آياته، حتى تستيقن نفوسهم أنه دعوة الحق والإصلاح المؤدية إلى السعادة في الدنيا والآخرة وحتى تطمئن قلوبهم إلى أن الإيمان به معناه الإيمان بما معهم، والكفر به، كفر بما بين أيديهم، حيث إن ما بين أيديهم قد بشر ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلم المنزل عليه القرآن الكريم.
قال الإمام الرازي: (وهذه الجملة الكريمة تدل على صدق النبي صلّى الله عليه وسلم من وجهين:
أولهما: أن الكتب السابقة قد بشرت به، وشهاداتها لا تكون إلا حقا.
وثانيهما: أنه- عليه الصلاة والسلام- قد أخبرهم عما في كتبهم بدون معرفة سابقة لها، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق الوحى «٢».
وبعد أن أمرهم- سبحانه- بالإيمان الخالص، عرض بهم لتكذيبهم وجحودهم، فقال- تعالى-: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أى: لا تكونوا أول فريق من أهل الكتاب يكفر بالقرآن الكريم، فيقتدى بكم أناس آخرون وبهذا تصيرون أئمة للكفر مع أن من الواجب
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٤٣٠
والمقصود من هذه الجملة الكريمة، تبكيتهم على مسارعتهم في الكفر، واستعظام وقوع الجحود منهم، وتوعدهم عليه بسوء المآل.
قال الإمام الرازي: (هذه الجملة خطاب لبنى إسرائيل قبل غيرهم فكأنه- سبحانه- يقول لهم: لا تكفروا بمحمد، فإنه سيكون بعدكم كفرة، فلا تكونوا أنتم أولهم لأن هذه الأولية موجبة لمزيد الإثم، وذلك لأنهم إذا سبقوا إلى الكفر، فإما أن يقتدى بهم غيرهم أولا، فإن اقتدى بهم غيرهم كان عليهم وزره ووزر كل كافر إلى يوم القيامة، وإن لم يقتد بهم غيرهم، اجتمع عليهم أمران: السبق إلى الكفر والتفرد به وكلاهما منقصة عظيمة، وتؤدى إلى العاقبة الوبيلة) «١».
ثم نهاهم عن أن يبيعوا دينهم بدنياهم، فقال- تعالى-: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا.
والاشتراء هنا استعارة للاستبدال، والذي استبدل به الثمن القليل هو الإيمان بالآيات، والمراد بالآيات: البراهين المؤيدة لصدق النبي صلّى الله عليه وسلم وفي مقدمتها القرآن الكريم والتوراة.
والمراد بالثمن القليل: حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو الرياسة والمال والجاه، وما إلى ذلك من الأمور التي خافوا ضياعها لو اتبعوا الرسول صلّى الله عليه وسلم.
والمعنى: لا تستبدلوا بالإيمان بما أنزلت مصدقا لما معكم شيئا من حطام الدنيا، ولا تختاروا على ثواب الله بديلا من الأموال، فإنها مهما كثرت فهي قليلة مسترذلة بالنسبة لما يناله أولو الإيمان الخالص من رعاية ضافية في الدنيا، وخيرات حسان في الأخرى.
وليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف المخصصة للنكرات، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات إذ لا يكون إلا قليلا وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا بجانب رضا الله- عز وجل-.
ونزل تمكينهم من الإيمان بالآيات لوضوحها منزلة حصوله بالفعل، فكأن الإيمان كان في حوزتهم، ولكنهم خلعوه ونبذوه، مستبدلين الذي هو أدنى بالذي هو خير فباءوا بغضب على غضب لكفرهم بالقرآن الكريم وبتوراتهم التي بشرت بالرسول- عليه الصلاة والسلام-.
ثم حذرهم- سبحانه- من التمادي في الكفر بما أنزل، مصدقا لما معهم، فقال- تعالى- «وإياى فاتقون» الاتقاء معناه الحذر، يقال: فلان اتقى الله أى حذر عقابه وبطشه، والحذر من
وبعد أن نهى القرآن الكريم بنى إسرائيل عن الكفر والضلال، عقب ذلك بنهيهم عن أن يعملوا لإضلال غيرهم، فقال- تعالى-: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
اللبس- بفتح اللام- الخلط، وفعله: لبس، من باب: ضرب تقول: لبست عليه الأمر، ألبسه إذا مزجت بينه بمشكله، وحقه بباطله.
ولدعاة الضلالة طريقتان في إغواء الناس:
إحداهما: طريقة خلط الحق بالباطل حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر وهي المشار إليها بقوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ.
والثانية: طريقة جحد الحق وإخفائه حتى لا يظهر، وهي المشار إليها بقوله تعالى:
وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ.
وقد استعمل بنو إسرائيل الطريقتين لصرف الناس عن الإسلام، فقد كان بعضهم يؤول نصوص كتبهم الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلم تأويلا فاسدا، يخلطون فيه الحق بالباطل، ليوهموا العامة أنه ليس هو النبي المنتظر، وكان بعضهم يلقى حول الحق الظاهر شبها، ليوقع ضعفاء الإيمان في حيرة وتردد، وكان بعضهم يخفى أو يحذف النصوص الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلم، والتي لا توافق أهواءهم وشهواتهم، فنهاهم الله- تعالى- عن هذه التصرفات الخبيثة.
والمعنى: ولا تخلطوا الحق الواضح الذي نطقت به الكتب السماوية، وأيدته العقول السليمة، بالباطل الذي تخترعونه من عند أنفسكم، إرضاء لأهوائكم، ولا تكتموا الحق الذي تعرفونه، كما تعرفون أبناءكم، بغية انصراف الناس عنه «لأن من جهل شيئا عاداه، فالنهي الأول عن التغيير والخلط، والنهى الثاني عن الكتمان والإخفاء.
وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة حالية، أى وأنتم من ذوى العلم، ولا يناسب من كان كذلك أن يكتم الحق، أو يلبسه بالباطل، وإذا كان هذا الفعل- وهو لبس الحق بالباطل، أو كتمانه وإظهار الباطل وحده- يعد من كبائر الذنوب، فإن وقعه يكون أقبح، وفساده أكبر، وعاقبته أشأم متى صدر من عالم فاهم، يميز بين الحق والباطل.
ففي هذه الجملة الكريمة بيان لحال بنى إسرائيل، المخاطبين بهذا النهى، وتبكيت لهم، لأنهم لم يفعلوا ما فعلوه عن جهالة، وإنما عن علم وإصرار على سلوك هذا الطريق المعوج.
وبعد أن أمرهم- سبحانه- بأصل الدين الذي هو الإيمان به وبرسوله محمد صلّى الله عليه وسلم أردفه بركنين من أركانه العملية، إذا قاموا بهما لانت قلوبهم للحق، وانعطفت نفوسهم نحو خشية الله وحده، فقال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ والمراد بإقامة الصلاة، أداؤها مستوفية لأركانها وشرائطها وآدابها. والمراد بإيتاء الزكاة دفعها لمستحقيها كاملة غير منقوصة.
والمعنى: عليكم يا معشر اليهود أن تحافظوا على أداء الصلاة، التي هي أعظم العبادات البدنية، وعلى إيتاء الزكاة التي هي أعظم العبادات المالية، وأن تخضعوا لما يلزمكم في دين الله- تعالى- لأن في محافظتكم على هذه العبادات تطهيرا لقلوبكم، وتأليفا لنفوسكم، وتزكية لمشاعركم، ولأنكم إن لم تحافظوا عليها كما أمركم الله- تعالى- فسيلحقكم الخزي في الدنيا، والعذاب في الأخرى.
هذا، ونرى من المناسب أن نختم تفسير هذه الآيات الكريمة، وبيان ما اشتملت عليه من توجيه سليم، وتركيب بليغ، بما قاله أبو حيان في تفسيره، فقد قال- رحمه الله-:
«وفي هذه الجمل- وإن كانت معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيبا- ترتيب عجيب من الفصاحة، وبناء الكلام بعضه على بعض، وذلك أنه تعالى أمرهم أولا بذكر النعمة التي أنعمها عليهم، إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب طاعته: ثم أمرهم بإيفاء العهد الذي التزموه للمنعم، ثم رغبهم بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم في الإيفاء بالعهد، ثم أمرهم بالخوف من نقمه إن لم يوفوا، فاكتنف الأمر بالإيفاء أمر بذكر النعمة والإحسان، وأمر بالخوف من العصيان. ثم أعقب ذلك بالأمر بإيمان خاص وهو ما أنزل من القرآن، ورغب في ذلك بأنه مصدق لما معهم، فليس أمرا مخالفا لما في أيديهم، لأن الانتقال إلى الموافق أقرب من الانتقال إلى المخالف ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس، ثم أمرهم- تعالى- باتقائه ثم أعقب ذلك بالنهى عن لبس الحق بالباطل، وعن كتم الحق، فكان الأمر بالإيمان أمرا بترك الضلال، والنهى عن لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق تركا للإضلال.
إما تمويه الباطل حقا، إن كانت الدلائل قد بلغت المستمع، وإما عن كتمان الدلائل إن كانت لم تبلغه، أشار إلى الأمرين بلا تلبسوا وتكتموا، ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم، ثم أمرهم بعد تحصيل الإيمان، وإظهار الحق بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، لأن الصلاة آكد العبادات البدنية، والزكاة آكد العبادات المالية ثم ختم ذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له- تعالى- مع جملة الخاضعين الطائعين.
فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم واختتامها بالانقياد للمنعم، وما بينهما من تكاليف اعتقادية، وأفعال بدنية ومالية، وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإرداف والاختتام يظهر فضل كلام الله- تعالى- على سائر الكلام، وهذه الأوامر والنواهي، وإن كانت خاصة ببني إسرائيل في الصورة، إلا أنها عامة في المعنى، فيجب على كل مكلف في كل زمان ومكان أن يعمل بها» «١».
وبعد كل هذه الأوامر والنواهي، وبخهم الله- تعالى- وقرعهم على ارتكابهم لأمور لا تصدر عن عاقل. وهي أنهم يأمرون الناس بالخير ولا يفعلونه، فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٤]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤)
الأمر: طلب إيجاد الفعل. والبر: اسم يتناول كل عمل من أعمال الخير. والنسيان: ضد الذكر، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم. والعقل: يطلق على قوة في النفس، تستعد بها لقبول العلم. وإدراك الشيء.
والمعنى: كيف يليق بكم يا معشر اليهود، وأنتم تأمرون الناس بأمهات الفضائل، وألوان الخيرات، أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون به غيركم، وأنتم مع ذلك تقرأون توراتكم، وتدركون أى عقوبة أليمة لمن يأمر الناس بالخير وينسى نفسه، أفلا عقل لكم يحبسكم عن هذا السفه الذي ترديتم فيه، ويحذركم من سوء عاقبته؟
قال ابن عباس- رضي الله عنهما- كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره، ولذي قرابته، ولمن بينه وبينه صلة من المسلمين أثبت على الذي أنت عليه، وما يأمرك به هذا
والمراد بالنسيان في الآية الكريمة، تركهم العمل بما يأمرون به غيرهم، لأن الناسي حقيقة ليس مؤاخذا على ما نسيه، فلا يستحق هذا التوبيخ الشديد الوارد في الآية الكريمة، وليس التوبيخ متوجها إلى كونهم كانوا يأمرون الناس بالبر، لأنه فعل محمود، وإنما التوبيخ متوجه إلى كونهم تركوا العمل بما يرشدون إليه سواهم، فهم يداوون الناس، وقلوبهم مليئة بالأمراض والعلل.
وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ مزيد تقبيح لشأنهم، ذلك أن قراءتهم لكتبهم أبطلت اعتذارهم بالجهل الذي قد يتشبث به بعض الفاسقين على أمر الله عند ما ينكر الناس عليهم فسوقهم.
وفي قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ أسمى أنواع الهداية والإرشاد السليم، فإن من ألطف الأساليب في الخطاب والتوجيه، أن يكون للموجه إليه النصح صفة من شأنها أن تسوقه إلى خير، ولكنه ينساق إلى غيره من أنواع الشرور فيقع فعله من الناس موقع الدهشة والغرابة، فيذكر له مسدي النصح تلك الصفة في معرض الاستفهام بغية تذكيره بأن ما صدر منه لا يلتقى مع ما عرف عنه.
وتطبيقا لهذا المبدأ نقول: إن المخاطبين بقوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ يعقلون ويدركون الأشياء، وبهذا الإدراك توجه إليهم التكليف بالعقائد والشرائع، ولكنهم لم يسيروا على مقتضى ما لديهم من عقول، حيث كانوا يأمرون الناس بالخير، ويصرفون أنفسهم عنه، فكأنه- سبحانه- يقول لهم: إن ما أتيتم من أفعال سقيمة. يجعل الناظر إليكم يحكم عليكم بلا أدنى تردد بأنكم لا عقول لكم، ولا فضيلة لديكم، وفي هذا الأسلوب ما فيه من الترغيب في فعل الخير والترهيب من فعل الشر.
ولما كانت الأمور التي كلفهم الله بها قبل ذلك فيها مشقة لا يتحملها كل أحد بسهولة. فقد أرشدهم إلى الوسائل التي تقوى عزائمهم، وتطهر قلوبهم، وتعالج أمراض نفوسهم فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦)
والمعنى: واستعينوا على ترك ما تحبون من شهوات الدنيا، والدخول فيما تستثقله نفوسكم من قبول الإسلام، والتقيد بتكاليفه بفضيلة الصبر التي تحجز أنفسكم من غشيان الموبقات، وبفريضة الصلاة التي تنهاكم عن الفحشاء والمنكر.
قوله تعالى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ كبيرة: أى صعبة شاقة. يقال كبر الشيء إذا شق وثقل، ومنه قوله تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أى ثقل وصعب- والخاشعين: من الخشوع وهو في الأصل اللين والسهولة «ومعناه في الآية الكريمة. الخضوع والاستكانة لله تعالى، والضمير في- إنها- للصلاة لعظيم شأنها واستجماعها لضروب من الصبر، والاستثناء مفرغ. أى كبيرة على كل الناس إلا على الخاشعين.
والمعنى: إن الصلاة صعبة إلا على الخاضعين المخبتين المتطامنة قلوبهم وجوارحهم لله تعالى لأنهم موقنون أنها من أهم وسائل الفلاح في الدنيا، والسعادة في الآخرة، ولأنهم يجدون عند أدائها اغتباطا وسرورا يجعل نفوسهم تنشط إليها كلما حل وقتها بهمة وإخلاص.
قال الإمام الرازي: «فإن قيل: إن كانت ثقيلة على هؤلاء سهلة على الخاشعين، فيجب أن يكون ثوابهم أكثر، وثواب الخاشع أقل، وذلك منكر من القول؟ قلنا: ليس المراد أن الذي يلحقهم من التعب أكثر مما يلحق الخاشع. وكيف يكون ذلك، والخاشع يستعمل في الصلاة جوارحه وقلبه، ولا يغفل فيها وإذا كان هذا فعل الخاشع فالثقل عليه يفعل الصلاة أعظم.
وإنما المراد بقوله تعالى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ. أى ثقيلة على غير الخاشع لأنه لا يعتقد في فعلها ثوابا، ولا في تركها عقابا، فيصعب عليه فعلها، فالحاصل أن الملحد لاعتقاده عدم المنفعة في أدائها ثقل عليه فعلها، لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل على الطبع. أما الموحد فلما اعتقد في فعلها أعظم المنافع، وفي تركها أكبر المضار، لم يثقل عليه أداؤها. بل أداها وهو سعيد بها، ألا ترى إلى قول الرسول صلّى الله عليه وسلم: «جعلت قرة عيني في الصلاة» وصفها بذلك لأنها كانت لا تثقل عليه.
ثم وصف- سبحانه- الخاشعين وصفا يناسب المقام، ويظهر وجه الاستعانة، فقال- تعالى-: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ.
الظن: يرد في أكثر الكلام بمعنى الاعتقاد الراجح، وهو ما يتجاوز مرتبة الشك، وقد يقوى حتى يصل إلى مرتبة اليقين والقطع، وهو المراد هنا ومثل ذلك قوله- تعالى-
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أى علمت أنى ملاق حسابيه.
وملاقاة الخاشعين لربهم معناها الحشر إليه بعد الموت، ومجازاتهم على ما قدموا من عمل.
والمعنى: إن الصلاة لثقيلة إلا على الخاشعين، الذين يعتقدون لقاء الله- تعالى- يوم الحساب، وأنهم عائدون إليه لينالوا ما يستحقونه من جزاء على حسب أعمالهم.
قال ابن جرير- مرجحا أن المراد بالظن هنا العلم واليقين-: «إن قال لنا قائل: وكيف أخبر الله- تعالى- عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة أنه يظن أنه ملاقيه، والظن شك، والشاك في لقاء الله كافر؟ قيل له: إن العرب قد تسمى اليقين ظنا: والشك ظنا نظير تسميتهم الظلمة سدفة. والضياء سدفة، والمغيث صارخا، والمستغيث صارخا، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده، ومما يدل على أنه يسمى به اليقين، قول دريد بن الصمة: (فقلت لهم ظنوا بألفى مدجج... ).
يعنى بذلك: تيقنوا أن ألفى مدجج تأتيكم، ثم قال: والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرنا لمن وفق في فهمه كفاية، ومنه قوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وعن مجاهد قال: «كل ظن في القرآن فهو علم» «١».
والذين قالوا إن الظن هنا على معناه الحقيقي، وهو الاعتقاد الراجح، فسروا «ملاقاة الخاشعين لربهم» بمعنى قربهم من رضاه يوم القيامة «ورجوعهم إليه» بمعنى حلولهم بجواره الطيب، واستقرارهم في جناته، أى: وإن الصلاة لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يتوقعون قربهم من ربهم، ودخولهم جناته عند رجوعهم إليه.
وإلى هذا التفسير ذهب صاحب الكشاف، فقد قال: (فإن قلت: مالها لم تثقل على الخاشعين والخشوع في نفسه مما يثقل؟ قلت: لأنهم يتوقعون ما ادخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم. ألا ترى إلى قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أى يتوقعون لقاء ثوابه، ونيل ما عنده ويطمعون فيه) «٢».
وإنما كان شعور الخاشعين بذلك كله ظنا لا يقينا، لأن خواتيم الحياة لا يعلمها كيف تكون
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ١٣٤.
ومن هذا العرض لمعنى الآية الكريمة يتبين لنا، أن من فسر الظن هنا بمعنى اليقين والعلم، يرى أن لقاء الخاشعين لله معناه الحشر بعد الموت، ورجوعهم إليه معناه مجازاتهم على أعمالهم.
والحشر والمجازاة يعتقد صحتهما الخاشعون اعتقادا جازما.
أما من فسر الظن هنا بمعنى الاعتقاد الراجح، فيرى أن لقاء الخاشعين لله معناه توقعهم لقاء ثوابه، ورجوعهم إليه معناه ظفرهم بجناته، وتوقع الثواب والظفر بالجنات يرجح الخاشعون حصولهما لأن مرجعهما إلى فضل الله وحده.
والذي نراه أن الرأى الأول أكثر اتساقا مع ظاهر معنى الآية الكريمة وبه قال قدماء المفسرين، كمجاهد وأبى العالية وغيرهما.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة توبيخ أحبار اليهود على نصحهم لغيرهم وتركهم لأنفسهم وإرشادهم إلى العلاج الذي يشفيهم من هذا الخلق الذميم، ومن غيره متى استعملوه بصدق وإخلاص، وهذا العلاج يتمثل في تذرعهم بالصبر. ومداومتهم على الصلاة، وشكرهم لله- تعالى- على نعمه التي فصلت الآيات بعد ذلك الحديث عنها، وها نحن نذكرها مرتبة كما ساقها القرآن الكريم.
أولا: نعمة تفضيلهم على العالمين: قال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٧]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧)
أعاد القرآن الكريم نداءهم، تأكيدا لتذكيرهم بواجب الشكر، واهتماما بمضمون الخطاب وما يشتمل عليه من أوامر ومنهيات، وتفصيلا لما أسبغه الله عليهم من منن بعد أن أجملها في النداء الأول، ليكون التذكير أتم والتأثير أشد، والشكر عليها أرجى.
وقد جرت سنة القرآن الكريم أن يكرر الجمل المشتملة على أمور تستوجب المزيد من العناية كما في حال ذكر النعم، لأن تكرارها يغرى النفوس الكريمة بطاعة مرسلها، والسير على الطريق القويم.
وقد ذكر الله- تعالى- بنى إسرائيل المعاصرين للعهد النبوي بهذه النعم مع أنها كانت لآبائهم. كما يدل عليه سياق الآيات لأن النعم على الآباء نعم على الأبناء لكونهم منهم، ولأن شرف الأصول يسرى إلى الفروع، فكان التذكير بتلك النعم فيه شرف لهم، وحسن سمعة تعود عليهم، وتغريهم بالإيمان والطاعة- لو كانوا يعقلون-.
ومن مظاهر، تفضيل الله لبنى إسرائيل على عالمي زمانهم، جمعه لهم من المحامد قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم. ما لم يجمع لغيرهم. فقد حياهم بكثير من النعم، وبعث فيهم عددا كبيرا من الأنبياء، ونجاهم من عدوهم، ولم يعجل العقوبة عليهم رغم عصيانهم واعتدائهم، واقترافهم شتى ألوان المنكرات عن تعمد وإصرار، ولم ينزل بهم قارعة تستأصلهم بذنوبهم كما استأصل غيرهم كقوم عاد وثمود.
ولكن بنى إسرائيل لم يقابلوا نعم الله بالشكر والعرفان. بل قابلوها بالجحود والطغيان فسلبها الله عنهم، ومنحها لقوم آخرين لم يكونوا أمثالهم ولقد حكى القرآن ألوانا من النعم التي منحها الله لبنى إسرائيل ولكنهم قابلوها بالبطر والكفران فأزالها الله عنهم. من ذلك قوله تعالى:
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ «١».
أى: سل- يا محمد- بنى إسرائيل المعاصرين لك. سؤال تقريع وتوبيخ. كم آتاهم الله على أيدى أنبيائهم من النعم الجليلة، والمعجزات الباهرة، ولكنهم بعد أن جاءتهم هذه الآيات، وتمكنوا منها وعقلوها قابلوها بالعناد والاستهزاء، وجعلوها من أسباب ضلالهم مع أنها مسوقة لهدايتهم وسعادتهم، فكانت نتيجة ذلك أن ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة في الدنيا، وتوعدهم بشديد العقاب في الآخرة.
ومن الآيات التي صرحت بأن الله- تعالى- أعطى بنى إسرائيل نعما وفيرة، ولكنهم لم يحمدوه عليها. قوله تعالى:
أى: ولقد نجينا بفضلنا وكرمنا بنى إسرائيل من العذاب المهين الذي كان ينزله بهم فرعون وجنده، بأن أغرقناه ومن معه أمام أعينهم لأنه كان ظلوما غشوما، وفضلا عن ذلك فقد اصطفينا بنى إسرائيل- على علم منا بما يكون منهم- على عالمي زمانهم وآتيناهم من النعم والمعجزات. ما فيه اختبار لقلوبهم، وامتحان لنفوسهم. فكانت نتيجة هذا الاختبار والامتحان أن كفروا بنعم الله، وكذبوا برسله وقتلوهم. فتوعدهم الله في الدنيا بأن يسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة. أما في الآخرة فمأواهم جهنم وبئس المهاد.
- وأيضا- من الآيات التي ساقت أنواعا من نعم الله على بنى إسرائيل ولكنهم لم يشكروه عليها قوله تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ «٢».
والمعنى: ولقد آتينا بنى إسرائيل التوراة لتكون هداية لهم ومنحناهم الحكمة والفقه في الدين، وجعلنا النبوة في عدد كبير منهم، ورزقناهم من طيبات الأغذية والأشربة، وفضلناهم على من عاصرهم من الأمم قيل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم وفضلا عن ذلك فقد سقنا لهم على أيدى أنبيائهم الكثير من المعجزات والدلائل التي تقوى إيمانهم، وتهديهم إلى الطريق المستقيم ولكنهم لم ينتفعوا بهذه النعم. بل جعلوا علمهم بالدين الحق سببا للخلاف والشقاق، والسير في طريق الضلال، وسيعاقبهم الله بما يستحقونه جزاء جحودهم وعنادهم.
والعبرة التي نستخلصها من هذه الآيات وأمثالها. أن الله- تعالى- فضل بنى إسرائيل على غيرهم من الأمم السابقة على الأمة الإسلامية. ومنحهم الكثير من النعم، ولكنهم لم يقابلوا ذلك بالشكر. بل قابلوه بالتمرد والحسد والبطر. فسلب الله عنهم ما حباهم من نعم، ووصفهم في كتابه بأقبح الصفات وأسوأ الطباع. كقسوة القلب، ونقض العهد، والتهالك على شهوات الدنيا، والتعدي على الغير. والتحايل على استحلال محارم الله، ونبذهم للحق واتباعهم الباطل... إلى غير ذلك من الصفات التي توارد ذكرها في القرآن الكريم.
(٢) سورة الجاثية الآية ١٧، ١٨.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: فإن قيل: إن تفضيلهم على العالمين يقتضى تفضيلهم على أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وهذا باطل. فكيف الجواب؟ قلنا: الجواب من وجوه أقربها إلى الصواب أن المراد: فضلتكم على عالمي زمانكم وذلك لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك وهو الآن ليس بموجود لم يكن من جملة العالمين حال عدمه، وأمة محمد صلّى الله عليه وسلم ما كانت موجودة في ذلك الوقت، فلا يلزم من كون بنى إسرائيل أفضل العالمين في ذلك الوقت. أنهم أفضل من الأمة المحمدية.
وهذا هو الجواب أيضا عن قوله- تعالى-: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ. وعن قوله تعالى: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ «١».
وبهذا يتعين بطلان دعوى اليهود أنهم شعب الله المختار. استنادا إلى هذه الآية الكريمة وأمثالها، لأنها دعوى لا تؤيدها النصوص، ولا يشهد لها العقل السليم. ثم قال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٨]
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
بعد أن ذكرهم- سبحانه- في الآية السابقة بنعمة عظمى من نعمه حذرهم في هذه الآية الكريمة من التقصير في العمل الصالح، وذلك لأن وصفهم بالتفضيل على عالمي زمانهم قد يحملهم على الغرور، ويجعلهم يتوهمون أنهم مغفور لهم لو أذنبوا. فجاءت هذه الآية الكريمة لتقتلع من أذهانهم تلك الأوهام بأحكم عبارة وأجمع بيان.
والمراد باتقاء اليوم، وهو يوم القيامة، الحذر مما يحدث فيه من أهوال وعذاب، والحذر منه يكون بالتزام حدود الله- تعالى- وعدم تعديها، فهو من إطلاق الزمان على ما يقع فيه كما تقول «مكان مخيف» وتنكير النفس في الموضعين وهو في حيز النفي يفيد عموم النفوس. أى:
لا تقضى فيه نفس كائنة من كانت عن نفس أخرى شيئا من الحقوق.
ووصف اليوم بهذا الوصف، ولم يقل «يوم القيامة» مثلا، للإشعار بأن التصرف في ذلك اليوم لله وحده. فليس فيه ما اعتاد الناس في هذه الدنيا من دفاع بعضهم عن بعض.
ثم وصف القرآن الكريم ذلك اليوم بوصف آخر يناسب المقام. فقال تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ الضمير في (منها) يعود إلى النفس المحاسبة في ذلك اليوم. والشفاعة: من الشفع ضد الوتر، وهي انضمام الغير إلى الشخص ليدفع عنه، أى لا يقبل منها أن تأتى بشفيع ليحصل لها نفعا، أو يدفع عنها ضررا.
والآية الكريمة قد نفت قبول الشفاعة من أحد نفيا مطلقا، ولكن هنالك آيات كريمة تنفى قبول الشفاعة إلا ممن أذن له الرحمن في ذلك، من هذه الآيات قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ»
وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا «٢».
وللجمع بين هذه الآيات، تحمل الآيات التي تنفى الشفاعة نفيا مطلقا على أنها واردة في شأن النفوس الكافرة، وتحمل الآيات التي تبيح الشفاعة على أنها واردة في شأن المؤمنين إذا أذن الله فيها للشافعين، وقد وردت أحاديث صحيحة بلغت مبلغ التواتر المعنوي في أن النبي صلّى الله عليه وسلم ستكون له شفاعة في دفع العذاب عن أقوام المؤمنين، وتخفيفه عن أهل الكبائر من المسلمين، من ذلك ما أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
«أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وجعلت أمتى خير الأمم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة «٣».
قال الإمام ابن جرير: (وهذه الآية وإن كان مخرجها عاما في التلاوة فإن المراد بها خاص في التأويل، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. أنه قال: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتى، وأنه قال: ليس من نبي إلا وقد أعطى دعوة، وإنى خبأت دعوتي شفاعة لأمتى، وهي نائلة إن شاء الله منهم من لا يشرك بالله شيئا. فقد تبين بذلك أن الله جل ثناؤه قد يصفح لعباده المؤمنين بشفاعة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم لهم عن كثير من عقوبة إجرامهم بينه وبينهم، وأن قوله وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ
(٢) سور طه الآية ١٠٩.
(٣) صحيح البخاري «باب التيمم» ج ١ ص ٩١.
ثم وصف اليوم بوصف ثالث فقال تعالى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ.
العدل: العوض والفداء. سمى بالمصدر لأن الفادي يعدل المفدى بمثله في القيمة أو العين ويسويه به. يقال: عدل كذا بكذا: أى سواه به.
والمعنى: لا يؤخذ منها فداء أو بدل في ذلك اليوم إن هي استطاعت إحضاره على سبيل الفرض والتقدير.
ثم وصفه بوصف رابع فقال تعالى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ والنصر هو الإعانة في الحرب وغيره بقوة الناصر، وقدم المسند إليه لزيادة التأكيد المفيد أن انتفاء نصرهم محقق. فضلا عما استفيد من نفى الفعل وإسناده للمجهول وجاء الضمير في قوله تعالى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ جمعا مع أنه عائد على النفس وهو قوله تعالى: لا تَجْزِي نَفْسٌ لأن النكرة إذا وقعت في سياق النفي تناولت كل فرد من أفرادها، وبهذا صارت في معنى الجمع، وصح أن يعود عليها ضمير الجمع وهو (هم).
والمعنى. أنهم لا يجدون من يعينهم ويمنعهم من عذاب الله يوم القيامة.
ولما كان اليهود يعتقدون أنهم شعب مميز، وأن نسبتهم إلى الأنبياء ستجعلهم في مأمن من العقاب رغم عصيانهم وفسوقهم، وأن آباءهم سيشفعون لهم | لما كانوا كذلك جاءت هذه الآية الكريمة لتبطل ما اعتقدوه، وتقطع ما أمّلوه، ولتنقض كل ما يحتمل أن يكون وسيلة للنجاة يوم القيامة سوى الإيمان والعمل الصالح. |
ونفت انتفاعهم بشفاعة الشافعين يوم الحساب بقولها (ولا يقبل منها شفاعة).
ونفت قبول البدل أو الفداء عما ارتكبوه من خطايا بقولها وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ.
ونفت وجود من ينتصر لهم أو يدافع عنهم بقولها وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.
وهكذا سدت عليهم الآية الكريمة كل منفذ يتوهمون نجاتهم من عذاب الله بسببه، ما داموا مصرين على كفرهم وجحودهم.
هذا، وقد اشتملت هاتان الآيتان على أسلوب حكيم في التوجيه، وطريقة فريدة في الإرشاد، جمعت بين الترغيب والترهيب، فإن الآية الأولى ابتدأت بندائهم باسم أبيهم
ثانيا: نعمة إنجائهم من عدوهم:
ثم ذكرهم- سبحانه- بنعمة جليله الشأن، هي نعمة إنجائهم من عدوهم فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٩]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)
الآية الكريمة معطوفة على قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ في الآية السابقة، من باب عطف المفصل على المجمل: أى: اذكروا نعمتي، واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون.
وإذ: بمعنى وقت، «وهي مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام وهو اذكروا أى: اذكروا وقت أن نجيناكم، والمراد من التذكير بالوقت تذكيرهم بما وقع فيه من أحداث.
وآل الرجل: أهله وخاصته وأتباعه، ويطلق غالبا على أولى الخطر والشأن من الناس، فلا يقال آل الحجام أو الإسكاف.
وفرعون: اسم لملك مصر كما يقال لملك الروم قيصر، ولملك اليمن تبع ويسومونكم: من سامه خسفا إذا أذله واحتقره وكلفه مالا يطيق.
والابتلاء: الامتحان والاختبار، ويكون في الخير والشر، قال- تعالى- وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً «١».
والمعنى: اذكروا يا بنى إسرائيل وقت أن نجيناكم من آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم أشق
قال الإمام الرازي- رحمه الله- ما ملخصه: واعلم أن الفائدة في ذكر هذه النعمة- أى نعمة إنجائهم من عدوهم- يتأتى من وجوه أهمها:
١- أن هذه الأشياء التي ذكرها الله- تعالى- لما كانت من أعظم ما يمتحن به الناس من جهة الملوك والظلمة، صار تخليص الله- عز وجل- لهم من هذه المحن من أعظم النعم، وذلك لأنهم عاينوا هلاك من حاول إهلاكهم، وشاهدوا ذل من بالغ في إذلالهم، ولا شك في أن ذلك من أعظم النعم، وعظم النعمة يوجب المبالغة في الطاعة والبعد عن المعصية، لذا ذكر الله هذه النعمة العظيمة ليلزمهم الحجة، وليقطع عذرهم.
٢- أنهم لما عرفوا أنهم كانوا في نهاية الذل. وكان عدوهم في نهاية العز، إلا أنهم كانوا محقين، وكان خصمهم مبطلا، لا جرم زال ذل المحقين، وبطل عز المبطلين، فكأنه تعالى يقول لهم: لا تغتروا بكثرة أموالكم ولا بقوة مركزكم، ولا تستهينوا بالمسلمين لقلة ذات يدهم، فإن الحق إلى جانبهم. ومن كان الحق إلى جانبه، فإن العاقبة لا بد أن تكون له) اهـ «١» وخوطب بهذه النعمة اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم ومع أن هذا الاتجاء كان لأسلافهم، لأن في نجاة أسلافهم نجاة لهم، فإنه لو استمر عذاب فرعون للآباء لأفناهم، ولما بقي هؤلاء الأبناء، فلذلك كانت منة التنجية تحمل في طياتها منتين، منة على السلف لتخليصهم مما كانوا فيه من عذاب ومنة على الخلف لتمتعهم بالحياة بسببها، فكان من الواجب عليهم جميعا أن يقدروا هذه النعمة قدرها، وأن يخلصوا العبادة لخالقهم الذي أنجاهم من عدوهم. ولأن الإنعام على أمة يعتبر إنعاما شاملا لأفرادها سواء منهم من أصابه ذلك الإنعام ومن لم يصبه. لأن الآثار التي تترتب عليه كثيرا ما يرثها الخلف عن السلف، ولأن في إخبارهم بذلك تصديقا للنبي- عليه الصلاة والسلام- فيما يبلغه عن ربه، فقد أخبرهم بتاريخ من مضى منهم بصدق وأمانة، وفي ذلك دليل على أنه صادق في نبوته ورسالته.
وجعلت النجاة هنا من آل فرعون ولم تجعل منه، مع أنه الآمر بتعذيب بنى إسرائيل، للتنبيه على أن حاشيته وبطانته كانت عونا له في إذاقتهم سوء العذاب، وإنزال الإذلال والإعنات بهم.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: (في ذبح الذكور دون الإناث مضرة من وجوه:
أحدها: أن ذبح الأبناء يقتضى فناء الرجال، وذلك يقتضى انقطاع النسل، لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن البتة في ذلك، وهذا يقضى في نهاية الأمر إلى هلاك الرجال والنساء جميعا.
ثانيهما: أن هلاك الرجال يقتضى فساد مصالح النساء في أمر المعيشة، فإن المرأة لتتمنى الموت إذا انقطع عنها تعهد الرجال. لما قد تقع فيه من نكد العيش بالانفراد. فصارت هذه الخطة عظيمة في المحن، والنجاة منها تكون في العظم بحسبها.
ثالثها: أن قتل الولد عقب الحمل الطويل، وتحمل التعب، والرجاء القوى في الانتفاع به، من أعظم العذاب، فنعمة الله في تخليصهم من هذه المحنة كبيرة.
رابعها: أن بقاء النساء بدون الذكران من أقاربهم، يؤدى إلى صيرورتهن مستفرشات الأعداء وذلك نهاية الذل والهوان) «١».
وقد رجح كثير من المفسرين أن المراد بالأبناء في قوله تعالى: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ الأطفال دون البالغين، لأن اللفظ من حيث وضعه يفيد ذلك، ولأن قتل جميع الرجال لا يفيدهم حيث أنهم كانوا يستعملونهم في الأعمال الشافة والحقيرة، ولأنه لو كان المقصود بالذبح الرجال، لما قامت أم موسى بإلقائه في اليم وهو طفل صغير لتنجيه من الذبح.
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالأبناء الرجال لا الأطفال، لأن لفظ الأبناء هنا جعل في مقابلة النساء، والنساء هن البالغات.
والذي نرجحه هو القول الأول لما ذكرنا، ولأنه أتم في إظهار نعمة الإنجاء، حيث كان أهل فرعون يقتلون الصغار قطعا للنسل، ويسترقون الأمهات استعبادا لهن، ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدرج، وبقاء الرجال على هذه الحالة أشد عليهم من الموت.
وقد جاءت جملة يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ في هذه الآية الكريمة بدون عطف وجاءت في سورة إبراهيم معطوفة بالواو «٢». لأنها هنا بيان وتفسير لجملة يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ فيكون
(٢) آية سورة إبراهيم هي قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ الآية ٦.
وأما في سورة إبراهيم. فقد جاء سياق الآيات لتعداد المحن التي حلت ببني إسرائيل، فكان المراد بجملة يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ نوعا منه، والمراد بجملة وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ نوعا آخر من العذاب، لذا وجب العطف، لأن الجملة الثانية ليست مفسرة للأولى وإنما هي تمثل نوعا آخر من المحن التي حلت بهم.
هذا، وقد تكرر تذكير بنى إسرائيل بنعمة إنجائهم من عدوهم في مواضع متعددة من القرآن الكريم، وذلك لجلال شأنها، ولحملهم على الطاعة والشكر.
١- من ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ «١».
٢- وقوله تعالى في سورة طه: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى «٢».
فهذه الآيات الكريمة وغيرها مما هي في معناها فيها تذكير لبنى إسرائيل بنعمة من أجل نعم الله عليهم، حيث أنجاهم- سبحانه- ممن أراد لهم السوء، وعمل على قتلهم وإبادتهم واستئصال شأفتهم، وفي ذلك ما يدعوهم إلى الاجتهاد في شكر الله- عز وجل- لو كانوا ممن يحسنون شكر النعم.
ثالثا: نعمة فرق البحر بهم.
ثم ذكرهم- سبحانه- بعد ذلك بنعمة ثالثة عظيمة حصل بها تمام الإنجاء وتجلى فيها إكرام الله لهم، وهي نعمة فرق البحر بهم فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٠]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠)
والمعنى: واذكروا يا بنى إسرائيل من جملة نعمنا عليكم، نعمة فرق البحر بكم، وانفصاله بعد اتصاله، حين ضربه موسى بعصاه، فأصبحت فيه طريق يابسة فولجتموها، وسرتم فيها
(٢) الآيات ٨٠- ٨٢.
فالآية الكريمة تشير إلى قصة نجاة بنى إسرائيل وغرق فرعون وقومه، وملخصها:
أن الله- عز وجل أوحى إلى نبيه- موسى- عليه السلام- أن يرحل ببني إسرائيل ليلا من أرض مصر التي طال عذابهم فيها إلى أرض فلسطين، ونفذ موسى- عليه السلام- ما أمره به الله- تعالى- وعلم فرعون أن موسى وقومه قد خرجوا إلى أرض الشام، فتبعهم بجيش كبير، وأدركهم مع طلوع الشمس قرب ساحل البحر الأحمر، وأيقن بنو إسرائيل عند ما رأوه أنه مهلكهم لا محالة. ولجئوا إلى موسى- عليه السلام- يشكون إليه خوفهم وفزعهم، ولكنه رد عليهم بقوله: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ وأوحى الله إليه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فضربه فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وأمر موسى- عليه السلام- بنى إسرائيل أن يعبروا فعبروا بين فرقى الماء دون أن يمسهم أذى. واقتفى فرعون وجنوده أثرهم طمعا في إدراكهم وعند ما عبر بنو إسرائيل البحر ولم يبق منهم أحد بين المياه المنحسرة، كان فرعون وجنده ما زالوا بين فرقى البحر، فأطبق عليهم وعاد كما كان أولا، فغرقوا جميعا، وبنو إسرائيل ينظرون إليهم في دهشة وسرور.
وأسند- سبحانه- فرق البحر إلى ذاته الكريمة. ليدل على أن القوم عبروه وقطعوه وهم بعنايته، وقوله تعالى: فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ بيان للمنة العظمى التي امتن بها عليهم، والتي ترتبت على فرق البحر، لأن فرق البحر لهم ترتب عليه أمران.
أولهما: نجاتهم.
وثانيهما: إهلاك عدوهم وكلاهما نعمة عظيمة.
والإيمان الصحيح يقضى بأن تفهم واقعة انفصال البحر لموسى وقومه على أنها معجزة كونية له، وقد زعم البعض أنها كانت حادثة طبيعية منشؤها المد والجزر، وهو زعم لا سند له ولا دليل عليه.
واقتصرت الآية هنا على ذكر إغراق آل فرعون أى جنده وأنصاره، وصرحت آيات أخرى بغرقه مع آله، من ذلك قوله تعالى: فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً «١» وقوله تعالى:
«١» ومن تمام النعمة أن الله- تعالى- أهلك مع فرعون كل مناصر له:
وقوله تعالى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أى: أغرقنا آل فرعون وأنتم تشاهدونهم بأعينكم، فكان ذلك أدعى لليقين بهلاك عدوكم، وأبلغ في الشماتة به، وأرجى لشكر النعمة- ولا شك أن مشاهدة المنعم عليه للنعمة فيها لذة كبرى، ورؤيته لهلاك عدوه فيها عبرة عظمى، ومعاينته لانفراق البحر فيها تقوية لإيمانه، وتثبيت ليقينه، إذا كانوا ممن يحسنون الانتفاع بما يشاهدون.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: (اعلم أن هذه الواقعة- أى واقعة فلق البحر- تضمنت نعما كثيرة على بنى إسرائيل في الدين والدنيا، أما نعم الدنيا فمن وجوه:
أولها: أنهم لما اقتربوا من البحر أصبحوا في موقف حرج، لأن فرعون وجنوده من ورائهم والبحر من أمامهم، فإن هم توقفوا أدركهم عدوهم وأهلكهم، وإن هم تقدموا أغرقوا.
فحصل لهم خوف عظيم، جاءهم بعده الفرج بانفلاق البحر وهلاك عدوهم.
ثانيها: أن الله- تعالى- خصهم بهذه النعمة العظيمة والمعجزة الباهرة تكريما ورعاية لهم.
ثالثها: أنهم بإغراق فرعون وآله تخلصوا من العذاب، وتم لهم الأمن والاطمئنان، وذلك نعمة عظمى، لأنهم لو نجوا دون هلاك فرعون لبقي خوفهم على حاله، فقد يعود لتعذيبهم مستقبلا، لأنهم لا يأمنون شره، فلما تم الغرق تم الأمان والاطمئنان لبنى إسرائيل.
أما نعم الدين فمن وجوه:
أولها: أن قوم موسى لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة. زالت عن قلوبهم الشكوك والشبهات، لأن دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصانع الحكيم وعلى صدق موسى، تقترب من العلم الضروري.
ثانيها: أنهم لما شاهدوا ذلك صار داعيا لهم على الثبات والانقياد لأوامر نبيهم.
ثالثها: أنهم عرفوا أن الأمور كلها بيد الله، فإنه لا عز في الدنيا أكمل مما كان لفرعون، ولا ذل أشد مما كان لبنى إسرائيل، ثم إن الله- تعالى- في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلا، والذليل عزيزا، والقوى ضعيفا، والضعيف قويا، وذلك يوجب انقطاع القلب عن علائق الدنيا، والإقبال كلية على اتباع أوامر الخالق- عز وجل- «٢».
هذا، ونعمة فرق البحر لبنى إسرائيل، وإنجائهم من عدوهم قد تكرر ذكرها في القرآن،
(٢) تفسير الرازي بتصريف ج ١ ص ٣٦٠.
رابعا: نعمة عفوه- سبحانه- عنهم بعد عبادتهم للعجل:
ثم ذكرهم- سبحانه- بعد ذلك بنعمة رابعة وهي عفوه عنهم رغم جحودهم وكفرهم وعبادتهم لغيره، فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢)
المواعدة: مفاعلة من الجانبين، وهي هنا على غير بابها، لأن المراد بها هنا أمر الله- تعالى- لموسى أن ينقطع لمناجاته أربعين ليلة تمهيدا لإعطائه التوراة، ويؤيد ذلك قراءة أبى عمرو وأبى جعفر (وعدنا). وقيل: المفاعلة على بابها، على معنى أن الله- تعالى- وعد نبيه موسى- عليه السلام- أن يعطيه التوراة وأمره بالحضور للمناجاة، فوعد موسى ربه بالطاعة والامتثال فكان الوعد حاصلا من الطرفين.
وملخص هذه القصة أن قوم موسى بعد أن نجاهم الله، وأغرق عدوهم أمام أعينهم، طلبوا من نبيهم موسى أن يأتيهم بكتاب من عند الله ليعملوا بأحكامه، فوعده- سبحانه- أن يعطيه التوراة بعد أربعين ليلة ينقطع فيها لمناجاته، وبعد انقضاء تلك الفترة وذهاب موسى لتلقى التوراة من ربه اتخذ بنو إسرائيل عجلا جسدا له خوار فعبدوه من دون الله، وأعلم الله موسى
ومعنى الآيتين الكريمتين: واذكروا يا بنى إسرائيل وقت أن وعدنا موسى أن نؤتيه التوراة بعد انقضاء أربعين ليلة من هذا الوعد، فلما حل الوعد وجاء موسى لميقاتنا عبدتم العجل في غيبته، ولا شك أنكم ظلمتم أنفسكم بعبادة غير الله، وبوضعكم الأمور في غير مواضعها، ومع هذا فلم نعاجلكم بالعقوبة، بل قبلنا توبتكم، وعفونا عنكم، لتكونوا من الشاكرين لله تعالى.
وهذا التذكير يحمل في طياته التعجيب من حالهم، لأنهم قابلوا نعم الله بأقبح أنواع الكفر والجهالة، حيث عبدوا في غيبة نبيهم ما هو مثال في الغباوة والبلادة وهو العجل.
وفي اختيار حرف العطف (ثم) المفيد للتراخي الرتبى في جملة ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ إشعار بأنهم انحدروا إلى دركات سحيفة من الجحود والجهل، وأن ما ارتكبوه هو من عظائم الأمور في القبح والمعصية وحذف المفعول الثاني لاتخذتم وهو «إلها أو معبودا لشناعة ذكره ولعلمهم بأنهم اتخذوه إلها.
وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِهِ معناه: من بعد مضيه لميقات ربه إلى الطور وغيابه عنهم. وفي ذلك زيادة تشنيع عليهم، حيث وصفهم- سبحانه- بعدم الوفاء، لأنهم كان من الواجب عليهم- لو كانوا يعقلون- أن يستمروا على توحيد الله في غيبة نبيهم لا سيما وقد رأوا من المعجزات والنعم، ما يطمئن النفوس، ويقوى الإيمان ويغرس في القلوب الطاعة لله تعالى.
وجملة وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ حالية مقيدة لاتخذتم، ليكون اتخاذهم العجل معبودا، مقرونا بالتعدي والظلم من بدئه إلى نهايته، وللإشعار بانقطاع عذرهم فيما فعلوا.
وقوله تعالى ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ معناه ثم تركنا معاجلتكم بالعقوبة، ومحونا ذنوبكم، لتوبتكم من بعد اتخاذكم العجل معبودا من دون الله، رجاء أن تشكروا خالقكم على عفوه عنكم وتستعملوا نعمه فيما خلقت له وتتبعوا رسوله صلّى الله عليه وسلم.
وقد تضمنت هاتان الآيتان الكريمتان، ما يدل على غباء بنى إسرائيل وقصر نظرهم. لأنهم اتخذوا العجل إلها بعد أن شاهدوا البراهين على صدق نبيهم، كما تضمنتا تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم عما كان يشاهده من اليهود المعاصرين للدعوة الإسلامية، فكأنه سبحانه يقول: إن ما قام به بنو إسرائيل المعاصرون لك من أذى وحقد قد فعلوا ما يشبه آباؤهم الأقدمون مع نبيهم موسى- عليه السلام- فلقد اتخذوا في غيبته عجلا جسدا له خوار دون أن يفطنوا إلى أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، اتخذوه وكانوا ظالمين.
ثم ذكرهم- سبحانه- بنعمة خامسة فيها صلاح أمورهم، وانتظام شئونهم ألا وهي إعطاء نبيهم موسى- عليه السلام- التوراة، فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٣]
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)
ومعنى الآية الكريمة: اذكروا يا بنى إسرائيل نعمة إعطاء نبيكم موسى- عليه السلام- التوراة، وفيها الشرائع والأحكام، لكي تهتدوا بها إلى طريق الفلاح والرشاد في الدنيا، وإلى الفوز بالسعادة في الآخرة.
فالمراد بالكتاب التوراة التي أوتيها موسى- عليه السلام- فأل للعهد.
والفرقان- بضم الفاء- مأخوذ من الفرق وهو الفصل، استعير لتمييز الحق من الباطل وقد يطلق لفظ الفرقان على الكتاب السماوي المنزل من عند الله كما في قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ «١» كما يطلق على المعجزة كما في قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ «٢» أى المعجزات لأن هارون لم يؤت وحيا.
والمراد بالفرقان هنا التوراة نفسها ويكون المراد بالعطف التفسير.
قال ابن جرير ما ملخصه: (وأولى الأقوال بتأويل الآية ما روى عن ابن عباس وأبى العالية ومجاهد، من أن الفرقان الذي ذكر الله تعالى أنه آتاه موسى في هذا الموضع، هو الكتاب الذي فرق به بين الحق والباطل وهو نعت للتوراة وصفة لها، فيكون تأويل الآية حينئذ.
وإذ آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الألواح، وفرقنا بها بين الحق والباطل. فيكون الكتاب نعتا للتوراة، أقيم مقامها استغناء به عن ذكر التوراة ثم عطف عليه بالفرقان، إذ كان من نعتها) «٣».
وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ بيان لثمرة المنة والنعمة بإيتاء التوراة لأن إتيان موسى الكتاب والفرقان، المقصود منه هدايتهم، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
ولكن ماذا كان موقف بنى إسرائيل من التوراة التي أنزلها الله لهدايتهم وسعادتهم؟ كان
(٢) سورة الأنبياء الآية ٤٨.
(٣) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٢٨٥ طبعة الحلبي.
فقال تعالى في سورة الجمعة: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ «١».
حملوا التوراة: أى علموها وكلفوا العمل بها، ثم لم يحملوها: أى: لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما اشتملت عليه. والأسفار: جمع سفر وهو الكتاب الكبير، لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ.
ومعنى الآية الكريمة: مثل هؤلاء اليهود الذين علموا التوراة وكلفوا العمل بأحكامها ولكنهم لم يعملوا بها، مثلهم كمثل الحمار يحمل الكتب ولكنه لا يدرى ما فيها، ولا يناله من حملها إلا التعب، بئس مثلا مثل هؤلاء اليهود الذين كذبوا بآيات الله التي تشهد بصدق النبي صلّى الله عليه وسلم، وتذر صفاته التي لا تنطبق إلا عليه، وقد جرت سنة الله- تعالى- في خلقه ألا يهدى إلى طريق الحق أمثال هؤلاء القوم الظالمين، لأنهم استحبوا العمى على الهدى، وباعوا دينهم بدنياهم.
قال صاحب الكشاف: «شبه الله- تعالى- اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها، وحفاظ ما فيها ثم إنهم غير عاملين بها، ولا منتفعين بآياتها وذلك أن فيها نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم والبشارة به، ولم يؤمنوا به- شبههم بالحمار يحمل أسفارا، أى: كتبا كبارا من كتب العلم، فهو يمشى بها ولا يدرى منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل، فهذا مثله وبئس المثل» «٢».
وقال الإمام ابن القيم: «شبه الله- تعالى- من حما كتابه ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه، ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظهر قلب، فقراءته بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له، ولا تحكيم لنصوصه- شبهه- بحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدرى ما فيها، وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا، فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره، فهذا المثل، وإن كان قد ضرب لليهود، فهو متناول من حيث المعنى، لمن حمل القرآن فترك العمل به ولم يؤد حقه، ولم يرعه حق رعايته» «٣».
(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٧٥.
(٣) أعلام الموقعين لابن القيم (نقلا عن تفسير القاسمى) ج ١٦ ص ٨٥.
سادسا: (نعمة إرشادهم إلى ما به يتخلصون من ذنوبهم) :
ثم ذكرهم- سبحانه- بنعمة جليلة، وهي إرشادهم إلى ما به يتخلصون من ذنوبهم، وإخبارهم بقبول توبتهم، فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)
والمعنى: واذكروا يا بنى إسرائيل- لتنتفعوا وتعتبروا- وقت أن قال موسى لقومه الذين عبدوا العجل حين كان يناجى ربه بعيدا عنهم: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم وهبطتم بها إلى الحضيض بعبادتكم غير الله- تعالى- فإذا أردتم التكفير عن خطاياكم. فتوبوا إلى ربكم توبة صادقة نصوحا، واقتلوا أنفسكم لتنالوا عفو ربكم، فذلكم خير لكم عند خالقكم من الإقامة على المعصية، ففعلتم ذلك فقبل الله توبتكم لأنه هو الذي يقبل التوبة عن عباده على كثرة ما يصدر عنهم من ذنوب لأنه هو الواسع الرحمة لمن ينيب إليه ويستقيم على صراطه الواضح.
وفي نداء موسى- عليه السلام- لهم بقوله: «يا قوم» تلطف في الخطاب ليجذب قلوبهم إلى سماعه، وليحملهم على تلقى أوامره بحسن الطاعة، وليشعرهم بأنهم قومه فهو منهم وهم منه، والشأن فيمن كان كذلك ألا يكذب عليهم أو يخدعهم، وإنما يريد لهم الخير.
والبارئ هو الخالق للمخلوقات بدون تفاوت أو اضطراب، فهو أخص من الخالق، ولذا قال تعالى:... الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ.
وفي هذا التعبير الحكيم، تحريض لهم على التوبة والاستجابة للبارئ الذي أحسن كل شيء خلقه، وفيه أيضا تقريع لهم على غباوتهم، حيث تركوا عبادة بديع السموات والأرض، وعبدوا عجلا ضرب به المثل في الغباوة فقالوا «أبلد من ثور» فكأنه- سبحانه- يقول لهم: لقد اتخذتم هذا العجل إلها لتشابهكم معه في البلادة وضيق الأفق.
البارئ هو الذي خلق الخلق بريئا من التفاوت، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ومتميزا بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة، أبرياء من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة والبلادة، حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم، ونثر ما نظم من صورهم وأشكالهم، حين لم يشكروا النعمة في ذلك، وغمطوها بعبادة ما لا يقدر على شيء منها» هـ «١».
وقوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أمر من موسى- عليه السلام- لهم بقتلهم أنفسهم حتى تكون توبتهم مقبولة، وهذا الأمر بلغه موسى إياهم عن ربه، إذ مثل هذا الأمر لا يصدر إلا عن وحى لأنه تشريع من الله- تعالى-.
والمراد بقتلهم أنفسهم أن يقتل من لم يعبد العجل منهم عابديه، فيكون المعنى: ليقتل بعضكم بعضا، كما في قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً أى فليسلم بعضكم على بعض.
وقيل: المراد أن يقتل كل من عبد العجل نفسه قتلا حقيقيا حتى يكفر عن ردته بعبادته لغير الله، وقد ورد أنهم فعلوا ذلك، وأن الله- تعالى- رفع عنهم القتل وعفا عمن بقي منهم على قيد الحياة كرما منه وفضلا، وهذا هو معنى التوبة في قوله تعالى «فتاب عليكم»، ومعنى العفو في قوله تعالى: في الآية السابقة ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
وقد ساق ابن كثير وغيره من المفسرين كثيرا من الآثار التي تحدثت عن كيفية حصول هذا القتل، من ذلك ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، أنه قال: «قال تعالى لموسى: إن توبة عبدة العجل أن يقتل كل واحد منهم من لقى من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالى من قتل في ذلك الموطن فتاب أولئك الذين كانوا خفى على موسى وهارون، ما اطلع الله على ذنوبهم فاعترفوا بها. وفعلوا ما أمروا به، فغفر الله للقاتل والمقتول» «٢».
وأخرج ابن جرير عن ابن شهاب الزهري أنه قال: «لما أمر بنو إسرائيل بقتل أنفسهم برزوا ومعهم موسى، فتضاربوا بالسيوف، وتطاعنوا بالخناجر وموسى رافع يديه، حتى إذا فتروا أتاه بعضهم، فقال له: يا نبي الله ادع الله لنا، وأخذوا بعضديه يشدون يديه. فلم يزل أمرهم على
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٩٢.
وجملة ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ تعليلية، جيء بها لتحريضهم على الامتثال والطاعة لما أمرهم به نبيهم- عليه السلام- واسم الإشارة ذلِكُمْ يعود إلى التوبة والقتل المفهومين مما تقدم.
وقال عِنْدَ بارِئِكُمْ ولم يقل عنده، لأن في هذا التكرير حملا للمخاطبين على التفكير والتذكير والطاعة، وإشعارا لهم بأن عبادة من برأهم وذرأهم وخلقهم في أحسن تقويم، خير لهم في دنياهم وأخراهم.
وجملة فَتابَ عَلَيْكُمْ جواب لشرط محذوف للإيجار، أى فامتثلتم ما أمرتم به، فقيل الباري توبتكم، وهي خطاب من الله- تعالى- لبنى إسرائيل على لسان موسى، فيه تذكير بنعمته، وإرشاد لهم إلى موطن المنة والفضل وهو قبول توبتهم.
وعطفت هذه الجملة فَتابَ عَلَيْكُمْ بالفاء، لإشعارهم بأنه- سبحانه- لم يتركهم ليستأصلوا أنفسهم جميعا بالقتل، بل تداركهم بلطفه ورحمته، فقبل توبتهم، ورفع عقوبة القتل عمن بقي منهم.
وقوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ إخبار وثناء على الله- تعالى- بما هو أهله من عفو ورحمة. وأكدها- سبحانه- لتنزيلهم منزلة من يشك في قبول توبته، لعظم جريمتهم وضخامة خطيئتهم وسيرهم إلى أمد بعيد في طريق الشيطان.
وهذه الآية الكريمة قد تضمنت نعمة كبرى على بنى إسرائيل فإن الله- تعالى- لطف بهم، ورحمهم، وقبل توبتهم، وعفا عن قتلهم أنفسهم، بعد أن صدر منهم ما يدل على صدقهم في توبتهم، كما تضمنت- أيضا- تذكير بنى إسرائيل المعاصرين للعهد النبوي بنعم الله عليهم، لأنه لولا عفوه- سبحانه- عن آبائهم لما وجدوا هم، وفيها- كذلك- إشارة إلى سماحة الشريعة التي أتى بها محمد صلّى الله عليه وسلم وإغراء لليهود المعاصرين له بالدخول في الإسلام لأنه إذا كان آباؤهم لم تقبل توبتهم إلا بقتلهم أنفسهم فإن شريعة الإسلام تقول لهم: لقد جاءكم النبي الذي رفع عنكم إصركم والأغلال التي كانت على أسلافكم، فآمنوا به واتبعوه لعلكم ترحمون.
ثم ذكرهم- سبحانه- بعد ذلك بنعمة جليلة، أسبغها الله عليهم رغم مطالبهم المتعنتة، وهذه النعمة تتجلى في بعثهم من بعد موتهم، فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦)
جهرة: في الأصل مصدر من قولك جهرت بالقراءة والدعاء واستعيرت للمعاينة لما بينهما من الاتحاد في الوضوح والانكشاف، إلا أن الأول في المسموعات والثاني في المبصرات.
والصاعقة: - كما قال ابن جرير- «كل أمر هائل رآه الرائي أو عاينه أو أصابه، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل. صوتا كان ذلك أو نارا أو زلزلة أو رجفة، ومما يدل على أن الشخص قد يكون مصعوقا وهو حي غير ميت، قوله- تعالى-:
وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً يعنى مغشيا عليه، فقد علم أن موسى لم يكن حين غشى عليه وصعق ميتا، لأن الله أخبر عنه أنه لما أفاق قال: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ.. «١».
وأصل البعث في اللغة: إثارة الشيء من محله، وتحريكه بعد سكون ومنه: بعث فلان الناقة: إذا أثارها من مبركها للسير، ويستعمل بمعنى الإيقاظ، كما ورد في قصة أهل الكهف فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ... أى: أيقظناهم.
ويستعمل- أيضا- بمعنى الإحياء. وهو المراد في الآية التي معنا، بدليل قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ.
ومعنى الآيتين الكريمتين: واذكروا يا بنى إسرائيل وقت أن تجاوزتم حدودكم، وتعنتم في الطلب، فقلتم لنبيكم موسى بجفاء وغلظة: لن نؤمن لك، ولن نقر بما جئتنا به، حتى نرى الله عيانا وعلانية، فيأمرنا بالإيمان بك، وبما جئت به، فأخذتكم العقوبة التي صعقتكم- بسبب جهلكم وتطاولكم- وأنتم تشاهدونها بعيونكم، ثم مننا عليكم بلطفنا ورحمتنا فأحييناكم من
قال الإمام ابن جرير: ذكرهم الله- تعالى- بذلك اختلاف آبائهم. وسوء استقامة أسلافهم مع أنبيائهم، مع كثرة معاينتهم من آيات الله وعبره ما تثلج بأقلها الصدور، وتطمئن بالتصديق معها النفوس، وذلك مع تتابع الحجج عليهم وسبوغ النعم من الله لديهم، وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله، ومرة يعبدون العجل من دون الله، ومرة يقولون: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً. وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ومرة يقال لهم: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ فيقولون حنطة في شعيرة، ويدخلون الباب من قبل أستاهم، مع غير ذلك من أفعالهم القبيحة التي يكثر إحصاؤها، فأعلم الله- تعالى- الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بنى إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم لن يعدوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم وجحودهم نبوته كآبائهم وأسلافهم، الذين فصل عليهم قصصهم في ارتدادهم عن دينهم مرة بعد أخرى، وتمردهم على نبيه موسى- عليه السلام- تارة بعد أخرى مع ابتلاء الله لهم، وسبوغ آلائه عليهم «١».
والقائلون لموسى- عليه السلام-: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً يرى جمهور المفسرين أنهم هم السبعون الذين اختارهم موسى للذهاب معه إلى ميقات ربه، وقد وردت آثار تؤيد هذا الرأى.
من ذلك ما أخرجه ابن جرير عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ أنه قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه. وقالوا: اطلب لنا ربك لنسمع كلامه.
قال: سمعوا كلاما، فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً قال: فسمعوا صوتا فصعقوا يقول: ماتوا، فذلك قوله: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فبعثوا من بعد موتهم، لأن موتهم ذلك عقوبة لهم، فبعثوا لبقية آجالهم.
وقال ابن كثير: الذين قالوا لموسى: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً المراد بهم السبعون المختارون منهم ولم يحك كثير من المفسرين سواه.
وقيل: إن الذين طلبوا من موسى رؤية الله جهرة هم عامة بنى إسرائيل بدون تحديد لهؤلاء
فجاءت غضبة من الله- تعالى-، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة. فصعقتهم فماتوا جميعا. قال:
ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا لا، فقال: أى شيء أصابكم؟ فقالوا:
أصابنا أننا متنا ثم أحيينا. قال: خذوا كتاب الله، قالوا لا، فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم) «١».
قال الإمام ابن كثير: (وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا ثم قال: وقد حكى الماوردي في ذلك قولين:
أحدهما: أنهم سقط التكليف لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق.
والثاني: أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف «٢».
وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم، لأن بنى إسرائيل قد شاهدوا أمورا عظاما من خوارق العادات وهم مع ذلك مكلفون وهذا واضح، والله أعلم) «٣».
وقال ابن جرير: «ولا خبر عندنا بصحة شيء مما قاله من ذكرنا قوله في سبب قيلهم ذلك لموسى تقوم به حجة، فنسلّم لهم، وجائز أن يكون ذلك بعض ما قالوه، فإذا كان لا خبر بذلك تقوم به حجة فالصواب من القول فيه أن يقال: إن الله- جل ثناؤه- قد أخبر عن قوم موسى أنهم قالوا له يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً كما أخبر عنهم أنهم قالوه... » «٤»
وفي ندائهم لنبيهم باسمه «يا موسى» سوء أدب منهم معه، لأنه كان من الواجب عليهم،
(٢) تفسير ابن كثير ص ٩٤.
(٣) تفسير ابن كثير ص ٩٤.
(٤) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٢٩٣ طبعة الحلبي.
ومن أدب الصحابة مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنهم كانوا يقولون له: يا رسول الله، استجابة لأمر الله- تعالى- في قوله: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً.
وقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً دليل على تمردهم وعصيانهم، وقلة اكتراثهم بما أوتوا من نعم، وما شاهدوا من معجزات، إذ أنهم طلبوا منه أن يروا الله عيانا، فإن لم يروه داخلهم الشك في صدق نبيهم.
وعبر عنهم القرآن الكريم بأنهم يريدون الرؤية (جهرة) لإزالة احتمال أنهم يكتفون بالرؤية المنامية، أو العلم القلبي، فهم لا يعتقدون إلا بالرؤية الحسية، لغلظ قلوبهم، وجفاء طباعهم.
وقوله تعالى: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ إشارة إلى أن العقوبة قد فاجأتهم بعد وقت قصير من مطالبهم المتعنتة، لأن الفاء تفيد التعقيب.
وجملة وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ تفيد أن العقوبة نزلت عليهم وهم يشاهدونها وفي مشاهدتها رعب وخوف أخذ بمجامع قلوبهم، قبل أن يأخذ العذاب أجسادهم، وإن إصابتهم بهذه العقوبة كان في حالة إساءتهم وتمردهم وطمعهم في أن ينالوا ما ليس من حقهم.
والآية الكريمة تفيد أن بنى إسرائيل طلبوا من نبيهم رؤية الله جهرة في الدنيا، وأنهم علقوا إيمانهم عليها، ولم يأبهوا للآيات الدالة على صدق. موسى- عليه السلام- فكان ذلك محض تعنت وعناد منهم، فأخذتهم الصاعقة عقوبة لهم على ذلك، وليس على مجرد سؤالهم رؤية الله- تعالى- ومن هنا يتبين أن الآية لا تدل على استحالة الرؤية كما يقول المعتزلة.
وجملة ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ هي محل النعمة والمنة، وهي معطوفة على قوله تعالى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ودل العطف بثم على أن بين أخذ الصاعقة والبعث زمانا نتصور فيه المهلة والتأخير.
والمراد ببعثهم: إحياؤهم من بعد موتهم، وهو معجزة لموسى- عليه السلام- استجابة لدعائه.
وقد اشتملت الآيتان الكريمتان على تحذير اليهود المعاصرين للعهد النبوي، من محاربة الدعوة الإسلامية، حتى لا يصابوا بما أصيب به أسلافهم من الصواعق وغيرها وفيهما أيضا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم عما لاقاه من اليهود، لأن ما فعلوه معه قد فعل ما يشبهه آباؤهم مع أنبيائهم، وفيها كذلك لون جديد من نعم الله عليهم ما أجدرهم بشكرها لو كانوا يعقلون.
ثم عطف- سبحانه- على نعمة بعثهم من بعد موتهم نعمة أخرى بل نعمتين، وهما تظليلهم بالغمام ومنحهم المن والسلوى، فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٧]
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)
الغمام: جمع غمامة، وهي السحابة، وخصه بعض علماء اللغة بالسحاب الأبيض.
والمن: اسم جنس لا واحد من لفظه، وهو- على أرجح الأقوال- مادة صمغية تسقط على الشجر تشبه حلاوته حلاوة العسل.
والسلوى: اسم جنس جمعى، واحدته سلواة، وهو طائر برى لذيذ اللحم، سهل الصيد، يسمى بالسمانى، كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء، فيمسكونه قبضا بدون تعب.
وتظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم، كان في مدة تيههم بين مصر والشام المشار إليه بقوله- تعالى- قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ.
قال السدى: «لما دخل بنو إسرائيل التيه، قالوا لموسى- عليه السلام- كيف لنا بما ها هنا، أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجرة الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه فكان يأتى أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه فقالوا هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر الله- تعالى- موسى أن يضرب بعصاه الحجر فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الشراب فأين الظل؟ فظلل الله عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتمزق لهم ثوب، فذلك قوله تعالى: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى...
ومعنى الآية الكريمة: واذكروا يا بنى إسرائيل من بين نعمى عليكم نعمة إظلالكم بالغمام وأنتم في التيه ليقيكم حر الشمس، وحرارة الجو، ولولا منحى إياكم الطعام اللذيذ المشتهى بدون تعب منكم في تحصيله لهلكتم، وقلنا لكم كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الذي
فالآية الكريمة قد أشارت إلى جحودهم النعمة بقوله تعالى: وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
وقوله تعالى: وَما ظَلَمُونا معطوف على محذوف، أى فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر.
ويرى البعض أنه لا حاجة إلى التقدير، وأن جملة وَما ظَلَمُونا معطوفة على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بنى إسرائيل.
والتعبير عن ظلمهم لأنفسهم بكلمة كانُوا والفعل المضارع يَظْلِمُونَ يدل على أن ظلمهم لأنفسهم كان يتكرر منهم، لأنك لا تقول في ذم إنسان كان يسيء إلى الناس إلا إذا كانت الإساءة تصدر منه المرة تلو الأخرى.
قال الإمام ابن جرير- رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ما ملخصه: (هذا من الذي استغنى بدلالة ظاهره على ما ترك منه، وذلك أن معنى الكلام: كلوا من طيبات ما رزقناكم فخالفوا ما أمرناهم به، وعصوا ربهم، ثم رسولنا إليهم، وما ظلمونا فاكتفى بما ظهر عما ترك، وقوله وَما ظَلَمُونا أى: ما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها فإن الله- تعالى- لا تضره معصية عاص، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم، ولا تنفعه طاعة مطيع، ولا يزيد في ملكه عدل عادل، بل نفسه يظلم الظالم وحظّها يبخس العاصي، وإياها ينفع المطيع، وحظها يصيب العادل) «١».
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ذكرت بنى إسرائيل بنعمة من أعظم النعم وهي تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم، ولكن بنى إسرائيل لم يشكروا الله على نعمه، ولذا أرسل الله عليهم رجزا من السماء بسبب ظلمهم وفسقهم.
تاسعا: نعمة تمكينهم من دخول بيت المقدس ونكولهم عن ذلك.
ثم ذكرهم- سبحانه- بعد ذلك بمنة عظيمة مكنوا منها فما أحسنوا قبولها وما رعوها حق رعايتها- وهي تخليصهم من عناء التيه، والإذن لهم في دخول بلدة يجدون فيها الراحة والهناء، وإرشادهم إلى القول الذي يخلصهم مما استوجبوه من عقوبات ولكنهم خالفوه فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)القرية: هي البلدة المشتملة على مساكن، والمراد بها بيت المقدس على الراجح.
والرغد: الواسع من العيش الهنيء، الذي لا يتعب صاحبه، يقال: أرغد فلان: أصاب واسعا من العيش الهنيء.
الحطة: من حط بمعنى وضع، وهي مصدر مراد به طلب حط الذنوب.
قال صاحب الكشاف: (حطة) فعلة من الحط كالجلسة. وهي خبر مبتدأ محذوف، أى مسألتنا حطة، والأصل فيها النصب بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطى معنى الثبات..) «١».
والمعنى: اذكروا يا بنى إسرائيل- لتتعظوا وتعتبروا- وقت أن أمرنا أسلافكم بدخول بيت المقدس بعد خروجهم من التيه، وأبحنا لهم أن يأكلوا من خيراتها أكلا هنيئا ذا سعة وقلنا لهم:
ادخلوا من بابها راكعين شكرا الله على ما أنعم به عليكم من نعمة فتح الأرض المقدسة متوسلين إليه- سبحانه- بأن يحط عنكم ذنوبكم، فإن فعلتم ذلك العمل اليسير وقلتم هذا القول القليل غفرنا لكم ذنوبكم وكفرنا عنكم سيئاتكم، وزدنا المحسن منهم خيرا جزاء إحسانه، ولكنهم جحدوا نعم الله وخالفوا أوامره، فبدلوا بالقول الذي أمرهم الله به قولا آخر أتوا به من عند أنفسهم على وجه العناد والاستهزاء، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون.
قال الإمام ابن كثير- رحمه الله-: (وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون- عليه السلام- وفتحها الله عليهم عشية جمعة، وقد حسبت لهم الشمس يومئذ قليلا
وقوله تعالى: فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً فيه إشعار بكمال النعمة عليهم واتساعها وكثرتها. حيث أذن لهم في التمتع بثمرات القرية وأطعمتها من أى مكان شاءوا.
وقوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم نحو خالقهم من الشكر والخضوع، وتوجيههم إلى ما يعينهم على بلوغ غاياتهم. بأيسر الطرق وأسهل السبل، فكل ما كلفوا به أن يدخلوا من باب المدينة التي فتحها الله لهم خاضعين مخبتين وأن يضرعوا إليه بأن يحط عنهم آثامهم، ويمحو سيئاتهم.
وقوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ بيان للثمرة التي تترتب على طاعتهم وخضوعهم لخالقهم، وإغراء لهم على الامتثال والشكر، - لو كانوا يعقلون- لأن غاية ما يتمناه العقلاء غفران الذنوب.
قال الإمام ابن جرير: يعنى بقوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم، ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها. وأصل الغفر: التغطية والستر، فكل ساتر شيئا فهو غافر.. والخطايا: جمع خطية- بغير همز- كالمطايا جمع مطية..».
وقوله تعالى: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وعد بالزيادة من خيرى الدنيا والآخرة لمن أسلّم لله وهو محسن، أى: من كان منكم محسنا زيد في إحسانه ومن كان مخطئا نغفر له خطيئاته.
وقد أمرهم- سبحانه- أن يدخلوا باب المدينة التي فتحوها خاضعين وأن يلتمسوا منه مغفرة خطاياهم، لأن تغلبهم على أعدائهم، ودخولهم الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم، نعمة من أجل النعم، وهي تستدعى منهم أن يشكروا الله عليها بالقول والفعل لكي يزيدهم من فضله، فشأن الأخيار أن يقابلوا نعم الله بالشكر.
ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يظهر أقصى درجات الخضوع لله تعالى عند النصر والظفر وبلوغ المطلوب، فعند ما تم له فتح مكة دخل إليها من الثنية العليا، وإنه لخاضع لربه، حتى إن رأسه الشريف ليكاد يمس عنق ناقته شكرا لله على نعمة الفتح، وبعد دخوله مكة اغتسل وصلّى ثماني ركعات سماها بعض الفقهاء صلاة الفتح.
ومن هنا استحب العلماء للفاتحين من المسلمين إذا فتحوا بلدة أن يصلوا فيها ثماني ركعات
(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٢٠٢.
ولكن، ماذا كان من بنى إسرائيل بعد أن أتم الله لهم نعمة الفتح؟
إنهم لم يفعلوا ما أمروا بفعله، ولم يقولوا ما كلفوا بقوله، بل خالفوا ما أمروا به من قول وفعل، ولذا قال تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ.
أخرج البخاري عن أبى هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: (قيل لبنى إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فبدلوا ودخلوا يزحفون على أستاهم، وقالوا: حبة في شعيرة) «١».
قال الإمام ابن كثير: (وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق، أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يدخلوا الباب سجدا، فدخلوا يزحفون على أستاههم رافعين رؤسهم، وأمروا أن يقولوا: حطة، أى احطط عنا ذنوبنا وخطايانا فاستهزءوا وقالوا: حنطة في شعيرة، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة، ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وخروجهم عن طاعته) «٢».
فقوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ بيان للسبب الذي من أجله نزل عليهم العذاب، وتوبيخ لهم على مخالفتهم أوامر الله- تعالى-، لأن تبديل الشيء معناه تغييره وإزالته عما كان عليه بإعطائه صورة تخالف التي كان عليها.
والفعل (بدل) يقتضى بدلا ومبدلا منه، إلا أن مقام الإيجاز في الآية استدعى الاكتفاء بذكر البدل- وهو القول الذي لم يقل لهم- دون ذكر المبدل منه- وهو القول الذي قيل لهم- والتقدير: فاختار الذين ظلموا بالقول الذي أمرهم الله به، قولا آخر اخترعوه من عند أنفسهم على وجه المخالفة والعصيان.
قال صاحب الكشاف: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أى: وضعوا مكان حِطَّةٌ قولا غيرها، يعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به، ولم يمتثلوا أمر الله، وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ بعينه. وهو لفظ الحطة فجاءوا بلفظ آخر، لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر مستقل، بمعنى ما أمروا به لم يؤاخذوا به كما لو قالوا مكان حطة: نستغفرك ونتوب إليك. أو اللهم اعف عنا وما أشبه ذلك» «٣».
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٩٩.
(٣) تفسير الكشاف ج ١ ص ٢١٨.
وقوله تعالى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ تصريح بأن ما أصابهم من عذاب كان نتيجة عصيانهم وتمردهم وجحودهم لنعم الله- تعالى- والرجز في لغة العرب: هو العذاب سواء أكان بالأمراض المختلفة أو بغيرها.
وفي النص على أن الرجز قد أتاهم من جهة السماء إشعار بأنه عذاب لا يمكن دفعه وأنه لم يكن له سبب أرضى من عدوى أو نحوها، بل رمتهم به الملائكة من جهة السماء. فأصيب به الذين ظلموا دون غيرهم، ولم يقل القرآن «فأنزلنا عليهم»، بالإضمار، وإنما قال فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا بالإظهار، تأكيدا لوصفهم بأقبح النعوت وهو الظلم، وإشعارا بأن ما نزل عليهم كان سبيه بغيهم وظلمهم.
وقد تضمنت الآيتان الكريمتان أن بنى إسرائيل مكنوا من النعمة فنفروا منها، وفتحت لهم أبواب الخير فأبوا دخولها، وأرشدوا إلى القول الذي يكفر سيئاتهم فخالفوا ما أرشدوا إليه مخالفة لا تقبل التأويل، فكانت نتيجة جحودهم ومخالفتهم لأمر الله حرمانهم من تلك النعمة إلى حين، ومعاقبتهم لظلمهم بالعذاب الأليم، وفي هذا التذكير امتنان عليهم ببذل النعمة، لأن عدم قبولهم لها لا يمنع كونها نعمة، وفيه إثارة لحسرة اليهود المعاصرين للعهد النبوي على ما ضاع من أسلافهم بسبب مخالفتهم وتمردهم وفيه أيضا تحذير لهم من سلوك طريق آبائهم حتى لا يصيبهم ما أصاب أسلافهم من عذاب أليم.
عاشرا: نعمة إغاثتهم بالماء بعد أن اشتد بهم العطش.
ثم ذكرهم- سبحانه- بعد ذلك بنعمة من أجل نعمه عليهم، وهي إغاثتهم في التيه بالماء بعد أن اشتد بهم العطش، فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٠]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
وهذه النعمة كانت نافعة لهم في دنياهم لأنها أزالت عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء ولولاه لهلكوا، وكانت نافعة لهم في دينهم لأنها من أظهر الأدلة على وجود الله. وعلى قدرته وعلمه، ومن أقوى البراهين على صدق موسى- عليه السلام- في نبوته «٢».
ومعنى الآية الكريمة: واذكروا يا بنى إسرائيل وقت أن أصاب آباءكم العطش الشديد وهم في صحراء مجدبة، فتوسل إلينا نبيهم موسى- عليه السلام- في خشوع وتضرع أن أمدهم بالماء الذي يكفيهم، فأجبناه إلى ما طلب، إذ أوحينا إليه أن اضرب بعصاك الحجر. ففعل، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بمقدار عدد الأسباط، وصار لكل سبط منهم مشرب يعرفه ولا يتعداه إلى غيره، وقلنا لهم: تمتعوا بما من الله به عليكم من مأكول طيب ومشروب هنيء رزقكم الله إياه من غير تعب ولا مشقة، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فتتحول النعم التي بين أيديكم إلى نقم وتصبحوا على ما فعلتم نادمين.
وقوله تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ يفيد أن الذي سأل ربه السقيا هو موسى- عليه السلام- وحده، لتظهر كرامته عند ربه لدى قومه، وليشاهدوا بأعينهم إكرام الله- تعالى- له، حيث أجاب سؤاله، وفجر الماء لهم ببركة دعائه.
واللام في قوله- تعالى- لِقَوْمِهِ للسببية، أى لأجل قومه.
والفاء في قوله- تعالى- فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ، عطفت الجملة بعدها على محذوف، والتقدير: فأجبناه إلى ما طلب، وقلنا اضرب بعصاك الحجر.
وال في الْحَجَرَ لتعريف الجنس أى اضرب أى حجر شئت بدون تعيين، وقيل للعهد، ويكون المراد حجرا معينا معروفا لموسى- عليه السلام- بوحي من الله تعالى. وقد أورد المفسرون في ذلك آثارا حكم المحققون بضعفها ولذلك لم نعتد بها.
والذي نرجحه أنها لتعريف الجنس، لأن انفجار الماء من أى حجر بعد ضربه أظهر في إقامة البرهان على صدق موسى- عليه السلام- وأدعى لإيمان بنى إسرائيل وانصياعهم للحق بعد
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ١٠٠.
والفاء في قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً كسابقتها للعطف على محذوف تقديره: فضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وقد حذفت هذه الجملة المقدرة لوضوح المعنى.
وكانت العيون اثنتي عشرة عينا لأن بنى إسرائيل كانوا اثنى عشر سبطا، والأسباط في بنى إسرائيل كالقبائل في العرب. وهم ذرية أبناء يعقوب- عليه السلام- الاثنى عشر، ففي انفجار الماء من اثنتي عشرة عينا إكمال للنعمة عليهم، حتى لا يقع بينهم تنازع وتشاجر:
وقال- سبحانه-: فَانْفَجَرَتْ. وقال في سورة الأعراف فَانْبَجَسَتْ والانبجاس خروج الماء بقلة. والانفجار خروجه بكثرة، ولا تنافى بينهما في الواقع لأنه انبجس أولا. ثم انفجر ثانيا، وكذا العيون يظهر الماء منها قليلا ثم يكثر لدوام خروجه.
وقوله تعالى: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ إرشاد وتنبيه إلى حكمة الانقسام إلى اثنتي عشرة عينا أى: قد عرف كل سبط من أسباط بنى إسرائيل مكان شربه، فلا يتعداه إلى غيره، وفي ذلك ما فيه من استقرار أمورهم، واطمئنان نفوسهم، وعدم تعدى بعضهم على بعض.
وقوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ مقول لقول محذوف تقديره: وقلنا لهم: كلوا واشربوا من رزق الله.
وقد جمع- سبحانه- بين الأكل والشرب- وإن كان الحديث عن الشراب- لأنه قد تقدمه إنزال المن والسلوى، وقد قيل هنالك: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ فلما أتبع ذلك بنعمة تفجير الماء لهم اجتمعت المنتان.
وقوله تعالى: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ تحذير لهم من البطر والغرور واستعمال النعمة في غير ما وضعت له، بعد أن أذن لهم في التمتع بالطيبات، لأن النعمة عند ما تكثر قد تنسى العبد حقوق خالقه فيهجر الشريعة، ويعيث في الأرض فسادا. قال تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى.
والمعنى: ولا تسعوا في الأرض مفسدين، وتقابلوا النعم بالعصيان فتسلب عنكم.
قال ابن جرير- رحمه الله-: (وأصل العثا شدة الإفساد بل هو أشد الإفساد، يقال منه:
وبذلك تكون الآية الكريمة قد ذكرت بنى إسرائيل بنعمة جليلة، ونصحتهم بأن يعملوا على شكرها: وحذرتهم عاقبة الإفساد في الأرض وجحودهم النعمة واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير:
ثم ذكرهم- سبحانه- بما كان منهم من جحود النعمة واستخفافهم بها وإيثارهم- بسوء اختيارهم- ما هو أدنى على ما هو خير، فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٦١]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
الصبر: حبس النفس على الشيء، بمعنى إلزامها إياه، ومنه الصبر على الطاعات، أو يطلق على حبسها بمعنى كفها. ومنه الصبر عن المعاصي. والطعام: ما رزقوه في التيه من المن والسلوى: والبقل: ما تنبته الأرض من الخضر مما يأكله الناس والأنعام من نحو النعناع والكراث وغيرهما. والفوم: قيل هو الثوم، وقيل هو الحنطة. والقثاء: نوع من المأكولات أكبر حجما من (الخيار).
قال ابن جرير: (وكان سبب مسألتهم موسى- عليه السلام- ذلك فيما بلغنا عن قتادة أنه قال: كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى: فملوا ذلك،
ثم ساق ابن جرير رواية، فيها تصريح بأن سؤالهم لم يكن في البرية بل كان في التيه فقال:
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب قال: أنبأنا ابن زيد قال:
«كان طعام بنى إسرائيل في التيه واحدا، وشرابهم واحدا. كان شرابهم عسلا ينزل لهم من السماء يقال له المن، وطعامهم طير يقال له السلوى، يأكلون الطير ويشربون العسل، لم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره، فقالوا يا موسى: إنا لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ، فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها فقرأ حتى بلغ قوله تعالى اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ «٢».
وقد جرى أبو حيان وصاحب الكشاف- في تفسيريهما- على أن سؤالهم لموسى- عليه السلام كان في التيه.
قال أبو حيان عند تفسير قوله تعالى وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ:
«لما سئموا من الإقامة في التيه. والمواظبة على مأكول واحد لبعدهم عن الأرض التي ألفوها، وعن العوائد التي عهدوها، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك، وتشوقهم إلى ما كانوا يألفون، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم» «٣».
وقال صاحب الكشاف: «كانوا أهل فلاحة فنزعوا إلى عكرهم «٤» فأجموا- أى ملوا وكرهوا- ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم عدم البقاء عَلى طَعامٍ واحِدٍ أرادوا ما رزقوه في التيه من المن والسلوى» «٥».
ومعنى الآية الكريمة إجمالا: واذكروا يا بنى إسرائيل بعد أن أسبغنا عليكم نعمنا ما كان من سوء اختيار أسلافكم، وفساد أذواقهم، وإعناتهم لنبيهم موسى- عليه السلام- حيث قالوا له ببطر وسوء أدب: لن نصبر على طعام المن والسلوى في كل وقت، فسل ربك أن يخرج لنا مما تنبته الأرض من خضرها وفاكهتها وحنطتها وعدسها وبصلها، لأن نفوسنا قد عافت المن والسلوى، فوبخهم نبيهم موسى- عليه السلام- بقوله: أتختارون الذي هو أقل فائدة وأدنى
(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٣٠٩.
(٣) تفسير ابن حيان ج ١ ص ٣٣١.
(٤) فنزعوا إلى عكرهم: أى حنوا إلى أصلهم وعادتهم.
(٥) تفسير الكشاف ج ١ ص ٢٧١.
وأحاطت ببني إسرائيل المهانة والاستكانة كما تحيط القبة بمن ضربت عليه، وحق عليهم غضب الله.
ثم بين الله- تعالى- السبب في جحودهم للنعم وفي أنه ضرب عليهم الذلة والمسكنة وأنزل عليهم غضبه بقوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ إلخ أى: إن الكفر بآيات الله قد تأصل فيهم، وقتل أنبيائهم بغير الحق قد تكرر منهم حتى صار كالطبيعة الثانية والسجية الثابتة، فليس غريبا على هؤلاء أن يقولوا لن نصبر على المن والسلوى وأن ينزل بهم غضب الله ونقمته من أجل جحودهم وكفرهم.
وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ تذكير لهم برغبة من رغباتهم الناشئة عن ذوق سقيم. لا يقدر النعمة قدرها، وفيه انتقال من تعداد النعم عليهم إلى بيان موفقهم الجحودى منها، وانسياقهم وراء شهواتهم وأهوائهم وحماقاتهم، وفيه إشعار بسوء أدبهم في مخاطبتهم لنبيهم موسى- عليه السلام- إذ عبروا عن عدم رغبتهم في تناول المن والسلوى بحرف لَنْ المفيد تأكيد النفي فقالوا لَنْ نَصْبِرَ.. إلخ فكأنهم يقولون له مهددين، ليلجئوه إلى دعاء ربه سريعا: إننا ابتداء من هذا الوقت الذي نخاطبك فيه إلى أن نموت، لن نحبس أنفسنا عن كراهية على تناول طعام واحد، لأننا قد سئمناه ومللناه، ولن نعود إليه:
فالتعبير «بلن» يشعر بشدة ضجرهم، وبلوغ الكراهية لهذا الطعام منهم منتهاها.
قال الحسن البصري- رضي الله عنه-: «بطروا طعم المن والسلوى فلم يصبروا عليه، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوما أهل أعداس وبصل وبقل وثوم» «١».
ووصفوه بالوحدة مع أن المن والسلوى نوعان، لأنهم أرادوا من الوحدة أنه طعام متكرر في كل يوم لا يختلف بحسب الأوقات، والعرب تقول لمن يفعل على مائدته في كل يوم من الطعام أنواعا لا تتغير، إنه يأكل من طعام واحد.
وسألوا موسى- عليه السلام- أن يدعو لهم، لأن دعاء الأنبياء أقرب إلى الإجابة من دعاء غيرهم، وكذلك دعاء الصالحين، حيث يصدر من قلوب عامرة بتقوى الله وجلاله، فيلاقى من الإجابة ما لا يلاقيه دعاء نفوس تستهويها الشهوات، وتستولى عليها السيئات.
وقولهم: فَادْعُ لَنا رَبَّكَ ولم يقولوا ربنا، لعدم رسوخ الإيمان في قلوبهم، ولأنه سبحانه- قد اختصه بما لم يعط مثله من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة.
وجاء التعبير بالفعل يُخْرِجْ مجزوما- مع أن مقتضى الظاهر أن يقال: «أن يخرج- للإيماء إلى أنهم واثقون بأنه إن دعا ربه أجابه، حتى لكأن إخراج ما تنبت الأرض متوقف على مجرد دعاء موسى ربه، وأنه لو لم يدع لهم، لكان شحيحا عليهم بما فيه نفعهم «١».
والجملة الكريمة: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ من مقول موسى- عليه السلام- لهم، وفيها توبيخ شديد لهم على سوء اختيارهم، وضعف عقولهم. لإيثارهم الأدنى وهو البقل وما عطف عليه، على ما هو خير منه وهو المن والسلوى.
قال ابن جرير عند تفسيره للآية الكريمة: «أى قال لهم موسى: أتاخذون الذي هو أخس خطرا وقيمة وقدرا من العيش، بدلا بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا، وذلك كان استبدالهم، وأصل الاستبدال: هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك، ومعنى قوله: أَدْنى أخس واضع وأصغر قدرا وخطرا، وأصله من قولهم: هذا رجل دنى بين الدناءة، وإنه ليدنى في الأمور- بغير همز- إذا كان يتتبع خسيسها. ثم قال: ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى:
البقول والقثاء والعدس والبصل والثوم، فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه» «٢».
ثم أضاف موسى- عليه السلام- إلى توبيخهم السابق على بطرهم وجحودهم توبيخا آخر فقال لهم: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ أى إذا كان هذا هو مرغوبكم، فاتركوا هذا المكان، وانزلوا إلى مصر من الأمصار، لكي تجدوا ما سألتمونى إياه من البقل والثوم وأشباههما، لأن ما اخترتموه لا يوجد في المكان الذي حللتم به، وإنما يوجد في الأمصار والقرى.
وقوله تعالى: مِصْراً.
قال ابن كثير: «هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأثمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف» «٣».
وقال ابن جرير: «فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين اهْبِطُوا مِصْراً وهي القراءة التي
(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٣١٢.
(٣) تفسير ابن كثير ج ١ ص ١٠١.
وقال أبو حيان في البحر: «وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان ابن تغلب (مصر) بغير تنوين، وقد وردت كذلك في مصحف أبى بن كعب وعبد الله بن مسعود، وبعض مصاحف عثمان- رضي الله عنه» اهـ «٢».
والمعنى على القراءة الأولى: اهبطوا مصرا من الأمصار لأنكم في البدو، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي وإنما يكون في القرى والأمصار، فإن لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش.
والمعنى على القراءة الثانية: اتركوا المكان الذي أنتم فيه، واهبطوا مصر التي كنتم تسامون فيها سوء العذاب فإنكم تجدون فيها ما تبغونه، لأنكم قوم لا تقدرون نعمة الحرية، ولا ترتاحون للفضائل النفسية، بل شأنكم- دائما- أن تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ومن حجة الذين قالوا إن الله أراد بالمصر في الآية الكريمة، مصر فرعون، قوله تعالى في سورة الشعراء: فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ «٣».
وقوله تعالى في سورة الدخان: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ «٤».
قالوا: فأخبر الله- تعالى- أنه قد ورثهم ذلك، وجعلها لهم، فلم يكونوا يرثونها، ثم لا ينتفعون بها، ولا يكونون منتفعين إلا بمصير بعضهم إليها قال ابن جرير: «ومن حجة من قال إن الله- تعالى- إنما عنى بقوله: اهْبِطُوا مِصْراً أى: مصرا من الأمصار دون مصر فرعون بعينها، أن الله- تعالى- جعل أرض الشام لبنى إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر، وإنما ابتلاهم بالتيه. بامتناعهم عن موسى في حرب الجبابرة، إذ قال لهم يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ.. إلى قوله تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ.
(٢) تفسير أبى حيان ج ١ ص ٢٣٣.
(٣) الآيات ٥٧- ٥٩.
(٤) الآيات من ٢٥- ٢٨.
قال أبو حيان في البحر: (ولم يصرح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى مصر) اهـ «٢».
ومع أن ابن جرير- رحمه الله- قد رد على من قال، إن المراد بالمصر مصر فرعون: استنادا إلى قراءة غير الجمهور، إلا أنه لم يرجح أحد الرأيين فقد قال: (والذي نقول به في ذلك، أنه لا دلالة في كتاب الله- تعالى- على الصواب من هذين التأويلين، ولا خبر به عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقطع مجيئه العذر، وأهل التأويل متنازعون تأويله، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطى قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بينه الله- تعالى- في كتابه وهم في الأرض تائهون فاستجاب الله لموسى دعاءه وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارا من الأرض التي تنبت ما سأل لهم من ذلك، إذا صاروا إليه، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر، وجائز أن يكون الشام... » «٣».
ومن هذا النص الذي نقلناه عن ابن جرير، نرى أنه لم يقطع برأى في المكان الذي أمر بنو إسرائيل بالهبوط فيه وأنه يرى أن الله- تعالى- قد استجاب لموسى- عليه السلام- دعاءه، وأن موسى وقومه قد هبطوا- فعلا- إلى قرار من الأرض التي تنبت البقول وأشباهها.
وقد عارض الإمام ابن كثير في تفسيره رأى ابن جرير فقال:
وهذا الذي قاله- أى ابن جرير- فيه نظر، والحق أن المراد مصر من الأمصار، كما روى عن ابن عباس وغيره والمعنى على ذلك، لأن موسى- عليه السلام- يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أى بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوى مع دناءته
(٢) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ١ ص ٢٣٤.
(٣) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٣١٣.
وبذلك يظهر لنا أن ابن كثير- رحمه الله- يرى أن المراد بالمصر مكان غير معين وأن موسى- عليه السلام- لم يسأل ربه إجابة طلبهم لأنهم كانوا متعنتين. بطرين، والله- تعالى- يكره من كان كذلك، وأن قول موسى- عليه السلام- لهم «اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم» من باب التوبيخ والتجهيل لهم، إذ ليس حينئذ بلد قريب يستطيعون الوصول إليه.
هذا، والذي نرجحه في هذا المقام هو ما ذهب إليه الإمام ابن كثير لما يأتى:
أولا: أن القراءة بالتنوين متواترة، وابن جرير نفسه لم يجوز القراءة بغيرها، وهذه القراءة المتواترة، نص في أن المراد من مصر، أى بلد كان، لا مصر فرعون، ثم إذا كان المراد به ذلك فليس لنا أن نقول إنه يصدق على مصر فرعون، وذلك لأن الأمصار التي تنبت ما طلبوا من البقول والخضر أقرب إليهم من مصر، فليس من المعقول أن يؤمروا بالذهاب إلى مصر فرعون وهي بعيدة عن مكانهم بعدا شاسعا، ويتركوا الأمصار الأقرب إليهم وفيها ما يريدون.
ثانيا: لم ينقل أحد من المؤرخين أنهم رجعوا إلى مصر بعد خروجهم منها كما قال أبو حيان وغيره، بل الثابت أن بنى إسرائيل خرجوا من مصر، وأمروا بعد خروجهم بدخول الأرض المقدسة لقتال الجبارين ولكنهم أبوا طاعة نبيهم- عليه السلام- فعذبوا بالتيه أربعين سنة لتخلفهم عن قتال الجبارين، ولعصيانهم أمر نبيهم وماتوا جميعا في التيه، وبقي أبناؤهم فامتثلوا أمر الله- تعالى- وهبطوا إلى الشام. وقاتلوا الجبارين ودخلوا الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون.
ثالثا: ليس في الآية ما يشعر بأن موسى- عليه السلام- طلب من ربه أن يجيبهم إلى رغبتهم فكيف نقول بما لم يدل عليه القرآن الكريم ولو من طريق الإشارة؟
رابعا: دخولهم في التيه كان عقوبة لهم على نكوصهم عن قتال الجبارين، ليدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم. فالتيه والحالة هذه كان بمثابة سجن لهم يعاقبون فيه، كما يشعر بذلك قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فكيف يخرج السجين من سجنه تلبية لبعض رغباته المنكرة. وبناء على ذلك يكون الأمر في قول موسى لهم: اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ للتهديد والتوبيخ والتجهيل.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ:
ضرب الذلة والمسكنة عليهم كناية عن لزومهما لهم، وإحاطتهما بهم، كما يحيط السرادق بمن بداخله.
قال صاحب الكشاف: (جعلت الذلة محيطة بهم، مشتملة عليهم، فهم فيها كمن يكون في القبة من ضربت عليه، أو ألصقت به حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة) «١».
وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم، بظاهر جسم آخر بشدة، يقال: ضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة اللصوق.
والذلة: على وزن فعلة من قول القائل: ذل فلان يذل ذلة وذلة، والمراد بها الصغار والهوان والحقارة.
والمسكنة: مفعلة من السكون، ومنها أخذ لفظ المسكين، لأن الهم قد أثقله فجعله قليل الحركة والنهوض، لما به من الفاقة والفقر، والمراد بها في الآية: الضعف النفسي، والفقر القلبي الذي يستولى على الشخص، فيجعله يحس بالهوان، مهما يكن لديه من أسباب القوة.
والفرق بينهما وبين الذلة. أن الذلة هوان تجيء أسبابه من الخارج، كأن يغلب المرء على أمره نتيجة انتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو.
أما المسكنة فهي هوان ينشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق واستيلاء المطامع والشهوات عليها، وتوارث الذلة قرونا طويلة يورث هذه المسكنة، ويجعلها كالطبيعة الثابتة في الشخص المستذل. ولقد عاش اليهود قرونا وأحقابا مستعبدين لمختلف الأمم، فأكسبهم هذا الاستعباد ضعفا نفسيا جعلهم لا يفرقون بين الحياة الذليلة والكريمة، بل إنهم ليفضلون الأولى على الثانية ما دامت تجلب لهم غرضا من أغراض الدنيا، ومهما كثر المال في أيديهم، فإنهم لا يتحولون عن فقرهم النفسي وظهورهم أمام الناس بمظهر البائس الفقير.
وقوله تعالى: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ بيان لسوء عاقبتهم في الآخرة ومبالغة في إهانتهم وتحقيرهم، فهم في الدنيا أذلاء حقراء، وفي الآخرة سيرجعون بغضب من الله بسبب أفعالهم القبيحة.
وقال صاحب الكشاف: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ من قولك باء فلان بفلان، إذا كان حقيقا بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته، أى صاروا أحقاء بغضبه «٢».
ثم صرح- سبحانه- بعد ذلك بسبب ما أحاط بهم من الذلة والمسكنة واستحقاقهم غضب الله وسخطه، فقال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. والجملة الكريمة استئناف بيانى جواب عن سؤال تقديره: لم فعل بهم كل ذلك؟ فكان الجواب، فعلنا بهم بسبب جحودهم لآيات الله، وبسبب قتلهم لأنبيائه، وخروجهم عن طاعته ومجاوزتهم حدودهم والآيات تطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على وحدانية الله تعالى وربوبيته، وتطلق ويراد بها النصوص التي تشتمل عليها الكتب السماوية، وتطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على صدق الرسل- عليهم الصلاة والسلام- فيما يبلغون عن الله- تعالى- وهي التي يسميها علماء التوحيد المعجزات، وقد كفر اليهود بكل هذه الضروب من الآيات، ومردودا على ذلك كما يفيده التعبير بالفعل المضارع يَكْفُرُونَ.
وقوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أى ويقتلون أنبياء الله الذين بعثهم مبشرين ومنذرين، ولقد قتل اليهود- فيمن قتلوا من الأنبياء- زكريا وابنه نحيى- عليهما السلام- لأنهما أبيا الانقياد وراء شهواتهم وأهوائهم.
وقال- سبحانه- بِغَيْرِ الْحَقِّ مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبدا، لإفادة أن قتلهم لهم كان بغير وجه معتبر في شريعتهم لأنها تحرمه، أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً فهذا القيد المقصود به الاحتجاج عليهم بأصول دينهم وتخليد مذمتهم، وتقبيح إجرامهم، حيث إنهم قتلوا أنبياءهم بدون خطأ في الفهم، أو تأول في الحكم، أو شبهة في الأمر، وإنما فعلوا ما فعلوا وهم عالمون بقبح ما ارتكبوا، وخالفوا شرع الله عن تعمد وإصرار.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره؟
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٢١٧.
وقال الإمام الرازي: «فإن قيل: قال هنا وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وقال في آل عمران وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ فما الفرق؟ قلت. إن الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل يتجلى في حديث: «لا يحل دم امرئ مسلّم إلا بإحدى ثلاث: «كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق» فالحق المذكور هنا بحرف التعريف إشارة إلى هذا وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم، أى لم يكن هناك أى حق يستندون إليه، لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره البتة» «٢».
ثم قال تعالى: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.
العصيان: الخروج عن طاعة الله. والاعتداء: تجاوز الحد الذي حده الله- تعالى- لعباده إلى غيره. وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه. وللمفسرين في مرجع الإشارة «ذلك» رأيان:
أحدهما: أنه يعود إلى كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء، وعليه يكون المعنى:
إن هؤلاء اليهود قد مرنوا على عصيانهم لخالقهم، وتعديهم حدوده بجرأة وعدم مبالاة فنشأ عن هذا التمرد والطغيان أن كفروا بآيات الله- تعالى- وامتدت أيديهم الأثيمة إلى قتل الأنبياء بقلوب كالحجارة أو أشد قسوة.
والجملة الكريمة على هذا الرأى تفيد أن التردي في المعاصي وارتكاب المناهي، وتجاوز الحدود المشروعة، يؤدى إلى الانتقال من صغير الذنوب إلى كبيرها، ومن حقيرها إلى عظيمها، لأن هؤلاء اليهود لما استمرءوا المعاصي وداوموا على تعدى الحدود، هانت على نفوسهم الفضائل، وانكسرت أمام شهواتهم كل المثل العليا، فكذبوا بآيات الله تكذيبا وقتلوا من جاءهم بالهدى ودين الحق.
والثاني: يرى أصحابه أن اسم الإشارة الثاني يعود إلى نفس المشار إليه باسم الإشارة الأول، وتكون الحكمة في تكرار الإشارة هو تمييز المشار إليه حرصا على معرفته ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة عليهم، واستحقاقهم لغضب الله- تعالى-
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٣٩٠.
والمعنى أن هؤلاء اليهود قد لزمتهم الذلة والمسكنة، وصاروا أحقاء بسخط الله بسبب كفرهم بآياتنا. وقتلهم أنبياءنا، وخروجهم عن طاعتنا وتعديهم لحدودنا.
وعلى هذا الرأى يكون ذكر أسباب العقوبة التي حلت بهم في الدرجة العليا من حسن الترتيب، فقد بدأ- سبحانه- بما فعلوه في حقه وهو كفرهم بآياته، ثم ثنى بما يتلوه في العظم وهو قتلهم لأنبيائه، ثم وصمهم بعد ذلك بالعصيان والخروج عن طاعته ثم ختم أسباب العقوبة بدمغهم بالاعتداء، وتخطى الحدود، وعدم المبالاة بالعهود، وهذا الترتيب من لطائف أسلوب القرآن الكريم في سوق الأحكام، مشفوعة بعللها وأسبابها.
وبهذا تكون الآية الكريمة قد وصفت بنى إسرائيل بجحود النعم، وسوء الأدب وحمق التفكير، وهوان النفس، وبلادة الطبع، وبطر الحق، والبغي على أنفسهم وعلى غيرهم، وما وصفتهم به أيدته الأيام وصدقته الأحداث في كل زمان ومكان.
وبعد أن بين القرآن الكريم ما حل باليهود من عقوبات بسبب جحودهم لنعم الله، وكفرهم بآياته- أردف بذلك ما وعد الله به المؤمنين من جزيل الثواب.
فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
ففي هذه الآية الكريمة حدثنا القرآن عن أربع فرق من الناس:
أما الفرقة الأولى: فهي فرقة الذين آمنوا، والمراد بهم الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وصدقوه.
وابتدأ القرآن بهم للإشعار بأن دين الإسلام دين قائم على أساس أن الفوز برضا الله لا ينال إلا بالإيمان الصادق والعمل الصالح، ولا فضل لأمة على أمة إلا بذلك، كما قال- تعالى-:
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.
وأما الفرقة الثانية: فهي فرقة الذين هادوا، أى: صاروا يهودا، يقال: هاد وتهود، أى دخل في اليهودية، وسموا يهودا نسبة إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب- بقلب الذال دالا في
والفرقة الثالثة: هي فرقة النصارى، جمع نصران بمعنى نصراني، كندامى وندمان والياء في نصراني للمبالغة، وهم قوم عيسى- عليه السلام- قيل سموا بذلك لأنهم كانوا أنصارا له، وقيل إن هذا الاسم مأخوذ من الناصرة وهي القرية التي كان عيسى- عليه السلام- قد نزلها.
وأما الفرقة الرابعة: فهي فرقة الصابئين جمع صابئ، وهو الخارج من دين إلى دين، يقال:
صبا الظلف والناب والنجم- كمنع وكرم- إذا طلع. والمراد بهم الخارجون من الدين الحق إلى الدين الباطل، وهم قوم يعبدون الكواكب أو الملائكة، ويزعمون أنهم على دين صابئ بن شيث بن آدم.
وذكر القرآن الصابئة في هذا المقام وهم من أبعد الأمم ضلالا. لينبه على أن الإيمان الصحيح والعمل الصالح يرفعان صاحبهما إلى مرتقى الفلاح. حتى ولو سبق له أنه بلغ في الكفر والفجور أقصى غاياته.
والإيمان المشار إليه في قوله- تعالى-: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. إلخ، يفسره بعض العلماء بالنسبة لليهود والنصارى بمعنى صدور الإيمان منهم على النحو الذي قرره الدين الحق، فمن لم تبلغه منهم دعوة الإسلام، وكان ينتمى إلى دين صحيح في أصله بحيث يؤمن بالله واليوم الآخر ويقدم العمل الصالح على الوجه الذي يرشده إليه دينه، فله أجره على ذلك عند ربه.
أما الذين بلغتهم دعوة الإسلام من تلك الفرق ولكنهم لم يقبلوها فإنهم لا يكونون ناجين من عذاب الله مهما ادعوا بأنهم يؤمنون بغيرها، لأن الشريعة الإسلامية قد نسخت ما قبلها والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعى».
ويفسرونه- أى الإيمان- بالنسبة للمؤمنين المشار إليهم بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا..
على أنه بمعنى الثبات والدوام والإذعان، وبذلك ينتظم عطف قوله- تعالى-: وَعَمِلَ صالِحاً على قوله آمَنَ مع مشاركة هؤلاء المؤمنين لتلك الفرق الثلاث فيما يترتب على الإيمان والعمل الصالح من ثواب جزيل، وعاقبة حميدة.
وبعض العلماء يرى أن معنى مَنْ آمَنَ أى: من أحدث من هذه الفرق إيمانا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء من عند ربه، قالوا: لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام، وأما بيان من مضى على دين آخر قبل نسخه فلا ملابسة له بالمقام، فضلا عن أن الصابئين ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات.
الأجر: الجزاء على العمل، وسمى الله ما يعطيه للمؤمن العامل أجرا على سبيل التفضل منه.
وقال: عِنْدَ رَبِّهِمْ ليدل على عظم الثواب، لأن ما يكون عند الله من الجزاء على العمل لا يكون إلا عظيما، ولأن المجازى لهم هو ربهم المنعوت بصفات الكرم والرحمة وسعة العطاء.
والمعنى: إن هؤلاء الذين آمنوا بالله عن تصديق وإذعان، وقدموا العمل الصالح الذي ينفعهم يوم لقائه، هؤلاء لهم أجرهم العظيم عند ربهم، ولا يفزعون من هول يوم القيامة كما يفزع الكافرون، ولا يفوتهم نعيم، فيحزنون عليه كما يحزن المقصرون.
ثم واصل القرآن حديثه مع بنى إسرائيل، فذكرهم بنعمة شمول الله إياهم برحمته وفضله رغم توليهم عن طاعته ونقضهم لميثاقه فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤)
قال ابن جرير: «وكان سبب أخذ الميثاق عليهم فيما ذكره ابن زيد، ما حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح قال لقومه بنى إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، وأمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذ بقولك أنت، لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا فيقول: «هذا كتابي فخذه» فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى: قال فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم فماتوا جميعا، قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. قال: أى شيء أصابكم؟ قالوا: متنا جميعا، ثم حيينا
أتعرفون هذا؟ قالوا نعم، هذا الطور. قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم، قال:
فأخذوا بالميثاق. قال: ولو كانوا أخذوه أول مرة لأخذوه بغير ميثاق» «١».
ومعنى الآيتين الكريمتين: واذكروا- يا بنى إسرائيل- لتعتبروا وتنتفعوا وقت أن أخذنا عليكم جميعا العهد بأن تعبدوا الله وحده، وتتبعوا ما جاءكم به رسله، وتعملوا بما في التوراة، واذكروا كذلك وقت أن رفعنا فوق أسلافكم الطور تهديدا لهم بالعقوبة إذا لم يطيعوا أوامر الله، وليشهدوا آية من آيات الله الدالة على قدرته، وقلنا لكم جميعا. خذوا ما آتيناكم في كتابكم من تكاليف بجد وعزم واجتهاد، واذكروا ما فيه وتدبروه وسيروا على هديه لتتقوا الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولكن الذي حصل منكم جميعا أنكم أعرضتم عن العمل بما أخذ عليكم، فتركتم تعاليم كتابكم وآذيتم أنبياءكم، ولولا أن الله- تعالى- رأف بكم، ووفقكم للتوبة، وعفا عن زلاتكم، لكنتم من الهالكين في دنياكم وآخرتكم.
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ تذكير لبنى إسرائيل بنعمة من أمثال النعم الواردة في الآيات السالفة، لأن أخذ الميثاق عليهم ليعملوا بما في التوراة من الأمور العائد عليهم نفعها.
وقوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ أى: أعليناه، وجعلناه فوق رءوسكم كالمظلة.
والطور: اسم للجبل الذي ناجى عليه موسى ربه- تعالى- كان بنو إسرائيل بأسفله فرفع فوق رءوسهم.
وقوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ مقول لقول محذوف، دل عليه المعنى، والتقدير:
وقلنا لهم: خذوا ما آتيناكم بقوة، أى: تمسكوا به، واعملوا بما فيه يجد ونشاط، وتقبلوه، واجتنبوا نواهيه، واعملوا ما جاء به بدون تردد.
والمراد «بما آتيناكم» التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى لتكون هدى ونورا لهم. وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا ما فِيهِ أى احفظوه وتدبروه وتدارسوه، وامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، واعملوا بكل ما جاء فيه بلا تعطيل لشيء منه.
قال الإمام القرطبي: «وهذا هو المقصود من الكتب، العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان- فحسب-، فقد روى النسائي عن أبى سعيد الخدري- رضي الله عنه- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «إن من أشر الناس رجلا فاسقا يقرأ القرآن، لا يرعوى إلى شيء منه» «٢».
(٢) تفسير القرطبي ج ١ ص ٣٤٧.
وقوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ بيان لنقضهم وإعراضهم عن العمل بالميثاق الذي أخذ عليهم، ونبذوه خلف ظهورهم.
والمشار إليه بقوله تعالى: ذلِكَ أخذ الميثاق عليهم، وقبول ما أوتوه من الكتاب، والمعنى: ثم أعرضتم وانصرفتم عن طاعتي بعد أخذ الميثاق عليكم، ومشاهدتكم للآيات التي تستكين لها القلوب لأن قلوبكم كالحجارة أو أشد قسوة.
وقوله تعالى: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ تصريح بما حباهم به- سبحانه- من رأفة بهم، وقبول لتوبتهم، وعفو عن خطيئاتهم، فكأنه- سبحانه- يقول لهم: إنكم بإعراضكم عن طاعتي، ونقضكم لعهدي، وإهمالكم العمل بكتابي، وعدم تأثركم بآياتى ونذرى، قد استحققتم غضبى وعذابي، ولكن حال دون حلولهما بكم. فضلي الذي تدارككم ورحمتي التي وسعتكم، ولطفي وإمهالى لكم، ولولا ذلك لكنتم من الخاسرين في دنياكم وآخرتكم، بسبب ما اجترحتم من نقض ميثاقكم وبذلك تكون الآيتان قد ذكرتا بنى إسرائيل المعاصرين للعهد النبوي بما كان من أسلافهم من جحود النعمة، ونقض للعهد، وفي هذا التذكير تحذير لهم من السير على طريقتهم، ودعوة لهم إلى الدخول في الإسلام واتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ثم ذكرهم- سبحانه- بسوء عاقبة الذين اعتدوا منهم في السبت، وحذرهم من أن ينهجوا نهجهم فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
الاعتداء: مجاوزة الحد، يقال: اعتدى فلان وتعدى إذا ظلم.
والسبت: المراد به اليوم المسمى بهذا الاسم، وأصل السبت- كما قال ابن جرير- الهدوء
كما قال- جل ثناؤه- وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أى راحة لأبدانكم، وهو مصدر، من قول القائل سبت فلان يسبت سبتا «١».
وملخص قصة اعتداء بنى إسرائيل في يوم السبت، أن الله- تعالى- أخذ عليهم عهدا بأن يتفرغوا لعبادته في ذلك اليوم، وحرم عليهم الاصطياد فيه دون سائر الأيام، وقد أراد- سبحانه- ان يختبر استعدادهم للوفاء بعهودهم، فابتلاهم بتكاثر الحيتان في يوم السبت دون غيره، فكانت تتراءى لهم على الساحل في ذلك اليوم قريبة المأخذ سهلة الاصطياد فقالوا:
لو حفرنا إلى جانب ذلك البحر الذي يزخر بالأسماك يوم السبت حياضا تنساب إليها المياه في ذلك اليوم ثم نصطادها من تلك الحياض في يوم الأحد وما بعده، وبذلك نجمع بين احترام ما عهد إلينا في يوم السبت، وبين ما تشتهيه أنفسنا من الحصول على تلك الأسماك، فنصحهم فريق منهم بأن عملهم هذا إنما هو امتثال ظاهرى لأمر الله، ولكنه في حقيقته خروج عن أمره من ترك الصيد في يوم السبت، فلم يعبأ أكثرهم بذلك، بل نفذ تلك الحيلة، فغضب الله عليهم ومسخهم قردة، وجعلهم عبرة لمن عاصرهم ولمن أتى بعدهم..
والحديث عن أصحاب السبت قد جاء ذكره مفصلا في سورة الأعراف»
كما جاءت الإشارة إليه في سورتي النحل «٣» والنساء «٤».
ثم بين- سبحانه- العقوبة التي حلت بهم بسبب اعتدائهم في يوم السبت، وتحايلهم على استحلال محارم الله فقال- تعالى-:
فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ.
أى: صاغرين مطرودين مبعدين عن الخير أذلاء.
والخسوء: الطرد والإبعاد. يقال: خسأت الكلب خسأ وخسوءا- من باب منع- طردته وزجرته، وذلك إذا قلت له: اخسأ.
وجمهور المفسرين على أنهم مسخوا على الحقيقة ثم ماتوا بعد ذلك بوقت قصير.
ويرى مجاهد أنهم لم تمسخ صورهم ولكن مسخت قلوبهم، أى: إنهم مسخوا مسخا نفسيا فصاروا كالقردة في شرورها وإفسادها لما تصل إليه أيديها.
وتلك العقوبة كانت بسبب إمعانهم في المعاصي، وتأبيهم عن قبول النصيحة، وضعف إرادتهم أمام مقاومة أطماعهم، وانتكاسهم إلى عالم الحيوان لتخليهم عن خصائص الإنسان،
(٢) الآيات من ١٦٣- ١٦٦.
(٣) الآية ١٢٤.
(٤) الآية ١٥٤. [.....]
والضمير في قوله: فَجَعَلْناها يعود إلى العقوبة التي هي مسخهم قردة و «نكالا» أى عبرة تنكل المعتبر بها بحيث تمنعه وتردعه من ارتكاب الشر.
يقال: نكل به تنكيلا إذا صنع به صنعا يردعه ويجعل غيره يخاف ويحذر. والاسم النكال وهو ما نكلت به غيرك، وأصله من النكل- بالكسر- وهو القيد الشديد وجمعه أنكال.
وقوله: «لما بين يديها وما خلفها. أى: للذين كانوا قبل هذه العقوبة وعاشوا حتى شاهدوها، وللذين أتوا بعدها وعرفوا عن يقين خبرها.
والمعنى: فجعلنا هذه العقوبة عبرة زاجرة لمن كان قبلها وعاش حتى رآها ولمن أتى بعدها وعلم يقينا بحال العادين في السبت الذين مسخوا بسبب عصيانهم تحذيرا له من أن يعمل عملهم، فيمسخ كما مسخوا، ويحل به العذاب الذي حل بهم. كما جعلناها أيضا مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ الذين يسمعون قصتها فهم الذين من شأنهم أن ينتفعوا بالعظات، ويعتبروا بالمثلات.
ثم ساق القرآن بعد ذلك قصة من قصص بنى إسرائيل تدل على تنطعهم في الدين، ومحاولتهم تضييق ما وسعه الله عليهم، وتهربهم من الانصياع لكلمة الحق، وتشككهم في صدق أنبيائهم، وتعنتهم في السؤال. وهذه القصة هي قصة أمرهم على لسان نبيهم موسى- عليه السلام- بذبح بقرة. استمع إلى القرآن الكريم، وهو يحكى هذه القصة بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً، قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
ومعنى الآية الكريمة: واذكروا يا بنى إسرائيل- لتعتبروا وتتعظوا وقت أن حدث في أسلافكم قتيل ولم يعرف الجاني. فطلب بعض أهله وغيرهم ممن يهمه الأمر من موسى- عليه السلام- أن يدعو الله- تعالى- ليكشف لهم عن القاتل الحقيقي، فقال لهم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فدهشوا وقالوا بسفاهة وحماقة أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ أى أتجعلنا موضع سخريتك؟ قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ الذين يخبرون عنه بما لم يأمر به.
والذي عليه جمهور المفسرين أن أمرهم بذبح البقرة كان بعد تنازعهم في شأن القاتل من هو؟ وذلك ليعرف القاتل الحقيقي إذا ضرب القتيل ببعضها، كما سيأتى في قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
وقد أمرهم الله- تعالى- بذبح بقرة دون غيرها من الحيوانات لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل، وفي أمرهم بذلك تهوين لشأن هذا الحيوان الذي عظموه وعبدوه وأحبوه فكأنه- سبحانه- يقول لهم: إن هذا البقر الذي يضرب به المثل في البلادة، لا يصلح أن يكون معبودا من دون الله، وإنما يصلح للحرث والسقي والعمل والذبح.
وقولهم أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ يدل على سفههم وسوء ظنهم بنبيهم وعدم توقيرهم له وجهلهم بعظمة الله- تعالى- وما يجب أن يقابل به أمره من الانقياد والامتثال، لأنهم لو كانوا عقلاء لامتثلوا أمر نبيهم، وانتظروا النتيجة بعد ذلك. ولكنهم قوم لا يعقلون.
ولما كان قولهم هذا القول يدل على اعتقادهم بأن موسى- عليه السلام- قد أخبر عن الله بما لم يؤمر به، أجابهم موسى بقوله: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ: أى ألتجئ إلى الله وأبرأ إليه من أن أكون من السفهاء الذين يروون عنه الكذب والباطل، وفي هذا الجواب تبرؤ وتنزه عن الهزء، وهو المزاح الذي يخالطه احتقار واستخفاف بالممازح معه- لأنه لا يليق بعقلاء الناس فضلا عن رسل الله- عليهم السلام- كما أن فيه- أيضا- ردا لهم- عن طريق التعريض بهم- إلى جادة الأدب الواجب في جانب الخالق، حيث بين لهم أن ما ظنوه به لا يليق إلا بمن يجهل عظمة الله- تعالى-.
قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين عند تفسيره للآية الكريمة:
هذا وما أرشدهم إليه نبيهم- عليه السلام- كان كافيا لحملهم على أن يذبحوا أى بقرة تنفيذا لأمر ربهم، ولكن طبيعتهم الملتوية المعقدة لم تفارقهم، فأخذوا يسألون كما أخبر القرآن عنهم بقوله: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟
أى: قال بنو إسرائيل لموسى اطلب لنا من ربك أن يبين لنا حالها وصفاتها «٢». وسبب سؤالهم عن صفتها، تعجبهم من بقرة مذبوحة بأيديهم، يضرب ببعضها ميت لتعود إليه الحياة، وكأنهم- لقلة فهمهم- قد توقعوا أن البقرة التي يكون لها أثر في معرفة قاتل القتيل، لا بد أن تكون لها صفة متميزة عن سائر جنسها.
وسؤالهم بهذه الطريقة يوحى بسوء أدبهم مع الله- تعالى- ومع نبيهم موسى- عليه السلام- لأنهم قالوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ فكأنما هو رب موسى وحده، لا ربهم كذلك، وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعنى موسى وربه ومع هذا فقد أجابهم إجابة المربى الحكيم للأتباع السفهاء الذين ابتلى بهم فقال: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ «٣» وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ.
أى: قال لهم موسى بعد أن أخبره الله بصفتها: إنه- تعالى- يقول: إن البقرة التي آمركم بذبحها لا مسنة ولا صغيرة، بل نصف بينهما، فاتركوا الإلحاح في الأسئلة، وسارعوا إلى امتثال ما أمرتم به.
(٢) (ما) هنا مراد بها السؤال عن الصفة كما يقول من يسمع الناس يتكلمون عن حاتم أو الأحنف وقد علم أنهما رجلان، ولم يعلم صفتيهما ما حاتم؟ أو ما الأحنف؟ فيقال: كريم أو حليم.
(٣) الفارض المسنة اسم للبقرة التي انقطعت ولادتها من الكبر، وسميت بذلك لأنها فرضت سنها أى قطعتها وبلغت آخرها. والبكر هي الفتية مشتقة من البكرة- بالضم- وهي أول النهار، والمراد بها هنا التي لم تلد. قال ابن جرير (البكر من إناث البهائم وبنى آدم ما لم يفتحله الفحل) والعوان هي المتوسطة في السن:
وصح إضافة (بين) إلى اسم الإشارة (ذلك) لأنه أشير إلى الفارض والبكر. قال ابن جرير: (العوان النصف التي قد ولدت بطنا من بطن.. وجمعها عون. يقال: امرأة عوان من نسوة عون، وحرب عوان إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد أخرى).
ولم يقل القرآن الكريم من أول الأمر: إنها بقرة عوان بل جاء بالوصفين السابقين لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ للتعريض بغباوتهم، والتلميح بعدم فهمهم للأساليب الموجزة، لذا لجأ في جوابهم إلى تنكير التوصيف حتى لا يعودوا إلى تكرار الأسئلة.
وقوله تعالى: فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ يقصد به قطع العذر مع الحض على الطاعة والامتثال.
وما موصولة، والعائد محذوف بعد حذف جاره، على طريقة التوسع، أى: إذا كان الأمر كذلك، فبادروا إلى تنفيذ ما تؤمرون به، لتصلوا إلى معرفة القاتل الحقيقي بأيسر طريق، ولا تضيقوا على أنفسكم ما وسعه الله لكم، ولا تكثروا من المراجعة، فإنها ليست في مصلحتكم.
ومع ذلك فقد أبوا إلا تنطعا، واستقصاء في السؤال، فأخذوا يسألون عن لونها بعد أن عرفوا سنها، فقالوا كما حكى القرآن عنهم:
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.
والمعنى: قال بنو إسرائيل لنبيهم، مشددين على أنفسهم بعد أن عرفوا صفة البقرة من جهة سنها: سل لنا ربك يبين لنا ما لونها، لكي يسهل علينا الحصول عليها، فأجابهم بقوله: إنه- تعالى- يقول إن البقرة التي أمرتكم بذبحها صفراء فاقع لونها، تعجب في هيئتها ومنظرها وحسن شكلها الناظرين إليها...
قال ابن جرير: «والفقوع في الصفرة نظير النصوع في البياض، وهو شدته وصفاؤه» «١».
وقال صاحب الكشاف: «الفقوع أشد ما يكون مع الصفرة، وأنصعه يقال في التوكيد أصفر فاقع ووارس، كما يقال: أسود حالك،.. ثم قال فإن قلت: فهلا قيل: صفراء فاقعة، وأى فائدة في ذكر اللون؟ قلت: الفائدة فيه التوكيد، لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة، فكأنه قيل: شديد صفرتها فهو من قولك: جد جده» «٢».
وإلى هنا يكونون قد عرفوا وصف البقرة من حيث سنها ووصفها من حيث لونها، فهل أغنتهم هذه الأوصاف؟، كلا! ما أغنتهم. فقد أخذوا يسألون للمرة الثالثة عما هم في غنى عنه فقالوا كما حكى القرآن عنهم:
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٢١٩.
ومعنى الآيتين الكريمتين: قال بنو إسرائيل لموسى بعد أن عرفوا سن البقرة ولونها: سل من أجلنا ربك أن يزيدنا إيضاحا لحال البقرة التي أمرنا بذبحها. حيث إن البقر الموصوف بالوصفين السابقين كثير، فاشتبه علينا أيها نذبح، وإنا إن شاء الله بعد هذا البيان منك لمهتدون إليها، ومنفذون لما تكلفنا به، فأجابهم موسى بقوله: «إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث، مسلمة لا شية فيها» أى قال إنه- سبحانه- يقول: أنها بقرة سائمة ليست مذللة بالعمل في الحراثة ولا في السقي، وهي بعد ذلك سليمة من كل عيب، ليس فيها لون يخالف لونها الذي هو الصفرة الفاقعة، فلما وجدوا أن جميع مشخصاتها ومميزاتها قد اكتملت قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ الواضح، ولم يبق إشكال في أمرها، وبحثوا عنها، وحصلوها فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ لكثرة أسئلتهم وترددهم.
فقوله- تعالى-: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ حكاية لسؤالهم الثالث الذي وجهوه إلى نبيهم- عليه السلام- ليزدادوا معرفة بحال البقرة وصفتها من حيث نفاستها، بعد أن عرفوا سنها ولونها.
فكأنهم يقولون له: إن في أجوبتك السابقة عنها تقصيرا يشق معه تمييزها، فسل من أجلنا ربك ليزيدنا بيانا لحالها، وكأنما أحسوا بأنهم قد أثقلوا عليه وتجاوزوا الحدود المعقولة في الطلب، فعللوا ذلك بقولهم.
إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا أى: لا تتضايق من كثرة أسئلتنا، فإن لنا عذرنا في هذا التكرار.
لأن البقر الموصوف بالعوان وبالصفرة الفاقعة كثير، فاشتبه علينا أمر تلك البقرة التي تريدنا أن نذبحها.
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: «وإنما لم يعتذروا في المرتين الأوليين واعتذروا في الثالثة، لأن للثلاثة في التكرير وقعا من النفس في التأكيد والسآمة وغير ذلك، ولذا كثر في أحوال البشر وشرائعهم التوقيت بالثلاثة» «١».
وقولهم: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ حض لنبيهم موسى- عليه السلام- على الدعاء، ووعد له بالطاعة والامتثال، ودفع للسآمة عن نفسه من كثرة أسئلتهم، وتبرير لمسلكهم في كثرة المراجعة حتى يتفادوا غضبه، فكأنهم يقولون له:
قال ابن جرير: وأما قوله تعالى: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ فإنهم عنوا وإنا إن شاء الله لمبين لنا ما التبس علينا وتشابه من أمر البقرة التي أمرنا بذبحها. ومعنى اهتدائهم في هذا الموضع تبينهم ذلك الذي لزمهم ذبحه مما سواه من أجناس البقر» «١».
وفي قوله تعالى: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ، وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها إضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة، كانوا في غنى عنها لو أطاعوا نبيهم من أول الأمر، ولكنهم للجاجتهم، وسوء اختيارهم، وبعد أفهامهم عن مقاصد الشريعة، ضيقوا على أنفسهم دائرة الاختيار، فأصبحوا مكلفين بالبحث عن بقرة موصوفة بأنها متوسطة السن، لونها أصفر فاقع، تبهج الناظرين إليها، وهي، بعد ذلك، سائمة نفيسة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقى الزرع، سليمة من العيوب، ليس فيها لون يخالف لونها الذي هو الصفرة الفاقعة.
وقوله تعالى: لا ذَلُولٌ «٢» صفة لبقرة، يقال: بقرة ذلول، أى: ريضة زالت صعوبتها، وإثارة الأرض: تحريكها وقلبها بالحرث والزراعة والحرث: شقها لإلقاء البذور فيها.
والمراد: نفى التذليل ونفى إثارة الأرض وسقى الزرع عن البقرة المطلوبة.
أى: هي بقرة صعبة لم يذللها العمل في حراثة الأرض، ولا في سقى الزرع، فهي معفاة من العمل في هذه الأشياء. ولا في قوله تعالى: لا ذَلُولٌ للنفي، وفي قوله تعالى:
وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مزيدة لتوكيد الأولى، لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقى، وأعيد في قوله تعالى وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مراعاة للاستعمال الفصيح.
وقوله- تعالى-: مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها صفتان للبقرة، ومسلمة مفعلة من السلامة.
والشية: اللون المخالف لبقية لون الشيء، وأصله من وشى الشيء، وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه بضروب مختلفة من ألوان سداه ولحمته.
والمعنى: إن هذه البقرة سليمة من العيوب المختلفة، وليس فيها لون يخالف لون جلدها من
(٢) الذلول- بفتح الذال- فعول من ذل ذلا- بكسر الذال- في المصدر بمعنى لأن وسهل، وأما الذل- بضم الذال- فهو ضد العز، وهما مصدران لفعل واحد خص في الاستعمال أحد المصدرين بأحد المعنيين.
وأرادوا بالحق في قوله تعالى: قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ الوصف الواضح الذي لا اشتباه فيه ولا احتمال، فكأنهم يقولون له: الآن- فقط- جئتنا بحقيقة وصف البقرة، فقد ميزتها عن جميع ما عداها، من جهة اللون وكونها من السوائم لا العوامل، وبذلك لم يبق لنا في شأنها اشتباه أصلا.
والفاء في قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ قد عطفت ما بعدها على محذوف يدل عليه المقام، والتقدير فظفروا بها فذبحوها، أى: فذبح قوم موسى البقرة التي وصفها الله- تعالى- لهم، بعد ما قاربوا أن يتركوا ذبحها، ويدعوا ما أمروا به، لتشككهم في صحة ما يوجه إليهم من إرشادات ولكثرة مما طلتهم.
قال صاحب الكشاف: وقوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ استثقال لاستقصائهم، وأنهم لتطويلهم المفرط. وكثرة استكشافهم، ما كادوا يذبحونها وما كادت تنتهي سؤالاتهم، وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمقهم، وقيل: ما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها، وقيل لخوف الفضيحة في ظهور القاتل» «١».
ثم كشف الله- تعالى- بعد ذلك عن الغاية التي من أجلها أمروا بذبح البقرة فقال تعالى:
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
المعنى: واذكروا يا بنى إسرائيل إذ قتلتم نفسا، فاختلفتم وتنازعتم في قاتلها، ودفع كل واحد منكم التهمة عن نفسه، والله- عز وجل- مخرج لا محالة ما كتمتم من أمر القاتل، فقد بين- سبحانه- الحق في ذلك فقال على لسان رسوله موسى- عليه السلام- اضربوا القتيل بأى جزء من أجزاء البقرة، فضربتموه ببعضها فعادت إليه الحياة- بإذن الله- وأخبر عن قاتله، وبمثل هذا الإحياء لذلك القتيل بعد موته، يحيى الله الموتى للحساب والجزاء يوم القيامة، ويبين لكم الدلائل الدالة على أنه قدير على كل شيء رجاء أن تعقلوا الأمور على وجهها السليم.
وجمهور المفسرين على أن واقعة قتل النفس وتنازعهم فيها، حصلت قبل الأمر بذبح البقرة، إلا أن القرآن الكريم أخرها في الذكر ليعدد على بنى إسرائيل جناياتهم وليشوق النفوس إلى معرفة الحكمة من وراء الأمر بذبحها، فتتقبلها بشغف واهتمام.
قال صاحب الكشاف. فإن قلت فما للقصة لم تقص على ترتيبها، وكان حقها أن يقدم ذكر
فالأولى: لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك.
والثانية: للتقريع على قتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية العظيمة، وإنما قدم قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل، لأنه لو عمل على عكسه لكانت القصة واحدة، ولذهب الغرض من تثنية التقريع، ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها، أن وصلت بالأولى، دلالة على اتحادهما، بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع ونيته، بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة» «١».
وقد أسند القرآن الكريم القتل إلى جميعهم في قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ مع أن القاتل بعضهم، للإشعار بأن الأمة في مجموعها وتكافلها كالشخص الواحد.
وأسند القتل- أيضا- إلى اليهود المعاصرين للعهد النبوي، لأنهم من سلالات أولئك الذين حدث فيهم القتل، وكثيرا ما يستعمل القرآن الكريم هذا الأسلوب للتنبيه على أن الخلف قد سار على طريقة السلف في الانحراف والضلال.
وقوله تعالى: فَادَّارَأْتُمْ فِيها بيان لما حصل منهم بعد قتل النفس التي ذكرنا قصتها ومعنى ادارأتم فيها: اختلفتم وتخاصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أى يدفعه ويزحمه، أى تدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض فدفع المطروح عليه الطارح، ليدفع الجناية عن نفسه ويتهم غيره.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ معناه: والله- تعالى- مظهر ومعلن ما كنتم تسترونه من أمر القتيل الذي قتلتموه، ثم تنازعتم في شأن قاتله، وذلك ليتبين القاتل الحقيقي بدون أن يظلم غيره.
وهذه الجملة الكريمة وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ معترضة بين قوله تعالى فَادَّارَأْتُمْ وبين قوله تعالى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
. وفائدته إشعار المخاطبين قبل أن يسمعوا ما أمروا بفعله، بأن القاتل الحقيقي سينكشف أمره لا محالة.
وقوله تعالى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
إرشاد لهم إلى الوسيلة التي عن طريقها سيهتدون إلى القاتل الحقيقي، والضمير في قوله اضْرِبُوهُ
يعود على النفس، وتذكيره مراعى فيه معناها هو الشخص أو القتيل.
وضرب القتيل ببعضها- أيا كان ذلك البعض- دليل على كمال قدرة الله تعالى. وفيه تيسير عليهم. واسم الإشارة في قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
مشار به إلى محذوف دل عليه سياق الكلام.
والتقدير: فقلنا لقوم موسى الذين تنازعوا في شأن القتيل اضربوه ببعض البقرة ليحيا، فضربوه فأحياه الله، وأخبر القتيل عن قاتله، وكمثل إحيائه يحيى الله الموتى في الآخرة للثواب والعقاب.
وبذلك تكون الآية ظاهرة في أن الذي ضرب ببعض البقرة قد صار حيا بعد موته.
قال الإمام ابن جرير- رحمه الله-: فإن قيل: وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها؟
قيل: ليحيا فينبئ نبي الله والذين ادارءوا فيه عن قاتله.
فإن قال: وأين الخبر عن أن الله- تعالى- أمرهم بذلك؟ قيل: ترك ذلك اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه، والمعنى: فقلنا اضربوه ببعضها ليحيا فضربوه فحيي، يدل على ذلك قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
«٢».
والمقصود بالآيات في قوله تعالى: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
الدلائل الدالة على أن الله على كل شيء قدير والتي منها ما شاهدوه بأعينهم من ترتب الحياة على ضرب القتيل بعضو ميت، وأخباره عن قاتله، واهتدائهم بسبب ذلك إلى القاتل الحقيقي. وذلك لكي تستعملوا عقولكم في الخير. وتوقنوا بأن من قدر على إحياء نفس، واحدة فهو قادر على إحياء الأنفس جميعا لأنه- سبحانه- لا يصعب عليه شيء.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٣٠٩.
حفظ الدماء واستبقاؤها وليس المراد به عنده الإحياء الحقيقي بعد الموت.
فقد قال في تفسيره: وأما قوله تعالى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
فهو بيان لإخراج ما يكتمون، ويروون في هذا الضرب روايات كثيرة. قيل: إن المراد اضربوا المقتول بلسانها وقيل بفخذها وقيل بذنبها، وقالوا: أنهم ضربوه فعادت إليه الحياة، وقال قتلني أخى أو ابن فلان، إلخ ما قالوه، والآية ليست أيضا نصا في مجمله فكيف بتفصيله؟ والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله ليعرف الجاني من غيره فمن غسل يده وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برىء من الدم ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية.
ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس، أى يحييها بمثل هذه الأحكام، وهذا الإحياء على حد قوله تعالى وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وقوله تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ.
فالإحياء هنا معناه الاستبقاء كما هو المعنى في الآيتين «١»...
والذي نراه أن المراد بالإحياء في قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
الإحياء الحقيقي للميت بعد موته، وأن تفسيره بحفظ الدماء واستبقائها ضعيف لما يأتى:
أولا: مخالفته لما ورد عن السلف في تفسير الآية الكريمة فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: «لما ضرب المقتول ببعضها- يعنى ببعض البقرة- جلس حيا، فقيل له من قتلك؟ قال: بنو أخى قتلوني ثم قبض «٢»..
ثانيا: ما ذهب إليه صاحب المنار لا يدل عليه القرآن الكريم لا إجمالا ولا تفصيلا، ولا تصريحا ولا تلميحا، لأن قوله تعالى كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
ظاهر كل الظهور، في أن المراد بالإحياء رد الحياة إليهم بعد ذهابها عنهم، إذ الموتى هم الذين ماتوا بالفعل، وإحياؤهم رد أرواحهم بعد موتهم وليس هناك نص صحيح يعتمد عليه في مخالفة هذا الظاهر، ولا توجد أيضا قرينة مانعة من إرادة هذا المعنى المتبادر من الآية بأدنى تأمل وما دام الأمر كذلك فلا يجوز تأويله بما يخالف ما يدل عليه اللفظ دلالة واضحة، ومن التعسف الظاهر أن يراد من الموتى
(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٣٤٢.
فهذه الآية الكريمة تدل على أن القصاص من الجناة يحفظ على الناس حياتهم بدون التواء أو تعمية.
ثالثا: تفسير الإحياء برد الحياة إلى الموتى، كما قال المفسرون، يؤدى إلى غرس الإيمان بصحة البعث في القلوب، لأن المعنى عليه، كهذا الإحياء العجيب- وهو إحياء القتيل بضربه ببعض البقرة ليخبر عن قاتله- يحيى الله الموتى بأن يبعثهم من قبورهم يوم القيامة، ليحاسبهم على أعمالهم، فيكون إثباتا للبعث عن طريق المشاهدة حتى لا ينكره منكر.
رابعا: قوله تعالى بعد ذلك: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
قرينة قوية على أن المراد بالإحياء، رد الحياة إلى الموتى بعد موتهم لأن المراد ب آياتِهِ
في هذا الموضع، - كما قال المفسرون- الدلائل الدالة على عظم قدرته- تعالى- وذلك إنما يكون في خلق الأمور العجيبة الخارقة للعادة والتي ليست في طاقة البشر، كإحياء الموتى وبعثهم من قبورهم للحساب والجزاء.
ثم بين القرآن الكريم، بعد ذلك أن هذه المعجزات الباهرة التي تزلزل المشاعر، وتهز القلوب، وتبعث في النفوس الإيمان، لم تؤثر في قلوب بنى إسرائيل الصلدة لأنه قد طرأ عليهم بعد رؤيتها ما أزال آثارها من قلوبهم، ومحا الاعتبار بها من عقولهم، فقال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
والمعنى: ثم صلبت قلوبكم- يا بنى إسرائيل- وغلظت من بعد أن رأيتم ما رأيتم من معجزات منها إحياء القتيل أمام أعينكم، فهي كالحجارة في صلابتها وببوستها، بل هي أشد صلابة منها، لأن من الحجارة ما فيه ثقوب متعددة، وخروق متسعة، فتتدفق منه مياه الأنهار التي تعود بالمنافع على المخلوقات، ولأن من بينها ما يتصدع تصدعا قليلا فيخرج منه ماء العيون والآبار ولأن منها ما يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح من خوف الله وخشيته، أما أنتم- يا بنى إسرائيل- فإن قلوبكم لا تتأثر بالمواعظ ولا تنقاد للخير، ولا تفعل ما تؤمر به، مهما تعاقبت عليكم النعم والنقم والآيات، وما الله بغافل عما تعملون:
وقوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً بيان لما طرأ على قلوب بنى إسرائيل من بعد عن الاعتبار، وعدم تأثر بالعظات وإعراض عن الإنابة والإذعان لآيات الله وتحلل من المواثيق التي أقروا بها على أنفسهم.
وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فيه زيادة تعجيب من إحاطة القساوة بقلوبهم، بعد توالى النعم، وتكاثر المعجزات التي أشار القرآن الكريم إلى بعضها في الآيات السابقة.
واسم الإشارة (ذلك) مشار به إلى إحياء القتيل بعد ضربه بجزء من البقرة أو إلى جميع النعم والمعجزات الواردة في الآيات السابقة.
و (أو) في قوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً قيل: للتنويع، فإن قلوبهم متفاوتة في القسوة، فمنها ما هو قاس كالحجارة، ومنها ما هو أشد منها قسوة، أى: فبعض قلوبكم كالحجارة في صلابتها وبعضها أشد من الحجارة في صلابتها.
وقيل: للتشكيك بالنسبة للمخاطبين، لا إلى المتكلم، كأن يقول أحد الناس لآخر، إن هذه القلوب قسوتها تشبه الحجارة أو تزيد عليها.
والأظهر أن تكون للإضراب على طريقة المبالغة والمعنى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة بل هي أشد منها قسوة، إذ لا شعور فيها يأتى بخير، والحجارة ليست كذلك.
وشبه- سبحانه- قلوبهم بالحجارة في القسوة، لأن صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر، حيث إنها محسوسة لديهم ومتعارفة بينهم ولذا جاء التشبيه بها.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت لم قيل أشد قسوة، وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب؟ قلت: لكونه أبين وأدل على فرط القسوة، ووجه آخر، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة. كأنه قيل اشتدت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشد قسوة». «١»
وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ بيان لفضل الحجارة على قلوبهم القاسية، قصد به إظهار زيادة قسوة قلوبهم عن الحجارة، لأن هذا الأمر لغرابته يحتاج إلى بيان سببه.
فكأنه- سبحانه- يقول لهم. إن هذه الحجارة على صلابتها ويبوستها منها ما تحدث فيه المياه خروقا واسعة تتدفق منها الأنهار الجارية النافعة، ومنها ما تحدث فيه المياه شقوقا مختلفة
وقوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تهديد وتخويف، حيث إنه- سبحانه- سيحاسبهم على أعمالهم، وسيذيقهم ما يستحقونه من عقاب جزاء جحودهم لنعمه، وعصيانهم لأمره.
وبذلك تكون الآية الكريمة قد وصفت بنى إسرائيل بما هم أهله. من قساوة القلب وانطماس البصيرة، وعدم التأثر بالعظات مهما كثرت. وبالآيات مهما توالت.
ما يؤخذ من هذه القصة من العظات والعبر:
اشتملت هذه القصة على كثير من العظات والتوجيهات الإلهية من ذلك.
١- دلالتها على ما جبل عليه بنو إسرائيل من فظاظة وغلظة، وسوء أدب مع مرشديهم، وإحفاء في الأسئلة بلا موجب، وعدم استعداد للتسليم بما يأتيهم به الرسل، ومما طلة في الانصياع للتكاليف، وانحراف عن الطريق المستقيم.
٢- دلالتها على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يبلغه عن ربه، فقد أخبر في هذه القصة الواقعية التي لم يشهد حوادثها بما أوحاه الله إليه وهذا الإخبار من أعلام نبوته صلّى الله عليه وسلّم كما أنها تدل على صدق نبوة موسى- عليه السلام- وأنه رسول من رب العالمين.
٣- دلالتها على أن التنطع في الدين، والإلحاف في المسألة يؤديان إلى التشديد في الأحكام، لأن بنى إسرائيل لو أنهم أول الأمر عمدوا إلى ذبح أى بقرة لأجزأتهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.
أخرج ابن جرير- رحمه الله- عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: «لو أن القوم أخذوا أدنى بقرة لأجزأتهم. لكنهم شددوا فشدد الله عليهم» «١».
وقد أدى بهم هذا التنطع والتشديد إلى تضييق دائرة اختيارهم، وتكثير للشروط التي يجب توافرها في البقرة المطلوبة، وذلك لتأديبهم على مما طلتهم وبلادة عقولهم، وسوء تلقيهم للشريعة بأنواع من التقصير عملا وشكرا وفهما، وبذلك يعلم أن ما كلفهم الله به أولا هو ذبح بقرة ما، وأن ما أمروا به بعد ذلك من كونها صفراء سالمة من آثار الخدمة ليس من باب تأخير
وقد جاءت تعاليم الإسلام بالنهى عن كثرة السؤال قال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ.
وفي الحديث الشريف: «ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوه، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ما استطعتم» «١».
قال صاحب النار: «وقد امتثل سلفنا لأمر الله فلم يشددوا على أنفسهم، فكان الدين عندهم فطريا وحنيفيا سمحا، ولكن من خلفهم عمد إلى ما عفا الله عنه فاستخرج له أحكاما استنبطها باجتهاده، حتى صار الدين حملا ثقيلا على الأمة فسئمته وملت وألقته وتخلت» «٢».
٤- قال الإمام ابن القيم- رحمه الله-: وفي هذه القصة أنواع من العبر منها.
(أ) أنه لا يجوز مقابلة أمر الله الذي لا يعلم المأمور به وجه الحكمة فيه بالإنكار، فإن القوم لما قال لهم نبيهم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قابلوا هذا الأمر بقولهم: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً فلما لم يعلموا وجه الحكمة في ارتباط هذا الأمر بما سألوا عنه قالوا «أتتخذنا هزوا». وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله، فإنه أخبرهم عن أمر الله لهم بذلك، ولم يكن هو الآمر به، ولو كان هو الآمر به لم يجز لمن آمن بالرسول أن يقابل أمره بذلك فلما قال لهم: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ وتيقنوا أن الله- تعالى- أمره بذلك، أخذوا في التعنت بسؤالهم عن عينها ولونها، فلما أخبروا عن ذلك رجعوا إلى السؤال مرة ثالثة، فلما تعينت لهم ولم يبق إشكال توقفوا في الامتثال، ولم يكادوا يفعلون.
ثم من أقبح جهلهم وظلمهم قولهم لنبيهم: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فإن أرادوا بذلك: أنك لم تأت بالحق قبل ذلك في أمر البقرة، فتلك ردة وكفر ظاهر، وإن أرادوا: أنك الآن بينت لنا البيان التام في تعيين البقرة المأمور بذبحها فذلك جهل ظاهر، فإن البيان قد حصل بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فإنه لا إجمال في الأمر ولا في الفعل ولا في المذبوح فقد جاء رسول الله بالحق من أول مرة.
(٢) تفسير المنار ج ١ ص ٣٤٦.
(ب) ومنها: الدلالة على صحة ما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم من معاد الأبدان، وقيام الموتى من قبورهم.
(ج) ومنها: إقامة أنواع الآيات والبراهين والحجج على عباده بالطرق المتنوعات، زيادة في هداية المهتدى، وإعذارا وإنذارا للضال:
(د) ومنها: الإخبار عن قساوة هذه الأمة وغلظها، وعدم تمكن الإيمان فيها.
قال عبد الصمد بن معقل عن وهب: كان ابن عباس يقول «إن القوم بعد أن أحيا الله تعالى- الميت فأخبرهم يقاتله، أنكروا قتله، وقالوا: والله ما قتلناه بعد أن رأوا الآيات الحق».
(هـ) ومنها: مقابلة الظالم الباغي بنقيض قصده شرعا وقدرا، فإن القاتل قصد ميراث المقتول، ودافع القاتل عن نفسه، ففضحه الله- تعالى- وهتكه، وحرمه ميراث المقتول.
(و) ومنها: أن بنى إسرائيل فتنوا بالبقرة مرتين من سائر الدواب ففتنوا بعبادة العجل وفتنوا بالأمر بذبح البقرة، والبقرة من أبلد الحيوان حتى ليضرب به المثل في البلادة.
ثم قال الإمام ابن القيم في ختام حديثه عن هذه القصة: والظاهر أن هذه كانت بعد قصة العجل ففي الأمر بذبح البقرة تنبيه على أن هذا النوع من الحيوان الذي لا يمتنع من الذبح والحرث والسقي، لا يصلح أن يكون إلها معبودا من دون الله، وأنه إنما يصلح للذبح والحرث والسقي والعمل» «١» ٥- دلالتها على قدرة الله- تعالى- فإن إحياء الميت عن طريق الضرب بقطعة من جسم بقرة مذبوحة- دليل على قدرة الله- تعالى- على الإحياء والإماتة وما هذا الضرب إلا وسيلة كشفت للناس عن طريق المشاهدة عن آثار قدرته- تعالى- التي لا يدرون كيف تعمل، فهم يرون آثارها الخارقة ولكنهم لا يعرفون كنهها، وصدق الله حيث يقول: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
ثم ساق القرآن بعد ذلك لونا آخر من ألوان رذائلهم. ويتمثل هذا اللون في تحريفهم للكلم عن مواضعه، واشترائهم بآيات الله ثمنا قليلا، وذلك لقسوة قلوبهم، وانطماس بصيرتهم، وبيعهم الدين بالقليل من حطام الدنيا، قال- تعالى-.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٥ الى ٧٩]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)
والآيات الكريمة التي معنا قد افتتحت بتيئيس المؤمنين من دخول اليهود في الإسلام ولكن هذا التيئيس قد سبق بما يدعمه ويؤيده، فقد بينت الآيات السابقة عليها «موقف اليهود الجحودى من نعم الله- عز وجل- كما بينت تنطعهم في الدين، وسوء إدراكهم لمقاصد الشريعة، وقساوة قلوبهم من بعد أن رأوا من الآيات البينات ما رأوا، وبعد هذا البيان الموحى بالقنوط من استجابتهم للحق، خاطب الله المؤمنين بقوله:
ومعنى الآية الكريمة: أفتطمعون- أيها المؤمنون- بعد أن وصفت لكم من حال اليهود ما وصفت من جحود ونكران، أن يدخلوا في الإسلام. والحال أنه كان فريق من علمائهم وأحبارهم يسمعون كلام الله ثم يميلونه عن وجهه الصحيح من بعد ما فهموه، وهم يعلمون أنهم كاذبون بهذا التحريف على الله تعالى، أو يعلمون ما يستحقه محرفه من الخزي والعذاب الأليم.
فالخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين، والاستفهام يقصد به الإنكار عليهم، إذ طمعوا في استجابة اليهود لدعوة الحق، بعد أن علموا سوء أحوالهم، وفساد نفوسهم. والنهى عن الطمع في إيمانهم لا يقتضى عدم دعوتهم إلى الإيمان، فالمؤمنون مأمورون بدعوتهم إليه، لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم، ولقطع عذرهم في الآخرة وقد تصادف الدعوة إلى الإسلام نفوسا منصفة تستجيب لدعوة الحق، وتهتدى إلى الطريق المستقيم، وهذا ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم هو وأصحابه من بعده. ولكن اليهود صموا آذانهم عن الحق بعد ما عرفوه فأصبحت دعوتهم إلى الإسلام غير مجدية، وهنا يأتى النهى عن الطمع في إيمانهم بهذه الآية وأمثالها.
وجملة وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ حالية، مشتملة على بيان أحد الأسباب الداعية إلى القنوط من إيمانهم، وبذلك يكون التقنيط من إيمانهم قد علل بعلتين:
إحداهما: ما سبق هذه الآية من تصوير لأحوالهم السيئة.
والثانية: ما تضمنته هذه الجملة الكريمة من تحريفهم لكلام الله عن علم وتعمد.
والمراد بالفريق في قوله تعالى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أحبارهم وعلماؤهم الذين عاصروا الرسل الكرام، فسمعوا منهم، أو الذين أتوا بعدهم فنقلوا عنهم.
والتحريف أصله انحراف الشيء عن جهته وميله عنها إلى غيرها. والمراد به هنا: إخراج الوحى والشريعة عما جاءت به، بالتغيير والتبديل في الألفاظ، أو بالكتمان والتأويل الفاسد، والتفسير الباطل.
(٢) التحريف أصله مصدر حرف الشيء يحرفه إذا مال به إلى الحرف، وهو يقتضى الخروج عن جادة الطريق، ولما شاع تشبيه الحق والصواب بالجادة وبالصراط المستقيم، شاع في تشبيه ما خالف ذلك بالانحراف.
ففي هذين القيدين من النعي عليهم ما لا مزيد عليه، حيث أبطل بهما عذر الجهل والنسيان، وسجل عليهم تعمد الفسوق والعصيان.
وإنما كان قيام الفريق من أحبار اليهود بتحريف الكتاب سببا في اليأس من إيمان عامتهم، لأن هؤلاء العامة المقلدون، قد تلقوا دينهم عن قوم فاسقين، دون أن يلتفتوا إلى الحق، أو يتجهوا إلى النظر في الأدلة الموصلة إليه، وأمثال هؤلاء الذين شبوا على عماية التقليد، وغواية الشيطان، لا يرجى منهم الوصول إلى نور الحق، وجلال الصدق، ولأن أمة بلغ الحال بعلمائها- وهم مظهر محامدهم- أن يجرؤوا على كلام الله فيحرفوه لا تنتظر من دهمائها أن يكونوا خيرا منهم حالا أو أسعد مآلا.
ثم أخبر القرآن الكريم عن بعضهم، بأنهم قد ضموا إلى رذيلة التحريف رذيلة النفاق والتدليس فقال تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ. أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ.
والمعنى: وإذا ما تلاقى المنافقون من اليهود مع المؤمنين، قالوا لهم نفاقا وخداعا. صدقنا أن ما أنتم عليه هو الحق. وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول من عند الله، وإذا ما انفرد بعض اليهود ببعض قال الذين لم ينافقوا لإخوانهم الذين نافقوا معاتبين: أتخبرون المؤمنين بما بينه الله لكم في كتابكم مما يشهد بحقية ما هم عليه، لتكون لهم الحجة عليكم يوم القيامة، أفلا تعقلون أن هذا التحديث يقيم الحجة لهم عليكم؟
فالآية الكريمة فيها بيان لنوع آخر من مساوئ اليهود ومخازيهم التي تدعو إلى اليأس من إيمانهم وتكشف النقاب عما كانوا يضمرونه من تدليس «١».
قال الإمام الرازي: «وإنما عذلوهم على ذلك لأن اليهودي إذا اعترف بصحة التوراة، واعترف بشهادتها على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت الحجة قوية عليه، فلا جرم كان بعضهم يمنع بعضا من الاعتراف بذلك أمام المؤمنين» «٢».
(٢) تفسير الرازي ج ١ ص ٤٠٠.
قال ابن جرير: «أصل الفتح في كلام العرب القضاء والحكم والمعنى أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم؟ ومن حكمه- تعالى- وقضائه فيهم أخذه ميثاقهم بأن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فقد بشرت به التوراة» «١».
وقوله تعالى: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ متعلق بالتحديث ومرادهم تأكيد النكير على إخوانهم الذين أظهروا إيمانهم نفاقا، فكأنهم يقولون لهم: أتحدثون المؤمنين بما يفضحكم يوم القيامة أمام الخالق- عز وجل- وفي حكمه وقضائه، لأنهم سيقولون لكم. ألم تحدثونا في الدنيا بما في كتابكم من حقيقة ديننا وصدق نبينا؟ فيكون ذلك زائدا في ظهور فضيحتكم وتوبيخكم على رءوس الخلائق يوم الموقف العظيم، لأنه ليس من اعترف بالحق ثم كتم كمن ثبت على الإنكار.
وجملة أَفَلا تَعْقِلُونَ من بقية مقولهم لمن نافق منهم. وقد أتوا بها لزيادة توبيخهم لهم حتى لا يعودوا إلى التحدث مع المؤمنين.
والمعنى: أليست لكم عقول تحجزكم عن أن تحدثوا المؤمنين بما يقيم لهم الحجة عليكم يوم القيامة؟
ثم وبخهم الله على جهلهم بحقيقة علمه فقال تعالى: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ أى: أيقول الذين لم ينافقوا من اليهود لإخوانهم الذين نافقوا ما قالوا، ويكتمون من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كتموا، ويحرفون من كتاب الله ما حرفوا، ولا يعلمون أن الله يعلم. ما يخفون من كفر وحقد، وما يظهرون من إيمان وود؟
فالآية الكريمة فيها توبيخ وتجهيل لليهود الذين عاتبوا المنافقين منهم على تحديث المؤمنين بما في توراتهم مما يؤيد صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا صادقا بإحاطة علمه بسرهم وعلانيتهم، لما نهوا إخوانهم عن تحديث المؤمنين بما فيها فإن ما فيها من صفات للنبي صلّى الله عليه وسلّم من الحقائق التي أمرهم الله ببيانها ونهاهم عن كتمانها.
ثم بين القرآن الكريم بعد ذلك حال عوام اليهود ومقلديهم، بعد أن بين حال علمائهم
فالآية الكريمة فيها زيادة تيئيس للمؤمنين من إيمان كافة اليهود بفرقهم المختلفة. فإنهم قد وصلوا إلى حال من الشناعة لا مطمع معها في هداية، فعلماؤهم محرفون لكتاب الله على حسب أهوائهم وشهواتهم، وعوامهم لا يعرفون من كتابهم إلا الأكاذيب والأوهام التي وضعها لهم أحبارهم، وأمة هذا شأن علمائها وعوامها لا ينتظر منها أن تستجيب للحق أو أن تقبل على الصراط المستقيم.
و (الأمانى) - بالتشديد- جمع أمنية، مأخوذة من تمنى الشيء أى: أحب أن يحصل عليه، أو من تمنى إذا كذب، أو من تمنى الكتاب أى قرأه.
فإن فسرنا الأمانى بالأول كان قوله تعالى: إِلَّا أَمانِيَّ معناه: إلا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله لا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات.
وإن فسرناها بالكذب، كان قوله تعالى: إِلَّا أَمانِيَّ معناه: إلا ما يقرءونه من قراءات خالية من التدبر، وعارية عن الفهم. من قوله تمنى كتاب الله أول ليلة... أى قرأ.
هذا، وقد رجح ابن جرير تفسير (الأمانى) بالأكاذيب فقال: ما ملخصه «وأولى ما روينا في تأويل قوله تعالى: إِلَّا أَمانِيَّ بالصواب، أن هؤلاء الأميين لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئا، ولكنهم يتخرصون الكذب، ويتقولون الأباطيل كذبا وزورا، والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله بدليل قوله تعالى بعد وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظنا منهم لا يقينا» «٢».
والذي نراه أن المعاني الثلاثة للأمانى تنطبق على اليهود، وكلها حصلت منهم وما دام
(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٢٧٥.
وعلى أى تفسير من هذه التفاسير للأمانى، فالاستثناء منقطع، لأن أى واحد من هذه المعاني ليس من علم الكتاب الحقيقي في شيء.
وفي قوله تعالى: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ زيادة تجهيل لهم، لأن أمنياتهم هذه من باب الأوهام التي لا تستند إلى دليل أو شبه دليل، أو من باب الظن الذي هو ركون النفس إلى وجه من وجهين يحتملهما الأمر دون أن تبلغ في ذلك مرتبة القطع واليقين. وهذا النوع من العلم لا يكفى في معرفة أصول الدين التي يقوم عليها الإيمان العميق، فهم ليسوا على علم يقيني من أمور دينهم، وإنما هم يظنونها ظنا بدون استيقان، والظن لا يغنى من الحق شيئا.
وبعد أن بين القرآن الكريم فرق اليهود، توعد الذين يحرفون الكلم عن مواضعه بسوء المصير فقال تعالى: فَوَيْلٌ «١» لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ:
والمعنى: فهلاك وفضيحة وخزي لأولئك الأحبار من اليهود الذين يكتبون الكتابات المحرفة والتأويلات الفاسدة بأيديهم، بدلا مما اشتملت عليه الكتب من حقائق، ثم يقولون لجهالهم ومقلديهم كذبا وبهتانا هذا من عند الله، ومن نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى، ليأخذوا في نظير ذلك عرضا يسيرا من حطام الدنيا، فعقوبة عظيمة لهم بسبب ما قاموا به من تحريف وتبديل لكلام الله، وخزي كبير لهم من أجل ما اكتسبوه من أموال بغير حق.
فالآية الكريمة فيها تهديد شديد لأحبار اليهود الذين تجرءوا على كتاب الله بالتحريف والتبديل، وباعوا دينهم بدنياهم، وزعموا أن ما كتبوه هو من عند الله.
وصرح- سبحانه- بأن الكتابة بِأَيْدِيهِمْ ليؤكد أنهم قد باشروها عن تعمد وقصد، وليدفع توهم أنهم أمروا غيرهم بكتابتها، ولتصور حالتهم في النفوس كما وقعت، حتى ليكاد السامع لذلك أن يكون مشاهدا لهيئتهم.
وقوله تعالى: ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كشف عن كذبهم وفجورهم، فهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ثم يزعمون أنه من عند الله ليتقبله أتباعهم بقوة واطمئنان.
ثم بين- سبحانه- العلة التي حملتهم على التحريف والكذب فقال تعالى: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا
وعبر- سبحانه- عن الثمن بأنه قليل، لأنه مهما كثر فهو قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب، وحرموه من الثواب المقيم.
وقوله تعالى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ تهديد لهم مرتب على كتابة الكتاب المحرف، وعلى أكلهم أموال الناس بالباطل، فهو وعيد لهم على الوسيلة- وهي الكتابة- وعلى الغاية- وهي أخذ المال بغير حق-.
قال الشيخ القاسمى: قال الراغب: فإن قيل: لم ذكر يَكْسِبُونَ بلفظ المستقبل، وكَتَبَتْ بلفظ الماضي؟ قيل: تنبيها على ما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم، «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» فنبه بالآية إلى أن ما أثبتوه من التأويلات الفاسدة التي يعتمدها الجهلة هو اكتساب وزر يكتسبونه حالا فحالا، وعبر بالكتابة دون القول لأنها متضمنة له وزيادة، فهي كذب باللسان واليد. وكلام اليد يبقى رسمه، أما القول فقد يضمحل أثره» «١».
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد دمغت اليهود برذيلة التحريف لكلام الله عن تعمد وإصرار ووصفتهم بالنفاق والخداع، ووبختهم على بلادة أذهانهم وسوء تصورهم لعلم الله- تعالى- وتوعدتهم بسوء المصير جزاء كذبهم على الله.
ثم حكى القرآن بعد ذلك لونا من ألوان دعاواهم الباطلة، وأقاويلهم الفاسدة، ورد عليهم بما يخرس ألسنتهم ويقطع حجتهم، فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٠ الى ٨٢]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)
الآيات «١».
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: «حدثني أبى أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال لليهود أنشدكم بالله وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى يوم طور سيناء، من أهل النار الذين أنزلهم الله في التوراة؟
قالوا: إن ربنا غضب علينا غضبة، فنمكث في النار أربعين ليلة، ثم نخرج فتخلفوننا فيها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذبتم والله لا نخلفكم فيها أبدا، فنزل القرآن تصديقا لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم وتكذيبا لهم- نزل قوله تعالى- وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً.. إلى قوله تعالى:
هُمْ فِيها خالِدُونَ «٢».
وأخرج ابن جرير- أيضا- عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ذلك أعداء الله اليهود، قالوا: لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم. الأيام التي أصبنا فيها العجل أربعين يوما، فإذا انقضت عنا تلك الأيام انقطع عنا العذاب والقسم «٣».
هذه بعض الآثار التي وردت في سبب نزول الآيات الكريمة، والمعنى:
وقالت اليهود- يا محمد- إن النار لن تصيبنا، ولن نذوق حرها، إلا أياما قلائل- قل لهم- يا محمد- ردا على دعواهم الكاذبة هل اتخذتم من الله عهدا بذلك حتى يكون الوفاء به متحققا؟ أم تقولون على الله الباطل جهلا وجراءة عليه؟
ثم أبطل القرآن الكريم دعواهم بأصل عام يشملهم ويشمل غيرهم فقال. ليس الأمر كما تدعون، بل الحق أنه من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ومات عليها دون أن يتوب إلى
(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٢٨٣ طبعة الحلبي.
(٣) لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص ١١.
وقوله تعالى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً بيان لضرب من ضروب غرورهم وكذبهم، معطوف على رذائلهم السابقة التي حكاها القرآن الكريم، إذ الضمير في قوله تعالى (وقالوا) يعود على اليهود الذين مر الحديث عنهم ولما ينته بعد.
والمس: اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإحساس والإصابة..
والمراد من النار: نار الآخرة. والمراد من المعدودة: المحصورة القليلة، يقال: شيء معدود أى قليل. وشيء غير معدود أى كثير فهم يدعون أن النار لن تمسهم إلا مدة يسيرة قد تكون سبعة أيام، وقد تكون أربعين يوما، وبعدها يخرجون إلى الجنة لأن كل معدود منقض.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يرد عليهم فيما زعموه فقال تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أى: قل لهم- يا محمد- إن مثل هذا الإخبار الجازم بأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، لا يكون إلا ممن اتخذ عهدا من الله بذلك، فهل تقدم لكم من الله عهد بأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، فكان الوفاء متحققا، لأن الله- تعالى- لا يخلف وعده، أم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به.
فالاستفهام للإنكار، وهو متوجه إلى زعمهم أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، فكأنه- سبحانه- يقول لهم. إن قولكم هذا يحتمل أمرين لا ثالث لهما: إما اتخاذ عهد عند الله به، وإما القول عليه- سبحانه- بدون علم، وما دام قد ثبت أن اتخاذ العهد لم يحصل، إذا أنتم- يا معشر اليهود- كاذبون فيما تدعون من أن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة.
قال الإمام الرازي: قوله تعالى: أَتَّخَذْتُمْ ليس باستفهام بل هو إنكار لأنه لا يجوز أن يجعل الله- تعالى- حجة رسوله في إبطال قولهم أن يستفهمهم بل المراد التنبيه على طريقة الاستدلال، وهي أنه لا سبيل إلى معرفة هذا التقدير إلا بالسمع، فلما لم يوجد الدليل السمعي وجب ألا يجوز الجزم بهذا التقدير «١».
وإنما ساق القرآن الكريم الرد عليهم في صورة الاستفهام، لما فيه من ظهور القصد إلى تقريرهم بأنهم قالوا على الله ما لا يعلمون، إذ هم لا يستطيعون أن يثبتوا أن الله وعدهم بما ادعوه من أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، ولا يوجد عندهم نص صحيح من كتابهم يؤيد مدعاهم.
ثم ساق- سبحانه- آية أبطلت مدعاهم عن طريق إثبات ما نفوه فقال تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
بلى حرف جواب يجيء لإثبات فعل ورد قبلها منفيا، والفعل المنفي هنا هو قول اليهود «لن تمسنا النار إلا أياما معدودة» فجاءت «بلى» لإثبات أن النار تمسهم أكثر مما زعموا فهم فيها خالدون جزاء كفرهم وكذبهم.
ومعنى الآية الكريمة: ليس الأمر كما تدعون أيها اليهود، من أن النار لن تمسكم إلا أياما معدودة، بل الحق أنكم ستخلدون فيها. فكل من كسب شركا مثلكم، واستولت عليه خطاياه، وأحاطت به كما يحيط السرادق بمن في داخله، ومات على ذلك دون أن يدخل الإيمان قلبه ويتوب إلى ربه فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
فالآية الكريمة فيها إبطال لمدعاهم، وإثبات لما نفوه، على وجه يشملهم ويشمل جميع من يقول قولهم، ويكفر كفرهم.
هذا والمراد بالسيئة هنا الشرك بالله كما قال جمهور المفسرين لورود الآثار عن السلف بذلك، وفائدة الإتيان بقوله تعالى وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ بعد ذلك، الإشعار بأن الخطيئة إذا أحاطت بصاحبها أخذت بمجامع قلبه فحرمته الإيمان، وأخذت بلسانه فمنعته عن أن ينطق به.
وقوله تعالى فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ بيان لما أعد لهم من عقوبات جزاء كفرهم وكذبهم على الله، فهم يوم القيامة سيكونون أصحابا للنار ملازمين لها على التأييد لإيثارهم في الحياة الدنيا ما يوردهم سعيرها، وهو الكفر وسوء الأفعال على ما يدخلهم الجنة وهو الإيمان وصالح الأعمال.
وبعد أن ذكر- سبحانه- ما أعد لهؤلاء اليهود وأمثالهم من الكافرين الذين يفترون على الله الكذب، عقب ذلك ببيان ما أعده- سبحانه- لأهل الإيمان والتقوى فقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أى: والذين آمنوا بالله ورسوله، وأطاعوا الله فأقاموا حدوده، وأدوا فرائضه، واجتنبوا محارمه، فأولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون خلودا أبديا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ردت على اليهود أبلغ رد. حيث كذبتهم في دعواهم أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى الجنة، وأخبرتهم بخلودهم وخلود كل كافر في النار، وأما الجنة فهي لمن آمن وعمل صالحا واتبع سبيل المرسلين فهؤلاء أصحابها وهم فيها خالدون.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)
ومعنى الآية إجمالا: واذكروا يا بنى إسرائيل لتعتبروا وتستجيبوا للحق- وليذكر معكم كل من ينتفع بالذكرى- وقت أن أخذنا عليكم العهد، وأمرناكم بالعمل به على لسان رسلنا- عليهم السلام- وأمرناكم فيه بألا تعبدوا سوى الله، وأمرناكم فيه كذلك، بأن تحسنوا إلى آبائكم وتقوموا بأداء ما أوجبه الله لهما من حقوق، وأن تصلوا أقرباءكم وتعطفوا على اليتامى الذين فقدوا آباءهم، وعلى المساكين الذين لا يملكون ما يكفيهم في حياتهم، وأمرناكم فيه- أيضا- بأن تقولوا للناس قولا حسنا فيه صلاحهم ونفعهم، وأن تحافظوا على فريضة الصلاة، وتؤدوا بإخلاص ما أوجبه الله عليكم من زكاة، ولكنكم نقضتم أنتم وأسلافكم الميثاق، وأعرضتم عنه، إلا قليلا منكم استمروا على رعايته والعمل بموجبه.
والمراد ببني إسرائيل في الآية الكريمة، سلفهم وخلفهم، لأن هذه الأوامر والنواهي التي تناولتها الآية الكريمة، والتي هي مضمون العهد المأخوذ عليهم، قد أخذت عليهم جميعا على لسان أنبيائهم ورسلهم.
والدليل على أن المقصود ببني إسرائيل ما يتناول الخلف المعاصرين منهم للعهد النبوي، قوله تعالى في ختام هذه الآية ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ فإنه قد أسند إليهم فيه أنهم تولوا عن الميثاق معرضين، والاعراض عنه لا يكون إلا بعد أخذه عليهم كما سيأتى.
وقوله تعالى لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً... إلى قوله تعالى ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ...
بيان للميثاق وتفصيل له. وجاء التعبير بقوله تعالى لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ في صورة الخبر المنفي والمراد منه النهى عن عبادة غير الله، لإفادة المبالغة والتأكيد، فكأن الأمر والنهى قد امتثلا فيخبر
وقد تضمنت الآية الكريمة لونا فريدا من التوجيه المحكم الذي لو اتبعوه لحسنت صلتهم مع الخالق والمخلوق، لأنها ابتدأت بأمرهم بأعلى الحقوق وأعظمها وهو حق الله- تعالى- عليهم، بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم ثنت ببيان حقوق الناس فبدأت بأحقهم بالإحسان وهما الوالدان لما لهما من فضل الولادة والعطف والتربية، ثم الأقارب الذين تجمع الناس بهم صلة قرابة من جهة الأب والأم، ورعايتهم تكون بالقيام بما يحتاجون إليه على قدر الاستطاعة، ثم باليتامى لأنهم في حاجة إلى العون بعد أن فقدوا الأب الحانى، ثم بالمساكين لعجزهم عن كسب ما يكفيهم، ثم بالإحسان إلى سائر الناس عن طريق الكلمة الطيبة، والمعاملة الحسنة، لأن الناس إن لم يكونوا في حاجة إلى المال، فهم في حاجة إلى حسن المقال، ثم أرشدتهم إلى العبادات التي تعينهم على إحسان صلتهم بالخالق والمخلوق فأمرتهم بالمداومة على الصلاة بخشوع وإخلاص، وبالمحافظة على أداء الزكاة بسخاء وطيب خاطر، ولعظم شأن هاتين العبادتين البدنية والمالية ذكرتا على وجه خاص بعد الأمر بعبادة الله، تفخيما لشأنهما وتوكيدا لأمرهما، وكان من الواجب على بنى إسرائيل أن ينتفعوا بهذه الأوامر الحكيمة، لكنهم عموا وصموا عنها فوبخهم القرآن الكريم بقوله: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ.
أى: ثم توليتم- أيها اليهود- عن جميع ما أخذ عليكم من مواثيق فأشركتم بالله وعققتم الوالدين، وأسأتم إلى الأقارب واليتامى والمساكين وقلتم للناس أفحش الأقوال، وتركتم الصلاة، ومنعتم الزكاة، وقطعتم ما أمر الله به أن يوصل.
وقوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ إنصاف لمن حافظ على العهد منهم، حيث إنه لا تخلو أمة من المخلصين الذين يرعون العهود، ويتبعون الحق، وإرشاد للناس إلى أن وجود عدد قليل من المخلصين في الأمة، لا يمنع نزول العقاب بها متى فشا المنكر في الأكثرين منها.
وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ جملة حالية تفيد أن الأعراض عن الطاعة، وعدم التقيد بالمواثيق التي أقروا بها، عادة متأصلة فيهم ووصف ثابت لهم، وسجية معروفة منهم.
قال صاحب المنار: «قد يتولى الإنسان منصرفا عن شيء وهو عازم على أن يعود إليه ويوفيه حقه، فليس كل متول عن شيء معرضا عنه ومهملا له على طول الدوام، لذلك كان ذكر هذا القيد «وأنتم معرضون لازما لا بد منه، وليس تكرارا كما يتوهم، ثم قال: وقد كان سبب ذلك التولي مع الإعراض أن الله أمرهم ألا يأخذوا الدين إلا من كتابه فاتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله، يحلون برأيهم ويحرمون، ويبيحون باجتهادهم ويحظرون ويزيدون في الشرائع
وخلاصة الفرق بين التفسير الذي بدأنا به وبين تفسير صاحب المنار، لقوله تعالى: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ أن هذه الجملة على التفسير الأول تبين عادة في القوم تأصلت فيهم حتى كأنها سجية، والمعنى: «ثم توليتم، أى أعرضتم وأنتم قوم عادتكم الإعراض. وعلى تفسير صاحب المنار تكون هذه الجملة مبينة. لنوع التولي ومتممة لمعناه: والتفسير الأول- الذي سقناه- أدخل في باب الذم، وأوفى ببيان ما عليه حال اليهود.
ثم قال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
وملخص هذا العهد الذي ذكرته الآيات الكريمة، أن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق ألا يقتل بعضهم بعضا، وألا يخرج بعضهم بعضا من داره، وأنهم إذا وجدوا أسيرا منهم في يد غيرهم فإن عليهم أن يبذلوا أموالهم لفدائه من الأسر، وتخليصه من أيدى أعدائهم، ثم لما نشبت الحرب بين قبيلتي الأوس والخزرج، انضمت قبيلة بنى قريظة إلى الأوس، وانضمت قبيلة بنى قينقاع وبنى النضير إلى الخزرج، وصارت كل طائفة من طوائف اليهود تقاتل بجانب أبناء ملتهم المنضمين إلى حلفائهم الآخرين فإذا وضعت الحرب أوزارها، بذل جميع اليهود أموالهم لتخليص الأسرى من أعدائهم كما أمرهم- تعالى- وبهذا يكونون قد آمنوا ببعض الكتاب وهو بذل الفداء لتخليص الأسرى، وكفروا ببعضه وهو تحريم سفك دماء إخوانهم وإخراجهم من ديارهم، ويحكى التاريخ أن العرب كانوا يعيرونهم فيقولون لهم: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم؟ فكان اليهود يقولون: قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أمرنا أن نفتدى أسرانا.
وقد توعدهم- سبحانه- بالخزي في الدنيا والآخرة، جزاء نقضهم لعهوده، وتفريقهم بين أحكامه.
والمعنى الإجمالى للآيات الكريمة: واذكروا- أيضا- يا بنى إسرائيل وقت أن أخذنا عليكم العهد، وأوصيناكم فيه بألا يتعرض بعضكم لبعض بالقتل، وبألا يخرج بعضكم بعضا من مساكنهم، ثم أقررتم وأنتم تشهدون على الوفاء بهذا العهد، والالتزام بما جاء فيه، ثم أنتم هؤلاء- يا معشر اليهود- بعد إقراركم بالميثاق، وبعد شهادتكم المؤكدة على أنفسكم بأنكم قد قبلتموه، خرجتم على تعاليم التوراة، فنقضتم عهودكم، وأراق بعضكم دماء بعض، وأخرجتم إخوانكم في الملة والدم من ديارهم ظلما وعدوانا، وتعاونتم على قتلهم وإخراجهم مع من ليسوا من ملتكم أو قرابتكم، ومع ذلك فإذا وقع إخوانكم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم في الأسر فاديتموهم، فلم لم تتبعوا حكم التوراة في النهى عن قتالهم وإخراجهم كما اتبعتم حكمها في مفاداتهم؟ وكيف تستبيحون القتل والإخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدى عدوهم؟ إن هذا التفريق بين أحكام الله جزاء فاعله الهوان في الدنيا.
والعذاب الدائم في الأخرى، وما الله بغافل عما تعملون. ولا شك أن أولئك اليهود الذين
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ معناه: اذكروا حين أخذنا العهد عليكم يا بنى إسرائيل ألا يسفك أحد منكم دم غيره، وألا يخرجه من دياره. على حد قوله: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ «١» أى فليسلّم بعضكم على بعض.
وفائدة هذا التعبير، التنبيه إلى أن الأمة المتواصلة بالدين، يجب أن يكون شعورها بالوحدة قويا وعميقا، بحيث يكون قتل الرجل لغيره قتلا لنفسه، وإخراجه له من داره إخراجا لها.
قال صاحب المنار: (وقد أورد- سبحانه- النهى عن سفك بعضهم دم بعض، وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم وأوطانهم، بعبارة تؤكد وحدة الأمة، وتحدث في النفس أثرا شريفا، يبعثها على الامتثال إن كان هناك قلب يشعر، ووجدان يتأثر فقال تعالى:
لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ فجعل دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر عينه حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر بيده، وقال تعالى: وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ على هذا النسق، وهذا التعبير المعجز ببلاغته خاص بالقرآن الكريم» «٢».
وقوله تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ تسجيل عليهم بأنهم قد قبلوا العمل بالميثاق والتزموا به، إذ المعنى: ثم اعترفتم بهذا الميثاق- أيها اليهود- ولم تنكروه، فكان من الواجب عليكم أن تفوا به، فماذا كان موقفهم بعد هذا الإقرار والإشهاد؟.
لقد بين القرآن الكريم بعد ذلك أنهم نقضوا عهودهم، وارتكبوا ما نهوا عن ارتكابه، فقال تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ.. أى: ثم أنتم- يا معشر اليهود- بعد اعترافكم بالميثاق، والتزامكم به، نقضتم عهودكم، وارتكبتم في حق إخوانكم ما نهيتم عنه، من القتل والإخراج، وفعلتم ما لا يليق بالعقلاء، ومن يحترم المواثيق.
ولما كان قتل بعضهم لبعض، وإخراجهم من أماكنهم يحتاج إلى قوة وغلبة، بين- سبحانه- أنهم يرتكبون ذلك وهم متعاونون عليه بالشرور ومجاوزة الحدود، فقال تعالى: تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ تظاهرون: من التظاهر وهو التعاون، وأصله من الظهر، كأن المتعاونين يسند كل واحد منهم ظهره إلى الآخر. والمعنى: تتعاونون على قتل إخوانكم
(٢) تفسير المنار ج ١ ص ٣٧٢.
وقوله تعالى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ بيان لتناقضهم وتفريقهم لأحكام الله تعالى.
وأسارى: جمع أسير بمعنى مأسور، وهو من يؤخذ على سبيل القهر فيشد بالإسار وهو القد- بكسر القاف-، والقد: سير يقد من جلد غير مدبوغ. وتفادوهم: تنقذوهم من الأسر بالفداء، يقال: فاداه وفداه: أعطى فداءه فأنقذه.
أى: أنتم- يا معشر اليهود- إن وجدتم الذين قاتلتموهم وأخرجتموهم من ديارهم أسرى تسعون في فكاكهم، وتبذلون عرضا لإطلاقهم، والشأن أن قتلهم وإخراجهم محرم عليكم كتركهم أسرى في أيدى أعدائكم، فلماذا لم تتبعوا حكم التوراة في النهى عن قتالهم وإخراجهم كما اتبعتم حكمها في مفاداتهم؟
وصدرت الجملة الكريمة «وهو محرم عليكم إخراجهم» بضمير الشأن للاهتمام بها. والعناية بشأنها، وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم، وليس خافيا عليهم.
وقوله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ توبيخ وتقريع لهم على تفريقهم بين أحكام الله.
والمعنى: أفتتبعون أحكام كتابكم في فداء الأسرى، ولا تتبعونها في نهيكم عن قتال إخوانكم وإخراجهم من ديارهم؟ فالاستفهام للإنكار والتوبيخ على التفريق بين أحكامه- تعالى- بالإيمان ببعضها والكفر بالبعض الآخر.
وبعض الكتاب الذي آمنوا به هو ما حرم عليهم من ترك الأسرى في أيدى عدوهم، وبعضه الذي كفروا به ما حرم عليهم من القتل والإخراج من الديار، فالإنكار منصب على جمعهم بين الكفر والإيمان.
قال فضيلة المرحوم للشيخ محمد الخضر حسين: «وإنما سمى- سبحانه- عصيانهم بالقتل والإخراج من الديار كفرا لأن من عصى أمر الله- تعالى- بحكم عملي معتقدا أن الحكمة والصلاح فيما فعله، بحيث يتعاطاه دون أن يكون في قلبه أثر من التحرج، ودون أن يأخذه ندم وحزن من أجل ما ارتكب. فقد خرج بهذه الحالة النفسية عن سبيل المؤمنين، وفي الآية الكريمة دليل واضح على أن الذي يؤمن ببعض ما تقرر في الدين بالدليل القاطع ويكفر ببعضه، يدخل في زمرة الكافرين لأن الإيمان كل لا يتجزأ» «١».
ولما كان البعض قد يتوهم أن خزيهم في الدنيا قد يكون سببا في تخفيف العذاب عنهم في الأخرى، نفى- سبحانه- هذا التوهم، وبين أنهم يوم القيامة سيصيرون إلى ما هو أشد منه.
لأن الله- تعالى- ليس ساهيا عن أعمالهم حتى يترك مجازاتهم عليها.
فالمراد من نفى الغفلة نفى ما يتسبب عنها من ترك المجازاة لهم على شرورهم.
وفي ذلك دليل على أن الله- تعالى- يعاقب الحائدين عن طريقه المستقيم، بعقوبات في الدنيا، وفي الآخرة، جزاء طغيانهم، وإصرارهم على السيئات.
ثم أكد- سبحانه- هذا الوعيد الشديد وبين علته فقال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.
والمعنى: أولئك اليهود الذين فرقوا أحكام الله، وباعوا دينهم بدنياهم، وآثروا متاع الدنيا على نعيم الآخرة قد استحقوا غضب الله فلا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة، ولا يجدون من دون الله وليا ولا نصيرا.
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد دمغت اليهود بنقضهم للعهد، وإيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض، فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين.
ثم ذكرهم- سبحانه- بعد ذلك بلون آخر من ألوان جناياتهم، فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨)ففي هاتين الآيتين تذكير لبنى إسرائيل بضرب من النعم التي أمدهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإجرام.
والمراد بالكتاب الذي أعطاه الله لموسى التوراة، فقد أنزلها عليه لهدايتهم ولكنهم حرفوها وبدلوها وخالفوا أوامره وأولوها تأويلا سقيما.
ومعنى وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أردفنا وأرسلنا من بعد موسى رسلا كثيرين متتابعين، لإرشاد بنى إسرائيل، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
يقال: قفا أثره يقفوه قفوا وقفوا، إذا تبعه. وقفى على أثره بفلان إذا أتبعه إياه. وقفيته زيدا وبه: أتبعته إياه. واشتقاقه من: قفوته إذا أتبعت قفاه، والقفا مؤخر العنق، ثم أطلق على كل تابع ولو بعد الزمن بينه وبين متبوعه.
والرسل: جمع رسول بمعنى مرسل، وقد أرسل الله- تعالى- رسلا بعد موسى- عليه السلام-: منهم: داود، وسليمان، وإلياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى- عليهم الصلاة والسلام-.
فمن مظاهر نعم الله على بنى إسرائيل، أنه لم يكتف بإنزال الكتب لهدايتهم، وإنما أرسل فيهم بجانب ذلك رسلا متعددين، لكي يبشروهم وينذروهم، ولكن بنى إسرائيل قابلوا نعم الله بالجحود والكفران، فقد حرفوا كتب الله، وقتلوا بعض أنبيائه.
والمراد بالبينات في قوله: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ الحجج والبراهين والآيات الدالة على صدقه وصحة نبوته، فتشمل كل معجزة أعطاها الله لعيسى كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإخبار ببعض المغيبات، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها عيسى- عليه السلام-.
وخص القرآن عيسى بالذكر لكونه صاحب كتاب هو الإنجيل، ولأن شرعه نسخ أحكاما من شريعة موسى- عليه السلام-.
وفي إضافة عيسى إلى أمه إبطال لما يزعمه اليهود من أن له أبا من البشر.
وقوله: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أى: قويناه مأخوذ من الأيد وهو القوة.
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، والإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة، أى: الروح المقدس. ووصف بالقدس لطهارته وبركته. وسمى روحا لمشابهته الروح الحقيقي في أن كلا منهما مادة لحياة البشر. فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإلهية تحيا به القلوب. والروح تحيا به الأجسام.
أى: أننا أعطينا عيسى بن مريم الحجج الدالة على صدقه في نبوته وقويناه على ذلك كله بوحينا الذي أوحيناه إليه عن طريق جبريل- عليه- السلام-.
ثم وبخ الله اليهود على أفعالهم القبيحة فقال: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ.
أى: أفكلما جاءكم يا بنى إسرائيل رسول بما لا تحبه أنفسكم الشريرة استكبرتم عن اتباعه والإيمان به وأقبلتم على هؤلاء الرسل ففريقا منهم كذبتم، وفريقا آخر منهم تقتلونه غير مكتفين بالتكذيب:
وتهوى: من هوى إذا أحب «والهوى يكون في الحق ويكون في الباطل كما في هذه الآية.
واستكبرتم: تكبرتم، والتكبر ينشأ عن الاعجاب بالنفس الذي هو أثر الجهل بها. وهو من الصفات التي متى تمكنت في النفس أوردتها المهالك، وساقتها إلى سوء المصير.
وقدم تكذيبهم للرسل على قتلهم إياهم، لأن التكذيب أول ما يصدر عنهم من الشر.
وعبر في جانب القتل بالفعل المضارع فقال: تَقْتُلُونَ ولم يقل قتلتم كما قال كذبتم، لأن الفعل المضارع كما هو المألوف في أساليب البلاغة. يستعمل في الأفعال الماضية التي بلغت من الفظاعة مبلغا عظيما. ووجهه أن المتكلم يعمد بذلك الفعل القبيح كقتل الأنبياء، ويعبر عنه بالفعل المضارع الذي يدل بحسب وضعه على الفعل الواقع في الحال. فكأنه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السامع، وجعله ينظر إليها بعينه، فيكون إنكاره لها أبلغ، واستفظاعه لها أعظم.
ثم حكى القرآن بعض الدعاوى الباطلة التي كان يدعيها اليهود في العصر النبوي ورد عليها بما يدحضها فقال:
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أى: قال اليهود الذين كانوا في العهد النبوي: قلوبنا يا محمد مغطاة بأغطية حسية مانعة من نفوذ ما جئت به فيها. ومقصدهم من ذلك، إقناطه صلّى الله عليه وسلّم من إجابتهم لدعوته حتى لا يعيد عليهم الدعوة من بعد.
قال ابن كثير: وقرأ ابن عباس- بضم اللام- وهو جمع غلاف. أى: قلوبنا أوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك.
وقد رد الله- تعالى- على كذبهم هذا بما يدحضه ويفضحه فقال:
بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أى: أن قلوبهم ليست غلفا بحيث لا تصل إليها دعوة الحق بل هي متمكنة بأصل فطرتها من قبول الحق، ولكن الله أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء واستحبابهم العمى على الهدى.
والفاء في قوله: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ للدلالة على أن ما بعدها متسبب عما قبلها وما في قوله فَقَلِيلًا ما لتأكيد معنى القلة.
والمعنى أن الله لعنهم وكان هذا اللعن سببا لقلة إيمانهم فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، وقلة الإيمان ترجع إلى معنى أنهم لا يؤمنون إلا بقليل مما يجب عليهم الإيمان به. وقد وصفهم الله- تعالى- فيما سبق بأنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
ثم نبه القرآن المؤمنين إلى نوع آخر من رذائل اليهود، ويتجلى هذا النوع في جحودهم الحق عن معرفة وعناد، وكراهتهم الخير لغيرهم يدافع الأنانية والحسد، وتحولهم إلى أناس يتميزون من الغيظ إذا ما رأوا نعمة تساق لغير أبناء ملتهم.
استمع إلى القرآن وهو يصور كل ذلك بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٩ الى ٩٠]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠)
ومعنى الآيتين الكريمتين: ولما جاء إلى اليهود محمد صلّى الله عليه وسلّم ومعه القرآن الكريم وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه، مصدقا لما معهم من التوراة فيما يختص ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونعته، وكانوا قبل ذلك يستنصرون به على أعدائهم، لما جاءهم النبي المرتقب ومعه القرآن الكريم جحدوا نبوته، وكذبوا كتابه فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بئس الشيء الذي باعوا به أنفسهم. الكفر بما أنزل الله على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكفرهم هذا كان من أجل البغي الذي استولى على نفوسهم، والحسد الذي خالط قلوبهم، وكراهية لأن ينزل الله وحيه على محمد العربي صلّى الله عليه وسلّم فباءوا بسبب هذا الخلق الذميم، بغضب مترادف متكاثر من الله «٢» - تعالى- وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ جزاء كفرهم وحسدهم.
والمراد بالكتاب في قوله تعالى وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ القرآن الكريم، وفي تنكيره زيادة تعظيم وتشريف له، وفي الأخبار عنه بأنه من عند الله، إشارة إلى أن ما يوحى به- سبحانه- جدير بأن يتلقى بالقبول وحسن الطاعة لأنه صادر من الحكيم الخبير، والذي مع اليهود هو التوراة، ومعنى كون القرآن مصدقا لها، أنه يؤيدها ويوافقها في أصول الدين، وفيما يختص ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصفته.
وفي وصف القرآن الكريم بأنه مصدق لما معهم، زيادة تسجيل عليهم بالمذمة لأنهم لم يكفروا بشيء يخالف أصول كتابهم وإنما كفروا بالكتاب الذي يصدق كتابهم.
وقوله تعالى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا.
بيان لحالتهم قبل البعثة المحمدية، فإن اليهود كانوا عند ما يحصل بينهم وبين أعدائهم نزاع،
(٢) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج ٣ ص ٢٨٢ للإمام ابن تيمية وقد ساق- رحمه الله- أكثر من عشرة آثار في هذا المعنى عند حديثه عن هذه الآية.
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ. ويستعمل بمعنى النصر لأن فيه فصلا بين الناس قال تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أى: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، فالمراد به في الآية الاستنصار.
ثم بين- سبحانه- حقيقة حالهم بعد أن جاءهم الكتاب والرسول فقال تعالى:
فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ أى: فلما جاءهم ما كانوا يستفتحون به على أعدائهم ويرتقبونه جحدوه وكفروا به.
وقال- سبحانه- فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا ولم يقل فلما جاءهم الكتاب أو الرسول، ليكون اللفظ أشمل، فيتناول الكتاب والرسول الذي جاء به لأنه لا يجيء الكتاب إلا عن طريق رسول.
ومعرفتهم بصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما أنزل عليه حاصلة بانطباق العلامات والصفات الواردة في التوراة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان من الواجب عليهم أن يؤيدوا هذه المعرفة بالإيمان به، ولكن خوفهم على زوال رئاستهم وأموالهم، وفوات ما كانوا يحرصون عليه من أن يكون النبي المبعوث منهم لا من العرب، ملأ قلوبهم غيظا وحسدا، وأخذ هذا الغيظ والحسد يغالب تلك المعرفة حتى غلبها، وحال بينها وبين أن يكون لها أثر نافع لهم لعدم اقترانها بالقبول والتصديق.
ولقد حاول رئيسهم (عبد الله بن سلام) - رضي الله عنه- أن يصرفهم عن العناد وأقسم لهم بأن ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الحق المصدق لما معهم أن يتبعوه ولكنهم عموا وصموا وتنقصوه ولذا لعنهم الله تعالى، وأبعدهم عن رحمته كما قال تعالى: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ.
وقال- سبحانه- عَلَى الْكافِرِينَ ولم يقل عليهم، للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم كان بسبب كفرهم.
ثم ذكر- سبحانه- أنهم بكفرهم قد باعوا أنفسهم بثمن بخس. فقال تعالى: «بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله» أى: بئس الشيء الذي باع به اليهود أنفسهم كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
وجمهور المفسرين على أن اشْتَرَوْا هنا بمعنى باعوا، لأن أولئك اليهود، لما كانوا متمكنين من الإيمان الذي يفضى بهم إلى السعادة الأبدية بعد أن جاءهم ما عرفوا من الحق فتركوه،
وعبر- سبحانه- عن كفرهم بصيغة المضارع أَنْ يَكْفُرُوا وعن بيعهم لأنفسهم بالماضي، اشْتَرَوْا للدلالة على أنهم صرحوا بكفرهم بالقرآن الكريم من قبل نزول الآية، وإن بيعهم أنفسهم بالكفر طبيعة فيهم مستقرة منذ وقت بعيد، وأنهم ما زالوا مستمرين على تلك الطبيعة المنحرفة.
وقوله تعالى: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، تعليل لكفرهم وبيان للباعث عليه، أى كفروا بما أنزل الله على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم بدافع من البغي والحقد، وكراهة أن ينزل الله الوحى من فضله على من يشاء من عباده، فالبغي هنا مصدر بغى يبغى إذا ظلم. والمراد به ظلم خاص هو الحسد، وإنما عد الحسد ظلما، لأن الظلم معناه المعاملة التي تبعد عن الحق وتجافيه. والحسد معناه تمنى زوال النعمة عن الغير والظالم والحاسد قد جانب كل منهما الحق فيما صنع، والحاسد لن يناله نفع من زوال نعمة المحسود، كما أنه لن يناله ضر من بقائها، وما دام الأمر كذلك فالحاسد ظالم للمحسود بتمني زوال النعمة وصدق الشاعر في قوله.
وأظلم خلق الله من بات حاسدا- لمن بات في نعمائه يتقلب-.
فاليهود قد كفروا بما أنزل الله، من أجل حسدهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم على النبوة ولأنه لم يكن منهم وكان من العرب، وكراهية لأن ينزل الله الوحى على من يصطفيه للرسالة من غيرهم، فعدم إيمانهم بما عرفوه وارتقبوه سببه أنانيتهم البغيضة، وأثرتهم الذميمة التي حملتهم على أن يحسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله، وأن يتوهموا أن النبوة مقصورة عليهم، فليس لله- تعالى- في زعمهم- أن ينزعها من ذرية إسحاق ليجعلها في ذرية إسماعيل عليهما السلام-.
ولم يصرح- سبحانه- بأن المحسود هو النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلم ذلك من سياق الآيات الكريمة وللتنبيه على أن الحسد في ذاته مذموم كيفما كان حال المحسود.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما آل إليه أمرهم من خسران مبين فقال تعالى:
فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ: باء بإثمه يبوء أى: رجع أى:
فرجعوا من أجل كفرهم وحسدهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم بغضب مضموم إلى غضب آخر كانوا قد استحقوه بسبب كفرهم بعيسى- عليه السلام- وبسبب تحريفهم للكلم عن مواضعه،
ويصح أن يكون معنى قوله: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أنهم رجعوا بغضب شديد مؤكد، لصدوره من الله- تعالى-.
والمراد بالكافرين، اليهود الذين تحدث عنهم فيما سبق، فهم الذين عرفوا صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم في نبوته بما نطقت به التوراة، ومع ذلك كفروا به فاستحبوا العمى على الهدى.
وعبر عنهم بهذا العنوان للتنبيه على أن ما أصابهم من عذاب مذل لهم كان بسبب كفرهم، ويصح أن يراد بالكافرين: كل كافر وهم يدخلون فيه دخولا أوليا وإنما كان لهم العذاب المهين لأن كفرهم لما كان سببه البغي والحسد والتكبر والأنانية، قوبلوا بالإهانة والصغار.
وبذلك تكون الآيتان الكريمتان قد كشفتا عن لون من صفات اليهود الذميمة وهو إعراضهم عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كانوا يستنصرون به على أعدائهم قبل بعثته، وبيعهم الإيمان الذي كان في مكنتهم الظفر به بالكفر بما أنزل الله من دين قويم، وكتاب كريم إرضاء لغريزة الحقد الذي استحوذ على قلوبهم، وتمشيا مع أثرتهم التي أبت عليهم أن يؤمنوا بنبي ليس من نسل إسرائيل ولو جاءهم بالحق المبين، فحق عليهم قول الله- تعالى-: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.
ثم حكى القرآن بعد ذلك بعض المعاذير الكاذبة التي كان اليهود يعتذرون بها عند ما يدعون إلى الدخول في الإسلام، فقد كانوا يقولون إننا مكلفون ألا نؤمن إلا بكتابنا التوراة، فنحن نكتفي بالإيمان به دون غيره. استمع إلى القرآن- وهو يعرض دعاواهم الكاذبة ثم يقذفها بالحق فيدمغها- حيث يقول:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)
ثم كذبهم القرآن الكريم- في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم- بصورة أخرى سوى ما سبقها فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ وقلنا لكم: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ- من التوراة- بِقُوَّةٍ أى بجد وحزم وَاسْمَعُوا ما أمرتم به فيها سماع تدبر وطاعة. ولكن أسلافكم الذين أنتم على شاكلتهم قالوا لنبيهم: «سمعنا» قولك «وعصينا» أمرك. وخالط حب العجل قلوبهم كما يخالط الماء أعماق البدن، وكل هذه الأفاعيل منكم لا تناسب دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، وإذا فبئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعمون، فالواقع أن التوراة بريئة من أعمالكم، وأنتم بعيدون عن الإيمان بها.
وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا تصوير لنوع آخر من قبائح اليهود، وإخبار عن إعراضهم عن الحق بدعوى أنهم مكلفون بعدم الإيمان إلا بما أنزل الله على موسى وهو التوراة.
والمقصود بِما أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن الكريم. ولم يذكر المنزل عليه وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم للعلم به أو للتنبيه على أن وجوب الإيمان بالكتاب، يكفى فيه العلم بأنه منزل من عند الله- تعالى- ومتى
وقولهم: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا معناه: نؤمن بالتوراة التي أنزلها الله على نبينا موسى دون غيرها مما أنزله الله عليك- يا محمد-، وجوابهم هذا يدل على غبائهم وعنادهم. لأن الداعي لهم إلى الإيمان، يطلب منهم أن يؤمنوا بكل ما أنزل الله من الكتب السماوية، ولكنهم قيدوا أنفسهم بالإيمان ببعض ما أنزل الله وهو ما أنزل عليهم، فلم يكن إيمانهم مطابقا لما أمر الله به وهو التصديق بجميع الكتب السماوية، ولا شك أن من آمن ببعض الكتب السماوية وكفر ببعضها يكون كافرا بجميعها.
وقوله تعالى: وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ قصد به بيان التصريح بكفرهم بالقرآن الكريم بعد أن لمحوا بذلك في قولهم: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا. والضمير في وَراءَهُ يعود على بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا المكنى به عن التوراة، أى: قالوا نؤمن بما أنزل علينا والحال أنهم يكفرون بما سوى التوراة أو بما بعدها وهو القرآن الكريم.
قال ابن جرير- رحمه الله-: «وتأويل وراء في هذا الموضع: سوى، كما يقال للرجل المتكلم بالحسن، ما وراء هذا الكلام الحسن شيء. يراد به: ليس من عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام، فكذلك معنى قوله تعالى: وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أى بما سوى التوراة، وبما بعده من كتب الله التي أنزلها على رسله» «١».
والضمير «هو» في قوله تعالى: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ يعود إلى القرآن الكريم المكنى عنه بقوله «بما وراءه». والحق: الحكم المطابق للواقع. ووصف به القرآن الكريم لاشتماله على الأحكام المطابقة للواقع.
ومعنى كون القرآن مصدقا لما مع اليهود وهو التوراة، أنه يدل على نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وبهذا كان مؤيدا للتوراة التي بشرت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وذكرت له نعوتا لا تنطبق إلا عليه، وبذلك يكون اليهود الذين يدعون الإيمان بما أنزل عليهم كاذبين في دعواهم، لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي بشرت به توراتهم وأمرتهم بالإيمان به وأيدها القرآن الكريم في ذلك.
قال صاحب الكشاف: وفي قوله تعالى: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ رد لمقالتهم نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا لأنهم إذ كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها» «٢».
(٢) تفسير الكشاف بتصرف ج ١ ص ٢٢٤.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين إذا دعوتهم إلى الإيمان بك قالوا. نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا قل لهم: إن كنتم حقا مؤمنين بما أنزل عليكم وهو التوراة، فلأى شيء تقتلون أنبياء الله مع أن التوراة تحرم عليكم قتلهم، بل هي تأمركم باتباعهم وتصديقهم وطاعتهم لأنه أرسلهم لهدايتكم وسعادتكم.
إن قتلكم لهم أكبر دليل على أنكم لم تؤمنوا لا بما أنزل عليكم ولا بغيره وأنكم كاذبون في مدعاكم لأن جميع ما أنزل الله من وحى يحرم قتل الأنبياء، ويأمر الناس باتباعهم وطاعتهم.
ويرجع معنى الآية إلى نفى فعل الشرط وهو كونهم مؤمنين، إذ لا وجه لقتلهم الأنبياء إلا عدم إيمانهم بالتوراة، وهذا كما تريد أن تنفى عن رجل العقل لفعله ما ليس من شأنه أن يصدر من عاقل، فتقول له: إن كنت عاقلا فلم فعلت كذا؟ أى أنت لست بعاقل.
والفاء في قوله تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ واقعة في جواب محذوف دل عليه ما بعده، والتقدير إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم فلم تقتلون أنبياء الله- تعالى- والإتيان بالمضارع في قوله- تعالى-: تَقْتُلُونَ مع أن القتل للأنبياء وقع من أسلافهم بقرينة قوله تعالى: مِنْ قَبْلُ لقصد استحضار تلك الجناية الشنيعة، وللتنبيه على أن ارتكابهم لتلك الجريمة البشعة يتجدد ويقع منهم المرة تلو الأخرى، وللإشعار بأن الخلف يمشون على عماية السلف، في التعدي والعصيان، فلقد حاول اليهود المعاصرون للعهد النبوي قتل الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولكن الله- تعالى- عصمه منهم، ونجاه من مكرهم.
وأضاف سبحانه- الأنبياء إليه فقال: أَنْبِياءَ اللَّهِ للتنبيه على شرفهم العظيم، وللدلالة على فظاعة عصيان اليهود واجتراحهم المنكر، إذ قابلوا بالقتل من يجب عليهم أن يقابلوهم بالتصديق والتوقير والطاعة.
ثم ذكر القرآن الكريم لهم جنايات أخرى تدل على أنهم لم يؤمنوا بما أنزل عليهم كما يدعون. ومن تلك الجنايات عبادتهم العجل، فقال تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ.
البينات: جمع بينة وهي الآيات والمعجزات الدالة على صدقه وحقية نبوته، كانقلاب العصا ثعبانا، وفلق البحر، وانفجار العيون من الحجر... إلخ.
وإنما سماها الله بينات، لأنها لما كانت لا يقدر على أن يأتى بها بشر إلا بتسخير الله ذلك له
والمعنى: ولقد جاءكم- يا بنى إسرائيل- نبينا موسى بالآيات الواضحات الدالة على صدقه، وحقية نبوته، وكان من الواجب عليكم أن تتبعوه وتطيعوه ولكنكم لم تفعلوا فقد اتخذتم العجل إلها من بعد مفارقة نبيكم موسى لكم لمناجاة ربه، ومن بعد مشاهدتكم لتلك المعجزات، التي استبان بها صدقه فيما يبلغكم عن ربه فأنتم ظالمون بذلك، لأنكم تركتم عبادة من يستحق العبادة وهو الله- تعالى- وعبدتم العجل الذي لا يملك ضرا ولا نفعا.
فالآية الكريمة فيها أبطال لدعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، لأنهم لو كانوا مؤمنين حقا بنبيهم الذي جاءهم بالبينات، لما تركوا ما أمرهم به وهو عبادة الله، وفعلوا ما نهاهم عنه وهو عبادة العجل.
ثم ذكر القرآن الكريم جناية أخرى تكذبهم في دعواهم: أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم- وهي إباؤهم التوراة عنادا واستكبارا فقال تعالى:
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا، قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ، قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
ومعنى الآية الكريمة: واذكروا- يا بنى إسرائيل- وقت أن أخذنا الميثاق عليكم بأن تعملوا بما في التوراة، وتتلقوا أحكامها بالتقبل والطاعة ورفعنا فوقكم الطور لنريكم آية من آياتنا العظمى التي تقوى قلوبكم، وتجعلكم تقبلون على تعاليم التوراة برغبة واستجابة، وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم بجد وحزم، واسمعوا ما أمرناكم به سماع تدبر وطاعة، ولكنكم- يا بنى إسرائيل- يا من تدعون الإيمان بما أنزل عليكم- أعرضتم عما أمرتم به من قبول التوراة وقلتم لنبيكم سمعنا قولك وعصينا أمرك، وخالط حب عبادة العجل قلوبكم كما يخالط الماء أعماق البدن ولم تأبهوا بما جاءكم في التوراة من الهدى والنور وبما صحب عرضها عليكم من الآية البينة وهي رفع الجبل فوقكم حتى ظننتم أنه واقع بكم فكفرتم بذلك كله ولا زالت نفوسكم تحن إلى عبادة العجل ولقد سرتم على منهج أسلافكم في العناد والجحود والإعراض عما ينزله الله من الحق، وإذا كان هذا شأنكم فكيف تدعون الإيمان بما أنزل عليكم؟
ثم أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يوبخهم على تخرصاتهم فقال تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وقوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ معناه: أننا حركناه ونقلناه معلقا فوقكم في الهواء، لتروا بأعينكم آية كونية من شأنها أنها تحملكم على الإيمان والطاعة إن كانت لكم عقول تعقل.
ثم حكى- سبحانه- جوابهم الذي يدل على عنادهم فقال: قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف طابق قوله جوابهم؟ قلت طابقه من حيث إنه قال لهم اسمعوا: وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة «١».
وقد اختلف المفسرون هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا أو أنهم فعلوا فعلا مقام القول فيكون مجازا؟
قال الفخر الرازي: الأكثرون من المفسرين على أنهم قالوا هذا القول حقيقة. وقال أبو مسلّم: وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول ولم يقولوه، كقوله تعالى فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. قال: والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل لا يجوز «٢».
وقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ عطف على قولهم سمعنا وعصينا والإشراب السقي وجعل الشيء شاربا، واستعمل على وجه التجوز في خلط لون بآخر كأن أحد اللونين سقى الآخر، يقال: بياض مشرب بحمرة أى مختلط، وفلان أشرب قلبه حب كذا بمعنى خالط حبه قلبه.
قال الإمام الرازي: قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ في وجه هذه الاستعارة وجهان: الأول: معناه تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب، وقوله في قلوبهم بيان لمكان الإشراب كقوله: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً، الثاني: كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال «٣».
وفي الجملة الكريمة وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ مضاف محذوف وهو لفظ (حب) لدلالة المعنى عليه.
والمعنى: إن هؤلاء اليهود الذين مردوا على العصيان قد خالط حب العجل نفوسهم حتى
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٤٣٢.
(٣) تفسير الرازي ج ١ ص ٤٣٢.
والتعبير بقوله: أُشْرِبُوا يشير إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه.
وقوله تعالى: بِكُفْرِهِمْ دليل على أن محبتهم للعجل ناشئة عن كفر سابق، وجحود متأصل فكفرهم الذي ترتب على عبادتهم للعجل، قد سبقه كفر آخر، فهو كفر على كفر.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه في ختام الآية الكريمة بتوبيخهم فقال تعالى:
قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى: قل- يا محمد- لهؤلاء اليهود الذين يدعون الإيمان بما أنزل عليهم- قل لهم- بئس الشيء الذي يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء وعبادة العجل والعصيان إن كنتم مصدقين- كما زعمتم- بالتوراة، والحق أن التوراة ما أمرتكم بشيء من ذلك فما أنتم بمؤمنين بها ولا بغيرها من كتب الله، لأنها لا تأمر بالفحشاء.
فالجملة الكريمة خلاصة لإبطال قولهم «نؤمن بما أنزل علينا» بعد أن أبطله الله- تعالى- فيما سبق بشواهد متعددة، لأنهم لما زعموا ذلك، وكانوا مع هذا يفعلون أفعالا قبيحة تناقض الإيمان بأى كتاب سماوي، أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يذمهم على هذه الأفعال التي تناقض الإيمان بما أنزل عليهم لكي يعلم الناس جميعا أن دعواهم لا أساس لها من الصحة.
وأضاف- سبحانه- الإيمان إليهم فقال إِيمانُكُمْ ولم يقل الإيمان، لأنه ليس إيمانا صحيحا وإنما هو إيمان مزعوم، فإضافة الإيمان إليهم من باب التهكم بهم والاستهزاء بعقولهم.
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تشكيك في إيمانهم بالتوراة، وقدح في صحة دعواهم فإن الإيمان الحق إنما يأمر بعبادة الله وحده، وينهى عن عبادة سواه وعن ارتكاب السوء والفحشاء.
فالجملة الكريمة في معنى النفي لادعائهم الإيمان بالتوراة لأنها ما أمرت بشيء يبغضه الله تعالى.
قال الإمام ابن جرير: وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم. وإنما كذبهم الله بذلك لأن التوراة تنهى عن ذلك كله، وتأمر بخلافه، فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة إن كان يأمرهم بذلك، فبئس الأمر تأمر به. وإنما ذلك نفى من الله تعالى- عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله، وإعلام منه- جل ثناؤه- أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم،
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد أقامت الأدلة المتعددة، والبراهين القاطعة على كذب اليهود في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، ووبختهم على مزاعمهم الباطلة، وأقوالهم الفاسدة.
هذا، ولفضيلة أستاذنا الدكتور محمد عبد الله دراز كلام رصين عند حديثه عن هذه الآيات، فقد قال- رحمه الله-:
يقول الله تعالى في ذكر حجاج اليهود: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ، قُلْ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ....
هذا قطعة من فصل من قصة بنى إسرائيل، والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة تتلخص فيما يلي:
١- مقالة ينصح بها الناصح لليهود: إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن.
٢- إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوى على مقصدين.
٣- الرد على هذا الجواب بركنيه من عدة وجوه.
وأقسم لو أن محاميا بليغا وكلت إليه الخصومة بلسان القرآن في هذه القضية، ثم هدى إلى استنباط هذه المعاني التي تختلج في نفس الداعي والمدعو لما وسعه في أدائها أضعاف أضعاف هذه الكلمات، ولعله بعد ذلك لا يفي بما حولها من إشارات واحتراسات وآداب وأخلاق.
قال الناصح لليهود: آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة، ألستم قد أمنتم بالتوراة التي جاء بها.
موسى لأنها أنزلها الله؟ فالقرآن الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم أنزله الله، فآمنوا به كما آمنتم بها.
فانظر كيف جمع القرآن هذا المعنى الكثير في هذا اللفظ الوجيز آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. وسر ذلك أنه عدل بالكلام عن صريح اسم القرآن إلى كنايته. فجعل دعاءهم إلى الإيمان به دعاء إلى الشيء بحجته، وبذلك أخرج الدليل والدعوى في لفظ واحد.
ثم انظر كيف طوى ذكر المنزل عليه فلم يقل: آمنوا بما أنزل الله (على محمد)، مع أن هذا جزء متمم لوصف القرآن المقصود بالدعوة.
أتدري لم ذلك؟ لأنه لو ذكر لكان في نظر الحكمة البيانية زائدا، وفي نظر الحكمة الإرشادية مفسدا.
وأما الثاني فلأن إلقاء هذا الاسم على مسامع الأعداء من شأنه أن يخرج أضغانهم ويثير أحقادهم فيؤدى إلى عكس ما قصده الداعي من التأليف والإصلاح...
كان جواب اليهود أن قالوا: إن الذي دعانا للإيمان بالتوراة ليس هو كونها أنزلها الله فحسب، بل إننا آمنا بها لأن الله أنزلها علينا. والقرآن لم ينزله علينا، فلكم قرآنكم ولنا توراتنا، ولكل أمة شرعة ومنهاج.
هذا هو المعنى الذي أوجزه القرآن في قوله: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وهذا هو المقصد الأول، وقد زاد إيجاز هذه العبارة أن حذف منها فاعل الإنزال وهو لفظ الجلالة، لأنه تقدم ذكره في نظيرتها.
ومن البين أن اقتصارهم على الإيمان بما أنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أنزل على غيرهم، وهذا هو المقصد الثاني، ولكنهم تحاشوا التصريح به لما فيه من شناعة التسجيل على أنفسهم بالكفر، فأراد القرآن أن يبرزه، أنظر كيف أبرزه؟ إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهبا له، ولم يدخل مضمون قولهم في جملة ما نقله من كلامهم، بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم فقال:
وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أليس ذلك هو غاية الأمانة في النقل؟.. ثم جاء دور الرد والمناقشة فيما أعلنوه وما أسروه.
فتراه لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم، بل يتركها مؤقتا كأنها مسلمة ليس عليهم وجوب الإيمان بغيره من الكتب فيقول: كيف يكون الإيمان بكتابهم باعثا على الكفر بما هو حق مثله؟ لا بل هو الحق كله، وهل يعارض الحق الحق حتى يكون الإيمان بأحدهما موجبا للكفر بالآخر؟
ثم يترقى فيقول: وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السالفة عليه كالأمر بين كل حق وحق، فقد يكون الشيء حقا وغيره حقا فلا يتكاذبان، ولكنهما في شأنين مختلفين، فلا يشهد بعضها لبعض، أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهدا ومصدقا لما بين يديه من الكتب، فكيف يكذب به من يؤمن بها.
فانظر إلى الإحكام في صنعة البيان: إنما هي كلمة رفعت وأخرى وضعت في مكانها عند الحاجة إليها، فكانت هذه الكلمة حسما لكل عذر، وسدا لكل باب من أبواب الهرب، بل
ولما قضى وطر النفس من هذا الجانب المطوى الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد، استوى إلى الرد على المقصد الأصلى الذي تبجحوا بإعلانه والافتخار به، وهو دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، فأوسعهم إكذابا وتفنيدا. وبين أن داء الجحود فيهم داء قديم، قد أشربوه في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضا مزمنا وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ما هو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم، وساق على ذلك الشواهد التاريخية المفظعة التي لا سبيل لإنكارها في جهلهم بالله، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه، وتمردهم على أوامره قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة، إذ يفهم السامع من تكذيبهم لما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين لكتابهم نفسه، وهل الذي يكذب من يصدقك يبقى مصدقا لك؟؟...
ثم انظر بعد أن سجل القرآن على بنى إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة. بعد كل ذلك تراه لا يزيد على أن يقول في أول الأمر: إن هذا «ظلم»، وفي الثانية (بئسما) صنعتم، أذلك كل ما تقابل به هذه الشناعات؟ نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا على وجههما، ولكن أين حدة الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام؟
بل أين الإقذاع والتشنيع؟ وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس، إذا أحفظوا بالنيل من مقامهم.
تالله ما أعف هذه الخصومة وما أعز هذا الجناب، وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين، وتالله إن هذا الكلام لا يصدر عن نفس بشر» «١».
ثم أمر الله- تعالى- نبيه «صلّى الله عليه وسلّم» أن يرد على اليهود في دعواهم أن الجنة لن يدخلها إلا من كان على ملتهم فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)
قل- يا محمد- لأولئك اليهود الذين ادعوا أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا: إن كانت الجنة مختصة بكم، وسالمة لكم دون غيركم، وليس لأحد سواكم فيها حق. فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في دعواكم، لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وأحب الوصول إليها.
ثم أخبر الله أن هذا التمني لن يحصل منهم فقال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً أى الموت بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أى بسبب ما ارتكبوه من كفر ومعصية وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين وضعوا الأمور في غير موضعها، فادعوا ما ليس لهم، ونفوه عمن هو لهم.
ثم أخبر القرآن بأن حرصهم على الحياة لا نظير له ولا مثيل فقال: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ متطاولة وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أى: وأحرص عليها- أيضا- من الذين أشركوا الذين لا يعرفون إلا الحياة الدنيا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ أى يتمنى الواحد من هؤلاء اليهود أن يعيش السنين الكثيرة ولو تجاوزت الحدود المعقولة لعمر الإنسان والحال أنه ما أحد منهم بمزحزحه ومنجيه تعميره من العذاب وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أى: لا يخفى عليه أعمالهم، فهو محاسبهم عليها، ومجازيهم بما يستحقونه من عقاب.
وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ رد على زعمهم الباطل أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، والمراد بالدار الآخرة: الجنة ونعيمها، ومعنى «خالصة» سالمة لكم مختصة بكم، لا يشارككم فيها أحد من الناس.
قال الإمام ابن جرير: «يقال: خلص لي فلان بمعنى صار لي وحدي وصفا لي، ويقال منه خلص هذا الشيء، فهو يخلص خلوصا وخالصة، والخالصة مصدر مثل العافية..» «١».
والاستعمال الثاني هو المراد بقوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أى اذكروا بألسنتكم لفظا يدل على أنكم تحبون الموت وترغبون فيه. وإنما قلنا إن ذلك هو المراد من الآية لأن المعنى الكائن بالقلب لا يعرفه أحد سوى الله- تعالى- والتحدي لا يقع بتحصيل المعاني القائمة بالضمائر والقلوب.
ومعنى الآية الكريمة. قل يا محمد لليهود: إن كانت الجنة خاصة بكم، ولا منازع لكم فيها ولا مزاحم كما تزعمون، فتمنوا الموت بألسنتكم لكي تظفروا بنعيمها الدائم، إن كنتم صادقين في دعواكم أنها خالصة لكم، وإلا فإنكم لا تكونون صادقين في دعواكم، إذ لا يعقل أن يرغب الإنسان عن السعادة المحضة الدائمة المضمونة له في الآخرة، إلى سعادة ممزوجة بالشقاء في الدنيا.
قال الإمام الرازي: (وبيان هذه الملازمة أن نعم الدنيا قليلة حقيرة بالقياس إلى نعم الآخرة. ثم إن نعم الدنيا على قلتها كانت منغصة عليهم بسبب ظهور محمد صلّى الله عليه وسلّم ومنازعته معهم، بالجدال والقتال، ومن كان في النعم القليلة المنغصة. ثم تيقن أنه بعد الموت لا بد أن ينتقل إلى تلك النعم العظيمة، فإنه لا بد أن يكون راغبا في الموت، لأن تلك النعم العظيمة مطلوبة ولا سبيل إليها إلا بالموت وحيث كان الموت يتوقف عليه المطلوب وجب أن يكون هذا الإنسان راضيا بالموت متمنيا له، فثبت أن الدار الآخرة لو كانت خالصة لهم، لوجب أن يتمنوا الموت. ثم إن الله- تعالى- أخبر أنهم ما تمنوا الموت، بل لن يتمنوه أبدا، وحينئذ يلزم قطعا بطلان ادعائها في قولهم: «إن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس» «١».
وتحديهم بتمني الموت يكون بأن يقولوا بألسنتهم ليتنا نموت، أو يقولوا ما في معنى هذه الكلمة كما أشرنا إلى ذلك سابقا، وهذا رأى جمهور المفسرين.
وروى عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن ذلك يكون عن طريق المباهلة، بأن يحضروا مع المؤمنين في صعيد واحد، ثم يدعو الفريقان بالموت على الكاذب منهما.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ الذي نطقت به الآية وأقرب أيضا إلى معناها. إذ ليس في الآية إشارة ما إلى طلب المباهلة، والقرآن حينما دعا إليها نصارى
ثم أخبر- سبحانه- بأن هؤلاء اليهود لن يتمنوا الموت أبدا بسبب ما فعلوا من شرور فقال تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
أى: لا يتمنى اليهود الموت أبدا بسبب ما قدمت أيديهم من آثام، والله- عز وجل- لا تخفى عليه خافية من سيئاتهم واعتداءاتهم بل هو سيسجلها عليهم، ويجازيهم عليها الجزاء الذي يستحقونه، والآية الكريمة خبر من الله- تعالى- عن اليهود بأنهم يكرهون الموت، ويمتنعون عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمنيه، لعلمهم بأنهم إن فعلوا فالموت نازل بهم، وذلك لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر فهم يحذرون أن يتمنوا الموت، خوفا من أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب.
وقد صح من عدة طرق عن ابن عباس أنه قال: «لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه».
وقال ابن جرير في تفسيره: «وبلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا» قال حدثنا بذلك أبو كريب، حدثنا زكريا بن عدى، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «٢».
وقال الإمام ابن كثير: ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقى حدثنا فرات عن عبد الكريم به» «٣».
وقال صاحب الكشاف: قوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً من المعجزات لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به، كقوله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا فإن قلت: ما أدراك أنهم لم يتمنوا الموت: قلت لو تمنوا لنقل ذلك عنهم كما نقلت سائر الحوادث، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن في الإسلام أكثر من الذر وليس أحد منهم نقل عنه ذلك» «٤».
ويكفى في تحقيق هذه المعجزة، ألا يصدر تمنى الموت عن اليهود الذين تحداهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وهم الذين كانوا يضعون العراقيل في طريق دعوته، ويصرون على جحود نبوته فلا يقدح في هذه المعجزة أن ينطق يهودي بعد العهد النبوي بتمني الموت وهو حريص على الحياة، لأن المعنيين بالتحدي هم اليهود المعاصرون للعهد النبوي.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٤٢٧.
(٣) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٢٧.
(٤) تفسير الكشاف ج ١ ص ٢٢٥.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك بأن هؤلاء اليهود الذين يزعمون أن الجنة خالصة لهم في غاية الحرص على الحياة فقال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ.
ومعنى الآية الكريمة: ولتجدن- يا محمد- أولئك اليهود- الذين يزعمون أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس- لتجدنهم أحب الناس للحياة، وأحرصهم عليها، وأشدهم كراهية للموت «وليس ذلك عند ما يكونون متمتعين بالطمأنينة والعافية فقط بل هم كذلك حتى ولو زالت عنها كل معاني الراحة والطمأنينة، فهم أحرص عليها حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث، والذين يعتبرون نعيمهم الأكبر هو ما يتمتعون به من اللذائذ في هذه الدنيا، وهم في حرصهم على الحياة يتمنون أن تطول أعمارهم دهورا طويلة، لا يصل إليها خيال أحد ممن يحرصون عليها كما قال تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ. وبذلك تكون الآية الكريمة قد كذبتهم في دعواهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس لأن الأمر لو كان كما يزعمون لرحبوا بالانتقال إليها، ولكنهم لا يحبون الموت ولا يكاد يخطر ببالهم، ويحرصون كل الحرص على اللقاء حتى مع سوء الحالة ورذالة العيش، كما يشعر بذلك التنكير في قوله تعالى عَلى حَياةٍ.
والمراد بالناس جميعهم، وأفعل التفضيل في «أحرص» على بابه، لأن الحرص على الحياة غريزة في البشر إلا أنهم متفاوتون فيه قوة وكيفية وأسبابا، كما قال الشاعر:
أرى كلنا يهوى الحياة بسعيه | حريصا عليها مستهاما بها صبا |
فحب الجبان النفس أورده التقى | وحب الشجاع النفس أورده الحربا |
ونكر- سبحانه- الحياة التي يحرصون عليها، زيادة في تحقيرهم، فكأنه- سبحانه- يقول: إنهم شديد والحرص على الحياة، ولو كانت حياة بؤس وشقاء، وللإشعار بأن ما يهمهم
ولا شك أن شدة التهالك على الحياة، تؤدى إلى الجبن، واحتمال الضيم، وتجعل الأمة التي تنتشر فيها هذه الرذيلة لا تفرق بين الحياة الكريمة والحياة الذليلة.
وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عطف على الناس، لأنه لما كان قوله تعالى: أَحْرَصَ النَّاسِ في معنى: أحرص من جميع الناس صح أن يراعى المعنى، فيكون قوله: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا معطوف عليه، فيكون المعنى: أحرص من جميع الناس، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة.
والذين أشركوا، هم الذين جعلوا لله شركاء وإنما أفردوا بالذكر مع أنهم من الناس، مبالغة في توبيخ اليهود وذمهم، لأنهم إذا زاد حرصهم على الحياة- وهم أهل كتاب- على المشركين الذين لا كتاب لهم ولا يدينون ببعث أو نشور كان ذلك دليلا على هوان نفوسهم، وابتذال كرامتهم وعدم اعتدادهم بوصايا كتبهم التي تنهاهم عن الحرص على الحياة الذليلة.
قال صاحب الكشاف: «وفيه توبيخ عظيم، لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم، فإذا زاد عليها في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء، كان حقيقا بأعظم التوبيخ، فإن قلت: لم زاد حرصهم على حرص المشركين؟ قلت: لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك» «١».
ثم بين- سبحانه- مظهرا من مظاهر حرصهم على الحياة فقال تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ أى يتمنى الواحد منهم أن يعيش دهورا كثيرة، ليس من عادة الناس أن يحبوا بلوغها، لأنها تؤدى بهم إلى أرذل العمر، وعدم طيب العيش.
فالجملة الكريمة مستأنفة لإظهار مغالاتهم في التهالك على الدنيا ولتحقيق عموم النوعية في الحياة المنكرة، ولدفع ما يظنه بعض الناس من أن حرصهم على الحياة مهما اشتد فلن يصل بهم إلى تمنى أن يعيش الواحد منهم ألف عام، أو أكثر، فجيء بهذه الجملة الكريمة. لتحقيق أن تعلقهم بالدنيا يشمل حتى هذه السن المتطاولة، التي لا هناء فيها ولا راحة، والتي استعاذ من بلوغها المؤمنون.
ثم بين- سبحانه- أن تعميرهم الطويل لن ينجيهم من العقوبة، لأن الموت لا يتركهم مهما
والجملة الكريمة فيها بيان مصيرهم المحتوم، وقطع لحبال مطامعهم، لأن الموت سيلحقهم مهما بلغ عمرهم، وسيلقون جزاءهم على سوء صنيعهم.
وفي التعبير بِمُزَحْزِحِهِ إشارة إلى أن طول عمرهم، ليس له أى أثر في تخفيف العذاب عنهم، وقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ تهديد ووعيد لهم لأنه- سبحانه- عليم بأعمالهم، محيط بما يخفون وما يعلنون، وسيجازيهم على كل ذلك بما يستحقون.
ومن هذا العرض للآيات الكريمة نرى أنها قد ردت على اليهود في دعواهم أن الجنة خالصة لهم، ردا يبطل حجتهم، ويفضح مزاعمهم، ويكبت نفوسهم، ويخرس ألسنتهم، ويعلن أن الجنة إنما هي لمن أسلّم وجهه لله وهو محسن، وهم ليسوا من هذا النوع من الناس ولذا حرصوا على الحياة وفزعوا من الموت، لأنهم يعلمون أن من ورائهم النار وبئس القرار بسبب ما ارتكبوا من سيئات، واقترفوا من أكاذيب.
ثم ساق القرآن بعد ذلك لونا عجيبا من ألوان رذائل اليهود وهو مجاهرتهم بالعداوة لأمين الوحى جبريل- عليه السلام- فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)
فهاتان الآيتان تكشفان عن رذيلة غريبة حقا من رذائل اليهود وهي عداوتهم لملك من ملائكة الله، لا يأكل مما يأكلون، ولا يشرب مما يشربون وإنما هو من الملائكة المقربين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإذا فليس هناك مقتض لعداوته، فلماذا هذا التصريح منهم ببغضه وكراهيته؟
لقد سمعوا أن جبريل- عليه السلام- ينزل بالوحي من عند الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم وهم
ومعنى الآيتين الكريمتين، قل- يا محمد- لهؤلاء اليهود الذين أعلنوا عداءهم لجبريل أنه لا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وإنما نزل على قلبك بأمر الله ليكون مؤيدا لما نزل قبله من الكتب السماوية وليكون هداية إلى طريق السعادة وبشارة للمؤمنين بالجنة، وقل لهم كذلك من كان معاديا لله أو لملك من ملائكته أو لرسول من رسله، فقد كفر وباء بغضب من الله، ومن غضب الله عليه، فجزاؤه الخزي وسوء المصير.
قال الإمام ابن جرير: (أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا، على أن هذه نزلت جوابا ليهود من بنى إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وميكائيل ولى لهم) «١».
وروى البخاري في صحيحه- عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في أرض يخترف- أى يجنى ثمارها- فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له:
إنى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرنى بهن جبريل آنفا قال: جبريل؟ قال: نعم قال ذلك عدو اليهود من الملائكة- فقرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ... الآية ثم قال: أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب! وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
يا رسول الله: إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامى قبل أن تسألهم يبهتونى، فجاءت اليهود فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أى رجل فيكم عبد الله؟ قالوا: حبرنا وابن حبرنا، وسيدنا وابن سيدنا: قال «أرأيتم إن أسلّم عبد الله بن سلام؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك؟ فخرج عبد الله فقال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله»، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله «٢».
وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس: «أن اليهود بعد أن سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أسئلة أجابهم عنها، قالوا صدقت فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك. قال: وليي جبريل، لم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه، قالوا: فعندها نفارقك، ولو كان وليك سواه من
(٢) صحيح البخاري كتاب التفسير باب قوله تعالى: «قل من كان عدو لجبريل» ج ٦ ص ٢٣.
وفي حديث للإمام أحمد والترمذي والنسائي «قال اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن سألوه عن أشياء أجابهم عنها إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها، إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال جبريل- عليه السلام- قالوا: جبريل ذلك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان. فأنزل الله- تعالى-: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الآية «١».
فيؤخذ من هذه الأحاديث وما في معناها أن اليهود في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يجاهرون بعداوتهم لجبريل- عليه السلام- وأن هذه المجاهرة بالعداوة، قد تكررت منهم في مواقف متعددة بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن الذي حملهم على ذلك هو حسدهم له، وغيظهم من جبريل، لأنه ينزل بالوحي عليه.
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: «ومن عجيب تهافت اعتقادهم أنهم يثبتون أنه ملك مرسل من عند الله، ومع ذلك يبغضونه، وهذا أحط درجات الانحطاط في العقل والعقيدة، ولا شك أن اضطراب العقيدة من أكبر مظاهر انحطاط الأمة لأنه ينبئ عن تضافر آرائهم على الخطأ والأوهام» «٢».
وفي أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بلفظ (قل) كي يرد على اليهود، تثبيت له، وتطمين لنفسه وتوبيخ لهم على معاداتهم لأمين الوحى، وهو جبريل- عليه السلام-.
وقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، شرط عام قصد الإتيان به ليعلموا أن الله- تعالى- لا يعبأ بهم ولا بغيرهم ممن يعادى جبريل، إن وجد معاد آخر له سواهم.
وقوله تعالى: عَلى قَلْبِكَ زيادة تقرير للتنزيل، ببيان محل الوحى، وإشارة إلى أن السبب في تمكنه صلّى الله عليه وسلّم من تلاوة القرآن الكريم، وإبلاغه للناس، ثباته في قلبه.
وقوله تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ معناه: فلا موجب لعداوته. لأنه نزل القرآن على قلبك يا محمد بإذن الله وأمره. وإذا فعداوته عداوة لله في الحقيقة والواقع، ومن هنا يتبين أن هذه الجملة تعليل لجواب الشرط وقائمة مقامه.
(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ١ ص ٢٢٦.
أحدهما: إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته، حيث نزل كتابا مصدقا للكتب التي بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم.
والثاني: إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقا لكتابهم، وموافقا له، وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم، ولذلك يحرفونه ويجحدون موافقته له. كقولك:
«إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه» «١».
وقوله- تعالى-: بِإِذْنِ اللَّهِ أى بأمره، وهو توبيخ لهم على عداوتهم لجبريل، الذي أنزل بالقرآن بإذن الله، لا من تلقاء نفسه، وهذه حجة أولى عليهم.
وقوله تعالى: مُصَدِّقاً حال من الضمير العائد على القرآن الكريم، في قوله نَزَّلَهُ أى أنزله حالة كونه مؤيدا للكتب السماوية التي قبله ومن بينها التوراة، وهذه حجة ثانية عليهم.
ثم عززهما بثالثة ورابعة- فقال تعالى: وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أى هذا القرآن الذي نزل مصدقا لكتبكم، هو هاد إلى طريق الفلاح والنجاح، والعاقل لا يرفض الهداية التي تأتيه وتنقذه مما هو فيه من ضلالات ولو كان الواسطة في مجيئها عدوا له، وهو- أيضا- مبشر للمؤمنين برضا الله تعالى- عنهم في الدنيا والآخرة، أما الضالون فقد أنذرهم بسوء العقبى فعليكم أن تتبعوا طريق الإيمان لتكونوا من المفلحين وبذلك يكون القرآن قد أقام حججا متعددة على حماقتهم وعنادهم وجحودهم للحق بعد ما تبين. وتكون الآية الكريمة قد مدحت القرآن بخمس صفات.
أولها: أنه منزل من عند الله وبإذنه.
وثانيها: أنه منزل على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وثالثها: أنه مصدق لما نزل قبله من الكتب السماوية.
ورابعها: أنه هاد إلى الخير أبلغ هدى وأقواه.
وخامسها: أنه بشارة سارة للمؤمنين.
ثم بين- تعالى- حقيقة الأمر فيمن يعادى جبريل وأن عداوته عداوة لله- تعالى- فإنه أمين وحيه إلى رسله ليس له في ذلك شيء إلا أن يبلغ ما أمر به فقال تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ.
ومعنى عداوة العبد لله: كفره به ومخالفته لأوامره ونواهيه ومعنى عداوته لملائكته: إنكار فضلهم ووصفهم بما ينافي عصمتهم ورفعة منزلتهم. ومعنى عداوته لرسله: تكذيبه لهم وتعمده إلحاق الأذى بهم ومعنى عداوة الله لعبده: غضبه سبحانه- عليه، ومجازاته له على كفره.
وصدر- سبحانه- الكلام باسمه الجليل تفخيما لشأن ملائكته ورسله وإشعارا بأن عداوتهم إنما هي عداوة له- تعالى-.
وأفرد- سبحانه- جبريل وميكال بالذكر، مع اندراجهما تحت عموم ملائكته، لتصريح اليهود بعداوة جبريل وتعظيم ميكائيل، فأفردهما بالذكر للتنبيه على أن المعاداة لأحدهما معاداة للجميع، وأن الكفر بأحدهما كفر بالآخر.
قال ابن جرير: «فإن قال قائل: أو ليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟ قيل بلى، فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما في الآية في جملة أسماء الملائكة؟ قيل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما أن اليهود لما قالت جبريل عدونا وميكائيل ولينا، وزعمت أنها كفرت بمحمد صلّى الله عليه وسلّم من أجل أن جبريل صاحبه، أعلمهم الله- تعالى- أن من كان لجبريل عدوا فإن الله عدو له وأنه من الكافرين، فنص عليه باسمه وعلى ميكائيل باسمه، لئلا يقول منهم قائل: إنما قال الله:
من كان عدوا لله وملائكته ورسله، ولسنا لله ولا لملائكته ولا لرسله أعداء، لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصا، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه، وكذلك قوله ورسله فلست يا محمد داخلا فيهم، فنص الله- تعالى- على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم ليقلع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم، ويحسم تمويههم أمورهم على ضعاف الإيمان» «١».
وقال- سبحانه- في ختام الآية الكريمة فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ولم يقل فإن الله عدو له أو لهم، ليدل على أن عداوة كل واحد ممن اشتملت الآية الكريمة على ذكرهم كفر وجحود، وليكون اندراجهم تحت هذا الحكم العام من باب إثبات الحكم بالدليل، وللإشعار بأن عداوة الله- تعالى- لهم سببها كفرهم فإن الله لن يعادى قوما لذواتهم ولا لأنسابهم، وإنما يكره لهم الكفر ويعاقبهم عليه معاقبة العدو للعدو.
قال صاحب المنار: «فهذه الآية الكريمة وعيد لهم بعد بيان فساد العلة التي جاءوا بها، فهم لم يدعوا عداوة هؤلاء كلهم، لكنهم كذلك في نفس الأمر، فأراد أن يبين حقيقة حالهم في
وبهذا تكون الآيتان الكريمتان قد دمغتا اليهود بالكفر والجهالة، لمعاداتهم لجبريل وتكذيبهم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبينتا ما عليه أمرهم من خزي وهوان بسبب هذه العداوة التي لا باعث عليها إلا الحسد، وكراهية أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
ثم أخذ القرآن في تثبيت فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلّم وتسليته عما يفعله معه اليهود فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠)
أى: لقد أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالة على معانيها وعلى كونها من عند الله، وبينا لك فيها علوم اليهود، ومكنونات سرائرهم وأخبارهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم من كتبهم، وما بدلوه من أحكامهم قال تعالى:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
وإن هذه الآيات التي أنزلها الله إليك يا محمد، ما يكفر بها، ويجحد صدقها إلا المتمردون من الكفرة، الخارجون على حدود الله المنتهكون لحرماته.
والهمزة في قوله أَوَكُلَّما للإنكار، والواو للعطف على محذوف يقتضية المقام: أى أكفروا بالآيات البينات، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم، أى: طرحوه ونقضوه من النبذ وهو إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به ومنه سمى النبيذ وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء وهو حقيقة في الأجرام وإسناده إلى العهد مجاز.
قال صاحب الكشاف، واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا، وكم عاهدوا رسول الله فلم يفوا الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ. «١»
وقال الرازي: «والمقصود من هذا الاستفهام الإنكار وإعظام ما يقدمون عليه لأن مثل ذلك إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التوبيخ والتبكيت. ودل بقوله: أَوَكُلَّما عاهَدُوا على عهد بعد عهد نبذوه ونقضوه، بل يدل على أن ذلك كالعادة منهم، فكأنه- تعالى- أراد تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات، بأن بين له أن ذلك ليس ببدع منهم، بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم... » «٢»
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن نبذ اليهود لكتاب الله، واتباعهم للسحر والأوهام، فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠١ الى ١٠٣]
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٤١٧.
وقد أكذبهم الله- تعالى- في هذا الزعم بقوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ أى: بتعلم السحر والعمل به، كما يزعم هؤلاء «ولكن الشياطين» هم الذين «كفروا» بتعلم السحر وتعليمه للناس، وتعليمهم- أيضا- ضربا آخر منه وهو ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ من وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال به، ولقد كان الملكان لا يعلمان أحدا من الناس السحر حتى ينصحاه بقولهما: إن السحر الذي نعلمك إياه. القصد منه التمييز بين المطيع والعاصي، وبين السحر والمعجزة، فحذار أن تستعمله فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين، بخلاف الشياطين فإنهم تعلموه وعلموه لغيرهم لاستعماله في الشرور والآثام، ولإحداث التفرقة بين الزوجين، ولكن هذا السحر الذي يتعاطاه الشياطين وأتباعهم لن يضر أحدا بذاته، وإنما ضرره يتأتى إذا أراد الله تعالى- ذلك وشاءه، ولقد علم أولئك النابذون لكتاب الله المؤثرون عليه اتباع السحر، أن من استبدل السحر بكتاب الله، فليس له نصيب من نعيم الجنة، وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ علما نافعا. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا
وقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ.. إلخ الآية.
بيان لما صدر عن اليهود من تكذيب للرسول صلّى الله عليه وسلّم وطرح لتعاليم كتابهم التي أمرتهم باتباعه.
أخرج ابن جرير عن السدى قال في قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. أى لما جاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها.
فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة والقرآن وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت، فذلك قول الله كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ أى كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود، فنقضوا عهد الله، لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه «١».
وفي وصف الرسول بأنه آت من عند الله تعظيم له، ومبالغة في انكار عدم إيمانهم به، وإغراء للناس جميعا بالدخول في دعوته، لأنه ليس رسولا من تلقاء نفسه، وإنما هو رسول من عند الله- تعالى-:
والمراد «بما معهم» التوراة. وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم لها، معناه أن ما جاء به من تعاليم موافق لها في أصول الدين، وأن ما جاءت به من صفات للرسول المنتظر بعد عيسى- عليه السلام- لا تنطبق إلا عليه صلّى الله عليه وسلّم.
وعبر- سبحانه- عن تركهم العمل بالكتاب الذي نزل لهدايتهم بالنبذ، مبالغة في عدم اعتدادهم، وتناسيهم إياه، لأن أصل النبذ طرح وإلقاء ما لا يعتد به.
وفي إسناد النبذ إلى فريق من الذين أوتوا الكتاب، سخرية بهم، واستجهال لهم، لأن الذين أوتوه هم الذين نبذوه، ولو كان النابذون من المشركين لكان لهم بعض العذر لجهلهم، ولكن أن يكون التاركون للنور هم الذين أوتوه وأكرموا به، فذلك هو الضلال المبين.
والمراد من كِتابَ اللَّهِ الذي نبذوه لما جاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التوراة، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها حقا، لاتبعوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي ذكرت صفاته فيها، والذي وجب عليهم بمقتضى كتابهم التوراة الإيمان به، فهم بجحودهم لنبوته، يكونون جاحدين لتوراتهم التي شهدت له بالصدق.
والذي نراه أن الرأى الأول أرجح، لأن النبذ يقتضى سابقة الأخذ، في الجملة. وهو متحقق بالنسبة للتوراة، بخلاف القرآن الكريم فإنهم لم يسبق لهم أن تمسكوا به، ولأن مذمتهم تكون أشد وجحودهم أكثر، إذا كان المراد بالكتاب الذي نبذوه، هو عين الكتاب الذي نزل لهدايتهم وآمنوا به وهو التوراة.
وقوله تعالى: وَراءَ ظُهُورِهِمْ كناية عن إعراضهم الشديد عنه، وتوليهم عن تعاليمه.
تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره، أى تولى عنه معرضا، لأن ما يجعل وراء الظهر لا ينظر إليه، ففي هذه الجملة الكريمة تصوير صادق لإعراضهم عن كتاب الله- تعالى- حيث شبه- سبحانه- تركهم لكتابه، بحالة شيء يرمى به وراء الظهر استهانة به. وفي إضافة الوراء إلى الظهر، تأكيد لنبذ ما ترك بحيث لا يؤخذ بعد ذلك.
قال الأستاذ الإمام: ليس المراد بنبذ الكتاب وراء ظهورهم أنهم طرحوه برمته، وتركوا التصديق به في جملته وتفصيله. وإنما المراد أنهم طرحوا أجزاء منه وهو ما يبشر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ويبين صفاته ويأمرهم بالإيمان به واتباعه. فهو تشبيه لتركهم إياه وإنكاره، بمن يلقى الشيء وراء ظهره حتى لا يراه فيتذكره، وترك الجزء منه كتركه كله، لأن ترك البعض يذهب بحرمة الوحى من النفس، ويجزئ على ترك الباقي «١»...
وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ جملة حالية، أى طرحوه وراء ظهورهم مشبهين بحال من لا يعلم منه شيئا، ومن لا يعرف أنه كتاب الله.
وشبههم بمن لا يعلمون مع أنهم في الواقع يعلمون أنه من عند الله- حق العلم- لأنهم نبذوه مكابرة وعنادا، ولأنهم لم يعملوا بمقتضى علمهم ومن كان هذا شأنه فهو والجاهل سواء، في جحود الحق والانغماس في الآثام.
وقال- سبحانه-: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ بنفي الحال والاستقبال للإشعار بأنهم قوم لا أمل في توبتهم وإنابتهم، بل هم تمر بهم الأيام، وتتوالى عليهم العظات، ومع ذلك لا يتوبون ولا يرجعون إلى الحق، فهم مستمرون على طرح كتاب الله في كل وقت وآن، ومصممون على ذلك.
ثم حكى- سبحانه- لونا آخر من زيغهم وضلالهم واتباعهم للأباطيل بعد أن وبخهم على
اتبعوا: من الاتباع وهو الاقتداء، والضمير فيه يعود على اليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وتتلو: من التلاوة بمعنى الاتباع أو القراءة، وقال الراغب: تلا عليه كذب عليه.
والشياطين: جمع شيطان، وهو كائن حي خلق من النار، ويطلق على الممتلئ شرا من الأنس.
والمعنى: إن هؤلاء اليهود نبذوا كتاب الله، واتبعوا الذي كانت تتلوه وتقصه الشياطين على عهد ملك سليمان، وفي زمانه، من الأكاذيب والكفر ومن ذلك زعمهم أن ملكه قام على أساس السحر، وأنه ارتد في أواخر حياته، وعبد الأصنام إرضاء لنسائه الوثنيات إلى غير ذلك من الأكاذيب التي ألصقوها به- عليه السلام- وهو برىء منها.
قال صاحب الكشاف: وقوله تعالى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أى على عهد ملكه وفي زمانه، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة، وقد دونوها في كتب يقرءونها ويعلمونها للناس، وفشا ذلك في زمان سليمان- عليه السلام- حتى قالوا: إن الجن تعلم الغيب، وكانوا يقولون: ما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه يسخر الإنس والجن والريح التي تجرى بأمره «١».
وقوله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا معناه: وما كفر سليمان ولكن الشياطين هم الذين كفروا إذ تعلموا السحر وعلموه لغيرهم بقصد إضلالهم، وصرفهم عن عبادة- الله- تعالى- إلى عبادة غيره من المخلوقات.
ففي الجملة الكريمة تنزيه لسليمان- عليه السلام- عن الردة والشرك وتبرئة له من عمل السحر الذي كان يتعاطاه أولئك الشياطين وينسبونه إليه زورا وبهتانا، ودلالة على أن ذلك السحر الذي نسبوه إليه وباشرته الشياطين نوع من الكفر.
وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان، وأنه ارتد في آخر عمره، وعبد الأصنام وبنى لها المعابد، وكانوا عند ما يذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم سليمان بين الأنبياء يقولون: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح.
فإن قال قائل: ما الحكمة في نفى الكفر عن سليمان مع أن صدر الآية لا يفيد أن أحدا نسب إليه ذلك.
فالجواب: أن اليهود الذين نبذوا كتاب الله، واتبعوا ما تلته الشياطين من السحر أضافوا
والضمير في قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يعود على الشياطين الذين افتروا الأكاذيب على سليمان- عليه السلام-.
ويجوز أن يعود على اليهود الذين نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تلته الشياطين على سليمان.
قال الأستاذ الإمام: في قوله تعالى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ: وجهان:
أحدهما: أنه متصل بقوله تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا أى: أن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر.
والثاني: وهو الأظهر أنه متصل بالكلام عن اليهود وأن الكلام في الشياطين قد انتهى عند قوله تعالى كَفَرُوا وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهورا في زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم، أى أن فريقا من اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وهاهنا يقول القائل: بماذا اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على سليمان في رميه بالكفر وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه؟ فأجاب على طريق الاستئناف البياني يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.
ونفى الكفر عن سليمان والصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض، فعلم- أيضا- أنهم اتبعوا الشياطين بهذه الفرية، وإنما كان القصد إلى وصف اليهود بتعلم السحر، لأنه من السيئات التي كانوا متلبسين بها، ويضرون بها الناس خداعا وتمويها وتلبسا «١».
وإنما أضاف الله- تعالى- إلى اليهود أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان خاصة مع أنه كان معروفا قبل سليمان- عليه السلام- كما أخبر به القرآن عن سحرة فرعون، وإنما أضاف ذلك إليهم، لأن هذا كان هو الواقع منهم، ولأن سحر هؤلاء الشياطين الذين كانوا على عهد سليمان، كان مدونا في صحف اليهود من قديم، وتوارثه خلفهم عن سلفهم إلى أن وصل إلى من عاصر النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم ولأن سليمان- عليه السلام- أعطاه الله تعالى ملكا واسعا، وسخر له الإنس والجن والريح، فعزت الشياطين ذلك كله إلى تعلمه السحر.
وما في قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ موصولة، وهي معطوفة على السحر في قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ أى يعلمون الناس السحر، ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين.
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه | ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه. |
هذا، واختصت بابل «٢» بالإنزال، لأنها كانت أكثر البلاد عملا بالسحر، وكان سحرتها قد اتخذوا السحر وسيلة لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم، ثم جروهم إلى عبادة الأصنام والكواكب فحدث فساد عظيم، وعمت الأباطيل فألهم الله- تعالى- هاروت وماروت أن يكشفا للناس حقيقة السحر ودقائقه، حتى يعلموا أن السحرة الذين صرفوهم عن عبادة الله إلى عبادة الكواكب وغيرها قد خدعوهم وأضلوهم، وبذلك يعودون إلى الصراط المستقيم.
واللام في الْمَلَكَيْنِ مفتوحة في القراءات العشر المتواترة، وقرئ شاذا الْمَلَكَيْنِ بكسر اللام.
قال بعض المفسرين: المراد بالملكين- بفتح اللام- رجلان صالحان اطلعا على أسرار السحر التي كانت تفعلها السحرة، فعلماها للناس ليحذراهم من الانقياد لتلبيسات الشياطين، وسميا ملكين مع أنهما من البشر لصلاحهما وتقواهما، ويؤيد هذا الرأى قراءة الملكين- بكسر اللام- وإن كانت شاذة:
وقال جمهور المفسرين: إنهما ملكان على الحقيقة أنزلهما الله- تعالى- ليعلما الناس السحر ابتلاء لهم، ليفضحا مزاعم السحرة الذين كانوا يدعون النبوة كذبا، ويسخرون العامة لهم ويخرجونهم إلى عبادة غير الله، (وهاروت وماروت) اسمان للملكين الذين أنزل عليهما السحر، وهما بدل أو عطف بيان للملكين.
(٢) بابل: مدينة بالعراق ينسب إليها السحر والخمر.
والفتنة، المراد بها هنا الابتلاء والاختبار، تقول: فتنت الذهب في النار، أى: اختبرته لتعرف جودته ورداءته.
والمعنى: أن الملكين لا يعلمان أحدا من الناس السحر إلا وينصحانه بقولهما إن ما نعلمك إياه من فنون السحر الغرض منه الايتلاء والاختبار لتمييز المطيع من المعاصي. فمن عمل به ضل وغوى، ومن تركه فهو على هدى ونور من الله، ولإظهار الفرق بين المعجزة والسحر.
فحذار أن تستعمل ما تعلمته فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين. كما كفر السحرة بنسبتهم التأثيرات إلى الكواكب وغيرها من المخلوقات.
فالمقصود من تعليم الملكين للناس السحر، فضح أمر السحرة الذين كثروا في تلك الأيام، وادعوا ما لم يأذن به الله، وإظهار الفرق بين المعجزة والسحر حتى يعلم الناس أن هؤلاء السحرة الذين قد يزعمون بمرور الأيام أنهم أنبياء ليسوا كذلك، وإنما هم أفاكون، وأخبروا على أنفسهم بطريق القصر بأنهم فتنة للمبالغة في الإقرار بأنهما لا يملكان نفعا ولا ضرا لأحد، وإنما هما فتنة محضة، وابتلاء من الله لعباده لتمييز المطيع من العاصي.
ثم بين- سبحانه- لونا من السحر البغيض الذي استعمله أولئك السحرة في الأذى فقال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ أى فيتعلم بعض الناس من الملكين ما يحصل به الفراق بين المرء وزوجه.
فالجملة الكريمة تفريع عما دل عليه قوله تعالى قبل ذلك: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ لأنه يقتضى أن التعليم حاصل، وأن بعض المتعلمين قد استعملوه في التفريق بين الزوجين.
وخصص سبحانه هذا اللون من السحر بالنص عليه للتنبيه على شدة فساده. وعلى شناعة ذنب من يقوم به. لأنه تسبب عنه التفريق بين الزوجين اللذين جمعت بينهما أواصر المودة والرحمة.
والضمير في قوله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ راجع لأحد، وصح عود ضمير الجمع عليه مع أنه مفرد، لوقوعه في سياق النفي، والنكرة إذا وردت بعد نفى كانت في معنى أفراد كثيرة، فصح أن يعود ضمير الجمع إليه كذلك.
ثم نفى- سبحانه- أن يكون السحر مؤثرا بذاته فقال تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ
أى: أن أولئك السحرة لن يضروا أو ينفعوا أحدا بسحرهم إلا بإذن الله وقدرته، فالسحر سبب عادى لما ينشأ عنه من الاضرار ويجوز أن يتخلف عنه مسببه إذا أذن الله بذلك.
والجملة الكريمة معترضة لدفع توهم أن يكون السحر مضرا بذاته، بحيث لا يتخلف عنه الضرر متى تعاطاه الساحر.
والمراد بِإِذْنِ اللَّهِ هنا. تخليته- سبحانه- بين المسحور وضرر السحر، أى: إن شاء حصل الضرر بسبب السحر، وإن شاء منعه فلا يصيب المسحور منه شيء من الأذى.
وعبر- سبحانه- عن هذا المعنى بطريق القصر، مبالغة في نفى أى تأثير للسحر بذاته، وإغراء للناس بتكذيب ما يزعمه السحرة من أن لهم قوى غيبية سوى الأسباب التي ربط الله بها المسببات، وإرشادا لهم إلى حسن الاعتقاد، وسلامة اليقين.
ثم بين- سبحانه- أن أولئك المتعلمين السحر للأذى وللتفرقة بين المتحابين يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، فقال تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ أى: أن أولئك الذين تعلموا السحر ليضروا به غيرهم، ولم يتعلموه ليفرقوا به بين الحق والباطل، أو ليدفعوا به الشر عن أنفسهم، قد سلكوا بهذا التعليم الطريق الذي يضرهم ولا ينفعهم، وأصبحوا بذلك عاصين لما نصحهم به الملكان عند تعليم السحر.
وفي هذه الجملة الكريمة زيادة تنبيه على تفاهة عقول المشتغلين بالسحر للأذى ومبالغة في تجهيل المصدقين لهم، لأن الساحر- مهما بلغت براعته- فلن يستطيع أن يمنع شيئا أراده الله، ولا أن يأتى بشيء منعه الله مادام الأمر كذلك فالمشتغل به، والمصدق له كلاهما وقع في ضلال مبين.
وقد أفادت الجملة الكريمة بجمعها بين إثبات الضر ونفى النفع مفاد الحصر فكأنه- سبحانه- يقول: ويتعلمون ما ليس إلا ضررا بحتا.
ثم بين- سبحانه- مآل أولئك اليهود التاركين للحق، والمتبعين للباطل فقال تعالى:
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أى: ولقد علم أولئك اليهود الذين نبذوا تعاليم كتابهم واتبعوا السحر، أن من استبدل السحر بكتاب الله ليس له من حظ في الجنة، لأنه قد اختار الضلال وترك الهدى، وعلمهم مرجعه إلى أن التوراة قد حرمت عليهم تعلم السحر أو تعليمه للأذى والضرر، وشددت العقوبة على مرتكبه، وعلى متبع الجن والشياطين والكهان.
فالضمير في عَلِمُوا يعود إلى أولئك اليهود الذي تركوا كتاب الله واستبدلوا به السحر.
وأكد- سبحانه- علمهم بضرر السحر بقوله وَلَقَدْ عَلِمُوا للإشارة إلى أن اختيارهم للسحر لم ينشأ عن جهلهم بضرره، وإنما هم الذين اختاروه ومالوا إليه متعمدين وعالمين بعاقبته السيئة.
ثم قال تعالى: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
شروا: بمعنى باعوا، وبيع الأنفس هنا معناه بيع نصيبها من الجنة. ونعيمها.
والمعنى: ولبئس شيئا باع به أولئك السحرة حظوظ أنفسهم تعلم ما يضر من السحر والعمل به، ولو كانوا ممن ينتفعون بعلمهم لما فعلوا ذلك.
وأثبت لهم العلم في قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ثم نفاه عنهم في قوله تعالى:
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ جريا على الأسلوب المعروف في فنون البلاغة من أن العالم بالشيء إذا لم يعمل بموجب علمه نزل منزلة الجاهل ونفى عنه العلم كما ينفى عن الجاهلين.
وإلى هذا المعنى الذي قررناه أشار صاحب الكشاف بقوله.
فإن قلت كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ على سبيل التوكيد القسمي، ثم نفاه عنهم في قوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ؟
قلت: معناه لو كانوا يعملون بعلمهم. جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه «١».
ثم بين- سبحانه- المنافع التي تعود عليهم لو اتبعوا الحق، بعد أن بين الاضرار التي ترتبت على اتباعهم للباطل فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أى: لو أن أولئك اليهود النابذين لكتاب الله المتبعين للأوهام والأباطيل، آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو بالتوراة إيمانا حقا، واتقوا الله، فاجتنبوا ما يؤثمهم ومنه السحر والتمويه، لكانت لهم مثوبة «٢» من عند الله، هي خير لهم من السحر وغيره، ولو كانوا من اولى العلم النافع لفهموا ذلك، واستبدلوا بالسحر الإيمان والتقوى، ولكنهم قوم لا يعقلون.
فقوله تعالى: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ جواب للو الشرطية، وأصل التركيب، لأثيبوا مثوبة
(٢) المثوبة: اسم مصدر أثاب أعطى الثواب، والثواب الجزاء الذي يعطى للغير. [.....]
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف «١» بقوله: (فإن قلت: كيف أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو؟ قلت: لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها، كما عدل عن النصب إلى الرفع في سلام عليكم لذلك.
وقال الإمام الآلوسى: (المثوبة: اسم مصدر أثاب إذا أعطى الثواب، والثواب الجزاء الذي يعطى للغير. ولم يقل- سبحانه- لمثوبة الله مع أنه أخصر، ليشعر التنكير بالتقليل فيفيد أن شيئا قليلا من ثواب الله- تعالى- في الآخرة الدائمة، خير من متاع كثير في الدنيا الفانية، فكيف وثواب الله- تعالى- كثير دائم، وفيه من الترغيب والترهيب المناسبين للمقام ما لا يخفى «٢».
وقوله تعالى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شرط آخر محذوف الجواب لدلالة ما تقدم عليه، وحذف مفعول يُعَلِّمُونَ لدلالة لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ عليه. أى: لو كانوا يعلمون مثوبة الله لما اشتروا السحر بالإيمان.
وبذلك تكون الآيات الكريمة التي سقناها في هذا المبحث قد دمغت بنى إسرائيل بجحود الحق، ونبذهم لتعاليم كتابهم وإيثارهم عليها الأكاذيب والأباطيل، وسيرهم في طريق الشر عن تعمد وإصرار، وعدم عملهم بما يعلمون لانحراف طباعهم، وحماقة تفكيرهم وسوء تدبيرهم.
واستحواذ الشيطان عليهم.. فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ.
هذا، ويحسن بنا قبل أن نختم هذا البحث، أن نذكر كلمة موجزة عن السحر فنقول:
السحر: في أصل اللغة معناه: الصرف، ومنه قوله تعالى فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أى: فكيف تصرفون عن الحق إلى الباطل.
وقد ذكر السحر في القرآن والسنة، واتفق علماء المسلمين على أن هناك شيئا يسمى سحرا، إلا أنهم اختلفوا في تصويره.
فجمهور أهل السنة ذهب إلى أن للسحر آثارا حقيقية، وأن الساحر قد يأتى بأشياء غير عادية، إلا أن الفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله- تعالى- واستدلوا على ذلك بأدلة منها.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١ ص ٣٨٤.
قال الإمام ابن كثير: قوله تعالى وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك، يعنى السواحر قال مجاهد «إذا رقين ونفثن في العقد» «١».
فالآية الكريمة تدل على أن للسحر آثارا حقيقة، وإلا لما أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يستعيذ من شرور السحرة.
ثانيا: قال الإمام البخاري: - في باب هل يستخرج السحر-: حدثني عبد الله بن محمد، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: أول من حدثنا به ابن جريج يقول: حدثني آل عروة عن عروة، فسألت هشاما عنه فحدثنا عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سحر حتى كان يرى أنه يأتى النساء ولا يأتيهن، قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذلك. فقال: «يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتانى فيما استفتيته فيه؟ أتانى رجلان فقعد أحدهما عند رأسى والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسى للآخر، ما بال الرجل: مطبوب، قال ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم- رجل من بنى زريق حليف اليهود كان منافقا- قال.
وفيم: قال: في مشط ومشاطه، قال: وأين؟ قال في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان. قالت: فأتى البئر حتى استخرجه، فقال: «هذه البئر التي أريتها وكأن نخلها رءوس الشياطين» قال فاستخرج- أى السحر- قالت: فقلت أفلا- أى- تنشرت؟ فقال: «إن الله قد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا» «٢».
فهذا الحديث الصحيح يفيد أن السحر قد أثر في جسم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بنوع من المرض أو الثقل، دون أن يكون لذلك أدنى تأثير في عقله.
(٢) فتح الباري: لابن حجر ج ١٢ ص ٢٤٥ طبعة الحلبي.
وهذا تفسير موجز لمفردات الحديث: «هشام» هو ابن عروة بن الزبير ومعنى: «أفتانى فيما استفيته فيه» : أجابنى فيما دعوته من أن يطلعني على حقيقة ما «مطبوب» أى مسحور يقال: طب الرجل- بالضم- إذا سحر.
«المشط» : الآلة التي يسرح بها شعر الرأس واللحية «والمشاطة» : ما يخرج من الشعر إذا مشط «وجف طلع نخلة ذكر» هو الغشاء الذي يكون على الطلع ويطلق على الذكر والأنثى فلهذا قيده بالذكر. «والراعوفة» حجر يوضع على رأس البئر يقوم عليه المستقى وقد يكون في أسفلها «وبئر ذروان» : اسم لموضع البئر» كأن ماءها نقاعة الحناء» : يعنى أحمر اللون. «أفلا أى تنشرت» : النشرة- بالضم- ضرب من العلاج يعالج به من يظن أن به سحرا أو مسا من الجن قيل لها ذلك: لأنه يكشف بها عما خالطه من الداء.
وقال الإمام القرطبي «الأدلة متوفرة على أن للسحر حقيقة، فهو مقطوع به بإخبار الله- تعالى- ورسوله على وجوده ووقوعه، وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق، ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان، وتكلم الناس فيه، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله «٢».
وقال الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. قال المازري: «مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة. خلافا لمن أنكر ذلك ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها. وقد ذكره الله- تعالى- في كتابه وذكر أنه مما يتعلم. وذكر فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به. وأنه يفرق بين المرء وزوجه. وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له، وهذا الحديث أيضا مصرح بإثباته. وأنه أشياء دفنت وأخرجت ولا يستنكر في العقل أن الله- سبحانه- يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام، أو المزج بين قوى على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر. قال: وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث لسبب آخر. فزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع وهذا الذي ادعاه بعض المبتدعة باطل لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك. قال القاضي عياض: وقد جاءت روايات مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على قوله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى قوله في الحديث: «حتى يظن أنه يأتى أهله ولا يأتيهن» أن يظهر من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك كما يعترى المسحور «٣».
أما المعتزلة فقد ذهبوا إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تخييل وتمويه كما قال تعالى في سحرة فرعون فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فأخبر- سبحانه-
(٢) تفسير القرطبي ج ٢ ص ٦٤.
(٣) صحيح مسلّم «كتاب السلام» باب السحر ج ٤ ص ١٧١٩ شرح وتحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي.
والذي نراه أن السحر على أضرب منها:
أولا: ضرب يترتب على مزاولته قلب الحقائق كقلب الإنسان حيوانا وعكسه، وهذا قد منعه المعتزلة بحجة أن الساحر لو أمكنه ذلك لا لتلبس فعله هذا بمعجزات الأنبياء. وأهل السنة أجازوا وقوعه وإن كان لم يقع فعلا. ويفرقون بينه وبين المعجزة إن وقع، بأن المعجزة خارق يظهر على يد من يدعى النبوة على سبيل التحدي والمعارضة، والسحر ليس فيه دعوى نبوة ولا معارضة.
هذا، مع ملاحظة أن السحر يمكن تعلمه وتعليمه، ولا يظهر إلا على يد شرير بخلاف المعجزة.
قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين: وهذا النوع لم يقع لنا دليل في الشريعة على وقوعه، وربما كانت الحاجة إلى الفرق بين المعجزة والسحر فرقا واضحا تقتضي عدم وقوعه، فالساحر لا يبلغ أن يقلب العصا ثعبانا، ولا أن يفلق البحر فتمر بين فرقيه الجيوش ولا أن يجعل الماء ينبع بين الأصابع فتروى منه العطاش، أعنى أنه لا يجرى على يده من خوارق العادات، مثل ما يجرى على أيدى الأنبياء للإعجاز «١».
ثانيا: أن يزاول بعض أرباب النفوس الخبيثة أفعالا يترتب عليها الضرر بدون مماسة ولا ملابسة لمن وقع عليه الضرر، وهذا الضرب قد جوز وقوعه أهل السنة ومنعه المعتزلة، ومن أمثلته ما يفعله السحرة للتفريق بين المرء وزوجه والظاهر في هذا الضرب قول أهل السنة لأن القرآن الكريم قد حكى عن السحرة انهم يتعلمون من السحر ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وقد صح الحديث أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنه حينما استخرج السحر خف جسمه صلّى الله عليه وسلّم كأنما نشط من عقال.
ثالثا: مزاولة أسباب يترتب عليها آثار ظاهرية لا حقيقية وهذا الضرب واقع باتفاق بين أهل السنه والمعتزلة، وقد حكاه القرآن الكريم عن سحرة فرعون في قوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ
هذا، وقد حذر الإسلام من تعاطى السحر للاذى، وجاءت تعاليمه بذمه وتحريمه، وتوعدت مرتكبه بالعقوبات الأليمة، ففي الحديث الشريف «حد الساحر ضربه بالسيف».
وقد أفتى بعض الفقهاء بقتل الساحر لأنه زنديق، وبعضهم أفتى بأن الساحر إذا كان قد أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه، وإن كان قد أحدث به ما لا قصاص فيه، حكم عليه بدية مناسبة.
وبعد، فهذه كلمة ذكرناها عن السحر، لم نقصد بها الخوض في تفصيلاته. وإنما قصدنا بها إعطاء القارئ فكرة مختصرة عنه بمناسبة حديثنا عن رذائل اليهود التي منها نبذهم لكتاب الله واتباعهم للأوهام والأباطيل والأكاذيب.
ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم بألفاظ معينة حتى لا يتخذها اليهود ذريعة للإساءة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
راعِنا من المراعاة، وهي المبالغة في الرعي بمعنى حفظ الغير، وإمهاله، وتدبير أموره، وتدارك مصالحه، وكان المؤمنون يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حدثهم بحديث راعنا يا رسول الله، أى: راقبنا وانظرنا حتى نفهم كلامك ونحفظه، فتلقف اليهود هذه الكلمة لموافقتها كلمة سيئة عندهم، وأخذوا يلوون بها ألسنتهم، ويقولون «راعنا» يا أبا القاسم، يظهرون أنهم يريدون طلب المراعاة والانتظار، وهم يريدون في الحقيقة الإساءة إليه صلّى الله عليه وسلّم إذ أن هذه الكلمة عبرية كانوا يتسابون بها يقصدون جعله راعيا من رعاة الغنم أو من الرعونة التي هي الحمق والخفة، فنهى الله- تعالى- المسلمين عن استعمال هذه الكلمة حتى لا يتخذها اليهود وسيلة إلى إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم والتنقيص من شأنه.
قال قتادة: «كانت اليهود تقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم راعنا سمعك، يستهزئون بذلك وكانت- هذه الكلمة- في اليهود قبيحة».
وقال الإمام ابن كثير: «نهى الله- تعالى- عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم،
اسمع لنا، يقولوا راعنا يورون بالرعونة كما قال تعالى:
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا، إنما يقولون السام عليكم والسام هو الموت ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بقولنا وعليكم، وأنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا» «١».
وقال الإمام ابن تيمية: «كان المسلمون يقولون راعنا يا رسول الله وأرعنا سمعك، يعنون المراعاة، وكانت هذه اللفظة سبا قبيحا بلغة اليهود فلما سمعتها اليهود اغتنموها وقالوا فيما بينهم: كنا نسب محمدا سرا فأعلنوا له الآن بالشتم، وكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد ويضحكون فيما بينهم، فسمعها «سعد بن معاذ» ففطن لهم، - وكان يعرف لغتهم- فقال لليهود: عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده يا معشر اليهود لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأضر بن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها، فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا لكي لا يتخذ اليهود ذلك سبيلا إلى شتم الرسول صلّى الله عليه وسلّم «٢».
ثم أرشد الله- تعالى- المؤمنين إلى ما يقولونه بدل هذه الكلمة فقال تعالى: وَقُولُوا انْظُرْنا أى: لا تقولوا تلك الكلمة- وهي راعِنا أيها المؤمنون لئلا يتخذها اليهود ذريعة لسب نبيكم صلّى الله عليه وسلّم وقولوا مكانها «انظرنا» أى: انتظرنا وتأن معنا حتى نفهم عنك، من نظر بمعنى انتظر تقول نظرت الرجل انظره إذا انتظرته وارتقبته، وبهذا المعنى ورد قوله تعالى انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أى: انتظرونا نقتبس من نوركم.
فالآية الكريمة تنبيه وإرشاد إلى الأدب الجميل، وهو أن يتجنب الإنسان في مخاطباته الألفاظ التي توهم جفاء أو تنقيصا في مقام يقتضى إظهار مودة أو تعظيم.
ثم بين- سبحانه- مصير اليهود المؤلم جزاء تعديهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ، أى: لهؤلاء اليهود الذين اتخذوا كلمة راعِنا وسيلة إلى سب الرسول صلّى الله عليه وسلّم عذاب أليم جزاء كفرهم وتطاولهم وسفاهتهم.
(٢) كتاب «الصارم المسلول على شاتم الرسول، ص ١٤١ للإمام ابن تيمية.
١- مر يهودي برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال السام عليك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (وعليك)، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه- أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال يقول (السام عليك) قالوا يا رسول الله ألا نقتله. قال: (لا، إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم) «١».
٢- وأخرج الشيخان عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:
دخل رهط من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا:
السام عليك قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: عليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله» فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟
قال «لقد قلت وعليكم» «٢».
٣- وروى مسلّم عن جابر بن عبد الله قال: «سلّم ناس من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقال: «وعليكم» فقالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا: قال بلى قد سمعت فرددت عليهم، وإنما نجاب ولا يجابون علينا» «٣».
وإذن فالآية الكريمة وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا إلخ، وهذه الأحاديث الشريفة تثبت أن اليهود كانوا يستعملون من بين مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية القول الملتوى القبيح، والخطاب المحرف السيئ، ولكن الله- تعالى- أحبط خطتهم، ونهى المؤمنين عن استعمال الألفاظ التي كان يتخذها اليهود ذريعة لبلوغ مآربهم، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يرد عليهم بما يغيظهم ويخزيهم، وبذلك ذهبت مكايد اليهود أدراج الرياح وأيد الله- تعالى- رسوله والمؤمنين بقوته ونصره.
ثم نبه القرآن المؤمنين إلى ما يضمره لهم المشركون وأهل الكتاب وعلى رأسهم اليهود- من شرور وأحقاد فقال- تعالى:
(٢) أخرجه البخاري- واللفظ له- في باب «كيف يرد على أهل الذمة السلام، ج ٨ ص ٧٠ وأخرجه مسلّم في كتاب السلام، ج ٤ ص ١٨٠٦ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
(٣) صحيح مسلّم: باب «النهى عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم من «كتاب السلام» ج ٤ ص ١٢٠٧.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٥]
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)ما يَوَدُّ أى: ما يجب، إذ الود محبة الشيء مع تمنيه، يقال: ود فلان كذا يوده ودا ومودة بمعنى أحبه وتمناه.
قال صاحب الكشاف: «ومن الأولى في الآية للبيان، لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان، أهل الكتاب والمشركون، والثانية مزيدة لاستغراق الخير والثالثة لابتداء الغاية» «١».
وقوله- تعالى-: ما يَوَدُّ.. إلخ الآية بيان لما يبيته الكافرون- خصوصا اليهود- للمسلمين من حقد وكراهية وتحذير لهم من الاطمئنان إليهم، والثقة بهم.
وفي التعبير بقوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ دون ما يود أهل الكتاب تنبيه إلى أنهم قد كفروا بكتبهم، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها لصدقوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم الذي أمرتهم كتبهم بتصديقه واتباعه.
وعطف عليهم المشركين ليدل على أن عبدة الأصنام- أيضا- يضاهون كفرة أهل الكتاب، في كراهة نزول أى خير على المؤمنين، وأن الجميع يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله عن طريق نبيه صلّى الله عليه وسلّم من دين قويم، وقرآن كريم، وهداية عظمى، وأخوة شاملة، وأمن بعد خوف، وقوة بعد ضعف.
والخير: النعمة والفضل، والمراد به في الآية الكريمة النبوة وما تبعها من الوحى الصادق، والقرآن العظيم المشتمل على الحكمة الرائعة والحجة البالغة والبلاغة الباهرة والتوجيه النافع.
وأهل الكتاب قد كرهوا ذلك للمؤمنين لعنادهم وحسدهم، وكراهتهم أن تكون النبوة في رجل عربي ليس منهم.
والمشركون كرهوا ذلك- أيضا- لأن في انتشار الإسلام، وفي تنزيل الوحى على النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يخيب آمالهم في إبطال الدعوة الإسلامية، وإضعاف شوكتها والنصر على أتباعها.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
والاختصاص بالشيء: الانفراد به، تقول: اختص فلان بكذا أى انفرد به، ويستعمل متعديا إلى المفعول به، فتقول: اخصصت فلانا بكذا أى أفردته به وجعلته مقصورا عليه.
وعلى هذا الوجه ورد الاختصاص في الآية الكريمة.
وقيد- سبحانه- اختصاص رحمته بمن يشاء ليعلم الناس جميعا، أن إفراد بعض عباده بالرحمة منوط بمشيئته وحدها، وليس لأحد كائنا من كان أى تأثير في ذلك.
ومفعول المشيئة محذوف كما هو الشأن فيه إذا تقدم عليه كلام أو تأخر عنه. أى: يختص برحمته من يشاء اختصاصه بها، وهي تتناول النبوة. والقرآن، والنصر، وكل ذلك مما لا يود الكافرون إنزاله على المؤمنين.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تذييل لما سبق أى كل خير يناله العباد في دينهم أو دنياهم إنما هو من عنده- تعالى- يتفضل به عليهم، وفي ذلك إشعار للحاسدين بأن يقلعوا عن حسدهم، وتعريض باليهود وغيرهم ممن حسدوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم على أن آتاه الله النبوة، فكأنه- سبحانه- يقول لهم: إنى أصطفى للنبوة من أشاء من عبادي وهي لا تدرك بالأمانى، ولكني أهبها لمن هو أهل لها.
وبذلك تكون الآية الكريمة قد حذرت المؤمنين مما يبيته لهم الكافرون من حقد وبغضاء وبشرتهم بأن ما يبيتونه لن يضرهم ما داموا معتصمين بكتاب ربهم، وسنة نبيهم.
ثم انتقل القرآن إلى الحديث عن موضع النسخ الذي أثار اليهود حوله الشبهات، وجادلوا فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم.
لقد استنكر اليهود أن يبدل الله آية بآية، أو حكما بحكم، وقالوا: ألا ترون إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، ما هذا من شأن الأنبياء وما هذا القرآن إلا من كلام محمد، يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا.
ولم يترك القرآن الكريم تلك الشبهات التي أثارها اليهود حول شريعة الإسلام بدون
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)
والنسخ في اللغة الإبطال والإزالة، يقال. نسخت الشمس الظل تنسخه، إذا أذهبته وأبطلته.
وفي عرف الشرع: بيان انتهاء مدة الحكم بخطاب لولا هذا الخطاب لاستمر الحكم على مشروعيته، بمقتضى النص الذي تقرر به أولا.
وننسها من أنسى الشيء جعله منسيا.
فمعنى نسخ الآية في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ رفع حكمها مع بقائها.
ومعنى إنسائها في قوله- تعالى-: نُنْسِها رفع الآية من نظم القرآن جملة.
وسمى رفع الآية من نظم القرآن جملة إنساء، لأن من شأن ما لا يبقى في النظم أن ينساه الناس لقلة جريانه على الألسنة بالتلاوة والاحتجاج به.
ويصح إبقاء الإنساء على حقيقته، وهو إذهاب الآية من القلوب وإزالتها من الحافظة، بعد أن يقضى الله بنسخها.
وإنما قلنا بعد أن يقضى الله بنسخها، لأن إنساء الناس آية لم تنسخ إضاعة لشيء من القرآن، والله يقول إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «١».
ووجه ذكر هذه الحال بوجه خاص، أن ما ينسى لعدم حضوره في الذهن لا تعرف الآيات التي تقوم مقامه، فربما يقع في الوهم أنه ذهب من غير أن ينزل من الآيات ما يغنى غناءه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ننسأها بالهمزة، من النساء وهو التأخير وعلى هذه القراءة يحمل النسخ في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ على النوعين السابقين وهما: نسخ الآية حكما فقط، ونسخها حكما وتلاوة.
ومعنى ننسأها تؤخر إنزالها إلى وقت ثان فلا ننزلها، وننزل ما يقوم مقامها في القيام بالمصلحة.
والخيرية والمماثلة في قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ترجع إلى ثواب العمل بها.
فقد يكون ثواب العمل بالناسخة أوفر من ثواب العمل بالمنسوخة قبل نسخها، وقد يكون مماثلا له، وإن كانت كل واحدة من الآيتين الناسخة والمنسوخة بالنظر إلى الوقت المقدر للعمل بها، أقوم على المصلحة من الأخرى.
وبعد أن أثبت- سبحانه- أن النسخ جائز وواقع بقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ساق جملة كريمة في صورة الاستفهام التقريرى، مخاطبا بها الأمة الإسلامية في شخص نبيها صلّى الله عليه وسلّم لتكون دليلا على هذا الثبوت، وهذه الجملة هي قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ والمعنى أن الله- تعالى- متمكن من أن يفعل ما يشاء على الوجه الذي تقتضيه حكمته وإرادته، ومن كان هذا شأنه فله أن يأمر في وقت بأمر، ثم ينسخه أو يستبدل به آخر لمقتضيات الظروف والأحوال.
ثم أقام- سبحانه- الدليل على كمال قدرته وشمولها لكل شيء فقال:
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.
والمعنى: أنه- سبحانه- مالك لجميع الكائنات العلوية والسفلية، وأنه هو المتصرف كما يشاء في ذواتها وأحوالها، وأنه يتصرف في أمورهم ويجريها على حسب ما يصلحهم، وهو أعلم بما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ وليس للناس من أحد يتولى أمورهم، ويعينهم على أعدائهم سواه، ومن كان الله وليه ونصيره علم يقينا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له في دنياه وأخراه.
فالآية واقعة موقع الدليل على ما تضمنته الجملة السابقة من إحاطة قدرته- سبحانه- بكل شيء.
ثم حذر القرآن الكريم المؤمنين من الاستماع إلى وساوس اليهود، تثبيتا لقلوبهم، وتقوية لإيمانهم، فقال تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ، وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ والمعنى: لا يصح لكم أيها المؤمنون أن تقترحوا على رسولكم محمد صلّى الله عليه وسلّم مقترحات تتنافى مع الإيمان الحق كأن تسألوه أسئلة لا خير من ورائها لأنكم لو فعلتم ذلك لصرتم كبني إسرائيل الذين طلبوا من نبيهم موسى- عليه السلام- بعد أن جاءهم بالبينات- مطالب تدل على تعنتهم وجهلهم فقالوا له: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «١» وقالوا له: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «٢» ولو صرتم مثلهم لكنتم ممن يختار الكفر على الإيمان، ولخرجتم عن الصراط المستقيم الذي يدعوكم إليه نبيكم صلّى الله عليه وسلّم.
والاستفهام في الآية الكريمة للإنكار، وفي أسلوبها مبالغة في التحذير من الوقوع فيما وقع فيه اليهود من تعنت مع رسولهم، إذ جعل محط الإنكار إرادتهم للسؤال، وفي النهى عن إرادة الشيء، نهى عن فعله بأبلغ عبارة.
ثم نبه الله تعالى عباده المؤمنين إلى ما يضمره لهم اليهود من أحقاد وشرور فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٩]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)
(٢) سورة الأعراف الآية ١٣٨.
وقوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً بيان للون من ألوان الشرور التي يضمرها أهل الكتاب وعلى رأسهم اليهود، وهو تمنيهم ارتداد المسلمين عن دينهم الحق، إلى الكفر الذي أنقذهم الله- تعالى- منه.
وإنما أسند- سبحانه- هذا التمني الذميم إلى الكثرة منهم، إنصافا للقلة المؤمنة التي لم ترتض أن ينتقل المسلمون إلى الكفر بعد أن هداهم الله إلى الإسلام.
وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ مبالغة في ذمهم بسبب ما تمنوه وأحبوه إذ ودوا- وهم أهل كتاب- أن يحل الكفر محل الإيمان، وفيه إشعار بأن ما تمنوه بعيد الحصول لأن الإيمان متى خالطت بشاشته القلوب، منع صاحبه من الانتقال إلى الكفر.
ثم بين- سبحانه- أن الذي حملهم على هذا التمني الذميم هو الحقد والحسد، فقال تعالى: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ أى: أن هذا التمني لم يكن له من سبب أو علة سوى الحسد الذي استولى على نفوسهم، واستحوذ على قلوبهم فجعلهم يحسدون المؤمنين على نعمة الإيمان ويتمنون التحول عنه إلى الكفر، فالجملة الكريمة علة لما تضمنته الجملة السابقة من محبتهم نقل المؤمنين إلى الكفر.
قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين: «والحسد: قلق النفس من رؤية نعمة يصيبها إنسان، وينشأ عن هذا القلق تمنى زوال تلك النعمة عن الغير وتمنى زوال النعم مذموم بكل لسان، إلا نعمة أصابها فاجر أو جائر يستعين بها على الشر والفساد، فإن تمنى زوالها كراهية للجور والفساد لا يدخل في قبيل الحسد المذموم فإن لم تتمن زوال النعمة عن شخص وإنما تمنيت لنفسك مثلها فيه الغبطة والمنافسة، وهي محمودة لأنها قد تنتهي بالشخص إلى اكتساب محامد لولا المنافسة لظل في غفلة عنها، والحسد قد يهجم على الإنسان ولا يكون في وسعه دفعه لشدة النفرة بينه وبين المحسود، وإنما يؤاخذ الإنسان على رضاه به، وإظهار ما يستدعيه من القدح في المحسود، والقصد إلى إزالة النعمة عنه» «١».
والجملة الكريمة حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ تدل على أن أولئك اليهود يعتقدون صحة دين الإسلام، إذ الإنسان لا يحسد غيره على دين إلا إذا عرف في نفسه صحته، وأنه طريق الفوز والفلاح.
وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ يدل على أن محبة اليهود لتحويل المؤمنين من الكفر إلى الإيمان وقعت، بعد أن ظهر لهم صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعد أن تبين لهم أن الصفات التي وردت في التوراة بشأن المبشر به، لا تنطبق إلا عليه، وإذا فكفرهم به لم يكن عن جهل وإنما كان عن عناد وجمود على الباطل، وذلك هو شأن أحبارهم الذين كانوا على علم بالتوراة، وبتبشيرها بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
ثم أمر الله تعالى المؤمنين في ختام الآية أن يقابلوا شرور اليهود بالعفو والصفح، وأن يوادعوهم إلى حين فقال تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
العفو: ترك العقاب على الذنب. والصفح: ترك المؤاخذة عليه، فكل صفح عفو ولا عكس.
والمعنى: عليكم أيها المؤمنون أن تتركوا معاقبة أولئك اليهود الحاسدين وأن تعرضوا عن رفع السيف في وجوههم حتى يأذن الله لكم في أن تشفوا صدوركم منهم، ويبيح قتالهم الذي يترتب عليه نصركم، إذ أن كل شيء داخل تحت سلطان قدرته- تعالى-.
فالمراد بالأمر في قوله تعالى: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ الإذن للمسلمين بقتالهم في الوقت الذي يختاره الله- تعالى- لهم، عند ما تكون لهم القوة التي يتمكنون بها من جهاد أعدائهم.
قال صاحب المنار: قال الأستاذ الإمام: «وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلتهم هم أصحاب القدرة والشوكة لأن الصفح إنما يطلب من القادر على خلافه كأنه يقول: لا يغرنكم أيها المؤمنون كثرة أهل الكتاب مع باطلهم، فإنكم على قلتكم أقوى منهم بما أنتم عليه من الحق، فعاملوهم معاملة القوى العادل، للضعيف الجاهل وفي إنزال المؤمنين على قلتهم منزلة الأقوياء، ووضع أهل الكتاب على كثرتهم موضع الضعفاء، إيذان بأن أهل الحق هم المؤيدون بالعناية الإلهية، وأن العزة لهم ما ثبتوا على حقهم، ومهما يتصارع الحق
وقد أكد الله- تعالى- وعده بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أى أن كل شيء داخل تحت قدرته النافذة التي لا يعجزها شيء.
وقد أنجز الله- تعالى- وعده، فأذن للمؤمنين في الوقت المناسب بقتال اليهود وتأديبهم، وقد ترتب على ذلك النصر للمؤمنين، والطرد والقتل لليهود الحاقدين.
وبعد أن أمر القرآن المؤمنين في الآية السابقة بالعفو والصفح عن أعدائهم لأن الحكمة تجعل العفو والصفح خيرا من العقوبة والتأنيب، انتقل بعد ذلك إلى أمرهم بالمحافظة على الشعائر التي تطهر قلوبهم، وتزكى نفوسهم فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٠]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)
فقد أمرهم- سبحانه- في هذه الآية بالمواظبة على عمودي الإسلام وهما العبادة البدنية التي تؤكد حسن صلة العبد يخالقه وهي الصلاة والعبادة المالية التي تؤلف بين قلوب الموسرين والمعسرين وهي الزكاة.
وجاءت جملة وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ بعد ذلك، لترغبهم في فعل الخير على وجه عام، ولتحثهم على التزود من الأعمال الصالحة سواء أكانت فرضا أم نفلا.
وقال لِأَنْفُسِكُمْ للإشعار بأن ما يقدمه المؤمن من خير إنما يعود نفعه إليه، وأنه سيجد عند الله نظير ذلك الثواب الجزيل، والأجر العظيم، وفي قوله، عند الله، إشارة إلى ضخامة الثواب، لأنه صادر من الغنى الحميد.
وجاءت جملة «إن الله بما تعلمون بصير» لتأكيد ذلك الوعد، فقد دلت على أن الله- تعالى- لا يخفى عليه عمل عامل قليلا كان أو كثيرا. وإذا كان عالما محيطا بكل عمل يصدر من الإنسان، كانت الأعمال محفوظة عنده- تعالى-، فلا يضيع منها عمل دون أن يلقى العامل جزاء يوم الدين.
كذلك من فوائد إظهار اسم الجلالة في مقام يجوز فيه الإضمار، أن تكون الجملة كحكمة تقال عند كل مناسبة، بخلاف ما لو أتى بدل الاسم الظاهر بالضمير فإن إلقاءه عند المناسبة يستدعى أن تذكر الجملة السابقة معها حتى يعرف المراد من الضمير.
ثم حكى القرآن لونا من ألوان المزاعم الباطلة التي درج عليها أهل الكتاب، ورد عليها بما يبطلها فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)
الضمير في «قالوا» يعود على أهل الكتاب من الفريقين.
والهود: جمع هائد أى متبع اليهودية وقدمهم القرآن الكريم على النصارى لتقدمهم في الزمان.
والمعنى: وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى لن يدخلها إلا من كان نصرانيا، إلا أن الآية الكريمة سلكت في طريق الإخبار عما زعموه مسلك الإيجاز، فحكت القولين في جملة واحدة، وعطفت أحد الفريقين على الآخر بحرف «أو» ثقة بفهم السامع، وأمنا من اللبس، لما عرف من التعادي بين الفريقين، وتضليل كل واحد منهما لصاحبه، ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عنهم وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا أى:
قالت اليهود: كونوا هودا تهتدوا، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا.
ولذا قال الإمام ابن جرير: «فإن قال قائل: وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع اختلاف مقالة الفريقين، واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه، وإنما عنى به وقالت اليهود: لن يدخل الجنة
وقوله تعالى: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ جملة معترضة قصد بها بيان أن ما يدعونه من أن الجنة خاصة بهم، ما هو إلا أمانى منهم يتمنونها على الله بغير حق ولا برهان. سولتها لهم أنفسهم التي استحوذ عليها الشيطان فخدعها بالأباطيل والأكاذيب.
واسم الإشارة «تلك» مشار به إلى ما تضمنه قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وهو يتضمن أمانى كثيرة: منها، أن اليهود أمنيتهم أنه لن يدخل الجنة غيرهم، والنصارى كذلك أمنيتهم أنهم هم وحدهم أصحاب الجنة، وكلا الفريقين يعتقد أن المسلمين ليسوا أهلا لها، ولهذا جاء خبر اسم الإشارة جمعا فقال تعالى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ.
ويرى صاحب الكشاف أن المشار إليه أمور قد تعددت لفظا وحكاها القرآن عنهم في قوله ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وفي قوله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وفي قوله: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى، وعبارته:
فإن قلت: لم قيل تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ وقولهم لن يدخل الجنة أمنية واحدة؟ قلت: أشير بها إلى الأمانى المذكورة وهو أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا، وأمنيتهم ألا يدخل الجنة غيرهم. أى تلك الأمانى الباطلة أمانيهم «٢».
ويرى صاحب الانتصاف: أن المشار إليه واحد وهو قولهم لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وجمع لإفادة أن تلك الأمنية قد تمكنت من نفوسهم وأشربتها قلوبهم. فقال:
والجواب القريب أنهم لشدة تمنيهم لهذه الأمنية، ومعاودتهم لها، وتأكدها في نفوسهم جمعت ليفيد جمعها أنها متأكدة في قلوبهم بالغة منهم كل مبلغ، والجمع يفيد ذلك، وإن كان مؤداه واحدا ونظيره قولهم: معى جياع، فجمعوا الصفة ومؤداها واحد، لأن موصوفها واحد، تأكيدا لثبوتها وتمكنها، وهذا المعنى أحد ما روى في قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ «٣» فإنه جمع «قليلا» وقد كان الأصل إفراده فيقال «لشرذمة قليلة» كقوله تعالى كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ لولا ما قصد إليه من تأكيد القلة بجمعها، ووجه إفادة الجمع في مثل هذا التأكيد، أن الجمع
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ١٣٠.
(٣) سورة الشعراء الآية ٥٤.
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يطالبهم بالدليل على صحة ما يدعون، فقال تعالى «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين».
أى قل- يا محمد- لهؤلاء الزاعمين أن الجنة لهم خاصة من دون الناس، هاتوا حجتكم على خلوص الجنة لكم، إن كنتم صادقين في دعواكم، لأنه لما كانت دعواهم الاختصاص بدخول الجنة لا تثبت إلا بوحي من الله وليس لمجرد التمني، أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يطالبهم بالدليل من كتبهم على صحة دعواهم، وهذه المطالبة من قبيل التعجيز لأن كتبهم خالية مما يدل على صحتها.
قال الإمام ابن جرير: «وهذا الكلام وإن كان ظاهره دعاء القائلين لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى إلى إحضار حجة على دعواهم، فإنه بمعنى التكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم، لأنهم ليسوا بقادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبدا» «٢».
هذا، ويؤخذ من الآية الكريمة بطلان التقليد في أمور الدين، وهو قبول قول الغير مجردا من الدليل، فلا ينبغي للإنسان أن يقرر رأيا في الدين إلا أن يسنده إلى دليل، كما أنه لا يقبل من غيره قولا إلا أن يكون مؤيدا بدليل.
أما عدم صحة التقليد في أصول الدين: أى فيما يرجع إلى حقيقة الإيمان فالأمر فيه جلى، لأنه يكتفى في إيمان الشخص بأى دليل ينشرح به صدره للإسلام، وتحصل له به الطمأنينة، كأن يستمد إيمانه بالله من التنبيه لحكمة الله في إتقان المخلوقات، أو في رعاية اللطف والرفق بالإنسان، ويستمد إيمانه بصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الاستماع إلى القران الكريم، أو من سيرته التي لم يظهر بمثلها أو بما يقرب منها بشر غير رسول، والقصد أن لا يكون إسلامه لمجرد أنه في بيئة إسلامية أو ولد من أب وأم مسلمين.
وأما التقليد في الفروع أى في الأحكام العملية، فالناس بالنظر إلى القدرة على تمييز الخطأ من الصواب درجات، فمن له قدرة على فهم الأدلة ومعرفة الراجح من الأحكام، لا يجوز أن يتلقى الحكم من غيره إلا مقرونا بدليل، وإن كان قاصرا عن هذه الدرجة أخذ بما يفتيه به العالم
(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٦٤٩.
ثم أبطل القرآن الكريم مدعاهم بطريق آخر وهو إيراد قاعدة كلية رتبت دخول الجنة على الإيمان والعمل الصالح بلا محاباة لأمة أو لجنس أو لطائفة فقال تعالى:
بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
بَلى حرف يذكر في الجواب لإثبات المنفي في كلام سابق، وقد صدرت الآية التي معنا بحرف «بلى» لإثبات ما نفوه وهو دخول غيرهم الجنة ممن لم يكن لا من اليهود ولا من النصارى، مادام قد أسلّم وجهه لله وهو محسن.
وقوله تعالى: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ المراد به اتجه إليه، وأذعن لأمره، وأخلص له العبادة، وأصل معناه الاستسلام والخضوع.
وخص الله- تعالى- الوجه دون سائر الجوارح بذلك، لأنه أكرم الأعضاء وأعظمها حرمة، فإذا خضع الوجه الذي هو أكرم أعضاء الجسد فغيره من أجزاء الجسد أكثر خضوعا.
وقوله تعالى: وَهُوَ مُحْسِنٌ من الإحسان، وهو أداء العمل على وجه حسن أى: مطابق للصواب وهو ما جاء به الشرع الشريف.
والمعنى: ليس الحق فيما زعمه كل فريق منكم يا معشر اليهود والنصارى من أن الجنة لكم دون غيركم، وإنما الحق أن كل من أخلص نفسه لله، وأتى بالعمل الصالح على وجه حسن، فإنه يدخل الجنة، كما قال تعالى: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وقد أفادت الآية الكريمة ما يأتى:
(أ) إثبات ما نفوه من دخول غيرهم الجنة.
(ب) بيان أنهم ليسوا من أهل الجنة، إلا إذا أسلموا وجوههم لله، وأحسنوا له العمل فيكون ذلك ترغيبا لهم في الإسلام، وبيانا لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة، لكي يقلعوا عما هم عليه، ويعدلوا عن طريقتهم المعوجة.
(ج) بيان أن العمل المقبول عند الله- تعالى- يجب أن يتوفر فيه أمران:
أولهما: أن يكون خالصا لله وحده.
ثانيهما: أن يكون مطابقا للشريعة التي ارتضاها الله تعالى وهي شريعة الإسلام.
وبذلك تكون الآيتان الكريمتان قد أبطلتا دعوى اليهود أن الجنة لهم دون غيرهم، وأثبتتا أن مزاعمهم هذه ما هي إلا من قبيل الأمانى والأوهام وكذبتهم في أن يكون عندهم أى برهان أو دليل على ما يدعون ثم أصدرتا حكما عاما وهو أن الجنة ليست خاصة لطائفة دون أخرى، وإنما هي لكل من أسلّم وجهه لله وهو محسن.
ثم بين القرآن بعد ذلك أن أهل الكتاب قد دأبوا على تضليل بعضهم البعض، وأن الخلاف بينهم قد أدى إلى التنازع والتخاصم فقال:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٣]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
فالآية الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى.. إلخ، لزيادة بيان طبيعة أهل الكتاب، المعوجة، وأن رمى المخالف لهم بأنه ضال شنشنة فيهم.
والشيء: يطلق على الموجود، أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وقد ينفى مبالغة في عدم الاعتداد به واليهود كفرت عيسى- عليه السلام- وما زالوا يزعمون أن المسيح المبشر به في التوراة لم يأت، وسيأتى بعد، فهم يعتقدون أن النصارى باتباعهم له ليسوا على أمر حقيقى من
وجملة وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ حالية، والكتاب للجنس. أى: قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب، إذ اليهود يقرءون التوراة والنصارى يقرءون الإنجيل، وحق من حمل التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله وآمن به ألا يكفر بالباقي، لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني، شاهد بصحته وكذلك كتب الله جميعا متواردة على تصديق بعضها البعض.
وقوله: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ معناه: كما أن أهل الكتاب قد قال كل فريق منهم فيمن خالفه إنه ليس على شيء من الدين الحق. فكذلك قال الذين لا يعلمون، وهم مشركو العرب، في شأن المسلمين: إنهم ليسوا على شيء من الدين الحق، فتشابهت قلوب هؤلاء وقلوب أولئك في الزيغ والضلال.
والهدف الذي ترمى إليه هذه الجملة، هو أن إنكار اليهود والنصارى لرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم لا ينبغي أن يثير شبهة على عدم صحتها، حيث يسبق إلى أذهان الضعفاء من الناس أن تلاوتهم للكتاب تجعلهم أعرف بالنبوة الصادقة من غيرها. فكأن القرآن يقول: إن تلاوتهم للكتاب وحدها لا ينبغي أن تكون شبهه.
ألا ترون اليهود والنصارى وهم يتلون الكتاب كيف أنكر كل فريق منهما أن يكون الآخر على شيء حقيقى من التدين، فسبيلهم في إنكار دين الإسلام كسبيل المشركين الذين أنكروه عن جهالة به.
وفي هذه الجملة توبيخ شديد لأهل الكتاب، حيث نظموا أنفسهم- مع علمهم- في سلك من لا يعلم.
وقوله: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. صدر بالفاء، لأن التوعد بالحكم بينهم يوم القيامة، وإظهار ما أكنته ضمائرهم من الهوى والضلال، متفرع عن هذه المقالات ومسبب عنها، وهو خبر المقصود منه التوبيخ والوعيد.
والضمير المجرور بإضافة بين إليه راجع إلى الفرق الثلاث، وما كانوا فيه يختلفون يعم ما ذكر وغيره وقيل الضمير يعود على اليهود والنصارى.
والاختلاف: تقابل رأيين فيما ينبغي انفراد الرأى فيه.
وبذلك تكون الآية الكريمة قد فضحت أهل الكتاب، حيث بينت كيف أن كل فريق منهم قد رمى صاحبه بالضلال، وفي هذا تثبيت للمؤمنين ونهى لهم عن أن ينهجوا نهجهم.
ثم تحدث القرآن عن سوء عاقبة من يسعى في خراب بيوت الله، فقال:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤)
ويرى بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن الرومانيين الذين غزوا بيت المقدس وخربوه. ويرى آخرون أنها نزلت في كفار قريش حين منعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية.
وكيفما كان سبب النزول، فالآية تشمل بذمها ووعيدها، كل من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها.
ومن اسم استفهام يراد منه النفي، أى: لا أظلم. والمساجد: جمع مسجد، وهو المكان الخاص للعبادة، مأخوذ من السجود، وهو وضع الجبهة على الأرض خضوعا لله وتعظيما.
والظلم: الاعتداء على حق الغير، بالتصرف فيه بما لا يرضى به، ويطلق على وضع الشيء في غير ما يستحق أن يوضع فيه، والمعنيان واضحان هنا.
وذكر اسم الله كناية عما يؤدى فيها من العبادات، إذ لا تكاد عبادة تخلو من ذكر اسمه- تعالى-:
والسعى في الأصل: المشي بسرعة في معنى الطلب والعمل.
والخراب: ضد التعمير، ويستعمل لمعنى تعطيل المكان وخلوه مما وضع له.
قال القرطبي: «وخراب المساجد قد يكون حقيقيا، كتخريب بختنصر والرومان لبيت
والمعنى: لا أحد أظلم ممن حال بين المساجد وبين أن يعبد فيها الله، وعمل في خرابها بالهدم كما فعل الرومان وغيرهم ببيت المقدس. أو بتعطيلها عن العبادة كما فعل كفار قريش، فهو مفرط في الظلم بالغ فيه أقصى غاية.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: فكيف قيل مساجد الله، وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد هو بيت المقدس أو المسجد الحرام؟ قلت لا بأس أن يجيء الحكم عاما، وإن كان السبب خاصا، كما تقول لمن آذى صالحا واحدا: ومن أظلم ممن آذى الصالحين، كما قال- عز وجل-: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ والمنزول فيه هو الأخنس بن شريق» «٢».
وقوله- تعالى-: أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ معناه: ما ينبغي لأولئك الذين يحولون بين المساجد وذكر الله ويسعون في خرابها أن يدخلوها إلا خائفين من الله- تعالى- لمكانها من الشرف والكرامة بإضافتها إليه- تعالى- أو إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم، فضلا عن أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها.
قال ابن كثير: «وفي هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام، ويذل لهم المشركين حتى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب، أو يقتل إن لم يسلّم، وقد أنجز الله هذا الوعد فمنع المشركين من دخول المسجد الحرام، وذلك أنه بعد أن تم فتح مكة للمسلمين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم من العام القابل مناديا ينادى برحاب منى «ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته».
وعند ما حج النبي صلّى الله عليه وسلّم عام حجة الوداع لم يجترئ. أحد من المشركين أن يحج أو أن يدخل المسجد الحرام. وهذا هو الخزي في الدنيا لهم، المشار إليه بقوله- تعالى-: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ لأن الجزاء من جنس العمل «٣».
ثم ختمت الآية الكريمة ببيان عاقبة هؤلاء الساعين في خراب مساجد الله فقال- تعالى-:
لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. أى: لهم في الدنيا هوان وذلة بسبب ظلمهم وبغيهم، ولهم في الآخرة عذاب عظيم يخلدون معه في النار. وليس هناك أشقى ممن
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ١٧٩. [.....]
(٣) تفسير ابن كثير ج ١ ص ١٠٨.
ثم أخذ القرآن في تسلية المسلمين الذين أخرجوا من مكة وفارقوا المسجد الحرام، مبينا لهم أن الجهات كلها لله- تعالى- فقال:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٥]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
المشرق والمغرب: مكان شروق الشمس وغروبها، والمراد بهما هنا جميع جهات الأرض.
واللام في قوله: «ولله» تفيد معنى الملك.
والتولية: التوجه من جهة إلى أخرى. و (ثم) اسم إشارة للمكان.
والوجه: الجهة، فوجه الله الجهة التي ارتضاها وأمر بالتوجه إليها وهي القبلة.
والمعنى: أن جميع الأرض ملك لله وحده، ففي أى مكان من المشرق والمغرب توليتم شطر القبلة التي أمركم الله بها ورضيها لكم، فهناك جهته- سبحانه- التي أمرتم بها، والتي تبرأ ذممكم باستقبالها.
ومعنى هذا: الإذن بإقامة الصلاة في أى مكان من الأرض دون أن تختص بها المساجد، ففي الحديث الشريف: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا».
وكأن الآية تومي، إلى أن سعى أولئك الظالمين في منع المساجد من ذكره- تعالى- وتخريبها، لا يمنع من أداء العبادة لله- تعالى-: لأن له المشرق والمغرب وما بينهما، فأينما حل الإنسان وتحرى القبلة المأمور بالتوجه إليها فهناك جهة الله المطلوب منه استقبالها.
وذيلت الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ لإفادة سعة ملكه أو سعة تيسيره على عباده في أمر الدين. أى: إن الله يسع خلقه جميعا برحمته وتيسيره وجوده وهو عليم بأعمالهم لا يخفى عليه عمل عامل أينما كان وكيفما كان.
ثم حكى القرآن بعض الأقاويل الباطلة التي افتراها أصحاب القلوب المريضة فقال-- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)
واتخذ: من الاتخاذ وهو الصنع والجعل والعمل. والولد: يطلق على الذكر والأنثى، والواحد والجمع.
والذين قالوا اتخذ الله ولدا هم اليهود والنصارى والمشركون، فقد حكى الله عن اليهود أنهم قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وحكى عن النصارى أنهم قالوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وحكى عن المشركين أنهم قالوا «الملائكة بنات الله» فيصح أن يكون الضمير في قالوا عائدا على الفرق الثلاث أو على بعضهم. فمن المعروف أن القرآن يجرى على الأسلوب المعروف في المخاطبات حيث يسند إلى القوم ما صدر من بعضهم فحين قال: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ أصبح من السائغ في صحة المعنى أن يكون هذا القول قد صدر من طائفة منهم:
وقوله: سُبْحانَهُ تنزيه له عما هو نقص في حقه ومحال عليه من اتخاذ الولد، لاقتضاء الوالدية: النوعية والجنسية والتناسل والافتقار، والتشبيه والحدوث وفي الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم».
وسبحان: مصدر لسبح بمعنى نزه، وهو منصوب بفعل لم يسمع من العرب التصريح به معه، والأصل: أسبحه سبحانه، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه، وأضيف إلى ضمير المنزه.
وقوله: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إضراب عن مقالاتهم التي نسبوا بها إلى الله اتخاذ الولد، وشروع في الاستدلال على بطلانها.
واللام في قوله: لَهُ للاختصاص الكامل وهو الملك الحقيقي، و (ما) اسم موصول يراد منه الكائنات: ما يعقل وما لا يعقل ومن جملة هذه الكائنات من ادعوا أنه ولد لله.
والمقصود إثبات أن قولهم اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً زعم باطل، فإن جميع ما احتوت عليه السموات والأرض مملوك لله يتصرف فيه كيف يشاء، فلا حاجة إلى اتخاذ الولد، إذ الولد إنما يسعى إليه الوالد، أو يرغب فيه ليعتز به أو ليحيى ذكره، أو ليستعين به على القيام بأعباء الحياة. والله- تعالى- منزه عن أمثال هذه الأغراض التي لا تليق إلا بمن خلق ضعيفا كالإنسان ثم إن الحكمة من التوالد بقاء النوع محفوظا بتوارد أمثال الوالد حيث لا سبيل إلى بقائه بعينه، أما الخالق- تعالى- فهو الواحد في ذاته وصفاته، الباقي على الدوام، كما قال تعالى:
معناه: كل له مطيعون طاعة تسخير وانقياد، خاضعون لا يستعصى منهم شيء على مشيئته وإرادته: شاهدون بلسان الحال والمقال على وحدانيته من القنوت وهو لزوم الطاعة مع الخضوع، وإنما جاء قانِتُونَ بجمع المذكر المختص بالعقلاء، مع أن الخضوع لله يكون من العقلاء وغيرهم تغليبا للعقلاء على غيرهم، لأنهم أهل القنوت عن إرادة وبصيرة، ولأن ظهوره فيهم أكمل من ظهوره في غيرهم.
وفصلت جملة كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ عن سابقتها، لقصد استقلالها بالاستدلال على نفى أن يكون لله ولد، حتى لا يظن السامع أنها مكملة للدليل المسوق له قوله- تعالى-: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر قدرته فقال: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى: مبدعهما ومنشئهما بلا احتذاء ولا اقتداء. وبلا آلة ولا مادة، وبديع صفة مشبهة من أبدع، والذي ابتدعهما من غير أصل ولا مثال هو الله- تعالى-. وخص السموات والأرض بالإبداع، لأنهما أعظم ما يشاهد من المخلوقات.
قال القرطبي: «قوله- تعالى-: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فعيل للمبالغة. وارتفع على أنه خبر ابتداء محذوف، واسم الفاعل مبدع كبصير من مبصر. أبدعت الشيء لا عن مثال، فالله- تعالى- بديع السموات والأرض، أى منشئهما وموجدهما، ومخترعهما، على غير حد ولا مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع، ومنه أصحاب البدع وسميت البدعة بدعة لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام... » «١».
وقوله: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ معناه: وإذا أراد- سبحانه- إحداث أمر من الأمور حدث فورا. «وكن فيكون، فعلان من الكون بمعنى الحدوث. ويرى كثير من أهل السنة أن الجملة واردة على وجه التمثيل، لحدوث ما تتعلق به إرادته- سبحانه- بلا مهلة وبلا توقف. وليس المراد أنه إذا أراد إحداث أمر أتى بالكاف والنون، ففي الكلام استعارة تمثيلية.
ويرى آخرون أن الأمر يكن محمول على حقيقته، وأنه- تعالى- أجرى سنته في تكوين الأشياء أن يكونها بكلمة كن أزلا.
وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد حكتا بعض الشبهات الباطلة التي أوردها الضالون
ثم أورد القرآن بعد ذلك الشبهات التي أثاروها حول نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأجاب عنها بما يبطلها فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٨]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
عن ابن عباس قال: قال رافع بن حريملة اليهودي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا محمد، إن كنت رسولا من الله كما تقول، فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله هذه الآية «١».
فالآية الكريمة معطوفة على قوله: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً...
ومعنى الآية الكريمة. وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ علما نافعا أمثال هؤلاء اليهود الذين طالبوك بالمطالب المتعنتة- يا محمد- لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ إما مشافهة، أو بواسطة الوحى إلينا لا إليك، أو يرينا حجة تقوم على صدق رسالتك، قالوا هذا على وجه العناد والجحود أن تكون الآيات التي أقامها الله على صدق رسالته آيات حقا.
وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ أى: مثل هذا القول المتعنت، قال الجاحدون من أسلافهم الذين أرسل الله إليهم الرسل ليخرجوهم من الظلمات إلى النور وفي هذه الجملة تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن ما لاقاه من قومه مثل ما لقيه الرسل من قبله.
تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أى تشابهت قلوب هؤلاء وأولئك في العناد والضلال.
قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أى: جعلناها بينة واضحة في ذاتها لمن شأنهم الإخلاص في طلب الحق أينما كان، فيتجهون إليه عن طريق الأدلة الصحيحة بقلوب نقية من الأهواء موقنة بجلال الحق ووجوب الطاعة.
فأجابهم الله عن هذه الشبهة بقوله كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ وحاصل هذا الجواب: أنا قد أيدنا قول محمد بالمعجزات، وبينا صحة قوله بالقرآن وسائر الحجج، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنت. وعليه فلن تجاب مطالبكم لوجوه منها:
١- لو كان في معلوم الله أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآيات لفعلها ولكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لازدادوا لجاجا.
٢- أن حصول الدلالة الواحدة تمكن المكلف من الوصول إلى المطلوب، فإذا لم يكتف بها، كان طلبه من باب المعاندة.
٣- ربما كانت كثرة المعجزات وتعاقبها تقدح في كونها معجزة لأن الخوارق متى توالت كان انخراق العادة عادة. فثبت أن عدم إسعافهم بهذه الآيات لا يقدح في النبوة «١».
هذا، وبعض المفسرين يرى أن المراد «بالذين لا يعلمون» اليهود، وبعضهم يرى أن المراد بهم مشركو العرب وبعضهم يرى أن المراد بهم النصارى، ونحن نرى أن اللفظ صالح لأن يندرج تحته جميع هذه الطوائف قضاء لحق الموصول المفيد للتعميم، ولكنا نختار أن اليهود هم المقصودون قصدا أوليا من هذه الآية للأسباب الآتية:
١- الآية ضمن سلسلة طويلة من الآيات السابقة عليها واللاحقة لها، وكلها تتحدث عن بنى إسرائيل وأحوالهم وأخلاقهم.
٢- جملة كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ قرينة على أن المقصود بالذين لا يعلمون هم اليهود المعاصرون للعهد النبوي، حيث كان أجدادهم يطلبون من موسى مثل هذه المطالب، لقد قالوا له: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وطلبوا منه كثيرا من المطالب المتعنتة.
٣- الآية مدنية ومن سورة البقرة التي هي من أوائل ما نزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، ومن المعروف أن حديث القرآن المدني عن أهل الكتاب بصفة عامة، وعن اليهود بصفة خاصة، أكثر من حديثه عن مشركي العرب، لأن البيئة المدنية صلتها بأهل الكتاب أشد وألصق.
٥- القائلون بأن المراد بالذين لا يعلمون مشركو العرب، دعموا قولهم بأن آيات القرآن التي تحكى عنهم أمثال هذه المقترحات مستفيضة. وكأنهم يستبعدون أن تصدر مثل هذه الأسئلة عن اليهود.
وردنا عليهم أن القرآن الكريم قد حكى عن اليهود أمثال هذه الأسئلة بدليل قوله تعالى:
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً «١».
٦- الإمام ابن جرير رجح أن المراد ب الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ النصارى، مستدلا بأن ذلك في سياق خبر الله عنهم، فالآية السابقة على هذه الآية تقول.
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ، بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ والنصارى هم الذين قالوا ذلك.
وهذا الاستدلال لا نوافقه عليه لما يأتى:
(أ) لأن الآية ليست في سياق خبر الله عن النصارى، وإنما هي في سياق خبر الله عن اليهود، الذين زخرت سورة البقرة ببيان مواقفهم وحجاجهم وأخلاقهم في أكثر من مائة آية سابقة ولاحقة من هذه السورة.
(ب) ليس النصارى وحدهم هم الذين قالوا اتخذ الله ولدا وإنما اليهود أيضا قالوا ذلك، قال تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «٢».
(ج) لم يأت الإمام ابن جرير بدليل واحد ينقض به رأى القائلين بأن المراد بالذين لا يعلمون اليهود، ولم يتعرض للنص الذي أورده ابن عباس في سبب نزول الآية بالتضعيف أو الإعلال، مع أنه انتقد رأى القائلين بأن المراد بهم مشركو العرب (بأنه قول لا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب).
هذا وبعد تلك الأدلة على ما ذهبنا إليه نعود فنقول مرة أخرى: إننا لا نمانع في أن يكون المراد بالذين لا يعلمون جميع الطوائف المشركة ولكنا نرجح أن اليهود هم المقصودون قصدا أوليا مهما دخل غيرهم معهم في السياق، وإن الآية قد نزلت للرد على مطالبهم المتعنتة واقتراحاتهم التي لا خير من ورائها، ومحاولاتهم الطعن في نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(٢) سورة التوبة الآية ٣٠.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٩ الى ١٢١]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١)
وقوله: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً معناه: إنا أرسلناك يا محمد بالدين الصحيح المشتمل على الأحكام الصادقة، لتبشر بالثواب من آمن وعمل صالحا، وتنذر بالعقاب من كفر وعصى.
وصدرت الآية الكريمة بحرف التأكيد، لمزيد الاهتمام بهذا الخبر، وللتنويه بشأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وجيء بالمسند إليه ضمير الجلالة، تشريفا للنبي صلّى الله عليه وسلّم فكأن الله- تعالى- يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة، ولذا لم يقل له إن الله أرسلك.
وقوله: بِالْحَقِّ متعلق بأرسلناك. والحق: مأخوذ من حق الشيء، أى: وجب وثبت، ويطلق الحق على الحكم الصادق المطابق للواقع، ويسمى الدين الصحيح حقا لاشتماله على الأحكام الصادقة.
وقوله: بَشِيراً وَنَذِيراً حالان، والبشير: المبشر، وهو المخبر بالأمر السار للمخبر به الذي لم يسبق له علم به. والنذير: المنذر، وهو المخبر بالأمر المخوف ليحذر منه.
وجملة وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ معطوف على جملة إِنَّا أَرْسَلْناكَ.
والجحيم: المتأجج من النار. وأصحابها: الملازمون لها. والسؤال: كناية عن المؤاخذة واللوم.
وفي وصفهم بأنهم أصحاب الجحيم، إشعار بأنهم قد طبع على قلوبهم، فصاروا لا يرجى منها الرجوع عن الكفر.
وفي هذه الجملة مع قوله: «بشيرا ونذيرا» تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث لم يؤمن به أولئك الجاحدون المتعنتون.
ثم بين القرآن موقف أهل الكتاب من الدعوة الإسلامية فقال: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ.
الملة: الطريقة المسلوكة، ثم جعلت اسما لما شرعه الله لعباده على لسان نبيه ليتوصلوا إلى السعادة الدائمة، وقد تطلق على ما ليس حقا من الأديان المنحرفة أو الباطلة، كما حكى القرآن عن يوسف عليه السلام- أنه قال:
إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ.
وأفرد القرآن الملة فقال- تعالى- ملتهم- «مع أن لكل من اليهود والنصارى ملة خاصة، لأن الملتين بالنظر إلى مخالفتهما لدين الإسلام وما طرأ عليهما من التحريف بمنزلة واحدة، فاتباع إحداهما كاتباع الأخرى في قلة الانتفاع به.
ومعنى الغاية في قوله: «حتى تتبع ملتهم الكناية عن اليأس من اتباع أهل الكتاب لشريعة الإسلام، لأنهم لما كانوا لا يرضون إلا باتباعه صلّى الله عليه وسلّم ملتهم وكان اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم لملتهم مستحيلا، فقد صار رضاهم عنه كذلك مستحيلا، فالجملة الكريمة مبالغة في الإقناط من إسلامهم، وتنبيه على أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز وقوعه منه.
ثم لقن الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم الجواب فقال: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى.
وهدى الله: دينه والهدى، بمعنى الهادي إلى طريق الفلاح في الدنيا والآخرة. أى: ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الحق الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي لا ما يدعيه هؤلاء من الأهواء.
وإيراد الهدى معرفا بأل مع اقترانه بضمير الفصل «هو» يفيد قصر الهداية على دين الله، وينفى أن يكون في دين غير دين الله هدى. وإذا كانت الهداية مقصورة على الدين الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم فكيف يطمع أهل الكتاب في أن يتبع ملتهم؟
اللام في قوله: وَلَئِنِ تشعر بأن في الجملة قسما مقدرا روعي في صدرها ليفيد تأكيد ما تضمنته من أن متبع أهواء أهل الكتاب لا يجد من الله وليا ولا نصيرا.
والأهواء: جمع هوى، والمراد بها آراؤهم المنحرفة عن الحق الصادرة من شهوات في أنفسهم. والعلم: الدين: وسمى علما لأنه يعلم بالأدلة القاطعة.
والولي: القريب والحليف. والنصير: كل من يعين غيره على من يناوئه ويبسط إليه يده بسوء.
والمعنى: ولئن اتبعت- يا محمد- آراءهم الزائفة، بعد الذي جاءك من العلم بأن دين الله هو الإسلام، أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة، مالك من الله من ولى يلي أمرك ولا نصير يدفع عنك عقابه.
وإنما أوثر خطابه صلّى الله عليه وسلّم بذلك ليدخل دخولا أوليا من اتبع أهواءهم بعد الإسلام من المنافقين تمسكا بولايتهم، وطمعا في نصرتهم.
وبعد أن ذكر القرآن في الآيات السابقة أحوال الكافرين من أهل الكتاب أخذ في بيان حال المؤمنين، فقال:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ.
أى: يقرءونه قراءة حقة، مصحوبة بضبط لفظه، وتدبر معانيه، ولا شك أن ضبط لفظه يقتضى عدم تحريف ما لا يوافق أهواء أهل الكتاب، كالجمل الواردة في نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأن تدبره يستدعى اتباعه والعمل به.
وجملة: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ حال من الضمير (هم) أو من الكتاب وهذه الحال من قبيل الأحوال التي تلابس صاحبها بعد وقوع عاملها، فإنهم إنما يتلون الكتاب بعد أن يؤتوه. وهي التي تسمى بالحال المقدرة أى: مقدرا وقوعها بعد وقوع عاملها.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب، مؤمنو أهل الكتاب. والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل. أو هم أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم والكتاب: القرآن.
وأجاز بعضهم أن تكون الآية سيقت مدحا لمن آمن من أهل الكتاب بالقرآن، فيكون الضمير في يتلونه القرآن.
وقوله: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ خبر عن قوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ.
وفي هذه الجملة تعريض بأولئك المعاندين الذين كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، فكأن الآية التي معنا تقول: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وكان من حالهم أن قرءوه حق قراءته، يؤمنون به إيمانا لا ريبة فيه، بخلاف المعاندين المحرفين للكلم عن مواضعه.
ثم بين- سبحانه- عاقبة الكافرين بكتبه فقال: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
والكفر بالكتاب يتحقق بتحريفه وانكار بعض ما جاء فيه، أى ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون في الدنيا حيث لا يعيشون فيها عيش المؤمنين وهم الخاسرون في الآخرة، إذ سيفوتهم ما أعده الله لعباده من نعيم دائم، ومقام كريم.
وكما بدأ القرآن حديثه مع اليهود بندائهم بأحب أسمائهم إليهم، فقد اختتمه- أيضا- بهذا النداء فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٣]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)
ففي هاتين الآيتين تكرير لتذكير بنى إسرائيل بما سبق أن ذكروا به في صدر الحديث معهم في هذه السورة، وذلك لأهمّيّة ما ناداهم من أجله وأهمية الشيء تقتضي تكرار الأمر به إبلاغا في الحجة وتأكيدا للتذكرة.
قال القاضي: ولما صدر القرآن قصة بنى إسرائيل بذكر النعم والقيام بحقوقها والحذر من إضاعتها، والخوف من الساعة وأهوالها، كرر ذلك وختم به الكلام معهم، مبالغا في النصح وإيذانا بأنه فذلكة القضية، والمقصود من القصة.
هذا وبعد أن ذكر الله- تعالى- في الآيات السابقة نعمه على بنى إسرائيل، وبين كيف كانوا يقابلون النعم بكفر وعناد، ويأتون منكرات في الأقوال والأعمال، وختم الحديث معهم بإنذار بالغ. وتذكير بيوم لا يغنى فيه أحد عن أحد شيئا، بعد كل ذلك واصل القرآن حديثه عن
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٤]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)
والابتلاء: الاختبار. أى. اختبره ربه- تعالى- بما كلفه به من الأوامر والنواهي، ومعنى اختبار الله- تعالى- لعبده، أن يعامله معاملة المختبر مجازا، إذ حقيقة الاختبار محالة عليه- تعالى- لعلمه المحيط بالأشياء والله- تعالى- تارة يختبر عباده بالضراء ليصبروا. وتارة بالسراء ليشكروا وفي كلتا الحالتين تبدو النفس البشرية على حقيقتها.
وفي إسناد الابتلاء إلى الرب إشعار للتالي أو للسامع بأنه ابتلاه بما ابتلاه به تربية له، وتقوية لعزمه، حتى يستطيع النهوض بعظائم الأمور.
وقد اختلف المفسرون في تعيين المراد بالكلمات التي اختبر الله بها نبيه إبراهيم- عليه السلام- على أقوال كثيرة.
قال ابن جرير: «ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع. قال: ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له، ولعل أرجح الآراء في المراد بهذه الكلمات، أنها الأوامر التي كلفه الله بها، فأتى بها على أتم وجه».
وقوله: فَأَتَمَّهُنَّ أى أتى بهن على الوجه الأكمل، وأداهن أداء تاما يليق- به- عليه السلام- ولذا مدحه الله بقوله: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى.
وجيء بالفاء في فَأَتَمَّهُنَّ للدلالة على الفور والامتثال. وذلك من شدة العزم، وقوة اليقين.
وفي إجمال القرآن لتلك الكلمات التي امتحن الله بها إبراهيم، وفي وصفه له بأنه أتمهن، إشعار بأنها من الأعمال التي لا ينهض بها الا ذو عزم قوى يتلقى أوامر ربه بحسن الطاعة وسرعة الامتثال.
وقدم المفعول وهو لفظ إبراهيم لأن المقصود تشريف إبراهيم بإضافة اسم الرب إلى اسمه مع مراعاة الإيجاز، فلذلك لم يقل وإذ ابتلى الله ابراهيم.
جاعلك: من جعل بمعنى صير. والإمام: القدوة الذي يؤتم به في أقواله وأفعاله.
والمراد بالإمامة هنا: الرسالة والنبوة، فإنهما أكمل أنواع الإمامة، والرسول أكمل أفراد هذا النوع، وقد كان إبراهيم- عليه السلام- رسولا يقتدى به الناس في أصول الدين ومكارم الأخلاق.
وقال: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ولم يقل: «إنى جاعلك للناس رسولا، ليكون ذلك دالا على أن رسالته تنفع الأمة المرسل إليها بطريق التبليغ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الاقتداء، فان إبراهيم- عليه السلام- قد رحل إلى آفاق كثيرة، فانتقل من بلاد الكلدان إلى العراق، وإلى الشام، وإلى الحجاز، وإلى مصر وكان في جميع منازله أسوة حسنة لغيره.
وقد مدح القرآن إبراهيم في كثير من آياته، ومن ذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً.
وجملة قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي واقعة موقع الجواب عما من شأنه أن يخطر في نفس السامع، فكأنه قال: وماذا كان من إبراهيم عند ما تلقى من ربه تلك البشارة العظمى؟ فكان الجواب أن إبراهيم قد التمس الإمامة لبعض ذريته أيضا.
أى: قال إبراهيم: واجعل يا رب من ذريتي أئمة يقتدى بهم.
وقد رد الله- تعالى- على قول إبراهيم بقوله: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.
وإنما قال إبراهيم ومن ذريتي ولم يقل وذريتي، لأنه يعلم أن حكمة الله من هذا العالم لم تجر بأن يكون جميع نسل أحد ممن يصلحون لأن يقتدى بهم فلم يسأل ما هو غير مألوف عادة، لأن سؤال ذلك ليس من آداب الدعاء.
أى: قال الله لإبراهيم: قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك لكن لا يصيب عهدي الذي عهدته إليك بالإمامة الذين ظلموا منهم، فالعهد هنا بمعنى الإمامة المشار إليها في قوله:
جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً.
وفي هذه الجملة الكريمة إيجاز بديع، إذ المراد منها إجابة طلب إبراهيم من الإنعام على بعض ذريته بالإمامة كما قال- تعالى-:
وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ولكنها تدل صراحة على أن الظالمين من ذريته ليسوا
قال- تعالى-: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ.
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن مكانة البيت الحرام، وعن قصة بنائه، وعن الدعوات الخاشعات التي كان إبراهيم يتضرع بها إلى الله عند رفعه البيت فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٩]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
وقوله- تعالى-: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً معطوف على قوله- تعالى-:
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ.
ومثابة للناس: مرجعا للناس يرجعون إليه من كل جانب، وهو مصدر ميمى من ثاب القوم إلى المكان رجعوا إليه. فهم يثوبون إليه ثوبا وثوبانا، أو معاذا لهم يلجئون إليه أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره.
والأمن: السلامة من الخوف، وأمن المكان: اطمئنان أهله به، وعدم خوفهم من أن ينالهم فيه مكروه فالبيت مأمن، أى موضع أمن. وأخبر- سبحانه- بأنه جعله أمنا ليدل على كثرة ما يقع به من الأمن حتى صار كأنه نفس الأمن.
وكذلك صار البيت الحرام محفوظا بالأمن من كل ناحية، فقد كان الناس في الجاهلية يقتتلون ويعتدى بعضهم على بعض من حوله، أما أهله فكانوا في أمان واطمئنان. قال تعالى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وقال- تعالى-: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً.
وقد أقرت تعاليم الإسلام هذه الحرمة للبيت الحرام على وجه لا يضيع حقا ولا يعطل حدا، وزادت في تكريمه وتشريفه بأن جعلت الحج إليه فريضة على كل قادر عليها.
قال الإمام ابن كثير: «ومضمون ما فسر به العلماء هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه مثابة للناس. أى: جعله محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ولا تقضى منه وطرا ولو ترددت إليه في كل عام استجابة من الله- تعالى- لدعاء خليله إبراهيم في قوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ويصفه- تعالى- بأنه جعله أمنا من دخله أمن ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلّم: كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له:
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى الاتخاذ: الجعل، تقول اتخذت فلانا صديقا أى:
جعلته صديقا. والمقام في اللغة: موضع القدمين من قام يقوم، ومقام إبراهيم: هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه عند بناء الكعبة لما ارتفع الجدار، وهو- على المشهور- تحت المصلّى المعروف الآن بهذا الاسم.
ومعنى اتخاذ مصلّى منه: القصد إلى الصلاة عنده. فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلّم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طاف بالبيت سبعا وصلّى خلف المقام ركعتين».
قال الإمام ابن كثير: «وقد كان هذا المقام- أى الحجر الذي يسمى مقام إبراهيم- ملصقا بجدار الكعبة قديما، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر على يمين الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل- عليه السلام- لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة.. ثم قال: وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر- رضي الله عنه- ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة «١» :
ثم قال- تعالى-: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.
عهدنا: أمرنا وأوحينا، وأَنْ مفسرة المأمور به أو الموصى به المشار إليه بقوله: عَهِدْنا أى: أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي.
وأضاف- سبحانه- البيت إليه للتشريف والتكريم ومعنى تطهيره: صيانته من كل ما لا يليق ببيوت الله من الأقذار والأرجاس والأوثان وكل ما كان مظنة للشرك، فالمقصود تطهيره من كل رجس حسى ومعنوي.
والطائفين: جمع طائف من طاف يطوف طوفا وطوافا إذا دار حول الشيء والمراد بهم:
المتقربون إلى الله بالطواف حول الكعبة.
والعاكفين: جمع عاكف، من عكف على الشيء عكوفا إذا أقام عليه ملازما له، والمراد بهم: المقيمون في الحرم بقصد العبادة، ويدخل في العبادة مدارسة العلوم الدينية وما يساعد على فهمها.
والركع السجود: الركع جمع راكع، والسجود: جمع ساجد.
والركوع والسجود من هيئات الصلاة وأركانها، فمعنى «والركع السجود» المصلون.
فالآية الكريمة جمعت أصناف العابدين في البيت الحرام: وهم الطائفون وإن لم يكونوا مقيمين، كمن يأتون لحج أو عمرة ثم ينصرفون.
والعاكفون الذين يقيمون في الحرم بقصد الإكثار من العبادة في المسجد الحرام. والمصلون يتقربون إلى الله بالصلوات سواء أكانت فرائض أم نوافل.
ثم ساق القرآن بعد ذلك نماذج من الدعوات التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً أى: أضرع إليك يا إلهى أن تجعل الموضع الذي فيه بيتك مكانا يأنس إليه الناس، ويأمنون فيه من الخوف، ويجدون فيه كل ما يرجون من أمان واطمئنان.
والمشار إليه بقوله: هذا مكة المكرمة. والبلد كل قطعة من الأرض عامرة أو غامرة.
والمقصود بالدعاء إنما هو أمن أهله لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد، وإنما يلحقان أهل البلد.
قال الإمام الرازي: وإنما قال هنا بَلَداً آمِناً على التنكير، وقال في سورة إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً على التعريف لوجهين:
الأول: أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلدا، كأنه قال: اجعل هذا الوادي بلدا آمنا. والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدا، فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيرته بلدا ذا أمن وسلامة.
الثاني: أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلدا، فقوله: اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً تقديره: أجعل هذا البلد بلدا آمنا كقولك: كان اليوم يوما حارا، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة، لأن التنكير يدل على المبالغة فقوله: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا معناه:
اجعله من البلدان الكاملة في الأمن. وأما قوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً فليس فيه إلا طلب الأمن لا طلب المبالغة «١».
أما الدعوة الثانية التي توجه بها إبراهيم إلى ربه من أجل أهل مكة فقد حكاها القرآن في قوله:
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
أى: كما أسألك يا إلهى أن تجعل هذا لبلد بلدا آمنا. أسألك كذلك أن ترزق المؤمنين من أهله من الثمرات ما يسد حاجاتهم، ويغنيهم من الاحتياج إلى غيرك.
وقوله: «ارزق» مأخوذ من رزقه يرزقه إذا أعطاه ما ينتفع به من مأكول وغيره.
وقال في دعائه: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لأن أهل مكة قد يكون من بينهم كافرون، فأراد تخصيص المؤمنين منهم بدعائه، لذا أتبع قوله: وَارْزُقْ أَهْلَهُ بقوله: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ على وجه البدل فصار المعنى وارزق المؤمنين من أهله على ما تقتضيه القاعدة العربية من أن البدل وهو هنا مَنْ آمَنَ هو المقصود بطلب الرزق.
وخص إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصا على شيوع الإيمان بين سكان مكة، لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم إنما هي خاصة بالمؤمنين تجنبوا ما يبعدهم عن الإيمان، أو أنه خص المؤمنين بذلك تأدبا مع الله- تعالى- إذ سأله سؤالا أقرب إلى الإجابة، ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فقال: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ أن غير المؤمنين ليسوا أهلا لإجراء رزق الله عليهم.
واقتصر على ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر في التعبير عن المؤمنين لأن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يقع على الوجه الحق إلا إذا صاحبه الإيمان بكتب الله ورسله وملائكته.
ثم بين- سبحانه- مصير الكافرين فقال: قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
الضمير في قالَ يعود إلى الله- تعالى- ومن في قوله وَمَنْ كَفَرَ منصوب بفعل مقدر دل عليه «فأمتعه». والمعنى: قال الله وأرزق من كفر وإيراد المتكلم قولا من عنده معطوفا على قول متكلم آخر مألوف في اللغة العربية، ويحسن موقعه عند ما يقتضى المقام إيجازا في القول، ولولا هذا العطف لكان المعنى متطلبا لأن يقال: قال الله أرزق من آمن ومن كفر.
وفَأُمَتِّعُهُ: من التمتع وهو إعطاء ما ينتفع به. وقَلِيلًا: وصف لمصدر محذوف في النظم، والمعنى: أمتعه تمتيعا قليلا. ووصف التمتع في الدنيا بالقلة، لأنه صائر إلى نفاد وانقطاع.
وأَضْطَرُّهُ أى ألجئه وأسوقه بعد متاعه في الدنيا إلى عذاب لا يمكنه الانفكاك عنه وجملة «ثم أضطره إلى عذاب النار» احتراس من أن يغتر الكافر بأن تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضا الله فلذلك ذكر العذاب هنا.
إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً.
وقد أفادت الآية الكريمة أن الله يرزق الكافر في الدنيا كما يرزق المؤمن وإذا كان إمتاع المؤمن بالرزق لأنه أهل لأن ينعم عليه بكل خير، فإمتاع الكافر بالرزق له حكم منها استدراجه المشار إليه بقوله تعالى:
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ولو خص الله المؤمنين بالتوسعة في الرزق وحرم منها الكافرين لكان هذا التخصيص سائقا للكافرين إلى الإيمان على وجه يشبه الإلجاء. وقد قضت حكمته- تعالى- أن يكون الإيمان اختياريا حتى ينساق الإنسان من طريق النظر في أدلة عقلية يبصر بها أقوام ولا يبصر بها آخرون.
ثم حكى القرآن دعوة ثالثة تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
القواعد: جمع قاعدة، وهي أساس البناء الموالي للأرض، وبها يكون ثبات البناء. ورفعها:
إبرازها عن الأرض بالبناء عليها. والمراد بالبيت الكعبة.
والتقبل: القبول، وقبول الله للعمل أن يرضاه أو يثيب عليه.
والمعنى: واذكر يا محمد ما صدر من الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل فقد كانا وهما يقومان يرفع قواعد الكعبة يتضرعان إلى ويقولان: يا ربنا تقبل منا أقوالنا وأعمالنا، إنك أنت السميع العليم.
وتصدير الدعاء بندائه- سبحانه- باسم الرب المضاف إلى ضميرهما مظهر من مظاهر خضوعهما، وإجلالهما لمقامه، والخضوع له- سبحانه-، وإجلال مقامه من أسنى الآداب التي تجعل الدعاء بمقربة من الاستجابة.
وعبر بالمضارع فقال: وَإِذْ يَرْفَعُ مع أن رفع القواعد كان قبل نزول الآية، وذلك ليخرجه في صورة الحاضر في الواقع لأهمّيّته.
وختما دعاءهما بذكر اسمين من أسمائه الحسنى، ليؤكدا أن رجاءهما في استجابة دعائهما وثيق، وأن ما عملاه ابتغاء مرضاته جدير بالقبول. لأن من كان سميعا عليما بنيات الداعين وصدق ضمائرهم، كان تفضله باستجابة دعاء المخلصين في طاعته غير بعيد.
مسلمين من الإسلام، وهو الخضوع والإذعان، وقد كانا خاضعين لله مذعنين في كل حال، وإنما طلبا الثبات والدوام على ذلك، والإسلام الذي هو الخضوع لله بحق إنما يتحقق بعقيدة التوحيد، وتحرى ما رسمه الشارع في العبادات والمعاملات، والإخلاص في أداء ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه.
وقوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ معناه: واجعل يا ربنا من ذريتنا أمة مخلصة وجهها إليك، مذعنة لأوامرك ونواهيك.
ومن (من) للتبعيض، أو للتعيين كقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ. وإنما خص الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع ولأن صلاح الذرية مرغوب فيه طبعا، والدعاء لهم بالصلاح مرغب فيه شرعا، وقد حكى القرآن من دعاء الصالحين قوله- تعالى-:
رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً وَأَرِنا مَناسِكَنا أى: علمنا شرائع ديننا وأعمال حجنا، كالطواف والسعى والوقوف. أو متعبداتنا التي تقام فيها شرائعنا، كمنى، وعرفات، ونحوهما.
والمناسك: جمع منسك- بفتح السين وكسرها- بمعنى الفعل وبمعنى الموضع من النسك- مثلثة النون وبضمها وضم السين- وهو غاية العبادة والطاعة، وشاعت تسمية أعمال الحج بالمناسك كالطواف والسعى وغيرهما.
وَتُبْ عَلَيْنا تسند التوبة إلى العبد فيقال: تاب فلان إلى الله ومعناها الندم على ما لابس من الذنب، والإقلاع عنه، والعزم على عدم العود إليه، ورد المظالم إن استطاع، أو نية ردها إن لم يستطع وتسند إلى الله فيقال: تاب الله على فلان، ومعناها حينئذ توفيقه إلى التوبة، أو قبولها منه. فمعنى وَتُبْ عَلَيْنا وفقنا للتوبة أو تقبلها منا.
والتوبة تكون من الكبائر والصغائر، وتكون من ترك ما هو أولى أو من تقصير يؤدى إلى خطأ في الاجتهاد، وعلى أحد هذين الوجهين، تحمل التوبة التي يسأل الأنبياء والمرسلون ربهم قبولها أو التوفيق لها.
إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ التواب: كثير القبول لتوبة المنيبين إليه، وقبول توبتهم يقتضى عدم مؤاخذتهم بما يأتونه من سيئات، ثم بعد تخلصهم من عقوبة الخطيئة أو المعاتبة عليها ينتظرون من رحمة الله أن تحفهم بإحسان.
تب علينا وارحمنا، وهذا من أكمل آداب الدعاء وأرجاها للقبول عند الله تعالى.
ثم ختم إبراهيم وإسماعيل دعواتهما بتلك الدعوة التي فيها خيرهم في الدنيا والآخرة، فقالا- كما حكى القرآن عنهما:
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
الضمير في قوله: مِنْهُمْ يعود إلى الذرية أو الأمة المسلمة في قوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ.
والرسول: من أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه: وتلاوة الشيء: قراءته والمراد بقوله تعالى:
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ يقرؤها عليهم قراءة تذكير وفي هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع.
والآيات: جمع آية، والمراد بها ما يشهد بوحدانية الله، وبصدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يبلغه عنه، أو المراد بها آيات القرآن الكريم فهو يتلوها عليهم ليحفظوها بألفاظها كما نزلت، ويتعبدوا بتلاوتها، وليعرفوا من فضل بلاغتها وروعة أساليبها وجها مشرقا من وجوه إعجازها.
والكتاب: القرآن، وتعلمه يكون ببيان معانيه وحقائقه، ليعرفوا ما أقامه لهم من دلائل التوحيد وما اشتمل عليه من أحكام وحكم ومواعظ وآداب.
والحكمة: العلم النافع المصحوب بالعمل الواقع موقعه اللائق به. ووضعها بجانب الكتاب يرجح أن المراد بها السنة النبوية المطهرة التي تنتظم أقوال النبي صلّى الله عليه وسلّم وأفعاله، إذ بالكتاب وبالسنة يعرف الناس أصلح الأعمال، وأعدل الأحكام وأسنى الآداب، وتنفتح لهم طرق التفقه في أسرار الدين ومقاصده.
ويزكيهم: أى يطهرهم من أرجاس الشرك ومن كل ما لا يليق التلبس به ظاهرا أو باطنا.
يقال: زكاه الله، أى طهره وأصلحه، ومنه زكاة المال لتطهره بها، وأصل الزكاة- بالمد- النماء والزيادة، يقال. زكا الزرع زكاء وزكوا، أى نما.
والمعنى: ونسألك يا ربنا أن تبعث في الأمة المسلمة، أو في ذريتنا رسولا منهم يقرأ عليهم آياتك الدالة على وحدانيتك، ويعلمهم كتابك بأن يبين لهم معانيه، ويرشدهم إلى ما فيه من حكم ومواعظ وآداب، كما يهديهم إلى الحكمة التي تتمثل في اتباع سنة نبيك- والتي بها يتم التفقه في الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده، والتي يكمل بها العلم بالكتاب إنك يا مولانا أنت العزيز الحكيم.
وقد جاء ترتيب هذه الجمل في أسمى درجات البلاغة والحكمة لأن أول تبليغ الرسالة يكون بتلاوة القرآن ثم بتعليم معانيه، ثم بتعليم العلم النافع الذي تحصل به التزكية والتطهير من كل ما لا يليق التلبس به في الظاهر، أو الباطن.
وقد سأل إبراهيم وإسماعيل ربهما أن تكون بعثة الرسول في ذريتهما فيكون أمر الإيمان قريبا منهم، فإن نشأته بينهم، ومعرفة سيرته قبل الرسالة وشهادتهم له بالصدق والأمانة، وكل ذلك يحمل العقلاء على المبادرة إلى تصديقه فيما يبلغه عن ربه.
ولقد حقق الله تعالى دعوة هذين النبيين الكريمين، فأرسل في ذريتهما رسولا منهم، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم أرسله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا.
وقد أخبر صلّى الله عليه وسلّم أنه دعوة إبراهيم، فقال: (أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمى التي رأت، وكذلك أمهات المؤمنين يرين).
ثم عرض القرآن بعد ذلك بالجاحدين والمعاندين الذين تركوا الحق الواضع الذي هو ملة إبراهيم فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٤]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)
يقال رغب لي كذا إذا أراده، ورغب عن كذا إذا كرهه وانصرفت عنه نفسه والملة في الأصل الطريقة، وغلب إطلاقها على أصول الدين من حيث إن صاحبها يصل عن طريقها إلى دار السلام وسفه نفسه امتهنها واستخف بها.
ثم بين الله- تعالى- منزلة نبيه إبراهيم- عليه السلام- وخطأ من يرغب عن طريقته المثلى فقال تعالى: وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أى: ولقد اخترناه للرسالة وهداية الناس وإرشادهم في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين المستقيمين على الطريقة المثلى. فمن يرغب عن ملة من هذا شأنه إلى غيرها من طرق الضلال لا يماثله أحد في سفهه وسوء رأيه.
ثم بين الله تعالى كمال استقامة إبراهيم التي رفعته إلى المنازل العليا فقال تعالى إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أى: اصطفى الله- تعالى- إبراهيم لأنه أمره بطاعته وإسلام وجهه إليه في كل حال فبادر إلى الامتثال وقال أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أى: أخلصت ديني لله الذي فطر الخلق جميعا. كما حكى عنه القرآن الكريم نحو هذا القول في قوله تعالى:
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وبعد أن بين الله- تعالى- أن إبراهيم- عليه السلام- كان كاملا في نفسه، أتبع ذلك ببيان أنه كان- أيضا- يعمل على تكميل غيره، ودعوته إلى توحيد الله تعالى. فقال- سبحانه-: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
الضمير في «بها» يعود إلى الملة ذكرت قبل ذلك في قوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ والمعنى: ووصى إبراهيم بنيه باتباع ملته ويعقوب كذلك أوصى بنيه باتباعها، فقال
ثم أنكر القرآن الكريم على اليهود افتراءهم على يعقوب وزعمهم أنه كان على اليهودية التي أقاموا عليها تاركين دين الإسلام فقال تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي.
روى أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية، فنزلت هذه الآية الكريمة «١».
والمعنى: ما كنتم- يا معشر اليهود- حاضرين وقت أن أشرف يعقوب على الموت، ووقت أن قال لبنيه حينئذ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي فكيف تدعون أنه كان على اليهودية التي أنتم عليها وأنه أوصى بها بنيه؟ ومراد يعقوب- عليه السلام- من هذا السؤال أخذ الميثاق عليهم بالثبات على ملة أبيهم إبراهيم من بعده، لكي يسعدوا في دنياهم وأخراهم، وقد أجابوه بما يدل على رسوخ إيمانهم إذ قالوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
وهذا الجواب يتضمن أنهم متمسكون بملة إبراهيم- عليه السلام- وهي ملة لا تثليث فيها ولا تشبيه بمخلوق، وإنما هي إفراد لله- تعالى- بالعبودية والاستسلام له بالخضوع والانقياد.
ثم حذر الله- تعالى- أهل الكتاب من ترك طاعته اتكالا على انتسابهم لآباء كانوا أنبياء أو صالحين فقال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
الإشارة (بتلك) إلى إبراهيم وبنيه، أى أن إبراهيم وذريته، أمة قد مضت وانقرضت، لها جزاء ما كسبت من خير أو شر، ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم في الدنيا فلا يقال لكم على وجه المحاسبة لم عملوا كذا وإنما ستسألون عن أعمالكم وحدها فأصلحوها وحسنوها، وآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي هو دعوة إبراهيم- عليه السلام- وعلى دينه وملته.
فالآية الكريمة واردة لتقرير سنة من سنن الله العامة في خلقه وهي أن لكل نفس وحدها ثواب ما كسبت من خير وعليها وحدها يقع عقاب ما اكتسبت من شر. وبذلك تكون الآيات
وهذا الذي بينته الآيات الكريمة يطابق ما دعاهم إليه محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو الإيمان بالله- تعالى- وتصديق رسوله واتباع تعاليم الإسلام.
وفي القرآن الكريم آيات أخرى صرحت بأن الإسلام اسم للدين الذي دعا اليه كل الأنبياء، وانتسب إليه أتباعهم، فنوح قال لقومه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ «١».
وموسى قال لقومه: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ «٢» والحواريون قالوا لعيسى- عليه السلام-: آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «٣».
بل إن فريقا من أهل الكتاب حين سمعوا القرآن أشرقت قلوبهم لدعوته وقالوا: آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ «٤».
وإلى هنا نكون قد ذكرنا بعض الآيات الكريمة التي أرشدت إلى أن ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم يطابق ما جاء به الأنبياء السابقون، فعليهم أن يؤمنوا به ويصدقوا، لأن كفرهم به كفر بجميع الرسل السابقين.
وقبل أن نختم هذا الموضوع ننبه إلى مسألة مهمة. وهي أن ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم يطابق- كما قلنا- ما جاء به الأنبياء قبله في أصول الدين وكلياته كتوحيد الله- تعالى- واختصاصه بالعبادة، وتصديق الأنبياء السابقين فيما أتوا به عن الله- تعالى- والإيمان بالبعث وما يكون فيه من نعيم وعذاب والحض على مكارم الأخلاق، أما ما عدا ذلك مما يتعلق بتفاصيل العبادات وأحكام المعاملات فإن الشرائع تختلف فيه بوجه عام حسب ما يتناسب وحالة الأمة التي بعث الله لها رسولا من لدنه كما قال تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً.
ومن هنا جاءت الشريعة الإسلامية بما لم يكن موجودا في الشرائع السابقة، ومن مظاهر ذلك أن القرآن الكريم أعلن للناس، أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم من مميزات شريعته أنها أحلت للناس كل الطيبات وحرمت عليهم كل الخبائث ووضعت عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وشرعت لهم أمورا تتعلق بعباداتهم ومعاملاتهم امتازت باليسر والتخفيف.
(٢) سورة يونس الآية ٨٤.
(٣) سورة آل عمران الآية ٥٢.
(٤) سورة القصص الآية ٥٣.
مثل ذلك كمثل ثلاثة من الأطباء جاء أحدهم إلى الطفل في الطور الأول من حياته، فقصر غذاءه على اللبن، وجاء الثاني من مرحلته التالية فقرر له طعاما لينا، وطعاما نشويا خفيفا، وجاء الثالث في المرحلة التي بعدها فأمر له بغذاء قوى كامل.
لا ريب أن هاهنا اعترافا ضمنيا من كل واحد منهم بأن صاحبه كان موفقا كل التوفيق في علاج الحالة التي عرضت عليه، نعم إن هناك قواعد صحية عامة في النظافة والتهوية والتدفئة ونحوها، لا تختلف باختلاف الأسنان فهذه لا تعديل فيها ولا تبديل، ولا يختلف فيها طب الأطفال والناشئين عن طب الكهول الناضجين.
هكذا الشرائع السماوية، كلها صدق وعدل في جملتها وتفصيلها، وكلها يصدق بعضها بعضا من ألفها إلى يائها، ولكن هذا التصديق على ضربين.
تصديق للقديم مع الإذن ببقائه واستمراره، وتصديق له مع إبقائه في حدود ظروفه الماضية، ذلك أن التشريعات السماوية تحتوى على نوعين من التشريعات.
(تشريعات خالدة) لا تتبدل بتبديل الأصقاع والأوضاع (كالوصايا التسع ونحوها).
و (تشريعات موقوتة) بآجال طويلة أو قصيرة، فهذه تنتهي بانتهاء وقتها. وتجيء الشريعة التالية بما هو أوفق بالأوضاع الناشئة الطارئة.
فشريعة التوراة- مثلا- عنيت بوضع المبادئ الأولية لقانون السلوك (لا تقتل).
(لا تسرق) فطابعها البارز تحديد الحقوق وطلب العدل والمساواة.
وشريعة الإنجيل تجيء بعدها فتقرر هذه الأمور، ثم تترقى فتزيد آدابا مكملة (أحسن إلى من أساء إليك).
وأخيرا تجيء شريعة القرآن فتراها تقرر كلا المبدأين في نسق واحد إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ.
هكذا كانت الشرائع السماوية خطوات متصاعدة، ولبنات متراكمة في بنيان الدين والأخلاق وسياسة المجتمع. وكانت مهمة اللبنة الأخيرة منها أن أكملت البنيان وملأت ما بقي فيه من فراغ وأنها في الوقت نفسه كانت بمثابة حجر الزاوية الذي يمسك أركان البناء.
وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين صور الرسالات السماوية في جملتها أحسن تصوير فقال: «مثلي
وبذلك يتبين لنا أن مطابقة الشريعة الإسلامية لغيرها من الشرائع السابقة إنما هي في الأصول والكليات، لا في الفروع والجزئيات.
ثم حكى القرآن بعد ذلك لونا من ألوان مزاعم أهل الكتاب ورد عليها بما يبطلها فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٥ الى ١٤١]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
ومعنى الآية الكريمة: وقالت اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمسلمين اتركوا دينكم واتبعوا ديننا تهتدوا وتصيبوا طريق الحق. وقالت النصارى مثل ذلك قل لهم- يا محمد- ليس الهدى في اتباع ملتكم، بل الحق في أن نتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، فاتبعوا أنتم- يا معشر أهل الكتاب- ما اتبعناه لتكونوا حقا سالكين ملة إبراهيم الذي لا تنازعون في هداه.
وقوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا حكاية لما زعمه كل من فريقى اليهود والنصارى من أن الهدى في اتباع ملتهم.
و (أو) للتنويع، أى قال اليهود لغيرهم لا دين إلا اليهودية ولا يقبل الله سواها، فاتبعوها تهتدوا. وقال النصارى لغيرهم كونوا نصارى تهتدوا، إلا أن القرآن الكريم ساق هذا المعنى بقوله: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا لمعرفة السامع أن كل فريق منهم يكفر الآخر، ويعد ديانته باطلة، كما حكى القرآن عنهم ذلك في قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ، وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ.
ثم لقن الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم الرد الملزم لهم، فقال تعالى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
الملة: الدين، والحنيف في الأصل المائل عن كل دين باطل إلى الدين الحق ووصف به
وذهب بعض المفسرين إلى أن حنيفا من الحنف وهو الاستقامة.
قال الإمام الرازي: «لأهل اللغة في الحنيف قولان:
الأول: أن الحنيف هو المستقيم، ومنه قيل للأعرج أحنف تفاؤلا بالسلامة، كما قالوا للديغ سليم وللمهلكة مفازة، قالوا فكل من أسلّم لله ولم ينحرف عنه في شيء فهو حنيف، وهو مروى عن محمد بن كعب القرظي.
الثاني: أن الحنيف المائل، لأن الأحنف هو الذي يميل كل واحد من قدميه إلى الأخرى بأصابعها. وتحنف إذا مال، فالمعنى: إن إبراهيم- عليه السلام- حنف إلى دين الله، أى مال إليه، فقوله: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أى: مخالفا لليهود والنصارى.
والمعنى: قل يا محمد لليهود ليس الهدى في أن نتبع ملتكم، بل الهدى في أن نتبع ملة إبراهيم المائل عن كل دين باطل إلى الدين الحق، والذي ما كان من المشركين بأى صورة من صور الشرك» «١».
وقوله تعالى: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أى: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا. وقد تضمن هذا القول إبطال ما ادعاه كل من اليهود والنصارى، لأن حرف (بل) يؤتى به في صدر الكلام لينفى ما تضمنته الجملة السابقة، والجملة السابقة هنا هي قول أهل الكتاب وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا فجاءت بل بعد ذلك لتنفى هذا القول، ولتثبت أن الهداية إنما هي في اتباع ما كان عليه إبراهيم- عليه السلام- وفي اتباع من سار على نهجه وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وفي هاتين الجملتين وهما قوله تعالى: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ دعوة لليهود إلى اتباع ملة إبراهيم لاستقامتها، ولبعدها عن الشرك، وفي ذلك تعريض بأن ملتهم ليست مستقيمة، بل هي معوجة، وبأن دعواهم اتباع إبراهيم لا أساس لها من الصحة لأنهم أشركوا مع الله آلهة أخرى، ونسبوا إلى الله تعالى ما لا يليق به.
قال الإمام الرازي- ما ملخصه: في الآية الكريمة جواب إلزام لهم وهو قوله تعالى بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وتقرير هذا الجواب: أنه إن كان طريق الدين التقليد، فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم لأن هؤلاء المختلفين قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم، والأخذ بالمتفق عليه، أولى من الأخذ بالمختلف فيه.
ثم أرشد الله- تعالى- المؤمنين إلى جواب جامع وكلمة سواء تفيد نبذ التعصب جانبا وتدعو إلى اتباع الوحى الإلهى الذي أرسل الله به الرسل مبشرين ومنذرين بدون تفرقة بين أحد منهم، وهو يتضمن دعوة أهل الكتاب إلى الطريق الحق فقال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ، وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أى: قولوا أيها المؤمنون لأولئك اليهود الذين يزعمون أن الهداية في اتباع ملتهم، قولوا لهم: ليست الهداية في اتباع ملتكم فقد دخلها الشرك والتحريف، وإنما الهداية في أن نصدق بالله، وبالقرآن الكريم الذي أنزله الله إلينا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ، وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى وبالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، ونحن في تصديقنا بالأنبياء لا نفرق بين أحد منهم فنؤمن ببعضهم ونكفر بالبعض الآخر كما فعلتم أنتم يا معشر اليهود وإنما نؤمن بهم جميعا بدون تفرقة بينهم، ونحن لربنا مسلمون خاضعون بالطاعة. مذعنون له بالعبودية.
قال الإمام الرازي: «فإن قيل: كيف يجوز الإيمان بإبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة؟ قلنا: نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقا في زمانه، فلا يلزم من المناقصة، أما اليهود فإنهم لما اعترفوا بنبوة بعض من ظهر المعجز على يديه، وأنكروا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم مع قيام المعجز على يديه، فحينئذ يلزمهم المناقضة فظهر الفرق «٢».
وقوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ خطاب للمؤمنين.
والأسباط: جمع سبط، وهو الحفيد، وهم أبناء يعقوب- عليه السلام- سموا بذلك لكونهم حفدة إبراهيم وإسحاق- عليهما السلام- وكانوا اثنى عشر سبطا كما قال تعالى:
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً، والمراد: الإيمان بما أنزل الله من الوحى على الأنبياء منهم.
قال الإمام القرطبي: والأسباط: ولد يعقوب، وهم اثنا عشر ولدا، ولكل واحد منهم أمة من الناس، واحدهم سبط، والسبط في بنى إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل، وسموا
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ٤١٧.
وقوله تعالى: وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ معناه: وآمنا- أيضا- بالتوراة التي أعطاها الله- تعالى- لموسى، وبالإنجيل الذي أعطاه لعيسى، وبكل ما آتاه الله لأنبيائه تصديقا لهم في نبوتهم.
وعطف- سبحانه- عيسى على موسى بدون إعادة الفعل لأن عيسى جاء مصدقا للتوراة، وما نسخ منها إلا أحكاما يسيرة، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في قوله حكاية عنه وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ.
وقدم- سبحانه- الإيمان بالله على غيره لأن الإيمان بالأنبياء. وما أنزل إليهم متوقف على الإيمان بالله.
وقدم الإيمان بما أنزل إلينا- نحن معشر المسلمين- وهو القرآن الكريم لأن الإيمان به يجب أن يكون على وجهى الإجمال والتفصيل، أما ما أنزل على الأنبياء من قبل كالتوراة والإنجيل، فيكفى الإيمان به على وجه الإجمال.
وقوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ معناه: لا نفرق بين جماعة النبيين، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلتم يا معشر اليهود، إذ كفرتم بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وفعلكم هذا في حقيقته كفر بالأنبياء جميعا لأن من كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل، ولذلك فنحن معشر المسلمين نؤمن بجميع الأنبياء بدون تفرقة أو استثناء.
ثم بين- سبحانه- أن أهل الكتاب إن آمنوا بما دعوتموهم إليه معشر المسلمين، فقد أصابوا الهدى، وإن نأوا وأعرضوا فهم معاندون مستكبرون فقال تعالى:
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
والفاء التي صدرت بها الآية الكريمة لترتيب ما بعدها على ما قبلها. لأن قول المؤمنين «آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم إلخ.
من شأنه أن يرقق القلوب الجاحدة، ويستميل النفوس الشاردة، لبعده عن التعصب
وقوله تعالى: فَقَدِ اهْتَدَوْا ترغيب لهم في اتباع الحق الذي اتبعه المؤمنون، أى: فإن آمنوا مثل إيمانكم فقد اهتدوا ورشدوا.
وكلمة: (مثل) في الآية الكريمة معناها، نفس الشيء وحقيقته. المراد فإن آمنوا بنفس ما آمنتم به فقد اهتدوا، ومنه قول العرب: «مثلك لا يبخل» والمراد أنت لا تبخل. ويرى بعض المفسرين أن كلمة «مثل» هنا على حقيقتها وهي الشبيه والنظير، وأن المماثلة وقعت بين الإيمانيين، وأنها لا تقتضي تعدد ما أمرنا الله أن نؤمن به.
قال الإمام القرطبي: «المعنى: فإن آمنوا مثل إيمانكم، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا» «١».
وقال ابن جرير: فإن صدقوا مثل تصديقكم بجميع ما أنزل عليكم من كتب الله وأنبيائه، فقد اهتدوا فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والاقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء، كقول القائل: (مر عمرو بأخيك مثل ما مررت به) يعنى ذلك (مر عمرو بأخيك مثل مرورى به) والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المرورين لا بين عمرو وبين المتكلم، فكذلك قوله: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ إنما وقع التمثيل بين الإيمانين لا بين المؤمن به» «٢».
وقوله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بيان لحالهم عند إعراضهم عن دعوة الحق، ووعد من الله- تعالى- للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بالنصر عليهم، والعصمة من شرورهم.
والشقاق: المنازعة والمخالفة والتعادي وأصله من الشق وهو الجانب فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه.
وقيل: إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه.
والمعنى: وإن أعرض هؤلاء الذين زعموا أن الهداية ميلهم عن الإيمان الذي تدعوهم إليه- يا محمد- فاعلم أن إعراضهم سببه المخالفة والمعاندة والمعاداة إذ لا حجة أوضح من حجتك، وما داموا هم كذلك فسيقيك الله شرهم، وينصرك عليهم، فهو سميع لما يقولونه
(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٤٣١.
وعبر- سبحانه- عن شدة مخالفتهم بقوله: «فإنما هم في شقاق» مبالغة في وصفهم بالشقاق حيث جعله مستوليا عليهم استيلاء الظرف على ما يوضع فيه.
ورتب قوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ على قوله فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ تثبيتا للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين لأن إعلامهم أن أهل الكتاب في مخالفة ومعاداة لهم قد يحملهم على الخوف منهم بسبب كثرتهم وقوتهم، فبشر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأنهم مهما بلغت قوتهم فلن يستطيعوا أن يصلوا إليك بأذى. وأنه- سبحانه- سيكفيك شرهم.
وقد أوفى الله- تعالى- بوعده، فنصر نبيه صلّى الله عليه وسلّم عليهم وعصمه من كيدهم بإلقاء العداوة بينهم وطرد من يستحق الطرد منهم، وقتل من لا بد من قتله بسبب خيانته وغدره. فالآية الكريمة قد تضمنت وعدا للمؤمنين بالنصر، ووعيدا لليهود ومن على شاكلتهم بالهزيمة والخيبة.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك- أن دين الله وهو الإسلام أولى بالاتباع فقال تعالى:
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ.
الصبغة فعلة من صبغ كالجلسة من جلس وهي في أصل اللغة. الحالة التي يقع عليها الصبغ وهو تلوين الأشياء- كالثياب وغيرها- بألوان معينة واستعملت الصيغة في الآية بمعنى الإيمان بما فصلته الآية الكريمة وهي قوله تعالى قبل ذلك قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى. إلخ الآية. وإنما أطلقت الصبغة على الإيمان بما ذكرته الآية مفصلا، لأن الإيمان يمتزج بالقلوب امتزاج الصبغ بالمصبوغ، وتبدو آثاره على المؤمنين كما تبدو آثار الصبغ على المصبوغ. ويقال: تصبغ فلان في الدين إذا أحسن دينه وتقيد بتعاليمه تقيدا تاما.
وقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ هكذا بالنصب على أنه وارد مورد المصدر المؤكد لقولهم (آمنا) فإنه في معنى صبغنا الله بالإيمان، وكأنهم قالوا صبغنا الله بالإيمان صبغته. وإيراد المصدر تأكيدا لفعل يوافقه في المعنى ويخالفه في اللفظ معهود في الكلام البليغ.
قال القاضي: قوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ متعلق بقوله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ إلى قوله:
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صيغة الله، ليبين أن المباينة بين هذا الدين الذي اختاره الله وبين الدين الذي اختاره المبطلون ظاهرة جلية، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحس السليم» «١».
بخلاف ما يتلقنه أهل الكتاب عن أحبارهم ورهبانهم من الأديان الباطلة فهو من الصيغة البشرية، التي تجعل من الدين الواحد أديانا مختلفة ومذاهب متنافرة.
وهذا التركيب «ومن أحسن من الله صبغة» يدل بحسب أصل الوضع اللغوي على نفى أن يكون دينا أفضل من دين الله، ويبقى احتمال أن يوجد دين يساويه في الحسن، وهذا الاحتمال لم ينفه التركيب بحسب أصل الوضع ولكن مثل هذا التركيب صار أسلوبا يفهم منه بمعونة مقام المدح نفى مساواة دين لدين الله في الحسن، كما يفهم منه نفى أن يكون هناك دين أحسن منه.
وأفضلية دين الله من جهة هدايته إلى الاعتقاد الحق، والأخلاق الكريمة، والآداب السمحة والعادات الصحيحة، والسياسة الرشيدة والمعاملات القائمة على رعاية المصالح.
وقوله تعالى: وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ عطف على آمنا بالله في قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ والمعنى: قل لهم يا محمد إننا نحن معاشر المسلمين نعبد الله وحده وصبغته هي صبغتنا ولا نعبد غيره فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا يزيدون في ديننا وينقصون ويحلون ويحرمون ويمحون من النفوس صبغة التوحيد، ليحلوا محلها بأهوائهم صبغة الشرك والكفر.
ثم أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يزيد في تذكيرهم ودحض حجتهم فقال تعالى: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ. أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى، قُلْ. أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
ومعنى الآية الكريمة: قل يا محمد لأهل الكتاب الذين قالوا لك ولأصحابك كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا وزعموا أن دينهم هو المعتبر عند الله دون دينك، قل لهم: أتجادلوننا في دين الله وهو ملة الإسلام التي بعثني بها للعالمين هدى ورحمة، وتزعمون أن الهداية فيما أنتم عليه من اليهودية والنصرانية، وتستبعدون عليه- تعالى- أن ينزل وحيه على من ليس منكم، بدعوى أنكم أقرب إلى الله منا، وأنكم أبناء الله وأحباؤه، والحال أنه- سبحانه- هو رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أى خالقنا وخالقكم ورازقنا ورازقكم ومحاسبنا ومحاسبكم على ما يصدر منا ومنكم من أعمال.
وقوله تعالى: وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ معناه: لكل منا ومنكم أعمال يترتب عليها الثواب والعقاب، فكما أننا نتساوى معكم في أن الله ربنا وربكم فكذلك نتساوى معكم في
فقوله تعالى: وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ حجتان مبطلتان لدعوى أهل الكتاب أنهم أحق لأن تكون النبوة فيهم لأن نسبة العباد إلى الله- تعالى- واحدة هو ربهم وهم عباده، والتفاضل في المنازل لديه إنما يكون بالأعمال الصالحة والإخلاص لله فيها، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ويختص بوحيه من يراه أهلا لذلك، وقد شاء- سبحانه- أن ينزل وحيه على محمد صلّى الله عليه وسلّم النبي الأمى العربي، بدين عام خالد فيه الهداية والنور والفلاح في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ بيان لسبب أحقية المسلمين بالهداية والكرامة، والمعنى، ونحن- يا معشر المسلمين- لربنا موحدون، نخلص لله العبادة والعمل، ولا نشرك معه آلهة أخرى، أما أنتم فقد أشركتم وضللتم فقال بعضكم: «عزير ابن الله» وقال بعضكم الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ فنحن أهدى منكم سبيلا، وأقوم قيلا.
ولم يصف المسلمون أعمالهم بالحسن، ولا أعمال المخاطبين بالسوء تجنبا لنفور المخاطبين من سماع خطابهم، بل أوردوا كلامهم مورد قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ كما أنهم لم يقولوا:
ونحن مخلصون وأنتم مخطئون، بل اقتصروا على نسبة الإخلاص لأنفسهم، وفي ذلك تعريض لطيف بأن المخاطبين غير مخلصين لله، فإن إخبار الإنسان باشتراكه مع جماعة في أمر أو أمور، وإفراد نفسه بعد ذلك بأمر، يومئ إلى أن هذا الأمر الذي أثبته لنفسه خاصة معدوم في أولئك الجماعة.
فمعنى الجملة: ونحن مخلصون في أعمالنا لله وحده، ولم نخلطها بشيء من الشرك كما فعل غيرنا.
وبعد أن أبطل القرآن الكريم محاجة أهل الكتاب في دين الله بغير حق وأنكر عليهم ذلك، عقبه بإبطال دعواهم أن أسلافهم من الأنبياء كانوا هودا أو نصارى فقال تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى، قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
وقوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ حرف «أم» فيه معادل للهمزة في قوله تعالى في الآية السابقة أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ على أحد الوجوه بمعنى أى الأمرين تأتون؟ المحاجة في حكمة الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء المذكورين في
فكأنه- سبحانه- يقول لنبيه صلّى الله عليه وسلّم قل لهم: لا تجادلوننا في دين الله بغير حق، ولا تقولوا إن الأنبياء كانوا على دينكم، فإن مجادلتكم وأقوالكم من قبيل المزاعم الباطلة التي لا سند لها من عقل أو نقل.
وقوله تعالى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ معناه قل لهم يا محمد إن زعموا أن الأنبياء المذكورين في الآية كانوا هودا أو نصارى: إن ما زعمتموه من أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب كانوا هودا أو نصارى هو على خلاف ما يعلمه الله، لأنه- سبحانه- قد أخبرنا بأنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية، وأن يعقوب- عليه السلام- عند ما حضرته الوفاة أوصى بنيه بأن يموتوا على الإسلام، وأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعد أولئك الأنبياء جميعا، هكذا أخبرنا الله «١» فهل أنتم أعلم بديانتهم أم الله ولا شك أنهم لن يستطيعوا أن يقولوا نحن أعلم، وإنما سيقولون الله اعلم، فإذا لزمهم هذا القول: قلنا لهم إذا فدعواكم لا أساس لها من الصحة وبذلك تكون الجملة الكريمة قد قطعت حجتهم بأجمع بيان وأحكمه.
وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ معناه لا أحد أشد ظلما ممن يكتم شهادة ثبتت عنده عن الله، تخبر بأن هؤلاء الأنبياء كانوا على الإسلام ولم يكونوا هودا أو نصارى.
قال فضيلة أستاذنا السيد محمد الخضر حسين- رحمه الله- ما ملخصه: ولما أنزل قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ: مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ.. إلى آخر الآية الكريمة، كان من أهل الكتاب من آمن به وأخبر بما في كتبهم من ذكره بصفته وعلاماته، وكان منهم من لا ينكر أن يكون قد ذكر في الكتابين. ولكنه يكابر ويقول: المقصود نبي لم يأت بعد وقد تصدى لجمع هذه البشائر من كتابي التوراة والإنجيل طائفة من أهل البحث والعلم في القديم والحديث، وبينوا وجه انطباقها على حال النبي صلّى الله عليه وسلّم بحيث لا تأخذ الناظر الطالب للحق ريبة في أنه الرسول الذي بشرت الأنبياء بمبعثه وعموم رسالته، ومن هذه البشائر ما جاء في سفر
والنبي المماثل لموسى- عليه السلام- في الرسالة والشريعة المستأنفة هو النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وإخوة بنى إسرائيل هم العرب، لأنهما يجتمعان في إبراهيم- عليه السلام- وقوله: «وأجعل كلامي في فمه، يوافق حال النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأمية وعدم تعاطى الكتابة» «١».
ثم ختمت الآية بالوعيد الشديد لهم على مزاعمهم الباطلة، فقال تعالى وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
الغفلة: السهو والنسيان، والمراد أنه- سبحانه- محيط بأعمال هؤلاء الذين كتموا الحق، لا تخفى عليه منها خافية وسيحاسبهم عليها حسابا عسيرا، ويعاقبهم على مزاعمهم الباطلة عقابا أليما، فالجملة الكريمة تهديد ووعيد لأهل الكتاب.
ثم حذر الله- تعالى- أهل الكتاب- في ختام الآيات- من التمادي في الكفر والمعصية، أنكالا على انتسابهم لآباء كانوا من الأنبياء أو من الصالحين، فقال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
تِلْكَ إشارة إلى أمة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط و (الأمة) المراد بها هنا الجماعة من الناس الذين يجمعهم أمر واحد وهو هنا الدين (قد خلت) أى مضت وانقرضت.
ومعنى الآية الكريمة: قل يا محمد لأهل الكتاب الذين زعموا أن الهداية في ملتهم وأن إبراهيم وآله كانوا هودا أو نصارى، قل لهم: إن إبراهيم وآله يمثلون أمة مضت لسبيلها لها عند الله ما كسبت من خير وعليها ما اكتسبت من شر ولا ينفعها غير صالح أعمالها، ولا يضرها سوى سيئها، وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لهؤلاء الذين تفتخرون بهم، فمن الأولى أن يكون الأمر كذلك بالنسبة لكم فعليكم أن تسلكوا طريق الايمان والعمل الصالح وأن تتركوا الاتكال على فضائل الآباء والأجداد فإن كل نفس يوم القيامة ستسأل عن أعمالها دون أعمال غيرها، كما بين ذلك قوله تعالى كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ.
فالمقصد الأول الذي ترمى إليه الآية الكريمة، هو تحذير المخاطبين من تركهم الإيمان والطاعة اعتمادا منهم على انتسابهم لآباء كانوا أنبياء أو صالحين، فإن هذا الاعتماد إنما هو نوع من الأمانى الكاذبة والأفكار الفاسدة وقد جاء في الحديث الشريف (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد دحضت ما ادعاه اليهود من أن الهدى في إتباع ملتهم، وأقامت الحجج والشواهد على كذبهم وافترائهم وأرشدتهم إلى الدين الحق، ودعتهم إلى الدخول فيه، ووبختهم على المحاجة في دين الله بغير علم، وحذرتهم من الانحراف عن الصراط المستقيم اعتمادا منهم على آباء لهم كانوا أنبياء أو صالحين، فإنه لن تجزى نفس عن نفس شيئا يوم الدين.
ثم تحدث القرآن الكريم بعد ذلك عن قصة تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وأورد الشبهات التي أثارها المشركون وأهل الكتاب- وعلى رأسهم اليهود- حول هذه المسألة، ورد عليها بما يدحضها ويبطلها.
ونظرا لأهمّيّة هذا الموضوع فسيكون كلامنا عنه على النحو التالي:
أولا: كيف كان المسلمون يتجهون في صلاتهم قبل تحويل القبلة إلى المسجد الحرام؟
ثانيا: ما الشبهات التي أثارها اليهود بعد تحويل القبلة إلى المسجد الحرام؟
ثالثا: كيف مهد القرآن الكريم لهذا التحويل؟
رابعا: تفسير الآيات الكريمة التي نزلت بشأن القبلة؟
خامسا: لماذا أطال القرآن الكريم حديثه عن تحويل القبلة مع أنها من الأمور الفرعية.
وإليك الإجابة عن كل سؤال من هذه الأسئلة.
أولا: فرضت الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في مكة ليلة الإسراء والمعراج. ويرى بعض العلماء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستقبل في صلاته- وهو بمكة- بيت المقدس إلا أنه لم يكن يستدير الكعبة، بل كان يجعلها بينه وبين ببيت المقدس، وذلك بأن يقف بين الركنين الأسود واليماني.
ويرى بعضهم أنه كان يستقبل في صلاته وهو بمكة المسجد الحرام. وهذا الرأى هو الذي نرجحه، لأن المسجد الحرام هو قبلة أبيه إبراهيم، ولأنه صلّى الله عليه وسلّم عربي، وظهر بين قومه العرب، ولا شك أن اعتزازهم بالمسجد الحرام، أشد من اعتزازهم بأى مسجد آخر، إذن فالمصلحة والحكمة تقتضيان بأن يستقبل المسلمون في صلاتهم بمكة الكعبة المشرفة.
ومنها ما أخرجه عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة) «٢».
وبذلك نرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتوجه في صلاته وهو بالمدينة إلى بيت المقدس، قبل أن يأمره الله- تعالى- بالتحول إلى المسجد الحرام.
ثانيا: الشبهات التي أثارها اليهود بعد تحول المسلمين في صلاتهم إلى المسجد الحرام.
قلنا إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد هجرته إلى المدينة استقبل في صلاته بيت المقدس بأمر من الله- تعالى- تأليفا لقلوب اليهود لأن بيت المقدس قبلتهم، ورمز وحدتهم، وقد فرحوا لصلاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين إليه، وكان أمل النبي أن يلبوا دعوته وأن يسارعوا إلى الدخول في الإسلام، ولكنهم عموا وصموا، وأخذوا يشيعون بين الناس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد اتبع قبلتهم وعما قريب سيتبع ملتهم، واعتبروا اتجاه المسلمين في صلاتهم إلى بيت المقدس نوعا من اقتباس الهدى منهم، فتأثر الرسول صلّى الله عليه وسلّم من موقفهم الجحودى، وانبثقت في نفسه أمنية التحول إلى الكعبة، وأكثر من التضرع والابتهال إلى الله كي يوجهه إلى قبلة أبيه إبراهيم.
وقد أجاب الله تعالى رجاء نبيه صلّى الله عليه وسلّم فولاه القبلة التي يرضاها، ففرح المؤمنون لذلك لأن في توجههم إلى البيت الحرام، تأليفا لقلوبهم، فهو مثابتهم ومركز تجمعهم، وموطن أمنهم ومهوى أفئدتهم، وجامع وحدتهم وقد استقبلوا هذا التحويل بالسمع والطاعة لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم
(٢) البخاري باب «ما جاء في القبلة» من كتاب الصلاة ج ١ ص ١٠٦.
ومما قاله المشركون في ذلك: إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد تحير في دينه، وبوشك أن يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا.
ومما قاله المنافقون: ما بال المسلمين كانوا على قبلة ثم تركوها؟
ومما قاله اليهود- الذين تولوا كبر التشكيك في صحة التوجه إلى البيت الحرام- إن القبلة الأولى- وهي بيت المقدس- إن كانت على حق فقد تركتم أيها المسلمون الحق وإن كانت على باطل فعبادتكم السابقة باطلة، ولو كان محمد صلّى الله عليه وسلّم نبيا حقا ما ترك قبلة الأنبياء قبله وتحول إلى غيرها وما فعل اليوم شيئا وخالفه غدا.
ومقصدهم الأول من وراء هذه المقالات المرذلة، الطعن في شريعة الإسلام، وفي نبوة النبي (عليه الصلاة والسلام).
ثالثا: ولكن القرآن الكريم أفسد عليهم خطتهم، وأحبط مكرهم، فأخبر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم بما سيقوله هؤلاء السفهاء جميعا قبل أن يصدر عنهم، ومهد لتحويل القبلة بما يطمئن النفوس ويثبت الإيمان في القلوب ويهيئ الأفئدة لتقبل هذا الأمر العظيم، فذكر الله في الآيات السابقة على التحويل أنه إذا نسخ آية أتى بما هو خير منها أو مثلها، لأنه القادر على كل شيء، المالك للسموات والأرض تصرفا وتدبيرا، وهو أعلم بما يتعبد به عباده وما فيه الخير لهم.
ثم ذكر- سبحانه- بعد ذلك أن له المشرق والمغرب. ففي أى مكان توجه المصلّى فثم وجه الله، ثم نبه- رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأنه لن يرضى عنه اليهود ولا النصارى حتى يتبع ملتهم. إشارة إلى أن المصلحة في التوجه إلى بيت المقدس قد انتهت وان الاستمرار على ذلك لن يكبح جماع نفوس لم تصبغ بهداية الله وتوفيقه.
ثم فصل القرآن بعد ذلك الحديث عن البيت الحرام وتعظيمه وشرفه فذكر أن الله- تعالى- قد جعله مثابة ومرجعا للحجاج والعمار. يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار وكلما ازدادوا له زيارة زاد شوقهم إليه. وجعله- أيضا- حرما آمنا لهم. بينما يتخطف الناس من حولهم.
وأخبر- سبحانه- أنه قد عهد في بنائه إلى نبيين كريمين هما سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل- عليهما السلام- وأمرهما بتطهيره من كل رجس للطائفين والعاكفين والركع السجود.
وقد كانت الآيات الواردة في شأن المسجد الحرام قبيل الأمر بتحويل القبلة كفيلة بإعطاء صورة وافية لكل عاقل، بأن بيتا له هذه القداسة جدير بأن يكون قبلة للناس في صلاتهم،
إلا أن ما قالوه من شبهات حول تحويل القبلة، لم يجد آذانا صاغية من المؤمنين، لأن الله- تعالى- قد مهد للتحويل- كما قلنا- بما يطمئن النفوس ولقن نبيه صلّى الله عليه وسلّم الجواب على شبهاتهم قبل أن ينطقوا بها ليكون ذلك أقطع لحجتهم، كما قالوا في الأمثال: (قبل الرمي يراش السهم).
رابعا: تفسير الآيات الكريمة التي نزلت في شأن تحويل القبلة إلى المسجد الحرام.
لقد أنزل الله- تعالى- آيات كريمة من سورة البقرة في شأن صرف القبلة إلى البيت الحرام «١»، لقن فيها المؤمنين الإجابة على معارضات اليهود وغيرهم، ونوه فيها بشأن الأمة الإسلامية، وبشرها بإجابة رجاء نبيها صلّى الله عليه وسلّم إذ ولاه القبلة التي يرضاها، وأراحه من التطلع إلى اهتداء اليهود وغيرهم من الجاحدين. ولو جاءهم بكل آية، لأن إعراضهم عن دعوته ليس عن شبهة يزيلها الدليل، ولكنه إعراض سببه الجحود والحقد، والجاحد والحاقد لا ينفع معهما دليل أو برهان.
وقد كرر القرآن الكريم الأمر بالتوجه إلى الكعبة ثلاث مرات في ثلاث آيات، وعلق بكل أمر فائدة جديدة تناسبه، لأن أهمية هذا الحادث تستلزم تكرارا في الخطاب ليرسخ في النفوس، ويستقر في المشاعر والقلوب.
هذا، وبعد تلك المقدمة الموجزة لما اشتملت عليه آيات تحويل القبلة من مقاصد، نحب أن نتعرض لتفسيرها بالتفصيل، فنقول قال الله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٤]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت، أى فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت: فائدته أن مفاجأة المكروه أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع، لما يتقدمه من توطين النفس، وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه» «١».
والمراد بالسفهاء اليهود الذين استنكروا تحويل القبلة، ومن لف لفهم من المنافقين ومشركي العرب.
وإنما سماهم الله- تعالى- سفهاء لأنهم سفهوا الحق، وجحدوه، وأنكروا نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
مع علمهم بصدقه في رسالته.
وقد صرح البخاري- رحمه الله- بأن المراد بالسفهاء هم اليهود، فقد روى عن البراء بن عازب قال:
ثم لقن الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم الجواب الذي يخرس به ألسنة المعترضين من اليهود وغيرهم، فقال تعالى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أى قل لهم- يا محمد- إذا اعترضوا على التحويل: إن الأمكنة كلها لله ملكا وتصرفا وهي بالنسبة إليه متساوية، وله أن يخص بعضها بحكم دون بعض، فإذا أمرنا باستقبال جهة في الصلاة فلحكمة اقتضت الأمر وما على الناس إلا أن يمتثلوا أمره، والمؤمنون ما اتخذوا الكعبة قبلة لهم إلا امتثالا لأمر ربهم، لا ترجيحا لبعض الجهات من تلقاء أنفسهم فالله هو الذي يهدى من يشاء هدايته، إلى السبيل الحق، فيوجه إلى بيت المقدس مدة حيث اقتضت حكمته ذلك، ثم إلى الكعبة، حيث يعلم المصلحة فيما أمر به.
- ثم وصف الله- تعالى- الأمة الإسلامية، بأنها أمة خيرة عادلة مزكاة بالعلم والعمل فقال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.
والمعنى: ومثل ما جعلنا قبلتكم- أيها المسلمون- وسطا لأنها البيت الحرام الذي هو المثابة للناس، والأمن لهم، جعلناكم- أيضا- أُمَّةً وَسَطاً أى: خيارا عدولا بين الأمم ليتحقق التناسب بينكم وبين القبلة التي تتوجهون إليها في صلواتكم، تشهدون على الأمم السابقة بأن أنبياءهم قد بلغوهم الرسالة، ونصحوهم بما ينفعهم، ولكي يشهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم عليكم بأنكم صدقتموه وآمنتم به.
أخرج البخاري عن أبى سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقال له: هل بلغت ما أرسلت به؟ فيقول نعم، فيقال لأمته هل بلغكم. فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقال له: من يشهد لك. فيقول:
محمد وأمته. فيشهدون أنه قد بلغ، فذلك قوله- جل ذكره- وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «١».
ثم بين الله- تعالى- الحكمة في تحويل القبلة إلى الكعبة فقال تعالى:
وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ.
ولذا قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف قال لنعلم ولم يزل عالما بذلك؟ قلت معناه لنعلمه علما يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمه موجودا حاصلا، ونحوه وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وقيل ليعلم رسول الله والمؤمنون، وإنما أسند علمهم إلى ذاته، لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده، وقيل معناه. ليميز التابع من الناكص كما قال- تعالى-: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فوضع العلم موضع التمييز لأن العلم يقع التمييز به» «١».
ثم بين الله- تعالى- آثار تحويل القبلة في نفوس المؤمنين وغيرهم فقال تعالى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ.
أى: إنما شرعنا لك- يا محمد- القبلة أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكمية ليظهر حال من يتبعك ويطيعك في كل حالة ممن لا يطيعك، وإن كانت هذه الفعلة- وهي تحويلنا لك من بيت المقدس إلى الكعبة- لكبيرة وشاقة، إلا على الذين خلق الله الهداية في قلوبهم فتلقوا أوامرنا بالخضوع والإذعان، وقالوا سمعنا وأطعنا كل من عند ربنا.
وقوله- تعالى-: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ....
بشارة عظيمة للمؤمنين، وجواب لما جاشت به الصدور، وتكذيب لما ادعاه اليهود من أن عبادة المؤمنين في الفترة التي سبقت تحويل القبلة إلى الكعبة ضائعة وباطلة.
فقد أخرج البخاري من حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه- أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما تقول فيهم، فأنزل الله- تعالى- وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.
وقال ابن عباس: كان رجال من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ماتوا على القبلة الأولى، منهم: أسعد بن زرارة، وأبو أمامة... وأناس آخرون فجاءت عشائرهم فقالوا: يا رسول
وروى أن حيي بن أخطب وجماعة من اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس إن كانت على هدى لقد تحولتم عنه، وإن كانت على ضلالة فقد عبدتم الله بها مسافة، ومن مات عليها فقد مات على ضلالة فقال المسلمون إنما الهدى فيما أمر الله- تعالى- والضلالة فيما نهى الله عنه فقالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا؟ - وكان قد مات من المسلمين جماعة قبل تحويل القبلة- فانطلق عشائرهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله: كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
والمعنى- وما كان الله- تعالى- ليذهب صلاتكم وأعمالكم الصالحة التي قمتم بها خلال توجهكم إلى بيت المقدس، لأنه- سبحانه- بعباده رءوف رحيم ولا يضيع أجر من أحسن عملا.
ثم خاطب الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم ووعده بأن القبلة التي سيؤمر بالتوجه إليها هي التي يحرص عليها ويرغب فيها.
قال الإمام ابن كثير: قال على بن أبى طلحة قال ابن عباس: كان أول ما نسخ في القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضعة عشر شهرا، وكان يحب قبلة أبيه إبراهيم، فكان يدعو الله، وينظر إلى السماء، فأنزل الله- تعالى- قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «١».
والمعنى: قد شاهدنا- يا محمد- وعلمنا تردد وجهك، وتسريح نظرك إلى السماء تطلعا إلى نزول الوحى عليك، وتوقعا لما ألقى في روعك من تحويل القبلة إلى الكعبة سعيا منك وراء استمالة العرب إلى الدخول في أحضان الإسلام، ومخالفة اليهود الذين كانوا يقولون: إنه يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، وها نحن قد أجبناك إلى ما طلبت وأعطيناك ما سألت، ووجهناك إلى قبلة تحبها وتميل إليها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
أى: فاصرف وجهك وحوله نحو المسجد الحرام وجهته.
وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
أى: وحيثما كنتم وأينما وجدتم في بر أو بحر فولوا وجوهكم تلقاء المسجد الحرام ونحوه.
وقد جاءت هذه الجملة موجهة إلى الأمة قاطبة لدفع توهم أن يكون الخطاب في الأول خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأنه لما كان تحويل القبلة أمرا له خطره، خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك آكد وأبلغ.
فالآية الكريمة فيها أمر لكل مسلّم أن يجعل الكعبة قبلة له، فيتوجه بصدره إلى ناحيتها وجهتها حال تأديته الصلاة لربه، سواء أكان المصلّى بالمدينة أم بمكة أو بغيرهما.
وفي ذكر المسجد الحرام دون الكعبة، ما يؤذن بكفالة مراعاة جهتها ولذلك لم يقع خلاف بين العلماء في أن الكعبة قبلة كل أفق. وأن من عاينها فرض عليه استقبالها ومن غاب عنها فعليه أن يستقبل جهتها. فإن خفيت عليه تحرى جهتها ما استطاع.
وقد سقنا في مطلع هذا البحث بعض الأحاديث الصحيحة التي صرحت بأن الصحابة عند ما بلغهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أمر بالتحويل إلى الكعبة استداروا إليها وهم في صلاتهم فجعلوها قبلتهم.
ومما يشهد بقوة إيمانهم وعظيم امتثالهم لشرع الله ما جاء عن نويلة بنت مسلّم أنها قالت.
«صلينا الظهر- أو العصر- في مسجد بنى حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء- أى بيت المقدس- فصلينا ركعتين، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال. والرجال مكان النساء. فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام. فحدثني رجل من بنى حارثة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أولئك رجال يؤمنون بالغيب» «١».
ثم بينت الآية الكريمة أن أهل الكتاب يعلمون أن التحويل إلى الكعبة هو الحق الذي لا ريب فيه فقال تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
أى: وإن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة، وانصرافكم عن بيت المقدس، ليعلمون أن استقبالكم الكعبة حق لأن الذي أخبر به قد قامت الآيات البينات عندهم على أنه رسول من عند الله، أو أنه يصلّى إلى القبلتين، وما وقفوا من تحويل القبلة هذا الموقف إلا لعنادهم،
- ثم أخبر الله- تعالى- عن كفر اليهود وعنادهم، وأنهم لن يتبعوا الحق ولو جاءهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بكل آية. فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٥ الى ١٥٠]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)
وما أنت- يا محمد- بتابع قبلتهم، لأنك على الهدى وهم على الضلال وفي هذه الجملة الكريمة حسم لأطماعهم، وتقرير لحقية القبلة إلى الكعبة، بعد أن أشاعوا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لو ثبت على قبلتهم لكانوا يرجون أنه النبي المنتظر، فقطع القرآن الكريم آمالهم في رجوع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قبلتهم، وأخبر بأنه ليس يتابع لها.
ثم ذكر القرآن الكريم اختلاف أهل الكتاب في القبلة، وأن كل طائفة منهم لا تتبع قبلة الطائفة الأخرى فقال تعالى: وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ أى: ما اليهود بمتبعين لقبلة النصارى ولا النصارى بمتبعين لقبلة اليهود، فهم مع اتفاقهم على مخالفتك، مختلفون في باطلهم وذلك لأن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى تستقبل مطلع الشمس.
ثم ساق القرآن الكريم بعد ذلك تحذيرا للأمة كلها من اتباع أهل الكتاب، وجاء هذا التحذير في شخص النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
أى: لئن اتبعت- يا محمد- قبلتهم- على سبيل الفرض، والتقدير من بعد وضوح البرهان وإعلامى إياك بإقامتهم على الباطل، إنك إذا لمن الظالمين لأنفسهم، المخالفين لأمري.
فالآية الكريمة: وعيد وتحذير للأمة الإسلامية من اتباع آراء اليهود المنبعثة عن الهوى والشهوة، وسيق الوعيد والتحذير في صورة الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي لا يتوقع منه أن يتبع أهواء أهل الكتاب، تأكيدا للوعيد والتحذير، فكأنه يقول:
لو اتبع أهواءهم أفضل الخليقة، وأعلاهم منزلة عندي، لجازيته مجازاة الظالمين، وأحق بهذه المجازاة وأولى من كانوا دونه في الفضل وعلو المنزلة إن اتبعوا أهواء المبطلين وهم اليهود ومن كان على شاكلتهم من المشركين.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: كيف قال وما أنت بتابع قبلتهم ولهم قبلتان، لليهود قبلة وللنصارى قبلة؟.
قلت: كلتا القبلتين باطلة، مخالفة لقبلة الحق، فكانتا بحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة» «١».
أى: أن أحبار اليهود وعلماء النصارى يعرفون صدق رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويعرفون أن توجهه إلى البيت الحرام حق، كما يعرفون أبناءهم فهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية، بالمعرفة الحسية في أن كلا متهما يقين لا اشتباه فيه.
قال الإمام ابن كثير: «يخبر الله أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما يعرف أحدهم ولده، والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا كما جاء في الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لرجل معه صبي صغير «ابنك هذا» ؟ قال نعم يا رسول الله أشهد به، قال: «أما إنه لا يخفى عليك ولا تخفى عليه» ويروى عن عمر أنه قال «لعبد الله بن سلام» أتعرف محمدا صلّى الله عليه وسلّم كما تعرف ولدك. قال نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته، وإنى لا أدرى ما كان من أم ولدي، فقبل عمر- رضي الله عنه- رأسه» «١».
أى: وإن طائفة من أهل الكتاب مع ذلك التحقيق والإيقان العلمي من أنك على حق في كل شئونك ليتمادون في إخفائه وجحوده، وهم يعلمون ما يترتب على ذلك الكتمان من سوء المصير لهم في الدنيا والآخرة- ثم ثبت الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، فأخبرهم بأن ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو الحق الذي لا شك فيه.
أى: اعلم- يا محمد- أن ما أوحى إليك وأمرت به من التوجه إلى المسجد الحرام. هو الحق الذي جاءك من ربك، وأن ما يقوله اليهود وغيرهم من المشركين هو الباطل الذي لا شك فيه، فلا تكونن من الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم به، أو في الحق الذي جاءك من ربك وهو ما أنت عليه في جميع أحوالك ومن بينها التوجه إلى المسجد الحرام.
والشك غير متوقع من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك قال المفسرون إن النهى موجه إلى الأمة في شخص نبيّها صلّى الله عليه وسلّم إذ كان فيها حديثو عهد بكفر يخشى عليهم أن يفتنوا بزخرف من القول يروج به أهل الكتاب شبها تعلق بأذهان من لم يرسخ الإيمان في قلوبهم.
وقد وضح ابن جرير- رحمه الله- هذا المعنى بقوله:
فإن قال لنا قائل: «أو كان النبي صلّى الله عليه وسلّم شاكا في أن الحق من ربه أو في أن القبلة التي وجهه الله إليها حق من الله- تعالى- حتى نهى عن شك في ذلك فقيل له: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
قيل: ذلك من الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهى للمخاطب به، والمراد به غيره
- ثم قال تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ.
أى: ولكل أهل ملة فبلة يتجهون إليها في عباداتهم، فسارعوا أنتم جهدكم إلى ما اختاره الله لكم من الأعمال التي تكسبكم سعادة الدارين، والتي من جملتها التوجه إلى البيت الحرام.
ثم ساق الله- تعالى- وعدا لمن يطيع أمره، ووعيدا لمن ينصرف عن الخير. فقال- تعالى-: يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً.
أى: في أى بقعة يدرككم الأجل، وتموتون فيها، يجمعكم الله- تعالى- يوم القيامة.
لتقفوا بين يديه للحساب، لأنه- سبحانه- قادر على جمعكم بعد مماتكم من قبوركم حيث كنتم، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم، كما أنه- سبحانه- قدير على كل شيء، ومادام الأمر كذلك، فبادروا بالأعمال الصالحة شكرا لربكم، وحافظوا على قبلتكم، حتى لا تضلوا كما ضل اليهود ومن على طريقتهم في الكفر والعناد.
ثم أكد- سبحانه- حكم التحويل، وبين عدم تفاوت الأمر باستقبال المسجد الحرام في حالتي السفر أو الحضر. فقال- تعالى-: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ...
أى: ومن أى موضع خرجت وإلى أى مكان آخر سرت، فول- يا محمد- وجهك عند صلاتك إلى المسجد الحرام، وإن هذا التوجه شطره لهو الحق الذي لا شك فيه عند ربك، فحافظوا على ذلك أيها المؤمنون وأطيعوا الله- تعالى- في كل ما يأمركم به، ويتهاكم عنه، لأنه- سبحانه- ليس بساه عن أعمالكم، ولا بغافل عنها، ولكنه محصيها عليكم، وسيجازيكم الجزاء الذي تستحقونه عليها يوم القيامة.
ثم كرر- سبحانه- الأمر للمؤمنين بأن يتجهوا في صلاتهم إلى المسجد الحرام فقال: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
أى: ومن أى مكان خرجت- يا محمد- فول وجهك تلقاء المسجد الحرام، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله، فولوا وجوهكم في صلاتكم تجاهه ونحوه.
الزموا هذه القبلة لأنها هي القبلة التي ترضونها وترغبون فيها وطالما تمنيتموها، والزموها- أيضا- لأنها هي القبلة التي لن تنسخ بعد ذلك.
والزموها- كذلك- لأن لزومكم إياها يقطع حجة اليهود الجاحدين، وغيرهم من المعاندين والخاسرين.
وقد اقترن هذا الأمر الثالث بالتوجه إلى المسجد الحرام في هذه الآية الكريمة بحكم ثلاث.
أولها: قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي والمراد من الناس اليهود ومن لف لفهم من المناوئين للدعوة الإسلامية.
والمعنى عليك- أيها النبي- ومن معك من المؤمنين أن تتجهوا في صلاتكم إلى الكعبة المشرفة، لكي تقطعوا دابر فتنة اليهود وحجتهم فقد قالوا لكم وقت اتجاهكم إلى بيت المقدس.
إذا كان لكم أيها المسلمون دين يخالف ديننا فلماذا تتجهون إلى قبلتنا، إلى غير ذلك من أقوالهم الفاسدة فاتجاهكم إلى المسجد الحرام من شأنه أن يزيل هذه الحجة التي قد تبدو مقبولة في نظر ضعاف العقول.
وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا استثناء من الناس، والمعنى:
لئلا يكون لأحد من اليهود حجة عليكم، إلا المعاندين منهم القائلين: ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا حبا لدين قومه، واشتياقا لمكة، وهؤلاء لا تخافون مطاعنهم بل اجعلوا خوفكم منى وحدي ولا تقيموا لما يشاغبون به في أمر القبلة وغيره وزنا، فإنى كفيل أن أرد عنكم كيدهم وأحبط سعيهم، فأنتم، أيها المؤمنون- ما توجهتم إلى بيت المقدس ثم إلى المسجد الحرام إلا بإذن ربكم وأمره، ففي الحالتين أنتم مطيعون لخالقكم- عز وجل-.
وقد أحسن صاحب الكشاف في شرحه للجملة الكريمة، وصرح بأنه يجوز أن يراد بالناس وبالذين ظلموا مشركو العرب فقال:
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا استثناء من الناس، ومعناه: لئلا يكون حجة لأحد من اليهود إلا
قلت: كانوا يقولون ما له لا يحول إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة؟
فإن قلت: كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين؟
قلت: لأنهم يسوقونه سياق الحجة، ويجوز أن يكون المعنى: لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض في ترككم التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبى العرب إلا الذين ظلموا منهم وهم أهل مكة، حين يقولون بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم» «١».
وثانيها: قوله تعالى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ أى: ولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ولتكون قبلتكم مستقلة عن قبلة اليهود وغيرهم، فالجملة الكريمة معطوفة على قوله- تعالى-: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ.
وثالثها: قوله- تعالى-: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أى: ولكي ترشدوا للصواب في كل أموركم فما ضلت عنه الأمم من الحق هديناكم إليه، وخصصناكم به ولهذا كانت أمتكم خير أمة أخرجت للناس.
والجملة الكريمة معطوفة على الجملة السابقة وهي قوله تعالى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ.
وبذلك تكون الآيات الكريمة التي نزلت في شأن تحويل القبلة إلى المسجد الحرام قد ثبتت المؤمنين، ودحضت كل شبهة أوردها اليهود وغيرهم في هذه المسألة.
خامسا: هذا، وفي ختام هذا المبحث نحب أن نجيب على السؤال الخامس، وهو:
لماذا فصل القرآن الكريم الحديث عن تحويل القبلة فنقول:
لقد شرع الله- تعالى- تحويل القبلة إلى الكعبة بعد أن صلّى المسلمون إلى بيت المقدس فترة من الزمان، وكرر الأمر بتولية الوجوه إلى المسجد الحرام عند الصلاة، وأقام الأدلة الساطعة على أن ذلك التحويل هو الحق، وأتى بألوان من الوعيد لمن لم يتبع أوامره، وساق وجوها من التأكيدات تدل على عناية بالغة بشأنها.
والمقتضى لهذه العناية وذلك التفصيل- مع أن التوجه إليها فرع من فروع الدين- هو أن التحويل من بيت المقدس إلى المسجد الحرام. كان أول نسخ في الإسلام- كما قال بذلك كثير
ولأن هذا التحويل- أيضا- جاء على خلاف رغبة اليهود، فإنهم كانوا يحرصون على استمرار المسلمين في التوجه إلى بيت المقدس، لأنه قبلتهم، فلما حصل التحويل إلى المسجد الحرام، اتخذوا منه مادة للطعن في صحة النبوة ليفتنوا ضعفاء العقيدة، وسلكوا لبلبلة أفكار المسلمين كل وسيلة.
فزعموا أن نسخ الحكم بعد شرعه مناف للحكمة، ومباين للعقول، فلا يقع في الشرائع الإلهية، وساقوا من الشبهات والمفتريات ما بينا بعضه عند تفسيرنا للآيات الكريمة.
ويبدو أن شغبهم هذا، كان له آثاره عند ذوى النفوس المريضة وضعاف الإيمان فلهذا كله أخذت مسألة القبلة شأنا غير شأن بقية الأحكام الفرعية، فكان مقتضى الحال أن يكون الحديث عنها مستفيضا، ومدعما بالأدلة والبراهين، وهذا ما راعاه القرآن الكريم عند حديثه عن مسألة القبلة، فلقد قرر وكرر، ووعد وتوعد، ووضح وبين، ليدفع كل شبهة، وليجتث كل حجة، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم، وينهض بضعفاء الإيمان إلى منزلة الراسخين في العلم، ويهوى باليهود ومن حذا حذوهم في مكان سحيق، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن نعمة تحويل القبلة أتبعه بالحديث عن نعمة جليلة أخرى وهي نعمة إرسال الرسول فيهم لهدايتهم فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥١ الى ١٥٢]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)
وقوله- تعالى-: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ.. إلخ متصل بما قبله، والكاف للتشبيه وهي في موضع نصب على أنها نعت لمصدر محذوف وما مصدرية، والتقدير: لقد حولت القبلة إلى شطر المسجد الحرام لأتم نعمتي عليكم إتماما مثل إتمام نعمتي عليكم بإرسال
وقيل إن قوله- تعالى-: كَما أَرْسَلْنا.. إلخ متصل بما بعده، فتكون الكاف للمقابلة، أى: كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يعلمكم الدين القويم، والخلق المستقيم ومنحتكم هذه النعمة فضلا منى وكرما، فاذكروني بالشكر عليها أذكركم برحمتي وثوابي. وقوله: فِيكُمْ متعلق «بأرسلنا» وقدم على المفعول تعجيلا بإدخال السرور: وقوله: مِنْكُمْ في موضع نصب، لأنه صفة لقوله: رَسُولًا والمخاطبون بهذه الآية الكريمة هم العرب.
وفي إرساله الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيهم وهو منهم نعمة تستوجب المزيد من الشكر، لأن إرساله منهم يسبقه معرفتهم لنشأته الطيبة وسيرته العطرة، ومن شأن هذه المعرفة أن تحملهم على المسارعة إلى تصديقه والإيمان به، ولأن في إرساله فيهم وهو منهم شرف عظيم لهم، ومجد لا يعد له مجد، حيث جعل- سبحانه- خاتم رسله من هذه الأمة، ولأن المشهور من حالهم الأنفة الشديدة من الانقياد، فكون الرسول منهم ادعى إلى إيمانهم به وقبولهم لدعوته. وقوله: يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا صفة ثانية للرسول صلّى الله عليه وسلّم.
والتلاوة: ذكر الكلمة بعد الكلمة على نظام متسق، وأصله من الإتباع ومنه تلاه، أى:
تبعه. والمراد من الآيات: آيات القرآن الكريم، وتلاوتها قراءتها، فإن البصير بأساليب البيان العربي يدرك من مجرد تلاوة آيات القرآن كيف ارتفع إلى الذروة التي كان بها معجزة ساطعة.
وفي هذه الجملة- كما قال الآلوسى- «إشارة إلى طريق إثبات نبوته- عليه الصلاة والسلام- لأن تلاوة الأمى للآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الإخبار بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته» «١» :
وعبر بقوله: يَتْلُوا، لأن نزول القرآن مستمر، وقراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم له متوالية، وفي كل قراءة يحصل علم المعجزات للسامعين.
ويجوز أن يراد بالآيات: دلائل التوحيد والنبوة والبعث، وبتلاوتها التذكير بها حتى يزداد المؤمنون إيمانا بصدقها.
وقوله: وَيُزَكِّيكُمْ صفة ثالثة للرسول صلّى الله عليه وسلّم، أى: ويطهركم من الشرك، ومن الأخلاق الذميمة. وإذا أشرقت النفوس بنور الحق، وتحلت بالأخلاق الحميدة، قويت على تلقى ما يرد عليها من الحقائق السامية.
والمراد بالكتاب: القرآن، وتعليمه بيان ما يخفى من معانيه، فهو غير التلاوة، فلا تكرار بين قوله يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وبين قوله وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ.
والحكمة: ما يصدر عنه صلّى الله عليه وسلّم من الأقوال والأفعال التي جعل الله للناس فيها أسوة حسنة.
قال بعضهم: وقدمت جملة وَيُزَكِّيكُمْ هنا على جملة وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ عكس ما جاء في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين، فقدم ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماما بها، وبعثا لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلا للبشارة بها. أما في دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج، مع ما في ذلك التخالف من التفنن» «١».
وقوله- تعالى-: وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ صفة خامسة له صلّى الله عليه وسلّم.
أى: «ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحى. ومما لم يكونوا يعلمونه وعلمهم إياه صلّى الله عليه وسلّم وجوه استنباط الأحكام من النصوص أو الأصول المستمدة منها، وأخبار الأمم الماضية، وقصص الأنبياء، وغير ذلك مما لم تستقل بعلمه عقولهم. وبهذا النوع من التعليم صار الدين كاملا قبل انتهاء عهد النبوة.
ولقد كان العرب قبل الإسلام في حالة شديدة من ظلام العقول وفساد العقائد...
فلما أكرمهم الله- تعالى- برسالة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وتلا عليهم الآيات، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، خرج منهم رجال صاروا أمثالا عالية في العقيدة السليمة، والأخلاق القويمة والأحكام العادلة، والسياسة الرشيدة لمختلف البيئات والنزعات.
قال الآلوسى: وكان الظاهر أن يقول: «ويعلمكم الكتاب والحكمة وما لم تكونوا تعلمون» بحذف الفعل «يعلمكم» من الجملة الأخيرة، ليكون الكلام من عطف المفرد على المفرد، إلا أنه- تعالى- كرر الفعل للدلالة على أنه جنس آخر غير مشارك لما قبله أصلا، فهو تخصيص بعد التعميم مبين لكون إرساله صلّى الله عليه وسلّم نعمة عظيمة، ولولاه لكان الخلق متحيرين في أمر دينهم لا يدرون ماذا يصنعون» «٢».
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ١٩.
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ...
ذكر الشيء: التلفظ باسمه، ويطلق بمعنى استحضاره في الذهن، وهو ضد النسيان وذكر العباد لخالقهم قد يكون باللسان وقد يكون بالقلب وقد يكون بالجوارح. فذكرهم إياه بألسنتهم معناه: أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه، ويقرءوا كتابه، مع استحضارهم لعظمته وجلاله.
وذكرهم إياه بقلوبهم معناه أن يتفكروا في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته وفي تكاليفه وأحكامه، وأوامره ونواهيه، وأسرار مخلوقاته، لأن هذا التفكر يقوى إيمانهم، ويصفى نفوسهم.
وذكرهم إياه بجوارحهم معناه: أن تكون جوارحهم وحواسهم مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها، منصرفة عن الأفعال التي نهوا عنها، ولكون الصلاة مشتملة على هذه الثلاثة سماها الله- تعالى- ذكرا في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ....
وقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ أمر وجوابه، وفيه معنى المجازاة فلذلك جزم.
والمعنى: اذكروني بالطاعة والاستجابة لما أمرتكم به والبعد عما نهيتكم عنه أذكركم بالرعاية، والنصرة، وصلاح الأحوال في الدنيا، وبالرحمة وجزيل الثواب في الآخرة. فالذكر في قوله «أذكركم» مستعمل فيما يترتب على الذكر من المجازاة بما هو أوفى وأبقى، كما أن قوله «فاذكروني» المراد به: اذكروا عظمتي وجلالي ونعمى عليكم، لأن هذا التذكر هو الذي يبعث على استفراغ الوسع في الأقوال والأعمال التي ترضى الله.
قال صاحب المنار: وقال الأستاذ الإمام: هذه الكلمة- وهي قوله- تعالى- فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ- من الله- تعالى- كبيرة جدا، كأنه يقول: إننى أعاملكم بما تعاملوننى به وهو الرب ونحن العبيد، وهو الغنى عنا ونحن الفقراء إليه. وهذه أفضل تربية من الله لعباده: إذا ذكروه ذكرهم بإدامة النعمة والفضل، وإذا نسوه نسيهم وعاقبهم بمقتضى العدل «١» ».
هذا، وقد وردت أحاديث متعددة في فضل الذكر والذاكرين، ومن ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول الله- تعالى-: أنا عند ظن عبدى بي وأنا معه حين يذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي. وإن ذكرنى في ملأ ذكرته في ملأ خير
وروى مسلّم عن أبى سعيد الخدري وأبى هريرة: أنهما شهدا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
لا يقعد قوم يذكرون الله- تعالى- إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده».
قال الإمام النووي: واعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحو ذلك، بل كل عامل لله- تعالى- بطاعة فهو ذاكر لله- تعالى-.
وقوله- تعالى-: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ معطوف على ما قبله.
والشكر في اللغة- كما يقول القرطبي- الظهور، ومنه قولهم: دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف.
وحقيقته: عرفان الإحسان وإظهاره بالثناء على المحسن، يقال شكره وشكر له كما يقال نصحه ونصح له.
وأصل الكفر في كلام العرب الستر والتغطية والجحود، ويستعمل بمعنى عدم الإيمان فيتعدى بالباء فيقال: كفر بالله، ويستعمل بمعنى عدم الشكر- وهو المراد هنا- فيتعدى بنفسه، فيقال: كفر النعمة أى جحدها وكفر المنعم أى جحد نعمته ولم يقابلها بالشكر.
والمعنى: اشكروا لي ما أنعمت به عليكم من ضروب النعم، بأن تستعملوا النعم فيما خلقت له، وبأن تطيعوني في السر والعلن، وحذار من أن تجحدوا إحسانى إليكم، ونعمى عليكم فاسلبكم إياها.
قال- تعالى-: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ «١».
وقدم- سبحانه- الأمر بالذكر على الأمر بالشكر، لأن في الذكر اشتغالا بذاته- تعالى-، وفي الشكر اشتغالا بنعمته، والاشتغال بذاته أولى بالتقديم من الاشتغال بنعمته. وقوله وَلا تَكْفُرُونِ تأكيد لقوله وَاشْكُرُوا لِي.
وهذا تحذير لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقع فيه بعض الأمم السابقة التي فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.
وبعد أن أمر- سبحانه- عباده بذكره وشكره، وجه نداء إليهم بين لهم فيه ما يعينهم على ذلك، كما بين لهم منزلة الشهداء، وعاقبة الصابرين على البلاء فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)الصبر: حبس النفس على احتمال المكاره، وتوطينها على تحمل المشاق وتجنب الجزع.
والمعنى: يا من آمنتم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه، وعلى فعل الطاعات وترك المعاصي، وعلى احتمال المكاره التي تجرى بها الأقدار، استعينوا على كل ذلك بالصبر الجميل وبالصلاة المصحوبة بالخشوع والإخلاص والتذلل للخالق- عز وجل- فإن الإيمان الذي خالط قلوبكم يستدعى منكم القيام بالمصاعب، واحتمال المكاره، ولقاء الأذى من عدو أو سفيه، ولن تستطيعوا أن تتغلبوا على كل ذلك إلا بالصبر والصلاة.
ولقد استجاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذا التوجيه الرباني، وتأسى به أصحابه في ذلك، فقد أخرج الإمام أحمد- بسنده- عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا حزبه أمر صلّى» «١» أى: إذا شق عليه أمر لجأ إلى الصلاة لله رب العالمين.
وافتتحت الآية الكريمة بالنداء، لأن فيه إشعارا بخبر مهم عظيم، فإن من شأن الأخبار العظيمة التي تهول المخاطب أن يقدم قبلها ما يهيئ النفس لقبولها لتستأنس بها قبل أن تفجأها.
وقوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بيان لحكمة الاستعانة بالصبر وهو الفوز والنصر. أى: إن الله مع الصابرين بمعونته ونصره، وتوفيقه وتسديده فهي معية خاصة، وإلا فهو- سبحانه- مع جميع خلقه بعلمه وقدرته.
وقال- سبحانه-: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ولم يقل «مع المصلين» لأن الصلاة المستوفية لأركانها وسننها وخشوعها لا تتم إلا بالصبر، فالمصلون بحق داخلون في قوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.
ولم يقل «معكم» ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم.
قال الأستاذ الإمام: إن من سنة الله: - تعالى- أن الأعمال العظيمة لا تتم ولا ينجح صاحبها إلا بالثبات والاستمرار، وهذا إنما يكون بالصبر، فمن صبر فهو على سنة الله والله معه، لأنه- سبحانه- جعل هذا الصبر سببا للظفر، إذ هو يولد الثبات والاستمرار الذي هو شرط النجاح، ومن لم يصبر فليس الله معه، لأنه تنكب سنته، ولن يثبت فيبلغ غايته «١».
ثم نهى- سبحانه- المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتا فقال: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ. بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ.
قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: نزلت هذه الآية في قتلى غزوة بدر، قتل من المسلمين فيها أربعة عشر رجلا: ست من المهاجرين وثمانية من الأنصار وكان الناس يقولون. مات فلان ومات فلان. فنهى الله- تعالى- أن يقال فيهم: إنهم ماتوا.
وقيل إن الكفار والمنافقين قالوا: إن الناس يقتلون أنفسهم طلبا لمرضاة محمد من غير فائدة، فنزلت هذه الآية «٢».
والسبيل: الطريق وسبيل الله: طريق مرضاته، وإنما قيل للجهاد سبيل الله، لأنه طريق إلى ثواب الله وإعلاء كلمته. و «أموات» مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى: لا تقولوا هم
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ١٢٣.
قال الآلوسى: «والجملة معطوفة على «لا تقولوا» اضراب عنه، وليس من عطف المفرد على المفرد ليكون في حيز القول ويصير المعنى بل قولوا أحياء، لأن المقصود إثبات الحياة لهم لا أمرهم بأن يقولوا في شأنهم إنهم أحياء وإن كان ذلك أيضا صحيحا» «١».
أى: لا تقولوا أيها المؤمنون لمن يقتل من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه إنهم أموات، بمعنى أنهم تلفت نفوسهم وعدموا الحياة، وتصرمت عنهم اللذات، وأضحوا كالجمادات كما يتبادر من معنى الميت، بل هم أحياء- في عالم غير عالمكم كما قال- تعالى-: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ.
وقوله: وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ أى: لا تحسون ولا تدركون حالهم بالمشاعر، لأنها من شئون الغيب التي لا طريق للعلم بها إلا الوحى.
قال الآلوسى ما ملخصه: ثم إن نهى المؤمنين عن أن يقولوا في شأن الشهداء أموات، إما أن يكون دفعا لإيهام مساواتهم لغيرهم في ذلك البرزخ... وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون في شأن أولئك الكرام قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولن يروه أبدا... ثم قال: وقد اختلف في هذه الحياة التي يحياها أولئك الشهداء عند ربهم:
فذهب كثير من السلف إلى أنها حقيقة بالروح والجسد ولكنها لا ندركها في هذه النشأة واستدلوا بسياق قوله- تعالى-: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ وبأن الحياة الروحانية التي ليست بالجسد ليست من خواصهم فلا يكون لهم امتياز بذلك على من عداهم. وذهب البعض إلى أنها روحانية وكونهم يرزقون لا ينافي ذلك.. وذهب البلخي إلى نفى الحياة عنهم وقال معنى بَلْ أَحْياءٌ إنهم يحيون يوم القيامة فيجزون أحسن الجزاء. فالآية على حد قوله- تعالى- إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ.. وذهب بعضهم إلى إثبات الحياة الحكمية لهم بسبب ما نالوا من الذكر الجميل والثناء الجليل، كما روى عن على أنه قال: «هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة».
ثم قال: «ولا يخفى أن هذه الأقوال- ما عدا الأولين- في غاية الضعف، بل نهاية البطلان، والمشهور ترجيح القول الأول».
وبعد أن طلب- سبحانه- من عباده أن يستعينوا بالصبر والصلاة على احتمال المكاره، أردف ذلك بذكر بعض المواطن التي لا يمر فيها الإنسان بسلامة إلا إذا اعتصم بعرى الصبر فقال- تعالى- وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ.
وقوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ من البلو والبلاء وهو الامتحان والاختبار، وهو جواب لقسم محذوف والتقدير: والله لنبلونكم.
وقوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ عطف على قوله: وَاسْتَعِينُوا إلخ، عطف المضمون على المضمون، والجامع أن مضمون الأول طلب الصبر، ومضمون الثانية بيان مواطنه، والمراد:
ولنعاملنكم معاملة المختبر والمبتلى لأحوالكم:
والتنوين في قوله: بِشَيْءٍ للتقليل. أى بقليل من كل واحد من هذه البلايا والمحن وهي الخوف وما عطف عليه.
وإنما قلل- كما قال الزمخشري- ليؤذن أن كل بلاء وإن جل ففوقه ما يقل إليه وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم، وأنه- سبحانه- يبتليهم من هذه المصائب بقدر ما يمتاز به الصابرون من غير الصابرين.
والْخَوْفِ غم يلحق النفس لتوقع مكروه، ومن أشد ما تضطرب له النفوس من الخوف، خشيتها أن تقع تحت يد عدو لا هم له إلا إيذاؤها بما تكره.
والْجُوعِ ضد الشبع، والمراد منه القحط، وتعذر تحصيل القوت، والحاجة الملحة إلى طعام.
والْأَمْوالِ جمع مال، وهو ما يملك مما له قيمة، وجرى للعرب عرف باستعماله في النعم خاصة- وهي الإبل والبقر والغنم-.
والمعنى: ولنصيبنكم بشيء من الخوف وبشيء من الجوع، وبشيء من النقص في الأنفس والأموال والثمرات، ليظهر هل تصبرون أو لا تصبرون، فنرتب الثواب على الصبر والثبات على الطاعة، ونرتب العقاب على الجزع وعدم التسليم لأمر الله- تعالى-.
ولقد حدث للمسلمين الأولين خوف شديد بسبب تألب أعدائهم عليهم كما حصل في غزوة الأحزاب. وحدث لهم جوع أليم بسبب هجرتهم من أوطانهم، وقلة ذات يدهم حتى لقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يشد الحجر على بطنه. وحدث لهم نقص في أموالهم بسبب اشتغالهم بإعلاء كلمة الله. وحدث لهم نقص في أنفسهم بسبب قتالهم لأعدائهم. ولكن كل هذه الآلام لم تزدهم إلا إيمانا وتسليما لقضاء الله وقدره، واستمساكا بتعاليم دينهم وهذا البلاء وتلك الآلام لا بد منها ليؤدى المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف، إذ العقائد الرخيصة التي لا يؤدى أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم تركها عند الصدمة الأولى، وليعلم من جاء بعدهم من المؤمنين إذا ما أصابهم مثل هذه الأمور أن ما أصابهم ليس لنقصان من درجاتهم، وحط من مراتبهم، فقد أصيب بمثل ذلك أو أكثر من هم أفضل منهم وهم أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قال الإمام الرازي: وأما الحكمة في تقديم تعريف هذا الابتلاء. أى الإخبار به قبل وقوعه: ففيها وجوه:
أحدها: ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت فيكون ذلك أبعد لهم عن الجزع وأسهل عليهم بعد الورود.
وثانيها: أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المحن اشتد خوفهم، فيصير ذلك الخوف تعجيلا للابتلاء، فيستحقون به مزيد الثواب.
وثالثها: أن الكفار إذا شاهدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مقيمين على دينهم مستقرين عليه، مع ما كانوا عليه من نهاية الضر والمحنة والجوع- يعلمون أن القوم إنما اختاروا هذا الدين لقطعهم بصحته فيدعوهم ذلك إلى مزيد التأمل في دلائله. ومن المعلوم الظاهر أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره، ثم رأوه مع ذلك مصرا على ذلك المذهب:
كان ذلك أدعى لهم إلى اتباعه مما إذا رأوه مرفه الحال لا كلفة عليه في ذلك المذهب.
ورابعها: أنه- تعالى- أخبر بوقوع ذلك الابتلاء قبل وقوعه فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه. فكان إخبارا عن الغيب فكان معجزا.
وسادسها: أن إخلاص الإنسان حالة البلاء ورجوعه إلى باب الله- تعالى- أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه. فكانت الحكمة في هذا الابتلاء ذلك «١».
ثم بعد أن بين- سبحانه- مواطن تضطرب فيها النفوس أردف ذلك يذكر عاقبة الصبر، وجزائه الأسنى، فقال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.
الخطاب في قوله: وَبَشِّرِ للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من تتأتى منه البشارة. والجملة عطف على «لنبلونكم» عطف المضمون على المضمون أى: الابتلاء حاصل لكم وكذا البشارة لكن لمن صبر.
والمصيبة اسم فاعل من الإصابة، والمراد بها الآلام الداخلة على النفس بسبب ما ينالها من الشدائد والمحن.
وراجِعُونَ من الرجوع بمعنى مصير الشيء إلى ما كان عليه، يقال: رجعت الدار إلى فلان إذا ملكها مرة ثانية، وهو نظير العود والمصير.
والمعنى: وبشر يا محمد بالرحمة العظيمة والإحسان الجزيل، أولئك الصابرين الذين من صفاتهم أنهم إذا نزلت بهم مصيبة، في أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم، أو غير ذلك، قالوا:
بألسنتهم وقلوبهم على سبيل التسليم المطلق لقضاء الله والرضا بقدره إِنَّا لِلَّهِ أى: إنا لله ملكا وعبودية، والمالك يتصرف في ملكه ويقلبه من حال إلى حال كيف يشاء، «وإنا إليه راجعون» أى: وإنا إليه صائرون يوم القيامة فيجازينا على ما أمرنا به من الصبر والتسليم لقضائه عند نزول الشدائد التي ليس في استطاعتنا دفعها.
فقولهم: إِنَّا لِلَّهِ إقرار بالعبودية والملكية لله رب العالمين. وقولهم «وإنا إليه راجعون» إقرار بصحة البعث والحساب والثواب والعقاب يوم القيامة.
وليست هذه البشارة موجهة إلى الذين يقولون بألسنتهم هذا القول مع الجزع وعدم الرضا بالقضاء والقدر، وإنما هذه البشارة موجهة إلى الذين يتلقون المصائب بالسكينة والتسليم لقضاء الله لأول حلولها، يشير إلى هذا قوله- تعالى-: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا فإنه يدل على أنهم يقولون ذلك وقت الإصابة «ويصرح بهذا قوله صلّى الله عليه وسلّم «الصبر عند الصدمة الأولى».
قال القرطبي: جعل الله هذه الكلمات وهي قوله- تعالى-: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين، لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله «إنا لله» توحيد واقرار بالعبودية والملك وقوله وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار بالهلك على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له. قال سعيد بن جبير: لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب لما قال: يا أسفى على يوسف» «١».
هذا، ولا يتنافى مع الصبر ما يكون من الحزن عند حصول المصيبة، فقد ورد في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بكى عند موت ابنه إبراهيم وقال: العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».
وإنما الذي ينافيه ويؤاخذ الإنسان عليه، الجزع المفضى إلى إنكار حكمة الله فيما نزل به من بأساء أو ضراء، أو إلى فعل ما حرمه الإسلام من نحو النياحة وشق الجيوب، ولطم الخدود.
ثم بين- سبحانه- ما أعده للصابرين من أجر جزيل فقال: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.
أُولئِكَ اسم اشارة، أتى به- سبحانه- للتنبيه على أن المشار إليه هم الموصوفون بجميع الصفات السابقة على اسم الإشارة، وأن الحكم الذي ورد بعد مترتب على هذه الأوصاف.
والصلوات جمع صلاة. وصلاة الله على عباده إقباله عليهم. بالثناء والعطف والمغفرة.
وجمعت مراعاة لكثرة ما يترتب عليها من أنواع الخيرات في الدنيا والآخرة.
الرحمة كما هو مذهب السلف- صفة قائمة بذاته- تعالى- لا نعرف حقيقتها وإنما نعرف أثرها الذي هو الإحسان.
وعطف- سبحانه- الرحمة على الصلوات ليدل على أن بعد ذلك الإقبال منه على عباده إنعاما واسعا، وعطاء جزيلا في الدنيا والآخرة.
والجملة أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ استئنافية جواب عن سؤال تقديره: بماذا بشر الله الصابرين؟ فكان الجواب: أولئك عليهم صلوات... إلخ.
والمعنى: أولئك الصابرون المحتسبون الموصوفون بتلك الصفات الكريمة، عليهم مغفرة عظيمة من خالقهم، وإحسان منه- سبحانه- يشملهم في دنياهم وآخرتهم وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ لطريق الصواب بالتسليم وقت صدمة المصيبة دون غيرهم ممن جزعوا عند صدمتها، حتى صدر عنهم ما لم يأذن به الله.
هذا، وفي فضل الصبر والصابرين وردت آيات كثيرة، وأحاديث متعددة أما الآيات فيزيد عددها في القرآن على سبعين آية منها قوله- تعالى-: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وقوله وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وقوله: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وقوله: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الأحاديث فمنها ما جاء في صحيح مسلّم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرنى في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها. قالت: فلما توفى أبو سلمة قلت: من خير من أبى سلمة: صاحب رسول الله؟ ثم عزم الله لي فقلتها: قالت: فتزوجني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ومنها ما رواه الإمام أحمد بسنده عن أبى سنان قال: دفنت ابنا لي. وإنى لفي القبر أخذ بيدي أبو طلحة «يعنى الخولاني» فأخرجنى وقال: ألا أبشرك؟ قال قلت: بلى. قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عوزب عن أبى موسى الأشعرى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الله- تعالى-: يا ملك الموت، قبضت ولد عبدى، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم.
قال فماذا قال؟ قال حمدك واسترجع. قال الله- تعالى-: ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد.
ومنها ما رواه الشيخان عن أبى سعيد وأبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ما يصيب المسلّم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
ثم تحدث- سبحانه- عن شعيرة من شعائر الحج فقال:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٨]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)
قال الآلوسى: بعد أن أشار- سبحانه- فيما تقدم إلى الجهاد عقب ذلك ببيان معالم الحج، فكأنه جمع بين الحج والغزو، وفيهما شق الأنفس وتلف الأموال. وقيل لما ذكر الصبر عقبه ببحث الحج لما فيه من الأمور المحتاجة إليه» «١».
والصَّفا في اللغة: الحجر الأملس، مأخوذ من صفا يصفوا إذا خلص، واحده صفاة فهو مثل حصى وحصاة ونوى ونواة.
والْمَرْوَةَ في أصل اللغة: الحجر الأبيض اللين، وقيل: الحصاة الصغيرة. وهما- أى الصفا والمروة- قد جعلا علمين لجبلين معروفين بمكة كانا على بعد ما يقرب من ألف ذراع من المسجد الحرام. والألف واللام فيهما للتعريف لا للجنس. ومع توسعة المسجد الحرام صارا متصلين به.
والشعائر جمع شعيرة، من الإشعار بمعنى الإعلام، ومنه قولك شعرت بكذا، أى:
علمت به.
وكون الصفا والمروة من شعائر الله، أي: أعلام دينه ومتعبداته. تعبدنا الله بالسعي بينهما في الحج والعمرة.
وشعائر الحج: معالمه الظاهرة للحواس، التي جعلها الله أعلاما لطاعته، ومواضع نسكه وعباداته، كالمطاف والمسعى والموقف والمرمى والمنحر.
وتطلق الشعائر على العبادات التي تعبدنا الله بها في هذه المواضع، لكونها علامات على الخضوع والطاعة والتسليم لله- تعالى-.
وقوله: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما تفريع على كونهما من شعائر الله وأن السعى بينهما في الحج والعمرة من المناسك. والحج لغة: القصد مطلقا أو إلى معظم. وشرعا: القصد إلى البيت الحرام في زمان معين بأعمال مخصوصة.
واعْتَمَرَ أى: زار. والعمرة الزيارة مأخوذة من العمارة كأن الزائر يعمر البيت الحرام بزيارته. وشرعا الزيارة لبيت الله المعظم بأعمال مخصوصة وهي: الإحرام والطواف والسعى بين الصفا والمروة.
والجناح- بضم الجيم- الإثم والحرج مشتق من جنح إذا مال عن القصد، وسمى الإثم به للميل فيه من الحق إلى الباطل.
ويَطَّوَّفَ أصلها يتطوف، فأبدلت التاء طاء، وأدغمت في الطاء فصارت «يطوف.
والتطوف بالشيء كالطواف به، ومعناه: الإلمام بالشيء والمشي حوله.
وقد فسر النبي صلّى الله عليه وسلّم الطواف بالنسبة للكعبة بالدوران حولها سبعة أشواط. وفسره بالنسبة للصفا والمروة بالسعي بينهما سبعة أشواط كذلك.
و «من» في قوله: فَمَنْ حَجَّ شرطية، «وحج» في محل جزم بالشرط، والْبَيْتَ منصوب على المفعولية، وجملة «فلا جناح عليه أن يطوف بهما» جواب الشرط.
والمعنى: إن الصفا والمروة من شعائر الله، أى: من المواضع التي يقام فيهما أمر من أمور دينه وهو السعى بينهما فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أى: قصده بالأفعال المعينة التي شرعها الله أَوِ اعْتَمَرَ أى: أتى بالعمرة كما بينتها تعاليم الإسلام «فلا جناح عليه أن يطوف بهما» أى: فلا إثم ولا حرج ولا مؤاخذة عليه في الطواف بهما، لأنهما مطلوبان للشارع، ومعدودان من الطاعات.
وهنا قد يقول قائل: إن بعض الذين يقرءون هذه الآية قد يشكل عليهم فهمها وذلك لأن قوله- تعالى-: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ يدل على أن الطواف بهما مطلوب شرعا طلبا أقل درجاته الندب، وقوله- تعالى-: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما يقتضى رفع الإثم عن المتطوف بهما، والتعبير برفع الإثم عن الشيء يأتى في مقام الدلالة على إباحته، وإذن فما الأمر الداعي إلى أن يقال في هذه الشعيرة: لا إثم على من يفعلها بعد التصريح بأنها من شعائر الله؟ وللإجابة على هذا القول نقول. إن الوقوف على سبب نزول الآية الكريمة يرفع هذا
فو الله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ قالت بئس ما قلت يا ابن أختى!! إن هذه الآية لو كانت كما أولتها لكانت: لا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكن الآية أنزلت في الأنصار. كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشعر. فكان من أهل يتحرج أن يتطوف بالصفا والمروة. فلما أسلموا سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك؟ فقالوا:
يا رسول الله: إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله- تعالى- هذه الآية.
قال عائشة: وقد سن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما «١».
وهناك رواية لمسلّم عن عروة عن عائشة تشبه ما جاء في رواية البخاري، وهناك رواية للنسائى عن زيد بن حارثة قال: كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما «إساف ونائلة» كان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما.
وهناك رواية للطبراني وابن أبى حاتم بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال: قالت الأنصار: إن السعى بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية فأنزل الله هذه الآية «٢».
فيؤخذ من هذه الروايات أن بعض المسلمين كانوا يتحرجون من السعى بين الصفا والمروة لأسباب من أهمها أن هذا السعى كان من شعائرهم في الجاهلية فقد كانوا يهلون- أى يحرمون- لمناة، ثم يسعون بينهما ليتمسحوا بصنمين عليهما، وهم لا يريدون أن يعملوا في الإسلام شيئا مما كان من أمر الجاهلية لأن دين الإسلام الذي خالط أعماق قلوبهم هز أرواحهم هزا قويا وجعلهم ينظرون بجفوة وازدراء واحتراس إلى كل ما كانوا عليه في الجاهلية من أعمال تتنافى مع تعاليم دينهم الجديد، فنزلت هذه الآية الكريمة لتزيل التحرج الذي كان يتردد في صدورهم من السعى بين الصفا والمروة.
وهذا يدل على قوة إيمانهم، وصفاء يقينهم، وتحرزهم من كل قول أو عمل يشم منه رائحة التعارض مع العقيدة التي جعلتهم يخلصون عبادتهم لله الواحد القهار.
وقوله وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ تذييل قصد منه الإتيان بحكم كلى في أفعال الخيرات كلها، وقيل إنه تذييل لما أفادته الآية من الحث على السعى بين الصفا والمروة.
(٢) راجع تفسير القاسمى ج ٢ ص ٣٤٤.
وشاكِرٌ من الشكر، والشاكر في اللغة هو المظهر للإنعام عليه، وذلك محال في حق الله- تعالى-، إذ هو المنعم على خلقه، فوجب حمل شكر الله لعباده على معنى مجازاتهم على ما يعملون من خيرات، وإثابتهم على ذلك بالثواب الجزيل.
قال الإمام الرازي: وإنما سمى- سبحانه- المجازاة على الطاعة شكرا لوجوه:
الأول: أن اللفظ خرج مخرج التلطف مع العباد مبالغة في الإحسان إليهم، كما في قوله- تعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وهو- سبحانه- لا يستقرض من عوز، ولكنه تلطف في الاستدعاء كأنه قيل: من ذا الذي يعمل عمل المقرض. بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدم.
الثاني: أن الشكر لما كان مقابلا للإنعام أو الجزاء عليه، سمى كل ما كان جزاء شكرا على سبيل التشبيه.
الثالث: كأنه يقول: أنا وإن كنت غنيا عن طاعتك، إلا أنى أجعل لها من الموقع بحيث لو صح على أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل.
وبالجملة فالمقصود أن طاعة العبد مقبولة عند الله، وواقعة موقع القبول في أقصى الدرجات «١».
ومِنْ شرطية.
وتَطَوَّعَ فعل الشرط، وخَيْراً منصوب على نزع الخافض، وأصله بخير لأن تطوع يتعدى بالباء ولا يتعدى بنفسه ثم حذفت الباء في نظم الكلام نحو: تمرون الديار فلم تعوجوا.
أو هو منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أى: تطوعا خيرا، وجملة فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ دليل على جواب الشرط، إذ التقدير، ومن تطوع خيرا جوزي فإن الله شاكر عليم.
والمعنى: ومن تطوع بالخيرات وأنواع الطاعات، أو من أتى بالحج أو العمرة طاعة لله، أو من أتى بهما مرة بعد مرة زيادة على المقروض أو الواجب عليه، فاز بالثواب الجزيل، والنعيم المقيم لأن من صفاته- سبحانه- مجازاة من يحسنون العمل، وهو عليم بكل ما يصدر عن عباده، ولن يضيع أجر من أحسن عملا.
هذا، وقد اختلفت أقوال الفقهاء في حكم السعى بين الصفا والمروة.
سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت العمرة، ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته؟ فقال:
قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فطاف بالبيت سبعا وصلّى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة. وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة».
ومنهم من يرى أنه واجب يجبر بالدم، وإلى هذا الرأى ذهب الحنفية ومن حججهم أنه لم يثبت بدليل قطعى فلا يكون ركنا.
ومنهم من يرى غير ذلك كما هو موضح في كتب الفقه.
ثم حض- سبحانه- على إظهار الحق وبيانه، وتوعد بالعقاب الشديد من يعمل على إخفائه وكتمانه.
فقال- تعالى:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
قال الآلوسى: أخرج جماعة عن ابن عباس قال: سأل معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وخارجه بن زيد نفرا من أحبار يهود عما في التوراة من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن بعض الأحكام فكتموا، فأنزل الله- تعالى- فيهم هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ... إلخ «١».
وكتم ما أنزل الله يتناول إخفاء ما أنزله، وعدم ذكره للناس وإزالته عن موضعه ووضع شيء آخر موضعه، كما يتناول تحريفه بالتأويل الفاسد عن معناه الصحيح جريا مع الأهواء، وقد فعل أهل الكتاب ولا سيما اليهود- كل ذلك. فقد كانوا يعرفون مما بين أيديهم من آيات أن رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم حق، ولكنهم كتموا هذه المعرفة حسدا له على ما آتاه الله من فضله، كما أنهم حرفوا كلام الله وأولوه تأويلا فاسدا تبعا لأهوائهم.
والمراد «بما أنزلنا» ما اشتملت عليه الكتب السماوية السابقة على القرآن من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن هداية وأحكام.
والمراد بالكتاب جنس الكتب، فيصح حمله على جميع الكتب التي أنزلت على الرسل- عليهم السلام-. وقيل: المراد به التوراة.
والْبَيِّناتِ جمع بينة، والمراد بها الآيات الدالة على المقاصد الصحيحة بوضوح، وهي ما نزل على الأنبياء من طريق الوحى.
والمراد «بالهدى» ما يهدى إلى الرشد مطلقا فهو أعم من البينات، إذ يشمل المعاني المستمدة من الآيات البينات عن طريق الاستنباط، والاجتهاد القائم على الأصول المحكمة.
و «اللعن» الطرد والإبعاد من الرحمة. يقال: لعنه، أى: طرده وأبعده ساخطا عليه، فهو لعين وملعون.
والمعنى: إن الذين يخفون عن قصد وتعمد وسوء نية ما أنزل الله على رسله من آيات واضحة دالة على الحق، ومن علم نافع يهدى إلى الرشد، من بعد ما شرحناه وأظهرناه للناس في كتاب يتلى، أولئك الذين فعلوا ذلك يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ بأن يبعدهم عن رحمته وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أى ويلعنهم كل من تتأتى منه اللعنة- كالملائكة والمؤمنين- بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله لكتمانهم لما أمر الله بإظهاره.
وجملة إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ... إلخ، مستأنفة لبيان سوء عاقبة الكاتمين لما أمر الله بإظهاره، وأكدت «بإن» للاهتمام بهذا الخبر الذي ألقى على مسامع الناس.
وعبر في يَكْتُمُونَ بالفعل المضارع، للدلالة على أنهم في الحال كاتمون للبينات والهدى، ولو وقع بلفظ الماضي لتوهم السامع أن المقصود به قوم مضوا، مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين.
وقوله: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ متعلق بيكتمون، وقد دلت هذه الجملة
واللام في قوله: لِلنَّاسِ للتعليل، أى: بيناه في الكتاب لأجل أن ينتفع به الناس، وفي هذا زيادة تشنيع عليهم فيما أتوه من كتمان، لأن فعلهم هذا مع أنه كتمان للحق، فهو في الوقت نفسه اعتداء على مستحقه الذي هو في أشد الحاجة إليه.
وقوله: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ يفيد نهاية الغضب عليهم، حتى لكأنهم تحولوا إلى ملعنة ينصب عليها اللعن من كل مصدر، ويتوجه إليها من كل من يستطيع اللعن ويؤديه.
والآية الكريمة وإن كانت نزلت في أهل الكتاب بسبب كتمانهم للحق، إلا أن وعيدها يتناول كل من كتم علما نافعا، أو غير ذلك من الأمور التي يقضى الدين بإظهارها، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومن شواهد هذا العموم ما جاء في صحيح البخاري عن أبى هريرة قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا ثم تلا قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ إلى قوله: الرَّحِيمُ «١».
قال ابن كثير: وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضا عن أبى هريرة وغيره، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيام بلجام من نار» «٢».
هذا، وينبغي أن يعلم أن الإسلام وإن كان ينهى نهيا قاطعا عن كتم العلم الذي فيه منفعة للناس، إلا أنه يوجب على أتباعه- وخصوصا العلماء- أن يحسنوا ما ينشرونه على الناس من علم، ففي الحديث الشريف: حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله.
كما أنه يوجب عليهم أن يضعوا العلم في موضعه المناسب لمقتضى حال المخاطبين، فليس كل ما يعلم يقال، بل أحيانا يكون إخفاء بعض الأحكام مناسبا لأن إظهاره قد يستعمله الطغاة والسفهاء فيما يؤذى الناس، وفي صحيح البخاري أن الحجاج قال لأنس بن مالك حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل، حيث قطع النبي صلّى الله عليه وسلّم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا. فلما بلغ الحسن
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٠.
ومما يشهد بفقه بعض العلماء وحسن إدراكهم، ووضعهم العلم في موضعه المناسب: ما جاء في بعض الكتب أن سلطان قرطبة سأل يحيى بن يحيى الليثي عن حكم يوم أفطره في رمضان عامدا لأن شهوته غلبته على وطء بعض جواريه، فأفتاه بأن من الواجب عليه أن يصوم ستين يوما، وكان بعض الفقهاء جالسا فلم يجترئ على مخالفة يحيى. فلما انفض المجلس قيل له: لم خصصت الحكم بأحد المخيرات وكتمت العتق والإطعام؟ فقال- رحمه الله- لو فتحنا هذا الباب لوطئ كل يوم وأعتق أو أطعم، فحملته على الأصعب لئلا يعود.
فالإمام يحيى عند ما كتم عن السلطان الكفارتين الأخريين- وهما الإعتاق والإطعام- لا يعتبر مسيئا، لأنه قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حرمة فريضة الصوم «١».
وهكذا نرى أن إظهار العلم عند تحقق المقتضى لإظهاره، ووضعه في موضعه اللائق به بدون خشية أو تحريف يدل على قوة الإيمان، وحسن الصلة بالله- تعالى-: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ.
وبعد هذا الوعيد الشديد لأولئك الكاتمين لما أمر الله بإظهاره، أورد القرآن في أعقاب ذلك آية تفتح لهم نافذة الأمل، وتبين لهم أنهم إذا تابوا وأنابوا قبل الله توبتهم ورحمهم، فقال- تعالى-: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أى: رجعوا عن الكتمان وعن سائر ما يجب أن يتاب عنه، وندموا على ما صدر عنهم وَأَصْلَحُوا ما أفسدوه بالكتمان بكل وسيلة ممكنة وَبَيَّنُوا للناس حقيقة ما كتموه فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أى: أقبل توبتهم، وأفيض عليهم من رحمتي ومغفرتي، وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ أى: المبالغ في قبول التوبة ونشر الرحمة.
فالآية الكريمة قد فتحت للكاتمين لما يجب إظهاره باب التوبة وأمرتهم بولوجه، وأفهمتهم أنهم إذا فعلوا ما ينبغي وتركوا ما لا ينبغي وأخلصوا لله نياتهم، فإنه- سبحانه- يقبل توبتهم، ويغسل حويتهم، أما إذا استمروا في ضلالهم وكفرهم، ومضوا في هذا الطريق المظلم حتى النهاية بدون أن يحدثوا توبة، فقد بين القرآن مصيرهم بعد ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أى: إن الذين كفروا وكتموا ما من شأنه أن يظهر، كإخفائهم النصوص المشتملة على البشارة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم واستمروا على هذا الكفر والإخفاء حتى ماتوا.
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ أى: أولئك الذين وصفوا بما ذكر عليهم
وعبر عن أصحاب ذلك الكتمان بالذين كفروا، ليحضرهم في الأذهان بأشنع وصف وهو الكفر، وليتناول الوعيد الذي اشتملت عليه الآية الكريمة كل كافر ولو بغير معصية الكتمان.
وجملة وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ حالية، وأَجْمَعِينَ تأكيد بالنسبة إلى الكل لا للناس فقط.
والمراد بالناس جميعهم مؤمنهم وكافرهم، إذ الكفار يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة كما جاء في قوله- تعالى-: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. وقيل المراد بهم المؤمنون خاصة لأنهم هم الذين يعتد بلعنهم.
وقوله: خالِدِينَ فِيها الخلود البقاء إلى غير نهاية، ويستعمل بمعنى البقاء مدة طويلة. وإذا وصف به عذاب الكافر أريد به المعنى الأول، أى: البقاء إلى غير نهاية والظاهر أن الضمير في قوله فِيها يعود إلى اللعنة لأنها هي المذكورة في الجملة. وقيل إنه يعود إلى النار لأن اللعن إبعاد من الرحمة وإيجاب للعقاب والعقاب يكون في النار. وقوله لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أى: أن المقدار الذي استحقوه من العذاب لا يتفاوت بحسب الأوقات شدة وضعفا، وإنما هم في عذاب سرمدي أليم، كما قال- تعالى-: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ والزيادة في قوله- تعالى- فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً حملها بعض العلماء على معنى استمرار العذاب، فهي إشارة إلى الخلود فيه لا إلى الزيادة في شدته.
وقوله: خالِدِينَ فِيها إشارة إلى دوام العذاب وعدم انقطاعه. وقوله: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ إشارة إلى كيفيته وشدته.
وقوله: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أى: لا يمهلون ولا يؤخرون من العذاب كما كانوا يمهلون في الدنيا. من الإنظار بمعنى التأخير والإمهال. أو من النظر بمعنى الانتظار يقال: نظرته وانتظرته، أى: أخرته وأمهلته ومنه قوله- تعالى-: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ.
أو من النظر بمعنى الرؤية، أى: لا ينظر الله إليهم نظر رحمة ورضا ولطف كما ينظر إلى عباده الصالحين، لأنهم بكتمانهم للحق، وكفرهم بالله، استحقوا ما استحقوا من العذاب المهين.
ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد حذرت الناس بأسلوب تأديبي حكيم من كتمان الحق، ومن الكفر بالله، وفتحت أمامهم باب التوبة ليدخلوه بصادق النية، وصالح العمل، وتوعدت من يستمر في ضلاله وطغيانه بأقسى أنواع العذاب، وأغلظ ألوانه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٤]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ معطوف على قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا عطف القصة على القصة، والجامع- كما قال الآلوسى- أن الأولى- وهي قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مسوقة لإثبات نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وجملة وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لإثبات وحدانية الله- تعالى- والإله في كلام العرب هو المعبود مطلقا ولذلك تعددت الآلهة عندهم. والمراد به في الآية الكريمة المعبود بحق بدليل الإخبار عنه بأنه واحد.
والمعنى: وإلهكم الذي يستحق العبادة والخضوع إله واحد فرد صمد، فمن عبد شيئا دونه، أو عبد شيئا معه، فعبادته باطلة فاسدة، لأن العبادة الصحيحة هي ما يتجه بها العابد إلى المعبود بحق الذي قامت البراهين الساطعة على وحدانيته وهو الله رب العالمين.
قال بعضهم: «والإخبار عن إلهكم بإله تكرير ليجرى عليه الوصف بواحد، والمقصود وإلهكم واحد لكنه وسط إله بين المبتدأ والخبر لتقرير معنى الألوهية في المخبر عنه، كما تقول:
عالم المدينة عالم فائق، وليجيء ما كان أصله خيرا مجيء النعت فيفيد أنه وصف ثابت للموصوف لأنه صار نعتا، إذ أصل النعت أن يكون وصفا ثابتا، وأصل الخبر أن يكون وصفا حادثا، وهذا استعمال متبع في فصيح الكلام أن يعاد الاسم أو الفعل بعد ذكره ليبنى عليه
وجملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مقررة لما تضمنته الجملة السابقة من أن الله واحد لا شريك له، ونافية عن الله- تعالى- الشريك صراحه، ومثبتة له مع ذلك الإلهية الحقة، ومزيحة لما عسى أن يتوهم من أن في الوجود إلها سوى الله- تعالى- لكنه لا يستحق العبادة.
ومعناها: إن الله إله، وليس شيء مما سواه بإله.
وهذه الجملة الكريمة خبر ثان للمبتدأ وهو إِلهُكُمْ أو صفة أخرى للخبر وهو (إله) وخبر (لا) محذوف أى لا إله موجود إلا هو، والضمير (هو) في موضع رفع بدل من موضع لا مع اسمها.
وقوله: (الرحمن الرحيم) خبر مبتدأ محذوف، وقيل غير ذلك من وجوه الإعراب.
والمعنى: وإلهكم الذي يستحق العبادة إله واحد، لا إله مستحق لها إلا هو، هو الرحمن الرحيم.
أى: المنعم بجلائل النعم ودقائقها، وهو مصدر الرحمة، ودائم الإحسان.
وأتى- سبحانه- بهذين اللفظين في ختام الآية، لأن ذكر الإلهية والوحدانية يحضر في ذهن السامع معنى القهر والغلبة وسعة المقدرة وعزة السلطان، وذلك مما يجعل القلب في هيبة وخشية، فناسب أن يورد عقب ذلك ما يدل على أنه مع هذه العظمة والسلطان، مصدر الإحسان ومولى النعم، فقال: (الرحمن الرحيم)، وهذه طريقة القرآن في الترويح على القلوب بالتبشير بعد ما يثير الخشية، حتى لا يعتريها اليأس أو القنوط.
وبعد أن أخبر- سبحانه- بأنه هو الإله الذي لا يستحق العبادة أحد سواه، عقب ذلك بإيراد ثمانية أدلة تشهد بوحدانيته وقدرته، وتشتمل على آيات ساطعات، وبينات واضحات، تهدى أصحاب العقول السليمة إلى عبادة الله وحده، وإلى بطلان ما يفعله كثير من الناس من عبادة مخلوقاته.
ويشتمل الدليل الأول والثاني على أنه- سبحانه- هو المستحق للعبادة في قوله- تعالى-:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
الخلق: هو الإحداث للشيء على غير مثال سابق. وهو هنا بمعنى المخلوق. إذ الآيات التي تشاهد إنما هي في المخلوق الذي هو السموات والأرض.
وجمعت السموات لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية، كما يدل عليه قوله- تعالى-: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ولأن إفرادها قد يوهم بأنها واحدة مع أن القرآن صريح. في كونها سبعا.
وجاءت الأرض مفردة- وهي لم تجيء في القرآن إلا كذلك- لأن المشاهدة لا تقع إلا على أرض واحدة، ومن هنا حمل بعض أهل العلم تعددها الذي يتبادر من ظاهر قوله- تعالى-:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ على معنى أنها طبقات لا ينفصل بعضها عن بعض.
ومن الآيات الدالة على وحدانية الله وقدرته في خلق السموات ارتفاعها بغير عمد كما يرى ذلك بالمشاهدة، وتزيينها بالمصابيح التي جعلها الله زينة للسماء ورجوما للشياطين، ووجودها بتلك الصورة العجيبة الباهرة التي لا ترى فيها أى تفاوت أو اضطراب ومن الآيات الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته في خلق الأرض، فرشها بتلك الطريقة الرائعة التي يتيسر معها للإنسان أن يتقلب في أرجائها، ويمشى في مناكبها، وينتفع بما يحتاج إليه منها أينما كان، وتفجيرها بالأنهار، وعمارتها بحدائق ذات ثمار تختلف ألوانها ويتفاضل أكلها.
وفي القرآن الكريم عشرات الآيات التي تتحدث عن نعم الله على عباده في خلق السموات والأرض، وعن مظاهر قدرته ووحدانيته في إيجادهما على تلك الصورة، ومن ذلك قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ.
وقوله- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ.
وقوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً. لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً.
ويتمثل الدليل الثالث على قدرته- سبحانه- ووحدانيته في قوله تعالى: وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، والاختلاف: افتعال من الخلف، وهو أن يجيء شيء عوضا عن شيء آخر يخلفه على وجه التعاقب. والمراد أن كلا من الليل والنهار يأتى خلفا من الآخر وفي أعقابه، ويجوز أن يكون المراد باختلافهما، في أنفسهما بالطول والقصر، واختلافهما في جنسهما بالسواد والبياض.
واللَّيْلِ: هو الظلام المعاقب للنهار، واحدته ليلة كتمر وتمرة.
والنَّهارِ: هو الضياء المتسع، وأصله الاتساع، ومنه قول الشاعر:
ملكت بها كفى فأنهرت فتقها | يرى قائم من دونها ما وراءها |
وقد جعل الله الليل للسكون والراحة والعبادة لمن وفقه الله لقضاء جانب منه في مناجاته- سبحانه-، وجعل النهار للعمل وابتغاء الرزق.
قال- تعالى-: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً.
وقد أضيف الاختلاف لكل من الليل والنهار، لأن كل واحد منهما يخلف الآخر فتحصل منه فوائد سوى فوائد الآخر، بحيث لو دام أحدهما لا نقلب النفع ضرّا.
قال- تعالى-: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
ومن العظات التي تؤخذ من هذا الاختلاف أن مدد الليل والنهار تختلف فلكل منهما مدة يستو فيها من السنة بمقتضى نظام دقيق مطرد.
قال- تعالى-: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وكون الليل والنهار يسيران على هذا النظام الدقيق المطرد الذي لا ينخرم دليل على أن الاختلاف تدبير من إله قادر حكيم لا يدخل أفعاله تفاوت ولا اختلال.
وإذا كان لهذا الاطراد أسباب تحدث عنها العلماء، فإن الذي خلق الأسباب وجعل بينها وبين هذا الاختلاف تلازما إنما هو الإله الواحد القهار.
أما المظهر الرابع من المظاهر الدالة في هذا الكون على قدرته- سبحانه- ووحدانيته
(الفلك) : ما عظم من السفن، ويستعمل لفظ الفلك للواحد والجمع. والظاهر أن المراد به هنا الجمع بدليل قوله- تعالى-: الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ولو كان هذا اللفظ للمفرد لقال:
الذي يجرى، كما جاء في قوله- تعالى-: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ والجملة الكريمة معطوفة على خلق السموات والأرض.
قال صاحب المنار: وكان الظاهر أن تأتى هذه الجملة في آخر الآية ليكون ما للإنسان فيه صنع على حدة وما ليس له فيه صنع على حدة. والنكتة في ذكرها عقيب آية الليل والنهار، هي أن المسافرين في البر والبحر هم أشد الناس حاجة إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به، والمسافرون في البحر أحوج إلى معرفة الأوقات وتحديد الجهات، لأن خطر الجهل عليهم أشد، وفائدة المعرفة لهم أعظم، ولذلك كان من ضروريات رباني السفن معرفة علم النجوم، وعلم الليل والنهار من فروع هذا العلم. قال- تعالى-: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فهذا وجه العلاقة بين ذكر الفلك وما قبله «١».
و «ما» في قوله: بِما يَنْفَعُ النَّاسَ مصدرية، والباء للسببية أى: تجرى بسبب نفع الناس ولأجله في التجارة وغيرها. أو موصولة والباء للحال، أى تجرى مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس. وخص- سبحانه- النفع بالذكر وإن كانت السفن تحمل ما ينفع وما يضر لأن المراد هنا عد النعم، ولأن الذي يحمل فيها ما يضر غيره هو في الوقت نفسه يقصد منفعة نفسه.
ومن وجوه الاستدلال بالفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس على وجود الله وقدرته، أن هذه الفلك وإن كانت من صنع الناس إلا أن الله- تعالى- هو الذي خلق الآلات والأجزاء التي صارت بها سفنا، وهو الذي سخر لبحر لتجرى فيه مقبلة ومدبرة مع شدة أهواله إذا هاج، وهو الذي جعلها تشق أمواجه شقا حتى تصل إلى بر الأمان، وهو الذي رعاها برعايته وهي كنقطة صغيرة في ذلك الماء الواسع، ووسط تلك الأمواج المتلاطمة حتى وصلت إلى ساحل السلامة وهي حاملة الكثير مما ينفع الناس من الأطعمة والأشربة والأمتعة المختلفة، فسبحانه من إله قادر حكيم.
الدليل الخامس والسادس على أنه- سبحانه- هو المستحق للعبادة يتمثل في قوله- تعالى-
والمراد بالسماء: جهة العلو، أى: وما أنزل من جهة السماء من ماء، و «من» في قوله:
مِنَ السَّماءِ ابتدائية، وفي قوله: مِنْ ماءٍ بيانية، وهما ومجرورهما متعلقان بأنزل.
والمراد بإحياء الأرض: تحرك القوى النامية فيها، وإظهار ما أودع الله فيها من نبات وزهور وثمار وغير ذلك.
والمراد بموتها: خلوها من ذلك باستيلاء اليبوسة والقحط عليها.
قال- تعالى-: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
(والبث) : التفريق والنشر لما كان خافيا، ومنه بث الشكوى أى: نشرها وإظهارها، وكل شيء بثثته فقد فرقته ونشرته، والضمير في قوله: «فيها» يعود إلى الأرض.
(والدابة) : اسم من الدبيب والمشي ببطء، كل ما يمشى فوق الأرض فهو بحسب الوضع اللغوي يطلق عليه دابة. والظاهر أن المراد بالدابة هنا هذا المعنى العام، لا ما يجرى به العرف الخاص باستعماله في نوع خاص من الحيوان كذوات الأربع.
وجملة وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ... معطوفة على ما قبلها، وجملة وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ معطوفة على قوله: فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها.
والمعنى: وإن فيما أنزله الله من جهة السماء من ماء مبارك، عمرت به الأرض بعد خرابها، وانتشرت فيها أنواع الدواب كلها، لدليل ساطع على قدرة الله ووحدانيته.
ذلك لأنه هو وحده الذي أنزل المطر من السماء ولو شاء لأمسكه مع أن الماء من طبعه الانحدار، وهو وحده الذي جعل الأرض التي نعيش عليها تنبت من كل زوج بهيج بسبب ما أنزل عليها من ماء، وهو وحده الذي نشر على هذه الأرض أنواعا من الدواب مختلفة في طبيعتها وأحجامها، وأشكالها وألوانها، وأصواتها، ومآكلها، وحملها، وتناسلها، ووجوه الانتفاع بها، وغير ذلك من وجوه الاختلاف الكثيرة، مما يشهد بأن خالق هذه الكائنات إله واحد قادر حكيم.
أما الدليل السابع والثامن في هذه الآية على قدرته- سبحانه- ووحدانيته واستحقاقه للعبادة فهما قوله- تعالى-: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.
الرياح جمع ريح وهي نسيم الهواء.
من جهة الغرب، وأحيانا من جهة الشمال أو الجنوب وقد يرسلها- سبحانه- عاصفة ولينة، حارة أو باردة، لواقح بالرحمة حينا وبالعذاب آخر. وتَصْرِيفِ مصدر صرف مضاف للمفعول والفاعل هو الله، أى: وتصريف الله الرياح. أو مضاف للفاعل والمفعول السحاب، أى: وتصريف الرياح السحاب.
وجاءت هذه الجملة الكريمة بعد إحياء الأرض بالمطر وبث الدواب فيها للتناسب بينهما، وتذكيرا بالسبب إذ بالرياح تكون حياة النبات والحيوان وكل دابة على الأرض، ولو أمسك- سبحانه- الرياح عن التصريف لما عاش كائن على ظهر الأرض.
وَالسَّحابِ: عطف على ما قبله، وهو اسم جنس واحده سحابة، سمى بذلك لانسحابه في الجو أو لجر الرياح له.
والْمُسَخَّرِ: من التسخير وهو التذليل والتيسير، ومعنى تسخيره- كما قال الآلوسى- أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضى صعوده إن كان لطيفا وهبوطه إن كان كثيفا- والْمُسَخَّرِ صفة للسحاب باعتبار لفظه، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كما في قوله:
سَحاباً ثِقالًا.
والظرف «بين» يجوز أن يكون منصوبا بقوله المسخر فيكون ظرفا للتسخير، ويجوز أن يكون حالا من الضمير المستتر في اسم المفعول فيتعلق بمحذوف أى: كائنا بين السماء والأرض.
وجاء ذكر السحاب بعد تصريف الرياح لأنها هي التي تثيره وتجمعه، وهي التي تسوقه إلى حيث ينزل مطرا في الأماكن التي يريد الله إحياءها.
قال- تعالى-: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ.
ولا شك أن هذا التصريف للرياح مع أنها جسم لطيف لا يمسك ولا يرى، وهي مع ذلك في غاية القوة بحيث تقلع الأشجار وتخرب الديار، وهذا التسخير للسحاب بحيث يبقى معلقا بين السماء والأرض مع حمله للمياه العظيمة التي تسيل بها الأودية المتسعة... لا شك أن كل ذلك من أعظم الأدلة على أن لهذا الكون مدبرا قادرا حكيما هو الله رب العالمين.
وقوله: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ اسم إِنَّ لقوله- تعالى- في أول الآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ودخلت اللام على الاسم وهو لَآياتٍ لتأخره عن الخبر والتنكير للتعظيم والتفخيم كما وكيفا.
وموقع هذه الآية الكريمة من سابقتها كموقع الحجة من الدعوى، ذلك أن الله- تعالى- أخبر في الآية السابقة أن الإله واحد لا إله غيره وهي قضية قد تلقاها كثير من الناس بالإنكار، فناسب أن يأتى في هذه الآية الكريمة بالحجج والبراهين التي لا يسع الناظر فيها بتدبر وتفكير إلا التسليم عن اقتناع بوحدانية الله- تعالى- وقدرته.
قال الإمام الرازي: واعلم أن النعم على قسمين: نعم دنيوية ونعم دينية وهذه الأمور الثمانية، التي عدها الله- تعالى- نعم دنيوية في الظاهر، فإذا تفكر العاقل فيها، واستدل بها على معرفة الصانع، صارت نعما دينية، لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة الحواس وصحة المزاج فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن، فلذلك قال: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «١».
وقال الآلوسى: أخرج ابن أبى الدنيا وابن مردويه عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ هذه الآية قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».
ثم قال الآلوسى: ومن تأمل في تلك المخلوقات التي وردت في هذه الآية وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده- تعالى- ووحدانيته وسائر صفاته الموجبة لتخصيص العبادة له، ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه، مستنبعا لآثار معينه، وأحكام مخصوصة... وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية، وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله، وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة» «٢».
والحق أن هذه الآية الكريمة قد اتجهت في تثبيت عقيدة وحدانية الله وقدرته وألوهيته إلى تنبيه الحواس والمدارك والمشاعر إلى ما في هذا الكون المشاهد المنظور من آيات ودلائل على حقية الخالق- عز وجل- بالعبادة.
وهذه الطريقة من تنبيه الحواس والمدارك جديرة بأن تفتح الأبصار والبصائر على عجائب هذا الكون، تلك العجائب التي أصبحت عند كثير من الناس شيئا مألوفا بسبب عدم تدبرهم
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ٣٣.
ورحم الله القائل: ألا إن لله كتابين: كتابا مخلوقا وهو الكون، وكتابا منزلا وهو القرآن.
وإنما يرشدنا هذا إلى طريق العلم بذاك بما أوتينا من العقل. فمن أطاع فهو من الفائزين، ومن أعرض فأولئك هم الخاسرون.
وبعد أن ذكر- سبحانه- جانبا من الآيات الدالة على ألوهيته ووحدانيته أردف ذلك ببيان حال المشركين، وما يكون منهم يوم القيامة من تدابر وتقاطع وتحسر على ما فرط منهم فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
الأنداد: جمع ند، وهو مثل الشيء الذي يضاده وينافره ويتباعد عنه. وأصله من ند البعير يند ندا وندادا وندودا، أى: نفر وذهب على وجهه شاردا. ويرى بعض العلماء أن المراد بالأنداد هنا الأصنام التي اتخذها المشركون آلهة للتقرب بها إلى الله، وقيل: المراد بها الرؤساء الذين كانوا يطيعونهم فيما يحلونه لهم ويحرمونه عليهم. والأولى أن يكون المراد بهذه الأنداد كل مخلوق أسند إليه أمر اختص به الله- تعالى- من نحو التحليل، والتحريم وإيصال النفع وغير ذلك من الأمور التي انفرد بها الخالق- عز وجل-.
والمعنى: أن من الناس من لا يعقل تلك الآيات التي دلت على وحدانية الله وقدرته، وبلغت
قال الجمل: وجملة يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون في محل رفع صفة لمن في أحد وجهيها، والضمير المرفوع يعود عليها باعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ في يتخذ.
والثاني: أن تكون في محل نصب صفة لأندادا والضمير المنصوب يعود عليهم والمراد بهم الأصنام، وإنما جمعوا جمع العقلاء لمعاملتهم معاملة العقلاء. أو أن يكون المراد بهم من عبد من دون الله عقلاء وغيرهم ثم غلب العقلاء على غيرهم.
الثالث: أن تكون في محل نصب على الحال من الضمير في يتخذ، والضمير المرفوع عائد على ما عاد عليه الضمير في يتخذ وجمع حملا على المعنى» «١».
ثم مدح- سبحانه- عباده المؤمنين فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ أى: والذين آمنوا وأخلصوا لله العبادة أشد حبا له- سبحانه- من كل ما سواه، ومن حب المشركين للأنداد، ذلك لأن حب المؤمنين لله متولد عن أدلة يقينية، وعن علم تام، ببديع حكمته- سبحانه- وبالغ حجته، وسعة رحمته، وعدالة أحكامه، وعزة سلطانه، وتفرده بالكمال المطلق، والحب المتولد عن هذا الطريق يكون أشد من حب المشركين لمعبوداتهم لأن حب المشركين لمعبوداتهم متولد عن طريق الظنون والأوهام والتقاليد الباطلة.
والتصريح بالأشدية في قوله: أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ أبلغ من أن يقال أحب لله؟ إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل- كما يقول الآلوسى- بل المراد الرسوخ والثبات. وقيل: عدل عن أحب إلى أشد حبا، لأن «أحب» شاع في الأشد محبوبية فعدل عنه احترازا عن اللبس.
ولقد ضرب المؤمنون الصادقون أروع الأمثال في حبهم لله- تعالى- لأنهم ضحوا في سبيله بأرواحهم وأموالهم وأبنائهم وأغلى شيء لديهم، ولأنهم لم يعرفوا عملا يرضيه إلا فعلوه، ولم يعرفوا عملا يغضبه إلا اجتنبوه.
والمعنى: ولو يرى أولئك المشركون حين يشاهدون العذاب المعد لهم يوم القيامة أن القدرة كلها لله وحده، وأن عذابه الذي يصيب به المتخبطين في ظلمات الشرك شديد، لو يعلمون ذلك، لرأوا ما لا يوصف من الهول والفظاعة، ولوقعوا فيما لا يكاد يوصف من الحسرة والندامة.
وكان الظاهر بمقتضى تقدم ذكرهم أن يقال: ولو يرون إذ يرون. ولكن وضع الموصول وصلته موضع الضمير، ليحضر في ذهن السامع أنهم صاروا باتخاذهم الأنداد من الظالمين، وليشعر بأن سبب رؤيتهم العذاب الشديد هو ذلك الظلم العظيم.
وعبر بالماضي في قوله: «إذ يرون العذاب» لتحقق الوقوع، وكل ما كان كذلك فإنه يجرى مجرى ما وقع وحصل.
وجملة أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً سدت مسد مفعولي يرى، وانتصب لفظ جَمِيعاً على التوكيد للقوة. أى. جميع جنس القوة ثابت لله، وهو مبالغة في عدم الاعتداد بقوة غيره، فمفاد جميع هنا مفاد لام الاستغراق في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ.
وجملة وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ معطوفة على ما قبلها، وفائدتها المبالغة في تفظيع الخطب، وتهويل الأمر، فإن اختصاص القوة به- تعالى- لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه.
هذا، وقد قرأ نافع وابن عمر «ولو ترى» بالتاء على الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يتأتى له الخطاب.
أى: لو ترى ذلك أيها الرسول الكريم أو أيها المخاطب لرأيت أمرا عظيما في الفظاعة والهول.
وقوله- تعالى-: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا... بدل من قوله: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ. أو مفعولا به بتقدير اذكر.
وتَبَرَّأَ من التبرؤ وهو التخلص والتنصل والتباعد، ومنه برئت من الدين أى: تخلصت منه، وبرأ المريض من مرضه، أى: تخلص من مرضه.
والمراد بالذين اتبعوا: أئمة الكفر الذين يحلون ويحرمون ما لم يأذن به الله.
وجملة وَرَأَوُا الْعَذابَ حال من الأتباع والمتبوعين، والضمير يعود على الفريقين. أى:
تبرؤا جميعا من بعض في حال رؤيتهم للعذاب.
وجملة وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ معطوفة على تبرأ، أو رأوا.
والباء في بِهِمُ للسببية أى: وتقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون من ورائها النجاة، وقيل للملابسة أى: تقطعت الأسباب ملتبسة بهم فخابت آمالهم وسقطوا صرعى.
والْأَسْبابُ جمع سبب، وهو في الأصل الحبل الذي يرتقى به الشجر ونحوه، ثم سمى به كل ما يتوصل به إلى غيره، عينا كان أو معنى. فيقال للطريق سبب، لأنك بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تربده، ويقال للمودة سبب لأنك تتواصل بها إلى غيرك، والمراد بالأسباب هنا:
الوشانج والصلات التي كانت بين الأتباع والمتبوعين في الدنيا، من القرابات والمودات والأحلاف والاتفاق في الدين... إلخ.
والمعنى: واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ يوم القيامة، ذلك اليوم الهائل الشديد الذي يتنصل فيه الرؤساء من مرءوسيهم، والاتباع من متبوعيهم حال رؤيتهم جميعا للعذاب وأسبابه ومقدماته وما أعدلهم من شقاء وآلام، وقد ترتب على كل ذلك أن تقطع ما بين الرؤساء والأذناب من روابط كانوا يتواصلون بها في الدنيا، وصار كل فريق منهم يلعن الآخر ويتبرأ منه.
قال بعض العلماء: وفي قوله: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ استعارة تمثيلية إذ شبهت هيئتهم عند خيبة أملهم حين لم يجدوا النعيم الذي تعبوا لأجله مدة حياتهم وقد جاء إبانه في ظنهم فوجدوا عوضه العذاب، بحال المرتقى إلى النخلة ليجتنى الثمر الذي كد لأجله طول السنة فتقطع به السبب- أى الحبل- عند ارتقائه فسقط هالكا، فكذلك هؤلاء قد علموا جميعا حينئذ أن لا نجاة لهم، فحالهم كحال الساقط من علو لا ترجى له سلامة. وهي تمثيلية بديعة تشتمل على سبعة أشياء كل واحد منها يصلح لأن يكون مشبها بواحد من الأشياء التي تشتمل عليها الهيئة المشبهة بها وهي:
تشبيه المشرك في عبادته الأصنام بالمرتقى بجامع السعى، وتشبيه العبادة وقبول الآلهة منه بالحبل الموصل، وتشبيه النعيم والثواب بالثمرة في أعلى النخلة لأنها لا يصل إليها المرء إلا بعد طول وهو مدة العمر، وتشبيه العمر بالنخلة في الطول، وتشبيه الحرمان من الوصول للنعيم
ثم بين- سبحانه- ما قاله الأتباع على سبيل الحسرة والندم فقال: وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا.
الكرة: الرجعة والعودة. يقال: كر يكر كرا: أى: رجع. و (لو) للتمني. وقوله فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ منصوب بعد الفاء بأن مضمرة في جواب التمني الذي أشربته لو، والكاف في قوله كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا في محل نصب نعت لمصدر محذوف أى تبرأ مثل تبرئهم.
والمعنى: وقال الذين كانوا تابعين لغيرهم في الباطل بدون تعقل أو تدبر ليت لنا رجعة إلى الحياة الدنيا فنتبرأ من هؤلاء الذين اتبعناهم وأضلونا السبيل كما تبرءوا منا في هذا اليوم العصيب، ولنشفى غيظنا منهم لأنهم خذلونا وأوردونا موارد التهلكة والعذاب الأليم.
وقوله- تعالى-: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ تذبيل لتأكيد الوعيد، وبيان لحال المشركين في الآخرة.
قال الآلوسى: وقوله: كَذلِكَ في موضع المفعول المطلق لما بعده، والمشار إليه الاراء المفهوم من قوله: إِذْ يَرَوْنَ أى: كإراء العذاب المتلبس بظهور أن القوة لله والتبري وتقطع الأسباب وتمنى الرجعة، يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم. وجوز أن يكون المشار إليه المصدر المفهوم مما بعد والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الضخامة. أى: مثل ذلك الاراء الفظيع يريهم على حد ما قيل في قوله- تعالى-: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «٢».
والمراد بأعمالهم: المعاصي التي ارتكبوها وفي مقدمتها اتباعهم لمن أضلوهم.
وحَسَراتٍ جمع حسرة، وهي أشد درجات الندم والغم على ما فات. يقال: حسر يحسر حسرا فهو حسير، إذ اشتدت ندامته على أمر فاته.
قال الرازي: وأصل الحسر الكشف. يقال حسر ذراعيه أى: كشف والحسرة انكشاف عن حال الندامة. والحسور الإعياء لأنه انكشاف الحال عما أوجبه طول السفر. قال- تعالى-:
وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ «٣».
والمعنى: كما أرى الله- تعالى- المشركين العذاب وما صاحبه من التبرؤ وتقطع الأسباب
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ٣٦.
(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٢٣٨.
ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان عاقبة أمرهم فقال: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.
أى: وما هم بخارجين من تلك النار التي عوقبوا بها بسبب شركهم، بل هم مستقرون فيها استقرارا أبديا، وقد جاءت الجملة اسمية لتأكيد نفى خروجهم من النار، وبيان أنهم مخلدون فيها كما قال- تعالى- في آية أخرى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها.
وهكذا يسوق لنا القرآن ما يدور بين التابعين والمتبوعين يوم القيامة من تنصل وتحسر وتخاصم بتلك الطريقة المؤثرة، حتى لكأنك أمام مشهد مجسم، ترى فيه الصور الشاخصة حاضرة. وذلك لون من ألوان بلاغة القرآن في عرضه للحقائق، حتى تأخذ سبيلها إلى النفوس الكريمة، وتؤتى ثمارها الطيبة في القلوب السليمة.
ثم وجه القرآن نداء عاما إلى البشر أمرهم فيه بأن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات، ونهاهم عن اتباع وساوس الشيطان فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٨ الى ١٦٩]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩)
كُلُوا صيغة أمر واردة في معنى الإباحة.
والحلال ما أذن الله في تناوله من مطعومات أو مشروبات.
قال الرازي: وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد، ومنه حل بالمكان إذا نزل، لأنه حل شد الارتحال للنزول، وحل الدين إذا وجب لانحلال العقدة بانقضاء المدة، وحل من إحرامه، لأنه حل عقدة الإحرام.. ثم قال: واعلم أن الحرام قد يكون حراما لخبثه- في ذاته- كالميتة والدم ولحم الخنزير، وقد يكون حراما لوصف عارض كملك الغير إذا لم يأذن في أكله- فحرمته لتعلق حق الغير به- فالحلال هو الخالي عن هذين القيدين» «١».
ومن: في قوله: مِمَّا فِي الْأَرْضِ للتبعيض، لأن بعض ما في الأرض كالحجارة- مثلا- لا يؤكل، ولأنه ليس كل ما يؤكل يجوز أكله فلذلك قال: حَلالًا طَيِّباً...
وقوله: حَلالًا مفعول به لقوله: «كلوا» أو حال مما في الأرض، أى: كلوه حال كونه حلالا. أو صفة لمصدر محذوف، أى: كلوه أكلا حلالا.
وقوله: طَيِّباً صفة مقررة ومؤكدة لمعنى يستفاد من قوله: حَلالًا وهو طهارة المأكول وخلوه من القذارة، وعدم إيقاعه في ضرر.
قال الآلوسى: «وفائدة وصف الحلال بالطيب تعميم الحكم كما في قوله- تعالى-:
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالات فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة تعم، بخلاف غير الموصوفة» «١».
والمعنى: يا أيها الناس لقد أباح الله لكم أن تأكلوا من كل ما تحويه الأرض من المطعومات التي أحلت لكم، والتي تستلذها النفوس الكريمة، والقلوب الطاهرة، فتمتعوا بهذه الطيبات في غير سرف أو غرور، واشكروا الله- تعالى- على ما رزقكم من نعم.
ولقد أمر الله عباده في كثير من الآيات أن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات ومن ذلك قوله- تعالى-: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
وفي صحيح مسلّم عن عياض المجاشعي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرنى أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومى هذا. يقول الله- تعالى-: كل مال نحلته- أى منحته- عبادي فهو لهم حلال، وإنى خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا..». وعن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلّى الله عليه وسلّم يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فقام سعد بن أبى وقاص فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال: يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه
وليس من الورع ولا الزهد المرضى عنه شرعا ترك بعض المباحاث، فإن الله سوى في المباح بين الفعل والترك، ومن يجعل ترك المباح من الورع، والورع مندوب، فكأنه يقول: إن الترك راجح على الفعل، وهو غير ما حكم الله به.
وكان الحسن البصري- وهو من أجل التابعين- يقوم عوج من يعدون من الزهد المحمود الامتناع عن تناول بعض المباحات كالأطعمة اللذيذة.
يحكى عنه أنه شهد يوما وليمة، فرأى رجلا يرفع يده عند ما قدمت الحلوى فقال له الحسن:
كل يا لكع فلنعمة الله عليك في الماء البارد أعظم من نعمته في هذه الحلوى.
ودخل عليه مرة أحد الزهاد فقال له الحسن: أتحب الخبيص- وهو طعام لذيذ- فقال الزاهد: لا أحبه ولا أحب من يحبه!! فأقبل الحسن على جلسائه وقال لهم: أترونه مجنونا.
والخلاصة: أنه لا ورع في ترك المباح الذي أحله الله من حيث فيه متعة للنفس، فذلك هو التنطع في الدين، وإنما الورع في ترك الإكثار من تناول تلك المباحات، لأن الإكثار منها قد يؤدى إلى الوقوع فيما نهى الله عنه.
هذا، وقد أورد بعض المفسرين آثارا تدل على أن هذه الآية نزلت في يوم معينين.
قال الآلوسى: نزلت في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقيل نزلت في قوم من ثقيف وبنى عامر ابن صعصعة وخزاعة وبنى مدلج حيث حرموا التمر والاقط على أنفسهم «٢» والذي نراه أن الخطاب في الآية لجميع المكلفين من البشر، وأنها واردة لتفنيد آراء الذين يحرمون على أنفسهم مطعومات لم يقم دليل من الشارع على تحريمها، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثم قال- تعالى-: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ.
الخطوات: جمع خطوة كغرفة وقيل جمع خطوة كقبضة، وهي في الأصل ما بين القدمين عند المشي، وتستعمل على وجه المجاز في الآثار.
أى: كلوا أيها الناس من الطيبات التي أحلها الله لكم. ولا تتبعوا آثار الشيطان وزلاته
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ٢٨.
وفي الجملة الكريمة استعارة تمثيلية، إذ أن السائر في طريق إذا رأى آثار خطوات السائرين تتبع ذلك المسلك ظنا منه بأن ما سار فيه السائر قبله إلا لأنه موصل للمطلوب، فشبه المقتدى الذي لا دليل معه سوى المقتدى به وهو يظن مسلكه موصلا، بالذي يتبع خطوات السائرين، وشاعت هذه الاستعارة حتى صاروا يقولون هو يتبع خطا فلان بمعنى يقتدى به.
وقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للنهى عن اتباع الشيطان و «مبين» من أبان بمعنى بان وظهر، وقيل: من أبان بمعنى أظهر، أى: مظهر للعداوة.
والمعنى: «ولا تتبعوا خطواته لأن عداوته ظاهرة لكم بحيث لا تخفى على أى عاقل.
وقوله- تعالى-: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيل لأنواع شروره ومفاسده.
والسوء في الأصل: مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه، والمراد به هنا، كل ما يغضب الله- تعالى- من المعاصي، لأنها تسوء صاحبها وتحزنه في الحال أو المآل.
والفحشاء والفاحشة والفحش: ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال.
وروى عن ابن عباس أنه فسر السوء بما لا حد فيه، والفحشاء بما فيه حد.
والأمر في الأصل: الطلب بالقول، واستعمل في تزيين الشيطان المعصية، لأن تزيينها في معنى الدعوة إليها.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف كان الشيطان آمرا مع قوله لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ؟
قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر، كما تقول: أمرتنى نفسي بكذا، وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه، ولذلك قال: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وقال- تعالى-: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت» «١».
وقوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ معطوف على ما قبله.
أى: يأمركم الشيطان بالسوء والفحشاء، ويأمركم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون.
قال الإمام ابن القيم: «والقول على الله بغير علم يعم القول عليه- سبحانه- في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه، وقد جعله- سبحانه- من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال- تعالى-: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ، ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وقال- تعالى-: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فتقدم إليهم- سبحانه- بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام، ولما لم يحله: هذا حلال. وهذا بيان منه- سبحانه- أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أنه- سبحانه- أحله وحرمه» «١».
وقال بعض العلماء: وقد يخطر على بالك أن تقرير الأئمة المجتهدين لبعض الوقائع أحكاما من طريق الاستنباط، قد يستندون في ذلك إلى دليل يفيد الظن بالحكم، ولا يصل إلى أن يفيد العلم به، فيكون إفتاؤه من قبيل القول على الله بغير علم، ويزاح هذا الخاطر بأنه قد انضم إلى ذلك الدليل الظنى أصل انعقد عليه الإجماع وأصبح مقطوعا به، وهو أن كل مجتهد بحق يكون حكم الشرع في حقه أو حق من يتابعه هو الحكم الذي أداه إليه اجتهاده، وبمراعاة هذا الأصل المقطوع به لم يكن المجتهد المشهود له بالرسوخ في العلم قائلا على الله ما لا يعلم» «٢».
هذا، ومن الآيات الكثيرة التي وردت في القرآن الكريم في التحذير من الشيطان ووساوسه قوله- تعالى-: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ.
وقوله- تعالى-: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا.
وقوله- تعالى-: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ.
وقد أرشدنا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أن الإكثار من ذكر الله خير معين للإنسان للتغلب على وساوس
(٢) تفسير القرآن الكريم لفضيلة الإمام محمد الخضر حسين، مجلة لواء الإسلام. السنة الرابعة. العدد السادس. [.....]
وبعد أن نهى- سبحانه- الناس عن إتباع خطوات الشيطان، وبين لهم مظاهر عداوته لهم، أردف ذلك ببيان حال طائفة من الناس لم يستمعوا لهذا النصح، بل اتبعوا خطوات الشيطان فقلدوا آباءهم في الشرك والجهالة فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)
أى: وإذا قيل لأولئك الذين اقتفوا خطوات الشيطان، وقالوا على الله بدون علم ولا برهان، إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله من قرآن، أعرضوا عن ذلك وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والخضوع للرؤساء فالضمير في قوله- تعالى-: لهم يعود على طائفة ممن شملهم الخطاب بقوله- تعالى- في الآية السابقة: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وهم الذين لم يستجيبوا لنداء الله بل ساروا في ركب الشيطان، واقتفوا آثاره، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ. القائل لهم ذلك هو النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون.
والمراد بما أنزل الله: القرآن الكريم، وما أوحاه الله إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم من هدايات. وعدل- سبحانه- من خطابهم إلى الغيبة للتنبيه على أنهم لفرط جهلهم وحمقهم صاروا ليسوا أهلا للخطاب، بل ينبغي أن يصرف عنهم إلى من يعقله.
وبَلْ في قوله- تعالى-: بَلْ نَتَّبِعُ للإضراب الإبطالى، أى: أضربوا عن قول الرسول لهم اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ إضراب إعراض بدون حجة، إلا بأنه مخالف لما ألفوا عليه آباءهم من أمور الشرك والضلال.
وقوله- تعالى-: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ رد عليهم، وبيان لبطلان الاعتماد في الدين على مجرد تقليد الآباء.
والهمزة للاستفهام الإنكارى، والواو للحال، والمعنى: أيتبعون ما وجدوا عليه آباءهم
قال الآلوسى: وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر، وأما أتباع الغير في الدين بعد العلم- بدليل ما- أنه محق فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله- تعالى- وليس من التقليد المذموم في شيء وقد قال- سبحانه- فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «١».
وبعد أن بين- سبحانه- فساد ما عليه أولئك المشركون المقلدون من غير نظر ولا استدلال، أردف ذلك بضرب مثل لهم زيادة في قبيح شأنهم والزراية عليهم فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧١]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)
ومَثَلُ الصفة والشأن، وأصل المثل بمعنى المثل: النظير والشبيه، ثم أطلق على القول السائر المعروف، لمماثلة مضربه- وهو الذي يضرب فيه- لمورده- وهو الذي ورد فيه أولا- ولا يكون إلا فيما فيه غرابة. ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة، إذا كان لها شأن عجيب وفيها غرابة.
ويَنْعِقُ من النعيق وهو الصياح. يقال: نعق الراعي بالغنم ينعق نعقا ونعاقا ونعقانا، صاح بها وزجرها.
والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد أى أن ثانيهما تأكيد للأول، وقيل: الدعاء للقريب والنداء للبعيد.
والظاهر أن المراد بهما نوعان من الأصوات.
وأولهما: وهو الدعاء معناه: الصياح بالبهائم لتأتى.
وثانيهما: وهو النداء معناه: الصياح بها لتذهب.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: وللعلماء من أهل التأويل في هذه الآية طريقان:
أحدهما: تصحيح المعنى بالإضمار في الآية.
والثاني: إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار.
الأول: كأنه قال: ومثل من يدعو الذين كفروا إلى الحق كمثل الذي ينعق، فصار الناعق الذي هو الراعي بمنزلة الداعي إلى الحق. وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم وسائر الدعاة إلى الحق، وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها، ووجه الشبه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تفهم المراد، وهؤلاء الكفار كانوا يسمعون صوت الرسول صلّى الله عليه وسلّم وألفاظه، وما كانوا ينتفعون بها وبمعانيها.
الثاني: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الأوثان كمثل الناعق في دعائه ما لا يسمع كالغنم وما يجرى مجراها من البهائم. فشبه الأصنام- في أنها لا تفهم- بهذه البهائم، فإذا كان ولا شك أن من دعا بهيمة عد جاهلا، فمن دعا حجرا أولى بالذم.
والفرق بين هذا القول والذي قبله أن ها هنا المحذوف هو المدعو، وفي القول الذي قبله المحذوف هو الداعي.
أما إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار فتقديره، ومثل الذين كفروا في قلة عقولهم في عبادتهم لهذه الأوثان كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم، فكما أنه يقضى على ذلك الراعي بقلة العقل فكذا هاهنا.
ثم قال- رحمه الله- ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسرا لقلبه، وتضييقا لصدره، حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد» «١».
وقوله- تعالى-: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ زيادة في تبكيتهم وتقريعهم، أى: هم صم عن استماع دعوة الحق، بكم عن إجابة الداعي إليها، عمى عن آيات صدقها وصحتها، فهم لإعراضهم عن الهادي لهم إلى ما ينفعهم وينجيهم من العذاب صاروا بمنزلة من فقد حواسه، فأصبح لا يسمع ولا ينطق ولا يبصر وقوله: فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ وارد مورد النتيجة بعد البرهان، بجانب كونه توبيخا لهم، لأنهم بفقدهم أهم طرق الإدراك وهما السمع والبصر، وأهم وسيلة للثقافة وهي استطاع الحقائق من طريق المحاورة والتكلم، صاروا بعد كل ذلك بمنزلة من فقد عقله الاكتسابى، فأصبح لا يفقه شيئا لأن العقل الذي يكتسب به الإنسان المعارف والحقائق يستعين استعانة كبرى بهذه الحواس الثلاث.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
الطيبات من الأطعمة: المستلذات، ويجوز حملها على ما طاب من الرزق بتحليل الله له.
وما رزقناكم: ما أوصلناه إليكم من الرزق، - وهو ما ينتفع به.
أى: يا من آمنتم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كلوا من ألوان الطيبات التي أحللناها لكم، ولا تتعرضوا لما حرمناه عليكم.
وكان الخطاب هنا للمؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، وأجدر بالعلم وأحرى بالاهتداء، وأولى بالتكريم والتشريف.
ومفعول كُلُوا محذوف، أى: كلوا رزقكم حال كونه بعض طيبات ما رزقناكم.
ثم أمرهم- سبحانه- بشكره على هذه الطيبات التي أباحها لهم فقال: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ.
وهذه الجملة الكريمة معطوفة على جملة كُلُوا.
والشكر: هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم لموجدها، ووضعها في الموضع الذي أمر به.
أى: تمتعوا بنعم الله، واعترفوا له بها على وجه التعظيم، بأن تمتثلوا ما أمر به، وتجتنبوا ما نهى عنه، إن كنتم تخصونه بالعبادة حقا، وتفردونه بالطاعة صدقا.
«واشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة، وتخصيصكم إياه بالعبادة، يدل على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه، وهي لا تتم إلا بالشكر، لأنه من أجل العبادات» «١».
وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور والتقدير: إن كنتم إياه تعبدون فكلوا واشكروا لله.
ولقد أمر الله- تعالى- عباده أن يشكروه في آيات كثيرة ومن ذلك قوله- تعالى-: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.
وقال- تعالى-: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر» وروى الإمام مسلّم في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها» قال صاحب المنار: قال الأستاذ الإمام: لا يفهم هذه الآية حق فهمها إلا من كان عارفا بتاريخ الملل عند ظهور الإسلام وقبله، فإن المشركين وأهل الكتاب كانوا فرقا وأصنافا، منهم من حرم على نفسه أشياء معينة بأجناسها أو أصنافها كالبحيرة والسائبة عند العرب، وكبعض الحيوانات عند غيرهم وكان المذهب الشائع في النصارى أن أقرب ما يتقرب به إلى الله- تعالى- تعذيب النفس، وحرمانها من الطيبات المستلذة، واحتقار الجسد ولوازمه، واعتقاد أنه لا حياة للروح إلا بذلك... ثم قال: وقد تفضل الله على هذه الأمة بأن جعلها أمة وسطا تعطى الجسد حقه والروح حقها، فأحل لنا الطيبات لتتسع دائرة نعمه الجسدية علينا، وأمرنا بالشكر عليها ليكون لنا منها فوائد روحانية عقلية، فلم نكن جسمانيين محضا كالأنعام، ولا روحانيين خلصا كالملائكة، وإنما جعلنا أناسى كملة بهذه الشريعة المعتدلة، فله الحمد والشكر والثناء الحسن» «٢».
وقوله- تعالى-: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ بيان لما حرمه الله- تعالى- علينا من المطاعم رعاية لمنفعتنا.
والْمَيْتَةَ في عرف الشرع: ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعه، فيدخل فيها: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما عدا عليها السبع، ويدخل في حكم الميتة ما قطع
(٢) تفسير المنار ج ٢ ص ٩٦.
وكان الأكل من الميتة محرما، لفساد جسمها بذبول أجزائه وتعفنها، ولأنها أصبحت بحالة تعافها الطباع السليمة لقذارتها وضررها.
قال الآلوسى: وأضاف- سبحانه- الحرمة إلى العين- مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي من صفات فعل المكلف وليست مما تتعلق بالأعيان- إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده، حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ، وخرج عن حكم الميتة السمك والجراد، للحديث الذي أخرجه ابن ماجة والحاكم من حديث ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال وللعرف أيضا، فإنه إذا ما قال القائل: أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب، واستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافا لمن أباحه» «١».
والدم المحرم: ما يسيل من الحيوان الحي كثيرا كان أم قليلا وكذلك يحرم من دم الحيوان ما جرى منه بعد تذكيته، وهو الذي عبر عنه القرآن بالمسفوح في قوله- تعالى-: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً...
والدم المسفوح: هو الدم الجاري المهراق من البهيمة بعد ذبحها.
أما الدم المتبقى في أجزاء لحم البهيمة بعد تذكيتها فلا شيء فيه.
قال القرطبي: وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، ومعفو عما تعم به البلوى. والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه... وقد روت عائشة- رضي الله عنها- قالت: كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره» لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة، والإصر والمشقة في الدين موضوع. وهذا أصل في الشرع» «٢».
وقد عرف عن بعض العرب في الجاهلية أنهم كانوا يأخذون الدم من البهائم عند ذبحها، فيضعونه في أمعائها ثم يشوونها بالنار ويأكلونها ويسمون ذلك بالفصيد.
قال بعضهم: والحكمة في تحريم الدم أنه تستقذره النفوس الكريمة، ويفضى شربه أو أكله إلى الإضرار بالنفس، وفضلا عن ذلك فإن تعاطيه يورث ضراوة في الإنسان، وغلظة في الطباع
(٢) تفسير القرطبي ج ٢ ص ٢٢٢.
وحرمة الخنزير شاملة للحمه وشحمه وجلده. وإنما خص لحمه بالذكر، لأنه الذي يقصد بالأكل، ولأن سائر أجزاء الخنزير كالتابعة للحمه. وبعض الفقهاء يرى أنه لا بأس من الانتفاع بشعر الخنزير في الخرازة- أى: خياطة الجلود وغيرها-، وبعضهم كره ذلك.
ومن الحكم في تحريم لحم الخنزير قذارته، واشتماله على دودة تضر ببدن آكله وقد أثبت ذلك العلم الحديث.
وما يقوله قوم من أن وسائل العلم الحديث قد تقدمت، وصار في الإمكان التغلب على ما في لحم الخنزير من أضرار هذا القول مردود بأن العلم الحديث قد احتاج إلى ثلاثة عشر قرنا ليكتشف آفة واحدة في لحم الخنزير، فمن ذا الذي يجزم بأنه ليس هناك آفات أخرى في هذا اللحم لم يعرفها العلم حتى الآن؟
إن الشريعة التي سبقت العلم الحديث بأكثر من ثلاثة عشر قرنا أولى بالاتباع، وأجدر بالطاعة فيما أحلته وحرمته مما يقوله الناس، لأنها من عند الله العليم بشئون عباده، الخبير بما ينفعهم وبما يضرهم.
وقوله: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ معطوف على ما قبله من المحرمات. وأُهِلَّ من الإهلال، وهو رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقا، ومنه إهلال الصبى، والإهلال بالحج. وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا عليها أسماءها- كاللات والعزى- ورفعوا بها أصواتهم، وسمى ذلك إهلالا.
فالمراد بما أهل به لغير الله: ما ذبح للأصنام وغيرها، ومنه ما يذبحه المجوسي للنار. ومنه عند جمهور العلماء: ذبائح أهل الكتاب إذا ذكر عليها اسم عزير أو عيسى، لأنها مما أهل به لغير الله.
وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقا، لعموم قوله- تعالى- في سورة المائدة وهي من آخر السور نزولا: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ أى ذبائحهم، وهو- سبحانه- يعلم ما يقولون.
وروى الحسن عن على- رضي الله عنه- أنه قال: إذا ذكر الكتابي اسم غير الله على ذبيحته وأنت تسمع فلا تأكل، فإذا غاب عنك فكل، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
وقد روى البخاري عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: إن قوما قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوه. قالت:
فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه، بل المحرم ما علم أن غير اسم الله من الأوثان والأنداد ونحو ذلك قد ذكر عليه.
فأنت ترى أن تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير كان لاستقذار الأكل من هذه الثلاثة، أى:
لعلة ذاتية فيها، أما تحريم ما أهل به لغير الله فليس لعلة فيه، ولكن للتوجه به إلى غير الله.
وهي علة روحية تنافى سلامة القلب، وطهارة الروح، ووحدة المتجه فما ذكر عليه سوى اسم الله من الذبائح ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقة، وفي ذلك حض للناس على إخلاص العبادة لله- تعالى-، وزجر لهم عن التقرب إلى أحد سواه.
وقوله- تعالى-: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بيان لحالات الضرورة التي يباح للإنسان فيها أن يأكل من تلك المحرمات.
واضْطُرَّ من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء. يقال: اضطره إلى هذا الشيء. أى:
أحوجه وألجأه إليه مأخوذ من الإضرار، وهو حمل الإنسان على أمر بكرهه، وقهره عليه بقوة يناله بدفعها الهلاك.
وباغٍ من البغاء وهو الطلب. تقول: بغيته بغاء وبغيا وبغية أى: طلبته.
وعادٍ اسم فاعل بمعنى متعد، تقول. عدا طوره إذا تجاوز حده وتعداه إلى غيره فهو عاد، ومنه قوله- تعالى- في شأن قوم لوط: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ.
ولِغَيْرِ منصوب على الحال من الضمير المستتر في اضْطُرَّ وهي هنا بمعنى النفي ولذا عطف عليها لا.
والمعنى: فمن ألجأته ضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات: حالة كونه غير باغ: أى غير طالب للمحرم وهو يجد غيره، أو غير طالب له لإشباع لذته، أو غير طالب له على جهة الاستئثار به على مضطر آخر، أو غير ساع في فساد وَلا عادٍ أى: وغير متجاوز ما يسد الجوع، ويحفظ الحياة فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أى: فلا إثم عليه في أكله من هذه المحرمات.
وبهذا نرى لونا من ألوان سماحة الإسلام ويسره في تشريعاته، التي أقامها الله- تعالى- على رفع الحرج، ودفع الضرر، قال- تعالى-: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وقال- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل قصد به الامتنان. أى: إن الله- تعالى- موصوف بهذين الوصفين الجليلين، ومن كان كذلك كان من شأنه أن يعفو عن الخطايا، ويغفر الذنوب،
هذا، وظاهر هذه الآية الكريمة يقتضى أنه ليس هناك محرم من المطعومات سوى هذه الأربعة، لكنا نعلم في الشرع أن هناك مطعومات أخرى قد حرم على المسلّم تناولها كلحوم الحمر الأهلية، فعل هذا تكون لفظة «إنما» متروكة الظاهر في العمل- كما قال الإمام الرازي- أى: أن الحصر فيها غير مقصود وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- في سورة الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «١».
ثم تحدث القرآن عن سوء عاقبة الذين يكتمون ما أمر الله بإظهاره وتوعدهم بأقسى ألوان العذاب فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٤ الى ١٧٦]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
الكتم والكتمان: إخفاء الشيء قصدا مع تحقق الداعي إلى إظهاره.
وقد تحدث القرآن- قبل هذه الآيات بقليل- في قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى عن المصير الأليم الذي توعد الله به أولئك الكاتمين لما أمر الله بإظهاره، وأعاد الحديث عن سوء عاقبتهم هنا لكي ينذرهم مرة بعد أخرى حتى يقلعوا عن هذه الرذيلة التي هي من أبشع الرذائل وأقبحها، ولكي يغرس في قلوب الناس- وخصوصا
قال الإمام الرازي: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وأحبارهم. كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا، فلما بعث الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم خافوا انقطاع تلك المنافع فكتموا أمره- عليه السلام- وأمر شرائعه فنزلت هذه الآية.
ثم قال الإمام الرازي: والآية وإن نزلت في أهل الكتاب لكنها عامة في حق كل من كتم شيئا من باب الدين يجب إظهاره، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» «١».
والمراد بالكتاب، التوراة، أو جنس الكتب السماوية التي بشرت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
ومِنَ في قوله: مِنَ الْكِتابِ بمعنى في أى: يكتمون ما أنزل الله في كتابه من صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونعته ووقت بعثته.
وقيل للبيان، وهي حال من العائد على الموصول والتقدير: أنزل الله حال كونه من الكتاب والعامل فيه أنزل.
وقوله: وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا معطوف على يكتمون.
أى: يكتمون ما أنزل الله من الكتاب مما يشهد بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم ويأخذون من سفلتهم في مقابل ذلك عرضا قليلا من أعراض الدنيا.
والضمير في قوله: بِهِ يعود إلى ما أنزل الله، أو إلى الكتمان الذي يدل عليه الفعل يَكْتُمُونَ أو إلى الكتاب.
ووصف هذا الثمن الذي يأخذونه في مقابل كتمانهم بالقلة، لأن كل ما يؤخذ في مقابلة إخفاء شيء مما أنزله الله فهو قليل حتى ولو كان ملء الأرض ذهبا.
وقوله- تعالى-: أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وما عطف عليه، بيان للعذاب المهين الذي أعدلهم بسبب كتمانهم لما أمر الله بإظهاره وبيعهم دينهم بدنياهم.
أى: أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا ما يؤدى بهم إلى النار وبئس القرار كما قال- تعالى- في حق أكلة مال اليتامى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً.
وفي هذه الجملة الكريمة تمثيل لحالة أولئك الكفار الحاصلة من أكلهم ذلك الثمن القليل
وجيء باسم الإشارة في أول هذه الجملة لتمييز أولئك الكاتمين أكمل تمييز حتى لا يخفى أمرهم على أحد، وللتنبيه على أن ما ذكر بعد اسم الإشارة من عقوبات سببه ما فعلوه قبل ذلك من سيئات.
وخص- سبحانه- بالذكر الأكل في بطونهم من بين وجوه انتفاعهم بما يأخذونه من مال حرام، للإشعار بسقوط همتهم ودناءة نفوسهم حتى إنهم ليخفون ما أمر الله بإظهاره من حقائق وهدايات، نظير ملء بطونهم.
وقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أى: لا يكلمهم كلاما تطمئن به نفوسهم، وتنشرح له صدورهم وإنما يكلمهم بما يخزيهم ويفجعهم بسبب سوء أعمالهم كقوله- لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ. أو أن نفى تكليمه لهم كتابة عن غضبه عليهم، لأن من عادة الملوك أنهم عند الغضب يعرضون عن المغضوب عليه ولا يكلمونه، كما أنهم عند الرضا يقبلون عليه بالوجه والحديث.
وقوله: وَلا يُزَكِّيهِمْ أى: ولا يطهرهم من دنس الكفر والذنوب بالمغفرة، من التزكية بمعنى التطهير. يقال: زكاه الله، أى: طهره وأصلحه.
وتستعمل التزكية بمعنى الثناء، ومنه زكى الرجل صاحبه إذا وصفه بالأوصاف المحمودة وأثنى عليه، فيكون معنى وَلا يُزَكِّيهِمْ لا يثنى عليهم- سبحانه- ومن لا يثنى عليه الله فهو معذب.
فهؤلاء الذين كتموا الحق نظير شيء قليل من حطام الدنيا، فقدوا رضا الله عنهم وثناءه عليهم وتطهيره لهم.
ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان سوء منقلبهم، وشدة ألم العذاب الذي ينالهم فقال- تعالى- وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أى. موجع مؤلم.
قال الآلوسى: وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى، لأنه لما ذكر- سبحانه- اشتراءهم بذلك- الثمن القليل- وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية، بدأ أولا في الخبر بقوله: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ. وابتنى على كتمانهم واشترائهم بما أنزل الله ثمنا
ثم بين- سبحانه- ما هم عليه من جهل وغباء وسوء عاقبة فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ.
الاشتراء: استبدال السلعة بالثمن. والمعنى: أولئك الذين تقدم الحديث عنهم وهم الكاتمون لما أنزل الله قد بلغ بهم الغباء وانطماس البصيرة أنهم باعوا الهدى والإيمان ليأخذوا في مقابلهما الكفر والضلال، وباعوا ما يوصلهم إلى مغفرة الله ورحمته ليأخذوا في مقابل ذلك عذابه ونقمته، فما أخسرها من صفقة، وما أغبى هؤلاء الكاتمين الذين فعلوا ذلك نظير عرض من أعراض الدنيا الفانية، فخسروا بما فعلوه دنياهم وآخرتهم.
وقوله- تعالى-: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ معناه: فما أدومهم على عمل المعاصي التي تؤدى بهم إلى النار حتى لكأنهم بإصرارهم على عملها يجلبون النار إليهم جلبا. ويقصدون إليها قصدا بدون مبالاة أو تفكر.
والمراد من التعجب في هذه الآية وأشباهها، الإعلام بحالهم وأنه ينبغي أن يتعجب منها كل أحد، وذلك لأن المعنى الظاهر من الجملة التعجب من صبر أولئك الكفار على النار، والتعجب انفعال- يحدث في النفس عند الشعور بأمر يجهل سببه وهو غير جائز في حقه- تعالى- لأنه لا يخفى عليه شيء، ومن هنا قال العلماء: إن فعل التعجب في كلام الله المراد منه التعجيب، أى: جعل الغير يتعجب من ذلك الفعل، وهو هنا صبرهم على النار، فيكون المقصود تعجيب المؤمنين من جراءة أولئك الكاتمين لما أنزل الله على اقترافهم ما يلقى بهم في النار، شأن الواثق من صبره على عذابها المقيم.
وشبيه بهذا الأسلوب في التعجب- كما أشار صاحب الكشاف- أن تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان: ما أصبرك على القيد والسجن فأنت لا تريد التعجب من صبره، وإنما تريد إفهامه أن التعرض لما يغضبه لا يقع إلا ممن شأنه الصبر على القيد والسجن، والمقصود بذلك تحذيره من التمادي فيما يوجب غضب ذلك السلطان.
قال الجمل ما ملخصه وما في قوله فَما أَصْبَرَهُمْ- وفي مثل هذا التركيب- فيها أوجه:
أحدها: وهو قول سيبويه والجمهور أنها نكرة تامة غير موصولة ولا موصوفة وأن معناها التعجب فإذا قلت. ما أحسن زيدا، فمعناه: شيء صير زيدا حسنا.
والثالث: ويعزى للاخفش: أنها موصولة.
والرابع ويعزى له أيضا: أنها نكرة موصوفة وهي على هذه الأقوال الأربعة في محل رفع بالابتداء وخبرها على القولين الأولين الجملة الفعلية بعدها، وعلى قولي الأخفش يكون الخبر محذوفا «١».
ثم بين- سبحانه- أن سبب استحقاقهم للعذاب الأليم، هو ارتكابهم لما نهى الله عنه عن قصد وسوء نية فقال: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ.
أى: ذلك العذاب الأليم حل بهم بسبب أن الله أنزل التوراة مصحوبة ببيان الحق الذي من جملته التبشير ببعثة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم فكتموا هم هذا الحق وامتدت إليه أيديهم الأثيمة بالتحريف والتأويل إيثارا لمطامع دنيوية على هدى الله الذي هو أساس كل سعادة.
فاسم الإشارة ذلِكَ يعود على مجموع ما سبق بيانه من أكل النار، وعدم تكليم الله إياهم، وعدم تزكيتهم.. إلخ.
والباء في قوله: بِأَنَّ للسببية، والمراد بالكتاب: التوراة.
ثم ختم- سبحانه- الحديث عن هؤلاء الكاتمين للحق بقوله: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ.
اختلفوا: خالف بعضهم بعضا، وأصله من اختلاف الطريق، تقول اختلفوا في الطريق.
أى: جاء بعضهم من جهة والبعض الآخر من جهة أو جهات أخرى. ثم استعمل في الاختلاف في المذاهب والاعتقاد.
والكتاب: التوراة، أو التوراة والإنجيل، إذ يصح أن يراد جنس الكتاب والمقام يقتضى صرفه إلى هذين الكتابين، وقد أبعد في التأويل من قال بأن المراد به القرآن لأن الحديث عن أهل الكتاب الذين كتموا ما في كتبهم من بشارات بالرسول صلّى الله عليه وسلّم واختلافهم في الكتاب من مظاهره: إيمانهم ببعضه وكفرهم بالبعض الآخر، وتحريفه عن مواضعه وتأويله على غير ما يراد منه.
والشقاق: الخلاف، كأن كل واحد من المختلفين في شق غير الشق الذي يكون فيه الآخر،
والمعنى: ذلك العذاب الأليم حل بأولئك الأشقياء بسبب كتمانهم لما أنزله الله في كتابه من الحق، وإن الذين اختلفوا في شأن ما أنزله الله في كتبه فأظهروا منها ما يناسب أهواءهم وأخفوا ما لا يناسبها- لفي بعد شديد عن الحق والصواب:
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ذكرت ألوانا من العقوبات الأليمة التي توعد الله بها كل من يكتم أمرا نهى الله عن كتمانه، لكي يقلع كل من يتأنى له الخطاب عن هذه الرذيلة وفاء للعهد الذي أخذه الله على الناس بصفة عامة، وعلى أولى العلم بصفة خاصة.
ثم ساق القرآن الكريم آية جامعة لأنواع البر، ووجوه الخير، تهدى المتمسك بها إلى السعادة الدنيوية والأخروية فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٧]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
الْبِرَّ: اسم جامع لكل خير، ولكل طاعة وقرية يتقرب بها العبد إلى خالقه- عز وجل-.
قال الراغب: «البر- بفتح الباء- خلاف البحر، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر- بكسر الباء- بمعنى التوسع في فعل الخير، وينسب ذلك إلى الله- تعالى- تارة نحو: إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ وإلى العبد تارة فيقال: بر العبد ربه، أى توسع في طاعته فالبر من الله
وتولية الوجوه قبل الشيء معناه: التوجه إليه بجعل الوجه متجها إلى جهته فلفظ «قيل» بمعنى جهة وهو منصوب على الظرفية المكانية.
والْمَشْرِقِ: الجهة التي تشرق منها الشمس، والمغرب: الجهة التي تغرب فيها.
قال الإمام الرازي: اختلف العلماء في أن هذا الخطاب عام أو خاص. فقال بعضهم: أراد بقوله: لَيْسَ الْبِرَّ أهل الكتاب لما شددوا في الثبات على التوجه نحو بيت المقدس فقال- تعالى- ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله. وقال بعضهم: بل المراد مخاطبته المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام وقال بعضهم: بل هو خطاب للكل، لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الاغتباط بهذه القبلة، وحصل منهم التشدد في تلك القبلة حتى ظنوا أنه الفرض الأكبر في الدين، فبعثهم الله- تعالى- بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات، وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقا وغربا، وإنما البر. كيت وكيت. وهذا أشبه بالظاهر إذ لا تخصيص فيه، فكأنه- تعالى- قال: ليس البر المطلوب هو أمر القبلة، بل البر المطلوب هو هذه الخصال التي عدها» «٢».
وهذا القول الثالث- الذي يرى أصحابه أن الخطاب للكل، والذي قال عنه الإمام الرازي: هذا أشبه بالظاهر- هذا القول، هو الذي تسكن إليه النفس لأنه لا يوجد نص صحيح يخصص الخطاب لطائفة معينة من الناس ولأن المقصود من الآية الكريمة إنما هو إفهام الناس في كل زمان ومكان أن مجرد تولية الوجه إلى قبلة مخصوصة ليس هو البر الكامل الذي يعنيه الإسلام، وإنما البر الكامل يتأنى في استجابة الإنسان لتلك الخصال الشريفة التي اشتملت عليها الآية، تلك الخصال التي تجعل المستمسكين بها على صلة طيبة بخالقهم وعلى صلة طيبة بغيرهم، - كما سنبين ذلك عند تعليقنا على هذه الآية الكريمة-.
والمعنى: ليس البر- الذي هو كل طاعة يتقرب بها الإنسان إلى خالقه- في تولية الوجه عند الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب، وإنما البر الذي يجب الاهتمام به لأنه يؤدى إلى السعادة والفلاح- يكون في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وفي انفاق المال في وجوه الخير، وفي اتباع ما ذكرته الآية الكريمة من خصال جليلة.
هذا وقد قرأ حمزة وحفص عن عاصم لَيْسَ الْبِرَّ بنصب البر على أنه خبر ليس، واسمها
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٣٨.
وقرأ الباقون لَيْسَ الْبِرَّ برفع البر على أنه اسم ليس، وخبرها قوله- تعالى-: أَنْ تُوَلُّوا أى ليس البر كله توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب.
قال الطبرسي: وكلا المذهبين حسن، لأن كل واحد من اسم ليس وخبرها معرفة، فإذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسما والآخر خبرا كما تتكافأ النكرتان «١».
وقوله- تعالى-: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ إلخ بيان لما هو البر الذي يجب أن تتجه إليه الأفكار، وتستجيب له النفوس.
ولكِنَّ حرف استدراك، البر: اسمها. وقوله مَنْ آمَنَ وقع في اللفظ موقع الخبر عن قوله الْبِرَّ والخبر في المعنى لفظ مقدر مضاف إلى من آمن، يفهم من سياق الجملة، والمعنى مع ملاحظة المقدر: ولكن البر بر من آمن بالله.
وهذا اللون من الإيجاز الذي حذف فيه المضاف معهود في كلام البلغاء إذ تجدهم يقولون السخاء حاتم، والشعر زهير. أى: السخاء سخاء حاتم، والشعر شعر زهير.
وقيل: إن البر هنا بمعنى البار فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل، كما يقال: ماء غور أى: غائر، ورجل صوم أى: صائم.
وقيل: إن المحذوف هو لفظ مضاف إلى البر. أى: ولكن ذا البر من آمن بالله.
وقد ابتدأت الآية حديثها عن خصال البر بالإيمان بالله، لأنه أساس كل بر. وأصل كل خير، والإيمان بالله: هو التصديق بأنه هو الواحد الفرد الصمد، الذي لا تعنو الوجوه إلا له، ولا تتجه القلوب بالعبادة إلا إليه، ومتى رسخ هذا الإيمان في النفوس ارتفع بها إلى مكانة التكريم التي أرادها الله- تعالى- لبنى آدم وصانها عن الذلة والاستكانة وأعطاها نبراس الهداية والسداد في كل نواحي الحياة.
ثم ذكرت الإيمان باليوم الآخر، وهو التصديق بالبعث وما يقع بعده من حساب وثواب وعقاب على الوجه الذي وصفته نصوص الشريعة بأجلى بيان.
والإيمان باليوم الآخر من ثماره أنه يغرس في النفوس محبة الخير، والحرص على إسداء المعروف وينفرها من اقتراف الشرور وارتكاب الآثام.
ولقد تحدث القرآن عن الإيمان بالله واليوم الآخر في عشرات الآيات، وأقام الأدلة الساطعة، والبراهين القاطعة على وحدانية الله وعلى أنه هو صاحب الكمال المطلق، كما أقام
ثم ذكرت الإيمان بالملائكة والملائكة: أجسام لطيفة نورانية، قادرون على التشكل في صورة حسنة مختلفة، وصفهم القرآن بأنهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ.
ووجه دخول التصديق بهم في حقيقة الإيمان، أن الله وسطهم في إبلاغ وحيه لأنبيائه، وبين ذلك في كتابه، وتحدث الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم عنهم في كثير من أحاديثه، فمن لم يؤمن بالملائكة على هذا الوجه الذي جاءت به الشريعة فقد أنكر الوحى، إذ الإيمان بهم أصل للإيمان بالوحي، فيلزم من إنكارهم إنكار الوحى، وهو يستلزم إنكار النبوة وإنكار الدار الآخرة.
ثم ذكرت الآية الإيمان بالكتاب. والمراد به القرآن لأنه المقصود بالدعوة، ولأنه هو الأمين على الكتب قبله، فما وافقه منها كان حقا وما خالفه كان باطلا.
والإيمان به يستلزم الإيمان بجميع الكتب المنزلة من عند الله على أنبيائه، لأنه هو الذي أخبرنا بذلك وأمرنا بذلك وأمرنا بأن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.
ثم ذكرت الإيمان بالنبيين، أى: التصديق بأنهم رجال اصطفاهم الله- تعالى- لتلقى هدايته وكتبه وتبليغها للناس بصدق وأمانة وسلامة بصيرة.
والنبيون الذين يجب الإيمان بهم: كل من ثبتت نبوته عن طريق القرآن الكريم أو الحديث الصحيح، وكل من أنكر نبوة نبي قد ثبتت نبوته فقد خرج عن طريق الإيمان.
ولقد قام الدليل القاطع على أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم هو خاتم النبيين والمرسلين، وكل من ادعى غير ذلك فهو من الضالين المضلين.
وقد جمعت هذه الأمور الخمسة التي ذكرتها الآية كل ما يلزم أن يصدق به الإنسان، لكي يكون ذا عقيدة سليمة، تصل به إلى الفلاح والسعادة.
ثم ذكرت الآية بعد بيان أصول الإيمان أصول الأعمال الصالحة فقالت. وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ، ذَوِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى، وَالْمَساكِينَ، وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ، وَفِي الرِّقابِ.
وهذه الجملة معطوفة على قوله- تعالى-: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ.
والضمير في قوله عَلى حُبِّهِ يعود إلى المال، أى: أعطى المال وبذله عن طيب خاطره حالة كونه محبا له راغبا فيه. لأن الإعطاء والبذل في هذه الحالة يدل على قوة الإيمان، وصفاء الوجدان، ويسمو بصاحبه إلى أعلا الدرجات. قال- تعالى-: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.
وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أفضل الصدقة ما كان في حال الصحة، لأن الإنسان في هذه الحالة
وقيل الضمير يعود إلى الله- عز وجل- أى: يعطون المال على حب الله وطلبا لمرضاته.
وقيل يعود إلى الإيتاء الذي دل عليه قوله- تعالى- وَآتَى الْمالَ فكأنه قال: يعطى ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله.
والمراد بذوي القربى: أقرباء المعطى للمال. والمعنى: وأعطى المال مع محبته لهذا المال لأقاربه المحتاجين لأنهم أولى بالمعروف، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم، ولذلك جاء ذكرهم في الآية مقدما على بقية الأصناف التي تستحق العطف والإحسان.
روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن سليمان بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الصدقة على المسكين صدقة. وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة».
وَالْيَتامى: جمع يتيم، وهو من فقد أباه بالموت ولم يبلغ الحلم. وهؤلاء اليتامى في حاجة إلى الإحسان إليهم بعد ذوى القربى متى كانوا محتاجين، لشدة عجزهم عن كسب ما يسد حاجتهم.
وَالْمَساكِينَ جمع مسكين، وهو من لا يملك شيئا من المال، أو يملك ما لا يكفى حاجاته وهذا النوع من الناس في حاجة إلى العناية والرعاية لأنهم في الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل على إراقة وجوههم بالسؤال. وفي الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان. قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا».
وَابْنَ السَّبِيلِ: هو المسافر المنقطع عن ماله. وسمى بذلك- كما قال الآلوسى- لملازمته السبيل- أى الطريق- في السفر، أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه وأصحابه فهو أبدا يتوق إلى الجمع، ويشتاق إلى الربع، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف «١» إلى عطنه» «٢».
وهذا النوع من الناس في حاجة إلى المساعدة والمعاونة حتى يستطيع الوصول إلى بلده، وفي
(٢) العطن: مبرك الإبل ومربض الغنم عند الماء. المعجم الوسيط ج ٢ ص ٦٠٩.
وَالسَّائِلِينَ: جمع سائل، وهو الطالب للإحسان والمعروف. ويحمل حاله على أنه في حاجة إلى المعاونة، لأن السؤال علامة الحاجة غالبا.
والرقاب: جمع رقبة وهي في الأصل العنق، وتطلق على البدن كله كما تطلق العين على الجاسوس. فصح حمل الرقاب على الأسارى والأرقاء.
وقوله: وَفِي الرِّقابِ متعلق بآتى، أى: آتى المال على حبه في تخليص الأسرى من أيدى العدو بفدائهم، وتخليص الأرقاء بشرائهم وإعتاقهم. وهذه الأصناف الستة التي ذكرت في تلك الآية الكريمة وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ.. إلخ.
ليس المقصود من ذكرها الاستيعاب والحصر، ولكنها ذكرت كأمثلة وخصت بالذكر لأنها أحوج من غيرها إلى العون والمساعدة.
والذي يراجع القرآن الكريم يجده قد عنى عناية كبرى بالفقراء والمساكين وجميع أصناف المحتاجين حتى لا تكاد سورة من سوره تخلو من الحث على الإنفاق عليهم، وبذل العون في مساعدتهم- وأيضا- هناك عشرات الأحاديث في الحض على مد يد العون إلى ذوى القرابة والمعسرين، وذلك لأن المجتمعات تحيا وتنهض بالتراحم، وتذل وتشقى بالتقاطع والتدابر بين أبنائها.
ثم ذكرت الآية ألوانا أخرى من البر تدل على قوة الإيمان وحسن الخلق فقالت: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وإقامة الصلاة أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وسننها وخشوعها على الوجه الشرعي الذي أمر الله به، والمراد بالزكاة هنا، الزكاة المفروضة على الوجه الذي فصلته السنة المطهرة. وإيتاؤها: يكون بإعطائها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهم ممن ذكرهم الله في قوله- تعالى-: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ، فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
وفي ذكر الزكاة المفروضة بعد ذكر إيتاء المال على حبه لذوي القربى واليتامى.. إلخ دليل على أن في الأموال حقوقا لذوي الحاجات سوى الزكاة، وذلك لأنه من المعروف بين أهل العلم أن الحاجة إذا بلغت بطائفة من أبناء الأمة حد الضرورة، يجب على الأغنياء منها أن يسعوا في سدها ولو مما زاد على قدر الزكاة.
والأغنياء الذين يكتفون بدفع الزكاة، ولا يمدون يد المساعدة لسد حاجة المحتاجين، وتفريج كرب المكروبين، ودفع ضرورة البائسين، ليسوا على البر الذي يريده الله من عباده المتقين.
وقوله: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا معطوف على قوله مَنْ آمَنَ فإنه في قوة قولك، ومن أوفوا بعهدهم، وأوثرت صيغة اسم الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء.
الوفاء بالعهد يشمل ما عاهد المؤمنون عليه الله من الإذعان لكل ما جاء به الدين، ويشمل ما يعاهد به الناس بعضهم بعضا مما لا يحل حراما ولا يحرم حلالا.
والموفون بعهدهم هم الذين إذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا بروا في أيمانهم، وإذا قالوا صدقوا في قولهم، وإذا ائتمنوا أدوا الأمانة، وقد وعدهم الله على ذلك بأجزل الثواب، وأعلى الدرجات.
وفي قوله- تعالى-: إِذا عاهَدُوا إشارة إلى أن إيفاءهم بالعهد لا يتأخر عن وقت حصول العهد.
ثم ختم- سبحانه- خصال البر بقوله: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ.
البأساء من البؤس، وهي ما يصيب الناس في الأموال كالفقر والاحتياج. يقال: بئس يبأس بؤسا وبأسا أى اشتدت حاجته.
والضراء من الضر، وهي ما يصيبهم في أنفسهم كالأمراض والأسقام يقال: ضره وأضره وضاره وضرا، ضد نفع: والألف في البأساء والضراء للتأنيث.
وحين البأس، أى: ووقت القتال في سبيل الله لإعلاء كلمته، يقال: بؤس ببؤس بأسا فهو بئيس، أى: شجاع شديد.
وقوله: وَالصَّابِرِينَ معطوف في المعنى على مَنْ آمَنَ كقوله وَالْمُوفُونَ إلا أنه جاء منصوبا على المدح بتقدير- أخص أو أمدح- وغير سبكه عما قبله، تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على غيره من الفضائل حتى لكأنه ليس من جنس ما سبقه من فضائل، وهذا الأسلوب يسمى عند علماء اللغة العربية بالقطع، وهو أبلغ من الإتباع. ولا ريب في أن صفة الصبر على الشدائد والآلام وحين القتال في سبيل الله، جديرة بأنه ينبه لمزيد فضلها، إذ هي أصل لكثير من المكارم كالعفاف عما في أيدى الناس، والتسليم للقضاء الذي لا مرد له، والإقدام الذي يحمى به الدين وتسلّم به النفوس والأموال والأعراض:
وليس الصبر هو الخضوع والاستكانة والاستسلام من غير مقاومة ولا عمل وإنما الصبر جهاد
وقد خصت الآية ثلاث حالات بالصبر لأن هذه الحالات هي أبرز الأشياء التي يظهر فيها هلع الهالعين وجزع الجازعين، كما يتميز فيها أصحاب النفوس القوية المطمئنة من غيرهم.
وجاءت كلمة «حين» في قوله: وَحِينَ الْبَأْسِ مشيرة إلى أن مزية الصبر في القتال إنما تظهر حين يلتقى الجمعان، وتدور رحى الحرب، لأن بعض الناس قد يكون قويا في بدنه، وقد يحشر نفسه في زمرة الأبطال المقاتلين، ولكنه عند ما يرى الأعناق تتساقط من حوله تخور قواه، ويلوذ بالقرار، أو يستسلم للعدو. وفي هذه الحالة تسلب عنه صفة الصابرين حين البأس.
وتحق عليه صفة الضعفاء الجبناء.
وقد جاءت أنواع الصبر في الآية على وجه الترقي من الشديد إلى الأشد، وذلك لأن الصبر على المرض أصعب من الصبر على الفقر، والصبر حين البأس أصعب من الصبر على المرض.
ثم ختمت الآية حديثها عن هؤلاء الجامعين لهذه الخصال بقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
أولئك اسم إشارة للجمع، وقد أشير به إلى من تقدم ذكرهم من الجامعين لخصال البر.
والصدق توصف به الأقوال المطابقة للواقع، وتوصف به الأعمال الواقعة على الوجه الذي يرضى الله- تعالى-.
والمتقون من الاتقاء وهو الحذر، ويطلق المتقى في كلام الشارع على الإنسان الذي صان نفسه عن كل ما يغضب الله، وامتثل لأوامره ونواهيه.
أى: أولئك الذين تقدم ذكرهم من المحرزين لخصال البر هم الصادقون في إيمانهم وفي كل أحوالهم، وأولئك هم المتقون لعذاب الله- تعالى- بسبب امتثالهم لأوامره، واجتنابهم لما نهى عنه.
واسم الإشارة أُولئِكَ جيء به لإحضارهم في أذهان المخاطبين وهم متصفون بتلك المناقب الجليلة.
وفي تكرير الإشارة زيادة تنويه بشأنهم وفضلهم. وجاء الإخبار عنهم بأنهم الصادقون المتقون، لتشيرهم بأنهم قد بلغوا بإحرازهم لتلك الخصال السابقة الغاية التي يطمح إليها أرباب البصائر المتنيرة، والنفوس المتقيمة، والقلوب السليمة، وهي مقام الصدق والتقوى الذي يرتفع بصاحبه إلى السعادة في الدنيا، والنعيم الدائم في الآخرة.
هذا وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على خمسة عشر نوعا من أنواع البر الذي يهدى إلى الحياة
أما بر العقيدة فقد بينته أكمل بيان في قوله- تعالى-: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ.
فقد جمعت في هذه الجملة الكريمة ما لا يتم الإيمان إلا بتحققه.
وأما بر العمل فقد وضحته أبلغ توضيح في قوله- تعالى-: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ.
ولا شك أن إنفاق المال في تلك الوجوه من شأنه أن يسعد الأفراد والجماعات والأمم، ويكون مظهرا من أفضل مظاهر العمل الصالح الذي يرضى الله- تعالى-.
وأما بر الخلق فقد ذكرته بأحكم عبارة في قوله- تعالى-: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ.
وذلك لأن التمسك بهذه الفضائل. أداء الصلاة وإيتاء الزكاة. والوفاء بالعهود، والتذرع بالصبر- يدل على صفاء الإيمان وطهارة الوجدان وحسن الخلق وكمال الاستقامة.
وهكذا تجمع آية واحدة من كتاب الله بين بر العقيدة وبر العمل وبر الخلق، وتربط بين الجميع برباط واحد لا ينفصم، ونضع على هذا كله عنوانا واحدا «البر» وتمدح من استجمع أنواعه بالصدق والتقوى.
فلله هذا الاستقراء البديع، وذلك التوجيه السديد، الذي يشهد أن هذا القرآن من عند الله وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.
وبعد أن بين- سبحانه- أن البر الجامع لألوان الخير يتجلى في الإيمان بالله واليوم الآخر..
وفي بذل المال في وجوه الخير، وفي المحافظة على فرائضه- سبحانه- وفي غير ذلك من أنواع الطاعات التي ذكرتها الآية السابقة بعد كل ذلك شرع- سبحانه- في بيان بعض الأحكام العملية الجليلة التي لا يستغنى عنها الناس في حياتهم، وبدأ هذه الأحكام بالحديث عن حفظ الدماء لماله من منزلة ذات شأن في إصلاح العالم- فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٨ الى ١٧٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)كُتِبَ من الكتب، وهو في الأصل ضم أديم إلى أديم بالخياطة. وتعورف في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، وأطلق على المضموم في اللفظ وإن لم يكتب بالخط، ومنه الكتابة، ويطلق الكتب والكتاب والكتابة على الإيجاب والفرض لأن الشأن فيما وجب ويفرض أن يراد ثم يقال ثم يكتب، ومنه «كتب عليكم الصيام» أى: فرض عليكم.
والْقِصاصُ: العقوبة بالمثل من قتل أو جرح. وهو- كما قال القرطبي- مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، ومنه فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً وقيل: القص القطع. يقال: قصصت ما بينهما. ومنه أخذ القصاص لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به. يقال أقص الحاكم فلانا من فلان به فأمثله فامتثل منه، أى:
اقتص منه» «١».
فمادة القصاص تدل على التساوي والتماثل والتتبع.
والقتلى جمع قتيل، والقتيل من يقتله غيره من الناس.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم وأوجب القصاص بسبب القتلى. بأن تقتلوا القاتل عقوبة له على جريمته مع مراعاة المساواة التي قررها الشارع الحكيم، فلا يجوز لكم أن تقتلوا غير القاتل، كما لا يجوز لكم أن تسرفوا في القتل بأن تقتلوا القاتل وغيره من أقاربه.
فمعنى القصاص هنا أن يقتل القاتل لأنه في نظر الشريعة مساو للمقتول فيقتل به. وقد بين العلماء أن القصاص يفرض عند القتل الواقع على وجه التعمد والتعدي، وعند مطالبة أولياء القتيل بالقود- أى القصاص- من القاتل.
وصدرت الآية بخطاب الَّذِينَ آمَنُوا، تقوية لداعية إنفاذ حكم القصاص الذي شرعه الخبير بنفوس خلقه، لأن من شأن الإيمان الصادق أن يحمل صاحبه على تنفيذ شريعة الله التي شرعها لإقامة الأمان والاطمئنان بين الناس، ولسد أبواب الفتن التي تحل عرا الألفة والمودة بينهم.
وقد وجه- سبحانه- الخطاب إلى المؤمنين كافة مع أن تنفيذ الحدود من حق الحاكم لإشعارهم بأن عليهم جانبا من التبعة إذا أهمل الحكام تنفيذ هذه العقوبات التي شرعها الله.
وإذا لم يقيموها بالطريقة التي بينتها شريعته، ولإشعارهم كذلك بأنهم مطالبون بعمل ما يساعد الحكام على تنفيذ الحدود بالعدل. وذلك بتسليم الجاني إلى المكلفين بحفظ الأمن، وأداء الشهادة عليه بالحق والعدل، وغير ذلك من وجوه المساعدة.
وقوله- تعالى-: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى بيان لمعنى المساواة في القتل المشار إليها بلفظ القصاص فالجملة تتمة لمعنى الجملة السابقة، ومفادها أنه لا يقتل في مقابل المقتول سوى قاتله، لأن قتل غير الجاني ليس بقصاص بل هو اعتداء يؤدى إلى فتنة في الأرض وفساد كبير.
وقد يفهم من مقابلة الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى أنه لا يقتل صنف بصنف آخر، وهذا الفهم غير مراد على إطلاقه، فقد جرى العمل منذ عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قتل الرجل بالمرأة.
قال القرطبي: «أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل» «١».
والخلاف في قتل الحر بالعبد. فبعض العلماء يرى قتل الحر بالعبد، وبعضهم لا يرى ذلك، ولكل فريق أدلته التي يمكن الرجوع إليها في كتب الفقه.
والغرض الذي سيقت من أجله الآية الكريمة، إنما هو وجوب تنفيذ القصاص بالعدل والمساواة وإبطال ما كان شائعا في الجاهلية من أن القبيلة القوية كانت إذا قتلت منها القبيلة الضعيفة شخصا لا ترضى حتى تقتل في مقابله من الضعيفة أشخاصا. وإذا قتلت منها عبدا تقتل في مقابله حرا أو أحرارا، وإذا قتلت منها أنثى قتلت في نظيرها رجلا أو أكثر. فيترتب على
قال الإمام البيضاوي عند تفسيره لهذه الآية: كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد، والذكر بالأنثى، فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية. وهي لا تدل على أنه لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى، كما لا تدل على عكسه، فإن المفهوم يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم» «١».
ثم أورد- سبحانه- بعد إيجابه للقصاص العادل- حكما يفتح باب التراضي، بين القاتل وأولياء المقتول، بأن أباح لهم أن يسقطوا عنه القصاص إذا شاؤوا ويأخذوا في مقابل ذلك الدية، فقال- تعالى-: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ.
عفى: من العفو وهو الإسقاط. والعفو عن المعصية، وترك العقاب عليها. والذي عفى له هو القاتل، وأَخِيهِ الذي عفا هو ولى المقتول. والمراد بلفظ شَيْءٌ القصاص، وهو نائب فاعل عُفِيَ.
والمعنى: أن القاتل عمدا إذا أسقط عنه أخوه ولى دم القتيل القصاص، راضيا أن يأخذ منه الدية بدل القصاص، فمن الواجب على ولى الدم أن يتبع طريق العدل في أخذ الدية من القاتل بحيث لا يطالبه بأكثر من حقه، ومن الواجب كذلك على القاتل أن يدفع له الدية بالطريق الحسنى، بحيث لا يماطله ولا يبخسه حقه.
فقوله- تعالى-: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وصية منه- سبحانه- لولى الدم أن يكون رفيقا في مطالبته القاتل بدفع الدية.
وقوله: وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ وصية منه- سبحانه- للقاتل بأن يدفع الدية لولى الدم بدون تسويف أو مماطلة.
وفي هذه الوصايا تحقيق لصفاء القلوب، وشفاء لما في الصدور من آلام، وتقوية لروابط الأخوة الإنسانية بين البشر.
وبعضهم فسر العفو بالعطاء فيكون المعنى: فمن اعطى له وهو ولى المقتول من أخيه وهو القاتل شيئا وهو الدية، فعلى ولى المقتول اتباعه بالمعروف، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان.
وسمى القرآن الكريم القاتل أخا لولى المقتول، تذكيرا بالأخوة الإنسانية والدينية، حتى يهز
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: عفى يتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله فَمَنْ عُفِيَ لَهُ؟ قلت: يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه. قال- تعالى-: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ وقال: عَفَا اللَّهُ عَنْها. فإذا تعدى إلى الذنب والجاني معا قيل: عفوت لفلان عما جنى، كما تقول: غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه. وعلى هذا ما في الآية، كأنه قيل: فمن عفى عن جنايته فاستغنى عن ذكر الجناية «١».
وجاء التعبير بلفظ شيء منكرا لإفادة التقليل. أى: فمن عفى له من أخيه ما يسمى شيئا من العفو والتجاوز ولو أقل قليل، تم العفو وسقط القصاص، ولم تجب إلا الدية، وذلك بأن يعفو بعض أولياء الدم، لأن القصاص لا يتجزأ.
وفي ذلك تحبيب من الشارع الحكيم لولى الدم، في العفو وفي قبول الدية، إذ العفو أقرب إلى صفاء القلوب، وتجميع النفوس على الإخاء والتعاطف والتسامح. وفيه- أيضا- إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية من التعيير من قبول أخذ الصلح في قتل العمد، وعدهم ذلك لونا من بيع دم المقتول بثمن بخس. قال بعضهم يحرض قومه على الثأر.
فلا تأخذوا عقلا من القوم إننى | أرى العار يبقى والمعاقل تذهب |
فلو أن حيا يقبل المال فدية | لسقنا لهم سيبا من المال مفعما |
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم | رضا العار فاختاروا على اللبن الدما |
أى: ذلك الذي شرعناه لكم من تيسير أمر القصاص بأداء الدية إلى ولى القتيل إذا رضى طائعا مختارا، أردنا منه التخفيف عليكم إذ في الدية تخفيف على القاتل بإبقاء حياته وإنقاذها من القتل قصاصا، وفيها كذلك نفع لولى القتيل، إذ هذا المال الذي أخذه نظير عفوه يستطيع أن ينتفع به في كثير من مطالب حياته.
وبهذا نرى أن الإسلام قد جمع في تشريعه الحكيم لعقوبة القتل بين العدل والرحمة. إذ جعل القصاص حقا لأولياء المقتول إذا طالبوا به لا ينازعهم في ذلك منازع وهذا عين الإنصاف والعدل.
وبالعدالة والرحمة تسعد الأمم وتطمئن في حياتها إذ العدالة هي التي تكسر شره النفوس، وتغسل غل الصدور، وتردع الجاني عن التمادي في الاعتداء، لأنه يعلم علم اليقين أن من وراء الاعتداء قصاصا عادلا.
والرحمة هي التي تفتح الطريق أمام القلوب لكي تلتئم بعد التصدع وتتلاقى بعد التفرق، وتتوادد بعد التعادي، وتتسامى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو. فلله هذا التشريع الحكيم الذي ما أحوج العالم إلى الأخذ به، والتمسك بتوجيهاته.
ثم ختم- سبحانه- الآية بالوعيد الشديد لمن يتعدى حدوده، ويتجاوز تشريعه الحكيم فقال: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ.
أى: فمن تجاوز حدوده بعد هذا التشريع الحكيم الذي شرعناه بأن قتل القاتل بعد قبول الدية منه، أو بأن قتل غير من يستحق القتل فله عذاب شديد الألم من الله- تعالى- لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول يدل على نكث العهد، ورقة الدين، وانحطاط الخلق.
ثم بين- سبحانه- الحكمة في مشروعية القصاص توطينا للنفوس على الانقياد له، وتقوية لعزم الحكام على إقامته فقال- تعالى-: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أى: ولكم في مشروعية القصاص حياة عظيمة، فالتنوين للتعظيم.
قال صاحب الكشاف، وذلك أنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفنى قبيلة بكر بن وائل. وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أى حياة، أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، لأنه إذا هم بالقتل فعلم أنه يقتص منه ارتدع فسلّم صاحبه من القتل وسلّم هو من القود فكان القصاص سبب حياة نفسين «١».
هذا وقد نقل عن العرب ما يدل على أنهم تحدثوا عن حكمة القصاص ومن أقوالهم في هذا الشأن: «قتل البعض إحياء للجميع، وأكثروا القتل ليقل القتل» وأجمعوا على أن أبلغ الأقوال التي عبروا بها عن هذا المعنى قولهم «القتل أنفى للقتل» وقد أجمع أولو العلم على أن قوله- تعالى-: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أبلغ من هذه العبارة التي نطق بها حكماء العرب، بمقدار ما بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وذكروا أن الآية تفوق ما نطق به حكماء العرب من وجوه كثيرة من أهمها:
٢- أن الآية جاءت خالية من التكرار اللفظي، فعبرت عن القتل الذي هو سبب الحياة بالقصاص. والعبارة كرر فيها لفظ القتل فمسها بهذا التكرار من الثقل ما سلمت منه الآية.
٣- أن الآية جعلت القصاص سببا للحياة التي تتوجه إليها الرغبة مباشرة، والعبارة العربية جعلت القتل سببا لنفى القتل الذي تترتب عليه الحياة.
٤- الآية مبنية على الإثبات والمثل على النفي، والإثبات أشرف لأنه أول والنفي ثان له.
٥- أن تنكير حياة في الآية يفيد تعظيما، فيدل على أن في القصاص حياة متطاولة كما في قوله- تعالى-: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ ولا كذلك المثل. فإن اللام فيه للجنس، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء.
٦- تعريف الْقِصاصُ بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على الضرب والجرح والقتل- وغير ذلك، والمثل لا يشمل ذلك.
٧- أن الآية مع أفضليتها عن المثل من حيث البلاغة والشمول واللفظ والمعنى أقل حروفا من المثل.
هذه بعض وجوه أفضلية الآية على المثل، وهناك وجوه أخرى ذكرها العلماء في كتبهم «١».
وفي قوله: يا أُولِي الْأَلْبابِ تنبيه بحرف النداء على التأمل في حكمة القصاص.
والْأَلْبابِ: جمع لب وهو العقل الخالص من شوائب الأوهام، أو العقل الذكي الذي يستبين الحقائق بسرعة وفطنة، ويستخرج لطائف المعاني من مكانها ببراعة وحسن تصرف.
وخص النداء بأولى الألباب مع أن الخطاب بحكمة القصاص شامل لهم ولغيرهم لأنهم الذين يتدبرون عواقب الأمور، ويعرفون قيمة الحياة ويقدرون حكم التشريع قدرها.
وفي هذا النداء تنبيه على أن من ينكرون مصلحة القصاص وأثره النافع في تثبيت دعائم الأمن، يعيشون بين الناس بعقول غير سليمة، ولا يزال الناس يشاهدون في كل عصر ما يثيره القتل في صدور أولياء القتلى من أحقاد طاغية، لولا أن القصاص يخفف من سطوتها لتمادت بهم في تقاطع وسفك دماء دون الوقوف عند حد.
وبهذا البيان الحكيم تكون الآيتان الكريمتان قد أرشدتا إلى ما يحمى النفوس، ويحقن الدماء، ويردع المعتدين عن الاعتداء، ويغرس بين الناس معاني التسامح والإخاء، ويقيم حياتهم على أساس من الرحمة والعدالة وحسن القضاء.
وبعد أن بين- سبحانه- ما يتعلق بالقصاص أتبعه بالحديث عن الوصية، ليرشد الناس إلى ما ينبغي أن تكون عليه، وليبطل ما كان من عوائد الجاهلية من وصايا جائرة فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٠ الى ١٨٢]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
وقوله- تعالى-: كُتِبَ عَلَيْكُمْ قد استفاض في عرف الشرع بمعنى وجب عليكم.
و «حضور الموت» يقع عند معاينة الإنسان للموت ولعجزه في هذا الوقت عن الإيصاء فسر بحضور أسبابه، وظهور أماراته، من نحو العلل المخوفة والهرم البالغ. وقد شاع عند العرب استعمال السبب كناية عن المسبب، ومن ذلك قول شاعرهم:
يا أيها الراكب المزجى مطيته | سائل بنى أسد ما هذه الصوت «١» |
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا | قولا يبرئكم إنى أنا الموت |
من ألف درهم إلى خمسمائة درهم، وقال بعضهم: من ألف درهم إلى ثمانمائة درهم. والحق أن هذا التقدير يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والعرف.
ويرى بعض العلماء أن الوصية مشروعة في المال قليلة وكثيرة.
قال القرطبي: والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت، وخصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية. والوصي يكون الموصى والموصى إليه. وأصله من وصى مخففا. وتواصى النبت تواصيا إذا اتصل وأرض واصية: متصلة النبات. وأوصيت له بشيء. وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك. والاسم الوصاية والوصاية- بالفتح وبالكسر- وتواصى القوم: أوصى بعضهم بعضا «١».
والمعنى: كتب عليكم أيها المؤمنون أنه إذا ظهرت على أحدكم أمارات الموت: من مرض ثقيل، أو شيخوخة مضعفة، وكان عنده مال كثير قد جمعه عن طريق حلال، أن يوصى بجانب منه لوالديه وأقاربه رعاية لحقهم وحاجتهم، وأن تكون وصيته لهم بالعدل الذي لا مضارة فيه بين الأقارب، والوصية على هذا الوجه تعتبر حقا واجبا على المتقين الذين اتخذوا التقوى والخشية من الله طريفا لهم.
فالآية الكريمة استئناف لبيان الوصية بعد الحديث عن القصاص، وفصل القرآن الحديث عن الوصية عن سابقه للإشعار بأنه حكم مستقل جدير بالأهمية.
وقد جاء الحديث عن الوصية بتلك الطريقة الحكيمة، لتغيير ما كان من عادات بعض أهل الجاهلية، فإنهم كانوا كثيرا مانعون القريب من الإرث توهما منهم أنه يتمنى موت قريبة ليرثه، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض فيؤدى ذلك إلى التباغض والتحاسد، وربما فضلوا- أيضا- الوصية لغير الأقارب للفخر والتباهي، فشرع الإسلام لأتباعه ما يقوى الروابط ويمنع التحاسد والتعادي.
قال الجمل: وكتب فعل ماض مبنى للمجهول، وحذف الفاعل للعلم به وهو الله- تعالى- وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون الوصية، أى: كتب عليكم الوصية، وجاز تذكير الفعل لكون القائم
والثاني: أنه الإيصاء المدلول عليه بقوله: «الوصية» للوالدين، أى: كتب هو، أى الإيصاء.
والثالث: أنه الجار والمجرور. وهذا يتجه على رأى الأخفش والكوفيين وعليه فيكون قوله:
عَلَيْكُمْ في محل رفع، ويكون في محل النصب على القولين الأولين وجواب كل من إِذا وإِنْ محذوف. أى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا فليوص «١».
والباء في قوله: بِالْمَعْرُوفِ للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال من الوصية.
والمراد بالمعروف هنا العدل الذي جاءت به الشريعة، بأن لا يتجاوز بالوصية الثلث، وأن لا يوصى للأغنياء ويترك الفقراء أو يوصى للقريب ويترك الأقرب مع أنه أشد فقرا ومسكنة.
وقوله: حَقًّا مصدر مؤكد للحدث الذي دل عليه كُتِبَ وعامله إما كُتِبَ أو فعل محذوف تقديره حق أى: حق ذلك حقا.
وقوله: عَلَى الْمُتَّقِينَ صفة له. أى حقا كائنا على المتقين.
وخص هذا الحق بالمتقين ترغيبا في الرضا به، لأن ما كان من شأن المتقى فهو أمر نفيس جدير أن يتأسى به الناس، ومن أهمله فقد حرم من الدخول في زمرتهم، وخسر بذلك خسارة عظيمة.
قال بعض العلماء: وقد وردت هذه الآية في الوصية للوالدين والأقربين، والمعروف عند الأمة منذ عهد السلف أن الوصية لا تصح لوارث، والوالدان لهما نصيب مفروض في المواريث ومقتضاه عدم صحة الوصية لهما؟
ويزيح هذا الأشكال من طريق التفسير أن فريقا من أهل العلم وهم جمهور المفسرين ذهبوا إلى أن الآية قد نسخ منها حكم الوصية للوارث. وإيضاح وجه النسخ أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية فقامت مقامها في الوصية للوارث ودل على هذا المعنى صراحة الحديث الشريف وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث».
وهذا الحديث وإن لم يبلغ مبلغ الحديث المتواتر الذي يصح نسخه للقرآن بنفسه، فقد امتاز عن بقية أخبار الآحاد بأن الأمة تلقته بالقبول، وأخذوا في العمل به من غير مخالف، فأخذ بهذا قوة الحديث المتواتر في الرواية واعتمدوا عليه في بيان أن آية المواريث قامت بتقدير الأنصباء في الميراث مقام آية إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ في الوصية للوارث. وروى البخاري في صحيحه
ومن أهل العلم من لم يستطيعوا أن يهملوا حديث «لا وصية لوارث» لاستفاضته بين الأمة وتلقيهم له بالقبول، فقرروا العمل به وأبطلوا الوصية لوارث ولكنهم ذهبوا مع هذا إلى أن آية الوصية للوالدين محكمة غير منسوخة وتأولوها على وجوه منها أن المراد من قوله: لِلْوالِدَيْنِ الوالدان اللذان لا يرثان لمانع من الإرث كالكفر والاسترقاق، وقد كانوا حديثي عهد بالإسلام يسلّم الرجل ولا يسلّم أبواه وقد أوصى الله بالإحسان إليهما» «١».
ثم توعد- سبحانه- من يبدل الوصية بطريقة لم يأذن بها الله فقال- تعالى-: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ.
بدله: غيره. وتغيير الوصية يتأتى بالزيادة في الموصى به أو النقص منه أو كتمانه، أو غير ذلك من وجوه التغيير للموصى به بعد وفاة الموصى.
سمعه: أى علمه وتحققه، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله. والضمائر البارزة في «بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه» عائدة على القول أو على الكلام الذي يقوله الموصى والذي دل عليه لفظ الوصية أو على الإيصاء المفهوم من الوصية، وهو الإيصاء أو القول الواقع على الوجه الذي شرعه الله.
والمعنى: فمن غير الإيصاء الذي أوصى به المتوفى عن وجهه، بعد ما علمه وتحققه منه، فإنما إثم ذلك التغيير في الإيصاء يقع على عاتق هذا المبدل، لأنه بهذا التبديل قد خان الأمانة، وخالف شريعة الله، ولن يلحق الموصى شيئا من الإثم لأنه قد أدى ما عليه بفعله للوصية كما يريدها الله- تعالى-.
وقد ختمت الآية بقوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ للإشعار بالوعيد الشديد الذي توعد الله به كل من غير وبدل هذا الحق عن وجهه، لأن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء من حيل الناس الباطلة، فهو- سبحانه سميع لوصية الموصى، عليم بما يقع فيها من تبديل وتحريف.
ثم استثنى- سبحانه- حالة يجوز فيها التغيير فقال، «فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه».
والجنف: الميل والجور. يقال: جنف في وصيته وأجنف، مال وجار، فهو جنف وأجنف.
وقيل: أجنف مختص بالوصية وجنف في مطلق الميل عن الحق. ويقال: جنف وجنف عن طريقه جنفا وجنوفا.
والإثم: العمل الذي يبغضه الله. يقال: أثم فهو آثم وأثيم.
قال بعضهم: والمراد بالجنف هنا: الميل عن الحق في الوصية خطأ، بقرينة مقابلته بالإثم وهو الميل عن الحق فيها عمدا.
هذا، ويرى جمهور العلماء أن هذه الآية الكريمة واردة في الوصي يرى أن الموصى قد حاد في وصيته عن حدود العدل، فللوصي حينئذ أن يصلح فيها بحيث يجعلها متفقة مع ما شرعه الله، وهو في هذه الحالة لا إثم عليه لأنه قد غير الباطل بالحق وعلى هذا الرأى يكون المعنى: أن الوصي إذا رأى في الوصية ميلا عن الحق خطأ أو عمدا وأصلح بين الموصى لهم يردهم إلى الوجه المشروع فلا إثم عليه في التغيير في الوصية. والضمير في قوله: بَيْنَهُمْ عائد على الموصى لهم.
ويرى آخرون أن هذه الآية واردة في شأن كل من يبغى الإصلاح من الناس، بأن يرى الموصى يوصى، فظهر له- أى هذا المصلح- أن الموصى قد جانب العدل والصواب في وصيته، فيأخذ في الإصلاح، بأن يرشده بأن فعله هذا لا يتفق مع شريعة العدل التي أمر بها الله، ويحاول قدر استطاعته أن يزيل ما حدث من خلاف بين الموصى والموصى لهم.
وعلى هذا الرأى يكون المعنى: إن خرج الموصى في وصيته عن حدود العدالة، ورأى أمارات ذلك منه من يريد الإصلاح من الناس، وتوقع أن شرا سيترتب على هذه الوصية التي فيها جور، أو شاهد نزاعا بين الموصى لهم بسبب ذلك، فلا إثم على هذا المصلح في أن يصلح بين الموصى والموصى لهم، وأن يرشد الموصى إلى سلوك طريق العدل والحق. وعليه فيكون الضمير في قوله: بَيْنَهُمْ يعود على الموصى والموصى لهم.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب، لأن سياق الآية يؤيده، إذ هي بمنزلة الاستثناء من قوله- تعالى-: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ.. وهذا إنما يكون بعد موت الموصى لا في حياته.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل أتى به- سبحانه- للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه، فإن من يغفر الذنوب ويرحم المذنبين تكون مغفرته ورحمته أقرب إلى من يقصد بعمله الإصلاح ولو اعتمد على ظن غالب أو أخطأ وجه الصواب فيما أتى من أعمال.
وبعد أن تحدثت السورة الكريمة عن القصاص وعن الوصية أتبعتهما بالحديث عن عبادة عظيمة من العبادات التي جعلها الله- تعالى- ركنا من أركان الإسلام وهي صوم رمضان، فقال- سبحانه-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٣ الى ١٨٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
الصيام مصدر صام كالقيام مصدر قام، وهو في اللغة: الإمساك وترك التنقل من حال إلى حال، فيقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام ومنه قوله- تعالى- مخبرا عن مريم: إِنِّي
أى: سكوتا عن الكلام. وصوم الريح ركودها وإمساكها عن الهبوب.
وتقول العرب: صام النهار وصامت الشمس عند قيام الظهيرة لأنها كالممسكة عن الحركة.
أما الصيام في عرف الشرع فهو- كما يقول الآلوسى- إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص في زمان مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة.
وقد فرض الله- تعالى- على المسلمين صيام شهر رمضان في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة، وعده النبي صلّى الله عليه وسلّم أحد أركان الإسلام الخمسة، فقد روى البخاري- بسنده- عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان.
وأل في الصيام للعهد الذهني، فقد كان العرب يعرفون الصوم، فقد جاء في الصحيحين عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش والجاهلية».
والتشبيه في قوله- تعالى-: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ راجع إلى أصل إيجاب الصوم وفريضته. أى: أن عبادة الصوم كانت مكتوبة ومفروضة على الأمم السابقة، ولكن بكيفية لا يعلمها إلا الله، إذ لم يرد نص صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبين لنا فيه كيف كان صيام الأمم السابقة على الأمة الإسلامية.
وقيل إن التشبيه راجع إلى وقت الصوم وقدره، فقد روى عن مجاهد أنه قال: كتب الله- عز وجل- صوم شهر رمضان على كل أمة.
وهذا القول ليس له دليل، ولذا قال القاضي أبو بكر بن العربي: المقطوع به أن التشبيه في الفرضية خاصة، وسائر الوجوه مجرد احتمال.
ولفظ «كما» في قوله- تعالى-: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ في موضع نصب على المصدر، أى: فرض عليكم الصيام فرضا كالذي فرض على الذين من قبلكم.
ومن فوائد هذا التشبيه، الاهتمام بهذه العبادة والتنويه بشأنها إذ شرعها- سبحانه- لأتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم ولأتباع الرسل الذين سبقوه في الدعوة إلى توحيد الله، وهذا مما يقتضى وفرة ثوابها، ودوام صلاحها.
كذلك من فوائده تسهيل هذه العبادة على المسلمين لأن الشيء الشاق تخف مشقته على الإنسان عند ما يعلم أن غيره قد أداه من قبله.
والفائدة الثالثة من هذا التشبيه إثارة العزائم والهمم للنهوض بهذه العبادة، حتى لا يكونوا
وقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ جملة تعليلية جيء بها لبيان حكمة مشروعية الصيام فكأنه- سبحانه- يقول لعباده المؤمنين: فرضنا عليكم الصيام كما فرضناه على الذين من قبلكم، لعلكم بأدائكم لهذه الفريضة تنالون درجة التقوى والخشية من الله، وبذلك تكونون ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه. ولا شك أن هذه الفريضة ترتفع بصاحبها إلى أعلى عليين متى أداها بآدابها وشروطها، ويكفى أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد قال في شأن الصوم: «الصوم جنة» «١» أى:
وقاية. إذ في الصوم وقاية من الوقوع في المعاصي، ووقاية من عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأمراض الناشئة عن الإفراط في تناول بعض الأطعمة والأشربة.
وقوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أى: معينات بالعد أو قليلات، لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافا.
والمراد بهذه الأيام المعدودات شهر رمضان عند جمهور العلماء.
قالوا: وتقريره أنه- تعالى- قال أولا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ وهذا محتمل ليوم ويومين ثم بينه بقوله أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فزال بعض الاحتمال ثم بينه بقوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فعلى هذا الترتيب يمكن جعل الأيام المعدودات بعينها شهر رمضان، وإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمله على غيره «٢».
وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة- أيضا- تهوينا لأمره على المكلفين، وإشعارا لهم بأن الله- تعالى- ما فرض عليهم إلا ما هو في وسعهم وقدرتهم.
وقيل: إن المراد بالأيام المعدودات غير رمضان، وذكروا أن المراد بها ثلاثة أيام من كل شهر وهي الأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر مضافا إليها يوم عاشوراء. ثم نسخ ذلك بوجوب صوم شهر رمضان.
والمعتمد بين المحققين من العلماء هو القول الأول، لأنه- كما قال الإمام الرازي- لا وجه لحمله على غيره، والقول بالنسخ زيادة لا دليل عليها.
(٢) تفسير الرازي ج ٥ ص ٧٨. [.....]
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ زيادة بيان ليسر شريعة الإسلام بعد أن أخبرهم- سبحانه- بأن الصوم المفروض عليهم إنما هو أيام معدودات، وتعجيل بتطمين نفوس السامعين لئلا يظنوا وجوب الصوم عليهم في كل حال.
والمرض: الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان، بأن يصاب بانحراف في جسده يجعله في حالة وجع أو اضطراب بدني.
قال القرطبي: وللمريض حالتان:
إحداهما: ألا يطيق الصوم بحال فعليه الفطر واجبا.
الثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة فهذا يستحب له الفطر.. فالفطر مباح في كل مرض إلا المرض اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام «١».
وقوله: أَوْ عَلى سَفَرٍ قال الآلوسى معناه: أو راكب سفر مستعل عليه متمكن منه، بأن اشتغل به قبل الفجر، ففيه إيماء إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر. واستدل بإطلاق السفر على أن السفر القصير وسفر المعصية مرخص للإفطار. وأكثر العلماء على تقييده بالمباح وبما يلزمه العسر غالبا وهو السفر إلى المسافة المقدرة في الشرع» «٢».
والعدة فعلة من العد، وهي بمعنى المعدود، كالطحن بمعنى المطحون ومنه عدة المرأة.
والمعنى: لقد فرضنا عليكم الصوم أيها المؤمنون، وجعلناه كما الشأن في كل ما شرعناه متسما باليسر لا بالعسر، ومن مظاهر ذلك أننا فرضنا عليكم صوم أيام معدودات وهي أيام شهر رمضان، ولم نفرض عليكم صوم الدهر. وأننا شرعنا لمن كان مريضا مرضا يضره الصوم أو يعسر معه، أو كان على سفر يشق عليه معه الصوم، شرعنا له أن يفطر وأن يصوم بدل الأيام التي أفطرها أياما آخر مساوية لها في العدد.
قال الإمام الرازي: قال القفال: انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف، إذ أنه بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمم المتقدمة، والغرض منه ما ذكرناه من أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت. ثم ثانيا بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم وهو أنه سبب لحصول التقوى فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف، ثم بين ثالثا أنه مختص بأيام معدودة فإنه لو جعله أبدا أو أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة. ثم بين
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ٥٨.
هذا، وقد نص الفقهاء على أن الإفطار مشروع على سبيل الرخصة للمريض والمسافر، وهما بالخيار في ذلك إن شاءا أفطرا وإن شاءا صاما، إلا أن أكثر الفقهاء قالوا: الصوم أفضل لمن قوى عليه.
والذي نراه أن الله- تعالى- قد أباح الفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر، لأن كلا منهما مظنة المشقة والحرج. والحكم الشرعي يوجد حيث توجد مظنته وينتفى حيث تنتفى.
وعلى المسلّم أن يقدر حال نفسه، فإذا أيقن أو غلب على ظنه أن مرضه أو سفره ليس في الصوم معه مشقة أو عسر صام عملا بقوله- تعالى-: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ. وإذا أيقن أو غلب على ظنه أن مرضه أو سفره يجعل الصوم شاقا عليه أفطر عملا بقوله- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فالمسألة ترجع إلى ضمير الفرد ودينه واستفتاء قلبه.
والثابت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه صام في السفر وأفطر، وخير بعض أصحابه بين الصوم والفطر. فقد روى البخاري ومسلّم عن أبى الدرداء- رضي الله عنه- قال: خرجنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم «وفي إحدى روايتي مسلّم- في شهر رمضان-، في يوم حار، حتى ليضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم وابن رواحه».
وروى الإمام مسلّم في صحيحه عن قزعة قال: أتيت أبا سعيد الخدري فسألته عن الصوم في السفر فقال: سافرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة. فمنا من صام ومنا من أفطر. ثم نزلنا منزلا آخر فقال: إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا. وكانت عزمة فأفطرنا. ثم قال: ولقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك في السفر.
وروى الشيخان عن أنس بن مالك قال: كنا نسافر مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وهناك مسألة أخرى تعرض لها الفقهاء بالحديث وهي مسألة قضاء الأيام التي أفطرها
وجمهور الفقهاء على أن للمفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر أن يقضى ما أفطره متتابعا أو متفرقا لأن قوله- تعالى-: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. دل على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان، لأن اللفظ- كما قال القرطبي- مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض.
وله كذلك أن يقضى ما عليه على الفور أو على التراخي على حسب ما يتيسر له. ففي الصحيحين عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: يكون علىّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، وذلك لمكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهذا نص وزيادة بيان للآية».
ويرى داود الظاهري أن على المفطر في رمضان بسبب المرض أو السفر أن يشرع في قضاء ما أفطره في اليوم الثاني من شوال المعاقب له، وأن يتابع أيام القضاء.
والمعتمد بين العلماء هو قول الجمهور لقوة أدلته التي سبق بيانها.
وقوله- تعالى-: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ بيان لحكم آخر من أحكام الشريعة فيما يتعلق بصوم رمضان يتجلى فيه تيسير الله على عباده فيما شرع لهم من عبادات.
ومعنى يُطِيقُونَهُ يقدرون عليه ويتحملونه بمشقة وتعب، لأن الطاقة اسم للقدرة على الشيء مع الشدة والمشقة، والوسع اسم للقدرة على الشيء على جهة السهولة.
قال الراغب: والطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء، ومنه رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ أى ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه: «لا تحملنا ما لا قدرة لنا به» «١».
والعرب لا تقول فلان أطاق الشيء إلا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف بحيث يتحمله بمشقة وعسر. فلا يقال- مثلا- فلان يطيق حمل نواة أو ريشة أو عشرة دراهم من حديد، وإنما يقال: هو يطيق حمل قنطارين من الحديد أو حمل الأمتعة الثقيلة.
وللعلماء أقوال في المراد بقوله- تعالى-: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ أشهرها:
١- إن هذا راجع إلى المقيم الصحيح خيره الله- تعالى- بين الصوم وبين الفداء، وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم، فرخص لهم في الإقطار والفدية، ثم نسخ ذلك وأوجب الله عليهم الصوم.
ويشهد لهذا القول ما جاء في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت هذه الآية
وفي رواية للإمام مسلّم من طريق آخر عن سلمة- أيضا- قال: كنا في رمضان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين حتى أنزلت هذه الآية فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
٢- ويرى بعض العلماء أن قوله- تعالى-: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ إلخ، ليس بمنسوخ بل هو محكم، وأنه نزل في شأن الشيخ الكبير الهرم، والمرأة العجوز، إذا كانا لا يستطيعان الصيام فعليهما أن يفطرا وأن يطعما عن كل يوم مسكينا.
وأصحاب هذا الرأى يستدلون بما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية:
ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فعليها أن يطعما مكان كل يوم مسكينا».
٣- وهناك رأى ثالث لبعض العلماء يرى أصحابه أن قوله- تعالى- وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ليس بمنسوخ- أيضا- بل هو محكم، وأن معنى الآية عندهم: وعلى الذين يطيقونه، أى: يقدرون على الصيام بمشقة شديدة إذا أرادوا أن يفطروا أن يطعموا عن كل يوم يفطرونه مسكينا. (بأن يقدموا له نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير، أو قيمة ذلك).
ولم يقصروا ذلك على الرجل الكبير والمرأة العجوز- كما فعل أصحاب الرأى الثاني- وإنما أدخلوا في حكم الذين يقدرون على الصوم بمشقة وتعب المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ومن في حكمها ممن يشق عليهم الصوم مشقة كبيرة.
وأصحاب هذا الرأى يستدلون على ما ذهبوا إليه بمنطوق الآية، إذا أن الوسع اسم للقدرة على الشيء على جهة السهولة، والطاقة اسم للقدرة عليه مع الشدة والمشقة- كما سبق أن بينا-، كما يستدلون- أيضا- على ما ذهبوا إليه بقراءة يُطِيقُونَهُ- بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية- أى يتجشمونه، ويتكلفونه بمشقة وتعب، وقد انتصر بعض العلماء لهذا الرأى بناء على أن منطوق الآية يؤيده.
كما انتصر بعضهم للرأى الأول بناء على أن الأحاديث الصحيحة تسانده وعلى أنه هو الأقرب إلى روح الشريعة الإسلامية في التدرج في تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس، كما انتصر بعضهم للرأى الثاني الذي روى عن ابن عباس.
وهناك أقوال أخرى في الآية رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها.
والتطوع: السعى في أن يكون الإنسان فاعلا للطاعة باختياره بدون إكراه والخير: مصدر خار إذا حسن وشرف، وهو منصوب لتضمين تطوع معنى أتى، أو على أنه صفة لمصدر محذوف أى تطوعا خيرا.
والمعنى: فمن تطوع خيرا بأن زاد على القدر المفروض في الفدية، أو أطعم أكثر من مسكين، أو جمع بين الإطعام والصوم، فتطوعه سيكون خيرا عند الله- سبحانه- لا يضيع أجر من أحسن عملا.
وقوله: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ترغيب في الصوم وتحبيب فيه. أى: وأن تصوموا أيها المطيقون للصوم، أو أيها المكلفون جميعا خير لكم من كل شيء سواه، إن كنتم تعلمون فوائد الصوم في حياتكم، وحسن جزائه في آخرتكم.
روى النسائي وابن خزيمة عن أبى أمامه رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله مرني بعمل قال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له- أى لا يعادل ثوابه بشيء- فقلت يا رسول الله مرني بعمل، فقال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له. فقلت: يا رسول الله مرني بعمل أدخل به الجنة. فقال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له» «١».
وقوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ كلام مستأنف لبيان تلك الأيام المعدودات التي كتب علينا الصوم فيها وأنها أيام شهر رمضان الذي يستحق كل مدح وثناء لتشرفه بنزول الكتب السماوية فيه.
قال الإمام ابن كثير: يمدح- تعالى- شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم، فقد ورد في الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء فعن وائلة بن الأسقع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان «٢».
والشَّهْرَ مأخوذ من الشهرة، يقال: شهر الشيء يشهر شهرة وشهرا إذا ظهر بحيث لا يتعذر علمه على أحد، ومنه يقال: شهرت السيف إذا سللته قال بعضهم: وسمى الهلال
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢١٦.
ورَمَضانَ اسم لهذا الشهر الذي فرض علينا صيامه، وهو مأخوذ- كما قال القرطبي- من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش والرمضاء: شدة الحر، ومنه الحديث: صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال» - أى صلاة الضحى- قيل: إن العرب لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمى بذلك. وقيل إنما سمى رمضان لأنه يرمض الذنوب، أى: يحرقها بالأعمال الصالحة» «١».
وقوله: شَهْرُ رَمَضانَ خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي شهر رمضان أى: الأيام المعدودات، وقوله: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ صفة للشهر.
ويجوز أن يكون قوله شَهْرُ مبتدأ وخبره الموصول بعده، أو خبره قوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وصح وجود الفاء في الخبر لكون المبتدأ موصوفا بالموصول الذي هو شبه بالشرط. وقرئ بالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف. أى: صوموا شهر رمضان.
و «القرآن» هو كلام الله المعجز المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم المكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر المتعبد بتلاوته.
والمراد بإنزال القرآن في شهر رمضان ابتداء إنزاله فيه، وكان ذلك في ليلة القدر. بدليل قوله- تعالى- إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أى بدأنا إنزال القرآن في هذه الليلة المباركة، إذ من المعروف أن القرآن استمر نزوله على النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يقرب من ثلاث وعشرين سنة.
وقيل المراد بذلك، أنزل في فضله القرآن، قالوا: ومثله أن يقال: أنزل الله في أبى بكر الصديق كذا آية، يريدون أنزل في فضله.
وقيل المراد أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن، كما يقال: أنزل الله في الزكاة كذا وكذا، يريد في إيجابها وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها.
قال الآلوسى: وقوله- تعالى-: هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما أنزل. أى: أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك التنكير، وآيات واضحات من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى الحق والفارقة بين الحق والباطل باشتماله على المعارف الإلهية والأحكام العملية، كما يشعر بذلك جعله بينات منها، فهو هاد بواسطة أمرين، مختص وغير مختص، فالهدى ليس مكررا، وقيل: مكرر تنويها
وقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يصح أن يكون شهد بمعنى حضر. كما يقال:
فلان شهد بدرا، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أى: حضرها، فيكون المعنى: فمن حضر منكم دخول الشهر أو حلوله بأن كان مقيما وليس عنده ما يمنعه من الصوم كمرض ونحوه، فليصمه لأن صيامه ركن من أركان الدين، وعليه يكون لفظ «الشهر» منصوب على الظرفية.
ويصح أن يكون شهد بمعنى علم كقوله- تعالى-: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
فيكون المعنى: فمن علم منكم هلال الشهر وتيقن من ظهوره فليصمه.
وعليه يكون لفظ «الشهر» منصوب على أنه مفعول به بتقدير المضاف المحذوف ومِنَ موصولة أو شرطية وهو الأظهر ومِنْكُمُ في محل نصب على الحال من الضمير في شهد فيتعلق بمحذوف أى: كائنا منكم. والضمير في «منكم» يعود على الذين آمنوا، أى كل من حضر منكم الشهر فليصمه و (أل) في الشهر للعهد.
وأعيد ذكر الرخصة في قوله- تعالى- ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، لئلا يتوهم من تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير، أنه قد صار متحتما بحيث لا تتناوله الرخصة بوجه من الوجوه أو تتناوله ولكنها مفضولة، وفي ذلك عناية بأمر الرخصة وأنها محبوبة له- تعالى- وقوله- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ بيان لحكمة الرخصة.
أى: شرع لكم- سبحانه- الفطر في حالتي المرض والسفر، لأنه يريد بكم اليسر والسهولة. ولا يريد بكم العسر والمشقة. قال- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً وقال- تعالى-: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وفي الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لمعاذ بن جبل وأبى موسى الأشعرى حين بعثهما إلى اليمن: يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا».
وقوله- تعالى-: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ معطوف على قوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ إذ هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ إلى قوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
والمعنى: شرع لكم- سبحانه- ما شرع من أحكام الصيام، ورخص لكم الفطر في حالتي
وقد دلت الآية الكريمة على الأمر بالتكبير إذ جعلته مما يريده الله- تعالى- ولهذا جاءت السنة باستحباب التحميد والتسبيح والتكبير بعد الصلوات المكتوبات، وفي عيدي الفطر والأضحى يكون تكبير الله- تعالى- هو مظهرهما الأعظم.
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت أكمل بيان وأحكمه فضل الصوم، وحكمة مشروعيته ومظاهر رحمة الله بعباده في هذه الفريضة، وقد ذكرت أن المسلّم له بشأن هذه الفريضة حالة من حالات ثلاث:
الحالة الأولى: إذا كان المسلّم في شهر رمضان كله أو بعضه مريضا بمرض عارض غير مزمن يرجى الشفاء منه، أو مسافرا تتوفر فيه شروط الفطر، فله أن يفطر وأن يقضى بعد رمضان الأيام التي أفطرها بدليل قوله- تعالى-: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
الحالة الثانية: إذا كان المسلّم في شهر رمضان مريضا بمرض مزمن لا يرجى شفاؤه والصوم فيه مشقة عليه، أو كان شيخا كبيرا أو امرأة عجوزا ولا يستطيعان الصوم، فقد أباح الشارع لهؤلاء أن يفطروا وأن يطعموا عن كل يوم مسكينا، لأن هذه الاعذار لا يرجى زوالها، ولا ينتظر أن يكون المبتلى بعذر منها بعد رمضان خيرا منه في رمضان، لذا أوجب الشارع على هؤلاء الفدية دون القضاء، بدليل قوله- تعالى-: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ.
الحالة الثالثة: إذا كان المسلّم في شهر رمضان سليما مقيما وليس عنده عذر يمنعه من الصوم، فقد أوجب الله عليه أداء هذه الفريضة بقوله- تعالى-: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ويحرم عليه أن يفطر، وإن أفطر لغير عذر شرعي كان من الخاسرين في الدنيا والآخرة، ففي الحديث الشريف الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبى هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه- أى لم يجزه- صوم الدهر كله وإن صامه» «١».
والأحاديث في الترغيب في صوم شهر رمضان، وفي الترهيب من الفطر فيه كثيرة متنوعة.
ثم بين- سبحانه- أن العباد إذا حافظوا على فرائضه، واستجابوا لأوامره، وابتعدوا عن نواهيه، فإنه- عز وجل- لا يرد لهم طلبا ولا يخيب لهم رجاء فقال:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٦]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)
قال الإمام البيضاوي في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها من آيات الصيام: واعلم أنه- تعالى- لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم سميع لأقوالهم، مجيب لدعائهم، مجاز على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه» وروى المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما أخرجه بن جرير وابن أبى حاتم أن أعرابيا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أقريب ربنا فنناجيه- أى: ندعوه سرا- أم بعيد فنناديه؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية «١».
ومنها ما رواه ابن مردويه- بسنده- عن الحسن قال: سأل بعض الصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أين ربنا؟ فأنزل الله- تعالى- هذه الآية «٢».
والمعنى: وإذا سألك عبادي يا محمد عن قربى وبعدي فقل لهم: إنى قريب منهم بعلمي ورحمتي وقدرتي وإجابتى لسؤالهم. قال- تعالى-: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ:
وفي الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أنه قال: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ايها الناس أربعوا على أنفسكم- أى ارفقوا بها- فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» «٣».
(٢) تفسير البيضاوي ص ٣٩.
(٣) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢١٨.
وفي الآية الكريمة التفات عن خطاب المؤمنين كافة بأحكام الصيام، إلى خطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يذكرهم ويعلمهم ما يجب عليهم مراعاته في سائر عبادتهم من الإخلاص والأدب والتوجه إلى الله وحده بالسؤال.
ولم يصدر الجواب بقل أو فقل كما وقع في أجوبة مسائلهم الواردة في آيات أخرى، نحو وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً بل تولى- سبحانه- جوابهم بنفسه إشعارا بفرط قربه منهم، وحضوره مع كل سائل بحيث لا تتوقف إجابته على وجود واسطة بينه وبين السائلين من ذوى الحاجات.
والمراد بالعباد الذين أضيفوا إلى ضمير الجلالة هم المؤمنون لأن الحديث عنهم، ولأن سياق الآيات في بيان أحكام الصوم وفضائله وهو خاص بالمؤمنين، وقد أضيفوا إلى ضمير الجلالة لتشريفهم وتكريمهم.
وقوله- تعالى-: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ تقرير للقرب وتحقيق له، ووعد للداعي بالإجابة متى صدر الدعاء من قلب سليم، ونفس صافية، وجوارح خاشعة، ولقد ساق لنا القرآن في آيات كثيرة أمثلة لعباد الله الذين توجهوا إليه بالسؤال، فأجاب الله سؤالهم، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وقوله- تعالى-: وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ وقوله- تعالى-: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ.
وورد في الحديث ما يدل على أن العبد إذا دعا الله- تعالى- بما فيه خير، لم يخب عند الله دعاؤه، ولكن لا يلزم أن يعطيه- سبحانه- نفس ما طلبه، لأنه هو الأعلم بما يصلح عباده.
روى الإمام أحمد عن أبى سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مسلّم يدعو الله- عز وجل- بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل إليه دعوته، وإما أن يدخرها له في الأخرى، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها».
وقوله- تعالى-: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ توجيه منه- سبحانه- إلى ما يجعل الدعاء مرجو القبول والإجابة.
والاستجابة: هي الإجابة بعناية واستعداد، والسين والتاء للمبالغة.
والمعنى: لقد وعدتكم يا عبادي بأن أجيب دعاءكم إذا دعوتموني، وعليكم أنتم أن تستجيبوا لأمري، وأن تقفوا عند حدودي، وأن تثبتوا على إيمانكم بي، لعلكم بذلك تصلون إلى ما فيه رشدكم وسعادتكم في الحياتين العاجلة والآجلة. وأمرهم- سبحانه- بالإيمان بعد الأمر بالاستجابة، لأنه أول مراتب الدعوة، وأولى الطاعات بالاستجابة.
قال الحافظ ابن كثير: وفي ذكره- تعالى- هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر، كما روى أبو داود الطيالسي في مسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر جمع أهله وولده ودعا. وروى ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد» وكان عبد الله يقول إذا أفطر: اللهم إنى أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي» وروى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة لا ترد دعوتهم:
الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم، يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة وتفتح لها أبواب السماء ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين» «١».
هذا والحديث عن الدعاء وعن فضله وعن آدابه وشروطه وفوائده وجوامعه وغير ذلك مما يتعلق به قد بسطناه في غير هذا المكان فليرجع إليه من شاء «٢».
وبعد هذا الحديث المؤثر عن الدعاء، عاد القرآن إلى الحديث عن أحكام الصيام، وعن مظاهر رحمة الله بعباده فيما شرع لهم فقال- تعالى-:
(٢) راجع كتاب (الدعاء) للمؤلف طبع مجمع البحوث: الكتاب السادس والخمسون. [.....]
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٧]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)روى بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية الكريمة أحاديث تفيد أن المسلمين كانوا عند ما فرض صيام شهر رمضان. إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويقربون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا حرم عليهم بعد ذلك الطعام والشراب وقربان النساء حتى يفطروا من الغد.
ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ما أخرجه الإمام أحمد وابن جرير وابن حاتم عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه. قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- من عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة وقد سمر عنده، فأراد امرأته فقالت إنى قد نمت، فقال ما نمت ثم واقعها، وصنع كعب مثل ذلك. فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره فنزلت «١».
ومنها ما رواه البخاري عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي. وإن قيس بن صرمة الأنصارى كان صائما وفي رواية: كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما. فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك. فلما انتصف النهار غشى عليه، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ففرحوا فرحا شديدا، ونزلت وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ «٢».
وجمهور المفسرين- كما يقول الإمام الرازي- على أن هذه الآية من قبيل النسخ، لأنها قد نسخت ما كان حاصلا في أول فرضية الصيام من أن الصائم إذا نام بعد فطره لا يحل له الأكل أو الشرب أو الجماع إلى أن يفطر من الغد.
(٢) تفسير القرطبي ج ٢ ص ٣١٤.
وأصحاب هذا الرأى يستشهدون لذلك بما رواه البخاري عن البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله- تعالى- عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ «١». فالمقصود من الآية الكريمة عند هؤلاء رفع ما توهمه بعض الصحابة من أن الأكل أو الشرب أو الجماع لا يجوز ما داموا قد ناموا بعد فطرهم لأن الله- تعالى- رءوف رحيم بهم، ولم يشرع لهم ما فيه حرج أو مشقة عليهم.
وعلى كلا القولين فالآية الكريمة تسوق لنا لونا من ألوان رحمة الله- تعالى- بعباده فيما شرع لهم من فرائض وأحكام.
والمراد بليلة الصيام: الليلة التي يصبح فيها الإنسان صائما دون تحديد ليلة معينة من شهر رمضان، فالإضافة لأدنى ملابسة.
قال الجمل وقوله: لَيْلَةَ الصِّيامِ منصوب على الظرف، وفي الناصب له ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو المشهور عند المعربين أنه أحل، وليس بشيء، لأن الإحلال ثابت قبل ذلك الوقت.
الثاني: أنه مقدر مدلول عليه بلفظ الرفث تقديره: أحل لكم أن ترفثوا ليلة الصيام.
الثالث: أنه متعلق بالرفث وذلك على رأى من يرى الاتساع في الظرف والمجرورات «٢» ».
والرفث في الأصل: الفحش من القول، وكلام النساء حين الجماع، كنى به عن المباشرة للزومه لها غالبا. يقال رفث في كلامه- كنصر وفرح وكرم- وأرفث، إذا أفحش فيه. والمراد به في الآية الجماع والمباشرة.
وعدى بإلى- مع أن المستعمل الشائع أن يقال: رفث بالمرأة- لتضمنه معنى الإفضاء كما في قوله- تعالى-: وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ١٤٩.
قال الراغب: جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه سترا لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء، كما أن اللباس ستر عنه أن يبدو منه السوء.
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما موقع قوله: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ قلت: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن، فلذلك رخص لكم في مباشرتهن» «١».
وفي هذا التعبير القرآنى ما فيه من اللطافة والأدب وسمو التصوير لما بين الرجل وزوجه من شدة الاتصال والمودة واستتار كل واحد منهما بصاحبه.
وقوله- تعالى-: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ جملة معترضة بين قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ وبين قوله: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ إلخ. وقد جيء بها لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم، ولبيان مظهر من مظاهر لطف الله بهم، ورحمته إياهم.
وقوله: تَخْتانُونَ قال الراغب: الاختيان مراودة الخيانة، ولم يقل تخونون أنفسكم لأنه لم تكن منهم الخيانة بل كان منهم الاختيان، فإن الاختيان تحرك شهوة الإنسان لتحرى الخيانة وذلك هو المشار إليه بقوله- تعالى-: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «٢».
والمعنى: علم الله- تعالى- أنكم كنتم تراودون أنفسكم على مباشرة نسائكم ليلا، وعلى الأكل بعد النوم، قبل أن يظهر الفجر الصادق، بل إن بعضكم قد فعل ذلك، فكان من رحمة الله بكم أن أباح الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم، وأن قبل توبتكم وعفا عنكم، أى:
محا أثر ما فعلتموه من الأكل والجماع قبل أن يأذن لكم بذلك.
وجملة فَتابَ عَلَيْكُمْ معطوفة على محذوف، والتقدير: فتبتم فتاب عليكم.
والذين لا يرون أن الآية ناسخة لحكم سابق عبر عن وجهة نظرهم صاحب المنار فقال:
وقوله- تعالى-: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أى: تتنقصونها بعض ما أحل الله
(٢) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص ١٦٣.
وقوله- تعالى-: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ الأمر فيه للإباحة وهو مرتب على قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ.
ولفظ فَالْآنَ يطلق حقيقة على الوقت الذي أنت فيه، وقد يقع على الماضي القريب منك وعلى المستقبل القريب الوقوع تنزيلا له منزلة الحاضر وهو المراد هنا.
وبَاشِرُوهُنَّ من المباشرة وأصلها اتصال البشرة بالبشرة، وكنى بها القرآن عن الجماع الذي يستلزمها.
وقوله- تعالى-: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ تأكيد لما قبله. والابتغاء الطلب والمعنى:
لقد أبحنا لكم الإفضاء إلى نسائكم في ليالي رمضان بعد أن كان محرما عليكم فضلا منا ورحمة بكم فالآن باشروهن واطلبوا من وراء هذه المباشرة ما كتبه لكم الله من الذرية الصالحة ومن التعفف عن إتيان الحرام.
وفي هذا إشعار بأن النكاح شرع ليبتغى به النسل حتى يتحقق ما يريده الله- تعالى- من بقاء النوع الإنسانى، ومن صيانة المرء نفسه عن الوقوع في فاحشة الزنا.
وقوله- تعالى-: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ معطوف على باشروهن.
والمقصود من الخيط الأبيض: أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره.
والمقصود من الخيط الأسود: ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة الليل.
قال الإمام الرازي: وَالْفَجْرِ مصدر قولك: فجرت الماء أفجره فجرا، وفجرته تفجيرا، قال الأزهرى: الفجر أصله الشق، فعلى هذا الفجر في آخر الليل هو انشقاق ظلمة الليل بنور الصبح.
وقد وردت روايات صحيحة تفيد أن قوله: مِنَ الْفَجْرِ قد تأخر نزوله عن الجمل السابقة له. ففي الصحيحين عن سهل بن سعد قال أنزلت وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ولم ينزل من الفجر فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ويأكل حتى يتبين له رؤيتها، فأنزل الله بعده مِنَ الْفَجْرِ فعلموا أنه يعنى الليل والنهار.
ورويا أيضا عن عدى بن حاتم قال: لما نزلت هذه الآية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ عمدت إلى عقالين لي أسود وأبيض فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر في الليل إليهما فلا يتبين لي، فعمدت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك فقال: «إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار» ونزل قوله- تعالى-: مِنَ الْفَجْرِ.
وشبه بياض النهار وسواد الليل بالخيطين: الأبيض والأسود لأن أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل يكون كالخيط الممدود.
وفي الإتيان بلفظ التفعل في قوله: حَتَّى يَتَبَيَّنَ.. إشعار بأنه لا يكفى إلا التبين الواضح لا مجرد التوهم، فقد روى الإمام مسلّم في صحيحة عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر- أو قال- حتى ينفجر الفجر».
وقوله: مِنَ الْفَجْرِ بيان للخيط الأبيض. واكتفى به عن بيان الخيط الأسود، لأن بيان أحدهما بيان للثاني، ويجوز أن تكون «من» للتبعيض، أى: من بعض الفجر.
وقوله- تعالى-: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ بيان لانتهاء وقت الصيام بعد أن بينت الجملة السابقة بدايته. أى: ابدءوا صومكم من طلوع الفجر وانتهوا منه بدخول الليل عند غروب الشمس، إذ الليل لبس بوقت الصيام.
قال الإمام الرازي: كلمة إِلى لانتهاء الغاية، فظاهر الآية: أن الصوم ينتهى عند دخول الليل، وذلك لأن غاية الشيء مقطعة ومنتهاه وإنما يكون مقطعا ومنتهى إذا لم يبق بعد ذلك.
وقد تجيء هذه الكلمة لا للانتهاء كما في قوله- تعالى-: إِلَى الْمَرافِقِ إلا أن ذلك على
وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم».
وكان من عادته صلّى الله عليه وسلّم تعجيل الفطر، فقد روى الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر».
وقد أخذ العلماء من هذه الآية ومن عمل الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقوله، أن من واصل الإمساك عن المفطرات في الليل فلا ثواب له على هذا الإمساك، لأنه لم يقع في الوقت الذي رسمه الشارع لعبادة الصوم، بل يعد هذا المواصل فاعلا لمحظور، فلا بد للصائم من تناول شيء من المفطرات بعد غروب الشمس ولو قليلا من الماء. فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفطر قبل أن يصلّى على رطبات فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء، والوصال- بمعنى أن يصوم الشخص اليوم وما بعده من غير أن يتناول مفطرا في الليل الفاصل بينهما- وردت في النهى عنه أحاديث كثيرة، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تواصلوا، قالوا: إنك تواصل يا رسول الله. قال:
لست كأحد منكم إنى أطعم وأسقى. أو قال: إنى أظل يطعمنى ربي ويسقيني».
وروى الإمام أحمد عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عنه وقال: يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا».
وقوله: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ استثناء من عموم إباحة المباشرة، وذلك لأنه لما أطلق في الجملة السابقة الإذن في مباشرة النساء ليلة الصيام بقوله: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ كان هذا الإطلاق مظنة لأن يؤخذ منه أن المعتكف كالصائم في أنه يجوز له أن يباشر زوجته ليلا لا نهارا، فبين- سبحانه- بهذه الجملة أن المعتكف يحرم عليه أن يباشر النساء في الليل والنهار.
قال القرطبي: والاعتكاف في اللغة: الملازمة، يقال عكف على الشيء إذا لازمة مقبلا عليه. قال الشاعر:
وظل بنات الليل حولي عكفا | عكوف البواكي بينهن صريع |
وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وأزواجه، ويلزمه إن ألزمه نفسه، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه.
وأجمع العلماء على أنه لا يكون إلا في المسجد واختلفوا في المراد بالمساجد في قوله- تعالى-:
فِي الْمَساجِدِ فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس، وقال آخرون لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة، وقال آخرون الاعتكاف في كل مسجد جائز «١».
والمشار إليه في قوله- تعالى-: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها الأحكام التي سبق تقريرها من إيجاب وتحريم وإباحة.
والحدود جمع حد، وهو في اللغة الحاجز بين الشيئين المتقابلين ليمنع من دخول أحدهما في الآخر. ومنه سمى الحديد حديدا لأنه يمنع وصول السلاح إلى البدن.
وسميت الأحكام التي شرعها الله حدودا لأنها تحجز بين الحق والباطل.
أى: تلك الأحكام التي شرعناها لكم من إيجاب الصوم، وتحريم الأكل والشرب والجماع في نهاره، وإباحة ذلك في ليله، هي حدود الله التي لا يحل لكم مخالفتها أو مجاوزتها.
وعبر- سبحانه- عن النهى عن مخالفة تلك الأحكام بقوله: فَلا تَقْرَبُوها مبالغة في التحذير من مخالفتها، لأن النهى عن القرب من الشيء نهى عن إتيانه بالأولى والآية ترشد بقولها فَلا تَقْرَبُوها إلى اجتناب ما فيه شبهة كما ترشد إلى ترك الأشياء التي تقضى في غالب أمرها إلى الوقوع في حرام.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف قيل فَلا تَقْرَبُوها مع قوله: فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ قلت: من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق فنهى أن يتعداه. لأن من تعداه وقع في حيز الباطل، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزى الحق والباطل لئلا يدانى الباطل، وأن يكون في الواسطة متباعدا عن الطرف فضلا عن أن يتخطاه كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد. ويجوز أن يريد
ثم ختم- سبحانه- هذه الآية الكريمة بقوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
أى: مثل ذلك البيان الجامع الذي بين الله به حدوده التي أمركم بالتزامها ونهاكم عن مخالفتها، يبين لكم آياته، أى: أدلته وحججه لكي تصونوا أنفسكم عما يؤدى بكم إلى العقوبة، وتكونوا ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
وبذلك تكون الآية الكريمة قد ختمت الحديث عن الصوم، ببيان مظاهر رفق الله بعباده، ورعايته لمصالحهم ومنافعهم، بأسلوب بليغ جمع بين الترغيب والترهيب، والإباحة والتحريم، وغير ذلك من أنواع الهداية والإرشاد إلى ما يسعد الناس في دينهم ودنياهم.
وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن الصيام، وما يتعلق به من أحكام، أردف ذلك بالنهى عن أكل الحرام، لأنه يؤدى إلى عدم قبول العبادات من صيام واعتكاف ودعاء وغير ذلك فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٨]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
والخطاب في الآية الكريمة موجه إلى المؤمنين كافة في كل زمان ومكان.
والمراد بالأكل مطلق الأخذ بغير وجه حق، وعبر عنه بالأكل، لأن الأكل أهم وسائل الحياة، وفيه تصرف الأموال غالبا.
والباطل في اللغة: الزائل الذاهب، يقال: بطل يبطل بطولا وبطلانا. أى ذهب ضياعا وخسرا. وجمع الباطل أباطيل. ويقال: بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو.
والمراد هنا: كل ما لم يبح الشرع أخذه من المال وإن طابت به النفس، كالربا والميسر وثمن الخمر، والرشوة، وشاهد الزور، والسرقة، والغصب، ونحو ذلك مما حرمه الله- تعالى-.
والباء للسببية، والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله، وكذلك قوله: بَيْنَكُمْ.
وفي قوله- تعالى-: أَمْوالَكُمْ- مع أن أكل المال يتناول مال الإنسان ومال غيره- في هذا القول إشعار بوحدة الأمة وتكافلها، وتنبيه إلى أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لما لك أنت، ففي هذه الإضافة البليغة تعليل للنهى، وبيان لحكمة الحكم، إذ استحلال الإنسان لمال غيره يجرئ هذا الغير على استحلال مال ذلك الإنسان المتعدى، وإذا فشا هذا السلوك في أمة من الأمم أدى بها إلى الضعف والتعادي والتباغض.
فما أحكم هذا التعبير، وما أجمل هذا التصوير.
وقوله: وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بيان لصورة أخرى قبيحة من صور أكل أموال الناس بالباطل وقوله: وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ معطوف على لا تَأْكُلُوا.
والإدلاء في الأصل: إرسال الدلو في البئر للاستسقاء. ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء ومنه أدلى فلان بحجته، أى: أرسلها ليصل إلى مراده.
والمراد بالإدلاء هنا: الدفع والإلقاء بالأموال إلى الغير من أجل الوصول إلى أمر معين.
والحكام: جمع حاكم، وهو الذي يتصدى للفصل بين الناس في خصوماتهم وقضاياهم.
والفريق: القطعة المعزولة من جملة الشيء، ومنه قيل للقطعة من الغنم تشذ عن معظمها فريق.
والإثم: الفعل الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب. وجمعه آثام.
والمعنى: لا يأخذ بعضكم أموال بعض- أيها المسلمون- ولا يستولى عليها بغير حق، ولا تدلوا بها إلى الحكام، أى ولا تلقوا أمرها والتحاكم فيها إلى القضاة لا من أجل الوصول إلى الحق، وإنما من أجل أن تأخذوا عن طريق التحاكم قطعة من أموال غيركم متلبسين بالإثم الذي يؤدى إلى عقابكم، حال كونكم تعلمون أنكم على باطل، ولا شك أن إتيان الباطل مع العلم بأنه باطل أدعى إلى التوبيخ من إتيانه على جهالة به.
فعلى هذا الوجه يكون المراد بالإدلاء بالأموال إلى الحكام طرحها أمامهم ليقضوا فيها، وليتوسل بعض الخصوم عن طريق هذا القضاء إلى أكل الأموال بالباطل حين عجزوا عن أكلها بالمغالبة.
وهناك وجه آخر تحتمله الآية احتمالا قريبا، وبه قال كثير من العلماء وهو أن المراد بالإدلاء
لا يأخذ بعضكم أموال بعض أيها المسلمون، ولا تلقوا ببعضها إلى حكام السوء على سبيل الرشوة، لتتوصلوا بأحكامهم الجائرة إلى أكل فريق من أموال الناس بغير حق. ولا غرابة في أن يعنى القرآن في سياسته الرشيدة بالتحذير من جريمة الرشوة فإنها المعول الذي يهدم صرح العدل من أساسه وبها تفقد مجالس القضاء حرمتها وكرامتها، وتصير تلك المجالس موطنا للظلم لا للعدل.
وخص القرآن الكريم هذه الصورة بالنهى- وهي صورة الإدلاء بالأموال إلى الحكام- مع أنه قد ذكر ما يشملها بقوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ لأنها على وجهى تفسيرها شديدة الشناعة، جامعة لمنكرات كثيرة، كالظلم، والتباغض والرشوة، والغصب وغير ذلك.
والحق، أن هذه الآية الكريمة أصل من الأصول التي يقوم عليها إصلاح المعاملات، وقد أخذ العلماء منها حرمة أكل أموال الناس بالباطل، وحرمة إرشاء الحكام ليقضوا للراشى بمال غيره، وقد لعن النبي صلّى الله عليه وسلّم الجميع في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله الراشي والمرتشي والراءش» وهو الواسطة الذي يمشى بينهما.
كما أخذوا منها أن حكم الحاكم على ما يقتضيه الظاهر من أمر القضية لا يحل في الواقع حراما، ولا يحرم حلالا، والدليل على ذلك ما أخرجه الشيخان عن أم سلمة- رضى الله عنها- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر.
وإنه ليأتينى الخصم. فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه قد صدق، فأقضى له بذلك. فمن قضيت له بحق مسلّم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها».
قال الإمام ابن كثير: فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر، فلا يحل في نفس الأمر حراما ولا يحرم حلالا، وإنما هو ملزم في الظاهر، فإن طابق في نفس الأمر فذاك وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره. ولهذا قال- تعالى- في آخر الآية وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. أى تعلمون بطلان ما تدعونه وترجونه في كلامكم» «١».
وبذلك تكون الآية الكريمة قد رسمت طريق الحق لمن يريد أن يسير فيه لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ.
ثم انتقل القرآن إلى الحديث عن الأهلة لما لها من صلة بالصيام وبالقتال في الأشهر الحرم وبمواقيت الحج فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)ورد في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبى حاتم عن أبى العالية قال:
«بلغنا أن بعض الناس قالوا: يا رسول الله، لم خلقت الأهلة فنزلت».
والأهلة: جمع الهلال، وهو الكوكب الذي يبزغ في أول كل شهر، ويسمى هلالا لثلاث ليال أو لسبع ليال من ظهوره، ثم يسمى بعد ذلك قمرا إلى أن يعود من الشهر الثاني.
قال بعضهم: وهو مشتق من استهل الصبى إذا بكى وصاح حين يولد، ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، وسمى بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكره أو بالتكبير، ولهذا يقال أهل الهلال واستهل «١».
والمواقيت: جمع ميقات بمعنى الوقت، وهو ما يقدر لعمل من الأعمال وقيل: الميقات منتهى الوقت.
والمعنى: يسألك بعض الناس عن الحكمة من خلق الأهلة، قل لهم- يا محمد- إن الله- تعالى- قد خلقها لتكون معالم يوقت ويحدد بها الناس صومهم، وزكاتهم، وحجهم، وعدة نسائهم، ومدد حملهن، ومدة الرضاع، وغير ذلك مما يتعلق بأمور معاشهم.
قال- تعالى-: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
وخص الحج بالذكر مع أن الأهلة مواقيت لعبادات أخرى كالصوم والزكاة للتنبيه على أن الحج مقصور وقت أدائه على الزمن الذي عينه الله- تعالى- وأنه لا يجوز نقله إلى وقت آخر كما كانت العرب تفعل، إذ كانوا ينقلون ما شاؤوا من الأشهر الحرم الأربعة التي من جملتها
وخص الشارع المواقيت بالأهلة وأشهرها دون الشمس وأشهرها، لأن الأشهر الهلالية تعرف برؤية الهلال ومحاقه، وذلك ما لا يخفى على أحد من الخاصة أو العامة أينما كانوا، بخلاف الأشهر الشمسية. فإن معرفتها تنبنى على النظر في حركات الفلك وهي لا تتيسر إلا للعارفين بدقائق علم الفلك.
هذا، ومن الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم قالا: يا رسول الله. ما بال الهلال يبدو- أو يطلع- دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، لا يكون على حال واحد؟ فنزلت.
وعلى هذه الرواية يكون الجواب بقوله- تعالى-: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ من قبيل أسلوب الحكيم، وهو إجابة السائل بغير ما يتطلبه سؤاله، بتنزيل سؤاله منزلة غيره، تنبيها له على أن ذلك الغير هو الأولى بالسؤال لأنه هو المهم بالنسبة له.
فأنت ترى هنا أن السائلين قد سألوا عن سبب اختلاف الأهلة بالزيادة والنقصان، فأجيبوا ببيان الحكمة من خلقها، فكأنه- سبحانه- يقول لهم: عليكم أن تسألوا عن الحكمة والفائدة من خلق الأهلة لأن هذا هو الأليق بحالكم وهو ما أجبتكم عليه، لا أن تسألوا عن سبب تزايدها في أول الشهر وتناقصها في آخره، لأن هذا من اختصاص علماء الهيئة، وأنتم لستم في حاجة إلى معرفة ذلك في هذا الوقت.
ولعلماء البلاغة كلام جيد في مزايا ما يسمونه بأسلوب الحكيم، فقد قال السكاكي ما ملخصه: «ولهذا النوع- أعنى إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر- أساليب متفننة، ولكل من تلك الأساليب عرق في البلاغة يتشرب من أفانين سحرها، ولا كأسلوب الحكيم فيها. وهو تلقى المخاطب بغير ما يترقب، أو السائل بغير ما يتطلب، كما قال- تعالى-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ الآية. قالوا في السؤال. ما بال الهلال يبدو دقيقا.. ألخ فأجيبوا بما ترى. وإن هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقور، وأبرزه في معرض المسحور، وهل ألان شكيمة «الحجاج الثقفي» لذلك الرجل الخارجي، وسل سخيمته، حتى آثر أن يحسن على أن يسيء غير أن سحره بهذا الأسلوب؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله «لأحملنك على الأدهم» فقال الخارجي متغابيا: مثل الأمير بحمل على الأدهم الأشهب. مبرزا وعيده في معرض الوعد، متوصلا أن يريه بألطف وجه: أن رجلا مثله جدير
وقوله- تعالى-: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها هذا القول الكريم نهى لجماعة المسلمين عن عادة كانوا يفعلونها في الجاهلية، وهي أنهم كانوا إذا عادوا من حجهم أو أحرموا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، بل كانوا يدخلون من نقب ينقبونه في ظهور بيوتهم.
أخرج البخاري عن أبى إسحاق قال: سمعت البراء- رضي الله عنه- يقول: نزلت هذه الآية فينا. كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها.
فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عير بذلك فنزلت: وَلَيْسَ الْبِرُّ إلخ.
والمعنى: وليس من البر ما كنتم تفعلونه في الجاهلية من دخولكم البيوت من ظهورها عند إحرامكم أو عودتكم من حجكم، ولكن البر الحق الجامع لخصال الخير يكون في تقوى الله بأن تمتثلوا أوامره وتجتنبوا نواهيه، وإذا ثبت ذلك فعليكم أن تأتوا البيوت من أبوابها عند إحرامكم أو رجوعكم من حجكم.
وفي الأمر بإتيان البيوت من أبوابها إشعار بأن إتيانها من ظهورها باسم الدين غير مأذون فيه، وكل ما يفعل باسم الدين وليس له في الدين من شاهد فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وفي الآية الكريمة تعريض بمن يسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عما هو ليس من العلم المختص بالنبوة، ولا تتوقف معرفته على الوحى، فهذا السائل في سؤاله مثله كمثل من يدخل البيت من ظهره لا من بابه.
قال بعضهم: وذلك لأن العلم على ضربين: علم دنيوى يتعلق بأمر المعاش- كمعرفة الصنائع ومعرفة حركات النجوم ومعرفة المعادن والنبات، وقد جعل الله لنا سبيلا إلى معرفة ذلك على غير لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
وعلم شرعي يتعلق بالعبادات والمعاملات والعقيدة ولا سبيل إلى أخذه إلا من الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم.
فلما جاءوا يسألون النبي صلّى الله عليه وسلّم عما أمكنهم معرفته من غير جهته أجابهم. ثم بين لهم أن البر في التقوى وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين» «١».
قال صاحب الكشاف: فإن قلت. ما وجه اتصال قوله- تعالى-: وَلَيْسَ الْبِرُّ إلخ بما
ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه ولم يجسر على مثله ثم قال: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها أى: باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا، والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب» «١».
وقوله- تعالى-: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أمر بالتقوى التي تتضمن القيام بجميع الواجبات واجتناب البدع والمنكرات. أى: افعلوا ما أمركم الله به، واجتنبوا ما نهاكم عنه، لتكونوا من المفلحين، وهم الفائزون بالحياة المطمئنة في الدنيا والنعيم الخالد في الآخرة. وبذلك تكون الآية الكريمة قد رددت عقول الناس إلى النظر والتأمل في سنن الله وفي خلفه على النحو الذي ينشئ التقوى في النفوس، ويوجه إلى العمل الصالح الذي يرضى الله- تعالى-.
وبعد أن أمر- سبحانه- المؤمنين بطاعته وتقواه، وحضهم على الجهاد في سبيله إذ هو من أجل مظاهرها، وبصرهم بحكمته وآدابه فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٥]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)
ويرى بعض العلماء أن هذه الآيات قد وردت في الأذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرم إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا. فهي متصلة بما قبلها أتم الاتصال، لأن الآية السابقة بينت أن الأهلة مواقيت للناس في عباداتهم ومعاملاتهم عامة وفي الحج خاصة وهو في أشهر هلالية مخصوصة كان القتال فيها محرما في الجاهلية. فقد أخرج الواحدي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صده المشركون عن البيت الحرام- ثم صالحوه فرضي على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا ألا تفي لهم قريش، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام فأنزل الله- تعالى الآيات «٢».
والقتال والمقاتلة: محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، والتقاتل محاولة كل واحد من المتعاديين قتل الآخر.
قال أبو حيان: وقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ السبيل هو الطريق. واستعير لدين الله وشرائعه لأن المتبع لذلك يصل به إلى بغيته الدينية والدنيوية، فشبه بالطريق الموصل الإنسان إلى ما يقصده، وهذا من استعارة الأجرام للمعاني ويتعلق فِي سَبِيلِ اللَّهِ بقوله: وَقاتِلُوا وهو
(٢) تفسير المنار ج ٢ ص ٢٠٨.
والمراد بالقتال في سبيل الله: الجهاد من أجل إعلاء كلمته حتى يكون أهل دينه الحق أعزاء لا يسومهم أعداؤه ضيما، وأحرارا في الدعوة إليه وإقامة شرائعه العادلة في ظل سلطان مهيب.
أى: قاتلوا أيها المؤمنون لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه أعداءكم الذين أعدوا أنفسهم لقتالكم ومناجزتكم وتحققتم منهم سوء النية، وفساد الطوية.
فالآية الكريمة تهييج للمؤمنين وإغراء لهم على قتال أعدائهم بدون تردد أو تهيب، وإرشاد لهم إلى أن يجعلوا جهادهم من أجل نصرة الحق، لا من أجل المطامع أو الشهوات.
فقد روى الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبى موسى- رضي الله عنه- أن أعرابيا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه- أى: ليتحدث الناس بشجاعته وليظهر بينهم- أى ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» والأحاديث في الدعوة إلى أن يكون الجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمته كثيرة متعددة.
وقوله وَلا تَعْتَدُوا نهى عن الاعتداء بشتى صوره ويدخل فيه دخولا أوليا الاعتداء في القتال.
والاعتداء: مجاوزة الحد فيما أمر الله به أو نهى عنه.
أى: قاتلوا في سبيل الله من يناصبكم القتال من المخالفين، ولا تتجاوزوا في قتالهم إلى من ليس شأنهم قتالكم، كنسائهم، وصبيانهم ورهبانهم، وشيوخهم الطاعنين في السن إلى حد الهرم، ويلحق بهؤلاء المريض والمقعد والأعمى والمجنون. وقد وردت في النهى عن قتل هؤلاء الأحاديث النبوية ووصايا الخلفاء الراشدين لقواد جيوشهم، فهؤلاء يتجنب قتالهم إلا من قامت الشواهد على أن له أثرا من رأى أو عمل في الحرب، يؤازر به المحاربين لينتصروا على المجاهدين.
قال ابن كثير: ولهذا جاء في صحيح مسلّم عن بريدة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: وجدت امرأة في بعض المغازي مقتولة فأنكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتل النساء والصبيان» «٢».
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٢٦.
ومحبة الله لعباده: صفة من صفاته- تعالى- من أثرها الرعاية والإنعام. وإذا نفى الله- تعالى- محبته لطائفة من الناس فهو كناية عن بغضه لهم، واستحقاقهم لعقوبته.
وقوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ الضمير المنصوب فيه يعود على قوله: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ في الآية السابقة.
وثَقِفْتُمُوهُمْ: أدركتموهم وظفرتم بهم. يقال: ثقف الشيء إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة ومنه رجل ثقف إذا كان سريع الأخذ لأقرانه. قال الشاعر:
فإما تثقفونى فاقتلوني | فمن أثقف فليس إلى خلود. |
والمعنى: عليكم أيها المسلمون أن تقتلوا هؤلاء الذين إذنا لكم بقتالهم حيث وجدتموهم وظفرتم بهم، فأنهم قد بادءوكم بالعدوان، وتمنوا لكم كل شر وسوء.
وقوله: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ معطوف على ما قبله.
وحيث ظرف مكان. والمكان الذي أخرجوهم منه هو مكة، فإن المشركين من قريش قد أنزلوا بالمسلمين الأولين من صنوف الأذى ما جعلهم يتركون مكة ويهاجرون إلى بلاد الحبشة أولا. ثم إلى المدينة المنورة ثانيا.
أى: اقتلوا هؤلاء الذين قاتلوكم في أى مكان لقيتموهم فيه، وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة.
وفي هذا تهديد للمشركين، وإغراء للمسلمين بهم، ووعد بفتح مكة وقد أنجز الله- تعالى- وعده ففتح المسلمون مكة في السنة الثامنة من الهجرة.
وقوله- تعالى-: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. دفع لما قد يقع من بعض المسلمين من استعظام قتل المشركين في مكة.
والفتنة في الأصل: مصدر فتن الصائغ الذهب والفضة إذا أذابهما بالنار ليستخرج الزائف منهم ثم استعملت في الابتلاء والامتحان والصرف عن الشيء، وأكثر استعمالها في التضليل والصد عن الدين، ثم على الكفر.
ويبدو أن المراد منها هنا ما كان يفعله المشركون مع المسلمين من التعذيب والصد عن الدين، والإخراج من الوطن، وغير ذلك من صنوف الأذى.
وبعضهم فسر الفتنة هنا بالشرك، أو بالرجوع إلى الكفر، أو بعذاب الآخرة، وقد بين ذلك صاحب الكشاف بقوله. وقوله: «والفتنة أشد من القتل» أى: المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشد عليه من القتل وقيل لبعض الحكماء: ما أشد من الموت: قال: الذي يتمنى فيه الموت، جعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت، ومنه قول القاتل:
القتل بحد السيف أهون موقعا | على النفس من قتل بحد فراق |
والشرك الذي هم عليه أشد وأعظم مما يستعظمونه ويجوز أن يراد: وفتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم» «١».
وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد أذنت للمؤمنين في قتل الذين يناجزونهم القتال دفعا لشرهم أينما وجدوا.
ثم ساقت الآية جملة أخرى نهت فيها المؤمنين عن قتال المشركين عند المسجد الحرام مراعاة لحرمته. ما دام المشركون لم يفاتحوهم بالقتال عنده، أما إذا فاتحوهم بالقتال فيه، فقد أصبح من حق المؤمنين أن يدافعوا عن أنفسهم، وأن يقاتلوا أعداءهم. وهذه الجملة هي قوله- تعالى-: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ.
أى: لا تقاتلوا أيها المؤمنون أعداءكم عند المسجد الحرام احتراما له حتى يبدأ المشركون قتالكم عنده فإن بدءوكم بالقتال فيه فلا حرج عليكم في قتلهم عنده، لأن المنتهك لحرمة المسجد الحرام إنما هو البادئ بالقتال فيه وهم المشركون، ولستم أنتم أيها المؤمنون لأن موقفكم إنما هو موقف المدافع عن نفسه.
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد حفظت للمسجد الحرام حرمته وهيبته ومكانته السامية لأن حرمته لذاته، وحرمة سائر الحرم من أجله، إلا أنها أذنت للمسلمين أن يدافعوا عن أنفسهم إذا
قال ابن كثير ما ملخصه: وقد دلت الآية على الأمر بقتال المشركين في الحرم إذا بدءوا بالقتال فيه دفعا لصولتهم، كما بايع النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ، ثم كف الله القتال بينهم فقال: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ «١».
وقال صلّى الله عليه وسلّم لخالد بن الوليد ومن معه يوم الفتح: إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا حتى توافونى على الصفا.. فما عرض لهم أحد إلا أناموه وأصيب من المشركين نحو اثنى عشر رجلا» «٢».
ولم يقل- سبحانه- فإن قاتلوكم فقاتلوهم، وإنما قال فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ تبشيرا للمؤمنين بالغلبة عليهم، وإشعارا بأن هؤلاء المشركين من الخذلان والضعف بحالة أمر الله المؤمنين معها بقتلهم لا بقتالهم فهم لضعفهم لا يحتاجون من المؤمنين إلا إلى القتل.
وقوله: كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ تذييل لما قبله. واسم الإشارة ذلك يعود إلى قتل المقاتلين أينما وجدوا.
والجزاء: ما يقع في مقابلة الإحسان أو الإساءة، فيطلق على ما يثاب به المحسن، وعلى ما يعاقب به المسيء. والمراد به في الآية العقاب.
أى: مثل هذا الجزاء العادل من القتل والردع يجازى الله الكافرين الذين قاتلوا المؤمنين وأخرجوهم من ديارهم.
ثم فتح القرآن للكافرين الذين قاتلوا المسلمين التوبة فقال: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
الانتهاء: أصله مطاوع نهى. يقال: نهاه فانتهى ثم توسع فيه فأطلق على الكف عن الشيء، لأن النهى هو طلب ترك الشيء.
أى: فإن انتهوا عن الكفر وعن مقاتلتكم فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم فإن الله غفور رحيم. وكل من تاب من كفر أو معصية فشأن الله معه أن يغفر له ويرحمه.
ونظير هذه الآية قوله- تعالى-: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ «٣» وإنما قلنا فإن انتهوا عن الكفر وعن القتال لأن سياق الحديث عن الكافرين المقاتلين للمؤمنين،
(٢) تفسير القاسمى ج ٢ ص ٤٧٦.
(٣) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ٧٦.
وقوله- تعالى-: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ معطوف على جملة وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ والضمير «هم» يعود على الذين يقاتلون المسلمين وهم من سبق الحديث عنهم.
والمراد من الْفِتْنَةُ الشرك وما يتبعه من أذى المشركين للمسلمين واضطهادهم وتعذيبهم.
قال الآلوسى: ويؤيده أن مشركي العرب ليس في حقهم إلا الإسلام أو السيف. لقوله- سبحانه-: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ.
وفي الصحيحين عن ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله».
والدين في اللغة: العادة والطاعة ثم استعمل فيما يتعبد به الله- تعالى- سواء أكان ما تعبد به صحيحا أم باطلا.
والمراد هنا: الدين الصحيح الذي شرعه الله لعباده على لسان نبيهم محمد صلّى الله عليه وسلّم ليتوصلوا به إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل.
والمعنى: قاتلوا أولئك المشركين حتى تزيلوا الشرك، وحتى تكسروا شوكتهم ولا يستطيعوا أن يفتنوا طائفة من أهل الدين الحق، وحتى يكون الدين الظاهر في الأرض هو الدين الذي شرعه الله- تعالى- على لسان نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقد تحقق ذلك بالقتال الذي دار بين المسلمين والمشركين في أكثر من عشرين غزوة قادها النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، وفي أكثر من أربعين سرية بعث فيها أصحابه، وكانت ثمار هذه المعارك أن انتصر الحق وزهق الباطل. وقبل أن يلتحق النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى كان الدين الظاهر في جزيرة العرب هو دين الإسلام الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ والعدوان في أصل اللغة: الاعتداء والظلم الذي هو من الأفعال المحرمة والمراد به في الآية القتل حيث يرتكب جزاء للظالمين.
والفاء في قوله فَإِنِ انْتَهَوْا للتعقيب. وقوله: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ قائم مقام جواب الشرط، لأنه علة الجواب المحذوف.
والمعنى: فإن امتنعوا عن قتالكم ولم يقدموا عليه، وأذعنوا لتعاليم الإسلام، فكفوا عن
ففي الجملة الكريمة إيجاز بالحذف، واستغناء عن المحذوف بالتعليل الدال عليه.
قال الإمام الرازي: أما قوله- تعالى-: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ففيه وجهان:
الأول: فإن انتهوا فلا عدوان أى: فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر، فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون لأنفسهم قال- تعالى-: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
فإن قيل: لم سمى ذلك القتل عدوانا مع أنه في نفسه صواب؟ قلنا: لأن ذلك القتل جزاء العدوان فصح إطلاق اسم العدوان عليه، كقوله- تعالى-: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها.
الثاني: إن تعرضتم لهم بعد انتهائهم عن الشرك والقتال كنتم أنتم ظالمين، فتسلط عليكم من يعتدى عليكم «١».
وقوله- تعالى-: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ بيان للحكمة في إباحة القتال في الأشهر الحرم، وإيذان بأن مراعاة حرمة الشهر الحرام إنما هي واجبة في حق من يصون حرمته، أما من هتكها فقد صار بسبب انتهاكه لحرمة الشهر الحرام محلا للقصاص والمعاقبة في الشهر وفي غيره.
وسمى الشهر الحرام لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره من القتال ونحوه، والتعريف فيه- على الراجح- للجنس فهو يشمل الأشهر الحرم جميعها وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب.
قال- تعالى-: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ «٢».
قال القرطبي: نزلت في عمرة القضاء، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج معتمرا حتى بلغ الحديبية في ذي القعدة سنة ست، فصده المشركون كفار قريش عن البيت فانصرف ووعده- سبحانه- أنه سيدخله فدخله في ذي القعدة سنة سبع وقضى نسكه ونزلت هذه الآية «٣» والمعنى: هذا الشهر الحرام الذي تؤدون فيه عمرة القضاء، بذلك الشهر الحرام الذي صدكم المشركون فيه عن دخول المسجد الحرام، فإذا بدءوا بانتهاك حرمته بقتالكم فيه، فلا
(٢) سورة التوبة الآية ٣٦.
(٣) تفسير القرطبي ج ٢ ص ٣٥٥.
وقوله: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق والحرمات: جمع حرمة، وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك.
والقصاص: المساواة. أى، وكل حرمة يجرى فيها القصاص. فمن هتك أية حرمة اقتص منه بأن تهتك له حرمة.
والمراد: أن المشركين إذا أقدموا على مقاتلتكم- أيها المؤمنون- في الحرم أو في الشهر الحرام، فقاتلوهم أنتم أيضا على سبيل القصاص والمجازاة بالمثل، حتى لا يتخذوا الأشهر الحرم ذريعة للغدر والإضرار بكم.
ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى بقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ.
أى: فمن اعتدى عليكم وظلمكم فجازوه باعتدائه وقابلوه بمثل ما اعتدى عليكم بدون حيف أو تجاوز للحد الذي أباحه الله لكم.
وسمى جزاء الاعتداء اعتداء على سبيل المشاكلة.
قال الآلوسى: واستدل الشافعى بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق. حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح. واستدل بها أيضا على أن من غصب شيئا وأتلفه لزمه رد مثله، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة- كما في ذوات الأمثال- وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالأمر بالتقوى والخشية منه فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.
أى: اتقوا الله وراقبوه في الانتصار لأنفسكم، وترك الاعتداء فيما لم يرخص لكم فيه، واعلموا أن الله مع الذين يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه بالنصر والرعاية والتأييد.
ثم أمر الله- تعالى- المؤمنين ببذل المال من أجل إعلاء كلمته، ونصرة دينه، فقال:
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.
قال الإمام الرازي: الإنفاق هو صرف المال إلى وجوه المصالح فلذلك لا يقال في المضيع:
إنه منفق. فإذا قيد الإنفاق بذكر سبيل الله، فالمراد به طريق الدين، لأن السبيل هو الطريق،
وتُلْقُوا من الإلقاء وهو طرح الشيء من اليد.
قال الجمل: والباء في قوله: بِأَيْدِيكُمْ تحتمل وجهين:
أحدهما: أنها زائدة في المفعول به لأن ألقى يتعدى بنفسه، قال- تعالى-: فَأَلْقى عَصاهُ.
والثاني: أن يضمن ألقى معنى فعل يتعدى بالباء فيتعدى تعديته فيكون المفعول به في الحقيقة هو المجرور بالباء تقديره، ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة كقوله: أفضيت بجنبي إلى الأرض أى: طرحته على الأرض» «٢».
والمراد بالأيدى: الأنفس، من باب ذكر الجزء وإرادة الكل، لأن أكثر ظهور أفعال النفس تكون عن طريق اليد.
والتهلكة: الهلاك والموت. أو كل شيء تصير عاقبته إليه. مصدر هلك يهلك هلكا وهلاكا وتهلكة.
والجملة الكريمة معطوفة على جملة وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ.. ألخ، لأنهم لما أمروا بقتال عدوهم، وكان أوفر منهم عدة وعددا، كلفهم بالاستعداد له عن طريق إنفاق الكثير من أموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله لأن هذا الإنفاق من أقوى الوسائل التي توصل إلى النصر.
والمعنى: عليكم، أيها المؤمنون- أن تقاتلوا في سبيل الله من قاتلكم، وأن تنفقوا من أجل إعلاء كلمة الله أموالكم، ولا تلقوا أنفسكم فيما فيه هلاككم في دين أو دنيا، بسبب ترككم الجهاد وبخلكم عن الإنفاق فيه مع القدرة على ذلك.
ويشهد لهذا المعنى ما أخرجه الترمذي وغيره عن أبى عمران قال: كنا بمدينة الروم القسطنطينية- فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم. فخرج إليهم من المسلمين مثلهم فحمل
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ١٥٥.
قال الراوي: فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم.
فالآية الكريمة تأمر المؤمنين بأن يبذلوا أموالهم في الجهاد في سبيل الله بصفة خاصة، وفي كل موطن من مواطن الخير بصفة عامة، لأن عدم البذل في سبيل الخير يؤدى إلى ضعف الأمة واضملالها.
ثم ختم- سبحانه- الآية بالترغيب في الإحسان فقال: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أى: أحسنوا كل أعمالكم وأتقنوها، لأنه- سبحانه- يحب المحسنين في كل شئونهم، ويثيبهم على ذلك بما يسعدهم في دينهم ودنياهم.
هذا، وتأمل معى- أيها القارئ الكريم- في هذه الآيات تراها قد رسمت أحكم منهاج وأعدله في شأن الحرب والسلّم.
إنها تأمر المؤمنين أن يجاهدوا أعداءهم الذين بدءوهم بالقتال، وأن يقتلوهم حيث وجدوهم. ويخرجوهم من حيث أخرجوهم، كما تأمرهم أن يبذلوا أموالهم في سبيل الله بدون إمساك أو بخل، وهذا من أقوى أنواع الحض على الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله.
ولكنها في الوقت نفسه تنهاهم عن الاعتداء، وتنهاهم عن القتال في الأشهر الحرم وفي الأماكن المقدسة إلا إذا قاتلهم المشركون فيها، كما تنهاهم عن قتالهم إذا ما انتهوا عن عدوانهم وكفرهم، لأن شريعة القرآن تستجيب لداعي السلّم متى كف المعتدون عن العدوان، واحترموا كلمة الإسلام.
وبذلك نرى أن القتال في الإسلام ليس من أجل الغنائم، أو الاستغلال أو الاستعباد، أو التباهي.. كلا ليس لأجل شيء من هذا، وإنما هو من أجل الدفاع عن الحق وأهله، حتى تكون كلمته هي العليا وكلمة الباطل هي السفلى، وبهذا تسعد الإنسانية، وتنال ما تصبو إليه من عزة وفلاح.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٦]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)
تعتبر هذه الآية الكريمة من أجمع الآيات التي وردت في القرآن الكريم مبينة ما يتعلق بأحكام الحج وآدابه، وسنحاول- بعون الله- أن نبين ما اشتملت عليه من آداب سامية، وتوجيهات حكيمة، بأسلوب هو إلى الإيجاز أقرب منه إلى الإسهاب والإطناب، قاصدين عدم التعرض لتفريعات الفقهاء واختلافاتهم إلا بالقدر الذي يقتضيه المقام.
والحج في اللغة: القصد يقال حج فلان الشيء: إذا قصده مرة بعد أخرى.
وفي الشرع: القصد لزيارة بيت الله الحرام في وقت مخصوص بأفعال مخصوصة، وبكيفية مخصوصة، بينتها الشريعة الإسلامية.
والعمرة في اللغة: الزيارة، مأخوذة من العمارة التي هي ضد الخراب ثم أطلقت على الزيارة التي يقصد بها عمارة المكان.
وقد كانت شعيرة الحج والعمرة معروفتين عند العرب قبل الإسلام، ولكن بأفعال وبكيفية فيها الكثير من الأباطيل والأوهام، فجاءت شريعة الإسلام فوضعت لهما أفضل الأحكام، وأسمى الآداب، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين أن يسيروا في أدائهما على الطريقة التي سار عليها فقال: «خذوا عنى مناسككم».
قال ابن كثير: «وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معا في ذي القعدة سنة عشر. وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته» «١».
وقد اختلف العلماء في المقصود من الإتمام في قوله- تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فبعضهم يرى أن المراد بإتمامهما: إقامتهما وإيجادهما وإنشاؤهما فيكون المعنى: أقيموا الحج والعمرة لله: أى أدوهما وائتوا بهما. فالأمر في «أتموا» منصب على الإنشاء والأداء. فهو كقوله- تعالى-: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وأصحاب هذا الرأى يرون أن العمرة واجبه كالحج، لأن الله- تعالى- أمر بهما معا، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «تابعوا بين الحج والعمرة..».
وإلى هذا الرأى اتجه سعيد بن جبير، وعطاء، وسفيان الثوري، والشافعية.
ويرى كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء كالأحناف والمالكية- أن المراد بإتمامهما: الإتيان بهما تامين بمناسكهما المشروعة لوجه الله- تعالى- وأن على المسلّم إذا شرع فيهما أو في أحدهما أن يتمه ويأتى به كاملا، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في عمرة القضاء.
فيكون المعنى: ائتوا بالحج والعمرة كاملى الأركان والشروط والآداب خالصين لوجه الله- تعالى-.
فالأمر على هذا الرأى منصب على الإتمام لا على أصل الأداء.
وأصحابه يرون أن العمرة ليست واجبة كالحج لعدم قيام الدليل على وجوبها، وليس في الآية ما يفيد الوجوب، بل فيها ما يفيد وجوب الإتمام إن شرع فيهما أو في أحدهما. وفرضية الحج إنما ثبتت بقوله- تعالى-: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
وأيضا، فإن أركان العمرة وأفعالها تدخل في ثنايا أفعال الحج وأركانه، ولذلك ورد في الحديث
ومجمل القول أن فرضية الحج مجمع عليها بين العلماء، وأما فرضية العمرة ففيها خلاف، انتصر كثير من العلماء فيه للرأى القائل بأنها ليست فرضا كالحج، بل هي سنة.
وقد كانت فرضية الحج في السنة التاسعة من الهجرة على أرجح الروايات. ويرى بعض العلماء أن الحج قد فرض قبل ذلك، إلا أن تنفيذه لم يتم إلا في السنة التاسعة عند ما أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر أميرا على الحج، وكان ذلك تمهيدا لحجه صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر.
وقد أمر- سبحانه- بإتمام الحج والعمرة لله دون غيره لأن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر، والتفاخر، وقضاء الحوائج، وحضور الأسواق، دون أن يكون لله- تعالى- فيه حظ يقصد، ولا قربة تعتقد، فأمر- سبحانه- المسلمين أن ينزهوا عباداتهم- وخصوصا الحج- عن الأقوال السيئة، والأفعال القبيحة، وأن يقصدوا بأداء ما كلفهم الله به الإخلاص والطاعة له- سبحانه-.
وبعد أن أمر الله- تعالى- عباده بأن يتموا الحج والعمرة له، أردف ذلك ببيان ما يجب عليهم عمله فيما لو حال حائل بينهم وبين إتمامهما فقال: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ والإحصار والحصر في اللغة: بمعنى الحبس والمنع والتضييق سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو جور سلطان أو ما يشبه ذلك. قال- تعالى- في شأن قتال المشركين: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ «١» أى: ضيقوا عليهم المنافذ. ويقال للذي لا يبوح بسره: حصر لأنه حبس نفسه عن البوح بسره.
ويرى بعض علماء اللغة أن الإحصار يكون الحبس والمنع فيه من ذات الشخص كالمرض وذهاب النفقة، وأما الحصر فيكون الحبس والمنع فيه لا من ذات الشخص، بل بسبب أمر خارجى كالعدو ونحوه.
الْهَدْيِ: - بتخفيف الياء وتشديدها- مصدر بمعنى المفعول، أى: المهدى والمراد به ما يهدى إلى بيت الله الحرام من الإبل والبقرة والشاة ليذبح تقربا إلى الله- تعالى-.
واسْتَيْسَرَ هنا بمعنى يسر وتيسر أى: ما أمكن تحصيله من الهدى بدون مشقة أو تعب.
والمعنى: أتموا- أيها المؤمنون- الحج والعمرة لله متى قدرتم على ذلك، فإن أُحْصِرْتُمْ
وبعض العلماء- كالشافعية والمالكية- يرون أن المراد بالإحصار في الآية ما كان بسبب عدو، كما حدث للمسلمين في صلح الحديبية، أما إذا كان الإحصار بسبب مرض، فإن الحاج أو المعتمر يبقى على إحرامه حتى يبرأ من مرضه ثم يذهب إلى البيت فيطوف به سبعا، ويسعى بين الصفا والمروة، وبهذا يتحلل من عمرته أو حجه، ولا يتحلل بالذبح، إذ التحلل بالذبح عندهم لا يكون إلا في حالة الإحصار بسبب العدو. أما الأحناف فيرون أن الإحصار سواء أكان بسبب عدو أو مرض أو ما يشبههما فإنه يسيغ التحلل بالذبح، إذ الآية عندهم تعم كل منع، وعلى من أحصر أن يقضى الحج أو العمرة فيما بعد.
وفي هذه الجملة الكريمة تقرير للمبادئ التي جاءت بها شريعة الإسلام تلك المبادئ التي تتوخى في كل شئونها التيسير لا التعسير، والرفق لا التشديد قال- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «١» وقال- تعالى-: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «٢».
ثم قال- تعالى-: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.
حلق الرأس أو تقصيرها علامة على الانتهاء من الإحرام، كما أن التسليم علامة الانتهاء من الصلاة، أو علامة قطعهما عند الاضطرار إلى ذلك. والحلق بالنسبة للرجال أفضل من التقصير، فقد أخرج الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: يا رسول الله وللمقصرين. قال: اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: يا رسول الله وللمقصرين. قال: وللمقصرين» «٣». أما بالنسبة للنساء فيكفى التقصير.
والمحل: اسم لزمان الحلول أو مكانه. يقال: بلغ الدين محله إذا حل وقت أدائه، كما يقال: بلغ الشخص محله إذا وصل إلى المكان الذي ينزل به.
قال الآلوسى: وكون المراد بالمحل هنا المكان هو الظاهر في الآية.
والمعنى: أتموا الحج والعمرة لله، فإن منعتم من إتمامهما وأنتم محرمون فعليكم إذا أردتم التحلل أن تذبحوا ما تيسر لكم من الهدى، ولا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تعلموا أن الهدى المبعوث قد بلغ مكانه الذي يجب أن يراق فيه دمه، وهو الحرم.
(٢) سورة الحج الآية ٧٨.
(٣) الترغيب والترهيب للمنذرى ج ٢ ص ٢٠٨.
أما جمهور الفقهاء فيرون أن محل الهدى للمحصر هو المكان الذي حدث فيه الإحصار، ودليلهم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد نحر هو وأصحابه هديهم بالحديبية وهي ليست من الحرم، وذلك عند ما منعه المشركون من دخول مكة.
وقد أجاب الأحناف على ذلك بأن محصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما يقول الآلوسى- «٢» كان في طريق الحديبية بأسفل مكة، والحديبية متصلة بالحرم.
وعلى رأى جمهور الفقهاء يكون المعنى: ولا تتحللوا من إحرامكم بالحلق حتى تذبحوا الهدى في الموضع الذي أحصرتم فيه، فإذا تم الذبح فاحلقوا وتحللوا. والخطاب على كلا المعنيين يكون للمحصرين، لأنه أقرب مذكور.
ويرى المحققون من العلماء أن رأى جمهور الفقهاء أكثر اتفاقا مع السنة النبوية، وفيه تسهيل على المحصرين، والمناسب لهم هو التيسير لا التعسير، ولا شك أن ذبحهم لهديهم في مكان إحصارهم أيسر لهم، وحملوا قوله- تعالى-: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ على أنه خطاب عام لجميع المكلفين لا فرق بين محصر وغير محصر، وأن المقصود من الجملة الكريمة هو البيان العام لمكان التحلل وزمانه، أما مكان الذبح عند الإحصار فقد بينه النبي صلّى الله عليه وسلّم بذبحه لهديه في الحديبية وهي ليست من الحرم عند المحققين.
قال الإمام الرازي: ومنشأ الخلاف البحث في تفسير هذه الآية، فقد قال الشافعى وغيره:
المحل في هذه الآية اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل وقال أبو حنيفة: إنه اسم للمكان «٣».
وبعد أن بين- سبحانه- أن الحلق لا يجوز للمحرم ما دام مستمرا على إحرامه، أردف ذلك ببيان بعض الحالات التي يجوز فيها للمحرم أن يحلق رأسه مع استمراره على إحرامه فقال- تعالى-: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
أى: فمن كان منكم- أيها المحرمون- مريضا بمرض يضطر معه إلى الحلق، أو كان به أذى
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ٨١.
(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٦٣.
وقوله: فَفِدْيَةٌ مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. أى: فعليه فدية، وأيضا ففيه إضمار آخر والتقدير: فحلق فعليه فدية.
والفدية: هي العوض عن الشيء الجليل النفيس. ولا ريب أن محرمات الحج والعمرة أمور لها جلالها وعظمها.
وعبر- سبحانه- هنا بالفدية دون الكفارة، لأن الذي به مرض أو أذى من رأسه لم يرتكب ذنبا أو إثما حتى يكفر عنه.
قال القرطبي: والنسك: جمع نسيكه، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله- تعالى- وتكون من الإبل والبقر والغنم- ويجمع- أيضا- على نسائك. والنسك: العبادة في الأصل، ومنه قوله- تعالى-: وَأَرِنا مَناسِكَنا أى: متعبداتنا. وقيل: أصل النسك في اللغة الغسل ومنه نسك ثوبه إذا غسله، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة. وقيل: النسك سبائك الفضة التي خلصت من الخبث، كل سبيكة منها نسيكة، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام» «١».
وقوله- تعالى-: مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ بيان لجنس الفدية.
وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدار هذه الفدية، فقد روى الشيخان عن كعب بن عجرة الأنصارى قال: حملت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والقمل يتناثر على وجهى فقال: ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا... أما تجد شاة؟ قلت: لا!! قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك. فنزلت فىّ خاصة وهي لكم عامة.
فقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدار الفدية في هذا الحديث، وعامة العلماء يرون أن المحرم لعذر كهذا يخير في هذا المقام، إن شاء صام وإن شاء تصدق وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على المساكين.
قال ابن كثير: ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل، ولما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم كعب بن عجرة بذلك أرشده أولا إلى الأفضل فقال: أما تجد شاه؟ فكل حسن في مقامه» «٢».
وبعد أن بين- سبحانه كيفية التحلل عند الإحصار، وكيفية التحلل الجزئى من بعض
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٣٣.
وقوله: فَإِذا أَمِنْتُمْ الأمن ضد الخوف. أى: فإذا زال خوفكم وثبت أمنكم والجملة معطوفة على قوله أُحْصِرْتُمْ وجيء بإذا لأن فعل الشرط وهو أَمِنْتُمْ مرغوب فيه.
وقوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ جواب إذا. والتمتع في اللغة- كما قال الإمام الرازي- التلذذ.
يقال: تمتع بالشيء إذا تلذذ به. والمتاع كل شيء يتمتع به، وأصله من قولهم: حبل ماتع، أى: طويل. وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به «١».
والمراد بالتمتع في الآية المعنى الشرعي بأن يجمع المسلم بين العمرة والحج في عام واحد في أشهر لحج، بأن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج.
وسمى هذا النوع من الإحرام تمتعا، لأن المحرم به يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد.
لأنه يحرم بالعمرة أولا ويقوم بمناسكها وتلك متعة روحية وبعد الانتهاء من أدائها يتحلل فيجوز له أن يقرب النساء ويمس الطيب حتى يحرم بالحج وتلك متعة بدنية.
وهناك نوعان آخران من الإحرام.
أحدهما: الإفراد ومعناه: أن يحرم بالحج فقط ولا يجمع معه العمرة، وإنما يأتى بها في وقت آخر.
وثانيهما: القران ومعناه: أن يجمع بين العمرة والحج في إحرام واحد، بأن يبقى على إحرامه ويأتى بمناسك الحج والعمرة بالإحرام نفسه.
والمعنى: فإذا ثبت أمنكم- أيها المسلمون- عند أدائكم للحج والعمرة، فمن تمتع منكم بالعمرة إلى الحج، بأن أحرم بها في أشهر الحج، ثم بعد الانتهاء من أعمالها تحلل بأن حلق رأسه، وباشر أهله إن كانوا معه، وانتظر متحللا وصار من حقه أن يفعل كل ما يفعله من ليس محرما إلى وقت الإحرام بالحج، فعليه في هذه الحالة أن يذبح ما تيسر له من الهدى من غنم أو بقر أو إبل ليكون هذا الذبح شكرا لله حيث وفقه- سبحانه- للجمع بين النسكين مع التمتع بينهما بأفعال المتحلل، فمن لم يجد ما يذبحه فعليه أن يصوم ثلاثة أيام في وقت الحج وأن يصوم سبعة أيام بعد فراغه منه.
وقد جعل- سبحانه- الصيام بدلا عن الهدى زيادة في الرخصة والرحمة وزيادة في الرفق والتيسير فقد جعله على مرحلتين:
إحداهما: - وهي الأقل- تكون في وقت الحج، ويفضل كثير من الفقهاء أن يصوم سادس ذي الحجة وسابعه وثامنه.
وثانيتهما: - وهي الأكثر- تكون بعد الرجوع إلى أهله حيث يطمئن ويستقر وتذهب مشقة السفر فيصوم سبعة أيام.
وبعض الفقهاء يرى جواز الصيام عند الأخذ في الرجوع بعد الفراغ من أعمال الحج، ويرجح الوجه الأول ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر وفيه: «فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» «١».
والإشارة في قوله- تعالى-: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ إلى الثلاثة والسبعة. ومميز العدد محذوف أى: أيام. والجملة مؤكدة لما أفاده قوله: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ وفائدة هذا التأكيد دفع توهم أن الواو بمعنى أو، أو أن السبعة كناية عن مطلق كثرة العدد، وبذلك يتقرر الحكم نصا، ويتبين أن الذي يحل محل النسك إنما هو العشرة الكاملة وليس بعضها.
ووصف العشرة بأنها كاملة، للتنويه بأن هذا الصوم طريق الكمال لأعمال الحج، وأن الحاج إذا نسى بعضها لا يكون حجه تاما حتى يصوم ما أمره الله- تعالى- به.
وقوله: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الإشارة فيه تعود إلى التمتع المفهوم من قوله- تعالى-: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ.. إلخ.
أى: ذلك التمتع الذي يتمتع فيه المحرم بين النسكين، إنما هو للشخص الذي ليس أهله من المقيمين في مكة وما حولها، لأن المقيمين في مكة وما حولها يفردون ولا يجمعون، إذ العمرة في إمكانهم أن يؤدوها طول أيام السنة.
وقد شرع- سبحانه- التمتع ليكون تيسيرا ورفقا للمقيمين بعيدا عن مكة هذا رأى الأحناف.
وعلى رأيهم يكون المعنى: ذلك الذبح لما تيسر من الهدى والصيام لمن لم يتيسر له الهدى إنما هو على سكان الآفاق، لا على سكان مكة وما حولها، لأن سكان مكة وما حولها قد أحرموا لتمتعهم من الميقات فلا يجب عليهم شيء.
والمراد بحاضرى المسجد الحرام: أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل الميقات عند الحنفية. وقال المالكية: هم أهل مكة خاصة. وقال الشافعية: هم أهل مكة ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة. ولكل أدلته المفصلة في كتب الفقه.
ثم ختم- سبحانه- الآية بالأمر بتقواه وبالتحذير من عقابه فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
أى: واتقوا الله في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن لم يخشه ولم يلتزم حدوده.
وفي هذا الأمر بالتقوى في ختام هذه الآية التي تحدثت عن الحج إشعار بأن هذه الفريضة ليست العبرة فيها بما تعمله الجوارح وإنما العبرة بما تتركه في القلوب من توبة صادقة، وصيانة للنفس عن اقتراف المحارم.
وفي قوله: وَاعْلَمُوا اهتمام بالخبر، وتحقيق لمضمونه، وترهيب من العقاب مع الترغيب بالثواب، فقد جرت عادة الناس أنهم يصلحون بالثواب والعقاب.
هذا، وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على بعض الأحكام التي تتعلق بالحج والعمرة، والمتدبر في هذه الأحكام يراها قد امتازت بأحكم ضروب التوجيه، وأيسر أنواع التكليف.
ثم بين- سبحانه- وقت الحج وما يجب على المسلّم عند أدائه لهذه الفريضة من آداب فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٧ الى ٢٠٣]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١)
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
أى: وقت الحج أشهر معلومات أو أشهر الحج أشهر معلومات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وجعلت النسبة إلى الحج نفسه لا إلى وقته، للإشعار بأن هذه الأشهر لكونها تؤدى فيها هذه الفريضة قد اكتسبت تقديسا وبركة منها، حتى لكأن هذه الأشهر هي الفريضة نفسها.
إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم يوجب دما على من أخر طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة لأنه وقع في أشهر الحج، ومن قال بأن وقت الحج ينقضي بالعشرة الأولى من ذي الحجة يوجب الدم عليه لتأخيره عن وقته. ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث، لأن بعض الشهر ينزل منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا ولعله إنما رآه في ساعة منها» «١».
وعبر- سبحانه- عن هذه الأشهر بأنها معلومات، لأن العرب كانوا يعرفون أشهر الحج من كل عام منذ عهد إبراهيم- عليه السلام- وقد جاء الإسلام مقررا لما عرفوه. أو المراد بكونها معلومات أنها مؤقتة بأوقات معينة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها عنها، وهو يتضمن بطلان النسيء الذي كان يفعله الجاهليون تبعا لأهوائهم.
وقوله: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ بيان لما يحب أن يتحلى به المسلّم من فضائل عند أدائه لهذه الفريضة.
قال الإمام الرازي: ومعنى فَرَضَ في اللغة ألزم وأوجب. يقال: فرضت عليك كذا، أى أوجبته. وأصل معنى الفرض في اللغة الحز الذي يقع فيه الوتر، ومنه فرض الصلاة وغيرها لأنها لازمة للعبد كلزوم الحز للقدح ففرض هنا بمعنى أوجب وألزم... » «٢».
والرفث في الأصل: الفحش من القول. والمراد به هنا الجماع. أو الكلام المتضمن لما يستقبح ذكره من الجماع ودواعيه.
قال القرطبي: وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج وعليه حج قابل والهدى.
والفسوق: الخروج عن طاعة الله بارتكاب المعاصي، ومن ذلك السباب وفعل محظورات الإحرام، وغير ذلك مما نهى الله عنه، والجدال على وزن فعال من المجادلة وهي مشتقة من الجدل وهو الفتل ومنه: زمام مجدول.
وقيل: هي مشتقة من الجدالة التي هي الأرض. فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه، فيكون كمن ضرب به الجدالة.
والمراد النهى عن المماراة والمنازعة التي تؤدى إلى البغضاء وتغير القلوب.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ١٧٨.
روى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».
قال الآلوسى: وقال- سبحانه- فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ بالإظهار ولم يقل فيه مع أن المقام يقتضى الإضمار، لإظهار كمال الاعتناء بشأنه، وللإشعار بعلة الحكم، فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها إلى الله- تعالى- من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك. وإيثار النفي للمبالغة في النهى، والدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه منهيا عنه مطلقا فهو للمحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر وأقبح «١» ».
والضمير في قوله: فِيهِنَّ للأشهر، لأنه جمع لغير العاقل فيجري على التأنيث.
وجملة فَلا رَفَثَ.. إلخ في محل جزم جواب من الشرطية والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى فَلا رَفَثَ من ضمير يعود على «من»، لأن التقدير فلا يرفث.
ويجوز أن تكون جملة فَلا رَفَثَ.. وما عطف عليها في محل رفع خبر لمن على أنها موصولة.
وقد أخذ الشافعية من هذه الآية أنه لا يجوز الإحرام بالحج في غير أشهر الحج لأن الإحرام به في غير أشهره يكون شروعا في العبادة في غير وقتها فلا تصح ويرى الأحناف والحنابلة، أنه يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره ولكنه مع الكراهة: والإمام مالك لا يرى كراهة في ذلك.
ويبدو أن رأى الشافعية هنا أرجح، لأن قوله- تعالى-: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ..
يشهد لهم، فقد جعل- سبحانه- هذه الأشهر وعاء لهذه الفريضة وظرفا لها.
وقوله: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ حض على فعل الخير عقيب النهى عن فعل الشر.
أى: اتركوا الأقوال والأفعال القبيحة، وسارعوا إلى الأعمال الصالحة خصوصا في تلك
ثم قال- تعالى-: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى.
قال الإمام الرازي: في هذه الجملة الكريمة قولان:
أحدهما: أن المراد وتزودوا من التقوى- أى الأعمال الصالحة- والدليل عليه قوله بعد ذلك فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وتحقيق الكلام فيه أن الإنسان له سفران: سفر في الدنيا وسفر من الدنيا، فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد وهو الطعام والشراب والمال.. إلخ. والسفر من الدنيا لا بد له أيضا من زاد وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لأن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم.. قال الأعشى مقررا هذا المعنى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى | ولاقيت بعد الموت من قد تزودا |
ندمت على أن لا تكون كمثله | وأنك لم ترصد بما كان أرصدا |
والذي نراه أن الجملة الكريمة تسع القولين. فهي تدعو الناس إلى أن يتزودوا بالزاد المعنوي النفسي الذي يسعدهم ألا وهو تقوى الله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والإكثار من العمل الصالح وفي الوقت نفسه هي تأمرهم- أيضا- بأن يتزودوا بالزاد المادي الحقيقي الذي يغنيهم عن سؤال الناس، ويصون لهم ماء وجوههم.
وبذلك نكون قد استعملنا اللفظ في حقيقته ومجازه، وهو استعمال شائع مستساغ عند كثير من العلماء.
ثم ختم- سبحانه- الآية بتأكيد أمر التقوى ووجوب الإخلاص فقال: وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ والألباب: جمع لب وهو العقل واللب من كل شيء: هو الخالص منه. وسمى به العقل، لأنه أشرف ما في الإنسان.
أى: أخلصوا لي يا أصحاب العقول السليمة، والمدارك الواعية، لأنكم لما كنتم كذلك كان وجوبها عليكم أثبت، وإعراضكم عنها أقبح. ورحم الله القائل:
ولم أر في عيوب الناس عيبا | كنقص القادرين على التمام |
ثم بين- سبحانه- أن التزود بالزاد الروحي لا يتنافى مع التزود يا لزاد المادي متى توافرت التقوى، فقال- تعالى-: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
الجناح: أصله من جنح الشيء إذا مال: يقال جنحت السفينة إذا مالت إلى أحد جانبيها.
والمراد بالجناح هنا الإثم والذنب، لأنه لما كان الإثم يميل بالإنسان عن الحق إلى الباطل سمى جناحا.
والابتغاء: الطلب بشدة، وجملة أَنْ تَبْتَغُوا في موضع جر بتقدير في.
والفضل: الزيادة وتكون في الخير والشر إلا أنه جرى العرف أن يعبر عن الزيادة الحسنة بالفضل وعن الزيادة القبيحة بالفضول.
والمراد به هنا: المال الحلال المكتسب عن طريق التجارة المشروعة أو غيرها من وجوه الرزق الحلال.
أى: لا إثم ولا حرج عليكم في أن تطلبوا رزقا حلالا ومالا طيبا عن طريق التجارة أو غيرها من وسائل الكسب المشروعة في موسم الحج.
وقد ذكر المفسرون أن الناس كانوا يتحاشون من التجارة في الحج، حتى إنهم كانوا يتجنبون البيع والشراء في العشر الأوائل من ذي الحجة، فنزلت هذه الآية لتخبرهم أنه لا حرج عليهم في ذلك.
روى البخاري عن ابن عباس قال: كان ذو المجاز «١» وعكاظ متجر الناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
وقال ابن كثير: وروى الإمام أحمد عن أبى أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا نكري فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت وترمون الجمار وتحلقون رءوسكم وتقضون المناسك قال: قلت بلى. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن الذي سألتنى فلم
فالآية الكريمة صريحة في إباحة طلب الرزق لمن هو في حاجة إلى ذلك في موسم الحج، بشرط ألا يشغله عن أداء فرائض الله.
ثم قال- تعالى-: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ.
الفاء في قوله: فإذا لتفصيل بعض ما أجمل من قبل في قوله فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ..
وأفضتم. اندفعتم بكثرة متزاحمين. وذلك تشبيه لهم بالماء إذا كثر ودفع بعضه بعضا فانتشر وسال من حافتي الوادي والإناء والإفاضة في الحديث الاندفاع فيه بإكثار وتصرف في وجوهه ومنه قوله- تعالى- إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ. فأصل هذه الكلمة الدفع للشيء بكثرة حتى يتفرق.
والتقدير: أفضتم أنفسكم فحذف المفعول للعلم به.
والمراد: خروجهم من عرفات بشيء من السرعة في تكاثر وازدحام متجهين إلى المزدلفة.
وعرفات: اسم للجبل المعروف، قيل سمى بذلك لأن الناس يتعارفون به فهم يجتمعون عليه في وقت واحد فيجري التعارف بينهم.
وقد اتفق العلماء على أن الوقوف بعرفات هو ركن الحج الأكبر ففي الحديث الشريف «الحج عرفة» ويكون ذلك في اليوم التاسع من ذي الحجة.
قال القرطبي: أجمع أهل العلم على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك قبل الزوال. وأجمعوا على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض نهارا قبل الليل إلا مالك بن أنس فإنه قال: لا بد أن يأخذ من الليل شيئا، وأما من وقف بعرفة بالليل فإنه لا خلاف بين الأمة في تمام حجه. والحجة للجمهور مطلق قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ: فإنه لم يختص ليلا من نهار. وحديث عروة بن مضرس قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في الموقف من جمع- أى من المزدلفة- فقلت: يا رسول الله، جئتك من جبل طيئ أكللت مطيتي وأتعبت نفسي.. فهل لي من حج يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من صلّى معنا صلاة الغداة بجمع وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه «٢» ».
(٢) تفسير القرطبي ج ٢ ص ٤١٥.
والمشعر الحرام: هو المزدلفة وقيل هو موضع بها. والمشعر: اسم مشتق من الشعور أى:
العلم، أو من الشعار أى: العلامة.
ووصف المشعر بوصف الحرام لأنه من أرض الحرم، وهو منسك له حرمة وتقديس.
والمزدلفة من الازدلاف وهو القرب وسميت بذلك لأن الحجاج يزدلفون إليها من عرفات ليبيتوا بها قاصدين الاقتراب من منى.
وتسمى المزدلفة- أيضا- «جمع» لاجتماع الناس في هذا المكان أو جمعهم فيه بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير. وتسمى كذلك «قزح».
ويرى الحنفية والشافعية أن الوقوف بالمزدلفة واجب وليس بركن، ومن فاته لا يبطل حجه ويجب عليه دم.
ويرى أكثر المالكية أن الوقوف بها سنة مؤكدة.
ويرى بعض التابعين وبعض الشافعية أن الوقوف بها ركن كالوقوف بعرفات والمعنى: فإذا سرتم- يا معشر الحجاج- من عرفات متدافعين متزاحمين متجهين إلى المزدلفة فأكثروا من ذكر الله- تعالى- بالتلبية والتهليل والدعاء بقلوب مخبتة، ونفوس صافية، لأن ذكر الله- تعالى- في تلك المواطن المقدسة والأوقات الفاضلة من شأنه أن يرفع الدرجات، ويوصل إلى أعلا المقامات.
ثم قال- تعالى-: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ الكاف للتشبيه. ومعنى التشبيه في مثل هذا التركيب المشابهة في التساوي في الحسن والكمال. كما تقول: اخدمه كما أكرمك تعنى:
لا تتقاصر خدمتك عن إكرامه.
والمعنى: اذكروا الله- تعالى- ذكرا حسنا مماثلا لهدايته لكم، وأنتم تعلمون أن هذه الهداية شأنها عظيم فبسببها خرجتم من الظلمات إلى النور، فيجب عليكم أن تكثروا من ذكر الله ومن الثناء عليه.
قال الآلوسى: و «ما» تحتمل أن تكون مصدرية فمحل كَما هَداكُمْ النصب على المصدرية، بحذف الموصوف. أى: ذكرا مماثلا لهداكم.. وتحتمل أن تكون كافة فلا محل لها من الإعراب. والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة، لذا لا تطلب عاملا تفضى بمعناه إلى مدخولها. وقيل: إن الكاف للتعليل، وما مصدرية. أى، اذكروه وعظموه لأجل
وأَنْ في قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ هي المخففة من الثقيلة والضمير في مِنْ قَبْلِهِ يعود إلى الهدى المأخوذ من ما المصدرية وما دخلت عليه والمراد بالضلال هنا: الجهل بالإيمان وبالتكاليف التي كلف الله بها عباده.
أى: اذكروا الله- تعالى- ذكرا مشابها لهدايته لكم، وإنكم لولا هذه الهداية لبقيتم على ضلالكم وجهلكم بالدين الحق، ولكن الله- تعالى- من عليكم بهذه الهداية فأكثروا من ذكره وشكره عليها.
وبعد أن تحدث- سبحانه- عن الإفاضة من عرفة إلى المزدلفة وأمر بالإكثار من ذكره، عقب ذلك ببيان الطريقة المثلى للإفاضة فقال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ:
أى: أفيضوا من عرفة لا من المزدلفة. وهناك قولان في المخاطب بهذه الآية.
أحدهما: أن الخطاب فيها لقريش وحلفائها، وذلك لأنهم كانوا يترفعون على الناس، فلا يقفون معهم على عرفات، وإنما يقفون وحدهم بالمزدلفة، وكانوا يقولون: نحن قطين الله- أى سكان حرمه فينبغي لنا أن نعظم الحرم- وهو المزدلفة- ولا نعظم شيئا من الحل- وهو عرفات-.
روى البخاري عن عائشة- رضي الله عنها- قالت، كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يأتى عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ.
والمعنى: أفيضوا يا معشر قريش من المكان الذي يفيض منه الناس وهو عرفة، واتركوا ما تفعلونه من الإفاضة من المزدلفة، فالمقصود إبطال ما كانت تفعله قريش.
والثاني: أن الخطاب في الآية لجميع الناس، أمرهم الله- تعالى- فيه أن يفيضوا من حيث أفاض الناس.
والمراد بالناس في الآية إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- فإن سنتهما كانت الإفاضة من عرفة لا من المزدلفة.
والذي نراه أن القول الثاني أولى بالقبول، لأن المغزى الذي تهدف إليه الآية في معناها الخاص والعام هو دعوة الناس جميعا إلى التجمع في مكان واحد ليشعروا بالإخاء والمساواة عند أدائهم لفريضة الحج بدون تفرقة بين كبير وصغير، وغنى وفقير، وقرشي وغير قرشي، ويدخل في النهى دخولا أوليا تلك الحالة التي كانت عليها قريش. وقد قال العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
و «ثم» للتفاوت المعنوي بين الإفاضتين- أى الإفاضة من عرفات والإفاضة من مزدلفة- لبيان البعد بينهما، إذ أن إحداهما صواب والأخرى خطأ.
أى: لا تفيضوا من المزدلفة لأنه خطأ جسيم، واجعلوا إفاضتكم من عرفات لأن هذا العمل هو الصواب الذي يحبه الله ويرضاه.
وقوله: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ معطوف على أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أى: استغفروا الله من ذنوبكم ومما سلف منكم من أخطاء فإن المؤمن كلما قويت روحه، وصفت نفسه أحس بأنه مقصر أمام نعم خالقه التي لا تحصى. ومن أكثر من التوبة والاستغفار غفر الله له ما فرط منه، لأنه- سبحانه- كثير الغفران، واسع الرحمة.
ثم بين- سبحانه- ما يجب عليهم عمله بعد فراغهم من أعمال الحج فقال- تعالى-:
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً.
المناسك: جمع منسك مشتق من نسك نسكا من باب نصر إذا تعبد. والمراد هنا العبادات التي تتعلق بالحج.
قال ابن كثير: عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم- بين مسجد منى وبين الجبل بعد فراغهم من الحج يذكرون فضائل آبائهم- فيقول الرجل منهم. كان أبى يطعم الطعام ويحمل الديات... ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله- تعالى- على نبيه صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية» «١».
والمعنى: فإذا فرغتم من عباداتكم، وأديتم أعمال حجكم، فتوفروا على ذكر الله وطاعته كما كنتم تتوفرون على ذكر مفاخر آبائكم، بل عليكم أن تجعلوا ذكركم لله- تعالى- أشد وأكثر من ذكركم لمآثر آبائكم، لأن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذبا أدى إلى الخزي في الدنيا والعقوبة
فالمقصود من الآية الكريمة الحث على ذكر الله- تعالى- والنهى عن التفاخر بالأحساب والأنساب.
و «أو» هنا في معنى الإضراب والترقي إلى أعلى، لأنه.. سبحانه أمرهم أولا بأن يذكروه ذكرا يماثل ذكرهم لآبائهم ثم ترقى بهم إلى ما هو أعلى من ذلك وأسمى فطالبهم بأن يكون ذكرهم له- سبحانه- أكثر وأعظم من ذكرهم لآبائهم.
قال صاحب الكشاف: وقوله: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: «كذكركم» كما تقول كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرا. أو في موضع نصب عطف على آباءَكُمْ بمعنى، أو أشد ذكرا من آبائكم. «١»
وبعد أن أمر- سبحانه- الناس بذكره، بين أنهم بالنسبة لدعائه وسؤاله فريقان، أما الفريق الأول فقد عبر عنه بقوله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.
أى: من الناس نوع يقول في دعائه يا ربنا آتنا ما نرغبه في الدنيا فنحن لا نطلب غيرها، وهذا النوع ليس له في الآخرة من خَلاقٍ أى: نصيب وحظ من الخير.
وهذا النوع من الناس هو الذي استولى عليه حب الدنيا وشهواتها ومتعها فأصبح لا يفكر إلا فيها، ولا يهتم إلا بها، صارفا نظره عن الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب.
والفاء في قوله: فَمِنَ النَّاسِ للتفصيل، لأن ما بعدها تقسيم للناس إلى فريقين.
وحذف مفعول آتِنا للدلالة على تعميم المطلوب فهم يطلبون كل ما يمكن أن تصل إليه أيديهم من متاع الدنيا بدون تمييز بين حلال أو حرام. وأما الفريق الثاني فقد عبر- سبحانه- عنه بقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
أى: يقولون يا ربنا اعطنا حسنة في الدنيا أى: حالا حسنة في الدنيا تكون معها أبداننا سليمة، ونفوسنا آمنة، ومعيشتنا ميسرة بحيث لا نحتاج إلى أحد سواك، ولا نذل إلا لك، وامنحنا حالا حسنة في الآخرة بأن تجعلنا يوم لقائك ممن رضيت عنهم، ورضوا عنك. وأبعدنا يوم القيامة من عذاب النار. ولم يذكر- سبحانه- قسما ثالثا من الناس وهو الذي يطلب الآخرة
وبين- سبحانه- أن هذا النوع الثاني من الناس قد التمس من خالقه أن يقيه عذاب النار مع أن هذا الدعاء مندرج تحت حسنة الآخرة، وذلك لأن هذا النوع من الناس لقوة إيمانه، وصفاء وجدانه، وشدة خشيته من ربه يغلب الخوف على الرجاء، فهو يستصغر حسناته مهما كثرت بجانب نعم الله وفضله، ويلح في الدعاء وفي الطلب أملا في الاستجابة.
وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية الكريمة من جوامع الدعاء، وورد في فضل الدعاء بها أحاديث كثيرة منها ما رواه البخاري عن أنس بن مالك قال كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».
وروى ابن أبى حاتم عن عبد السلام بن شداد قال: كنت عند أنس بن مالك فقال له ثابت: إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم. فقال: «اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» وتحدثوا حتى إذا أرادوا القيام قال: يا أبا حمزة إن إخوانك يريدون القيام فادع الله لهم فقال: أتريدون أن أشقق لكم الأمور!! إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله «١».
قال الإمام الرازي: اعلم أن الله- تعالى- بين أولا تفصيل مناسك الحج، ثم أمر بعدها بالذكر فقال: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ ثم بين أن الأولى أن يترك ذكر غيره وأن يقتصر على ذكره- سبحانه- ثم بين بعد ذلك كيفية الدعاء فقال: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ.. وما أحسن هذا الترتيب فإنه لا بد من تقديم العبادة لكسر النفس وإزالة ظلماتها ثم بعد العبادة لا بد من الاشتغال بذكر الله- تعالى- لتنوير القلب وتجلى نور جلاله.
ثم بعد ذلك الذكر يشتغل الرجل بالدعاء، فإن الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقا بالذكر كما حكى عن إبراهيم- عليه السلام- أنه قدم الذكر فقال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ثم قال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ فقدم الذكر على الدعاء» «٢».
ثم بين- سبحانه- جزاء هذا الفريق الثاني فقال: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٢٠٤.
وقيل: إن الإشارة تعود إلى الفريقين. أى: لكل من الفريقين نصيب من عمله على قدر ما نواه. ويضعفه أن الله- تعالى- قد ذكر قبل ذلك عاقبة الفريق الأول بقوله: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ.
والمعنى: أولئك الذين جمعوا في دعائهم بين طلب حسنتى الدنيا والآخرة لهم نصيب جزيل، وحظ عظيم من جنس ما كسبوا من الأعمال الصالحة، أو من أجل ما كسبوا من الفعال الطيبة.
فحرف الجر «من» يصح أن يكون للابتداء أو للتبعيض.
وفي هذه الجملة الكريمة وعد من الله لعباده أنهم متى تضرعوا إليه بقلب سليم، أجاب لهم دعاءهم، وأعطاهم سؤالهم.
قال القرطبي: وقوله: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ من سرع يسرع- مثل عظم يعظم- فهو سريع. و «الحساب» مصدر كالمحاسبة، وقد يسمى المحسوب حسابا. والحساب: العد.
ويقال: حسب يحسب حسابا وحسابة وحسبانا أى: عد.
والمعنى في الآية: أن الله- تعالى- سريع الحساب لا يحتاج إلى عد ولا إلى عقد ولا إلى إعمال فكر كما يفعله الحساب، ولهذا قال وقوله الحق وَكَفى بِنا حاسِبِينَ. فالله- تعالى- عالم بما للعباد وما عليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمل.
وقيل: سريع المجازاة للعباد بأعمالهم. وقيل لعلى بن أبى طالب: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال: كما يرزقهم في يوم. ومعنى الحساب: تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم وتذكيره إياهم بما قد نسوه. وقيل: معنى الآية سريع بمجيء يوم الحساب، فالمقصود بالآية الإنذار بيوم: القيامة «١».
وقوله: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ معطوف على قوله- تعالى- فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً وما بينهما اعتراض.
والمراد بالأيام المعدودات أيام التشريق الثلاثة التي بعد يوم النحر. والتشريق: تقديد اللحم.
قال القرطبي: ولا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى، وهي أيام التشريق، وأن هذه الثلاثة الأسماء واقعة عليها، وهي أيام رمى الجمار» «٢».
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ ص ١.
ولقد بين لنا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن هذه الأيام ينبغي أن تعمر بذكر الله وبشكره على نعمه.
روى الأمام مسلّم عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله».
وروى البخاري عن ابن عمر: أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه وفي فسطاطه. وفي مجلسه، وفي ممشاه، في تلك الأيام جميعا.
ومن الذكر في تلك الأيام التكبير مع كل حصاة من حصى الجمار كل يوم من أيام التشريق.
فقد أخرج البخاري عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كبر مع كل حصاة.
ويرى جمهور الفقهاء أن هذه الأيام يحرم فيها الصيام، لأنها أيام أكل وشرب وذكر لله.
والمعنى. اذكروا الله، أى: كبروه في أدبار الصلوات وعند ذبح القرابين، وعند رمى الجمار وغيرها في تلك الأيام المعدودات التي هي موسم من مواسم العبادة والطاعات، فإن الإكثار من ذكر الله يرفع الدرجات، ويمسح السيئات.
ثم قال- تعالى-: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى. تعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل، يقال: تعجل الأمر واستعجل.
ويأتيان متعديين فيقال: تعجل الذهاب واستعجله ويرى الزمخشري أن المطاوعة أوفق لقوله- تعالى-: وَمَنْ تَأَخَّرَ.
وإيضاح ذلك: أنه يجب على الحاج المبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق، ليرمى كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة يرمى عند كل جمرة سبع حصيات. ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويترك المبيت بمنى في الليلة الثالثة ورمى يومها بعد الزوال- كما يرى الشافعية- وبعده أو قبله- كما يرى الحنفية- فلا إثم عليه في عدم مبيته بمنى في الليلة الثالثة.
أى: فمن تعجل فسافر في اليومين الأولين فلا إثم عليه في التعجيل، ومن بقي إلى تمام اليوم الثالث فلا إثم عليه كذلك إذا اتقى كل منهما الله ووقف عند حدوده.
فالتقييد بالتقوى للتنبيه إلى أن العبرة في الأفعال إنما هي بتقوى القلوب وطهارتها وسلامتها.
قال الآلوسى: وقوله لِمَنِ اتَّقى خبر لمبتدأ محذوف، واللام إما للتعليل أو للاختصاص.
ثم ختمت الآية بقوله- تعالى-: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ اتقوا الله في كل ما تأتون وما تذرون، واعلموا أنكم ستجمعون بعد تفرقكم وتساقون إلى خالقكم يوم القيامة ليجازيكم على أعمالكم.
وقد ختمت الآيات التي تحدثت عن فريضة الحج بهذا الختام المكون من عنصرين، أحدهما: تقوى الله.
والثاني: العلم اليقيني بالحشر، للإشعار بأنهما خلاصة التدين، وثمرة العبادات بكل أنواعها وكل طرقها، وإذا خلت أية عبادة من هذين العنصرين كانت صورة لا روح فيها.
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد ساقت لنا بعض أحكام الحج وآدابه ومناسكه بأسلوب بهدى القلوب، ويسعد النفوس، ومن شأن من يعمل بهذه الآيات أن يكون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
وبعد أن بين- سبحانه- فريضة الحج وما اشتملت عليه من أحكام وآداب، وبين أصناف الناس في أدعيتهم التي تكشف عن خبايا قلوبهم، ومعادن نفوسهم، بعد أن بين ذلك أعقبه بالحديث عن صنفين من الناس فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)
والثاني: يمثل الأخيار.
أما الصنف الأول فقد وصفه الله- تعالى- بخمس صفات، الصفة الأولى حكاها في قوله:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.
يعجبك: من الإعجاب بمعنى الاستحسان، تقول. أعجبنى هذا الشيء، أى، استحسنته وعظم في نفسي. و «من» للتبعيض.
والمعنى: ومن الناس فريق يروقك منطقهم، ويعجبك بيانهم، ويحسن عندك مقالهم. فأنت معجب بكلامهم الحلو الظاهر، المر الباطن، وأنت في هذه الدنيا لأنك تأخذ الناس بظواهرهم، أما في الآخرة فلن يعجبك أمرهم لأنهم ستنكشف حقائقهم أمام الله الذي لا تخفى عليه خافية، وسيعاقبهم عقابا أليما لإظهارهم القول الجميل وإخفائهم الفعل القبيح.
وعلى هذا التفسير يكون قوله: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلقا بيعجبك.
وبعضهم يجعل قوله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلقا بالقول فيكون المعنى عليه ومن الناس فريق يعجبك قولهم إذا ما تكلموا في شئون الدنيا ومتعها لأنها منتهى آمالهم، ومبلغ علمهم، وأصل حبهم، ومن أحب شيئا أجاد التعبير عنه، أما الآخرة فهم لا يحسنون القول فيها، لأنهم لا يهتمون بها، بل هم غافلون عنها، ومن شأن الغافل عن شيء ألا يحسن القول فيه.
ويبدو لنا أن تعلق الجار والمجرور بيعجبك أرجح، لأنه يتفق مع السياق إذ سياق الحديث في شأن الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويخدعون الناس بمعسول بيانهم مع أن نفوسهم مريضة، وليس في شأن الذين يحسنون الحديث عن شئونها المختلفة، بل إن بعض الذين يحسنون الحديث في شئون الدنيا لم يضيعوا أخراهم وإنما عمروها بالعمل الصالح، فهم جامعون بين حسنتى الدنيا والآخرة.
وكأن هذا النوع المنافق قد رأى من الناس تشككا في قوله، لأن من عادة المنافقين أن يبدو من فلتات لسانهم ما يدل على ما هو مخبوء في نفوسهم فأخذ يوثق قوله بالأيمان الباطلة بأن يقول لمن ارتاب فيه: الله يشهد أنى صادق فيما أقول.. إلى غير ذلك من الأقوال التي يقصد بها تأكيد قوله وصدقه فيما يدعيه، فالمراد بإشهاد الله: الحلف به أن ما في قلبه موافق لقوله.
وجملة وَيُشْهِدُ اللَّهَ حالية أو مستأنفة أو معطوفة على قوله يُعْجِبُكَ.
وقوله- تعالى-: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ صفة ثالثة من صفات هذا النوع من الناس.
قال القرطبي: الألد: الشديد الخصومة والعداوة.. ولددته- بفتح الدال- ألده- بضمها- إذا جادلته فغلبته. والألد مشتق من اللديدين وهما صفحتا العنق، أى: في أى جانب أخذ من الخصومة غلب. والخصام في الآية مصدر خاصم. وقيل جمع خصم كصعب وصعاب.
والمعنى، أشد المخاصمين خصومة، وفي صحيح مسلّم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» «١».
أى: إن هذا النوع من الناس يثير الإعجاب بحسن بيانه، ويضللهم بحلاوة لسانه، ويحلف بالأيمان المغلظة أنه لا يقول إلا الصدق، ويجادل عما يقوله بالباطل بقوة وعنف ومغالبة، فهو بعيد عن طباع المؤمنين الذين إذا قالوا صدقوا، وإذا جادلوا اتبعوا أحسن الطرق وأهداها.
ثم وصفه الله- تعالى- بصفة رابعة فقال: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ.
تولى: من التولية بمعنى الإدبار والانصراف، ومتعلق تولى محذوف تقديره: تولى عنك.
وسعى: من السعى وهو المشي السريع وهو مستعار هنا لإيقاع الفتنة والتخريب. والفساد كما قال الراغب- خروج الشيء عن الاعتدال قليلا كان الخروج عنه أو كثيرا، ويضاده الصلاح يقال فسد فسادا وفسودا إذا خرج عن الاستقامة «٢».
والحرث: مصدر يحرث، أى: أثار الأرض لإعدادها للزراعة، ثم أطلق وأريد به المحروث وهو الأرض، ثم أطلق وأريد به ما يترتب على ذلك من الزروع والثمار وهو المراد هنا.
(٢) المفردات في غريب القرآن ص ٣٧٩ للراغب الأصفهاني. [.....]
والمعنى: وإذا أعرض عنك هذا النوع من الناس وولاك دبره أسرع في الإفساد بينهم، وتفريق كلمتهم، وإتلاف كل ما يقع تحت يده من الزروع والثمار والحيوان وما به قوام الحياة والأحياء.
فإهلاك الحرث والنسل كناية عن إتلافه لما به قوام أحوال الناس ومعيشتهم، وعن إيذائه الشديد لهم.
وبعض العلماء يرى أن «تولى» مشتق من الولاية: يقال: ولى البلد وتولاه، أى صار واليا له، أميرا عليه. والمعنى على هذا الرأى.
وإذا صار- هذا النوع من الناس- واليا على قوم اجتذبهم إليه ببريق قوله، وبمعسول لفظه، وبإيمانه الفاجرة، ومجادلته الباطلة، حتى إذا ما التف الناس حوله سعى بينهم بالفساد، وعمل على تقاطعهم وتباغضهم، وحكم فيهم بالباطل، ظنا منه أن هذا الخلق وذلك السلوك سيجعلهم دائما طوع إرادته.
قال الإمام الرازي: والقول الأول أقرب إلى نظم الآية، لأن المقصود بيان نفاق هذا النوع من الناس، وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة، وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد «١».
وقوله وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ أى لا يرضى عن الذي منه الإفساد في الأرض، ويظهر للناس الكلام الحسن وهو يبطن لهم الفعل السيئ، لأنه- سبحانه- أوجد الناس ليصلحوا في الأرض لا ليفسدوا فيها. فالجملة الكريمة تحذير منه- سبحانه- للمفسدين، ووعيد لهم على خروجهم عن طاعته.
أما الصفة الخامسة لهذا النوع من الناس فهي قوله- تعالى-: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ. أى: وإذا قيل لهذا المنافق على سبيل النصح والإرشاد اتق واترك ما أنت فيه من نفاق وخداع وخروج عن طاعة الله، استولت عليه العزة- أى حمية الجاهلية- مقترنة بالإثم ومصاحبة له، فهي ليست العزة المحمودة ولكنها الكبرياء المبغوضة. والباء على هذا المعنى للمصاحبة والاقتران.
أحدهما: أن تكون حالا من العزة أى ملتبسة بالإثم.
والثاني: أن تكون حالا من المفعول. أى، أخذته حال كونه ملتبسا بالإثم، وفي قوله العزة بالإثم التتميم وهو نوع من علم البديع، وهو عبارة عن إرداف الكلمة بأخرى ترفع عنها اللبس وتقربها من الفهم، وذلك أن العزة تكون محمودة ومذمومة فمن مجيئها محمودة قوله- تعالى-:
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فلو أطلقت لتوهم فيها بعض من لا دراية له أنها محمودة، فقيل بالإثم توضيحا للمراد فرفع اللبس، ويجوز أن تكون الباء للتعدية- وهو قول الزمخشري- فإنه قال: أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه. أى: حملته العزة التي فيه وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه وألزمته ارتكابه، ويجوز أن تكون للسببية بمعنى أن إثمه كان سببا لأخذ العزة له» «١».
أى: استولت عليه حمية الجاهلية بسبب الإثم الذي استحوذ على قلبه فأنساه كل ما يوصل إلى الصلاح والاستقامة.
و «ال» في العزة للعهد. أى: العزة المعهودة المعروفة عند أهل الجاهلية التي تمنع صاحبها من قبول النصيحة.
قال الأستاذ الإمام محمد عبده مرجحا ما ذهب إليه من أن «تولى» بمعنى الولاية والإمارة:
«وهذا الوصف ظاهر جدا في تفسير التولي بالولاية والسلطة، فإن الحاكم الظالم المستبد يكبر عليه أن يرشد إلى مصلحة، أو يحذر من مفسدة، لأنه يرى أن هذا المقام الذي ركبه وعلاه يجعله أعلى الناس رأيا وأرجحهم عقلا، بل الحاكم المستبد الذي لا يخاف الله- تعالى- يرى نفسه فوق الحق كما أنه فوق أهله في السلطة، فيجب أن يكون أفن رأيه خيرا من جودة آرائهم، وإفساده نافذا مقبولا دون إصلاحهم، فكيف يجوز لأحد منهم أن يقول له: اتق الله في كذا... » «٢».
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة من هذه صفاته فقال: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ.
الفاء هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط محذوف تقديره: إذا كانت هذه حالة المعرض عن النصح أنفة وتكبرا فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أى: كافيه جهنم جزاء له وَلَبِئْسَ الْمِهادُ أى:
ولبئس الفراش الذي يستقر عليه بسبب غروره وفجوره.
(٢) تفسير المنار ج ٢ ص ٢٥١.
أى: والله. والمخصوص بالذم محذوف لظهوره وتعينه وهو جهنم. والمهاد جمع مهد وهو المكان المهيأ للنوم، والتعبير عن جهنم بالمهاد من باب التهكم والاستهزاء بهذا النوع المغرور المفسد من الناس.
هذا وقد أورد بعض المفسرين روايات في سبب نزول هذه الآيات منها أنها نزلت في الأخنس ابن شريق الثقفي أقبل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فأظهر الإسلام وزعم أنه يحبه وأقسم بالله على ذلك، غير أنه كان منافقا خبيث الباطن، فخرج من عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فمر بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل بعض الماشية فنزلت.
قال الإمام الرازي ما ملخصه بعد أن ساق هذه الرواية وغيرها: واختيار أكثر المحققين من المفسرين أن هذه الآيات عامة في حق كل من كان موصوفا بهذه الصفات المذكورة...
ولا يمتنع أن تنزل الآية في الرجل ثم تكون عامة في كل من كان موصوفا بتلك الصفات، ونزولها على السبب الذي حكيناه لا يمنع من العموم، بل نقول فيها ما يدل على العموم وهو من وجوه.
أحدها: أن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية، فلما ذم الله- تعالى- قوما وصفهم بصفات توجب استحقاق الذم، علمنا أن الموجب لتلك المذمة هو تلك الصفات، فيلزم أن كل من كان موصوفا بتلك الصفات أن يكون مستوجبا للذم.
وثانيها: أن الحمل على العموم أكثر فائدة، وذلك لأنه يكون زجرا لكل المكلفين عن تلك الطريقة المذمومة.
وثالثها: أن هذا أقرب إلى الاحتياط، لأنا إذا حملنا الآية على العموم دخل فيه ذلك الشخص، وأما إذا خصصناه بذلك الشخص لم يثبت الحكم في غيره، فثبت بما ذكرنا أن حمل الآية على العموم أولى» «١».
هذا، وفي هذه الآيات الكريمة زجر شديد ووعيد أليم للمنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ويفسدون في الأرض ولا يصلحون، ويكادون يسطون بالذين ينصحونهم ويتلون عليهم آيات الله لأن المنافقين ما كثروا في أمة إلا وجعلوا بأسها بينها شديدا، روى ابن جرير عن نوف البكالي قال: إنى لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل: قوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس
قال ابن كثير: قال القرظي الذي روى هذا القول عن نوف: تدبرت هذه الصفات في القرآن فإذا هي في المنافقين ووجدتها في قوله- تعالى- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «١».
والحق أنه ما ابتليت أمة بتفشى هذا النوع من الناس فيها إلا فسد حالها وهان شأنها وكانت عاقبة أمرها خسرا.
أما النوع الثاني من الناس وهم الأخيار الصادقون فقد عبر عنهم القرآن بقوله- تعالى-:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.
يَشْرِي نَفْسَهُ أى: يبيعها ببذلها في طاعة الله وإعلاء كلمته، وتحقيقه أن المكلف قد بذل نفسه بمعنى أنه أطاع الله- تعالى- وحافظ على فرائضه، وجاهد في سبيله، من أجل أن ينال ثواب الله ومرضاته، فكان ما بذله من طاعات بمثابة السلعة، وكان هو بمنزلة البائع، وكان قبول الله- تعالى- منه ذلك وإثابته عليه في معنى الشراء.
وقوله: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ الابتغاء الطلب الشديد للشيء، والرغبة القوية في الحصول عليه، وهو في الآية مفعول لأجله.
أى: ومن الناس نوع آخر قد باع نفسه وبذلها في طاعة الله طلبا لرضوانه، وأملا في مثوبته وغفرانه.
فهذا النوع التقى المخلص من الناس، يقابل النوع المنافق المفسد الذي سبق الحديث عنه.
قال بعضهم: وكان مقتضى هذه المقابلة أن يوصف هذا الفريق الثاني بالعمل الصالح مع عدم التعويض والتبجح بالقول، أو مع مطابقة قوله لعمله وموافقة لسانه لما في قلبه. والآية قد تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به، فإن من يبيع نفسه لله لا يبغى ثمنا لها سوى مرضاته لا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق مع الإخلاص في القلب فلا يتكلم بلسانين ولا يقابل الناس بوجهين. ويكون هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه» «٢».
وقال أحد العلماء: ومرضاة مصدر ميمى بمعنى الرضا. ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمى دون المصدر الأصلى له معنى يدركه السامع بذوقه، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا
(٢) تفسير المنار ج ٢ ص ٢٥٢.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله-: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ أى، رفيق رحيم بهم، ومن مظاهر ذلك أنه لم يكلفهم بما هو فوق طاقتهم، وإنما كلفهم بما تطيقه نفوسهم، وأنه أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة في الدنيا مع تقصيرهم فيما أمرهم به أو نهاهم عنه، وأنه كافأهم بالنعيم المقيم على العمل القليل، وأنه جعل العاقبة للمتقين لا للمفسدين، إلى غير ذلك من مظاهر رأفته التي لا تحصى.
هذا، وقد أورد المفسرون روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية منها أنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي، وذلك أنه لما أسلّم بمكة وأراد الهجرة منعه المشركون أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر أذنوا له، فنخلص منهم وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية. فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له: ربح البيع يا صهيب، فقال لهم وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية. ويروى أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال له عند ما رآه: «ربح البيع، ربح البيع» مرتين «٢».
وهناك روايات أنها نزلت فيه وفي عمار بن ياسر وفي خباب بن الأرت وفي غيرهم من المؤمنين المجاهدين.
والذي نراه- كما سبق أن بينا- أن الآية الكريمة تتناول كل من أطاع الله- تعالى- وبذل نفسه في سبيل إعلاء كلمته، ويدخل في ذلك دخولا أوليا من نزلت فيهم الآية، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء.
وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد بينت لنا نوعين من الناس: أحدهما خاسر، والآخر رابح، لكي نتبع طريق الرابحين، ونهجر طريق الخاسرين وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٤٧.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٨ الى ٢١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
السِّلْمِ- بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام- بمعنى واحد، ويطلقان على الإسلام وعلى المسالمة. وبعضهم فرق بين اللفظين فجعل «السلّم» بكسر السين- للإسلام، و «السلّم» - بفتحها- للمسالمة، وأنكر المبرد هذه التفرقة.
قال الفخر الرازي: وأصل هذه الكلمة من الانقياد. قال- تعالى-: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. والإسلام إنما سمى إسلاما لهذا المعنى. وغلب اسم السلّم على الصلح وترك الحرب، وهذا أيضا راجع إلى هذا المعنى. لأن عند الصلح ينقاد كل واحد إلى صاحبه» «١».
وبعضهم يرى أن قوله: كَافَّةً حال من فاعل ادخلوا وهو ضمير الجماعة والمعنى عليه:
ادخلوا في الإسلام جميعا، وانقادوا لأحكامه مجتمعين غير متفرقين، لأنه الدين الذي ألف الله به بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا.
وسواء أكان لفظ كَافَّةً حالا من السِّلْمِ أو من فاعل ادْخُلُوا فالمقصود من الآية دعوة المؤمنين إلى التمسك بجميع شعب الإسلام وشرائعه مع التزامهم برباط الإخاء الذي ربط الله به بين قلوبهم بسبب اتباعهم لهذا الدين الحنيف.
وإذا كان المراد بكلمة السِّلْمِ المسالمة والمصالحة كان المعنى: يا أيها الذين آمنوا إن إيمانكم يوجب عليكم فيما بينكم أن تكونوا متصالحين غير متعادين، متحابين غير متباغضين، متجمعين غير متفرقين، كما أنه يوجب عليكم بالنسبة لغيركم ممن هو ليس على دينكم أن تسالموه متى سالمكم، وأن تحاربوه متى اعتدى عليكم، فإن دينكم ما جاء للحرب والخصام وإنما جاء للهداية وللسلام العزيز القوى الذي يرد الاعتداء بمثله.
هذا هو المعنى الذي نراه ظاهرا في الآية، وهو ما سار عليه المحققون من المفسرين.
وبعضهم ذكر أن الخطاب في الآية لمؤمنى أهل الكتاب، لما روى عن ابن عباس أنه قال:
نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام- فعظموا السبت وكرهوا لحم الإبل وألبانها بعد أن أسلموا، فأنكر عليهم المسلمون، فقالوا، إنا نقوى على هذا وهذا وقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنعمل بها فأنزل الله هذه الآية. فالخطاب لمؤمنى أهل الكتاب «١».
وبعضهم ذكر أن المراد بالآية المنافقون والتقدير: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام ولا تتبعوا خطوات الشيطان. وهذان القولان ضعفهما ظاهر، إذ لا سند لهما يعتمد عليه، ولا يؤيدهما سياق الآية الكريمة، لأن الآية الكريمة صريحة في دعوة المؤمنين إلى التمسك بجميع تعاليم الإسلام، وإلى الإخاء الجامع ونبذ التفرق والاختلاف والاعتداء.
أى: أدخلوا في السلّم واحذروا أن تتبعوا مدارج الشيطان وطرقه إنه لكم عدو ظاهر العداوة بحيث لا تخفى عداوته على عاقل.
والخطوات. جمع خطوة- بفتح الخاء وضمها- وهي ما بين قدمي من يخطو.
وفي قوله: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إشعار بأن الشيطان كثيرا ما يجر الإنسان إلى الشر خطوة فخطوة ودرجة فدرجة حتى يجعله يألفه ويقتحمه بدون تردد، وبذلك يكون ممن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. والعاقل من الناس هو الذي يبتعد عن كل ما هو من نزغات الشيطان ووساوسه، فإن صغير الذنوب قد يوصل إلى كبيرها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
وقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ جملة تعليلية، مؤكدة للنهى ومبينة لحكمته.
وقوله: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تفريع على النهى، وترهيب من العقاب الذي سيصيب المتبعين للشيطان.
قال القرطبي: وأصل الزلل في القدم، ثم استعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك.
يقال: زل يزل زلا وزللا وزلولا، أى: دحضت قدمه.
والبينات: جمع بينة، وهي الأدلة والمعجزات، ومجيئها: ظهورها.
والمعنى: فإن تنحيتم عن طريق الحق، وعدلتم عنه إلى الباطل، من بعد أن ظهرت لكم الأدلة المفرقة بين الصواب والخطأ، والتي تدعوكم إلى اتباع طريق الحق، فاعلموا أن الله عَزِيزٌ لا يقهر ولا يعجزه الانتقام ممن زل حَكِيمٌ لا يترك ما تقتضيه الحكمة وإنما يضع الأمور في مواضعها.
وجيء في الشرط بإن، لندرة حصول الزلل من المؤمنين، إذ الشأن فيهم ذلك.
وقوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ جواب الشرط.
وقوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ قطع لعذرهم حتى لا يقولوا يوم الحساب إننا زللنا لأننا لا نعرف الحق من الباطل. وفي الآية دليل على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به- كما قال القرطبي-.
وقال الفخر الرازي ما ملخصه: «وقوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ نهاية في الوعيد،
وبعد أن أمر الله المؤمنين بالدخول في السلّم كافة، ونهاهم عن الزلل عن طريقه المستقيم، عقب ذلك بتهديد الذين امتنعوا عن الدخول في السلّم فقال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ....
ينظرون: أى ينتظرون. يقال: نظرته وانتظرته بمعنى واحد.
وظلل: جمع ظلة. كظلم جمع ظلمة- وهي ما أظلك من شعاع الشمس وغيره.
والغمام: اسم جنس جمعى لغمامة، وهي السحاب الرقيق الأبيض، سمى بذلك لأنه يغم، أى يستر. ولا يكون الغمام ظلة إلا حيث يكون متراكبا والاستفهام للإنكار والتوبيخ.
والمعنى: ما ينتظر أولئك الذين أبوا الدخول في الإسلام من بعد ما جاءتهم البينات، إلا أن يأتيهم الله يوم القيامة في ظلل كائنة من الغمام الكثيف العظيم ليحاسبهم على أعمالهم، وتأتيهم ملائكته الذين لا يعلم كثرتهم إلا هو- سبحانه- وإتيان الله- تعالى- إنما هو بالمعنى اللائق به- سبحانه- مع تنزيهه عن مشابهة الحوادث، وتفويض علم كيفيته إليه- تعالى-. وهذا هو رأى علماء السلف.
وقوله: وَقُضِيَ الْأَمْرُ معناه على هذا الرأى: أتم- سبحانه- أمر العباد وحسابهم فأثيب الطائع وعوقب العاصي، ولم تعد لدى العصاة فرصة للتوبة أو تدارك ما فاتهم. وقد ارتضى هذا الرأى عدد من المفسرين منهم ابن كثير فقد قال في معنى الآية: يقول الله- تعالى- مهددا للكافرين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ يعنى: يوم القيامة نفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزى كل عامل بعمله: إن خيرا فخير وإن شرا فشر!! ولهذا قال- تعالى- وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ «٢».
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٤٨.
وقد عبر صاحب الكشاف عن وجهة نظر هؤلاء بقوله: «إتيان الله: إتيان أمره وبأسه كقوله وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
جاءَهُمْ بَأْسُنا ويجوز أن يكون المأتى به محذوفا، بمعنى أن يأتيهم الله ببأسه أو بنقمته للدلالة عليه بقوله- قبل ذلك- «فإن الله عزيز حكيم». فإن قلت: لم يأتيهم العذاب في الغمام؟ قلت: لأن الغمام مظنته الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث: وَقُضِيَ الْأَمْرُ أى: تم أمر إهلاكهم وتدميرهم وفرغ منه» «١».
وقال الجمل ما ملخصه: وقوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ استئناف مفرغ من مقدر، أى ليس لهم شيء ينتظرونه إلا إتيان العذاب وهذا مبالغة في توبيخهم وقوله: وَالْمَلائِكَةُ بالرفع عطفا على اسم الجلالة أى، وتأتيهم الملائكة فإنهم وسائط في إتيان أمره- تعالى-، بل هم الآتون ببأسه على الحقيقة. وقرأ الحسن وأبو جعفر: والملائكة بالجر عطفا على ظلل، أى إلا أن يأتيهم في ظلل وفي الملائكة. وقوله وَقُضِيَ الْأَمْرُ فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوفا على يأتيهم داخلا في حيز الانتظار ويكون ذلك من وضع الماضي موضع المستقبل والأصل ويقضى الأمر وإنما جيء به كذلك لأنه محقق كقوله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ.
والثاني: أن يكون جملة مستأنفة برأسها أخبر الله- تعالى- بأنه قد فرغ من أمرهم فهو من عطف الجمل وليس داخلا في حيز الانتظار» «٢».
ثم ختم- سبحانه- هذه الآية بقوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أى إليه وحده- سبحانه- لا إلى غيره ولا إلى أحد معه تصير الأمور خيرها وشرها وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
فالجملة الكريمة تذييل قصد به تأكيد قضاء أمره، ونفاذ حكمه، وتمام قدرته.
ثم بين- سبحانه- أن كفر الكافرين ليس سيبه نقصان الدليل على صحة إيمان المؤمنين،
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ١٦٦. [.....]
قال الفخر الرازي: اعلم أنه ليس المقصود: سل بنى إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها وذلك لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان عالما بتلك الأحوال بإعلام الله- تعالى- إياه، بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله- تعالى-.
أى: سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها، لا جرم استوجبوا العقاب من الله- تعالى-، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه. والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم... » «١».
وسَلْ فعل أمر من سأل وأصله اسأل فنقلت فتحة الهمزة إلى السين قبلها وصارت ساكنة فحذفت. ولما فتحت السين لم يكن هناك حاجة إلى همزة الوصل فحذفت أيضا.
وكَمْ إما خبرية والمسئول عنه محذوف، والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لاستحقاقهم التقريع والتوبيخ. كأنه قيل «سل بنى إسرائيل» عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد آتيناهم آيات كثيرة بينة ومع ذلك أعرض كثير منهم عنها.
وإما استفهامية والجملة في موضع المفعول الثاني لقوله «سل» وقيل: في موضع المصدر، أى: سلهم هذا السؤال. وقيل: في موضع الحال. أى: سلهم قائلا: كم آتيناهم.
والاستفهام للتقرير بمعنى حمل المخاطب على الإقرار- بأنه قد خالف ما تقتضيه الآيات من الإيمان بالله- تعالى-.
فالمراد بهذا السؤال تقريعهم على جحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا معرفة إجابتهم كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد فيقول لمن حضره: سله كم أنعمت عليه؟
ومن الآيات البينات والمعجزات الواضحات التي أظهرها الله- تعالى- لبنى إسرائيل على أيدى أنبيائهم ليؤمنوا بهم: عصا موسى التي ألقاها فإذا هي حية تسعى والتي ألقاها فإذا هي تلقف ما صنعه السحرة، والتي ضرب بها البحر فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وحدانية الله وصدق من جرت على يديه هذه الخوارق، ومع ذلك فمنهم من قال لموسى أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ومنهم من كفر وعبد العجل..
التبديل: جعل شيء بدلا عن آخر، ونعمة الله هنا تتناول آياته الدالة على صدق رسله، كما تتناول ما أسبغه الله على عباده من صحة ومال وعقل وغير ذلك من نعمه الظاهرة والباطنة.
أى: ومن يبدل نعم الله بعد ما وصلت إليه واتضحت له، بأن كفر بها مع أنها تدعو إلى الإيمان، وجحد فضلها مع أنها تستلزم منه الشكر لمسديها من يبدل ذلك التبديل فإن الله سيعاقبه عقابا شديدا.
وقوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ زيادة توبيخ لهم، وأنهم مستحقون لأشد ألوان العذاب، لأنهم قد كفروا بآيات الله وجحدوا نعمه بعد معرفتها والوقوف على تفاصيلها. فهو كقوله- تعالى-: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. فهو تبديل عن معرفة لا عن جهل أو خطأ.
وقوله: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ تعليل للجواب أقيم مقامه.
أى: ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة لأنه شديد العقاب فلا يفلت منه أحد. ويحتمل أن يكون هذه الجملة هي الجواب بتقدير الضمير أى شديد العقاب له.
والعقاب هو الجزاء عن جناية وجرم، وهو مأخوذ- كما يقول القرطبي- من العقب، كأن المعاقب يمشى بالمحازاة للجاني في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب- أى الموضع الذي يركب منه-، فالعقاب والعقوبة يكونان بعقب الذنب وقد عاقبه بذنبه «١».
فالآية الكريمة وعيد شديد لكل من يبدل نعم الله، ويترك شكرها.
وبعد أن ذكر القرآن حال من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته، أتبعه بذكر الأسباب التي حملت أولئك الأشقياء على البقاء في كفرهم وجحودهم فقال- تعالى-: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا... الآية.
التزيين: جعل الشيء زينا أى، شديد الحسن. والحياة نائب فاعل، زين، ولم تلحق تاء التأنيث بالفعل لأن نائب الفاعل مجازى التأنيث ولوجود الفاصل بين الفعل ونائب الفاعل.
والمعنى، أن الحياة الدنيا قد زينت للكافرين فأحبوها وتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار، وصارت متعها وشهواتها كل تفكيرهم، أما الآخرة فلم يفكروا فيها، ولم يهيئوا أنفسهم للقائها.
وقوله: وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا معطوف على جملة زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا...
أو خبر لمبتدأ محذوف أى وهم يسخرون وتكون الواو للحال.
ويسخرون: يضحكون ويهزئون. يقال. سخرت منه وسخرت به وضحكت منه وضحكت به.
أى أن الذين كفروا لا يكتفون بحبهم الشديد لزينة الحياة الدنيا وشهواتها وإنما هم بجانب ذلك يسخرون من المؤمنين لزهد هم في متع الحياة، لأن الكفار يعتقدون أن ما يمضى من حياتهم في غير متعة فهو ضياع منها، وأنهم لن يبعثوا ولن يحاسبوا على ما فعلوه في دنياهم، أما المؤمنون فهم يتطلعون إلى نعيم الآخرة الذي هو أسمى وأبقى من نعيم الدنيا.
وجيء بقوله: زُيِّنَ ماضيا للدلالة على أنه قد وقع وفرغ منه. وجيء بقوله وَيَسْخَرُونَ مضارعا للدلالة على تجدد سخريتهم من المؤمنين وحدوثها بين وقت آخر. قال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ..:
وقد ذكر بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية روايات منها: أنها نزلت في المنافقين عبد الله بن أبى وحزبه، كانوا يتنعمون في الدنيا أو يسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين، ويقولون: أنظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه يغلب بهم. ومنها. أنها نزلت في أبى جهل ورؤساء قريش كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعمار وخباب وابن مسعود وغيرهم بسبب ما كانوا فيه من الفقر والصبر على البلاء. والحق أنه لا مانع من نزولها في شأن كل الكافرين الذين يسخرون من المؤمنين.
وقوله: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ رد منه- سبحانه- على هؤلاء الكفار الذين يسخرون من المؤمنين، والذين يرون أنفسهم أنهم في زينتهم ولذاتهم أفضل من المؤمنين في نزاهتهم وصبرهم على بأساء الحياة وضرائها.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم قال «من الذين آمنوا» ثم قال: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا؟
قلت: ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن التقى، وليكون بعثا للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك «١».
وقيدت الفوقية بيوم القيامة للتنصيص على دوامها، لأن ذلك اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية، ولإدخال السرور والتسلية على قلوب المؤمنين حتى لا يتسرب اليأس إلى قلوبهم بسبب إيذاء الكافرين لهم في الدنيا.
وقوله: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تذييل قصد به تشريف المؤمنين، وبيان عظم ثوابهم.
أى: والله يرزق من يشاء بغير حساب من المرزوق. أو بلا حصر وعد لما يعطيه. أو أنه لا يخاف نفاد ما في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب لما يخرج منها. فهو- سبحانه- الذي يعطى ويمنع، وليس عطاؤه في الدنيا دليل رضاه عن المعطى فقد يعطى الكافر وهو غير راض عنه، أما عطاؤه في الآخرة فهو دليل رضاه عمن أعطاه.
قال الأستاذ الإمام: إن الرزق بلا حساب ولا سعى في الدنيا إنما يصح بالنسبة إلى الأفراد، فإنك ترى كثيرا من الأبرار وكثيرا من الفجار أغنياء موسرين متمتعين بسعة الرزق، وكثيرا من الفريقين فقراء معسرين، والمتقى يكون دائما أسعد حالا وأكثر احتمالا، ومحلا لعناية الله به فلا يؤلمه الفقر كما يؤلم الفاجر لأنه يجد في التقوى مخرجا من كل ضيق... وأما الأمم فأمرها على غير هذا، فإن الأمة التي ترونها فقيرة ذليلة لا يمكن أن تكون متقية لأسباب نقم الله وسخطه..
وليس من سنة الله أن يرزق الأمة العزة والثروة وهي لا تعمل، وإنما يعطيها بعملها ويسلبها بزللها..» «٢».
ثم بين- سبحانه- أحوال الناس، وأنهم في حاجة إلى الرسل ليبشروهم وينذروهم ويحكموا بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه فقال- تعالى-:
(٢) تفسير المنار ج ٢ ص ٢٧٤ بتلخيص.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٣]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)قال الفخر الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما بين في الآية المتقدمة أن سبب إصرار هؤلاء الكفار على كفرهم هو حب الدنيا، بين في هذه الآية أن هذا المعنى غير مختص بهذا الزمان، بل كان حاصلا في الأزمنة المتقادمة، لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق ثم اختلفوا، وما كان اختلافهم إلا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا» «١».
والأمة القوم المجتمعون على الشيء الواحد يقتدى بعضهم ببعض مأخوذ من أم بمعنى قصد لأن كل واحد من أفراد القوم يؤم المجموع ويقصده في مختلف شؤونه.
وللعلماء أقوال في معنى قوله- تعالى- كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.
القول الأول الذي عليه جمهور المفسرين أن المعنى: كان الناس أمة واحدة متفقين على توحيد الله- تعالى- مقرين له بالعبودية مجتمعين على شريعة الحق ثم اختلفوا ما بين ضال ومهتد، فبعث الله إليهم النبيين ليبشروا من اهتدى منهم بجزيل الثواب، ولينذروا من ضل بسوء العذاب، وليحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه بالحكم العادل، والقول الفاصل.
قال القفال: ويشهد لصحة هذا الرأى قوله- تعالى- فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ... «٢» فهذا يدل على أن الأنبياء- عليهم السلام- إنما بعثوا حين الاختلاف، ويتأكد هذا بقوله:
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ١٢.
و «كان» على هذا الرأى على بابها من المضي، وعدم استمرار الحكم، وعدم امتداده إلى المستقبل، لأن الناس كانوا مهتدين ثم زالت الهداية عنهم أو عن كثير منهم بسبب اختلافهم فأرسل الله- تعالى- رسله لهدايتهم.
القول الثاني يرى أصحابه أن المعنى: كان الناس أمة واحدة مجتمعين على الضلال والكفر فبعث الله النبيين لهدايتهم..
و «كان» على هذا الرأى- أيضا- على بابها من المضي والانقضاء، ولا تحتاج على هذا الرأى إلى تقدير كلام محذوف، وهو ثم اختلفوا فبعث.. إلخ.
ومن العلماء الذين رجحوا القول الأول الإمام ابن كثير فقد قال: عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.. وهكذا قال قتادة ومجاهد. وقال العوفى عن ابن عباس (كان الناس أمة واحدة) يقول كانوا كفارا (فبعث الله النبيين) والقول الأول عن ابن عباس وهو أصح سندا ومعنى لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحا- عليه السلام- فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض «١».
أما الرأى الثالث فقد قرره الإمام القرطبي بقوله: ويحتمل أن تكون «كان» للثبوت، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا منّ الله عليهم وتفضله بالرسل إليهم. فلا يختص «كان» على هذا التأويل بالمضي فقط، بل معناه معنى قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «٢».
وهذا الرأى قد اختاروه الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسيره للآية الكريمة ووافقه عليه بعض العلماء الذين كتبوا في تفسير هذه الآية. قال الأستاذ الإمام ما ملخصه.
«خلق الله الإنسان أمة واحدة أى مرتبطا بعضه ببعض في المعاش لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلا مجتمعين يعاون بعضهم بعضا، فكل واحد منهم يعيش ويحيا بشيء من عمله لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة عن توفير جميع ما يحتاج إليه، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته... وهذا معنى قولهم: «الإنسان مدني بطبعه» يريدون بذلك أنه لم يوهب من القوى ما يكفى للوصول إلى جميع حاجاته إلا بالاستعانة بغيره.. ولما كان
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ ص ٣١.
وترتيب بعثة الرسل على وحدة الأمة في الآية التي نفسرها يكون على هذا المعنى:
إن الله قضى أن يكور الناس أمة واحدة يرتبط بعضهم ببعض ولا سبيل لعقولهم، وحدها إلى الوصول إلى ما يلزم لهم في توفير مصالحهم ودفع المضار عنهم، لتفاوت عقولهم، واختلاف فطرهم، وحرمانهم من الإلهام الهادي لكل منهم إلى ما يجب عليه نحو صاحبه، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأيدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم، وعلى أن ما يأتون به إنما هو من عند الله- تعالى- القادر على إثابتهم وعقوبتهم... » «١».
وقال فضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ما ملخصه: وإن هذا الرأى الذي اختاره الأستاذ الإمام هو الذي نختاره، وعلى هذا التأويل لا يكون ثمة حاجة إلى تقدير محذوف، لأن ذات حالهم من كونهم لا علم لهم بالشرائع ولا تهتدى عقولهم إلى الحقائق بنفسها توجب البعث، ولأن تلك الحال التي تكون على الفطرة وحدها توجب الاختلاف فتوجب بعث النبيين.. ثم إن نفس كل إنسان فيها نزوع إلى الاجتماع، وحيث كان الاجتماع فلا بد من نظام يربط، وشرع يحكم.
وعلى هذا التأويل أيضا تكون الفاء في قوله: فَبَعَثَ... - وهي التي يقول عنها النحويون إنها للترتيب والتعقيب- في موضعها من غير حاجة إلى تقدير، لأن كون الناس أمة واحدة اقتضت الرسالة واقتضت الاختلاف.
و «كان» على هذا التأويل تدل على الاستمرار والثبوت، لأن الناس بمقتضى فطرهم دائما في حاجة إلى شرع السماء لا يهتدون إلا به.
ثم قال فضيلته: وقد يقول قائل: إن جعل «كان» للاستمرار يفيد أن وحدة الناس في الفطرة وتأديها إلى التناحر يقتضى بعث النبيين إلى يوم القيامة، وأنه لا بد من نبي لعصرنا، ونحن نسلّم بالاعتراض ولا ندفع إيراده ونقول: نعم إنه لا بد من قيام رسالة إلى يوم القيامة وهي رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم التي جاءت بكتاب تتجدد به الرسالة والبعث إلى أن تفنى الأرض ومن عليها وهذا الكتاب هو القرآن الكريم الذي لا تبلى جدته، والذي تكفل الله بحفظه، وبإعجازه إلى يوم القيامة، والذي من يقرؤه فكأنما يتلقاه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم» «٢».
(٢) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة. مجلة لواء الإسلام السنة الخامسة من العدد الثامن
وقوله- تعالى-: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ معطوف على فَبَعَثَ، والمراد بالكتاب الجنس.
والمعنى: وأنزل- سبحانه- مع هؤلاء النبيين الذين بعثهم مبشرين ومنذرين كلامه الملتبس بالحق والجامع لما يحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا، لكي يفصلوا بواسطته بين الناس فيما اختلفوا من شئون دينية ودنيوية.
وذكر- سبحانه- الكتاب بصيغة المفرد للإشارة إلى أن كتب النبيين وإن تعددت إلا أنها في جوهرها كتاب واحد لاشتمالها على شرع واحد في أصله، وإذا كان هناك خلاف بينها ففي تفاصيل الأحكام وفروعها لا في جوهرها وأصولها، وقوله: بِالْحَقِّ متعلق بأنزل، أو حال من الكتاب أى ملتبسا شاهدا به.
والضمير في قوله: لِيَحْكُمَ.. يجوز أن يعود إلى الله- تعالى- أو إلى النبيين، أو إلى الكتاب. ورجح بعضهم عودته إلى الكتاب لأنه أقرب مذكور. والجملة تعليلية للإنزال المذكور.
وفي إسناد الحكم إلى الكتاب تنبيه للناس إلى أن من الواجب عليهم أن يرجعوا إليه عند كل اختلاف. لأن هذا هو المقصد الأساسى من إنزال الكتب السماوية.
وللأستاذ الإمام محمد عبده كلام نفيس في هذا المعنى فقد قال- رحمه الله- ما ملخصه:
«الحكم مسند إلى الكتاب نفسه، فالكتاب ذاته هو الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، وفيه نداء للحاكمين بالكتاب أن يلزموا حكمه، وألا يعدلوا عنه إلى ما تسوله الأنفس وتزينه الأهواء.. ولو ساغ للناس أن يؤولوا نصا من نصوص الكتب على حسب ما تنزع إليه عقولهم بدون رجوع إلى بقية النصوص، لما كان لإنزال الكتب فائدة، ولما كانت الكتب في الحقيقة حاكمة، بل كانت متحكمة فيها الأهواء، فنعود المصلحة مفسدة، وينقلب الدواء علة، ولهذا رد الله الحكم إلى الكتاب نفسه لا إلى هوى الحاكم به.. ونسبة الحكم إلى الكتاب هي كنسبة النطق والهدى والتبشير إليه في قوله- تعالى-: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ وقوله- تعالى-: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ..
ثم بقول- رحمه الله- «يتخذ الواحد منهم كلمة من الكتاب أو أثرا مما جاء به وسيلة إلى تسخير غيره لما يريد، وذلك قطع الكلمة أو الأثر عن بقية ما جاء في الكتاب والآثار الأخر ولى اللسان أو تأويله بغير ما قصد منه وما هم المؤول أن يعمل بالكتاب وإنما كل ما يقصد هو أن يصل إلى مطلب لشهوته، أو عضد لسطوته، سواء أهدمت أحكام الله أم قامت، واعوجت
والضمير في قوله: فِيهِ وفي قوله: أُوتُوهُ يعود إلى الكتاب، والمعنى عليه:
وما اختلف في شأن الكتاب الهادي الذي لا لبس فيه، المنزل لإزالة الاختلاف، إلا الذين أوتوه، أى علموه ووقفوا على تفاصيله، ولم يكن اختلافهم لالتباس عليهم من جهته وإنما كان خلافهم من بعد ما ظهرت لهم الدلائل الواضحة الدالة على صدقه، وما حملهم على هذا الاختلاف إلا البغي والظلم والحسد الذي وقع بينهم.
والمراد بالذين اختلفوا فيه أهل الكتاب اليهود والنصارى، واختلافهم في الكتاب يشمل تصديقهم ببعضه وتكذيبهم بالبعض الآخر، كما يشمل اختلافهم في تفسيره وتأويله وتنفيذ أحكامه وعدم تنفيذها، وذهاب كل فريق منهم مذهبا يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في فروعه.
وعبر عن الإنزال بالإيتاء- كما يقول الآلوسى- للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق، فإن الإنزال لا يفيد ذلك، وقيل: عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم» «٢».
وقوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ متعلق باختلف، وفيه زيادة تشنيع عليهم لأنهم قد اختلفوا فيه بعد أن قامت أمامهم الحجج الناصعة الدالة على الحق.
وقوله: بَغْياً مفعول لأجله لاختلفوا وبَيْنَهُمْ متعلق بمحذوف صفة لقوله بَغْياً.
أى أن داعي الاختلاف هو البغي والحسد الذي وقع بينهم، فجعل كل فريق منهم يخطئ الآخر، ويجرح رأيه.
وفي هذا التعبير إشارة إلى أن البغي قد باض وفرخ عندهم، فهو يحوم عليهم، ويدور
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ١٠٢.
وبعضهم جعل الضمير في قوله: فِيهِ يعود إلى الحق، والضمير في قوله: أُوتُوهُ يعود إلى الكتاب. أى: وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب.
ويرى بعض العلماء أن عودة الضمير في كليهما إلى الحق أو إلى الكتاب جائز، وأن المعنى على التقديرين واحد، لأن الكتاب أنزل ملابسا للحق ومصاحبا له، فإذا اختلف في الكتاب اختلف في الحق الذي فيه وبالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق والجملة الكريمة تحذير شديد من الوقوع فيما وقع فيه غيرهم من اختلاف يؤدى إلى البغي والتنازع والإعراض عن الحق.
ثم بين- سبحانه- حال المؤمنين بعد بيانه لحال الغاوين فقال- تعالى فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ.
أى: فهدى الله الذين آمنوا وصدقوا رسله إلى الحق الذي اختلف فيه أهل الضلالة، وذلك الهدى بفضل توفيقه لهم وتيسيره لأمرهم.
والفاء في قوله: فَهَدَى فصيحة لأنها أفصحت عن كلام مقدر وهو المعطوف عليه المحذوف.
والتقدير: إذا كان هذا شأن الضالين المختلفين في الحق، فقد هدى الله بفضله الذين آمنوا إلى الصواب.
وبين- سبحانه- أن الذين رزقهم الهداية هم الذين آمنوا، للإشعار بأن سبب هدايتهم للحق هو إيمانهم وتقواهم، واستجابتهم للداعي الذي دعاهم إلى الطريق المستقيم.
وأسند الهداية إليه- سبحانه- لأنه هو خالقها، ولأن قلوب العباد بيديه فهو يقلبها كيف يشاء، وهذا لا ينافي أن للعبد اختيارا وكسبا فهو إذا سار في طريق الحق رزقه الله النور المشرق الذي يهديه، وإن سار في طريق الضلالة واستحب العمى على الهدى سلب الله عنه توفيقه بسبب إيثاره الضلالة على الهداية.
وقوله- تعالى- في ختام هذه الآية: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تذييل قصد به بيان كمال سلطانه، وتمام قدرته.
أى: والله وحده هو الهادي من يشاء من عباده إلى طريق الحق الذي لا يضل سالكه، فليس لأحد سلطان بجوار سلطانه، ولو أراد أن يكون الناس جميعا مهديين لكانوا، ولكن حكمته
قال ابن كثير: وفي صحيح البخاري ومسلّم عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قام من الليل يصلى يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم».
وفي الدعاء المأثور: اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل واجعلنا للمتقين إماما «١».
وبذلك نرى أن الآية قد بينت أن الناس لا يستغنون عن الدين الذي شرعه الله لهم على لسان رسله- عليهم الصلاة والسلام-، وأن الأشرار من الناس هم الذين يحملهم البغي على الاختلاف في الحق بعد ظهوره لهم، أما الأخيار منهم فهم الذين اهتدوا بتوفيق الله وتيسيره إلى طريق الخير والصواب وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وبعد أن ذكر- سبحانه- حال الناس، واختلاف سفهائهم على أنبيائهم، واهتداء عقلائهم إلى الحق، عقب ذلك بدعوة المؤمنين إلى الاقتداء بمن سبقهم في الصبر والثبات. فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٤]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
قال القرطبي: قال قتادة والسدى وأكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة والحر والبرد وسوء العيش وأنواع الشدائد، وكانوا كما قال- تعالى-: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ.
وما ذكره المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة لا يمنع عمومها، وأنها تدعو المؤمنين في كل زمان ومكان إلى التذرع بالصبر والثبات تأسيا بمن سبقهم من المتقين حتى يفوزوا برضوان الله- تعالى- ونصره.
وأَمْ هنا يرى بعضهم أنها للاستفهام الإنكارى، ويرى بعض آخر أنها أم المتصلة، ويرى فريق ثالث أنها أم المنقطعة.
قال الجمل: وحسب هنا من أخوات ظن تنصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وأن وما بعدها سادة مسد المفعولين عند سيبويه، ومسد الأول عند الأخفش والثاني محذوف، ومضارعها فيه وجهان: الفتح وهو القياس والكسر «٢».
ولَمَّا تدل على النفي مع توقع حصول المنفي بها، كما في قول النابغة:
أزف الترحل غير أن ركابنا | لما تزل برحالنا وكأن قد |
والْبَأْساءُ ما يصيب الناس في الأموال كالفقر. والضراء: ما يصيبهم في الأنفس كالمرض مشتقان من البؤس والضر.
وزُلْزِلُوا من الزلزلة وهي شدة التحريك وتكون في الأشخاص وفي الأحوال. فيقال:
زلزلت الأرض، أى تحركت واضطربت، ومعنى زلزلوا: خوفوا وأزعجوا واضطربوا.
والمعنى على أن أَمْ للاستفهام الإنكارى: أظننتم أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة بمجرد الإيمان دون أن يصيبكم ما أصاب الذين سبقوكم من شدائد في الأنفس والأموال، ومن مخاوف أزعجتهم وأفزعتهم حتى بلغ الأمر برسولهم وبالمؤمنين معه أن يقولوا وهم في أقصى ما تحتمله النفوس البشرية من آلام: متى نصر الله؟!!
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ١٦٩.
والمعنى على أن أَمْ هنا هي المتصلة- أى المشعرة بمحذوف دل عليه الكلام-: قد خلت من قبلكم أمم أوتوا الكتاب واهتدوا إلى الحق فآذاهم الناس أذى شديدا فصبروا على ذلك أفتصبرون مثلهم على المكاره وتثبتون ثباتهم على الشدائد؟ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة دون أن يصيبكم ما أصابهم؟
والمعنى على أن أَمْ هنا منقطعة- أى تدل على الإضراب والاستفهام معا-: لقد أوذيتم أيها المؤمنون في سبيل دينكم أذى عظيما، فعليكم أن تصبروا وأن تثبتوا كما فعل الذين من قبلكم، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة دون ابتلاء وصبر.. أى: بل أحسبتم.. إن كان هذا هو حسبانكم فهو حسبان باطل لا ينبغي لكم.
وقوله- تعالى-: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ.. استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الذهن، كأنه قيل: كيف مثل أولئك الذين خلوا ومضوا؟ فكان الجواب مستهم البأساء.. إلخ.
ومستهم أى: حلت بهم. وعبر بمستهم للإشعار بأن تلك الشدائد قد أصابتهم بالآلام التي اتصلت بحواسهم وأجسادهم ولكنها لم تضعف إيمانهم إذ حقيقة المس اتصال الجسم بجسم آخر.
قال صاحب الكشاف: وقوله: وَزُلْزِلُوا أى: أزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال والافزاع «حتى يقول الرسول» أى: إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه فيها مَتى نَصْرُ اللَّهِ أى بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك. ومعناه طلب النصر وتمنيه، واستطالة زمان الشدة. وفي هذه الغاية دليل على تناهى الأمر في الشدة وتماديه في العظم لأن الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمع وراءها «١» ».
والمراد بالرسول- كما يقول الآلوسى- الجنس لا واحد بعينه. وقيل: شعياء، وقيل:
أشعياء، وقيل اليسع. وعلى التعيين يكون المراد من الذين خلوا قوما بأعيانهم وهم أتباع هؤلاء الرسل «٢» ».
وقوله- تعالى-: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ استئناف على تقدير القول. أى فقيل لهم حينما
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢ صفحة ١٠٤.
تطييبا لأنفسهم، وبعثا للآمال في قلوبهم.
وفي هذه الجملة الكريمة ألوان من المؤكدات والمبشرات بالنصر القريب، ويشهد لذلك التعبير بالجملة الاسمية بدل الفعلية فلم يقل- مثلا- ستنصرون والتعبير بالجملة الاسمية يدل على التوكيد. ويشهد لذلك أيضا تصدير الجملة بأداة الاستفتاح الدالة على تحقيق مضمونها وتقريره، ووقوع إن المؤكدة بعد أداة الاستفتاح، وإضافة النصر إلى الله القادر على كل شيء والذي وعد عباده المؤمنين بالنصر فقال، إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد» :
هذا، والمتأمل في الآية الكريمة يراها قد بينت للمؤمنين أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات». وأنهم لكي يصلوا إلى الجنة عليهم أن يتأسوا بالسابقين في جهادهم وصبرهم على الأذى، فقد اقتضت سنة الله أن يجعل هذه الحياة نزالا موصولا بين الأخيار والأشرار، ونزاعا مستمرا بين الأطهار والفجار، وكثيرا ما يضيق البغاة على المؤمنين، وينزلون بهم ما ينزلون من صفوف الاضطهاد إلا أن الله- تعالى- قد تكفل بأن يجعل العاقبة للمتقين.
ولقد حكى لنا التاريخ أن المؤمنين السابقين قد صبروا أجمل الصبر وأسماه في سبيل إعلاء كلمة الله.
روى البخاري عن خباب بن الأرت- رضى الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون «١».
وبذلك نرى أن السورة الكريمة من قوله- تعالى- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا إلى هنا، قد بينت لنا أقسام الناس في هذه الحياة، ودعت المؤمنين إلى أن يتمسكوا بجميع تعاليم الإسلام، وأن يزهدوا في زينة الحياة التي شغلت المشركين عن كل شيء سواها، وأن يشكروا الله على هدايته إياهم إلى الحق الذي اختلف غيرهم فيه، وأن يوطنوا أنفسهم على تحمل الآلام لكي يحقق الله لهم الآمال.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٥ الى ٢١٨]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)
والمعنى: يسألك أصحابك يا محمد أى شيء ينفقونه من أصناف الأموال؟ قل لهم:
ما أنفقتم من أموالكم فاجعلوه للوالدين قبل غيرهما ليكون أداء لحق تربيتهما ووفاء لبعض حقوقهما، وللأقربين وفاء لحق القرابة والرحم ولليتامى لأنهم فقدوا الأب الحانى الذي يسد عوزهم، والمساكين لفقرهم واحتياجهم، وابن السبيل لأنه كالفقير لغيبة ماله وانقطاعه عن بلده.
قال الإمام الرازي: فهذا هو الترتيب الصحيح الذي رتبه الله- تعالى- في كيفية الإنفاق.
ثم لما فصل هذا التفصيل الحسن الكامل أردفه بعد ذلك بالإجمال فقال: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أى: وكل ما فعلمتوه من خير إما مع هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم حسبة لله وطلبا لجزيل ثوابه وهربا من أليم عقابه فإن الله به عليم فيجازيكم احسن الجزاء عليه..» «١».
وظاهر الآية- كما يقول الآلوسى- أن السؤال عن المنفق فأجاب ببيان المصرف صريحا، لأنه أهم لأن اعتداد النفقة باعتباره. وأشار- سبحانه- إجمالا إلى بيان المنفق فإن قوله مِنْ خَيْرٍ يتضمن كونه حلالا إذ لا يسمى ما عداه خيرا، وإنما تعرض لذلك- أى لبيان المنفق عليه- وليس في السؤال ما يقتضيه، لأن السؤال للتعلم لا للجدل، وحق المعلم فيه أن يكون كطبيب رفيق يتحرى ما فيه الشفاء، طلبه المريض أم لم يطلبه. ولما كانت حاجتهم إلى من ينفق عليه كحاجتهم إلى ما ينفق بين الأمرين، (وهذا كمن به صفراء فاستأذن طبيبا، في أكل العسل فقال له: كله مع الخل). فالكلام إذا من أسلوب الحكيم. ويحتمل أن يكون في الكلام- أى في كلام السائلين- ذكر المصرف- أيضا- كما في سؤال عمرو بن الجموح إلا أنه لم يذكره في الآية للإيجاز في النظم تعويلا على الجواب، فتكون الآية جوابا لأمرين مسئول عنهما. والاقتصار في بيان المنفق على الإجمال من غير تعرض للتفصيل كما في بيان المصرف للإشارة إلى كون الثاني أهم. وهل تخرج الآية بذلك عن كونها من أسلوب الحكيم أولا؟ قولان أشهرهما الثاني» «٢».
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ١٠٥.
قال الجمل و «ذا» اسم موصول بمعنى الذي والعائد محذوف، و «ما» على أصلها من الاستفهام ولذلك لم يعمل فيها يسألونك، وهي مبتدأ وذا خبره، والجملة محلها النصب بيسألون. والمعنى يسألونك أى الشيء الذي ينفقونه» «١».
وقوله: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تذييل قصد به الحض على فعل الخير، لأن المؤمن عند ما يشعر بأن الله يرى عمله ويجازيه عليه بما يستحقه، يشجعه ذلك على الاستمرار في عمل الخير. وإذا كان بعضنا يكثر من عمل الخير عند ما يعلم أن شخصا ذا جاه يسره هذا العمل، فكيف يكون الحال عند ما يعلم المؤمن التقى أن الذي يرى عمله ويكافئه عليه هو الله الذي لا تخفى عليه خافية، والذي يعطى من يشاء بغير حساب.
قال بعض العلماء: وقد اختلف في هذه الآية. فقيل إنها منسوخة بآية الزكاة وهي قوله- تعالى-: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ... وقيل- وهو الأولى- إنها غير منسوخة، وهي لبيان صدقة التطوع فإنه متى أمكن الجمع فلا نسخ» «٢».
وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ حض لهم على بذل النفس في سبيل إعلاء كلمة الله، بعد أن حضهم في الآية السابقة على بذل المال.
والكره- بضم الكاف- بمعنى الكراهية بدليل قوله- تعالى-: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً.. أى أن القتال لشدة ويلاته، وما فيه من إزهاق الأرواح كأنه الكراهة نفسها فهو من وضع المصدر موضع اسم المفعول مبالغة، وقرئ وهو كره لكم- بفتح الكاف- فيكون فيه معنى الإكراه، لأن الكره بالفتح ما أكرهت عليه. وقيل هما لغتان بمعنى واحد وهو الكراهية.
ويرى كثير من المفسرين أن القتال إنما كان مكروها للنفوس لما فيه من التعرض للجراح وقطع الأطراف، وإزهاق الأرواح والإنسان ميال بطبعه إلى الحياة، وأيضا لما فيه من إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والحيلولة بين المقاتل وبين طمأنينته ونومه وطعامه، فهو مهما يكن أمره فيه ويلات وشدائد، ومشقات تتلوها مشقات، ولكن كون القتال مكروها للنفوس لا ينافي الإيمان ولا يعنى أن المسلمين كرهوا فرضيته، لأن امتثال الأمر قد يتضمن مشقة، ولكن إذا
(٢) تفسير آيات الأحكام ج ١ ص ١١٤ لفضيلة الأستاذ محمد على السائس.
ويرى بعضهم أن كره المسلمين للقتال ليس سببه ما فيه من شدائد ومخاطر وتضحيات بدليل أنهم كانوا يتنافسون خوض غمراته، وإنما السبب في كراهيتهم له هو أن الإسلام قد غرس في نفوسهم رقة ورحمة وسلاما وحبا، وهذه المعاني جعلتهم يحبون مصابرة المشركين ويكرهون قتالهم أملا في هدايتهم، ورجاء في إيمانهم، ولكن الله- تعالى- كتب على المسلمين قتال أعدائهم لأنه يعلم أن المصلحة في ذلك، فاستجاب المؤمنون بصدق وإخلاص لما فرضه عليهم ربهم.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى ظاهر الآية، لأن القتال فريضة شاقة على النفس البشرية، بحسب الطبع والقرآن لا يريد أن ينكر مشقتها، ولا أن يهون من أمرها، ولا أن ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها، ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر، بأن يقرر أن من الفرائض ما هو شاق ولكن وراءه حكمة تهون مشقته، وتسهل صعوبته، وتحقق به خيرا مخبوءا قد لا يراه النظر الإنسانى القصير. وقد بين القرآن هذه الحكمة في قوله وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ.
أى: وعسى أن تكرهوا شيئا كالقتال في سبيل الله- تعالى- وهو خير لكم إذ فيه إحدى الحسنيين: إما الظفر والغنيمة- في الدنيا مع ادخار الجزاء الأخروى وإما الشهادة والجنة، وعسى أن تحبوا شيئا كالقعود عن الجهاد وهو شر لكم في الواقع لما فيه من الذل ووقوعكم تحت طائلة الأعداء.
قال الفخر الرازي: معنى الآية أنه ربما كان الشيء شاقا عليكم في الحال، وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل، ولأجله حسن شرب الدواء المر في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل، وترك الجهاد، وإن كان يفيد- أى بحسب ظنكم- في الحال صون النفس عن خطر القتل وصون المال عن الإنفاق ولكن فيه أنواع من المضار منها: أن العدو إذا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصد بلادكم وحاول قتلكم... والحاصل أن القتال في سبيل الله سبب لحصول الأمن من الأعداء في الدنيا وسبب لحصول الثواب العظيم للمجاهد في الآخرة..» «١».
وقال القرطبي: والمعنى: عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم
وهذا صحيح لا غبار عليه، كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد، وأى بلاد؟!! وأسر وقتل وسبى واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون!! ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته!! وقال الحسن في معنى الآية: لا تكرهوا الملمات الواقعة فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أمر تحبه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير:
رب أمر تتقيه... جر أمرا ترتضيه
خفى المحبوب منه... وبدا المكروه فيه «١»
وهذا الكلام الذي كتبه الإمام القرطبي من مئات السنين يثير في النفس شجونا وآلاما، فإن المسلمين ما هانوا وضعفوا إلا عند ما تركوا الجهاد في سبيل الله، وتثاقلوا إلى الأرض، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، وآثروا متع الدنيا وشهواتها على الحياة العزيزة الكريمة.
وقال الإمام ابن كثير عند تفسيره للآية: هذا إيجاب من الله- تعالى- للجهاد على المسلمين وأن يكفوا شر الأعداء من حوزة الإسلام. قال الزهري: الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد. فالقاعد عليه إذا استعين به أن يعين، وإذا استغيث به أن يغيث، وإذا استنفر أن ينفر، ولهذا ثبت في الصحيح «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية، وقال: صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا» «٢».
وقد أجمع العلماء على أنه إذا نزل العدو بساحة البلاد وجب القتال على كل المسلمين، كل على حسب قدرته.
وقد ختم- سبحانه- هذه الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أى: والله يعلم ما هو خير لكم وما هو شر لكم في الواقع وأنتم لا تعلمون ذلك، فبادروا إلى ما يأمركم به لأنه لا يأمركم إلا بما علم فيه خيرا لكم، وانتهوا عما نهاكم عنه لأنه لا ينهاكم إلا عما هو شر لكم، ومفعولا يعلم وتعلمون محذوفان دل عليها ما قبلهما. أى: يعلم الخير والشر وأنتم لا تعلمونهما. والمقصود من هذه الجملة الكريمة الترغيب في الجهاد، والامتثال لما شرعه الله- تعالى- سواء أعرفت حكمته أم لم تعرف، لأن العليم بالحكم والمصالح هو الله رب العالمين.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٥٢.
وبعد أن حرض الله- تعالى- المؤمنين على بذل أموالهم وأنفسهم في سبيله عقب ذلك ببيان حكم القتال في الأشهر الحرم فقال- تعالى-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
... إلخ.
وقد ذكر كثير من المفسرين ومن أصحاب السير في سبب نزول هذه الآية قصة ملخصها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث عبد الله بن جحش ومعه اثنا عشر رجلا كلهم من المهاجرين، وأعطاه كتابا مختوما وأمره ألا يفتحه إلا بعد أن يسير يومين، ثم ينظر فيه فيمضى لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه. فسار عبد الله يومين ثم فتح الكتاب فإذا فيه «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة- مكان بين مكة والطائف- فترصد بها عيرا لقريش وتعلم لنا من أخبارهم».
فقال عبد الله: سمعا وطاعة!! وأخبر أصحابه بذلك وأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فلينهض ومن كره الموت فليرجع فأما أنا فناهض! فنهضوا جميعا، فلما كانوا في أثناء الطريق أضل سعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما يعتقبانه. فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى وصلوا نخلة فمرت عير لقريش في طريقها لمكة وكانت في حراسة عمرو بن الخضرمي وعثمان بن المغيرة، وأخوه نوفل والحكم بن كيسان. فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب. لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن في الحرم فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام!! فترددوا وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، فرمى «واقد بن عبد الله» عمرو بن الحضرمي يسهم فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت منهم نوفل فأعجزهم.
وقيل كان ذلك في أول ليلة من رجب وقد ظنوها آخر ليلة من جمادى، فإقدامهم على ما أقدموا عليه كان على سبيل الخطأ.
ثم أقبل عبد الله ومن معه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله وقد عزلوا من ذلك الخمس فأنكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما فعلوه وقال لهم: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش قد استحل محمد وأصحابه القتال في الشهر الحرام، واشتد ذلك على المسلمين، حتى أنزل الله تعالى قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ
«١».
والمعنى: يسألونك يا محمد عن حكم القتال في الشهر الحرام، قل لهم. القتال فيه أمر كبير مستنكر، وذنب عظيم مستقبح، لأن فيه اعتداء على الشهر الحرام المقدس، وانتهاك لمحارم الله- تعالى-.
والسائلون قيل هم المؤمنون وقد سألوا عن حكم ذلك على سبيل التعليم والتماس المخرج لما حصل منهم. وقيل هم المشركون وسؤالهم على سبيل التعيير للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، حيث أقدم بعضهم وهو عبد الله ومن معه على القتال فيه فرد الله عليهم بأن القتال فيه كبير ولكن ما فعله هؤلاء المشركون من صد عن سبيل الله وكفر به... إلخ أكبر من ذلك بكثير.
فالجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين. وتبكيت وتوبيخ إن كان من المشركين، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيه فيثيروا الشبهات حول الإسلام والمسلمين، فلما أجابهم بأن القتال فيه كبير وأن ما فعلوه من جرائم في حق المسلمين أكبر وأعظم كبتوا وألقموا حجرا.
والمراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم جميعها وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب.
وسميت بذلك لحرمة القتال فيها، فأل في الشهر للجنس. وقيل للعهد والمراد بالشهر الحرام شهر رجب الذي حدثت فيه قصة عبد الله بن جحش وأصحابه. وقوله «قتال فيه» بدل اشتمال من الشهر الحرام، وقِتالٍ مبتدأ وكَبِيرٌ خبر وفِيهِ ظرف صفة لقتال مخصصة له.
قال الإمام الرازي: فإن قيل: لم نكر القتال في قوله- تعالى-: قِتالٍ فِيهِ ومن حق النكرة إذا تكررت أن تجيء باللام حتى يكون المذكور الثاني هو الأول، لأنه لو لم يكن كذلك كان المذكور الثاني غير الأول كما في قوله- تعالى-: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً.
قلنا: نعم ما ذكرتم من أن اللفظ إذا تكرر وكانا نكرتين كان المراد بالثاني غير الأول. والقوم أرادوا بقولهم: «يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه» ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله وأصحابه فقال- تعالى-: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ. وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيرا ليس هو القتال الذي سألتم عنه بل هو قتال آخر لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإسلام وإذلال الكفر فكيف يكون هذا من الكبائر؟ إنما القتال الكبير هو الذي يكون الغرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة. ولو أنه
ثم أخذ القرآن يعدد على المشركين جرائمهم التي كل جريمة منها أكبر من القتال في الشهر الحرام الذي فعله المؤمنون لدفع الضرر عن أنفسهم أو لجهلهم بالميقات فقال- تعالى-:
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ.
أى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين نحن نوافقكم على أن القتال في الشهر الحرام كبير، ثم قل لهم أيضا على سبيل التوبيخ إن ما فعلتموه أنتم من صرفكم المسلمين عن طاعة الله وعن الوصول إلى حرمه، ومن شرككم بالله في بيته، ومن إخراجكم لأهله منه أعظم وزرا عند الله من القتال في الشهر الحرام.
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة إدخال الطمأنينة على قلوب المؤمنين بسبب ما وقع من عبد الله بن جحش ومن معه، وتبكيت المشركين على جرائمهم التي أولها يتمثل في قوله تعالى-: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى: منع من يريد الإسلام من دخوله، وابتدأ- سبحانه- ببيان صدهم عن سبيله للإشارة إلى أنهم يعاندون الحق في ذاته.
وثانيها قوله: وَكُفْرٌ بِهِ أى: كفر بالله- تعالى- وهو معطوف على ما قبله.
وثالثها قوله: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وهو معطوف على سبيل الله أى: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام بمنعهم المؤمنين من الحج والاعتمار.
ورابعها قوله: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أى: وإخراج النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من مستقرهم حول المسجد الحرام بمكة وهم القائمون بحقوقه، كل ذلك «أكبر» جرما، وأعظم إثما «عند الله» من القتال في الشهر الحرام.
قال الجمل: فقوله «أكبر» خبر عن الثلاثة أعنى: صد وكفر وإخراج وفيه حينئذ احتمالان:
أحدهما: أن يكون خبرا عن المجموع.
وثانيهما: أن يكون خبرا عنها باعتبار كل واحد كما تقول: زيد وبكر وعمرو أفضل من خالد أى: كل واحد منهم على انفراده أفضل من خالد، وهذا هو الظاهر. والمفضل عليه محذوف أى: أكبر مما فعلته السرية» «٢».
(٢) تفسير الجمل ج ١ ص ١٧٣.
وقيل المراد بالفتنة هنا الكفر. أى: كفركم بالله أكبر من القتل في الشهر الحرام.
وأصل الفتنة: عرض الذهب على النار، لاستخلاصه من الغش، ثم استعملت في الشرك وفي الامتحان بأنواع الأذى والاضطهاد.
ويعزى إلى عبد الله بن جحش أنه قال ردا على المشركين عند ما قالوا: استحل محمد وأصحابه القتال في الشهر الحرام.
تعدون قتلا في الحرام عظيمة | وأعظم منه لو يرى الرشد راشد |
صدودكم عما يقول محمد | وكفر به، والله راء وشاهد |
وإخراجكم من مسجد الله أهله | لئلا يرى لله في البيت ساجد |
فإنا وإن عيّرتمونا بقتله | وأرجف بالإسلام باغ وحاسد |
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا | بنخلة لما أوقد الحرب واقد |
دما، وابن عبد الله عثمان بيننا | ينازعه غل من القد عاند |
أى: ولا يزال المشركون يقاتلونكم أيها المؤمنون ويضمرون لكم السوء ويداومون على إيذائكم لكي يرجعوكم عن دين الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك وقدروا عليه. والتعبير بقوله «ولا يزالون» المفيد للدوام والاستمرار للإشعار بأن عداوة المشركين للمسلمين لا تنقطع، وأنهم لن يكفوا عن الإعداد لقتالهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فعلى المؤمنين ألا يغفلوا عن الدفاع عن أنفسهم.
وحَتَّى للتعليل أى: لا يزالون يقاتلونكم لكي يردوكم عن دينكم أو بمعنى إلى، أى: إلى أن يردوكم عن دينكم. والرد: الصرف عن الشيء والإرجاع إلى ما كان عليه قبل ذلك: فغاية المشركين أن يردوا المسلمين بعد إيمانهم كافرين.
وقوله: إِنِ اسْتَطاعُوا يدل- كما يقول الزمخشري- على استبعاد استطاعتهم رد المسلمين
وفائدة التقييد بالشرط «إن» التنبيه على سخافة عقول المشركين، وكون دوام عداوتهم للمؤمنين لن تؤدى إلى النتيجة التي يتمنونها وهي رد المسلمين عن دينهم، لأن لهذا الدين ربا يحميه، وأتباعه يفضلون الموت على الرجوع عنه.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة من يرتد عن الإسلام فقال: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
ويرتدد يفتعل من الرد وهو الرجوع عن دينه إلى الكفر.
وحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أى: بطلت وفسدت وأصله من الحبط، بفتح الباء- وهو أن تأكل الدابة أكلا كثيرا تنتفخ معه بطونها فلا تنتفع بما أكلت ويفسد حالها وربما تموت من ذلك. شبه- سبحانه- حال من يعمل الأعمال الصالحة ثم يفسدها بارتداده فتكون وبالا عليه، بحال الدابة التي أكلت حتى أصابها الحبط ففسد حالها.
والمعنى: ومن يرتدد منكم عن دين الإسلام، فيمت وهو كافر دون أن يعود إلى الإيمان، فأولئك الذين ارتدوا وماتوا على الكفر بطلت جميع أعمالهم الصالحة، وصارت غير نافعة لهم لا في الدنيا بسبب انسلاخهم عن جماعة المسلمين، ولا في الآخرة بسبب ردتهم وموتهم على الكفر، وأولئك الذين هذا شأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون خلودا أبديا كسائر الكفرة، ولا يغنى عنهم إيمانهم السابق على الردة شيئا.
وجيء بصيغة الافتعال من الردة وهي مؤذنة بالتكلف، للإشارة إلى أن من باشر الدين الحق وخالطت بشاشته قلبه كان من المستبعد عليه أن يرجع عنه، فهذا المرتد لم يكن مستقرا على هذا الدين الحق وإنما كان قلقا مضطربا غير مستقر حتى انتهى به الأمر بموته على الكفر لتكلفه الدخول في الدين الحق دون الثبات عليه.
وفي قوله: مِنْكُمْ إشعار بأنه لا يتصور أن تتحقق بغية المشركين وهي أن يردوا المسلمين جميعا عن دينهم. بل أقصى ما يتصوره العقلاء أن ينالوا ضعيف الإيمان فيردوه إلى دينهم، فيكون الله- تعالى- قد نفى خبثه عن هذا الدين، إذ لا خير في هؤلاء المشركين ولا فيمن عاد إليهم بعد إيمانه، والكل مأواهم النار وبئس القرار.
قال الجمل: ومن شرطية في محل رفع بالابتداء، يرتدد فعل الشرط، ومنكم متعلق
فأولئك جواب الشرط. وقوله: وأولئك أصحاب النار مستأنف لمجرد الإخبار بأنهم أصحاب النار أو معطوف على جواب الشرط..» «١».
وفي الإتيان باسم الإشارة «أولئك» في الموضعين تنبيه إلى أنهم أحرياء بتلك العقوبات الأليمة بسبب ردتهم وموتهم على الكفر.
وفي التنصيص على حبوط أعمالهم في الدنيا والآخرة زيادة مذمة لهم، فهم في الدنيا- بسبب ردتهم- تسلب عنهم آثار كلمة الشهادتين من حرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليهم بعد الموت، والدفن في مقابر المسلمين، ومن طلاق زوجته المسلمة منه ومن عدم التوارث إلى غير ذلك من حقوق المسلمين، أما في الآخرة فشأنهم شأن الكافرين في ملازمتهم للنار. هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة.
١- حرمة القتال في الشهر الحرام، والجمهور على أن هذا الحكم منسوخ، وأنه لا حرج في قتال المشركين في الأشهر الحرم لقوله- تعالى-: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فإن المراد بالأشهر الحرم هنا: هي أشهر العهد الأربعة التي أبيح للمشركين السياحة فيها في الأرض، لا الأشهر الحرم الأربعة المعروفة، فالتقييد بها يفيد أن قتلهم بعد انسلاخها مأمور به في جميع الأزمنة والأمكنة. وأيضا لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم غزا هوازن وثقيف وأرسل بعض أصحابه إلى أوطاس ليحارب من فيها من المشركين، وكان ذلك في بعض الأشهر الحرم، ولو كان القتال فيهن حراما لما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قال الآلوسى: وخالف عطاء في ذلك، فقد روى عنه أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف بالله- تعالى- ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وجعل ذلك حكما مستمرا إلى يوم القيامة، والأمة اليوم على خلافه في سائر الأمصار» «٢».
وقد رجح بعض العلماء ما ذهب إليه عطاء فقال: ومهما يكن فإن القتال في الأشهر الحرم حرام في حال الاختيار والابتداء فلا يصح البدء بالغزو فيه. ولقد قال جابر: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى أو يغزو حتى إذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢ ص ١٠٨.
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وبقتال النبي صلّى الله عليه وسلّم أهل الطائف فيه. والحقيقة أنه لم يثبت ناسخ صريح في النسخ فإن قوله- تعالى-: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً العموم فيه بالنسبة للمقاتلين لا بالنسبة لزمان القتال، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يبتدئ قتالا في الشهر الحرام مختارا قط، والتحريم في الاختيار والابتداء كما بينا لا في البقاء والاضطرار، لذا قال- سبحانه-: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، ولأن الأشهر الحرم نص عليها في خطبة الوداع وكل ما جاء فيها غير منسوخ» «١».
٢- كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من الآية أن الردة تحبط العمل في الدنيا سواء أمات المرتد على كفره أم عاد إلى الإسلام قبل موته بدليل قوله- تعالى- في آية أخرى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ فقد علق الحبوط بمجرد الشرك، والخطاب وإن كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم فالمراد أمته لاستحالة الشرك عليه. وعلى هذا الرأى سار المالكية والأحناف.
ويرى الشافعية أن الردة تحبط العمل في الدنيا متى مات المرتد كافرا، لأن الآية تقول:
وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ويظهر أثر الخلاف فيمن حج مسلما، ثم ارتد ثم أسلّم، فالأحناف والمالكية يوجبون عليه إعادة الحج لأن الردة أحبطت حجه. والشافعية يقولون: لا حج عليه لأن حجه قد سبق والردة لا تحبط العمل إلا إذا مات الشخص كافرا.
ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه.
وبعد أن بين- سبحانه- عاقبة من يرتد عن دينه أتبع ذلك ببيان عاقبة المؤمنين الصادقين فقال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قال الإمام الرازي: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان:
الأول: أن عبد الله بن جحش قال: يا رسول الله: هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا، فهل نطمع منه أجرا وثوابا؟ فنزلت الآية، لأن عبد الله كان مؤمنا وكان مهاجرا، وكان مجاهدا بسبب هذه المقاتلة.
وفي الثاني: أنه تعالى لما أوجب الجهاد قبل بقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ
والمعنى: إن الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، واستقاموا على طريق الحق، وأذعنوا لحكمه، واستجابوا لأوامر الله ونواهيه: وَالَّذِينَ هاجَرُوا أى: تركوا أموالهم وأوطانهم من أجل نصرة دينهم: وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمته أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفات الثلاثة يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ. أى: يؤملون تعلق رحمته- تعالى- بهم، أو ثوابه على أعمالهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أى: واسع المغفرة للتائبين المستغفرين، عظيم الرحمة بالمؤمنين المحسنين.
قال القرطبي: «والهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع، والقصد ترك الأول إيثارا للثاني. والهجرة ضد الوصل، والاسم الهجرة. وجاهد مفاعله من جهد إذا استخرج الجهد.
والاجتهاد والتجاهد: بذل الوسع والمجهود، والجهاد- بالفتح- الأرض الصلبة.
وإنما قال يَرْجُونَ وقد مدحهم، لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ لأمرين:
أحدهما: أنه لا يدرى بماذا ختم له.
والثاني: لئلا يتكل على عمله، والرجاء أبدا معه خوف كما أن الخوف معه رجاء» «٢».
وجيء بهذه الأوصاف الثلاثة مترتبة على حسب الواقع إذا الإيمان يكون أولا ثم المهاجرة من أرض الظالمين إذا لم يستطع دفع ظلمهم، ثم الجهاد من أجل إعلاء كلمة الحق.
وأفرد الإيمان بموصول وحده لأنه أصل الهجرة والجهاد، وجمع الهجرة والجهاد في موصول واحد لأنهما فرعان عنه.
وبذلك نرى أن هذه الآية الكريمة قد دعت المؤمنين إلى بذل أموالهم وأنفسهم في سبيل نصرة الحق بأحكم أسلوب، وبرأتهم مما أثاره المشركون حولهم من شبهات، وحذرتهم من السير في طريقهم، وبشرتهم بحسن العاقبة متى استجابوا لتعاليم دينهم، واعتصموا بحبله.
وبعد هذا الحديث الجامع عن البذل والتضحية، ساق القرآن في آيتين ثلاثة أسئلة وأجاب عنها بما يشفى الصدور، ويصلح النفوس.
(٢) تفسير القرطبي ج ٢ ص ٥١.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٩ الى ٢٢٠]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ.. السائلون هم المؤمنون وسؤالهم إنما هو عن الحكم الشرعي من حيث الحل والتحريم. لا عن الحقيقة والذات فإنهم يعرفون حقيقة الخمر والميسر وذاتهما.
قال القرطبي: والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها- وكل شيء غطى شيئا فقد خمره. ومنه «خمروا آنيتكم، فالخمر تخمر العقل، أى: تغطيه وتستره..
فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك، وقيل إنما سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى أدركت كما يقال: قد اختمر العجين، أى: بلغ إدراكه. وخمر الرأى ترك حتى يتبين فيه الوجه. وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تخالط العقل من المخامرة وهي المخالطة ومنه قولهم: دخلت في خمار الناس- بفتح الخاء وضمها- أى: اختلطت بهم. فالمعاني الثلاثة متقاربة. فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت، ثم خالطت العقل. ثم خمرته، والأصل الستر «١».
ويرى كثير من العلماء أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الخمر. ثم نزلت الآية التي في سورة النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ثم نزلت الآية التي في سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا».
فنزلت الآية التي في النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فكان منادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أقام الصلاة- نادى أن: لا يقربن الصلاة سكران. فدعى عمر فقرئت عليه، فقال: «اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا». فنزلت الآية التي في المائدة، فدعى عمر فقرئت عليه، فلما بلغ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال عمر: «انتهينا» «١».
وبهذا الرأى قال ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلّم.
ويرى بعض العلماء أن أول آية نزلت في الخمر هي قوله- تعالى- في سورة النحل: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً.
وعلى هذا الرأى سار صاحب الكشاف وتبعه بعض العلماء، فقد قال: نزلت في الخمر أربع آيات، نزل بمكة قوله- تعالى-: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً فكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم. ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا:
يا رسول الله، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فشربها قوم وتركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلّى فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فنزلت: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فقل من يشربها ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبى وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا شعرا فيه هجاء للأنصار فضرب أحد الأنصار سعدا بلحى بعير فشجه، فشكا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك. فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت «إنما الخمر والميسر.. إلخ الآية».. فقال عمر: انتهينا يا رب» «٢».
وأصحاب الرأى الأول يقولون: إن آية سورة النحل وهي قوله- تعالى-: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ليس لها علاقة بموضوع الخمر، ويفسرون السكر بأنه ما أحله الله مما لا يسكر وأنه هو الرزق الحسن وأن العطف بينهما من باب عطف التفسير.
(٢) تفسير الكشاف في ج ١ صفحة ٢٥٩.
وهكذا نرى قوة الإيمان التي غرسها الإسلام في نفوس أتباعه عن طريق تعاليمه السامية، وتربيته الحكيمة.. تغلبت على ما أحبته النفوس وأزالت من القلوب ما ألفته الطبائع.
هذا وجمهور العلماء على أن كلمة «خمر» تشمل كل شراب مسكر سواء أكان من عصير العنب أم من الشعير أم من التمر أم من غير ذلك، وكلها سواء في التحريم قل المشروب منها أو كثر سكر شاربه أو لم يسكر.
ومن أدلتهم ما رواه الإمام مسلّم عن ابن عمر- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها لم يشربها في الآخرة» «١».
ومن أدلتهم أيضا أصل الاشتقاق اللغوي لكلمة خمر، فقد عرفنا أنها سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل وستره، فكل ما خامر العقل من الأشربة وجب أن يطلق عليه لفظ خمر سواء أكان من العنب أم من غيره.
وقال الأحناف ووافقهم بعض العلماء كإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وابن أبى ليلى: إن كلمة خمر لا تطلق إلا على الشراب المسكر من عصير العنب فقط، أما المسكر من غيره كالشراب من التمر أو الشعير فلا يسمى خمرا بل يسمى نبيذا. وقد بنوا على هذا أن المحرم قليله وكثيره إنما هو الخمر من العنب. أما الأنبذة فكثيرها حرام وقليلها حلال.
وقد رجح العلماء رأى الجمهور وضعفوا ما ذهب إليه الأحناف ومن وافقهم.
قال ابن العربي: وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة فلا يلتفت إليها.
والصحيح ما روى الأئمة أن أنسا قال: «حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا قليل، وعامة خمرها البسر والتمر» أخرجه البخاري، واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب، وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم- أى أوانى الخمر- وبادروا إلى الامتثال لاعتقادهم أن ذلك كله خمر» أى وأقرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ذلك «٢».
(٢) أحكام القرآن لابن العربي ج ١ صفحة ١٤٩.
بعد هذه الكلمة التمهيدية عن الآية، وعن مدلول كلمة خمر ننتقل إلى معنى كلمة «الميسر» فنقول: الميسر: القمار- بكسر القاف- وهو في الأصل مصدر ميمى من يسر، كالموعد من وعد. وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة، لأن المال يجيء للكاسب من غير جهد، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزر. ثم أصبح علما على ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه.
قال القرطبي نقلا عن الأزهرى: الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمى ميسرا لأنه أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته. والياسر: الجازر لأنه يجزئ لحم الجزور.. ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: يأسرون، لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك «٢».
وصفة الميسر الذي كانت تستعمله العرب أنهم كانت لهم عشرة أقداح يقال لها الأزلام أو الأقلام، فكانوا إذا أرادوا أن يقامروا أحضروا بعيرا وقسموه ثمانية وعشرين قسما وتترك ثلاثة من تلك الأقداح غفلا لا علامة عليها وكانت تسمى: السفيح، والمنيح، والوغد. ومن طلع له واحد منها لا يأخذ شيئا من الجزور. أما السبعة الأخرى فهي الرابحة وهي الفذ وله سهم واحد، والتوأم وله سهمان، والرقيب وله ثلاثة، والحلس وله أربعة، والنافس وله خمسة والمسبل وله ستة، والمعلى وله سبعة فيكون المجموع ثمانية وعشرين سهما.
تلك صورة تقريبية لقمار العرب كما أوردها بعض المفسرين «٣».
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ صفحة ٥٢.
(٣) راجع تفسير الآلوسى ج ٢ ص ١١٣، وتفسير القرطبي ج ٢ ص ٥٨. [.....]
ومعنى الآية الكريمة: يسألك أصحابك يا محمد عن حكم شرب الخمر ولعب الميسر، قل لهم على سبيل الإرشاد والإعلام: في تعاطيهما إِثْمٌ كَبِيرٌ أى: ذنب عظيم، وضرر شديد وذلك لما فيهما من القبائح المنافية لمحاسن الشرع من الكذب، والأذى، وشيوع العداوة والبغضاء بين الناس، واستلاب أموالهم بغير حق.
وقوله: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أى وفيهما منافع دنيوية للناس إذ الخمر تدر على المتاجرين فيها أرباحا مالية، والميسر يؤدى إلى إصابة بعض الناس للمال بدون تعب.
وأطلق- سبحانه- الإثم وقيد المنافع بأنها للناس، للتنبيه على أن الإثم في الخمر والميسر ذاتى، فهما في ذاتهما رجس كبير، وخطر وبيل، وأن ما فيهما من منافع ضئيل ولا يتجاوز بعض الناس، فهي منافع خاصة وليست عامة، ويشهد لهذا قوله- تعالى- بعد ذلك.
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أى أن المفاسد والاضرار التي تترتب على تعاطيهما، أعظم من المنافع التي تنشأ عن تعاطيهما، إذ تعاطيهما يؤدى إلى منفعة بعض الناس، أما مضارهما فكثيرة، من ذلك أن تعاطى الخمر يضعف الضمير، ويفسد الأخلاق، ويميت الحياء، ويفقد الرشد ويتلف المال، ويغرى بالتنازع بين الناس، ويتسبب- كما قال الأطباء الثقاة- في كثير من الأمراض كأمراض الكبد والرئتين والقلب.. إلخ.
وإن شئت المزيد من معرفة مضار الخمر فراجع ما كتبه العلماء والمتخصصون في ذلك «١».
أما تعاطى الميسر فمن مضاره- كما يقول الأستاذ الإمام محمد عبده- إفساد التربية بتعويد النفس الكسل، وانتظار الرزق من الأسباب الوهمية، وإضعاف القوة العقلية، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية، وإهمال المقامرين للزراعة والتجارة والصناعة التي هي أركان العمران، وتخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في ساعة واحدة، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في العز والغنى وانحصرت ثروتها في رجل أضاعها عليها في ليلة واحدة فأصبحت غنية وأمست فقيرة» «٢».
إذن فالمنافع الدنيوية التي تعود إلى بعض الناس من تعاطى الخمر والميسر لا تساوى شيئا
(٢) تفسير المنار ج ٢ ص ٢٣٠.
ثم يأتى بعد ذلك السؤال الثاني الذي ورد في هاتين الآيتين وهو قوله- تعالى-:
وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ.
ومناسبة هذا السؤال لما قبله أنهم بعد أن نهوا عن إنفاق أموالهم في الوجوه المحرمة كتعاطى الخمر والميسر، سألوا عن وجوه الإنفاق الحلال، وعن مقدار ما ينفقون فأجيبوا بهذا الجواب الحكيم.
قال الآلوسى: أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس أن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا وما الذي ننفقه منها فأنزل الله- تعالى- وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ وكان الرجل قبل ذلك ينفق ماله حتى لا يجد ما يتصدق ولا ما يأكل» «١».
وأصل العفو في اللغة الزيادة. قال- تعالى-: ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا أى زادوا على ما كانوا عليه من العدد. ويطلق على ما سهل وتيسر مما يكون فاضلا عن الكفاية.
يقال: خذ ما عفا لك. أى ما تيسر. كما يطلق على الترك قال- تعالى-: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ أى تركه وتجاوز عنه.
والمراد به هنا: ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة، إذ هذا القدر الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله، ولا يتضرر صاحبه بتركه.
والمعنى، ويسألونك ما الذي يتصدقون به من أموالهم في وجوه البر، فقل لهم تصدقوا بما زاد عن حاجتكم، وسهل عليكم إخراجه، ولا يشق عليكم بذله.
وفي هذه الجملة الكريمة إرشاد حكيم إلى التعاون والتراحم بين أفراد المجتمع، وتوجيه إلى المنهاج الوسط الذي يأبى التبذير وينفر من التقتير، وفي أحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما يؤيد هذا الإرشاد والتوجيه، ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول».
وأخرج مسلّم عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء
إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في هذا المعنى.
وللأستاذ الإمام كلام جيد في هذا المقام، فقد قال- رحمه الله- ما ملخصه: إن الأمة المؤلفة من مليون فرد إذا كانت تبذل من فضل مالها في مصالحها العامة كإعداد القوة وتربية الناشئة.. تكون أعز وأقوى من أمة مؤلفة من مائة مليون فرد لا يبذلون شيئا في مثل ذلك لأن الواحد من الأمة الأولى يعد بأمة، إذ هو يعتبر نفسه جزءا منها وهي كل له، بينما الأمة الثانية لا تعد بواحد لأن كل فرد من أفرادها يخذل الآخر.. وفي الحقيقة أن مثل هذا الجمع لا يسمى أمة، لأن كل واحد من أفراده يعيش وحده وإن كان في جانبه أهل الأرض، فهو لا يتصل بمن معه ليمدهم ويستمد منهم» «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.
أى: مثل هذا البيان الحكيم الذي بينه الله لكم فيما سألتم عنه يبين لكم في سائر كتابه آياته وأحكامه وحججه لكي تتفكروا وتتدبروا فيما ينفعكم في دنياكم وآخرتكم، بأن تعملوا في الدنيا العمل الصالح الذي يجعلكم تظفرون برضا الله في أخراكم.
قال صاحب الكشاف: «وقوله: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ إما أن يتعلق بتتفكرون، فيكون المعنى: لعلكم تتفكرون فيما يتعلق بالدارين فتأخذون بما هو أصلح لكم كما بينت لكم أن العفو أصلح من الجهد في النفقة وتتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع. ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فيكون المعنى: لتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا حتى لا تختاروا النفع العاجل على النجاة من العقاب الأليم. وإما أن يتعلق بيبين على معنى: يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون» «٢».
أما السؤال الثالث والأخير الذي ورد في هاتين الآيتين فهو قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ.
أخرج أبو داود والحاكم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال:
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٢٦٣.
وقوله- تعالى-:
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه. وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله- تعالى- وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فخلطوا طعامهم وشرابهم بشرابهم «١».
والمعنى: ويسألونك يا محمد عن القيام بأمر اليتامى أو التصرف في أموالهم أو عن أموالهم وكيف يكونون معهم فقل لهم: إن المطلوب هو إصلاحهم بالتهذيب والتربية الرشيدة.
والمعاملة الحسنة، وإصلاح أموالهم بالمحافظة عليها وعدم إنفاقها إلا في الوجوه المشروعة فهذا الإصلاح المفيد لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم، وتركهم، ولذا قال- تعالى- بعد ذلك:
وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ أى: وإن تعاشروهم وتضموهم إليكم فاعتبروهم إخوانكم في العقيدة والإنسانية، وعاملوهم بمقتضى ما تفرضه الأخوة من تراحم وتعاطف ومساواة.
والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها. و «إصلاح» مبتدأ وسوغ الابتداء به مع أنه نكرة وصفه بالجار والمجرور «لهم» و «خير» خبره، وقوله: فَإِخْوانُكُمْ الفاء واقعة في جواب الشرط، وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهم إخوانكم، والجملة في محل جزم على أنها جواب الشرط.
وقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وعد ووعيد، وترغيب في الإصلاح وترهيب من الإفساد، أى: والله يعلم المفسد لشئون هؤلاء اليتامى من المصلح لها، كما أنه- سبحانه- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وسيجازى كل إنسان على حسب عمله، فاحذروا الإفساد ولا تتحروا غير الإصلاح.
ثم قال- تعالى-: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ العنت: الشدة والمشقة والتضييق. يقال:
أعنته في كذا يعنته إعناتا، إذا أجهده وألزمه ما يشق عليه.
أى: ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم بتحريم مخالطة هؤلاء اليتامى، وبغير ذلك مما يشرع لكم، ولكنه- سبحانه- وسع عليكم وخفف فأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن، فاشكروه على ذلك.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أى: إن الله- تعالى- غالب
وقد استدل العلماء بهذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح، وعلى أن للولي أن يخالط اليتيم بنفسه في المصاهرة والمشاركة وغير ذلك مما تقتضيه المصلحة.
وقد وردت أحاديث متعددة في رعاية اليتيم وإصلاح أحواله ومن ذلك ما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما».
وروى الطبراني عن أبى الدرداء. قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم رجل يشكو قسوة قلبه، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم أتحب أن يلين وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك.
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملتا على أفضل ألوان الإصلاح للأفراد والجماعات في مطاعمهم ومشاربهم ونفقتهم وعلاقتهم بغيرهم ولا سيما اليتامى الذين فقدوا الأب الحانى، والقلب الرحيم، ومن شأن الأمة التي تعمل بهذا التوجيه السامي الحكيم أن تنال السعادة في دنياها. ورضاه الله- في أخراها.
ثم تحدثت السورة بعد ذلك في اثنتين وعشرين آية «١» عن بعض أحكام وآداب الزواج والمعاشرة، والإيلاء والطلاق، والعدة، والنفقة، والرضاعة، والخطبة، والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها، وبنائها على أفضل الدعائم، وأحكم الروابط، إذ الأسرة هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، ومن مجموعها يتكون، فإذا صلحت الوحدات والمكونات صلح البنيان، وإذا تصدعت تصدع.
ولقد ابتدأت الآيات التي معنا حديثها عن الأسرة بالحديث عن الزواج لأنه أعمق الروابط وأقواها ومنه تتأتى الذرية، لذا جعل أساس الاختيار فيه هو التدين السليم، والخلق القويم، الذي يسعد ولا يشقى، ويبنى ولا يهدم، ويحفظ ولا يضيع.. ولا يتأتى ذلك إلا باختيار المسلمة الصالحة والإعراض عن المشركة الكافرة.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يبين ذلك فيقول:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢١]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)قوله- تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ النكاح في اللغة الضم وتداخل أجزاء الشيء بعضها في بعض. ثم أطلق على العقد الذي به تكون العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة مشروعة.
والمشرك في لسان الشرع: من يدين بتعدد الآلهة مع الله- تعالى- وأصله من الإشراك بمعنى أن تجعل الشيء بينك وبين غيرك شركة، فمن يعبد مع الله- تعالى- إلها آخر يعد مشركا، وهو في الآخرة من الخاسرين.
ويرى كثير من العلماء أن إطلاق كلمة: مشرك، ومشركين، ومشركات في القرآن الكريم تعنى عبدة الأوثان، وأنها صارت في استعمال القرآن حقيقة عرفية فيهم، ولم يطلقها القرآن على اليهود والنصارى وإنما عبر عنهم بهذا الاسم أو بأهل الكتاب، أو بوصف الكفر دون الشرك كما في قوله- تعالى-: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وعليه فالمراد بالمشركات والمشركين في الآية عبدة الأوثان.
وذهب بعضهم إلى أن لفظ المشركات يشمل بمقتضى عمومه المرأة الوثنية، واليهودية، والنصرانية.
وقد ترتب على هذا الخلاف في إطلاق كلمة «مشرك» أن أصحاب الرأى الأول قالوا: إن النهى في الآية إنما هو عن زواج المشركات اللائي يعبدن الأوثان ولا كتاب لهن، وأنه يجوز- مع الكراهة- أن يتزوج المسلّم الكتابية، لأن القرآن يقول: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ، وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ، وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ.. الآية «١». ولأنه قد جاءت الروايات بأن بعض الصحابة قد تزوج بكتابيات. فعثمان بن عفان تزوج نصرانية ثم أسلمت، وطلحة ابن
أما من قال بالرأى الثاني فيرى حرمة الزواج بالوثنية واليهودية والنصرانية لأن لفظ المشركات يشملهن جميعا. وأصحاب هذا الرأى- كما يقول الآلوسى- يجعلون آية المائدة وهي قوله- تعالى-: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ.. منسوخة بالآية التي معنا نسخ الخاص بالعام.. وإلى هذا الرأى ذهب الإمامية وبعض الزيدية «١».
وروى عن عمر وعبد الله ابنه- رضي الله عنهما- أنهما حرما ذلك وفي رواية أنها كرهاه.
وهي الأصح.
قال القرطبي: وروى عن عمر أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا: نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب. فقال: لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة. قال ابن عطية وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن.
ثم قال القرطبي: وكان ابن عمر إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية. قال حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله. قال النحاس: وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، لأنه قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة منهم عثمان وطلحة وابن عباس.. ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد.. وفقهاء الأمصار عليه، وأيضا فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة البقرة ناسخة للآية التي في سورة المائدة، لأن البقرة من أول ما نزل بالمدينة والمائدة من آخر ما نزل، وإنما الآخر ينسخ الأول- أو يخصصه- وأما قول ابن عمر فلا حجة فيه، لأن ابن عمر- رضي الله عنه- كان متوقفا، فلما سمع الآيتين في واحدة التحليل وفي أخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل «٢».
والذي نراه أن زواج المسلّم بالكتابية جائز لأن القرآن صريح في ذلك، ولأن عمر- رضي الله عنه- أقر بأنه ليس بحرام، فتكون آية المائدة مخصصة لآية البقرة على فرض عمومها، ومبينة لحكم جديد خاص بالكتابيات، وهو الجواز ولكن هذا الجواز لا يمنع كراهته، لأن الزواج بالكتابية كثيرا ما يؤثر في إضعاف العاطفة الدينية عند المسلّم، وعند الأطفال الذين
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ ص ٦٨ بتصرف وتلخيص.
هذه خلاصة لآراء العلماء في هذه المسألة ومن أراد المزيد فليرجع إلى أقوالهم في مظانها «١».
والمعنى: أنها كم أيها المؤمنون أن تتزوجوا بالنساء المشركات حتى يؤمن بالله- تعالى- ويذعن لتعاليم الإسلام وآدابه.
وقوله: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ تعليل للنهى، وبيان لفضل المؤمنات على المشركات، ولفضل طهارة النفس على جمال الجسم، والمراد بالأمة هنا الأنثى المملوكة من الرقيق، وبالمشركة الحرة الجميلة بقرينة المقابلة.
أى: ولأنثى رقيقة مؤمنة مع ما بها من الرق وقلة الجاه والجمال خير في التزوج بها من امرأة حرة مشركة ولو أعجبتكم بجمالها ونسبها وغير ذلك من منافع دنيوية، لأن ما يتعلق بالمنافع الدينية يجب أن يقدم على المنافع الدنيوية، ولأن الزواج ارتباط روحي بين قلبين، ومن العسير أن يتم هذا الترابط بين قلب يخلص لله في عبادته، وقلب لا يدين بذلك.
وصدرت الجملة بلام الابتداء الشبيهة بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغة في الحمل على الانزجار، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أتباعه أن يجعلوا الدين أساس رغبتهم في الزواج، فقد أخرج الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك».
وعن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تتزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة سوداء ذات دين أفضل».
والأحاديث النبوية في هذا المعنى كثيرة.
ثم قال- تعالى-: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أى: لا تزوجوا أيها المؤمنون النساء المؤمنات للرجال المشركين حتى يتركوا ما هم عليه من شرك ويدخلوا في دين الإسلام، فإذا فعلوا ذلك حل لكم أن تزوجوهم النساء المسلمات، لأنهم بدخولهم في الإسلام قد أصبحوا إخوانا لكم.
فهذه الآية صريحة في أن زواج المسلمة بالكافر لا يجوز، وكلمة كافر تشمل أهل الكتاب بدليل قوله- تعالى-: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.. وقوله تعالى ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ.
قال الفخر الرازي: لا خلاف هاهنا في أن المراد به- أى بلفظ المشركين- الكل، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر ألبتة على اختلاف أنواع الكفرة «١».
وقوله: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ بيان لفضل الإيمان على الشرك، كما في قوله- تعالى-: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ إذ نسبة المؤمن أو المؤمنة إلى هذا الدين الذي ارتضاه الله لعباده أفضل وأجل من الانتساب إلى أى شيء آخر.
ثم بين- سبحانه- علة النهى عن الزواج بالمشركين والمشركات فقال- تعالى-: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ.
أى: أولئك المذكورون من المشركين والمشركات يدعون من يقارنهم ويعاشرهم إلى الأقوال والأفعال والعقائد التي تقضى بصاحبها إلى دخول النار في الآخرة والله- تعالى- يدعو عباده على ألسنة رسله إلى الأقوال والأعمال والعقائد التي توصل إلى جنته ومغفرته.
فالمراد بالدعاء إلى النار الدعاء إلى أسبابها وإلى ما يوصل إليها، وكان الاقتران بهؤلاء المشركين والمشركات سببا في الوصول إليها، لأن الزواج من شأنه الألفة والمودة والمحبة وشدة الاتصال، وكل ذلك يجعل المسلّم أو المسلمة يتقبلان ما عليه المشرك أو المشركة من فسوق وعصيان لله- تعالى- بل ربما بمرور الأيام لا يكتفيان بالتقبل بل يستحسنان فعلهما، وبذلك تنحل عرا الإسلام من نفس المسلّم والمسلمة عروة فعروة، حتى لا يبقى منه سوى الاسم، كما نشاهد ذلك في كثير من المسلمين الذين تزوجوا بغير مسلمات.
والمقصود من قوله- تعالى-: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ إغراء المؤمنين بالتمسك بتعاليم
والدعاء إلى الجنة والمغفرة المراد به الدعاء إلى أسبابهما كما في الجملة السابقة المقابلة وقيد- سبحانه- الدعاء إلى الجنة والمغفرة بقوله بِإِذْنِهِ أى بأمره وإرادته وعلمه، لأنه- سبحانه- هو المالك لكل شيء، ولا يقع في ملكه إلا ما يريده ويقدره.
قال بعض العلماء ما ملخصه: وقد يقول قائل: هذه الدعوة إلى النار قد تكون أيضا في زواج المسلّم بالكتابية، كما هي في زواج المسلّم بالمشركة، وكان مقتضى هذا أن يحرم زواج المسلّم بغير المسلمة مطلقا، كما حرم زواج المسلمة بغير المسلّم مطلقا، وإن لذلك الكلام موضعه، ولذلك أجمع الفقهاء على كراهة زواج المسلّم بالكتابية، بل زعم بعض العلماء أن زواج المسلّم من الكتابية محرم كزواجه من المشركة.
ولكن الجمهور لا يقطعون بالتحريم أمام النص القاطع بالحل، ولا يعملون العلة ليهمل النص، بل يرون علة التحريم لا تتوافر في الكتابية توافرها في المشركة، فإن المشركة لا ترتبط بأى قانون خلقي يعصمها من الزلل.. أما الكتابية فإن مجموع الفضائل الإنسانية.. لا تزال باقية في تعاليم دينها فيمكن الاحتكام إليها.
والقرآن في جدله مع أهل الكتاب كان يلاحظ إمكان التفاهم معهم على قواعد يمكن حملهم على الإقرار بها كما في قوله- تعالى-: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً.. الآية.
وأمرنا أن نجادلهم بالتي هي أحسن فقال: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ.. الآية.
فكان من اطراد تلك المعاملة الحسنة المقربة غير المبعدة، أن أباح الإسلام الزواج من الكتابيات.
بيد أنه يلاحظ في إباحة الزواج من الكتابيات أمران:
أولهما: أن النص القرآنى المبيح خاص بالمحصنات منهن، إذ قال- سبحانه وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ والمحصنات- في أظهر التفسير- هن العفيفات، فأولئك الذين يعمدون إلى المنحرفات منهن في أخلاقهن وعقولهن ولا يتخيرون، خارجون عن موضع الإباحة فيما أحسب، لأن الله أحل المحصنات وهم استحلوا المنحرفات.
ثانيهما: أن ولى الأمر إذا رأى خطرا على الدولة الإسلامية أو على المجتمع الإسلامى له أن
وقوله- تعالى- في ختام الآية: وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ معطوف على يدعو إلى الجنة. أى أنه- سبحانه- يدعو الناس إلى ما يوصلهم إلى جنته ومغفرته ويبين لهم آياته وأوامره ونواهيه في شئون الزواج وفي غير ذلك من الأحكام لكي يتعظوا ويعتبروا ويتذكروا ما أمرهم الله به فيعملوه، وما نهاهم عنه فيتركوه.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد رسمت للناس أقوم السبل، لكي يعيشوا في ظل أسرة فاضلة، تظلها السعادة، ويسودها الأمان والاطمئنان ويتعاون أفرادها على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.
وبعد أن أمر الله- المسلّم بأن يجعل التدين وحسن الخلق محط اختياره في الزواج، اتبع ذلك بإرشاده إلى بعض الآداب التي يجب عليه أن يسلكها مع زوجه حتى تكون علاقتهما قائمة على ما يقتضيه الطبع السليم والخلق القويم وحتى تكون في أعلى درجات التطهر والتنزه والعفاف فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٢ الى ٢٢٣]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
والمحيض: الحيض مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا فهي حائض، وأصله السيلان. يقال حاض الوادي إذا سال، ومنه الحوض لسيلان الماء إليه.
ثم أطلق الحيض على ما يقذفه رحم المرأة من دم في أوقات مخصوصة على وجه مخصوص.
والأذى: الشيء الذي يتأذى منه الإنسان ويصيبه الضرر بسببه.
والسؤال كان من بعض الصحابة، لأنه لقوة إيمانهم كانوا يحبون أن يعرفوا حكم الإسلام في شئونهم الخاصة والعامة، ولأنهم وجدوا أن اليهود وغيرهم يعاملون المرأة في حال حيضها معاملة غير كريمة فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذا الأمر الذي يتصل بأدق العلاقات بين الرجل والمرأة وهو حكم مباشرة النساء في حال الحيض، فأجابهم الله- تعالى- جوابا شافيا.
والمعنى: ويسألك أصحابك يا محمد عن حكم مباشرة النساء في حال الحيض فقل لهم معلما وموجها: إن الحيض أى الدم الذي يلفظه رحم المرأة في وقت معين أذى يتأذى به الإنسان تأذيا حسيا جسيما، فرائحته يتأذى منها من يشمها، وهو في ذاته شيء متقذر تعافه النفوس، وتنفر منه الطباع.
وقوله: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ بيان للحكم المتفرع على تلك الحالة التي يتأذى منها وهي حالة الحيض.
والاعتزال: التباعد، وهو هنا كناية عن ترك الجماع والمباشرة، كما أن النهى عن قربهن كناية عن النهى عن جماعهن، يقال: قرب الرجل امرأته إذا جامعها.
ويَطْهُرْنَ من الطهر- بضم الطاء- بمعنى النقاء من الوسخ والقذر-.
والمعنى: عليكم أيها المؤمنون أن تمتنعوا عن مباشرة النساء في زمن حيضهن، ولا تجامعوهن
ومبرأ من كل غبّر حيضة | وفساد مرضعة وداء معضل «٢» |
فبعضهم يرى اعتزال جميع بدن المرأة، وحجتهم أن الله أمر باعتزال النساء ولم يخصص من ذلك شيئا دون شيء.
وبعضهم يرى اعتزال موضع الأذى- أى مكان خروج الدم- لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «اصنعوا كل شيء إلا النكاح».
وبعضهم يرى اعتزال ما بين السرة إلى الركبة من المرأة وله ما سوى ذلك، لقول عائشة:
كانت إحدانا إذا كانت حائضة أمرها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تأتزر ثم يباشرها. وقوله: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ تأكيد لحكم الاعتزال وتقرير له، وتنبيه على أن المراد به عدم جماعهن لا عدم القرب منهن أو مخالطتهن أو الأكل معهن كما كان يفعل اليهود وبعض العرب.
والدليل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «كنت أرجل رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا حائض».
وروى البخاري عن عائشة- أيضا- قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتكئ في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن «٣».
(٢) غبر الحيضة: جمع غبرة وهي آخر الشيء. يريد أن يقول: إن أم هذا الممدوح لم تحمل به في آخر مدة الحيض لذا جاء مستقيم الخلقة.
(٣) صحيح البخاري: كتاب الحيض ج ١ ص ٨٢.
وقوله: حَتَّى يَطْهُرْنَ بيان لغاية الاعتزال. وقرأ حمزة الكسائي حَتَّى يَطْهُرْنَ بفتح الطاء والهاء مع التشديد.
ومعناه عند جمهور الفقهاء ولا تجامعوهن حتى يغتسلن، لأن القراءتين معناهما واحد، ولأن الله- تعالى- قد علق الإتيان على التطهر فقال: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ والتطهر هو الاغتسال. فالمرأة إذا انقطع حيضها لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد الاغتسال.
ويرى الأحناف أن معنى حَتَّى يَطْهُرْنَ أى حتى ينقطع الدم، لأنه إذا كان سبب الأذى هو الدم فانقطاعه طهور منه، وبناء على ذلك فيجوز للرجل أن يباشر زوجته قبل أن تغتسل متى انقطع دمها لأقصى مدة الحيض، وهو عشرة أيام. أخذا بالقراءة المشهورة يَطْهُرْنَ بالتخفيف. أما إذا انقطع الدم قبل ذلك فلا تحل مباشرتها إلا بالتأكيد من زوال الدم بعمل من جانبها وهو الاغتسال الفعلى، لأن قراءة يَطْهُرْنَ بالتشديد عندهم معناها يغتسلن.
وقال بعض الفقهاء يكفى في حلها أن تتوضأ عند انقطاع الدم.
ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه.
وفي هاتين الجملتين الكريمتين فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ من سمو التعبير، وبديع الكناية ما يغرس في نفس السامع حسن الأدب، ويصون سمعه عن الألفاظ التي يجافى سماعها الأذواق السليمة، وما أحوج المسلمين إلى التأسى بهذا الأدب الذي يحفظ عليهم مروءتهم وكرامتهم.
ثم قال- تعالى-: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أى: فإذا تطهرن من المحيض فجامعوهن في المكان الذي أمركم الله بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تتعدوه إلى غيره.
والأمر في قوله- تعالى-: فَأْتُوهُنَّ المراد به إباحة المباشرة، لأن من المقرر عند العلماء أن الأمر بعد النهى يكون للإباحة، خصوصا إذا كان الموضع موضع حل وإباحة لا موضع تكليف وإلزام، وليس المراد به الحتم واللزوم، لأن الإتيان مبنى على الرغبة والطاقة وشبه بهذا التعبير قوله- تعالى-: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وقوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا.
قال الجمل: ومن في قوله: «من حيث» فيها قولان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية، أى من الجهة التي تنتهي إلى موضع الحيض.
وعلى كلا القولين فالمقصود أن يأتى الرجل زوجته في المكان الفطري الطبيعي لتلك العلاقة الجنسية، وهو القبل إذ هو مكان البذر والإنسال، ولا يخرج عن ذلك إلا الذين أصيبوا بشذوذ في عقولهم، وضعف في دينهم..
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ والتواب صيغة مبالغة من تائب بمعنى راجع إلى ربه إذا زل وهفا.
والمتطهر: هو الإنسان المتنزه عن الفواحش والأقذار.
أى: إن الله- تعالى- يحب عباده الذين يكثرون الرجوع إليه إذا ما ظلموا أنفسهم بسيئة من السيئات، والذين يصونون أنفسهم وينزهونها عن المعاصي والآثام، ويرضى عنهم في الدنيا والآخرة.
قال الآلوسى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مما عسى يبدر منهم من ارتكاب بعض الذنوب كالإتيان في الحيض المستدعى لعقاب الله- تعالى- فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أتى حائضا فقد كفر بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو جار مجرى الترهيب فلا يعارض ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أصبت امرأتى وهي حائض فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعتق نسمة» وهذا إذا كان الإتيان في أول الحيض والدم أحمر، أما إذا كان في آخره والدم أصفر فينبغي أن يتصدق بنصف دينار كما دلت عليه الآثار» «٢».
ثم قال- تعالى-: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.
روى الشيخان عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها ثم حملت كان ولدها أحول. فأنزل الله- تعالى- قوله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الآية.
والحرث في الأصل: تهيئة الأرض بالحراثة لإلقاء البذر فيها. وقد تطلق كلمة الحرث على الأرض المزروعة كما في قوله- تعالى- أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ أى على حديقتكم لجمع ما فيها من ثمار.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢ صفحة ١٢٤ وبتلخيص قليل.
وأَنَّى شِئْتُمْ بمعنى كيف شئتم، أو متى شئتم في غير وقت الحيض.
والمعنى: نساؤكم هن مزرع لكم ومنبت للولد، أعدهن الله لذلك كما أعد الأرض للزراعة والإنبات، فأتوهن إذا تطهرن من الحيض في موضع الحرث كيف شئتم مستلقيات على ظهورهن أو غير ذلك ما دمتم تؤدون شهوتكم في صمام واحد وهو الفرج.
وفي هذه الجملة الكريمة إشعار بأن المقصد الأول من الزواج إنما هو النسل، ويشير إلى ذلك قوله نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ إذ من شأن الحرث الصالح الإنتاج وإشعار كذلك بما شرعه الله للزوجين من مؤانسة ومباسطة ويشير إلى ذلك قوله- تعالى-: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.
ويرى صاحب الكشاف أن التشبيه بين ما يلقى في الأرحام من النطفة وبين البذر الذي يلقى في الأرض من حيث إن كلا منهما ينمو في مستودعه ويكون به البقاء والتوالد، فقد قال- رحمه الله-:
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ مواضع الحرث لكم. وهذا مجاز شبهن بالمحارث تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور، وقوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ تمثيل، أى فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تحرثونها من أى جهة شئتم، لا تحظر عليكم جهة دون جهة.
والمعنى: جامعوهن من أى شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحدا وهو موضع الحرث.
ثم قال: وقوله- تعالى-: هُوَ أَذىً، فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ وقوله مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وقوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ من الكنايات اللطيفة والتعريضات الحسنة. وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدبوا بها ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم.
فإن قلت: ما موقع قوله نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ مما قبله؟ قلت: موقعه موقع البيان والتوضيح لقوله: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ يعنى أن المأتى الذي أمركم الله به هو مكان الحرث ترجمة له وتفسيرا، أو إزالة للشبهة ودلالة على أن الغرض الأصيل في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة فلا تأتوهن إلا من المأتى الذي يتعلق به هذا الغرض» «١».
ثم ختم الله- تعالى- الآية بقوله: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.
أى: عليكم أيها المؤمنون أن تقدموا في حاضركم لمستقبلكم من الأعمال الصالحة ما ينفعكم
وقوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بشارة طيبة لمن آمن وعمل صالحا، وتلقى ما كلفه الله- تعالى- بالطاعة والامتثال.
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين قد أرشدتا المسلّم إلى أفضل الوسائل، وأقوى الدعائم التي يقوم عليها صرح الحياة الزوجية السعيدة، والتي عن طريقها تأتى الذرية الصالحة الرشيدة، وأن الإسلام في تعاليمه لا يحاول أن ينكر أو يحطم غرائز الإنسان وضرورياته، وإنما الإسلام يعترف بغرائز الإنسان وضرورياته ثم يعمل على تهذيبها وتقويمها بالطرق التي من شأنه إذا ما اتبعها أن يظفر بالسعادة والطمأنينة في دنياه وأخراه.
وبعد أن بينت لنا السورة الكريمة حكم المباشرة في فترة الحيض تابعت حديثها عن شئون الأسرة فذكرت حكم الإيلاء أى الحلف بالامتناع عن المباشرة بعد أن قدمت له بالحديث عن الحلف في ذاته. استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى ذلك فتقول:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٤ الى ٢٢٧]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)
العرضة: فعله- بضم الفاء- بمعنى مفعول كالقبضة والغرفة، وهي اسم لكل ما يعترض الشيء فيمنع من الوصول إليه، واشتقاقها من الشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانعا للناس من السلوك والمرور يقال فلان عرضة دون الخير أى حاجز عنه.
وتطلق كذلك على النصبة التي تتعرض للسهام وتكون هدفا لها، ومنه قولهم: فلان عرضة
دعوني أنح وجدا كنوح الحمائم | ولا تجعلوني عرضة للوائم |
والأيمان: جمع يمين وتطلق بمعنى الحلف والقسم، واصل ذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا توثيق عهودهم بالقسم يقسمونه وضع كل واحد من المتعاهدين يمينه في يمين صاحبه، و «تبروا» من البر وهو الأمر المستحسن شرعا.
والمعنى على الوجه الأول: لا تجعلوا الحلف بالله- أيها المؤمنون- حاجزا ومانعا عن البر والتقوى والإصلاح بين الناس، وذلك أن بعض الناس كان إذا دعى إلى فعل الخير وهو لا يريد أن يفعله يقول: حلفت بالله ألا أفعله فنهاهم الله- تعالى- عن سلوك هذا الطريق.
وهذا المعنى هو الذي رجحه كثير من المفسرين لأنه هو المناسب لما يجيء بعد ذلك من قوله- تعالى-: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ووجه المناسبة أن الله- تعالى- يكره للمؤمن أن يجعل الحلف به مانعا من رجوعه إلى أهله ولأن هناك أحاديث كثيرة تحض من حلف على ترك أمر من أمور الخير أن يكفر عن يمينه وأن يأتى الأمر الذي فيه خير، ومن هذه الأحاديث ما جاء في الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنى والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها» «١».
وروى مسلّم في صحيحه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير» «٢».
وشبيه بهذه الآية في النهى عن الحلف على ترك فعل الخير قوله- تعالى- في شأن سيدنا أبى بكر عند ما أقسم ألا ينفق على قريبه الذي خاض في شأن ابنته عائشة وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ «٣».
فالآية على هذا الوجه تنهى المؤمن عن المحافظة على اليمين إذا كانت هذه اليمين مانعة من فعل الخير.
واللام في قوله: لِأَيْمانِكُمْ متعلق بعرضة، وقوله أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا مفعول
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٦٦.
(٣) سورة النور الآية ٢٢.
والمعنى على أن عرضة بمعنى النصبة التي تتعرض للسهام: لا تجعلوا- أيها المؤمنون- اسم الله- تعالى- هدفا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به في كل حق وباطل، وذلك لأجل البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فإن من شأن الذي يكثر الحلف أن تقل ثقة الناس به وبإيمانه، وقد ذم الله- تعالى- من يكثر الحلف بقوله وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ وأمر بحفظ الأيمان فقال: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ.
قال الإمام الرازي: والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان، أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك، ولا يبقى لليمين في قلبه وقع، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة، فيختل ما هو الغرض الأصلى في اليمين، وأيضا كلما كان الإنسان أكثر تعظيما لله. كان أكمل في العبودية، ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله- تعالى- أجل وأعلا عنده من أن يستشهد به في غرض دنيوى، وأما قوله بعد ذلك أَنْ تَبَرُّوا فهو علة لهذا النهى. أى: إرادة أن تبروا والمعنى إنما نهيتم عن هذا- أى عن الإكثار من الحلف- لما أن توقى ذلك من البر والتقوى والإصلاح، فتكونون يا معشر المؤمنين بسبب عدم إكثاركم من الأيمان- بررة أتقياء مصلحين» «١».
وهذا الوجه أيضا استحسنه كثير من العلماء، ولا تنافى بينهما لأن الله- تعالى- ينهانا عن أن نجعل القسم به مانعا من فعل الخير، كما ينهانا في الوقت نفسه عن أن نكثر من الحلف به في عظيم الأمور وحقيرها.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أى: سميع لأقوالكم وأيمانكم عند النطق بها عليم بأحوالكم ونياتكم فحافظوا على ما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم لتنالوا رضاه ومثوبته.
وقوله- تعالى-: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ استئناف بيانى، لأن الآية السابقة لما أفادت النهى عن التسرع في الحلف، أو عن اتخاذ الأيمان حاجزا عن عمل الخير، كانت نفوس السامعين مشوقة إلى حكم اليمين التي تجرى على الألسنة بدون قصد.
والمؤاخذة: مفاعلة من الأخذ بمعنى المحاسبة أو المعاقبة أو الإلزام بالوفاء بها.
واللغو من الكلام: الساقط الذي لا يعتد به ولا يصدر عن فكر وروية مصدر لغا يلغو ويلغى.
واليمين اللغو هي التي لا يقصدها الحالف، بل تجرى على لسانه عادة من غير قصد، وقد ذكر العلماء صورا لها منها- كما يقول ابن كثير:
ما رواه عطاء عن عائشة أنها قالت: «اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله» وفي رواية عن الزهري عن عروة عنها أنها قالت: «اللغو في اليمين هو ما يكون بين القوم يتدارءون في الأمر- أى يتناقشون ويتذاكرون فيه- فيقول هذا لا والله وبلى والله وكلا والله لا تعقد عليه قلوبهم» أى تجرى على ألسنتهم ألفاظ اليمين ولكن بدون قصد يمين: - ومنها ما جاء عن عروة عنها أنها كانت تتأول هذه الآية يعنى قوله- تعالى-: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وتقول: هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه».
ثم بين- سبحانه- اليمين التي هي موضع المحاسبة والمعاقبة فقال: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ.
أى: لا يؤاخذكم الله في اليمين التي لم تصدر عن روية وتفكير ولكن يؤاخذكم أى يعاقبكم في الآخرة بما قصدته قلوبكم وتعمدتم فيه الكذب في اليمين، بأن يحلف أحدكم على شيء كذب ليعتقد السامع صدقه، وتلك هي اليمين الغموس- أى التي تغمس صاحبها في النار- ويدخل فيها الأيمان التي يحلفها شهود الزور والكاذبون عند التقاضي ومن يشابههم في تعمد الكذب.
ويرى جمهور العلماء أن هذه اليمين لا كفارة فيها وإنما كفارتها التوبة الصادقة ورد الحقوق إلى أصحابها إن ترتب على اليمين الكاذبة ضياع حق أو حكم بباطل.
ويرى الإمام الشافعى أنه يجب فيها فوق ذلك الكفارة.
والباء في قوله: بِما للسببية، وما مصدرية أى، لا يؤاخذكم باللغو ولكن يؤاخذكم بالكسب، أو موصولة والعائد محذوف أى ولكن يؤاخذكم بالذي كسبته قلوبكم.
وقوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ تذييل لتأكيد معنى عدم المؤاخذة في اللغو. أى والله غفور حيث لم يؤاخذكم باللغو حليم حيث لم يعاجل المخطئين بالعقوبة.
وبعد بيان هذه الأحكام في الأيمان العامة، عقب- سبحانه- ذلك ببيان حكم اليمين الخاصة فقال: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
. ويُؤْلُونَ: من الإيلاء مصدر آلى يؤالى ويؤلي إيلاء بمعنى حلف. قال الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه | وإن سبقت منه الألية برت |
والتربص التلبث والانتظار والترقب. قال الشاعر:
تربص بها ريب المنون لعلها | تطلق يوما أو يموت حليلها |
قال الشاعر:
ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له | ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا |
والطَّلاقَ هو حل عقد النكاح الذي بين الرجل والمرأة، وأصله من الانطلاق، وهو الذهاب. يقال: طلقت المرأة تطلق- من باب نصر- طلاقا، إذا أصبحت مخلاة بدون رجل بعد أن كانت في عصمة رجل معين.
قال الفخر الرازي: كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها، فكان يتركها بذلك لا أيما ولا ذات بعل والغرض منه مضارة المرأة. ثم إن أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك- أيضا- فأزال الله، تعالى- ذلك، وأمهل الزوج مدة حتى يتروى ويتأمل فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها».
ومعنى الآيتين الكريمتين: أن الله- تعالى- جعل للذين يحلفون على ترك مباشرة أزواجهم مدة يراجعون فيها أنفسهم، وينتظرون فيها ما يستقر عليه أمرهم، وهذه المدة هي أربعة أشهر، فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك مباشرة الزوجة، ورأوا أن المصلحة في الرجوع فإن الله- تعالى- يغفر لهم ما فرط منهم. وإن استمروا على ترك مباشرة نسائهم، وأصروا على ذلك بعد انقضائها فإن شرع الله- تعالى يحكم بالتفريق بينهما، لأن الحياة الزوجية لا تقوم على البغض والكراهية والهجران، وإنما تقوم على المحبة والمودة والرحمة.
وعدى فعل الإيلاء بمن مع أن حقه أن يتعدى بعلى، لأنه تضمن هنا معنى البعد كأنه قال:
للذين يؤلون متباعدين من نسائهم.
ومِنْ نِسائِهِمْ على حذف المضاف، أو من إقامة العين مقام الفعل المقصود منه المبالغة أى، للذين يؤلون من مباشرة نسائهم.
وأضيف التربص إلى الظرف أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ على الاتساع إذ الأصل تربصهن في أربعة أشهر. وقوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دليل الجواب. أى فإن فاؤا إلى زوجاتهم وحنثوا في أيمانهم التي حلفوها بالابتعاد عنهن، بأن كفروا عنها وتابوا إلى ربهم فحنثهم مغفور لهم لأنه- سبحانه- غفور لمن تاب من بعد ظلمه وأصلح، رحيم بعباده في كل أوامره وتكاليفه.
وجواب الشرط في قوله وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ محذوف والتقدير وإن عزموا الطلاق فقد وجب عليهم ما اعتزموه، والطلاق منصوب على نزع الخافض لأن عزم يتعدى بعلى.
وفي قوله: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وعيد شديد لمن يحلف على ترك مباشرة امرأته أو يمسكها بقصد إيذائها ومضارتها.
أى فإن الله- تعالى- سميع لكل ما كان من الزوج الحالف، عليم بما يقع منه من مضار أو غيرها، وسيجزيه يوم القيامة بما يستحقه.
قال القرطبي ما ملخصه: وقد جعل الله للزوج مدة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر، وقد آلى النبي صلّى الله عليه وسلّم من أزواجه شهرا تأديبا لهن- عند ما طالبنه بزيادة النفقة- وقد قيل: الأربعة الأشهر هي التي لا تستطيع أن تصبر عنه أكثر منها، وقد روى أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- سأل بعض النساء عن مقدار صبر المرأة عن زوجها فقلن أربعة أشهر، فجعل عمر مدة الرجل في الغزو أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين، وهذا- والله أعلم- يقوى اختصاص مدة الإيلاء بأربعة أشهر» «١».
وعلى أية حال فإن الطبائع تختلف في مثل هذه الأمور، والأربعة الأشهر مدة كافية ليختبر الرجل نفسه وميوله، فإما أن يعود إلى معاشرة زوجه بالطريقة التي شرعها الله، وإما أن تعاد إلى الزوجة حريتها بالطلاق، ليبدأ كلاهما حياة زوجية جديدة مع شخص آخر. فذلك أكرم
هذا وجمهور- العلماء على أن الطلاق لا يقع بانتهاء هذه المدة، وإنما بانتهائها يأمره الحاكم بالفيئة، فإن تقبل أمر الحاكم بالرضا أمهله مدة يمكنه الفيئة فيها، وإن لم يتقبله بالرضا أمره بالطلاق، فإن طلق فبها وإلا طلقها الحاكم منه.
وعليه فإن الفاء في قوله- تعالى-: فَإِنْ فاؤُ لترتيب الحكم الذي يحصل بعد مدة التربص.
وقال الأحناف إن الطلاق يقع بمجرد انتهاء هذه المدة وهي الأربعة الأشهر، والرجوع إنما يكون خلالها فلا زيادة فوقها، ويكفى في مراجعته لنفسه تلك المدة، وما دام لم يرجع إلى معاشرة امرأته خلالها فقد آثر فراقها، ولا يصح أن نعطيه أية مهلة من الوقت بعدها. وعليه تكون الفاء عندهم للتفصيل، أى تفصيل ما يحصل من الزوج في هذه المدة.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد نهت المسلّم عن اتخاذ الحلف بالله حاجزا بينه وبين فعل الخير، وأمرته بأن يحفظ لسانه عن الإكثار من الحلف بالله في الأمور الصغيرة والكبيرة، وحذرته من تعمد الأيمان الكاذبة التي تؤدى إلى غضب الله- تعالى- لأن اليمين الكاذبة الفاجرة من كبائر الذنوب، وحذرته كذلك من أن يهجر زوجته بقصد إيذائها والإضرار بها، لأن الحياة الزوجية يجب أن تقوم على المودة والرحمة، وأرشدته إلى أن أقصى مدة لهجر الزوجة بقصد تأديبها وعلاج اعوجاجها هي أربعة أشهر يراجع فيها نفسه، فإما أن يعود إليها ويكفر عن يمينه، وإما أن يقع بينهما الفراق وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.
وبهذه الأحكام السامية يكون الإسلام قد شرع للرجل والمرأة ما ينفعهما ويصون كرامتهما، ويحفظ لهما حريتهما وحسن استمتاعهما بالحياة.
ثم ساقت السورة في خمس آيات أحكام الطلاق، وفصلت أحواله، وبينت مراته، وذكرت ما ينبغي أن يكون عليه من عدل وتسامح حتى لا يقع ظلم أو جور على أحد الزوجين. استمع إلى القرآن الكريم وهو يبين ذلك بأسلوبه الحكيم المؤثر فيقول:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٨ الى ٢٣٢]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)والتربص: التأنى والتريث والانتظار.
والقروء: جمع قرء- بضم القاف وفتحها-.
قال الطبرسي: وأصله في اللغة يحتمل وجهين:
أحدهما: الاجتماع ومنه القرآن لاجتماع حروفه.. فعلى هذا يقال أقرأت المرأة فهي مقرئ إذا حاضت، وذلك لاجتماع الدم في الرحم.
والوجه الثاني: أن أصل القرء الوقت الجاري في الفعل على عادة، يقال: هذا قارئ الرياح أى وقت هبوبها» «١».
والمعنى: أن على المطلقات أن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء بدون نكاح ثم لها أن تتزوج بعد ذلك إن شاءت.
والمراد بالمطلقات هنا المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل، لأن غيرهن قد بين الله- تعالى- عدتهن في مواضع أخرى.
والمتوفى عنها زوجها بين الله عدتها بقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً «٢».
ومن لا يحضن ليأس من الحيض، أو لأنهن لم يرين الحيض فقد بين الله- تعالى- عدتهن بقوله: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ «٣» أى: واللائي لم يحضن فعدتهن كذلك ثلاثة أشهر.
وذوات الحمل بين الله- تعالى- عدتهن بقوله: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ «٤».
وغير المدخول بها لا عدة عليها لقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «٥».
(٢) سورة البقرة الآية ٢٣٤
(٣، ٤) سورة الطلاق الآية ٤. [.....]
(٥) سورة الأحزاب الآية ٤٩.
وفي قوله- تعالى-: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ما فيه من الإبداع في الإشارة والنزاهة في العبارة والسمو في المعنى، وذلك لأن المرأة المطلقة كثيرا ما تشعر بعد طلاقها بأنها في حاجة إلى أن تثبت أن إخفاقها في حياتها الزوجية السابقة ليس لنقص فيها، أو لعجز عن إنشاء حياة زوجية أخرى، وهذا الشعور قد يدفعها إلى التسرع والاندفاع من أجل إنشاء هذه الحياة، وهنا تبرز طريقة القرآن الحكيمة في معالجة النفوس، إنه يقول للمطلقة: إن التطلع إلى إنشاء حياة زوجية أخرى ليس عيبا، ولكن الكرامة توجب عليها الانتظار والتريث، إذ لا يليق بالحرة الكريمة أن تتنقل بين الأزواج تنقلا سريعا.. وأيضا فإن نداء الفطرة، وتعاليم الشريعة توجبان عليها الانتظار مدة ثلاثة قروء، لكي تستبرئ رحمها، حتى إذا كان هناك حمل نسب إلى الأب الشرعي له.
وفي قوله- تعالى-: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ إشعار بأن هذا التربص يجب أن يكون من ذات أنفسهن وليس من عامل خارجى، فشأن الحرة الكريمة المؤمنة أن تحجز نفسها بنفسها عن كل ما يتنافى مع الكرامة والشرف، فقد تجوع الحرة ولكنها لا تأكل بثديها- كما يقولون-.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى المعنى بقوله: فإن قلت وما معنى ذكر الأنفس- هنا-؟
قلت: في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن. وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال. فأمرن أن يقمعن أنفسهن، ويغلبنها على الطموح، ويجبرنها على التربص» «٢».
وقوله- تعالى-: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ نصب ثلاثة على النيابة عن المفعول فيه، لأن الكلام على تقدير مضاف، أى مدة ثلاثة قروء. فلما حذف المضاف خلفه المضاف إليه في الإعراب.
هذا وللعلماء رأيان شهيران في المراد بقوله- تعالى-: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ.
(٢) تفسير الكشاف ج ١ صفحة ٢٧١.
ومن أدلتهم: ان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد فسر القرء بمعنى الحيض فقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي عن فاطمة بنت أبى حبيش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «دعى الصلاة أيام أقرائك» «١».
ولا شك أن المراد بالقرء في هذا الحديث الحيض، لأنه هو الذي لا تصح معه الصلاة.
أما المالكية والشافعية ومن قبلهم عائشة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت والزهري وغيرهم فيرون أن المراد بالقروء هنا الأطهار، أى الأوقات التي تكون بين الحيضتين للنساء.
ومعنى الآية عندهم: أن على المطلقات أن يمكثن بعد طلاقهن من أزواجهن ثلاثة أطهار بدون زواج ثم بعد ذلك يتزوجن إذا شئن.
ومن أدلتهم: أن الله- تعالى- يقول: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وقد بينت السنة النبوية أن الطلاق لا يكون في الحيض، فلا يتصور أن يكون الطلاق في العدة إلا إذا فسرنا القرء بالطهر لا بالحيض. وروى عن عائشة أنها قالت: هل تدرون الأقراء؟ الأقراء الأطهار «٢».
قال صاحب المنار قال الأستاذ الإمام: والخطب في الخلاف سهل، لأن المقصود من هذا التربص العلم ببراءة الرحم من الزوج السابق، وهو يحصل بثلاث حيض كما يحصل بثلاث أطهار.. ومن النادر أن يستمر الحيض إلى آخر الحمل فكل من القولين موافق لحكمة الشرع في المسألة «٣».
ثم قال- تعالى-: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ. أى: ولا يحل للنساء المطلقات أن يكتمن أمانة الله التي خلقها في أرحامهن من ولد لكي ينسبنه إلى غير أبيه، أو من حيض أو طهر لكي تطول العدة، ويمتد الإنفاق من الأزواج عليهن. فإن هذا الكتمان كذب على الله، وخيانة للأمانة التي أودعها الله في أحشائهن وأمرهن بالوفاء بها، سيحاسب الله من يفعل ذلك منهن حسابا شديدا، ويعاقبه عقابا أليما.
وقوله: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تحريض لهن على عدم الكتمان وعلى الاخبار
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٦ صفحة ٩٤.
(٣) تفسير المنار ج ١ صفحة ٢٧١.
قال الإمام الرازي: أما قوله إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فليس المراد أن ذلك النهى- عن الكتمان- مشروط بكونها مؤمنة، بل هذا كما تقول للرجل الذي يظلم: إن كنت مؤمنا فلا تظلم. تريد إن كنت مؤمنا فينبغي أن يمنعك إيمانك عن ظلمي، ولا شك أن هذا تهديد شديد للنساء.. والآية دالة على أن كل من جعل أمينا في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد» «١».
هذا، وقد قرر الفقهاء أن القول فيما يتعلق بعدة المرأة ابتداء وانتهاء مرجعه إليها، لأنه أمر يتعلق بها ولا يعلم إلا من جهتها، إلا أنهم مع ذلك قرروا مدة ينتهى قولها عنده، ولا يعمل بقولها إن نقصت عن تلك المدة. فلو ادعت- أنها قد انقضت عدتها بعد شهر من طلاقها لا يقبل قولها.
وللفقهاء كلام طويل في هذه المسألة مبسوط في كتب الفقه فليرجع إليه من شاء ذلك.
ثم قال- تعالى-: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً.
قال القرطبي: البعولة جمع البعل وهو الزوج، سمى بعلا لعلوه على الزوجة بما قد ملكه من زوجيتها، ومنه قوله- تعالى-: أَتَدْعُونَ بَعْلًا أى ربا، لعلوه في الربوبية.. والبعولة أيضا مصدر البعل. وبعل الرجل بيعل- كمنع يمنع- أى صار بعلا. والمباعلة والبعال: الجماع، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم لأيام التشريق: «إنها أيام أكل وشرب وبعال» «٢».
والمعنى: وأزواج المطلقات طلاقا رجعيا أحق بردهن ومراجعتهن في ذلِكَ أى في وقت التربص قبل انقضاء العدة إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً أى إن أرادوا بهذه المراجعة الإصلاح لا الإضرار، كما سيأتى في قوله- تعالى-: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا.
قال القرطبي: وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة وكانت مدخولا بها تطليقة أو
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ صفحة ١١٩- بتلخيص.
وفي هذه الجملة الكريمة بيان لبعض الحكم السامية التي أرادها الله- تعالى- من وراء مشروعية العدة. فالله- تعالى- جعل للمطلق فرصة- هي مدة ثلاثة قروء- لكي يراجع نفسه، ويتدبر أمره، لعله خلال هذه المراجعة وذلك التدبر يرى أن الخير في بقاء زوجته معه فيراجعها، رعاية لرابطة المودة والرحمة التي جعلها الله- تعالى- بين الزوجين.
وقوله- تعالى-: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً شرط المقصود منه حض المطلق على أن ينوى بإرجاعه لمطلقته إصلاح أحوالهما، بإرشادها إلى ما من شأنه أن يجعل حياتهما الزوجية مستمرة لا منقطعة، أما إذا راجعها على نية الكيد والأذى والمضارة ففي هذه الحالة يكون آثما وسيعاقبه الله على ذلك بما يستحقه.
قال الآلوسى: وليس المراد من التعليق اشتراط جواز الرجعة بإرادة الإصلاح حتى لو لم يكن قصده لا تجوز، للاجتماع على جوازها مطلقا، بل المراد تحريضهم على قصد الإصلاح حيث جعل كأنه منوط به ينتفى بانتفائه» «٢».
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
أى: وللنساء على الرجال مثل ما للرجال على النساء. فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه نحوه بالمعروف.
والمراد بالمماثلة- كما يقول الآلوسى- المماثلة في الوجوب لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال» «٣».
أى أن الحقوق والواجبات بينهما متبادلة، وأنهما متماثلان في أن كل واحد منهما عليه أن يؤدى نحو صاحبه ما يجب عليه بالمعروف أى بما عرفته الطباع السليمة ولم تنكره، ووافق ما أوجبه الله على كل منهما في شريعته. فالباء في قوله بِالْمَعْرُوفِ للملابسة.
وقد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم في أحاديث متعددة حقوق الرجال على النساء، وحقوق النساء على الرجال، ومن ذلك ما أخرجه مسلّم في صحيحه عن جابر بن عبد الله أن رسول صلّى الله عليه وسلّم قال في
(٢) و (٣) تفسير الآلوسى ج ٢ صفحة ١٣٤.
وروى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا يحل لا مرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه» وأخرج أبو داود عن معاوية بن حيدة قال: قلت يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟
قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت».
ولقد قام السلف الصالح بأداء هذه الحقوق على أحسن وجه فقد روى عن ابن عباس أنه قال: إنى لأحب أن أتزين لامرأتى كما تتزين لي لأن الله. تعالى- يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
أى: أن يحب أن يؤنسها وأن يدخل السرور على قلبها كما أنها هي تحب أن تفعل له ذلك.
ولكن لا يفهم أحد أن المراد بهذا المثلية المساواة من كل الوجوه قال- تعالى-: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ والرجال: جمع رجل. يقال: رجل بين الرجلة أى القوة. وهو أرجل الرجلين أى أقواهما. وفرس رجيل أى قوى على المشي. وارتجل الكلام أى قوى عليه من غير حاجة فيه إلى فكرة وروية، وترجل النهار أى قوى ضياؤه. فأصل كلمة الرجل مأخوذة من الرجولية بمعنى القوة.
والدرجة في الأصل: ما يرتقى عليه من سلّم ونحوه، والمراد بها هنا المزية والزيادة أى: لهن عليهم مثل الذي لهم عليهن، وللرجال على النساء مزية وزيادة في الحق، بسبب حمايتهم لهن، وقيامهم بشئونهن ونفقتهن وغير ذلك من واجبات.
قال بعض العلماء: وإذا كانت الأسرة لا تتكون إلا من ازدواج هذين العنصرين- الرجل والمرأة- فلا بد أن يشرف على تهذيب الأسرة ويقوم على تربية ناشئتها وتوزيع الحقوق والواجبات فيها أحد العنصرين. وقد نظر الإسلام إلى هذا الأمر نظرة عادلة، فوجد أن الرجل أملك لزمام نفسه، وأقدر على ضبط حسه، ووجده الذي أقام البيت بماله وأن انهياره خراب عليه فجعل له الرياسة، ولذا قال- سبحانه-: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ....
هذه هي الدرجة التي جعلها الإسلام للرجل، وهي درجة تجعل له حقوقا وتجعل عليه
وقوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أى غالب في انتقامه ممن عصاه، حكيم في أمره وشرعه وسائر ما يكلف به عباده. فعلى الرجل والمرأة أن يطلبا عزهما فيما شرعه الله فهو الملجأ والمعاذ لكل ذي حق مهضوم، وعليهما كذلك أن يتمسكا بما كلفهما به، لأنه ما كلفهما إلا بما تقتضيه الحكمة، ويؤيده العقل السليم.
وبعد أن بين- سبحانه- في هذه الآية شرعية الطلاق ومداه إذا طلق الرجل امرأته المدخول بها طلقة رجعية، ووضع المنهاج العادل الذي يجب أن يتبعه الرجال والنساء.. بعد أن بين ذلك أتبعه ببيان الحد الذي ينتهى عنده ما للرجل من حق المراجعة فقال- تعالى-: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
قال الإمام ابن كثير: هذه الآية رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام: من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات، قصرهم الله- تعالى- على ثلاث طلقات، وأباح الرجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة فقال: الطلاق مرتان... الآية «٢».
وروى ابن أبى حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه أن رجلا قال لامرأته: لا أطلقك أبدا ولا آويك أبدا. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك- أى قاربت عدتك أن تنتهي- راجعتك. فأتت المرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت له ذلك فأنزل الله- تعالى-:
الطَّلاقُ مَرَّتانِ- الآية.
والطلاق- كما يقول القرطبي- هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة.
وأل في قوله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ للعهد الذكرى.
أى: الطلاق الرجعى المشار إليه في قوله- تعالى-: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ مرتان، وأمر المطلق بعد إحدى هاتين الطلقتين يدور بين حالتين إما إمساك بمعروف بمعنى أن يراجعها على نية الإبقاء على العلاقة الزوجية، والمعاملة الحسنة وإما تسريح بإحسان بمعنى أن يتركها حتى تنتهي عدتها، ويطلق سراحها بدون ظلم أو إساءة إليها، كما قال- تعالى-: وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٧١
وعلى هذا التفسير يكون المراد بالطلاق في الآية الطلاق الرجعى وبالمرتين حقيقة التثنية، ويكون وقت الإمساك أو التسريح هو ما بعد الطلقة الأولى أو الثانية بصفة خاصة، وفي كل الأوقات بصفة عامة. وعلى هذا التفسير سار كثير من العلماء.
ويرى بعضهم أن المراد بالطلاق في الآية الطلاق الشرعي، وبالمرتين التكرار لا العدد، وأن المراد من التسريح بالإحسان هو الطلقة الثالثة، أى بعد الطلقتين الأوليين يتروى في الأمر فيمسك بالمعروف أو يطلق الطلقة الثالثة. وقد ذكر هذا الرأى صاحب الكشاف فقال:
الطَّلاقُ بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم، أى التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير، كقوله «ثم ارجع البصر كرتين» أى كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين، ونحو ذلك من التثانى التي يراد بها التكرير كقولهم: لبيك وسعديك.. وقوله: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ تخيير لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم إياه.. وروى أن سائلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم أرأيت قول الله- تعالى-:
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فأين الثالثة، فقال صلّى الله عليه وسلّم «التسريح بإحسان» «١».
والفاء في قوله- تعالى-: فَإِمْساكٌ.. للتفريع، وإمساك خبر لمبتدأ محذوف والتقدير:
فالشأن أو فالأمر إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
قال الفخر الرازي: والحكمة في إثبات حق الرجعة: أن الإنسان ما دام يكون مع صاحبه لا يدرى أنه هل تشق عليه مفارقته أولا؟ فإذا فارقه فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله- تعالى- الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان بتقدير أن يظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، فلا جرم أثبت- سبحانه- حق المراجعة بعد المفارقة مرتين، وعند ذلك يكون قد جرب الإنسان نفسه في تلك المفارقة مرتين وعرف حال قلبه في ذلك الباب. فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف، وإن كان الأصلح له تسريحها سرحها على أحسن الوجوه، وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعباده».
هذا، ويرى بعض العلماء كابن تيمية وابن القيم أن الرجل إذا أوقع الطلاق دفعة واحدة،
ويرى الأئمة الأربعة أن طلاق هذا الرجل في مثل هذه الصورة يقع ثلاثا، لأنهم يرون أن الطلاق المقترن بالعدد لفظا أو إشارة يكون ثلاثا أو اثنين على حسب ما اقترن به. ولأن عمر- رضي الله عنه- أفتى بذلك. فقد أخرج مسلّم وأبو داود والنسائي والحاكم عن ابن عباس قال: «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى عهد أبى بكر، وسنتين من خلافة عمر واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم» فأمضاه.
وهذه المسألة مبسوطة بأدلتها في كتب الفقه وبعض كتب التفسير.
ثم قال- تعالى-: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.
قال الراغب: الخوف: توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة. ويضاد الخوف الأمن..».
والجناح: الإثم من جنح بمعنى مال عن القصد- وسمى الآثم به للميل فيه من الحق إلى الباطل-. يقال جنحت السفينة أى مالت إلى أحد جانبيها. والافتداء: تخليص النفس بمال يبذل لتخليصها ودفع الأذى عنها. وأصله من الفدى والفداء بمعنى حفظ الإنسان نفسه عن الشدة بما يبذله من أجل ذلك «١».
والمعنى: ولا يجوز لكم أيها المطلقون أن تأخذوا من زوجاتكم في مقابلة الطلاق شيئا مما أعطيتموهن من صداق أو من غيره من أموال، لأن هذا الأخذ يكون من باب الظلم الذي نهى الله عنه، وليس من باب العدل الذي أمر الله به.
ثم استثنى- سبحانه- صورة يجوز فيها الأخذ فقال: إِلَّا أَنْ يَخافا. إلخ أى: لا يجوز لكم أن تأخذوا في حالة من الأحوال إلا في حالة أن يخاف الزوجان كلاهما أو أحدهما ألا يقيما حدود الله ففي هذه الحالة يجوز الأخذ وحدود الله هي ما أوجبه- سبحانه للرجل على زوجته.
ولها عليه.
ثم خاطب- سبحانه- الحكام وجماعة المؤمنين المتوسطين للإصلاح بين الزوجين فقال:
والمراد بقوله: مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ أى من المهور وتخصيصها بالذكر وإن شاركها في الحكم سائر أموالهن إما لرعاية العادة وإما للتنبيه على أنه إذا لم يحل لهم أن يأخذوا مما أعطوهن في مقابلة البضع عند خروجه عن ملكهم فلأن لا يحل لهم أن يأخذوا مما لا تعلق له بالبضع أولى وأحرى.
وقوله: شَيْئاً مفعول به لتأخذوا. التنوين للتقليل أى: لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ولو كان المأخوذ شيئا غاية في القلة، لأن هذا الأخذ يجافي الإحسان الذي أمرتم به. وقريب من هذه الآية في النهى عن الأخذ قوله- تعالى-:
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً، أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً.
وأن والفعل في قوله إِلَّا أَنْ يَخافا في موضع نصب على الحال أى إلا خائفين.
وقوله: أَلَّا يُقِيما في موضع نصب على المفعول به ليخافا والتقدير إلا أن يخافا ترك حدود الله.
وهذه الآية قد اعتبرها العلماء أصلا في جواز الخلع.
قال ابن كثير: وقد ذكر ابن جرير: أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس، ففي
قالوا: ففرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما بطريق الخلع فكان أول خلع في الإسلام.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
أى: تلك الأحكام العظيمة الحكيمة المتقدمة التي بينتها لكم في شأن الطلاق والرجعة والخلع وغير ذلك حدود الله التي حدها، فلا يجوز لكم أن أن تخالفوها، ومن يتعد هذه الحدود فأولئك هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها لسخط الله وعقابه.
وكانت الإشارة للبعيد تِلْكَ لبيان سمو قدر هذه الأحكام، وعظم منزلتها، وجلال ما فيها من مصالح واضحة لأصحاب العقول السليمة.
وسميت هذه الأحكام حدودا للإشارة إلى أنها فواصل بين الحق والباطل، والظلم والعدل والمنفعة والمضرة. إذ الحد هو الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر. يقال:
حددت كذا أى جعلت له حدا يميزه. وحد الدار ما تتميز به عن غيرها..
وفي إضافة هذه الحدود إليه- سبحانه- إشعار بأن مخالفتها إنما هي مخالفة له- سبحانه- وأن هذه الحدود لا يتطرق إليها الريب لأنها صادرة من العليم الخبير الذي أحسن كل شيء خلقه.
والفاء في قوله: فَلا تَعْتَدُوها للتفريع أى: إذا كانت هذه الأحكام حدود الله فلا يصح لكم أن تتجاوزوها لأن تجاوزها يؤدى إلى سوء العقبى.
وعبر في قوله: فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بفاء السببية وباسم الإشارة وبضمير الفصل وبالجملة الاسمية لتأكيد معنى السببية وللإشارة إلى أن الظلم شأن من شئونهم وصفة يتميزون بها عن غيرهم.
وقد جاء- سبحانه- بكل هذه المؤكدات في تلك الجملة الكريمة لكبح جماح غرور الإنسان، وتحذيره من الانقياد لهواه وأوهامه، فكثيرا ما يتوهم بعض الناس أن أحكام الله ليست ملائمة لمقتضى الزمان الذي يعيشون فيه، ويحاولون إخضاع شرع الله- تعالى-
فسبحان من هذا كلامه وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.
ثم بين- سبحانه- أحكام الطلاق المكمل للثلاث، بعد بيانه لأحكام الطلاق الرجعى وأحكام الخلع فقال- تعالى-: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ.
أى: فإن طلق الرجل زوجته طلقة ثالثة بعد الطلقتين اللتين أباح الله له مراجعتها بعد كل منهما في أثناء العدة، فإنه في هذه الحالة تكون زوجته محرمة عليه، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره نكاحا شرعيا صحيحا، بأن يدخل بها، ويباشرها مباشرة شرعية كما يباشر الأزواج زوجاتهم.
فالمراد بالنكاح في قوله تعالى حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ الزواج بشخص آخر يدخل بها دخولا صحيحا. ويؤيد هذا المعنى ويؤكده ما جاء في الحديث المشهور الذي أخرجه البخاري وغيره عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقى. وإنى نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإن ما معه مثل الهدبة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لعلك تريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟
لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» «٢».
وواضح من ذوق العسيلة أن يدخل بها ويجامعها. وعلى هذا انعقد إجماع الفقهاء. ولم يلتفتوا إلى ما نسبه بعضهم إلى سعيد بن المسيب من أنه أجاز للمرأة أن تعود إلى زوجها الأول بعد عقد زواجها على الثاني دون أن يدخل بها. وحملوا هذا المنسوب إلى سعيد بن المسيب على أنه من شواذ الفتيا التي لا وزن لها لمخالفتها لنص حديث صحيح لعله لم يبلغه.
(٢) صحيح البخاري في كتاب الطلاق الثلاث ج ٧ ص ٥٥.
وقوله: أَنْ يَتَراجَعا في موضع جر بإضمار حرف الجر أى في أن يتراجعا وقوله أَنْ يُقِيما في موضع نصب على أنه سد مسد مفعولي ظن.
قال صاحب الكشاف: ولم يقل: إن علما أنهما يقيمان حدود الله لأن اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله. ومن فسر الظن ها هنا بالعلم فقدوهم ولأن الإنسان لا يعلم ما في الغد وإنما يظن ظنا» «١».
ثم ختم- سبحانه- هذه الآية بقوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
أى: وتلك الأحكام المذكورة عن الطلاق وعن غيره مما كلف الله به عباده يبينها ويوضحها بتلك الطرق الحكيمة لقوم يعلمون الحق، ويعملون بمقتضى علمهم.
وبهذا نرى أن الآية الكريمة قد بينت أنه لا يحل للمرأة التي طلقت من زوجها أن تعود إليه بعد الطلقة الثالثة إلا بعد أن تتزوج آخر زواجا صحيحا يدخل بها فيه ويجامعها ثم يطلقها وتنقضي عدتها منه.
ومن حكم هذا التشريع الحكيم ردع الأزواج عن الاستخفاف بحقوق زوجاتهم، وزجرهم عن التساهل في إيقاع الطلاق، فإن الرجل الشريف الطبع، العزيز النفس إذا علم أن زوجته لن تحل له بعد الطلقة الثالثة إلا إذا افترشها شخص آخر توقف عن إيقاع الطلاق، وتباعد عن التسرع والاندفاع وحاول أن يصلح ما بينه وبين أهله بالمعالجة الحكيمة التي تتميز بسعة الصدر وضبط النفس.
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير سبعة أحاديث في النهى عن نكاح المحلل- وهو أن يعقد رجل على امرأة قد طلقت ثلاثا من زوجها بقصد إحلالها لهذا الزوج لا بقصد الزواج الدائم ثم يدخل بها دخولا صوريا وليس شرعيا- ومن هذه الأحاديث ما رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المحلل والمحلل له، وآكل الربا وموكله».
وعن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن نكاح المحلل فقال: لا إلا نكاح رغبة- لا نكاح دلسة أى لا نكاح غش وتدليس- ولا استهزاء بكتاب الله- ثم يذوق عسيلتها..».
وجاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه- أى من غير مشورة ورغبة منه- ليحلها لأخيه فهل تحل للأول؟ فقال: لا إلا نكاح رغبة.
كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
ثم قال ابن كثير: والمقصود أن الزوج الثاني يكون راغبا في المرأة قاصدا لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج. واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطأ مباحا فلو وطئها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض.. لم تحل للأول بهذا الوطء والمراد بالعسيلة الجماع لما رواه الإمام أحمد والنسائي عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا إن العسيلة الجماع» «١».
وبعد أن بين- سبحانه- في الآية السابقة أن الزوج مخير بين الإمساك والتسريح في مدة العدة، عقب ذلك ببيان أن هذا التخيير من حقه حتى آخر وقت في العدة، وذلك لتذكيره بأن الإمساك أفضل من التسريح، وأن عليه ألا يلجأ إلى الطلاق إلا إذا سدت طرق الإصلاح والمعالجة، وأنه إذا اختار الطلاق فعليه أن يسلك فيه طريق الحق والعدل لا طريق الباطل والجور.
قال- تعالى-: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
قال الراغب: الأجل: المدة المضروبة للشيء. قال- تعالى- لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى..
- أى مدة معينة- والبلوغ والبلاغ الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى مكانا كان أو زمانا أو أمرا من الأمور المقدرة، وربما يعبر به عن المشارفة عليه وإن لم يننه. فمن الانتهاء قوله- تعالى-:
حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.. وأما قوله: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ فللمشارفة فإنها إذا انتهت إلى أقصى الأجل لا يصح للزوج مراجعتها وإمساكها».
والمراد بالأجل هنا عدة المرأة. وببلوغها قرب انتهائها.
والضرار- كما يقول الرازي- هو المضارة. قال- تعالى-: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً
والمعنى: وإذا طلقتم- أيها المؤمنون- نساءكم طلاقا رجعيا، فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أى فشارفت عدتهن على الانتهاء، وقاربت الانقضاء، فعليكم أن تتدبروا مليا في أمركم، فإن رأيتم الأصلح في بقائهن معكم فنفذوا ذلك وأمسكوهن بمعروف. أى بما هو المعروف من شرع الله الحكيم، وبما تقره الأخلاق الحسنة والعقول السليمة. وإن رأيتم أنه لا رغبة لكم في البقاء معهن فسرحوهن بمعروف أى فأمضوا الطلاق، وتفارقوا بالطريقة التي يرضاها الحق- سبحانه- بأن تؤدوا لهن حقوقهن. ولا تذكروهن بسوء بعد انفصالكم عنهن، فهذا شأن الأتقياء الصالحين فقد سئل بعضهم، لم طلقت امرأتك؟ فقال: إن العاقل لا يذكر ما بينه وبين أهله.
قال القرطبي: معنى فَبَلَغْنَ قاربن بإجماع من العلماء، ولأن المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، وهو في الآية التي بعدها بمعنى الانتهاء، لأن المعنى يقتضى ذلك، فهو حقيقة في الثانية، مجاز في الأولى- أى التي معنا-».
ثم نهى- سبحانه- عن الإمساك الذي يكون معه الضرر فقال. وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا أى لا تراجعوهن إرادة الضرر بهن والإيذاء لهن لتعتدوا عليهن، والجملة الكريمة تأكيد للأمر بالإمساك بمعروف، وتوضيح لمعناه، وزجر صريح عما كان يفعله يعضهم من مراجعته لامرأته قبل انتهاء عدتها لا لقصد الإبقاء على الزوجية وإنما القصد إطالة عدة الزوجة، أو لقصد أن تفتدى نفسها منه بالمال: وضِراراً منصوب على الحال في تمسكوهن أو على أنه مفعول لأجله. واللام في قوله: لِتَعْتَدُوا هي لام العاقبة أى لتكون عاقبة أمركم الاعتداء.
وحذف متعلق «لتعتدوا» ليتناول الاعتداء عليهن وعلى أحكام الله- تعالى-.
وقوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وعيد شديد لمن يقدم على ما نهى الله عنه. أى:
ومن يراجع مطلقته بقصد الإضرار بها والاعتداء عليها فقد ظلم نفسه ظلما مؤكدا، لأنه سيعرضها لعقاب الله وسخط الناس.
وجعل ظلمهم لنسائهم ظلما لأنفسهم، لأن عملهم هذا سيؤدي إلى اختلال المعاشرة الزوجية واضطرابها، وشيوع العداوة والبغضاء بين الزوجين وبين أهلهما. ثم كرر- سبحانه- تحذير المخالفين لشريعته، وذكرهم بألوان نعمه عليهم ليستجيبوا لأمره فقال: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ.
آيات الله: أحكامه التي شرعها في شأن الطلاق وغيره.
مهزوءا بها. وقوله هُزُواً مفعول ثان لتتخذوا.
والمراد بالحكمة هنا. السنة النبوية المطهرة.
والموعظة والعظة: النصح والتذكير بالخير. بما يرقق القلوب، ويحذر النفوس مما نهى الله عنه.
أى: ولا تتخذوا- أيها الناس- آيات الله التي شرعها لكم في شأن الطلاق وغيره مهزوءا بها بأن تعرضوا عنها، وتتهاونوا في المحافظة عليها، والتمسك بتعاليمها، ومن مظاهر ذلك أن بعض الناس كان يكثر من التلفظ بالطلاق متوهما أن ذلك لا يضر، أو كان يتخذ المراجعة وسيلة لإيذاء المرأة.
قال القرطبي: وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رجلا قال لابن عباس: «إنى طلقت امرأتى مائة مرة فماذا ترى على؟ فقال ابن عباس: طلقت منك بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا» «١».
والجملة الكريمة نهى أريد به الأمر بضده، أى جدوا في العمل بأوامر الله وآياته، وارعوها حق رعايتها.
وقوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. إلخ أى تذكروها في هدايتكم إلى الإسلام، وفي مشروعية الزوجية وفي غير ذلك مما لا يحصى من النعم وتدبروا نعم الله عليكم فقابلوها بالشكر، واستعملوها فيما خلقت له، وتذكروا كذلك ما أنزل الله عليكم بواسطة رسولكم محمد صلّى الله عليه وسلّم من الكتاب وهو القرآن الذي يهدى للتي هي أقوم، ومن الحكمة وهي السنة النبوية المطهرة، بما جاء فيهما من توجيهات سامية، وآداب عالية.
و «ما» في قوله: وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ موصولة والعائد محذوف أى ما أنزله و «من» في قوله: مِنَ الْكِتابِ بيانية، وجملة يَعِظُكُمْ بِهِ حال من فاعل أنزل أو من مفعوله، والضمير في بِهِ يعود على الكتاب والحكمة بعد تأويلهما بالمذكور. وجعل ضميرهما واحدا لأنهما في مؤداهما وغايتهما شيء واحد، فالسنة ليست نابعة إلا من الكتاب ومنه أخذت قوتها وسلطانها.
وقوله- سبحانه-: في ختام الآية وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذكير لهم بتقوى الله وخشيته ومراقبته، وتحذير لهم من مخالفة أمره.
ثم بين- سبحانه- ما ينبغي اتباعه عند حصول الطلاق وإمضائه حتى لا يقع ظلم أو جور فقال- تعالى-: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ.
قال القرطبي: تعضلوهن معناه تحبسوهن، ودجاجة معضل أى: قد احتبس بيضها، وقيل: العضل التضييق والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس. يقال: أعضل الأمر: إذا ضاقت عليك فيه الحيل. قال الأزهرى: وأصل العضل من قولهم: عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه. ويقال أعضل الأمر إذا اشتد، وداء عضال أى شديد عسر البرء أعيا الأطباء... » «١».
والمعنى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن أى: انقضت عدتهن وخلت الموانع من زواجهن، فلا تمنعوهن من الزواج بمن يردن الزواج به، متى حصل التراضي بين الأزواج والزوجات على ما يحسن في الدين، وتقره العقول السليمة، ويجرى به العرف الحسن.
والمراد ببلوغ الآجل هنا بلوغ أقصى العدة، بخلاف البلوغ في الآية التي قبل هذه، فإن المراد به المشارفة والمقاربة كما أشرنا من قبل لأن المعنى يحتم ذلك، والخطاب هنا للأزواج وللأولياء ولكل من له تأثير على المرأة المطلقة، وذلك لأن منع الزوجة من الزواج بعد انقضاء عدتها قد يكون من جانب الزوج السابق، لا سيما إذا كان صاحب جاه وسلطان وسطوة، فإنه يعز عليه أن يتزوج مطلقته أحد بعده فيمنعها من الزواج.
وقد يكون المنع من جانب الأولياء، وقد أورد المفسرون آثارا تشهد لذلك منها- كما يقول الآلوسى- ما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو داود من طرق شتى عن معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فأتانى ابن عم لي فأنكحتها إياه، فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة، ولم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب. فقلت له: أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدا، وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم الله- تعالى- حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل هذه الآية. ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه..» «٢».
(٢) تفسير الآلوسى ج ١ ص ١٤٤.
وقوله: أَنْ يَنْكِحْنَ تقديره: من أن ينكحن فهو في محل جر عند الخليل والكسائي وفي محل نصب عند غيرهما، وقوله: إِذا تَراضَوْا ظرف لأن ينكحن أو لقوله:
فَلا تَعْضُلُوهُنَّ، وقوله: بِالْمَعْرُوفِ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل تراضوا، أو هو نعت لمصدر محذوف أى تراضيا كائنا بالمعروف أو هو متعلق بتراضوا. أى تراضوا بما يحسن في الدين والمروءة، وفيه إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفء أو بما دون مهر المثل ليس من العضل المنهي عنه.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
أى: ذلك القول الحكيم، والتوجيه الكريم المشتمل على أفضل الأحكام وأسماها يوعظ به، ويستجيب له من كان منكم عميق الإيمان بالله- تعالى- وبثوابه وبعقابه يوم القيامة. ذلكم الذي شرعه الله لكم- أيها المؤمنون- من ترك عضل النساء والإضرار بهن وغير ذلك من الأحكام أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ أى أعظم بركة ونفعا، وأكثر تطهيرا من دنس الآثام، فإن المرأة إذا عوملت معاملة كريمة، ولم تظلم في رغباتها المشروعة، التزمت في سلوكها العفاف والخلق الشريف، أما إذا شعرت بالظلم والامتهان فإن هذا الشعور قد يدفعها إلى ارتكاب ما نهى الله عنه. والله تعالى يعلم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم، وأنتم لا تعلمون ذلك، فامتثلوا ما أمركم به واجتنبوا ما نهاكم عنه تفوزوا وتسعدوا.
والإشارة بقوله: ذلِكَ إلى ما فصل من أحكام وما أمر به من أفعال والخطاب لكل من يصلح للخطاب من المكلفين.
وخصص الوعظ بالمؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون به، وترق معه قلوبهم وتخشع له نفوسهم.
وأتى- سبحانه- بضمير الجمع ذلِكُمْ بعد أن قال في صدر الجملة ذلِكَ للإشارة إلى أن حماية المرأة من الهوان ومنع التضييق عليها في اختيار زوجها واجب على جميع المؤمنين، وأن فائدة ذلك ستعود عليهم جميعا ما دام هذا الاختيار في حدود الآداب التي جاء بها الإسلام.
وبعد: فهذه خمس آيات قد تحدثت عن جملة من الأحكام التي تتعلق بالطلاق، وإذا كان الإسلام قد شرع الطلاق عند الضرورة التي تحتمها مصلحة الزوجين، فإنه في الوقت نفسه قد وضع كثيرا من التعاليم التي يؤدى اتباعها إلى الإبقاء على الحياة الزوجية، وعلى قيامها على المودة والرحمة، ومن ذلك:
١- أنه أرشد أتباعه إلى أفضل السبل لاختيار الزوج، بأن جعل أساس الاختيار الدين والتقوى والخلق القويم، لأنه متى كان كل من الزوجين متحليا بالإيمان والتقوى، استقرت الحياة الزوجية بينهما، وقامت على المودة والرحمة وحسن المعاشرة.
٢- أنه أمر كلا الزوجين بأن يبذل كل واحد منهما قصارى جهده في أداء حق صاحبه، وإدخال السرور على نفسه، فإذا ما نجم خلاف بينهما فعليهما أن يعالجاه بالحكمة والعدل، وأن يجعلا الأناة والصبر رائدهما، فإن الحياة الزوجية بحكم استمرارها وتشابك مطالبها لا تخلو من اختلاف بين الزوجين.
٣- دعا الإسلام إلى إصلاح ما بين الزوجين إن ابتدأت العلاقة تسير في غير طريق المودة، فقال- تعالى-: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ... كما دعا أولى الأمر أن يتدخلوا للإصلاح بين الزوجين عند نشوب الشقاق بينهما أو عند خوفه فقال- تعالى-: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً.
٤- نهى الإسلام عن إيقاع الطلاق على الزوجة في حال حيضها، أو في حال طهر باشرها فيه، لأن المرأة في هاتين الحالتين قد تكون على هيئة لا تجعل الرجل مشوقا إليها...
وأباح له أن يوقع الطلاق في طهر لم يجامعها فيه، لأن إيقاعه في هذه الحالة يكون دليلا على استحكام النفرة بينهما.
٦- جعل الإسلام الطلاق بيد الرجل، لأنه هو الذي وقعت عليه معظم أعباء الزواج، وهو الذي سيتحمل ما سيترتب على الطلاق من تكاليف، ولا شك أنه بمقتضى هذه التكاليف وبمقتضى حرصه على استقرار حياته، سيتأنّى ويتروى فلا يوقع الطلاق إلا إذا كان مضطرا إلى ذلك.
كما أن الإسلام أباح للمرأة أن تفتدى نفسها من زوجها، أو ترفع أمرها للقاضي ليفرق بينها وبينه إذا تيقنت من استحالة استمرار الحالة الزوجية بينهما لأى سبب من الأسباب. وفي هذه الحال فللقاضى أن يفرق بينهما إذا رأى أن المصلحة تقتضي ذلك.
٧- أباح الإسلام للرجل الذي طلق امرأته ثلاثا أن يعود إليها من جديد، وذلك بعد طلاقها من رجل آخر يكون قد تزوجها زواجا شرعيا وانقضت عدتها منه، وفي ذلك ما فيه من التأديب لهما، والتهذيب لسلوكهما.
٨- وردت أحاديث متعددة تنهى عن إيقاع الطلاق إلا عند الضرورة وتتوعد المرأة التي تطلب من زوجها أن يطلقها بدون سبب معقول بالعذاب الشديد، ومن ذلك ما رواه أبو داود والترمذي عن ثوبان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس- أى من غير عذر شرعي أو سبب قوى- فحرام عليها رائحة الجنة». وروى أبو داود وغيره عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: أبغض الحلال إلى الله الطلاق» «١».
هذه بعض التشريعات التي وضعها الإسلام لصيانة الحياة الزوجية من التصدع والانهيار، ومنها نرى أن الإسلام وإن كان قد شرع الطلاق، إلا أنه لا يدعو إليه إلا إذا كانت مصلحة الزوجين أو أحدهما تقتضيه وتستلزمه.
وبعد أن بين- سبحانه- حقوق الزوجين في حالتي اجتماعهما واقترافهما، أردف ذلك ببيان حقوق الأطفال الذين يكونون ثمرة لهذا الزواج. فقال تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٣]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)والمراد بالوالدات الأمهات سواء أكن في عصمة أزواجهن أم مطلقات لأن اللفظ عام في الكل ولا يوجد ما يقتضى تخصيصه بنوع من الأمهات. ويرى بعض المفسرين أن المراد بالوالدات هنا خصوص المطلقات لأن سياق الآيات قبل ذلك في أحكام الطلاق، ولأن المطلقة عرضة لإهمال العناية بالولد وترك إرضاعه.
وحولين أى عامين. وأصل الحول- كما يقول الراغب- تغير الشيء وانفصاله عن غيره.
والحول: السنة اعتبارا بانقلابها ودوران الشمس في مطالعها ومغاربها. قال- تعالى-:
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ. ومنه حالت السنة تحول وحالت الدار تغيرت، وأحال فلان بمكان كذا أى أقام به حولا» «١».
وعبر عن الأمهات بالوالدات، للإشارة إلى أنهن اللائي ولدن أولادهن، وأنهن الوعاء الذي خرجوا منه إلى الحياة، ومنهن يكون الغذاء الطبيعي المناسب لهذا المولود الذي جاء عن طريقهن.
وقوله: يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ جملة خبرية اللفظ إنشائية المعنى، إذ التقدير ليرضعن. أى:
عليهن إرضاع أولادهن.
قال الجمل: وهذا الأمر للندب وللوجوب، فهو يكون للندب عند استجماع شروط ثلاثة، قدرة الأب على استئجار المرضع، ووجود من يرضعه غير الأم، وقبول الولد للبن الغير. ويكون للوجوب عند فقد أحد هذه الشروط» «١».
وليس التحديد بالحولين للوجوب، لأنه يجوز الفطام قبل ذلك، بدليل قوله: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وإنما المقصود بهذا التحديد قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع، فإذا اتفق الأب والأم على أن يفطما ولدهما قبل تمام الحولين كان لهما ذلك إذا لم يتضرر الولد بهذا الفطام، وإن أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض الأم أو العكس لم يكن لأحدهما ذلك.
قال القرطبي ما ملخصه: وقد انتزع مالك- رحمه الله- ومن تابعه وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين، لأنه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة، ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة.. لقوله- تعالى-: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ فهذا يدل على ألا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين.
وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا رضاع إلا ما كان في الحولين» وهذا الخبر مع الآية ينفى رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له. وقد روى عن عائشة القول به، وروى عن أبى موسى الأشعرى أنه كان يرى رضاع الكبير. وروى عنه الرجوع عنه.
وسيأتى تحقيق هذه المسألة في سورة النساء» «٢».
وفي وصف الحولين بكاملين، تأكيد لرفع توهم أن يكون المراد حولا وبعض الثاني، لأن إطلاق التثنية والجمع في الأزمان والأسنان على بعض المدلول إطلاق شائع عند العرب.
فيقولون: هو ابن سنتين، ويريدون سنة وبعض الثانية.
وفي هذه الجملة الكريمة وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ بيان لمظهر من مظاهر رعاية الله- تعالى- للإنسان منذ ولادته، بل منذ تكوينه في بطن أمه جنينا، فقد أمر- سبحانه- الأمهات أن يقمن بإرضاع أولادهن في تلك المدة، لأن لبن الأم هو أفضل غذاء لطفلها في هذه الفترة، وأسلّم وسيلة لضمان صحته ونموه، ولصيانته من الأمراض النفسية والعقلية، فقد أثبت الأطباء الثقاة أن الطفل كثيرا ما يصاب بأمراض جسمية ونفسية وعقلية
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ ص ١٦٢.
وقوله: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ بيان لمن توجه إليه الحكم. أى هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع، فإذا أراد الأبوان أن ينقصا مدة الرضاع عن الحولين كان لهما ذلك. فالجملة الكريمة خير لمبتدأ محذوف أى هذا الحكم لمن أراد أن يتم مدة الرضاعة.
وقوله: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ بيان لما يجب على الآباء.
أى: وعلى الآباء أن يقدموا إلى الوالدات ما يلزمهن من نفقة وكسوة بالمعروف أى بالطريقة التي تعارف عليها العقلاء بدون إسراف أو تقتير.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت لم قيل الْمَوْلُودِ لَهُ دون الوالد؟ قلت: ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم، لأن الأولاد للآباء، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات، كما قال المأمون بن الرشيد:
فإنما أمهات الناس أوعية... مستودعات وللآباء أبناء
فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم كالأظآر ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً... «١».
وقوله: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف. أو تفسير للمعروف ولهذا فصلت هذه الجملة عن سابقتها، وقوله وُسْعَها منصوب على أنه مفعول ثان لتكلف، والاستثناء قبله مفرغ أى أن أبا الولد لا يكلف في الإنفاق عليه وعلى أمه إلا بالقدر الذي تتسع له مقدرته بدون إرهاق أو مشقة.
وتلك هي سنة الإسلام في جميع تكاليفه، فالله- تعالى- ما كلف عباده إلا بما يستطيعونه ويطيقونه بدون عسر أو عنت قال- تعالى-: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وقال- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
وقوله: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ تعليل للأحكام السابقة الموزعة بين الأب والأم، والتي أساسها رعاية حق هذا الوليد الذي أتى عن طريقهما.
والمضارة مفاعلة من الضرر، والمعنى: لا ينبغي أن يقع ضرر على الأم بسبب ولدها، بأن يستغل الأب حنوها على وليدها فيمنعها شيئا من نفقتها، أو يأخذ منها طفلها وهي تريد
قال الجمل: ولا في قوله: لا تُضَارَّ يحتمل أن تكون نافية فيكون الفعل مرفوعا، ويحتمل أن تكون ناهية فيكون الفعل مجزوما، وقد قرئ بهما في السبع، وعلى كل يحتمل أن يكون الفعل مبنيا للفاعل وللمفعول» «١».
والمعنى على الاحتمالين واحد وهو أنه لا يجوز أن يضر كل واحد منهما صاحبه أو يضر من صاحبه بسبب حنوه على ولده واهتمامه بشأنه.
وأضاف الولد إلى كل منهما في الموضعين للاستعطاف، وللتنبيه على أن هذا الولد الذي رزقهما الله إياه جدير بأن يتفقا على رعايته وحمايته من كل ما يؤذيه، ولا يجوز مطلقا أن يكون مصدر قلق لأى واحد منهما.
وقدمت الأم في الجملة الكريمة، لأن الشأن فيها أن يكون حنوها أشد، وعاطفتها أرق، ولأن مظنة إنزال العنف والأذى بها أقرب لضعفها عن الأب.
فالجملة الكريمة توجبه سديد، وإرشاد حكيم، للآباء والأمهات إلى أن يقوم كل فريق منهم بواجبه نحو صاحبه ونحو الأولاد الذين هم ثمار لهم.
وقوله: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ معطوف على قوله وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ. إلخ وما بينهما تعليل أو تفسير معترض.
أى: وعلى وارث الأب أو وارث الصبى- أى من سيرثه بعد موته- عليه مثل ما على الأب من النفقة وترك الإضرار. فهذه الجملة الكريمة سيقت لبيان من تجب عليه نفقة الصبى إذا فقد أباه، أو كان أبوه موجودا ولكنه عاجز عن الإنفاق عليه.
قال الآلوسى ما ملخصه: والمراد بالوارث وارث الولد فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد مال. وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة.. وخلق كثير. وخص الإمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من
وقوله: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما معطوف على قوله يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لأنه متفرغ عنه. والضمير في قوله فَإِنْ أَرادا يعود على الوالدين.
قال القرطبي: والفصال والفصل. الفطام وأصله التفريق، فهو تفريق بين الصبى والثدي.
ومنه سمى الفصيل- لولد الضأن- لأنه مفصول عن أمه. والتشاور: استخراج الرأى- بما فيه المصلحة- وكذلك المشاورة. من الشور وهو اجتناء العسل. يقال شرت العسل- إذا استخرجته من مواضعه- والشوار: متاع البيت لأنه يظهر للناظر. والشارة هيئة الرجل.
والإشارة: إخراج ما في نفسك وإظهاره» «٢».
والمعنى: فإن أراد الأبوان فطاما لولدهما قبل الحولين، وكانت هذه الإرادة عن تراض منهما وتشاور في شأن الصبى وتفحص لأحواله، ورأيا أن هذا الفطام قبل بلوغه الحولين لن يضره فلا إثم عليهما في ذلك.
وقال بعضهم: وأيضا لا إثم عليهما إذا فطماه بعد الحولين متى رأيا المصلحة في ذلك، وقد قيد- سبحانه- هذا الفطام للصبي بكونه عن تراض من الأبوين وتشاور منهما، رعاية لمصلحة هذا الصبى، لأن رضا أحدهما فقط قد يضره، بأن تمل الأم الإرضاع أو يبخل الأب بالإنفاق.
ولأن إقدام أحدهما على الفطام بدون التشاور مع صاحبه قد يؤثر في صحة الصبى تأثيرا سيئا.
لذا أوجب- سبحانه- التراضي والتشاور فيما بينهما من أجل مصلحة صبيهما.
ثم قال- تعالى-: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ.
أى: وإن أردتم- أيها الآباء- أن تسترضعوا مراضع لأولادكم، ورضى الأمهات بذلك، فلا إثم عليكم فيما تفعلون ما دمتم تقصدون مصلحة أولادكم، وعليكم أن تسلموا هؤلاء
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ ص ١٧٢
واسترضع- كما يقول الزمخشري- منقول من أرضع. يقال: أرضعت المرأة الصبى، واسترضعتها الصبى فهي متعدية إلى مفعولين، والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم.
فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه.
وقوله ما آتَيْتُمْ حذف مفعولاه أى آتيتموهن إياه. وبِالْمَعْرُوفِ متعلق بسلمتم أى بالقول الجميل، وبالوجه المتعارف المستحسن شرعا. ويجوز أن يتعلق بآتيتم. وأن يكون حالا من فاعل سلمتم أو آتيتم والعامل فيه محذوف أى متلبسين بالمعروف.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
أى: اتقوا الله في كل شئونكم والتزموا ما بينه لكم من أحكام، واعلموا أن الله- تعالى- لا تخفى عليه أعمالكم، فهو محصيها عليكم، وسيجزى المحسن إحسانا والمسيء سوءا.
ثم بين- سبحانه- عدة المرأة إذا توفى عنها زوجها، وما يجب عليها من آداب فقال- تعالى-.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٤]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
وقوله: يُتَوَفَّوْنَ- بالبناء للمجهول- أى تقبض أرواحهم فإن التوفي هو القبض.
يقال: توفيت مالي من فلان واستوفيته منه أى قبضته وأخذته. قال- تعالى-: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها أى يقبض الأنفس ويأخذها إليه بالموت حين انتهاء آجالها.
والمعنى: والذين يتوفاهم الله- تعالى- منكم- أيها المسلمون- ويتركون من خلفهم أزواجا. فعلى هؤلاء الأزواج اللائي ارتبطن برجالهم ارتباطا قويا متينا ثم فرق الموت بينهم وبينهن، عليهن أن يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً أى: عليهن أن ينتظرن انقضاء عدتهن فيحبسن أنفسهن عن الزواج وعن التزين وعن التعرض للخطاب مدة أربعة أشهر وعشر ليال، وفاء لحق الزوج المتوفى، واستبراء للرحم.
وفي لفظ: لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث. فقام معقل بن يسار فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى به في بروع بنت واشق. ففرح عبد الله بذلك فرحا شديدا. ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل فإن عدتها بوضع الحمل لعموم قوله- تعالى-: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع أو أربعة أشهر وعشرة أيام للجمع بين الآيتين» «١».
وقوله: وَالَّذِينَ اسم موصول مبتدأ. ويُتَوَفَّوْنَ صلته، ومِنْكُمْ في موضع النصب على الحال من الواو في يُتَوَفَّوْنَ ويَتَرَبَّصْنَ وما بعده خبر عن الذين والرابط محذوف والتقدير: يتربصن بعدهم أربعة أشهر وعشرا.
والتعبير بقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ تعبير دقيق حكيم أى: عليهن أن يمنعن أنفسهن عن النكاح وعن التزين وعن الخروج من منزل الزوجية- إلا إذا كانت هناك ضرورة لهذا الخروج- مدة أربعة أشهر وعشرة أيام، وذلك لأن المرأة المؤمنة الوفية يأبى عليها دينها ووفاؤها لزوجها المتوفى عنها، أن تعرض نفسها على غيره بعد فترة قصيرة من وفاته، فإن هذا أمر مستهجن في شرع الله وفي عرف العقلاء من الناس. إذ هذه المدة التي جاءت في الآية التي حددها الله- تعالى- لمعرفة براءة الرحم من الحمل، وهي التي تخف فيها مرارة الفراق بين زوجين ربط الله بينهما برابطة المودة والرحمة.
ولقد ألغى الإسلام بهذا التشريع عادات جاهلية ظالمة للمرأة فقد كانت المرأة في الجاهلية إذا توفى عنها زوجها تغلق على نفسها مكانا ضيقا في بيتها وتقضى فيه عاما كاملا حدادا على زوجها فأبطل الإسلام ذلك، ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ما ثبت في الصحيحين عن أم حبيبة وزينب بنت جحش- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا».
قال ابن كثير بعد أن ساق هذين الحديثين: قالت زينب بنت أم سلمة: كانت المرأة إذا توفى عنها زوجها دخلت حفشا- أى مكانا ضيقا من البيت- ولبست شر ثيابها ولم تمس طبيا ولا شيئا حتى تمر سنة» «١».
وقال بعض العلماء: وقد حد الشارع للمتوفى عنها زوجها عدة هي في جملتها أكثر من عدة المطلقات، لأن تلك ثلاثة قروء تجيء عادة في نحو ثلاثة أشهر. وهنا يرد سؤالان:
أولهما: لماذا كانت العدة في المتوفى عنها زوجها بالأشهر دون الحيض فلم تجعل أربع حيضات بدل ثلاث؟ ولماذا كانت الزيادة؟ ولم نجد أحدا تصدى لبيان الحكمة في جعلها بالأشهر، ويبدو لنا أن الحكمة التي تدركها عقولنا- وإن كانت الحكمة السامية قد تعلو على مدار كنا-: هي أن عدة الوفاة تكون للمدخول بها وغير المدخول بها وللصغيرة والكبيرة، والأساس فيها هو الحداد على الزواج السابق الذي انتهى بوفاة أحد ركنيه، فلزم أن يكون بأمر يشترك فيه الجميع مادام السبب واحدا في الجميع. وفوق ذلك أن العدة في الوفاة لو قدرت بالحيض وهو أمر لا يعلم إلا من جهة المرأة، فربما تدفعها الرغبة في الزواج إلى الكذب فتدعيه وهو لم يقع، وفي المطلقات العدة حق للمطلق فيستطيع أن ينكر عليها أما في حال الوفاة فصاحب الحق الأول قد مات وصار الحق لله خالصا. فحد ذلك الحق بالأشهر والأيام حتى لا يكون مساغا للكذب وادعاء ما لم يحصل، لأن الأيام والأشهر تعرف بالكتاب والحساب وليست أمرا يعرف من جهتها فقط.
أما الجواب عن الأمر الثاني وهو لماذا كانت العدة بالوفاة أكثر في الجملة من العدة الناشئة عن الطلاق؟ فيبدو بادى الرأى من الفرق بين حال الطلاق وحال الوفاة أن الطلاق نتيجة شقاق.
فالحداد على الزوج الذي ينشئه ليس قويا، ومعنى براءة الرحم وإعطاء الزوج فرصة للرجعة يكون أوضح في معنى العدة، ويكفى لذلك نحو ثلاثة أشهر. أما حال الموت فمرارة الفراق فيها أوضح وأشد، ومعنى الحداد فيها يغلب معنى براءة الرحم، ولذا تجب على المدخول بها وغير المدخول بها، وإن الشارع قد جعلها لذلك أطول من عدة الطلاق.
أولهما: أن الأشهر الأربعة هي التي يظهر فيها الحمل ويستبين، وقد جعلت العشر بعدها للاحتياط.
وثانيهما: أن مدة أربعة الأشهر هي المدة التي قررها الشارع أقصى مدة للحرمان من الرجال. ولذلك جعل الإيلاء مدته أربعة أشهر.. فكان من التنسيق بين الأحكام الشرعية أن تجعل مدة الإحداد على الزواج في حدود هذه المدة ومقاربة لها في الجملة» «١».
وقوله: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ بيان لما يترتب على انتهاء المدة التي حددها الشرع للمرأة التي مات عنها زوجها. أى: فإذا انتهت المدة التي حددها الشرع للمرأة التي مات عنها زوجها لتتجنب فيها التزين والتعرض للنكاح. فلا حرج عليكم بعد ذلك أيها المسلمون أو أيها الأولياء- في ترك هؤلاء الزوجات الأرامل يفعلن في أنفسهن ما تفعله المرأة الراغبة في الزواج من التزين والتجمل ولكن بالطريقة التي يقرها الشرع، وترضاها العقول السليمة، والأخلاق المستقيمة.
وقوله: بِالْمَعْرُوفِ متعلق بفعلن، أو حال من النون أى حالة كونهن متلبسات بالمعروف.
ومفهومه أنهن لو خرجن عن المعروف شرعا بأن تبرجن وأظهرن ما أمر الله بستره فإنه في هذه الحالة يجب على أوليائهن أن يمنعوهن من ذلك.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أى أنه محيط بدقائق أعمالكم لا يخفى عليه منها شيء فإذا وقفتم أنتم ونساؤكم عند حدوده أسعدكم في الدنيا وأجزل مثوبتكم في الآخرة، وإن تجاورتم حدوده عاقبكم بما تستحقون يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
وبذلك نرى الآية الكريمة قد رسمت للناس أفضل وسائل الحياة الشريفة، فأرشدت المرأة التي مات عنها زوجها إلى ما يحفظ لها كرامتها، ويدفع عنها ما يتنافى مع العفة والشرف والوفاء.
ثم بين- سبحانه- حكم الخطية للنساء المعتدات بيانا يقوم على أدب النفس، وأدب الاجتماع، ورعاية المشاعر والعواطف مع رعاية المصالح والضرورات فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٥]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)وقوله- تعالى-: فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ أى: لو حتم وأشرتم به. من التعريض الذي هو ضد التصريح ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده، ويصلح للدلالة على غير مقصوده، إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وأصله من عرض الشيء- بضم العين- أى جانبه ومن أمثلته أن يقول الفقير المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلّم عليك.. وهو يقصد عطاءه.
وخِطْبَةِ النِّساءِ مخاطبة المرأة أو أوليائها في أمر زواجها. والخطبة- بكسر الخاء كالجلسة- مأخوذة من الخطب أى الشأن لأنها شأن من الشئون وقيل من الخطاب لأنها نوع- مخاطبة تجرى بين جانب الرجل وجانب المرأة. والمراد خطبة النساء اللائي فارقهن أزواجهن.
وأَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أخفيتم وأسررتم من الإكنان وهو الإضمار من غير إعلان.
والمعنى: ولا حرج ولا إثم عليكم أيها الرجال المبتغون للزواج في التعريض بخطبة المرأة أثناء عدتها لتتزوجوهن بعد انقضائها، كما أنه لا إثم عليكم كذلك في الرغبة في الزواج بهن، مع إخفاء ذلك وستره من غير كشف وإعلان لأن التصريح بالخطبة أثناء العدة عمل يتنافى مع آداب الإسلام، ومع تعاليم شريعته، ومع الأخلاق الكريمة، والعقول السليمة، والنفوس الشريفة.
قال القرطبي: قال ابن عطية: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزوجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز وكذلك ما أشبهه وجوز ما عدا ذلك. ولا يجوز التعريض لخطبة المطلقة
والتعريض في خطبة النساء أساليبه مختلفة، ومما ذكره العلماء في هذا الشأن أن يقول الرجل للمرأة: إنى راغب في الزواج أو أن يقول لوليها: لا تسبقني بها إلى غيرى.
ومن أساليب التعريض ما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم مع السيدة أم سلمة، فقد دخل عليها وهي متأيمة من زوجها أبى سلمة فقال لها: «لقد علمت أنى رسول الله وخيرته وموضعي في قومي» فكان كلامه خطبة لها بأسلوب التعريض.
ومنها ما ذكره صاحب الكشاف عن عبد الله بن سليمان عن خالته- سكينة بنت حنظلة- قالت: دخل على أبو جعفر محمد بن على وأنا في عدتي فقال: قد علمت قرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقرابتي من جدي على بن أبى طالب، وموضعي في العرب، وقدمي في الإسلام.
قالت: فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر! أتخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك؟ فقال: أو قد فعلت إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وموضعي» «٢».
وقوله- تعالى-: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ. إلخ معطوف على ما قبله في الآية السابقة لأن الكلام في الآيتين في الأحكام المتعلقة بعدة النساء.
وما في قوله: فِيما عَرَّضْتُمْ موصولة. ومِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ بيان لما، وأل في النساء للعهد والمعهودات هن الزوجات اللائي سبق الحديث عنهن في الآيات التي قبل هذه.
وأَوْ في قوله: أَوْ أَكْنَنْتُمْ للإباحة أو التخيير، ومفعول أكن محذوف يعود إلى ما الموصولة في قوله: فِيما عَرَّضْتُمْ والتقدير: أو أكننتموه. وفِي أَنْفُسِكُمْ متعلق بأكننتم.
وقوله- تعالى-: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً كالتعليل لما قبله وهو قوله: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ إلخ. ونهى عما يردى ويفسد، وإباحة لما لا ضرر فيه.
أى: علم الله أنكم يا معشر الرجال ستذكرون هؤلاء النسوة المعتدات بما لهن من جمال ومن حسن عشرة ومن غير ذلك من شئونهن وأن تفكروا فيهن وتهفوا إليهن نفوسكم، والله- تعالى- فضلا منه وكرما قد أباح لكم أن تذكروهن ولكنه ينهاكم عن أن تواعدوهن وعدا سريا بأن تقولوا لهم في السر ما تستحيون من قوله في العلن لقبحه ومنافاته للشرع.
(٢) تفسير الكشاف ج ١ صفحة ٢٨٢.
وفي قوله سبحانه: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ بيان لما جبلت عليه النفس البشرية من ميل فطري بين الرجال والنساء، والإسلام لا ينكر هذا الميل وإنما يهذبه ويقومه ويصقله بآدابه الحميدة، وتعاليمه السامية.
وقوله: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا استدراك على محذوف دل عليه سَتَذْكُرُونَهُنَّ أى:
فاذكروهن وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا.
قال القرطبي ما ملخصه: واختلف العلماء في المراد بالسر في قوله- تعالى-: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا فقيل معناه نكاحا، أى لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني بل يعرض إن أراد، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية. هذا قول جمهور أهل العلم.
و «سرّا» على هذا التأويل نصب على الحال أى مسرين- وسمى النكاح سرّا لأن مسببه الذي هو الوطء مما يسر- وقيل السر الزنا، أى لا يكونن منكم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزوج بعدها. أى لا تواعدوهن زنا. واختاره الطبري. ومنه قول الأعشى:
فلا تقربن جارة إن سرها | عليك حرام فانكحن أو تأبدا |
والذي تطمئن إليه النفس أن كلمة (سرا) صفة لموصوف محذوف أى لا تواعدهن وعدا سريا، وأن النهى هنا منصب على كل مواعدة سرية، يقال فيها كل ما ينهى عنه أو يستحيا منه في العلن، لقبحه أو لأن أوانه لم يحن بعد، إذ السرية أو الخلوة بين الرجل والمرأة لا تؤمن مزالقها. وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما» «٢» وأن المراد بقوله: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً هو التعريض بالخطبة، وإظهار المودة بطريقة لا تفضى إلى محرم.
قال صاحب الكشاف في قوله: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وهو أن تعرّضوا ولا تصرحوا.
فإن قلت بم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت: بلا تواعدوهن. أى لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة: أى لا تواعدوهن إلا بالتعريض «٣».
ثم قال- تعالى-: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ.
(٢) الترغيب والترهيب للمنذرى ج ٢ ص ٣٨.
(٣) تفسير الكشاف ج ١ ص ٢٨٤.
وعقدة النكاح: الارتباط الموثق به. وأصل العقد الشد، والعهود والأنكحة تسمى عقودا لأنها تعقد وتوثق كما يوثق بالحبل.
والمراد بالكتاب هنا الأمر المكتوب المفروض وهو العدة التي حدد الله لها وقتا معينا.
والأجل: هو نهاية المدة التي قررها الشرع للعدة.
والمعنى: لا يسوغ لكم يا معشر الرجال الراغبين في الزواج من النساء اللائي فارقهن أزواجهن أن تعقدوا العزم نهائيا في أثناء العدة على أن تتموا الزواج بعدها، بأن تحول الخطبة من التعريض إلى التصريح، أو تبتوا في أمر الزواج بتا قاطعا بمواعدة أو نحوها، إذ العاقل لا يستعجل أمرا قبل حلول وقته، وإنما الذي يسوغ لكم أن تتموا عقد الزواج بعد انتهاء العدة وبعد أن يكون جو الأحزان قد فتر وجفت حدته.
والنهى عن العزم على عقد النكاح نهى بالأولى عن إبرامه وتنفيذه، لأن العزم على الفعل يتقدمه، فإذا نهى عنه كان الفعل أنهى، فهو كالنهى عن الاقتراب من حدود الله في قوله:
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد أباحت شيئين، ونهت عن شيئين: أباحت التعريض بالخطبة للمرأة أثناء عدتها، كما أباحت إخفاء هذه الرغبة في الأنفس وحديثها بها. ويشهد لذلك قوله- تعالى-: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ ونهت عن المواعدة سرا إلا أن يقولوا قولا معروفا عن طريق التعريض، أو أن يسار الرجل المرأة بالقول المعروف الذي أباحه الشرع وارتضته العقول السليمة، والأخلاق الفاضلة، بأن يعدها في السر بالإحسان إليها والاهتمام بشأنها والتكفل بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكدا لذلك التعريض. أما الشيء الثاني الذي نهت عنه فهو العزم على عقدة النكاح قبل انقضاء العدة. ويشهد لهذا قوله- تعالى-: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً، وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ.
وبعد هذه الأوامر والنواهي ختم الله- تعالى- الآية بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
فالجملة الكريمة تحذير وتبشير، وترغيب وترهيب، لكي لا يتجاسر الناس على ارتكاب ما نهى الله عنه، ولا ييأسوا من رحمته متى تابوا وأنابوا.
هذا، وقد أجمع العلماء على تحريم نكاح المرأة في عدتها، وإذا حدث مثل هذا النكاح ودخل بها فرق بينهما وفسخ النكاح.
ويرى جمهور العلماء أنها تصير محرمة عليه تحريما مؤبدا، ولا يحل له نكاحها ركلك لأنه استحل ما لا يحل فعوقب بحرمانه، كالقاتل يعاقب بحرمانه من ميراث المقتول. وقيل: يفسخ النكاح ويفرق بينهما فإذا انتهت العدة حلت له ولم يتأبد التحريم. ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه.
وبذلك تكون الآية الكريمة قد أرشدت الناس إلى ما يقره الشرع، ويرتضيه الخلق الكريم، ونهتهم عما يتنافى مع تعاليم الإسلام بأسلوب حكيم جمع بين الشدة واللين، والخوف والرجاء، حتى يثوب المخطئون إلى رشدهم ويقلعوا عن خطئهم.
ثم بين- سبحانه- في آيتين كريمتين بعض الأحكام التي تتعلق بالمطلقة قبل الدخول بها، سواء أذكر لها المهر أم لم يذكر، فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٦ الى ٢٣٧]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
وهذه الكناية من ألطف الكنايات التي تربى في الإنسان حسن الأدب، وسلامة التعبير، وتجنبه النطق بالألفاظ الفاحشة. وقد تكرر هذا التعبير المهذب في القرآن الكريم ومن ذلك قوله- تعالى- حكاية عن مريم: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ.. «١».
والمراد بالفريضة هنا المهر الذي يفرضه الرجل على نفسه للمرأة قبل الدخول بها.
والمعنى: لا إثم عليكم أيها الرجال إذا طلقتم النساء لأسباب مشروعة، وبطريقة مرضية، قبل الدخول بهن، وقبل أن تقدروا لهن مهرا معينا.
ثم بين- سبحانه- ما للمرأة على الرجل في هذه الحالة فقال: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ..
قوله- تعالى-: وَمَتِّعُوهُنَّ أى ملكوهن ما ينتفعن به، ويدخل التسلية والسرور على نفوسهن. وأصل المتعة والمتاع ما ينتفع به الإنسان من مال أو كسوة أو غير ذلك، ثم أطلقت المتعة على ما يعطيه الرجل للمرأة من مال أو غيره عند طلاقها منه لتنتفع به، جبرا لخاطرها، وتعويضا لما نالها بسبب هذا الفراق.
والْمُوسِعِ هو الغنى الذي يكون في سعة من غناه. يقال: أوسع الرجل إذ كثر ماله، واتسعت حاله. والْمُقْتِرِ هو الفقير الذي يكون في ضيق من فقره. أقتر الرجل أى افتقر وقل ما في يده.
والمعنى: لا حرج عليكم في طلاقكم للنساء قبل أن تدخلوا بهن وقبل أن تقدروا لهن مهرا معينا، وليس من حقهن عليكم في هذه الحالة أن يطالبنكم بالصداق، وإنما من حقهن عليكم أن تمتعوهن بأن تدفعوا لهن ما ينتفعن به كل على حسب حاله وطاقته، فالأغنياء يدفعون ما يناسب غناهم وسعتهم، والفقراء يدفعون ما يناسب حالهم.
وقوله: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ أى أعطوهن ما يتمتعن وينتفعن به بالقدر المتعارف عليه بين العقلاء، فلا يعطى الغنى ما لا يتناسب مع غناه ولا مع حال المرأة التي طلقها، ولا يعطى الفقير شيئا تافها لا يسمى في عرف العقلاء متاعا كما أنه لا يكلف فوق استطاعته، لأن المتاع ما سمى بهذا الاسم إلا لأنه يتمتع به وينتفع به لفترة من الزمان.
أى: هذا التمتيع حق ثابت على المحسنين الذين يحسنون إلى أنفسهم بامتثالهم لأوامر الله، وبترضيتهم لنفوس هؤلاء المطلقات اللاتي تأثرن بسبب هذا الفراق. فالآية الكريمة ترفع الإثم عن الرجال الذين يطلقون النساء قبل الدخول بهن وقبل تسمية المهر لهن، متى كانت المصلحة تستدعى ذلك، وتبين الحقوق التي للمرأة على الرجل في هذه الحالة.
قال القرطبي: قوله- تعالى-: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ. إلخ هذا أيضا من أحكام المطلقات، وهو ابتداء إخبار برفع الحرج عن المطلق قبل البناء والجماع، فرض مهرا أو لم يفرض. ولما نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن التزوج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة، وأمر بالتزوج لطلب العصمة والتماس ثواب الله صلّى الله عليه وسلّم وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن» «١».
وقوله: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً معطوف على تَمَسُّوهُنَّ المنفي، أى لا حرج عليكم في تطليقكم النساء في حالة عدم الدخول بهن وعدم تقدير مهر معين لهن.
وقوله: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ إلخ تشريع حكيم وتوجيه سديد، لأن فراق المرأة قبل الدخول بها وقبل تقدير مهر لها ينشئ جفوة ممضة بين المرأة وبين مطلقها، وقد يسيء هذا الفراق إليها وإلى أسرتها، فكان هذا الحق الذي جعله الله للمرأة على الرجل هو التمتيع، تسرية لنفسها، وتعويضا عما أصابها بسبب هذا الفراق، وتلطيفا لجو الطلاق وما يصاحبه من جفاء وبغضاء، واستبقاء للمودة الإنسانية بين الطرفين، وإزالة لما عسى أن يقوله البعض من أنه ما طلقها من طلقها إلا لشيء.
ولا شك أن إنهاء الحياة الزوجية قبل الدخول فيها، لضرورات اقتضاها هذا الإنهاء، أخف وأيسر من إنهائها بعد الدخول فيها.
قال الجمل ما ملخصه: وقوله: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ جملة من مبتدأ وخبر وفيها قولان:
أحدهما: أنها لا محل لها من الإعراب بل هي استئنافية بينت حال المطلق بالنسبة إلى يساره وإقتاره.
والثاني: في محل نصب على الحال وصاحب الحال فاعل متعوهن. والرابط بين جملة الحال
وبِالْمَعْرُوفِ جار ومجرور صفة له. وحَقًّا صفة ثانية لقوله: مَتاعاً أو مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله. وعامله محذوف وجوبا والتقدير: حق ذلك حقا» «١».
هذا، ويرى بعض العلماء أن المتعة واجبة للمرأة على الرجل في حال مفارقتها قبل الدخول بها وقبل تسمية المهر، لأن الآية الكريمة قد أكدت ذلك وجعلته حقا ثابتا لا يجوز التحلل منه قال- تعالى-: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ.
ويرى بعضهم أنها مستحبة، لأن التعبير بالمحسنين يدل على أن المتعة غير واجبة وقد رجح المحققون من العلماء الرأى الأول وقالوا: إن الإحسان لا ينافي الوجوب الذي دل عليه الأمر يؤيد هذا قوله: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، فقد جعل الله المتعة على الفريقين كل فريق على حسب طاقته وقدرته.
والمتعة تختلف باختلاف الأحوال من يسار وإعسار، يقدرها القاضي على الرجل على حسب حالته كما يقدر النفقة.
والصالحون من الناس هم الذين يبذلون المتعة للمطلقة بسخاء ومودة، ولقد أثر عن الحسن بن على- رضي الله عنهما- أنه متع امرأة طلقها بعشرة آلاف درهم، فلما تسلمت هذا المال الوفير قالت: «متاع قليل من حبيب مفارق».
ثم بين- سبحانه- حق المرأة فيما لو طلقت قبل الدخول بها وبعد تسمية مهر لها فقال- تعالى-: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً، فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ.
أى: وإن طلقتم يا معشر الرجال النساء من قبل أن تدخلوا بهن وتباشروهن، ومن بعد أن قدرتم لهن صداقا معلوما، فالواجب عليكم في هذه الحالة أن تدفعوا لهن نصف ما قدرتم لهن من صداق، إلا أن تتنازل المرأة عن حقها فتتركه لمطلقها بسماحة نفس، بأن تكون هي الراغبة في الطلاق، أو يتنازل الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج عن حقه بأن يدفع لها المهر كاملا أو ما هو أكثر من النصف لأنه هو الراغب في الطلاق. وجملة وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً في موضع نصب على الحال من فاعل طَلَّقْتُمُوهُنَّ أو من مفعوله. أى وإن طلقتموهن حالة كونكم فارضين لهن المهر أو حالة كونهن مفروضا لهن المهر.
والفاء في قوله: فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ واقعة في جواب الشرط، والجملة في مجل جزم جواب
وقوله: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ استثناء مفرغ من عموم الأحوال.
ويَعْفُونَ فعل مضارع الواو فيه لام الفعل، ونونه ضمير جماعة الإناث فهو هنا مبنى على السكون في محل نصب بأن. ووزنه يفعلن أى: فلهن نصف المهر الذي فرضتموه لهن في كل حال إلا في حال عفو المطلقات أى إبرائهن لكم وتنازلهن عن هذا الحق، أو في حال عفو الذي بيده عقدة النكاح، وهو الزوج المطلق- عند الأحناف والشافعية- لأنه هو المالك لعقد النكاح وحله، والمراد بعفوه أن يزيد على نصف المهر المقرر.
ويرى المالكية أن الذي بيده عقدة النكاح هو ولى المرأة، لأنه هو الذي بيده عقدة النكاح ثابتة، وأما الزوج فله ذلك حالة العقد المتقدم فقط.
وبكون المعنى على هذا الرأى: عليكم يا معشر الرجال أن تدفعوا للنساء نصف المهر إذا طلقتموهن بعد أن قدرتم لهن مهرا وقبل أن تمسوهن إلا أن يتنازل النساء عن هذا الحق، إذا كن يملكن ذلك، أو يتنازل أولياؤهن إن كن لا يملكن حق التنازل، كأن تكون البنت صغيرة، أو غير جائزة التصرف.
وقد دل كل فريق على مذهبه بما هو مبسوط في كتب الفقه.
ثم حبب- سبحانه- إلى الناس التسامح والتعاطف فقال: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
أى: من حق المرأة المطلقة على مطلقها أن يدفع لها نصف المهر إذا كان الطلاق قبل المباشرة وبعد تحديد المهر، وإذا تنازل أحد الطرفين عن جزء من حقه لصاحبه كان هذا التنازل حسنا.
لأن هذا التنازل والتسامح يضفى على جو الطلاق لونا من المودة والتقارب بين النفوس التي آلمها الفراق بتلك الصورة، فاحرصوا- أيها الناس- على هذا العفو بأن يتنازل كل فريق منكم لصاحبه عن شيء من حقه، ويتسامح معه، فإن ذلك أقرب إلى تقوى القلوب، وصفاء النفوس، ولا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض بالإحسان، وحب الخير، وجميل الذكر، فالله- تعالى- بصير بأعمالكم وسيحاسبكم عليها، وسيجازى كل نفس بما عملت.
فالجملة الكريمة توجيه حكيم للناس إلى ما يدفع عنهم التشاحن والتباغض والتخاصم
ولقد حفظ لنا التاريخ الإسلامى صورا مشرقة لهذا العفو والفضل من ذلك ما ذكره الإمام الزمخشري من أن جبير بن مطعم دخل على سعد بن أبى وقاص فعرض عليه بنتا له فتزوجها.
ثم طلقها قبل أن يدخل بها وبعث لها المهر كاملا. فقال له: لم تزوجتها؟ فقال: عرضها على فكرهت رده. فقيل له: فلم بعثت بالصداق كاملا؟ قال: فأين الفضل.
وروى أن أحد الصحابة تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول بها فأعطاها الصداق كاملا، فقيل له في ذلك فقال: أنا أحق بالعفو منها «١».
وهكذا نرى مبلغ استجابة السلف الصالح لتوجيهات القرآن ووصاياه، فأين المسلمون اليوم من هذه الوصايا والأحكام؟
وبعد هذا الحديث المستفيض الذي لم ينته بعد عن الطلاق وأحكامه وآدابه، أورد القرآن آيتين كريمتين تأمران بالمحافظة على الصلاة وبالمداومة على طاعة الله، وبالملازمة لذكره- عز وجل- فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٨ الى ٢٣٩]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
ولعل السر في توسط هاتين الآيتين بين آيات الأحكام التي تحدثت عن الطلاق، والعدة والرضاع والخطبة... إلخ، لعل السر في ذلك أن هذه الأمور كثيرا ما تكون مثار تنازع وتخاصم وتقاطع بين الناس، فأراد القرآن بطريقته الحكيمة، وبأسلوبه المؤثر أن يقول للناس:
إن محافظتكم على الصلاة، ومداومتكم على طاعة الله وذكره كل ذلك سيعرض في نفوسكم المراقبة له- سبحانه-، والخشية من عقابه، وسيعينكم على أن تحلوا قضاياكم التي تتعلق بالطلاق وغيره بالعدل والإحسان والتسامح والتعاطف، لأن من حافظ على فرائض الله وأوامره، انصرفت نفسه عن ظلم الناس، وعاملهم معاملة كريمة حسنة. وقد بين القرآن في كثير من آياته أن المحافظة على الصلاة بخشوع وخضوع لله- تعالى- وأن المداومة على ذكره،
وقال- تعالى-: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ، وقال- تعالى-: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ.
فكأن الله- تعالى- يقول للناس: لقد أمرتكم بالمحافظة على الصلاة، وبالمداومة على طاعتي وذكرى خلال حديثي عن أحكام كثيرا ما تكون هذه الأحكام مثار تنازع بينكم، وذلك لكي تحلوا التسامح والتواصل والتقارب محل التشاحن والتدابر والتجافي، لأن من شأن المحافظة على هذه العبادات، أن تهدى الناس إلى أكمل الأخلاق والصفات.
فسبحان من هذا كلامه، ومن تلك إرشاداته وتوجيهاته ووصاياه.
وقوله- تعالى-: حافِظُوا من الحفظ بمعنى ضبط الشيء، وصيانته عن كل تضييع، وهو خلاف النسيان. والخطاب لجميع المكلفين من أفراد الأمة.
والمعنى: حافظوا يا معشر المسلمين والمسلمات على أداء الصلوات في أوقاتها بخشوع وخضوع وإخلاص لله رب العالمين، وحافظوا بصفة خاصة على الصلاة الوسطى، لما لها من منزلة سامية، ومكانة عالية.
فقد أمر الله- تعالى- عباده بالمحافظة على الصلوات بصفة عامة، وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر تفخيما لشأنها، وإعلاء لقدرها من بين أفراد جنسها. والمسلّم يكون محافظا على الصلاة إذا أداها في وقتها مستوفية لآدابها وسننها وشرائعها وخشوعها وكل ما يتعلق بها، أما إذا قصر في شيء من ذلك فإنه لا يكون محافظا عليها تلك المحافظة التامة التي أمر الله بها.
وفي قوله- تعالى-: حافِظُوا تنبيه إلى أن الصلاة في ذاتها شيء نفيس ثمين تجب المحافظة عليه، لأن هذه الكلمة تدل على الصيانة والضبط بجانب دلالتها على الأداء والإقامة والمداومة.
قال الإمام الرازي: وقوله: حافِظُوا بصيغة المفاعلة التي تكون بين اثنين. للدلالة على أن هذه المحافظة تكون بين العبد والرب. فكأنه قيل: احفظ الصلاة ليحفظك الإله الذي أمرك بها. وهذا كقوله: «فاذكروني أذكركم» وفي الحديث «احفظ الله يحفظك». أو أن تكون المحافظة بين المصلّى والصلاة. فكأنه قيل: احفظ الصلاة حتى تحفظك الصلاة بمعنى أنها
وللعلماء أقوال في المراد بالصلاة الوسطى التي أفردها الله- تعالى- من بين الصلوات.
فجمهور العلماء يرون أنها واحدة من بين الصلوات الخمس المفروضة، وأن الوسطى مؤنث الأوسط أى الشيء المتوسط بين شيئين، فالصلاة الوسطى هي الصلاة المتوسطة بين صلاتين، إلا أنهم اختلفوا في تعيينها.
فأكثر العلماء على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، لأنها تقع في وسط الصلوات الخمس، إذ قبلها اثنتان وبعدها اثنتان، ولأنها وسط بين صلاتي النهار، وصلاتي الليل، فمعنى التوسط فيها واضح، ولأنها مظنة التقصير لمجيئها بعد وقت الظهيرة الذي يكون في الغالب وقت كسل.
وفضلا عن ذلك فقد صرحت بعض الأحاديث بأنها صلاة العصر، وقد ساق الإمام ابن كثير عددا من هذه الأحاديث ومنها ما جاء في صحيح مسلّم ومسند الإمام أحمد عن على بن أبى طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا، ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعشاء، وفي مسند الإمام أحمد عن سمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصلاة الوسطى صلاة العصر».
وقد خصت صلاة العصر بمزيد من التأكيد، وبالأمر بالمحافظة عليها، وبالتحذير من التقصير فيها، مما يشهد بأنها هي الصلاة الوسطى، فقد روى البخاري ومسلّم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» أى: سلب من أهله وماله فبقى وحيدا بدونهما.
وقال بعضهم المراد بالصلاة الوسطى صلاة الصبح، وقيل صلاة الظهر، وقيل صلاة المغرب، وقيل العشاء، وقيل الجمعة، وقيل غير ذلك من الأقوال التي لا تبلغ في قوتها مبلغ قول القائلين بأنها صلاة العصر، ولذا قال ابن كثير وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها، ومعترك النزاع في الصبح والعصر، وقد أثبتت السنة أنها العصر فتعين المصير إليها- أى إلى أن المراد بالصلاة الوسطى صلاة العصر «٢».
ومن العلماء من اتجه في بيان المراد من الصلاة الوسطى اتجاها آخر فهو يرى أن المراد بالصلاة الوسطى الصلوات كلها، وأن الوسطى ليست بمعنى المتوسطة بين صلاتين، وإنما هي بمعنى
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٩١ وما بعدها.
قال ابن كثير: وقيل بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس رواه ابن أبى حاتم عن ابن عمر وفي صحته نظر. والعجب أن هذا القول قد اختاره الشيخ أبو عمر بن عبد البر إمام ما وراء البحر، وإنها لإحدى الكبر، إذ اختار مع اطلاعه وحفظه ما لم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر».
ومن العلماء المحدثين الذين استحسنوا هذا الرأى الشيخ محمد عبده- رحمه الله- فقد قال: «ولولا أنهم اتفقوا على أنها- أى الصلاة الوسطى- إحدى الخمس لكان يتبادر إلى فهمي من قوله: «الصلاة الوسطى» أن المراد بالصلاة الفعل وبالوسطى الفضلى أى: حافظوا على أنواع الصلاة وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب وتتوجه بها النفس إلى الله- تعالى- وتخشع لذكره، وتدبر كلامه لا صلاة المرائين ولا الغافلين» «١».
والذي نراه أن ما عليه الجمهور من أن الصلاة الوسطى هي واحدة من بين الصلوات الخمس، وأنها صلاة العصر هو أقوى الآراء، لأنه- أولا- يتفق مع أصحاب الاتجاه الثاني الذين يقولون بأن أداء الصلاة يجب أن يكون بطريقة تامة الأركان والسنن والخشوع وما قال أحد منهم بأن تحديدها بصلاة العصر ينفى أداء بقية الفرائض بكمال واطمئنان. ولأنه- ثانيا- قد امتاز عن رأى أصحاب الاتجاه الثاني بأنه أعمل النص الصحيح الثابت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، ولا شك أن إعمال النص أولى من إهماله أو من تأويله تأويلا ضعيفا.
وقوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ مؤكدا لما قبله من المحافظة والمداومة على أداء الصلاة.
والقنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع والخشوع. أى قوموا في الصلاة مطيعين لله- تعالى- مؤيدين لها على وجهها الكامل في خشوع وخضوع واطمئنان.
والفاء في قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً للتفريع أى: حافظوا على الصلاة في كل وقت، وأدوها بخشوع واطمئنان، فإن كان بكم خوف من عدو في حال المقاتلة في الحرب أو من غيره لسبب من الأسباب، فصلوا راجلين أى ماشين على الأقدام، أو راكبين على ركائبكم بإيماء، سواء وليتم وجوهكم شطر القبلة أولا.
وجواب الشرط محذوف والتقدير: فإن خفتم فصلوا راجلين أو راكبين، وهذان اللفظان أى- رجالا أو ركبانا- حالان من الضمير في «فصلوا» المحذوف.
والآية الكريمة تدل على شدة عناية الإسلام بشأن الصلاة، فقد أمر الله- تعالى- عباده بأن يحافظوا عليها في حالتي الأمن والخوف، والصحة والمرض، والسفر والإقامة..
وقد بسط هذا المعنى الأستاذ الإمام محمد عبده فقال ما ملخصه: وقوله- تعالى-: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً هذا تأكيد للمحافظة على الصلاة، وبيان أنها لا تسقط بحال، لأن حال الخوف على النفس أو العرض أو المال هو مظنة العذر في الترك كما يكون السفر عذرا في ترك الصيام.. والسبب في عدم سقوط الصلاة عن المكلف بحال أنها عمل قلبي، وإنما فرضت تلك الأعمال الظاهرة لأنها مساعدة على العمل القلبي المقصود بالذات، وهو تذكر سلطان الله- تعالى- المستولى علينا وعلى العالم كله، ومن شأن الإنسان إذا أراد عملا قلبيا يجتمع فيه الذكر أن يستعين على ذلك ببعض ما يناسبه من قول وعمل.
ولا ريب أن هذه الهيأة التي اختارها الله- تعالى- للصلاة هي أفضل معين على استحضار سلطانه فإن قولك «الله أكبر» في فاتحة الصلاة وعند الانتقال فيها من عمل إلى عمل يعطيك من الشعور بكون الله أكبر وأعظم من كل شيء ما يغمر روحك، ويستولى على إرادتك..
وكذلك الشأن في سائر أعمال الصلاة.
فإذا تعذر عليك الإتيان ببعض تلك الأعمال البدنية فإن ذلك لا يسقط عنك هذه العبادة القلبية التي هي روح الصلاة وغيرها، وهي الإقبال على الله- تعالى- واستحضار سلطانه، مع الإشارة إلى تلك الأعمال بقدر الإمكان الذي لا يمنع من مدافعة الخوف الطارئ من سبع مفترس، أو عدو مغتال، أو لص محتال.. فالآية تعلمنا أنه يجب أن لا يذهلنا عن الله شيء في حال من الأحوال..» «١».
وقال الإمام ابن العربي: قوله- تعالى-: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً أمر الله- تعالى- بالمحافظة على الصلاة في كل حال من صحة ومرض، وحضر وسفر، وقدرة وعجز، وخوف وأمن، لا تسقط عن المكلف بحال، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب».
ثم قال- تعالى-: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ أى فإذا زال خوفكم وصرتم آمنين مطمئنين، «فاذكروا الله» أى فأدوا الصلاة تامة كاملة مثل ما علمكم إياها ربكم على لسان نبيكم صلّى الله عليه وسلّم وقد من الله- تعالى- عليكم بهذا التعليم الذي كنتم تجهلونه فضلا منه وكرما.
وعبر- سبحانه- «بإن» المفيدة للشك في حالة الخوف، وبإذا المفيدة للتحقيق في حالة الأمن، للإشعار بأن حالة الأمن هي الحالة الكثيرة الثابتة، وأن حالة الخوف هي الحالة القليلة الطارئة، وفي ذلك فضل جزيل من الله- تعالى- على عباده يحملهم على شكره وطاعته، حيث وهبهم الأمان والاطمئنان في أغلب أوقات حياتهم.
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد أمرتا المسلّم بأن يحافظ على الصلاة محافظة تامة، إذ في هذه المحافظة سعادة للإنسان، ودافع له على أداء الحقوق لأربابها، وزاجر له عن اقتراف.
ما نهى الله عنه.
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن أحكام الزواج وما يتعلق به من طلاق ووصية وعدة وغير ذلك من أحكام بقوله- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٠ الى ٢٤٢]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)
والمعنى: لقد شرع الله لكم فيما شرع من أحكام، أن على المسلّم قبل أن يحضره الموت أن يوصى لزوجته التي على قيد الحياة بما تنتفع به انتفاعا مستمرا لمدة حول من وفاته، ولا يصح أن يخرجها أحد من مسكن الزوجية.
وقوله: وَصِيَّةً فيه قراءتان مشهورتان.
القراءة الأولى بالنصب، والتقدير: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا فليوصوا وصية، أو كتب الله عليهم وصية لأزواجهم.
والقراءة الثانية بالرفع والتقدير: فعليهم وصية لأزواجهم.
وعلى قراءة النصب تكون كلمة وَصِيَّةً مفعولا مطلقا أو مفعولا به، وعلى قراء الرفع تكون مبتدأ محذوف الخبر. وقوله: لِأَزْواجِهِمْ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة وَصِيَّةً على القراءتين. أى: وصية كائنة لأزواجهم.
والمراد بقوله: مَتاعاً ما تتمتع به الزوجة من السكن والنفقة بعد وفاة زوجها بوصية منه.
وهو منصوب على المصدر أى متعوهن متاعا أو على المفعولية. أى جعل الله لهن ذلك متاعا.
وقال- سبحانه-: مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ للتنصيص على أن هذه المدة تمتد حولا كاملا منذ وفاة زوجها، إذ كلمة حول تدل على التحول أى حتى تعود الأيام التي حدثت فيها الوفاة.
وقوله: «غير إخراج» حال من أزواجهم أى غير مخرجات من مسكن الزوجية، فلا يصح لورثة الميت أن يخرجوهن من مسكن الزوجية بغير رضاهن، لأن بقاءهن في مسكن الزوجية حق شرعه الله لهن، فلا يجوز لأحد أن يسلبه منهن بغير رضاهن.
ثم قال- تعالى-: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ.
أى: فَإِنْ خَرَجْنَ من منزل الزوجية برضاهن ورغبتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أى فلا إثم عليكم أيها المسلمون فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ أى فيما فعلن في أنفسهن من أمور لا ينكرها الشرع كالتزين والتطيب والتزوج بعد انتهاء عدتها وهي أربعة أشهر وعشرة أيام.
هذا، وللعلماء في تفسير هذه الآية اتجاهان مشهوران:
أما الاتجاه الأول: فيرى أصحابه أن هذه الآية منسوخة لأنها توجب على الزوج حين مشارفة الموت أن يوصى لزوجته بالنفقة والسكنى حولا، ويجب عليها الاعتداد حولا، وهي مخيرة بين السكنى في بيته حولا ولها النفقة، وبين أن تخرج منه ولا نفقة لها، ولم يكن لها ميراث من زوجها
قالوا: ومما يشهد لذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية:
نسخت بآية الميراث بما فرض الله لهن من الربع والثمن «ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا» «١».
وقد حكى هذا الرأى صاحب الكشاف فقال: والمعنى: أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا، أى: ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن. وكان ذلك في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وقيل نسخ ما زاد منه على هذا المقدار. ونسخت النفقة بالإرث الذي هو الربع والثمن.
واختلف في السكنى فعند أبى حنيفة لا سكنى. ثم قال: فإن قلت كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة؟ قلت: قد تكون الآية متقدمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل. كقوله- تعالى-: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مع قوله قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ «٢».
وعلى هذا الاتجاه سار جمهور المفسرين.
أما الاتجاه الثاني: فيرى أصحابه أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة وممن ذهب إلى هذا الاتجاه مجاهد، فقد قال ما ملخصه: دلت الآية الأولى وهي يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً على أن هذه عدتها المفروضة تعتدها عند أهل زوجها. ودلت هذه الآية بزيادة سبعة أشهر وعشرين ليلة على العدة السابقة تمام الحول، وأن ذلك من باب الوصية للزوجات أن يمكن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا ولا يمنعن من ذلك لقوله: غَيْرَ إِخْراجٍ فإذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر- أو بوضع الحمل- واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله: فَإِنْ خَرَجْنَ.
ومن المفسرين الذين أيدوا هذا الاتجاه الإمام ابن كثير فقد قال- بعد أن ساق قول مجاهد-
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٢٨٩.
كما أيده أيضا الإمام الفخر الرازي في تفسيره، فقد قال بعد أن ساق بعض الأدلة التي تثبت ضعف قول من قال بالنسخ: «فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل» «٢».
والخلاصة أن أصحاب هذا الاتجاه الثاني لا يرون معارضة بين هذه الآية وبين آية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً لأن الآية التي معنا لا تتحدث عن عدة المتوفى عنها زوجها وإنما تتحدث عن حقها في البقاء في منزل الزوجية بعد وفاة زوجها، وأن هذا الحق ثابت لها فإن شاءت بقيت فيه، وإن شاءت خرجت منه على حسب ما نراه مصلحة لها، ولأنها لا يوجد في ألفاظها أو معانيها ما يلزم المرأة بالتربص والامتناع عن الأزواج مدة معينة.
أما الآية الثانية فنراها واضحة في الأمر بالتربص أربعة أشهر وعشرا، وهي العدة التي يجب أن تمتنع فيها المرأة التي مات عنها زوجها عن التزين والتعرض للزواج. إذن فلا تعارض بين الآيتين ومتى انتفى التعارض انتفى النسخ.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أى: عزيز في انتقامه ممن تعدى حدوده، إذ هو القاهر فوق عباده، حكيم فيما شرع لهم من آداب وأحكام فينبغي أن يمتثل الناس أوامره ويجتنبوا ما نهاهم عنه.
ثم بين- سبحانه- حق المطلقات فقال: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أى وللمطلقات على أزواجهن الذين طلقوهن متاع بالمعروف أى شيء ينتفع به انتفاعا ممتدا لمدة من الوقت مما تعارف العقلاء عليه وعلى فائدته للمرأة، وهذا المتاع جعله الله حقا على المتقين الذين يصونون أنفسهم عن كل ما يبغضه الله- تعالى-.
وقد جعل الله هذا الحق للمطلقة على مطلقها جبرا لوحشة الفراق وإزالة لما قد يكون بين الزوجين من شقاق، وتخفيفا لما قد يحيط بجو الطلاق من تنافر وتخاصم وعدم وفاق.
قال ابن كثير: وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء وجوب المتعة لكل مطلقة سواء كانت مفوضة، أو مفروضا لها، أو مطلقة قبل المسيس، أو مدخولا بها. وإليه ذهب
(٢) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ١٦٨.
وعلى هذا التفسير يكون المراد بالمتاع ما يعطيه الرجل لامرأته التي طلقها زيادة عن الحقوق المقررة لها شرعا ليكون التسريح بإحسان.
ومن العلماء من يرى أن المراد بالمتاع هنا النفقة التي تكون للمطلقة في العدة قال الفخر الرازي: واعلم أن المراد بالمتاع هاهنا فيه قولان:
أنه هو المتعة فظاهر هذه الآية يقتضى وجوب هذه المتعة لكل المطلقات..
والقول الثاني أن المراد بهذه المتعة النفقة، والنفقة قد تسمى متاعا، وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى» «٢».
ويظهر أن مراد الفخر الرازي بقوله: «اندفع التكرار» أى ما بين هذه الآية والآية التي سبقت وهي قوله- تعالى-: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ولك أن تقول: إنه لا تكرار مع إرادة المتعة التي ليست هي النفقة لأنه في السابقة بين أنها حق للمرأة حين تطلق ولم يكن قد قدر لها مهر معين، وهنا ذكرت عقب آية الوفاة لدفع ما يتوهم من أن المتوفى عنها زوجها لها حق في المتعة إذا لم يوص لها زوجها بالنفقة.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات المتعلقة بأحكام الأسرة بقوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
أى: مثل هذا البيان الحكيم الواضح الذي بين الله لكم به الأحكام السابقة، يبين لكم جميع آياته وأحكامه التي أنتم في حاجة إليها لكي تفهموا ما فيها وتعقلوه وتعملوا به فتنالوا السعادة في الدنيا والآخرة.
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد بينت لنا في أكثر من عشرين آية بعض الأحكام التي تتعلق بالأسرة وصيانتها وسعادتها بأسلوب مؤثر حكيم وبطريقة تهدى إلى أفضل الأخلاق، وأقوم العلاقات بين الأفراد والجماعات، وإن المتأمل في هذه الآيات وما اشتملت عليه من توجيهات سامية ليوقن بأن هذا القرآن إنما هو من عند الله، الذي شرع لعباده ما فيه صلاحهم وسعادتهم.
وبعد هذا البيان الحكيم عن الأسرة وما يتعلق بها من زواج وطلاق وغير ذلك، ساق القرآن من القصص ما من شأنه أن يدعو إلى التذكر والاعتبار ويحرض على الجهاد في سبيل الله،
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١ ص ١٧٢.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٣ الى ٢٤٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
قال الآلوسى: قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتى- كالأحبار وأهل التواريخ- وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب، بأن شبه من «لم ير» الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه، ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع من رأى، قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب. ثم قال: والرؤية إما بمعنى الإبصار مجازا عن النظر، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار، لأن النظر اختياري دون الإدراك الذي بعده. وإما بمعنى الإدراك القلبي متضمنا معنى الوصول والانتهاء ولهذا تعدت- أى الرؤية- بإلى في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا.. «١».
والمعنى: قد علمت أيها الرسول الكريم أو أيها الإنسان العاقل- حال أولئك القوم الذين خرجوا من ديارهم التي ألفوها واستوطنوها، وهم ألوف مؤلفة، وكثرة كاثرة، وما كان خروجهم إلا فرارا وخوفا من الموت الذي سيلاقيهم- إن عاجلا أو آجلا-.
والمقصود من هذه الآية الكريمة حض الناس جميعا على الاعتبار والاتعاظ وزجرهم عن الفرار من الموت هلعا وجبنا، وتحريضهم على القتال في سبيل الله فقد قال- تعالى- بعد ذلك: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. وإفهامهم أن الفرار من الموت لن يؤدى إلا إلى الوقوع فيه.
وقوله: وَهُمْ أُلُوفٌ جملة حالية من الضمير في خَرَجُوا وأُلُوفٌ جمع ألف. والتعبير بألوف يفيد أنهم كانوا كثيرى العدد، ومن شأن الكثرة أنها تدعو إلى الشجاعة ولكنهم مع هذه الكثرة قد استولى عليهم الجبن فخرجوا من ديارهم هربا من الموت.
وقيل إن معنى وَهُمْ أُلُوفٌ أنهم خرجوا مؤتلفى القلوب، ولم يخرجوا عن افتراق كان منهم، ولا عن تباغض حدث بينهم. وألوف على هذا القول جمع آلف مثل قاعد وقعود وشهود. قالوا: والوجه الأول أجدر بالاتباع لأن ورد الموت عليهم وهم كثرة عظيمه يفيد مزيد اعتبار بحالهم، ولأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة.
وقوله: حَذَرَ الْمَوْتِ أى خرجوا الحذر الموت وخشيته، فقوله: حَذَرَ منصوب على أنه مفعول لأجله. والجملة الكريمة تشير إلى أن خروجهم كان الباعث عليه الحرص على مطلق حياة ولو كانت حياة ذل ومهانة، وأنه لم يكن هناك سبب معقول يحملهم على هذا الخروج، ولذا كانت نتيجة ذلك أن عاقبهم الله- تعالى- بالموت الذي هربوا منه فقال:
فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ أى: فقال لهم الله موتوا فماتوا ثم أحياهم بعد ذلك.
فجملة ثُمَّ أَحْياهُمْ معطوفة على مقدر يستدعيه المقام أى، فماتوا ثم أحياهم. وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده- تعالى- عن إرادته.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى قوله: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا قلت: معناه فأماتهم وإنما جيء به على هذه الصورة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقف كقوله- تعالى-: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وأن الموت إذا لم يكن منه بد، ولم ينفع منه مفر، فأولى أن يكون في سبيل الله» «١».
وقال الجمل: «فإن قلت هذا يقتضى أن هؤلاء ماتوا مرتين وهو مناف للمعروف من أن
وبعد هذا البيان لمعنى الآية قد يقال: من هم أولئك القوم الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت؟ وهل الإماتة والإحياء بالنسبة لهم كانا على سبيل الحقيقة؟
للإجابة على السؤال الأول نقول: لم يرد حديث صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبين لنا فيه من هؤلاء القوم وفي أى زمن كانوا، وإنما أورد بعض المفسرين عن بعض الصحابة والتابعين روايات فيها مقال، وفيها تفصيلات نرى من الخير عدم ذكرها لضعفها. ومن هذه الروايات ما جاء عن ابن عباس أنه قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون، حتى إذا كانوا بموضع كذا أو كذا ماتوا.. ثم أحياهم الله بدعوة دعاها نبيهم «٢».
ومنها أنهم- قوم من بنى إسرائيل- فروا من الجهاد حين أمرهم الله به على لسان نبيهم «حزقيل» وخافوا من الموت في الجهاد فخرجوا من ديارهم فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد..».
قال القرطبي بعد أن ساق هذه الرواية: وقال ابن عطية: وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله- تعالى- أخبر نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فرارا من الموت فأماتهم الله ثم أحياهم ليروا هم وكل من جاء من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر.
وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمر المؤمنين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالجهاد. وهذا قول الطبري وهو ظاهر وصف الآية» «٣» والذي نراه أن الرواية الثانية التي تقول: إنهم قوم من بنى إسرائيل فروا من الجهاد حين أمرهم الله به.. معقولة المعنى، ويؤيدها سياق الآيات، لأن الآيات تحض الناس على القتال في سبيل الله، وتسوق لهم قصة هؤلاء القوم لكي يعتبروا ويتعظوا ولا يتخلفوا عن الجهاد الذي هو باب من أبواب الجنة- كما قال الإمام على بن أبى طالب- ولأن قوله- تعالى-: وَهُمْ أُلُوفٌ يشعر بأنهم مع كثرة عددهم قد نكصوا على أعقابهم، وفروا من وجوه أعدائهم وهذا شأن بنى إسرائيل في كثير من أدوار تاريخهم وما قاله ابن عطية يشير إليها فهو
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ صفحة ٢٩٨ بتلخيص.
(٣) تفسير القرطبي ج ٢ صفحة ٢٣٩.
وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمر المؤمنين | بالجهاد. إلا أنه آثر وصفهم بأنهم قوم من البشر. |
وقد خالف الأستاذ الإمام محمد عبده إجماع المفسرين هذا فرأى أن المراد بالموت في الآية الموت المعنوي بمعنى أن موت الأمم إنما هو في جبنها وذلتها وأن حياتها إنما تكون في عزتها وحريتها، فقد قال- رحمه الله- ما ملخصه.
«.. والمتبادر من السياق أن أولئك القوم خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو مهاجم لا من قلتهم، فقد كانوا ألوفا أى كثيرين، وإنما هو الحذر من الموت الذي يولده الجبن في أنفس الجبناء، فيريهم أن الفرار من القتال هو الواقي من الموت وما هو إلا سبب الموت بما يمكن الأعداء من رقاب أهله، قال أبو الطيب:
يرى الجبناء أن الجبن حزم | وتلك خديعة الطبع اللئيم |
فمعنى أولئك القوم هو أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم وأزال استقلال أمتهم حتى صارت لا تعد أمة، بأن تفرق شملها، وذهبت جامعتها، فكل من بقي من أفرادها بقي خاضعا للغالبين ضائعا فيهم، لا وجود له في نفسه، وإنما وجوده تابع لوجود غيره.
ومعنى حياتهم هو عود الاستقلال إليهم، ذلك أن من رحمة الله في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديبا لهم، ومطهرا لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة. أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الخوف والجبن والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها، فجمعوا كلمتهم، ووثقوا رابطتهم، حتى عادت لهم وحدتهم، فاعتزوا وكثروا حتى خرجوا من ذل العبودية التي كانوا فيها إلى عز الاستقلال فهذا معنى حياة الأمم وموتها» «١».
فأنت ترى أن الأستاذ الإمام يرى أن الموت والحياة في الآية معنويان، بمعنى أن موت الأمم في جبنها وذلتها، وحياتها في استقلالها وحريتها.
ولعله- رحمه الله- قد اتجه هذا الاتجاه لأن الحض على القتال في سبيل الله واضح في هذه الآيات، ولأنه يرى أن واقع العالم الإسلامى يومئذ وما أصابه من ظلم واستبداد واستلاب
ومع أننا لا نشك في الدوافع الطيبة والبواعث الكريمة التي جعلت الأستاذ الإمام يتجه هذا الاتجاه، إلا أننا لا نتردد في اختيار ما ذهب إليه المفسرون من أن الموت والحياة في الآية حسيان حقيقيان، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة، ولأنه يتجه اتجاها أعم من اتجاه الإمام محمد عبده، لأن المفسرين يرون أن الآية واضحة في إثبات قدرة الله وفي صحة البعث، وفي الحض على القتال في سبيل الله.
قال بعض العلماء: قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا الآية. كان المشركون يستفتون اليهود في كثير من الأمور وكانت هذه القصة معلومة لليهود في أسفارهم وتواريخهم، فنزل القرآن بالإشارة إليها ليرتدع المشركون عما هم فيه من الضلال وإنكار البعث، ويعلموا أن دلائل القدرة على البعث مشهورة، وأن عند اليهود منها ما لو رجعوا إليهم فيه لعلموا أنه حق لا ريب فيه. وفي ذكر هذه القصة مع ذلك تشجيع للمؤمنين على الجهاد والتعرض للشهادة، وتمهيد لما بعد هذه الآية» «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ أى: إن الله- تعالى- لصاحب تفضل دائم على الناس حيث أوجدهم بهذه الصورة الحسنة، وخلق لهم عقولا ليهتدوا بها إلى طريق الخير، وسخر لهم الكثير مما في هذا الكون. فمن الواجب عليهم أن يشكروه وأن يطيعوه، ولكن الذي حدث منهم أن أكثرهم لا يشكرون الله- تعالى- على ما منحهم من نعم.
وفي قوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ إنصاف للقلة الشاكرة منهم، ومديح لهم على استقامتهم وقوة إيمانهم.
ثم أمر الله- تعالى- عباده بالجهاد في سبيله فقال: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
والسبيل: الطريق. وسميت المجاهدة سبيلا إلى الله لأن الإنسان يسلكها فيصل إلى ما يرضى الله، ويعلى كلمته. ويعز دينه.
أى، قاتلوا أيها المسلمون في سبيل إعلاء كلمة الله، والدفاع عن دينه، واعلموا أنه- سبحانه- عليم بكل أقوالكم صالحها وطالحها، عليم بكل ما يدور في نفوسكم وخواطركم،
فالآية الكريمة تحريض للمؤمنين على القتال من أجل إظهار الدين الحق، وتحذير لهم من القعود عنه، وحث لهم على صدق النية وإخلاص العمل لله، فقد سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أى ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» «١».
ثم أمر الله- تعالى- عباده بأن ينفقوا أموالهم في الأعمال الصالحة التي من أعظمها الجهاد في سبيله فقال- تعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً.
قال القرطبي: «القرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء. وأقرض فلان فلانا أى أعطاه ما يتجازاه. واستقرضت من فلان أى طلبت منه القرض فأقرضنى. واقترضت منه أى أخذت القرض. وأصل الكلمة القطع ومنه المقراض. وأقرضته أى قطعت له من مالي قطعة يجازى عليها... ثم قال: والتعبير بالقرض في هذه الآية إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغنى الحميد، لكنه- تعالى- شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء..» «٢».
والمعنى: من هذا المؤمن القوى الإيمان الذي يقدم ماله في الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله، وفي غير ذلك من وجوه الخير كمعاونة المحتاجين، وسد حاجة البائسين، ومساعدة الأمة الإسلامية بما يفيدها ويعلى من شأنها، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً أى: فيرد الله- تعالى- إلى هذا الباذل المعطى المقرض بدل ما أعطى وبذل وأقرض أمثالا كثيرة لا يعلم مقدارها إلا الله أكرم الأكرمين. إذ المضاعفة معناها إعطاء الشخص أضعاف أى أمثال ما أعطى وبذل.
والاستفهام في قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ.. للحض على البذل والعطاء، وللتهييج على الاتصاف بالصفات الكريمة، حتى لكأن المستفهم لا يدرى من هو الأهل لهذه الصفات ويريد أن يعرف من هو أهل لها.
ومَنْ اسم استفهام مبتدأ، وذَا اسم إشارة خبره، والذي وصلته صفة لاسم الإشارة أو بدل منه.
وقوله: قَرْضاً حَسَناً حث للناس على إخلاص النية، وتحرى الحلال فيما ينفقون، لأن الإنسان إذا تصدق بمال حرام، أو قصد بنفقته الرياء أو المباهاة لا يكون عمله متقبلا عند الله،
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ صفحة ٢٣٩.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
القبض: ضد البسط. يقال: قبضه بيده يقبضه أى تناوله. وقبض عليه بيده أى أمسكه.
ويقال لإمساك اليد عن البذل قبض ومن ذلك قوله- تعالى-: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ أى يمتنعون عن الإنفاق.
والبسط معناه المد والتوسعة. يقال بسط يده أى: مدها. وبسط المكان القوم. وسعهم.
والمعنى: والله- تعالى- بيده الإعطاء والمنع فهو يسلب تارة ويعطى أخرى، أو يسلب قوما ويعطى آخرين، أو يضيق على بعض ويوسع على بعض حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكمة والمصلحة، وما دام الأمر كذلك فلا تبخلوا بما وسع عليكم كيلا تتبدل أحوالكم من الغنى إلى الفقر، ومن السعة إلى الضيق. وأنتم جميعا سترجعون إليه وحده، وسيجازى- سبحانه- الأسخياء بما يستحقون من كريم الثواب والبخلاء بما هم أهله من شديد العقاب.
فأنت ترى أن في هذه الآية الكريمة ألوان من الحض على الإنفاق في وجوه الخير ومن ذلك التعبير بالاستفهام، لأنه للتنبيه وبعث النفوس إلى التدبر والاستجابة.
ومن ذلك- أيضا- التعبير بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي.. فقد جمع هذا التعبير بين اسم الإشارة والاسم الموصول في الاستفهام، ولا يستفهم بتلك الطريقة إلا إذا كان المقام ذا شأن وخطر، وكان المخاطب لعظم قدره من شأنه أن يشار إليه وأن يتحدث عنه ومن ذلك تسميته ما يبذل الباذل قرضا، ولمن هذا القرض إنه لله الذي بيده خزائن السموات والأرض والذي سيرد للباذل أضعاف ما بذل، فكأنه- سبحانه- يقول لنا: إن ما تدفعونه لن يضيع عليكم بل هو قرض منكم لي، وسأرده لكم بأضعاف ما دفعتم وأعطيتم. ومن ذلك إخفاء مرات المضاعفة ووصفها بالكثرة في قوله: فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً أى لا يعلم مقدارها إلا الله.
ومن ذلك التعبير بقوله وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ لأنه مادام العطاء والمنع من الله فلماذا يبخل البخلاء ويقتر المقترون؟ إن على الغنى أن يستشعر نعمة الله عليه وأن يتحدث بها بدون رياء وأن ينفق منها في وجوه الخير حتى يزيده الله من فضله، وإلا ففي قدرة الله أن يسليها منه، ويحاسبه على بخله حسابا عسيرا.
هذه بعض وجوه المبالغة التي اشتملت عليها الآية لحض الناس على الإنفاق في الجهاد وفي
ومن خير الأمثلة على ذلك ما جاء عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال أبو الدحداح: يا رسول الله أو إن الله- تعالى- يريد منا القرض؟ «قال نعم يا أبا الدحداح» قال أرنى يدك. فناوله النبي صلّى الله عليه وسلّم يده. فقال أبو الدحداح: فإنى أقرضت الله- تعالى- حائطا فيه ستمائة نخلة. ثم جاء يمشى حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك قال: أخرجى قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمائة نخلة» «١».
وفي رواية لزيد بن اسلم أن أبا الدحداح قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية والله لا أملك غيرهما قد جعلتهما قرضا لله- تعالى- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اجعل إحداهما والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك» قال: فأشهدك يا رسول أنى قد جعلت خيرهما لله وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال: «إذا يجزيك الله به الجنة، ثم انطلق أبو الدحداح إلى زوجته وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأخبرها بما فعل. فأقبلت على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر» «٢».
وبهذا نرى السلف الصالح قد امتثل ما أمره الله به من إنفاق في سبيله ومن جهاد لإعلاء كلمته فهل آن الأوان للمسلمين أن ينهجوا نهجهم لكي يسعدوا كما سعدوا، وينالوا أشرف حياة وأعزها؟ اللهم خذ بيدنا إلى ما يرضيك.
ثم ساق القرآن قصة من قصص بنى إسرائيل مع أنبيائهم، فيها العظات والعبر، وملخص هذه القصة: أن قوما من بنى إسرائيل كانوا قد انهزموا أمام أعدائهم هزيمة منكرة جعلتهم يولون الأدبار تاركين ديارهم وأبناءهم، فقالوا لنبي لهم بعد أن ذاقوا مرارة الهزيمة: أبعث لنا ملكا يقودنا للقتال في سبيل الله، فقال لهم نبيهم بعد أن حذرهم من عاقبة الجبن والكذب:
إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً فاعترضوا على هذا الاختيار، ونقصوا من شأن من اختاره الله قائدا لهم، ولكن نبيهم ساق لهم من الحجج التي تدل على صلاحية طالوت لهذا المنصب ما أخرس ألسنتهم.. ثم سار طالوت بجنوده لقتال أعدائه، وفي الطريق قال لمن معه إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ثم بعد هذه المخالفة جبن أكثرهم عن قتال أعدائهم وقالوا
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ صفحة ٢٣٧.
قال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٦ الى ٢٤٧]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)
وقوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إلخ استئناف ثان بعد قوله قبل ذلك: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وقد سيق هذا الاستئناف مساق الاستدلال لقوله- تعالى-: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حتى تتشجع النفوس على الجهاد، وتهون عليها المصاعب في سبيل حياة العزة والكرامة.
والمعنى: كما سبق أن بينا في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا. قد علمت أيها العاقل حال أولئك القوم من بنى إسرائيل الذين كانوا بعد وفاة موسى- عليه السلام- إذ قالوا لنبي لهم أقم لنا أميرا لكي نقاتل معه في سبيل الله. ومن لم يعلم فها نحن أولاء نعلمه بحالهم فعليه أن يعتبر ويتعظ.
فقوله: مِنْ بَعْدِ مُوسى بيان للزمن الذي كان يعيش فيه أولئك الملأ من بنى إسرائيل والمراد بالنبي الذي قالوا له ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ على الراجح- «شمويل بن حنة» وكان السبب في طلبهم هذا من نبيهم أن العمالقة أتباع جالوت كانوا قد أخرجوهم من ديارهم، وأنزلوا بهم هزائم شديدة، فطلبوا منه ذلك لكي يستردوا مجدهم الضائع، وعزهم المسلوب، على يد هذا القائد المختار من جهة نبيهم.
وفي الإتيان بلفظ هذا النبي بصيغة التنكير إشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي وإنما المقصود معرفة حال أولئك القوم، وما جرى لهم مع نبيهم من أحداث من شأنها أن تدعو إلى الاعتبار والاتعاظ. وهذه طريقة القرآن في سرد القصص لا يهتم بالأشخاص والأزمان إلا بالقدر الذي يستدعيه المقام. أما الاهتمام الأكبر فيجعله لما اشتملت عليه القصة من وجوه العظات والعبر.
ويبدو أنه كان يتوجس منهم خيفة لأنه أعرف بطبيعتهم، فنراه يقول لهم كما حكى القرآن عنه: قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا.
فالاستفهام للتقرير والتحذير. أى إنى أتوقع عدم قتالكم إذا فرض عليكم القتال، فراجعوا أنفسكم وقوتكم قبل أن تطلبوا هذا الطلب، لأنه إذا فرض عليكم ثم نكصتم على أعقابكم فإن عاقبتكم ستكون شرا لا شك في ذلك.
وعسى هنا بمعنى التوقع والمقاربة، والجملة استئناف بيانى.
قال صاحب الكشاف والمعنى: هل قاربتم ألا تقاتلوا؟ يعنى هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون؟ أراد أن يقول: عسيتم ألا تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فأدخل هَلْ مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه
ثم حكى القرآن ردهم على نبيهم فقال: قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا.
أى قال الملأ من بنى إسرائيل على سبيل الإنكار والتعجب مما قاله نبيهم: وأى صارف يصرفنا عن القتال وحالنا كما ترى؟ إننا قد أخرجنا من ديارنا وحيل بيننا وبين أبنائنا وفلذات قلوبنا فكيف لا نقاتل مع أن الدواعي موجودة، والبواعث متوفرة، والأسباب مهيئة؟ فأنت تراهم في إجابتهم هذه يستنكرون ما توقعه نبيهم منهم، ويجزمون بأن الطريق الوحيد لعزتهم إنما هو القتال وأن هذا الأمر لا مراجعة فيه ولا جدال. وهكذا شأن الجبناء والمغرورين في كل زمان ومكان يرحبون بالمعارك قبل قدومها فإذا ما جد الجد كذبت أعمالهم أقوالهم، وأعطوا أدبارهم لأعدائهم! ثم حكى القرآن أن نبيهم كان صادقا فيما توقعه منهم من جبن وكذب، وأنهم قوم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فقال- تعالى-: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
أى: فحين فرض عليهم القتال بعد أن الحوا في طلبه، أعرضوا عنه، ونفروا منه إلا عددا قليلا منهم فإنه ثبت على الحق، ووفى بعهده.
قال الآلوسى: وقوله إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين جاوزوا النهر وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر عدة أهل بدر على ما أخرجه البخاري عن البراء- رضي الله عنه- والقلة إضافية فلا يرد وصف هذا العدد أحيانا بأنه جم غفير «٢».
ثم ختم الله- تعالى- الآية بقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لإفادة الوعيد الشديد لهؤلاء الذين نقضوا عهودهم، ونكصوا عن القتال عند ما فرض عليهم، ولكل من يفعل فعلهم، وسار على طريقهم.
أى: والله- تعالى- عليم بالظالمين الذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد، وبترك ما أمرهم الله به بعد أن عاهدوه على عدم الترك.
ثم بين القرآن ما أخبرهم به نبيهم ليحملهم على الطاعة والامتثال فقال- تعالى-: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً.
أى وقال لهم بعد أن أوحى إليه بما يوحى: إن الله- تعالى- وهو العليم الخبير بأحوال عباده
(٢) تفسير الآلوسى ج ٢ صفحة ١٦٦.
وطالُوتَ اسم أعجمى قيل هو المسمى في التوراة باسم «شاول» وقيل إن هذا الاسم لقب له من الطول كملكوت من الملك، لأن طالوت كان طويلا جسيما.
ولقد كان الذي يقتضيه العقل أن يطيعوا أمر نبيهم، ولكنهم لجوا في جدالهم وطغيانهم وقالوا لنبيهم معترضين على من اختاره الله قائدا لهم. أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ.
أَنَّى أداة استفهام بمعنى كيف، والاستفهام هنا للتعجب من جعل طالوت ملكا عليهم.
أى قالوا لنبيهم منكرين ومتعجبين من اختيار طالوت ملكا عليهم: كيف يكون له الملك علينا والحال أننا أحق بالملك منه لأننا أشرف منه نسبا، إذ منا من هو نسل الملوك أما طالوت فليس من نسلهم، وفضلا عن ذلك فهو لا يملك من المال ما يملكه بعضنا فكيف يكون هذا الشخص ملكا علينا؟
فأنت تراهم لانعدام المقاييس الصحيحة عندهم ظنوا أن المؤهلات الحقيقة لاستحقاق الملك والقيادة إنما تكون بالنسب وكثرة المال أما الكفاءة العقلية، والقوة البدنية، والقدرة الشخصية فلا قيمة لها عندهم لانطماس بصيرتهم، وسوء تفكيرهم.
قال بعضهم: «وسبب هذا الاستبعاد أن النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بنى إسرائيل وهو سبط لاوى بن يعقوب، وسبط المملكة بسبط يهوذا، ولم يكن طالوت من أحد هذين السبطين بل من ولد بنيامين. والواو في قوله: وَنَحْنُ أَحَقُّ للحال، والواو الثانية في قوله: وَلَمْ يُؤْتَ عاطفة جامعة للجملتين في الحكم «١».
ثم حكى القرآن ما رد به نبيهم عليهم فقال: قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ، وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
أى قال لهم نبيهم مدللا على أحقية طالوت بالقيادة: إن الله- تعالى- اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ أى اختاره وفضله عليكم واختياره يجب أن يقابل بالإذعان والتسليم. وثانيا: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ
أى أن الله- تعالى- منحه سعة في العلم والمعرفة والعقل والإحكام في التفكير المستقيم لم يمنحها لكم، وثالثا: في الْجِسْمِ بأن أعطاه جسما قويا ضخما مهيبا. وهذه الصفات ما وجدت في شخص إلا وكان أهلا للقيادة والريادة وفضلا عن كل ذلك فمالك الملك هو الذي
«عليم».
ثم حكى القرآن أن نبيهم لم يكتف بهذه الدلائل الدالة على صلاحية طالوت للقيادة، وإنما ساق لهم بعد ذلك من العلامات التي تشهد بحقيقته بهذا المنصب ما يثبت قلوبهم، ويزيل شكهم ويشرح نفوسهم فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٨ الى ٢٤٩]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)
التابوت: بوزن فعلوت- من التوب وهو الرجوع، وتاؤه مزيدة لغير التأنيث كجبروت، والمراد به صندوق التوراة وكانوا إذا حاربوا حمله جماعة منهم ويتقدمون به أمام الجيش فيكون
والسكينة: من السكون وهو ثبوت الشيء بعد التحرك: أو من السكن- بالتحريك- وهو كل شيء سكنت إليه النفس وهدأت.
والمعنى: وقال لهم نبيهم ليقنعهم بأن طالوت جدير بالملك إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أى علامة ملكه وأنه من الله- تعالى- أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ أى أن يرد عليكم التابوت الذي سلب منكم فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أى في إتيانه سكون لنفوسكم وطمأنينة لها أو مودع فيه ما تسكنون إليه وهو التوراة (وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون) من آثار تعتزون بها، وترون فيها صلة بين ماضيكم وحاضركم وقوله تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ حال من التابوت.
قال صاحب الكشاف: قوله: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة. وكان رفعه الله- تعالى- بعد موسى- عليه السلام- فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه، فكان ذلك آية لاصطفائه لطالوت. فإن قلت: من هم (آل موسى وآل هارون). قلت: الأنبياء من بنى يعقوب بعدهما، ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما «٢».
وقال ابن كثير: قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون «٣».
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى: إن في ذلك الذي أتاكم به طالوت لآية عظيمة وعلامة ظاهرة لكم تدل على أحقية طالوت بالملك والقيادة إن كنتم مؤمنين بآيات الله وبالحق الذي جاء به أنبياؤه.
وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد حكى لنا أن هؤلاء القوم من بنى إسرائيل قد جاءهم نبيهم بأنصع الحجج، وأوضح الأدلة، وأثبت البراهين التي تؤيده فيما يدعوهم إليه.
ثم بين- سبحانه- ما دار بين طالوت وجنوده فقال: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ.
فَصَلَ بمعنى الفصل. قال الزمخشري: فصل عن موضع كذا: إذا انفصل عنه وجاوزه.
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٢٩٣ [.....]
(٣) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٣٠١
فصل عن البلد فصولا. ويجوز أن يكون فصله فصلا، وفصل فصولا كوقف وصد ونحوهما.
والمعنى انفصل عن بلده» «١».
و (النهر) بالفتح والسكون-: المجرى الواسع الذي يجرى فيه الماء مأخوذ من نهر الأرض بمعنى شقها.
أى: فلما انفصل بهم عن المكان الذي كانوا يقيمون فيه، وتوجهوا معه لقتال جالوت وجنوده، قال لهم إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ أى مختبركم وممتحنكم بنهر، وكان طالوت قد سار بهم في أرض قفرة فأصابهم عطش شديد. وفي هذا الابتلاء اختبار لعزيمتهم، وامتحان لصبرهم على المتاعب حتى يتميز من يصبر على الحرب ممن لا يصبر، ومن شأن القواد الأقوياء العقلاء أنهم يختبرون جنودهم قبل اقتحام المعارك حتى يكونوا على بينة من أمرهم. ثم بين لهم موضع الاختبار فقال: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ.
يَطْعَمْهُ أى يذقه من طعم الشيء يطعمه إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا.
الْغُرْفَةَ- بالضم- اسم للشيء المغترف وجمعه غراف. وأما الغرفة- بالفتح- فهي اسم للمرة الواحدة من الغرف وقيل: هما لغتان بمعنى واحد.
أى قال لهم طالوت: من شرب من هذا النهر فليس من شيعتي، فعليه أن يتركني ولا يصاحبنى في خوض هذه المعركة لأنه ثبت ضعفه وخوره، ومن لم يذقه أصلا فإنه من شيعتي وحزبى الذي سيكون معى في هذه المعركة الخطيرة. ثم أباح لهم أن يغترفوا من النهر غرفة يخففون بها من عطشهم فقال: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فإنه لا يخرج بذلك عن كونه منى.
وفي هذه الجملة الكريمة قدم- سبحانه- جواب الشرط على الاستثناء من الشرط فقد قال وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ والتأليف المعهود للناس أن يقال: (ومن لم يطعمه إلا من اغترف بيده فإنه منى) ولكن الآية الكريمة جاءت بتقديم الجواب على الاستثناء لحكمة بليغة، وهي المسارعة إلى بيان الحكم، وإثبات أن أساس الصلة التي تربطهم بنبيهم أن يمتثلوا أمره وألا يشربوا من النهر، ثم رخص لهم بعد ذلك في الاغتراف باليد غرفة واحدة.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى فقال: فإن قلت: مم استثنى قوله إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ؟ قلت: من قوله: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي والجملة الثانية في حكم المتأخرة إلا
ثم ختم- سبحانه- ما كان من بنى إسرائيل نتيجة لهذا الامتحان فقال: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
أى: فشربوا من النهر حتى امتلأت بطونهم مخالفين بذلك أمر قائدهم في وقت تعظم فيه المخالفة لأنه وقت إقدام على الحرب، إلا عددا قليلا منهم فإنهم لم يشربوا إلا كما رخص لهم قائدهم. وعلى هذا التفسير- الذي قال به جمهور المفسرين- يكون جميع الذين مع طالوت قد شربوا من النهر إلا أن كثيرا منهم قد شربوا حتى امتلأت بطونهم مخالفين أمر قائدهم، وقلة منهم شربت غرفة واحدة وهي التي رخص لهم قائدهم في شربها.
وبعض المفسرين يقسم اتباع طالوت ثلاثة أقسام:
قسم شرب كثيرا مخالفا أمر طالوت.
وقسم شرب غرفة واحدة بيده كما رخص له قائده.
وقسم لم يشرب أصلا لا قليلا ولا كثيرا مؤثرا العزيمة على الرخصة وهذا القسم هو الذي اعتمد عليه طالوت اعتمادا كبيرا في تناوله لأعدائه.
وممن ذكر هذا التقسيم من المفسرين الإمام القرطبي فقد قال: «قال ابن عباس: شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم «٢»، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا، وأخذ بعضهم الغرفة، فأما من شرب فلم يرو بل برح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة» «٣».
ثم بين- سبحانه- ما كان من أتباع طالوت بعد اجتيازهم للنهر معه فقال: فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ.
أى: فلما جاوز طالوت ومن معه النهر وتخطوه، وشاهدوا كثرة جند جالوت، قال بعض الذين مع طالوت لبعض بقلق ووجل: لا قدرة لنا اليوم على محاربة أعدائنا ومقاومتهم فهم أكثر منا عددا، وأوفر عددا.
والضمير هُوَ في قوله: هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مؤكد للضمير المستكن في جاوز.
والقائلون، هذا القول هم بعض المؤمنين الذين عبروا معه النهر، ولم يقولوا ذلك هروبا أو
(٢) الهيم: الإبل التي يصيبها داء فلا تروى من الماء واحدها أهيم والأنثى هيماء.
(٣) تفسير القرطبي ج ٣ صفحة ٢٥٤.
أى: قال الذين يتيقنون أنهم ملاقو الله يوم القيامة فيحاسبهم على أعمالهم. قالوا مشجعين لإخوانهم الذين تهيبوا قتال أعدائهم: كم من جماعة قليلة بإيمانها وصبرها تغلبت بإذن الله وتيسيره على جماعة كثيرة بسبب كفرها وجبنها وتفككها، والله- تعالى- بعونه وتأييده مع الصابرين.
وعلى هذا التفسير يكون المراد بلقاء الله الحشر إليه بعد الموت، ومجازاة الناس على ما قدموا من عمل، ويكون المراد بالظن اليقين لأن كل مؤمن متيقن بأن البعث حق.
ويجوز أن يكون المراد بلقاء الله قربهم من رضاه يوم القيامة، وإثابتهم على جهادهم بالجنة، وعليه يكون الظن على معناه الحقيقي وهو الاعتقاد الراجح، لأن خواتيم الحياة لا يعلمها كيف تكون سوى علام الغيوب.
وكَمْ في قولهم كَمْ مِنْ فِئَةٍ خبرية للتكثير، وفي هذا التعبير الذي حكاه القرآن عنهم دليل على قوة إيمانهم وصفاء نفوسهم وثقتهم في نصر الله ثقة لا تحد، لأنهم أتوا بصيغة التكثير حتى لكأنما أن القاعدة العامة هي انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة الكافرة.
وفي تعليقهم النصر على إذن الله للإشعار بأنهم لم يعتمدوا على قوتهم وثباتهم وشجاعتهم فحسب وإنما جعلوا اعتمادهم الأكبر على تأييد الله لهم. وهذا شأن العقلاء يبذلون أقصى جهدهم في بلوغ غايتهم مستعينين على ذلك بتأييد الله وتوفيقه.
ورحم الله الإمام القرطبي الذي عاصر دولة الإسلام في الأندلس وهي تسير في طريق الضعف والتدهور فقد قال في ختام تفسيره لهذه الآية: قلت: هكذا يجب علينا أن نفعل؟
لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة، منعت من ذلك حتى انكسر العدد الكبير منا أمام اليسير من العدو وكما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا! وفي البخاري: وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم. وفي البخاري- أيضا- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم» فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل، والاعتماد ضعيف، والتقوى زائلة!! قال- تعالى-: اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ وقال:
وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا وقال: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وقال: وَلَيَنْصُرَنَّ
وقال: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا» «١».
ثم حكى القرآن بعد ذلك ما قاله المؤمنون الصادقون عند ما برزوا للقاء أعدائهم فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٥٠ الى ٢٥٢]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)
وقوله: بَرَزُوا أى صاروا إلى براز الأرض وهو ما انكشف منها بحيث يصير كل فريق من المتقاتلين يرى صاحبه، ومنه سميت المبارزة في الحرب لظهور كل قرن إلى قرنه. أى: وحين برز طالوت ومن معه لقتال جالوت وجنوده، وأصبح الفريقان في مكان متسع من الأرض بحيث يرى كل فريق خصمه اتجه المؤمنون إلى الله- تعالى- بالدعاء قائلين بإخلاص وخشوع:
رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أى: أفض علينا صبرا يعمنا، ويملأ قلوبنا ثقة بنصرك، ويحبس نفوسنا على طاعتك.
قال الإمام الرازي ما ملخصه، الإفراغ: الصب. يقال أفرغت الإناء إذا صببت ما فيه.
وقولهم هذا يدل على المبالغة في طلب الصبر من وجهين:
والثاني: أن إفراغ الإناء هو إخلاؤه وذلك يكون بصب كل ما فيه، فمعنى أفرغ علينا صبرا، أى أصبب علينا أتم صب وأبلغه- حتى تتحقق فينا صفة الصبر كأحسن ما يكون التحقق» «١».
أما الدعوة الثانية فقد قالوا فيها- كما حكى القرآن عنهم- وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أى هب لنا من كمال القوة والرسوخ عند القتال ما يجعلنا نثبت أمام أعدائنا، ونتمكن من رقابهم دون أن يتمكنوا منا. فهذا الدعاء كناية عن أن يمنحهم- سبحانه- الثبات عند الزحف، وعدم الفرار عند القتال.
وفي قوله: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا تعبير بالجزء عن الكل، لأن الأقدام هي التي يكون بها الفرار، فتثبيتها إبعاد عن الفرار، ومتى حصل الثبات كان النصر متوقعا، والصبر متحققا.
ثم ختموا دعاءهم بأن قالوا: وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أى اجعل الغلبة لنا عليهم، لأننا مؤمنون بأنك المعبود المستحق للعبادة وهم يكفرون بذلك.
والمتأمل في هذه الدعوات الثلاث يراها قد جمعت أسمى ألوان الأدب وحسن الترتيب، فهم قد صدروا دعاءهم بالتوسل بوصف الربوبية فقالوا رَبَّنا أى يا خالقنا ويا منشئنا ويا مربينا ويا مميتنا، وفي ذلك إشعار أنهم يلجئون إلى من بيده وحده النفع والضر، والنصر والهزيمة. ثم افتتحوا دعاءهم بطلب الصبر عند المخاوف لأنه هو عدة القتال الأولى، وركنه الأعلى، إذ به يكون ضبط النفس فلا تفزع، وبه يسكن القلب فلا يجزع. ثم التمسوا منه- سبحانه- أن يثبت أقدامهم عند اللقاء لأن هذا الثبات هو مظهر الصبر، ووسيلة النصر، وعنوان القوة.
ثم ختموا دعاءهم بما هو ثمرة ونتيجة للصبر والثبات وهو النصر على الأعداء.
فماذا كانت نتيجة هذا الدعاء الخاشع الخالص؟ كانت نتيجته النصر المؤزر الذي حكاه القرآن في قوله: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ.
وأصل الهزم في اللغة الكسر. ومنه سقاء منهزم أى انثنى بعضه على بعض مع الجفاف. ويقال للسحاب هزيم، لأنه يتشقق بالمطر. والفاء هنا فصيحة أو سببية أى أنهم بسبب دعائهم المخلص، وإيمانهم القوى، واستجابتهم لما أمرهم الله به، استطاعوا أن يكسروا أعداءهم
ثم قال- تعالى-: وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ أى: وقتل داود بن إيشا- وكان في جيش طالوت- جالوت الذي كان يقود جيش الكفر، وبقتله مزق أتباعه شر ممزق، ورزق الله طالوت ومن معه النصر والغلبة.
ثم بين- سبحانه- ما منحه لداود من نعم فقال: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ والحكمة المراد بها هنا النبوة، ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله في بنى إسرائيل، وورثه فيهما ابنه سليمان- عليه السلام-.
أى: وأعطى الله- تعالى- عبده داود ملك بنى إسرائيل وأعطاه النبوة التي هي أشرف من الملك زيادة في ترقيته في درجات الشرف والكمال، وعلمه- سبحانه- مما يشاء من فنون العلم، ومن أمور الدين والدنيا كمعرفته لغة الطيور، وكلام الدواب، وصناعة آلات الحرب وغير ذلك من ألوان العلوم المختلفة التي لا تحدها إلا مشيئة الله وإرادته.
وفي قوله- تعالى-: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ بعد الإخبار بأنه- سبحانه- آتى داود الحكمة، إشعار بأن الإنسان لا يستغنى عن التعلم سواء أكان نبيا أم لم يكن، لأن داود- عليه السلام- مع حصوله على النبوة لم يستغن عن تعليم الله إياه، وقد أمر الله- تعالى- نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يلتمس المزيد من العلم فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر فضله على عباده فقال: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ.
أى: ولولا أن الله- تعالى- يدفع أهل الباطل بأهل الحق، لفسدت الأرض، وعمها الخراب لأن أهل الفساد إذا تركوا من غير أن يقاوموا استطارت شرورهم، وتغلبوا على أهل الصلاح والاستقامة، وتعطلت مصالح الناس، وانتشر الفساد في الأرض.
فلولا في الجملة الكريمة حرف امتناع لوجود. أى: امتنع فساد الأرض لأجل وجود دفع الناس بعضهم ببعض.
فالجملة الكريمة تأمر الأخيار في كل زمان ومكان أن يقفوا في وجوه الأشرار، وأن يقاوموهم بكل وسيلة من شأنها أن تحول بينهم وبين الفساد والطغيان.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ.
أى: ولكن الله- تعالى- صاحب فضل عظيم، وإنعام كبير على الناس أجمعين، لأنه وضع
ثم ختم- سبحانه- قصة هؤلاء القوم من بنى إسرائيل بقوله: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
أى: تلك الآيات التي حدثناك فيها عن قصة أولئك القوم وما جرى لهم هي آيات الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، نتلوها عليك يا محمد عن طريق جبريل الأمين تلاوة ملتبسة بالحق الثابت الذي لا يحوم حوله الباطل، وإنك يا محمد لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الذين أرسلهم الله- تعالى- بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
فالإشارة في قوله تِلْكَ آياتُ اللَّهِ إلى الآيات المتلوة من قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى آخر القصة. وقيل إليها وإلى القصة التي قبلها وهي قصة القوم الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ.
وكانت الإشارة للبعيد، لما في ذلك من معنى الاستقصاء للآيات، ولعلو شأنها، وكمال معانيها، والوفاء في مقاصدها.
وأضيفت الآيات إلى الله لأنها جزء من هذا القرآن الذي أنزله- سبحانه- على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم ليكون هداية للناس، وليحملهم على تدبرها والاعتبار بها لأنها من عند الله الذي شرع لهم ما يسعدهم.
وجعل- سبحانه- تلاوة جبريل للقرآن تلاوة له فقال: نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ للإشعار بشرف جبريل، وأنه ما خرج في تلاوته عما أمره الله به، فهو رسوله الأمين إلى رسله المكرمين.
وجملة نَتْلُوها عَلَيْكَ في محل نصب حال من الآيات والعامل فيها معنى الإشارة.
وقوله: بِالْحَقِّ في موضع نصب حال من مفعول نتلوها أى ملتبسة باليقين الذي لا يرتاب فيه عاقل. أو من فاعله أى: نتلوها عليك ملتبسين بالحق والصواب.
وأكد- سبحانه- قوله وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ بحرف «إن» وباللام في «لمن» وبالجملة الاسمية، للرد على من شكك في صدق رسالته صلّى الله عليه وسلّم ولتسليته عما يقوله الجاحدون في شأنه.
وبعد: فهذه قصة الملأ من بنى إسرائيل من بعد موسى، وإن فيها لعبرا متعددة، وعظات متنوعة لقوم يعقلون. من العبر التي تؤخذ منها:
١- أن الشعور بالظلم والهوان، والابتلاء بالمحن والهزائم، والوقوع تحت أيدى المعتدى،
قالُوا: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا.
٢- أن الناس في كل زمان ومكان، يلجئون- خصوصا عند ما تنزل بهم الشدائد إلى من يتوسمون فيهم الخير والصلاح، لكي يرشدوهم إلى ما يأخذ بيدهم إلى طريق السعادة، ولكي يهدوهم إلى أفضل السبل التي تنقذهم مما هم فيه من بلاء، ولكي يختاروا لهم من يقودهم إلى النصر والفلاح. ألا ترى إلى الملأ من بنى إسرائيل كيف لجئوا إلى نبي لهم ليقولوا له بعد أن أصابهم من الذل ما أصابهم: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ إنهم لم يلجئوا إلى زعيم من زعمائهم، أو إلى أمير من امرائهم، وإنما لجئوا إلى نبيهم يبثون إليه شكواهم، ويطلبون منه أن يختار لهم من يقودهم للقتال في سبيل الله، لأنهم يرون فيه الأمل المرتجى، والعقل السليم، والخلق القويم، والأسوة الحسنة.
٣- أن القائد يجب أن تتوفر فيه صفتان: قوة العقل، وقوة الجسم لأنه متى توفرت فيه هاتان الصفتان استطاع أن يقود أتباعه بنجاح، وأنه قبل أن يلتقى بأعدائه يجب عليه أن يختبر جنده ليعرف مبلغ إيمانهم وقوتهم وطاعتهم وثباتهم وألا يكلفهم بما لا يستطيعونه حتى يحارب أعداءه وهو على بينة من أمره. انظر إلى طالوت كيف اختبر جنده قبل أن يخوض المعركة بأن قال لهم: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ وهكذا القواد العقلاء يقدمون على حرب أعدائهم وهم على بصيرة من أمرهم.
٤- أن الفئة القليلة المؤمنة كثيرا ما تنتصر على الفئة الكثيرة الكافرة لأن المؤمنين الصادقين يحملهم إيمانهم على اليقين بلقاء الله، وعلى التضحية من أجل إعلاء كلمته، وعلى الإقدام الذي يرعب الكافرين، ويخيف الفاسقين، وصدق الله إذ يقول كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
٥- أن هزائم الأمم يمكن إزالتها متى توفر لتلك الأمم القادة العقلاء الأقوياء، والجند الأشداء على أعدائهم، الرحماء فيما بينهم، وأن من شأن المؤمنين حقا أنهم مع مباشرتهم للأسباب، وإحكامهم لكل ما يحتاج إليه القتال، وإحسانهم لكل وسيلة تعينهم على النصر، مع كل ذلك لا يغترون ولا يتطاولون بل يعتمدون على الله- تعالى- اعتمادا تاما، ويتجهون إليه بالضراعة والدعاء ويلتمسون منه النصر على أعدائه وأعدائهم انظر إلى الصفوة المؤمنة من جند
٦- أن من سنن الله في خلقه أنه- سبحانه- جعل الحياة صراعا دائما بين الحق والباطل، ونزاعا موصولا بين الأخيار والأشرار، ولولا أن الله- تعالى- يدفع بعض الناس الفاسقين ببعض الناس الصالحين لفسدت الأرض، لأن الفاسقين لو تركوا من غير أن يدافعوا ويقاوموا لنشروا فسوقهم وفجورهم وطغيانهم في الأرض، ولكنه- سبحانه- أعطى لعباده الصالحين من القوة والثبات ما جعلهم يقاومون الظالمين ويعملون على نشر الخير والصلاح بين الناس.
٧- أن القصة الكريمة تصور لنا ما جبل عليه بنو إسرائيل من نقض للعهد وكذب في القول فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ومن تطاول على أنبيائهم، وعصيان لأوامرهم، واعتراض على توجيهاتهم، وتفضيل للجاه والمال على العقل والعلم قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ ومن خور عند الابتلاء والاختبار، وحماس في ساعة السلّم ونكوص في ساعة الجد، تأمل قوله- تعالى- فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ. فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا: لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ.
وبعد هذا الحديث الحكيم عن الملإ من بنى إسرائيل من بعد موسى. وبعد أن شهد الله- تعالى- لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم بأنه من المرسلين الذين أرسلوا لينصروا الحق، وليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، بعد كل ذلك بين الله- تعالى أن الرسل وإن كانوا قد بعثوا جميعا لهداية البشر إلا أنهم يتفاضلون فيما بينهم فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٣]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣)
أى أولئك الرسل الذين أرسلناهم لهداية الناس فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أى جعلنا لبعضهم مناقب وخصائص ومزايا لم تتوافر للبعض الآخر.
وتِلْكَ مبتدأ والرُّسُلُ عطف بيان لتلك. وجملة فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ هي الخبر. وكانت الإشارة باللفظ الدال على البعيد، لبيان سمو مكانة الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وأنهم هم المصطفون الأخيار.
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر التفضيل فقال: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ أى منهم من فضله الله بتكليمه إياه كموسى- عليه السلام- فقد وردت آيات صريحه في ذلك، منها قوله- تعالى-: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً وقوله- تعالى-: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي وقوله- تعالى- وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ.
ثم قال- سبحانه-: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أى: ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل مراتب سامية ومنازل عالية.
قيل كإبراهيم الذي اتخذه الله خليلا، وإدريس الذي رفعه الله مكانا عليا، وداود الذي آتاه الله النبوة والملك.
والذي عليه المحققون من العلماء والمفسرين أن المقصود بقوله- تعالى- وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ هو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه هو صاحب الدرجات الرفيعة والمعجزة الخالدة الباقية إلى يوم القيامة والرسالة العامة الناسخة لكل الرسالات قبلها.
وقد صرح صاحب الكشاف بذلك فقال: قوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أى ومنهم من رفعه الله على سائر الأنبياء، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم درجات كثيرة. الظاهر أنه أراد محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتى ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر. لو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما أوتى الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات. وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس. ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال فيكون أفخم من التصريح، وسئل الخطيئة عن أشعر الناس، فذكر زهيرا والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت
ثم قال- تعالى-: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ.
الْبَيِّناتِ: هي المعجزات الظاهرة البينة. وروح القدس: هو جبريل- عليه السلام- والروح هنا بمعنى الملك الخاص. القدس أصل معناه الطهارة، وهو يطلق على الطهارة المعنوية وعلى الخلوص والنزاهة. فإضافة روح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة. قيل القدس اسم الله كالقدوس فإضافة روح إضافة للتشريف أى روح من ملائكة الله.
والمعنى: وأعطينا عيسى بن مريم الآيات الباهرات، والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وإخبار قومه بما يأكلونه ويدخرونه في بيتهم، وفضلا عن هذا فقد قويناه بجبريل- عليه السلام- لأن عيسى- عليه السلام- قد عاش حياته محاربا من أعدائه الرومان ومن قومه الذين أرسل إليهم وهم بنو إسرائيل ولم يؤذن له بالقتال ليدافع عن نفسه بل تولى الله- تعالى- الدفاع عنه بجنده الذين من بينهم جبريل- عليه السلام-.
قال الزمخشري: فإن قلت لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ قلت: لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ولقد بين الله وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات. لما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خصا بالذكر في باب التفضيل. هذا دليل بين على أن من زيد تفضيلا بالآيات منهم فقد فضل على غيره. ولما كان نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم هو الذي أوتى منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع».
وقال الإمام القرطبي ما ملخصه: هذه الآية نثبت التفاضل بين الأنبياء وهناك أحاديث تقول: «لا تخيرونى على موسى» و «لا تخيروا بين الأنبياء» و «لا تفضلوا بين الأنبياء» أى لا تقولوا فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان فكيف الجمع؟ فالجواب أن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل وقبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل أو أن قوله هذا من باب الهضم والتواضع. أو المراد النهى عن الخوض في ذلك لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال والجدال قد يؤدى إلى أن يذكر بعضهم بما لا ينبغي أن يذكر به، وقد يؤدى إلى قلة احترامهم. ثم قال. وأحسن من هذا القول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة.
الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما
فالقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل، وأعطى من الوسائل. وبذلك نكون قد جمعنا بين الآية والأحاديث من غير النسخ.
ثم قال- تعالى-: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ.
أى: ولو شاء الله- تعالى- ألا يقتتل الذين جاءوا بعد كل رسول من الرسول وبعد أن جاءهم الرسل بالبينات الدالة على الحق، لو شاء الله ذلك لفعل، ولكن الله- تعالى- لم يشأ ذلك، لأنه خلق الناس مختلفين في تقبلهم للحق، فترتب على هذا الاختلاف أن آمن بالحق الذي جاءت به الرسل من فتح له قلبه، واتجه إليه اختياره، وأن كفر به من آثر الضلالة على الهداية واستحب العمى على الهدى، وترتب عليه- أيضا أن تقاتل الناس وتحاربوا.
ومفعول المشيئة محذوف دل عليه جواب الشرط أى لو شاء الله ألا يقتتل الذين جاءوا من بعد الرسل ما اقتتلوا.
وقدم- سبحانه- المسبب وهو الاقتتال على السبب وهو الاختلاف كما يشهد له قوله:
وَلكِنِ اخْتَلَفُوا.. للتنبيه على سوء مغبة الاختلاف، وللتحذير من الوقوع فيه، لأن وقوعهم فيه سيؤدي إلى أن يقتل بعضهم بعضا، وللإشارة إلى أنه- سبحانه- قادر على إزالة الاقتتال في ذاته حتى مع وجود أسبابه، لأنه- تعالى- هو الخالق للأسباب والمسببات.
وفي قوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ إشارة إلى ما جبلت عليه بعض النفوس من العناد الذي يؤدى إلى التنازع والاختلاف والتقاتل حتى بعد ظهور الحق، وانكشاف وجه الصواب، لأن هذه النفوس قد آثرت الهوى على الرشاد، واتخذت طريق الغي طريقا لها.
وفي قوله: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا إشارة إلى أنه- سبحانه- لم يشأ أن يزبل القتال الذي حدث بين المقاتلين، لأن هذا القتال قد نشأ بينهم بسبب اختلافهم، وسوء اختيارهم، وعدم استجابتهم للهدايات والتوجيهات والبينات التي جاءتهم بها الرسل- عليهم السلام-.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ أى:
لو شاء الله عدم اقتتالهم لأى سبب من الأسباب لما اقتتلوا، ولكنه- سبحانه- يفعل ما يريد حسب ما تقتضيه حكمته، وترتضيه مشيئته، فهو الكبير المتعال الذي كل شيء عنده بمقدار فالآية الكريمة تبين أن الرسل- عليهم السلام- يتفاضلون فيما بينهم، وتنهى الناس في كل زمان ومكان عن الاختلاف والتنازع لأنهما يؤديان إلى أوخم العواقب، وأسوأ النتائج.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)
الخلة: الصداقة والمودة مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين، وسميت بذلك لأنها تتخلل النفس أى تتوسطها، أو لشدة الحاجة إليها. ومنه سمى الخليل خليلا لاحتياج الإنسان إليه.
والشفاعة مأخوذة من الشفع بمعنى الضم، وتطلق على انضمام شخص إلى آخر لنفعه أو نصرته، وأكثر ما تستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى ما هو دونه.
والمعنى: عليكم أيها المؤمنون أن تنفقوا في وجوه الخير كإعانة المجاهدين ومساعدة الفقراء والبائسين من أموالكم التي رزقكم الله إياها بفضله وكرمه، ومن قبل أن يأتى يوم القيامة الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى تقدموا عن طريقها ما تفتدون به أنفسكم، ولا يكون فيه صديق يدفع عنكم، ولا شفيع يشفع لكم فيحط من سيئاتكم إلا أن يأذن رب العالمين بالشفاعة تفضلا منه وكرما.
فالآية الكريمة تحض المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله، لأنه أهم عناصر القوة في الأمة، وأفضل وسيلة لإقامة المجتمع الصالح المتكافل.
والمراد بالإنفاق هنا ما يشمل الفرض والنفل، والأمر لمطلق الطلب، إلا أن هذا الطلب قد يصل إلى درجة الوجوب إذا نزلت بالأمة شدة لم تكف الزكاة عن دفعها.
وقوله: مِمَّا رَزَقْناكُمْ إشعار بأن هذا المال الذي بين أيدى الأغنياء ما هو إلا رزق رزقهم الله إياه، ونعمة أنعم بها عليهم، فمن الواجب عليهم شكرها بألا يبخلوا بجزء منه على الإنفاق في وجوه الخير، لأن هذا البخل سيعود عليهم بما يضرهم.
وفي قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ.. إلخ حث آخر على التعجيل بالإنفاق، لأنه تذكير للناس بهذا الوقت الذي تنتهي فيه الأعمال، ولا يمكن فيه استدراك ما فاتهم، ولا تعويض
ومن في قوله مِمَّا رَزَقْناكُمْ للتبعيض. وفي قوله مِنْ قَبْلِ لابتداء الغاية: ومفعول أنفقوا محذوف والتقدير أنفقوا شيئا مما رزقناكم.
والشفاعة المنفية هنا هي التي لا يقبلها الله- تعالى- وهي التي لا يأذن بها، أما شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد أذن الله له بها وقبلها منه، وقد وردت أحاديث صحيحة بلغت مبلغ التواتر المعنوي في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ستكون له شفاعة في دفع العذاب عن أقوام من المؤمنين وتخفيفه عن أهل الكبائر من المسلمين، ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله. أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أى والكافرون الجاحدون لنعمه هم الظالمون لأنفسهم، لأنهم حالوا بينها وبين الهداية بإيثارهم العاجلة على الآجلة، والغي على الرشد، والشر على الخير، والبخل على السخاء.
أما المؤمنون فليسوا كذلك لأنهم سلكوا الطريق المستقيم، وبذلوا الكثير من أموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله، وفي إعانة المحتاجين.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد حضت المؤمنين على المسارعة في إنفاق أموالهم في وجوه الخير من قبل أن يأتى يوم لا ينفع فيه ما كان نافعا في الدنيا من أقوال وأعمال وأنها قد توعدت من يبخل عن الإنفاق في سبيل الله بسوء العاقبة، لأنه تشبه بالكافرين في بخلهم وإمساكهم عن بذل أموالهم في وجوه الخير.
وبعد أن أمر الله المؤمنين بالإنفاق في وجوه الخير، وذكرهم بأهوال يوم القيامة، أتبع ذلك بآية كريمة اشتملت على تمجيده- سبحانه- فبينت كمال سلطانه، وشمول علمه. وسابغ نعمه على خلقه. استمع إلى القرآن الكريم وهو يصف لك الخالق- عز وجل- بأكمل الصفات وأعظمها فيقول:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٥]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)قال بعضهم: هذه آية الكرسي أفضل آية في القرآن. ومعنى الفضل أن الثواب على قراءتها أكثر منه على غيرها من الآيات. هذا هو التحقيق في تفضيل بعض آيات القرآن على بعض.
وإنما كانت أفضل لأنها جمعت من أحكام الألوهية وصفات الإله الثبوتية والسلبية ما لم تجمعه آية أخرى. جاء في الحديث الشريف عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة، وفيها آية هي سيدة القرآن- أى أفضله- وهي آية الكرسي» «١».
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر جمل فيها ما فيها من صفات الله الجليلة- ونعوته السامية. أما الجملة الأولى والثانية فتتمثل في قوله- تعالى-: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
ولفظ الجلالة اللَّهُ يقول العلماء: إن أصله إله دخلت عليه أداة التعريف «أل» وحذفت الهمزة فصارت الكلمة الله.
قال القرطبي: قوله: اللَّهُ هذا الاسم أكبر أسمائه- تعالى- وأجمعها، حتى قال بعضهم إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره، ولذلك لم يثن ولم يجمع، فالله اسم الموجود الحق الجامع لصفات الألوهية، المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو- سبحانه-» «٢».
(٢) تفسير القرطبي ج ١ صفحة ١٠٢.
«تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله» «١».
والْحَيُّ أى الباقي الذي له الحياة الدائمة التي لا فناء لها. لم تحدث له الحياة بعد موت، ولا يعتريه الموت بعد الحياة، وسائر الأحياء سواه يعتريهم الموت والفناء.
والْقَيُّومُ أى: الدائم القيام بتدبير أمر الخلق وحفظهم، والمعطى لهم ما به قوامهم. وهو مبالغة في القيام. وأصله قيووم- بوزن فيعول- من قام بالأمر إذا حفظه ودبره.
والمعنى: الله- عز وجل- هو الإله الحق المتفرد بالألوهية التي لا يشاركه فيها سواه، وهو المعبود بحق وكل معبود سواه فهو باطل، وهو ذو الحياة الكاملة، وهو الدائم القيام بتدبير شئون الخلق وحياتهم ورعايتهم وإحيائهم وإماتتهم.
والجملة الثالثة قوله- تعالى-: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ وهي جملة سلبية مؤكدة للوصف الإيجابى السابق، فإن قيامه على كل نفس بما كسبت، وعلى تدبير شئون خلقه يقتضى ألا تعرض له غفلة، ولأن السنة والنوم من صفات الحوادث وهو- سبحانه- مخالف لها.
والسنة: الفتور الذي يكون في أول النوم مع بقاء الشعور والإدراك. ويقال له غفوة.
يقال: وسن الرجل يوسن وسنا وسنة فهو وسن ووسنان إذا نعس والمراد أنه- سبحانه- لا يغفل عن تدبير أمر خلقه أبدا، ولا يحجب علمه شيء حجبا قصيرا أو طويلا، ولا يدركه ما يدرك الأجسام من الفتور أو النعاس، أو النوم.
وتقديم السنة على النوم يفيد المبالغة من حيث إن نفى السنة يدل على نفى النوم بالأولى، فنفيه ثانيا صريحا يفيد المبالغة لأن عطف الخاص على العام يفيد المبالغة ولأن عطف الخاص على العام يفيد التوكيد أى لا تأخذه سنة فضلا عن أن يأخذه نوم.
وفي قوله: لا تَأْخُذُهُ دلالة على أن للنوم قوة قاهرة تأخذ الحيوان أخذا وتقهر الكثير من أجناس المخلوقات قهرا، ولكنه- سبحانه- وهو القاهر فوق عباده- منزه عن ذلك، ومبرأ من أن يعتريه ما يعترى الحوادث.
وقوله- سبحانه- في الجملة الرابعة: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تقرير لانفراده
والمراد بما فيهما ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم. فالجملة الكريمة تفيد الملكية المطلقة لرب العالمين لكل ما في هذا الوجود من شمس وقمر وحيوان ونبات وجماد وغير ذلك من المخلوقات. وصدرت الجملة بالجار والمجرور «له» لإفادة القصر أى ملك السموات والأرض له وحده ليس لأحد سواه شيء معه.
والاستفهام في قوله في الجملة الخامسة مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ للنفي والإنكار أى: لا أحد يستطيع أن يشفع عنده- سبحانه- إلا بإذنه ورضاه قال- تعالى- وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى.
والمقصود من هذه الجملة- كما يقول الآلوسى- بيان كبرياء شأنه- تعالى- وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه بحيث يستقل أن يدفع ما يريده دفعا على وجه الشفاعة والاستكانة والخضوع فضلا عن أن يستقل بدفعه عنادا أو مناصبة وعداوة. وفي ذلك تيئيس للكفار حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند الله» «١».
وقوله- سبحانه- في الجملة السادسة: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ تأكيد لكمال سلطانه في هذا الوجود، وبيان لشمول علمه على كل شيء.
والضمير في (يديهم) و (خلفهم) يعود إلى (ما) في قوله قبل ذلك لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وعبر بضمير الذكور العقلاء، تغليبا لجانبهم على جانب غير العقلاء.
والعلم بما بين أيديهم وما خلفهم كناية عن إحاطة علمه- سبحانه- بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وما يعرفونه من شئونهم الدنيوية وما لا يعرفونه.
وقوله- تعالى- في الجملة السابغة: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ معطوف على قوله يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ لأنه مكمل لمعناه. والمراد بالعلم المعلوم.
والإحاطة بالشيء معناها العلم الكامل به.
أى: لا يعلمون شيئا من معلوماته- سبحانه- إلا بالقدر الذي أراد أن يعلمهم إياه على ألسنة رسله. فهو كقوله- تعالى-: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ.
ثم قال- تعالى- في الجملة الثامنة: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
قال الراغب: الكرسي في تعارف العامة: اسم للشيء الذي يقعد عليه، وهو في الأصل منسوب إلى الكرس أى الشيء المجتمع، ومنه الكراسة لأنها تجمع العلم.. وكل مجتمع من الشيء كرس» «١».
وللعلماء اتجاهان مشهوران في تفسير معنى الكرسي في الجملة الكريمة. فالسلف يقولون: إن لله- تعالى- كرسيا علينا أن نؤمن بوجوده وإن كنا لا نعرف حقيقته، لأن ذلك ليس في مقدور البشر.
والخلف يقولون: الكرسي في الآية كناية عن عظم السلطان، ونفوذ القدرة، وسعة العلم، وكمال الإحاطة.
ولصاحب الكشاف تلخيص حسن لأقوال العلماء في ذلك، فقد قال- رحمه الله- وفي قوله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ أربعة أوجه:
أحدها: أن كرسيه لم يضق عن السماوات والأرض لبسطته وسعته وما هو إلا تصوير لعظمته ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد.
والثاني: وسع علمه، وسمى العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم.
والثالث: وسع ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك.
والرابع: ما روى أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش دونه السماوات والأرض وهو إلى العرش كأصغر شيء. وعن الحسن الكرسي هو العرش «٢».
هذا وقد روى المفسرون عن ابن عباس أنه قال «كرسيه علمه» «٣» ولعل تفسير الكرسي بالعلم كما قال حبر الأمة هو أقرب الأقوال إلى الصواب، لأنه هو المناسب لسياق الآية الكريمة.
(٢) تفسير الكشاف ج ١ صفحة ٣٠١. [.....]
(٣) تفسير القرطبي ج ٣ صفحة ٢٧٦.
يَؤُدُهُ معناه يثقله ويشق عليه. يقال آدني الأمر بمعنى أثقلنى وتحملت منه المشقة.
والْعَلِيُّ هو المتعالي عن الأشياء، والأنداد، والأمثال، والأضداد وعن أمارات النقص ودلالات الحدوث. وقيل هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة وعلو الشأن.
والمعنى: ولا يثقله ولا يتعبه حفظ السموات والأرض ورعايتهما، وهو المتعالي عن الأشباه والنظائر، والمسيطر على خلقه، العظيم في ذاته وصفاته، ففي هاتين الجملتين بيان لعظيم قدرته، وعظيم رعايته لخلقه، وتنزيهه- سبحانه- عن مشابهة الحوادث.
وبعد، فهذه آية الكرسي التي اشتملت على عشر جمل، كل جملة منها تشتمل على وصف أو أكثر من صفات الله الجليلة، ونعوته المجيدة، وألوهيته الحقه، وقدرته النافذة، وعلمه المحيط بكل شيء، قد أقامت الأدلة الساطعة على وحدانية الله- تعالى- ووجوب إفراده بالعبادة.
وقد تكلم العلماء طويلا عن تناسق جملها، وبلاغة تراكيبها ووجوه فضلها ومن ذلك قول صاحب الكشاف: «فإن قلت: لم فضلت هذه الآية على غيرها حتى ورد في فضلها ما ورد؟
قلت: لما فضلت له سورة الإخلاص من اشتمالها على توحيد الله وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ولا مذكور أعظم من رب العزة. فما كان ذكرا له كان أفضل من سائر الأذكار» «١».
ومن الأحاديث التي ساقها الإمام ابن كثير في فضلها ما جاء عن أبى بن كعب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سأله: «أى آية في كتاب الله أعظم؟ قال الله ورسوله أعلم. فرددها مرارا ثم قال: آية الكرسي. فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلّم «ليهنك العلم أبا المنذر».
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: إن أعظم آية في القرآن هي آية الكرسي».
وروى أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- خرج ذات يوم على الناس فقال: أيكم يخبرني بأعظم آية؟ فقال ابن مسعود على الخبير سقطت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: أعظم آية في القرآن اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.. الآية «٢».
وبعد أن ساق- سبحانه- في آية الكرسي الأدلة الواضحة على وحدانيته وعظمته وتنزيهه
(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٠٤ وما بعدها.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٦]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)
الإكراه معناه: حمل الغير على قول أو فعل لا يريده عن طريق التخويف أو التعذيب أو ما يشبه ذلك. والمراد بالدين دين الإسلام والألف واللام فيه للعهد.
والرشد: الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، مصدر رشد يرشد ويرشد أى اهتدى.
والمراد هنا: الحق والهدى.
والغي ضد الرشد. مصدر من غوى يغوى إذا ضل في معتقد أو رأى، ويرى بعض العلماء أن نفى الإكراه هنا خبر في معنى النهى، أى: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح في دلائله وبراهينه، فمن هداه الله له ونور بصيرته دخل فيه على بصيرة، ومن أضله وأعمى قلبه لا يفيده الإكراه على الدخول فيه.
وقال بعض العلماء إن الجملة هنا على حالها من الخبرية والمعنى: ليس في الدين- الذي هو تصديق بالقلب، وإذعان في النفس- إكراه وإجبار من الله- تعالى- لأحد، لأن مبنى هذا الدين على التمكين والاختيار، وهو مناط الثواب والعقاب، لولا ذلك لما حصل الابتلاء والاختبار، ولبطل الامتحان.
أو المعنى: كما يرى بعضهم- إن من الواجب على العاقل بعد ظهور الآيات البينات على أن الإيمان بدين الإسلام حق ورشد. وعلى أن الكفر به غي وضلال، أن يدخل عن طواعية واختيار في دين الإسلام الذي ارتضاه الله وألا يكره على ذلك بل يختاره بدون قسر أو تردد.
فالجملة الأولى وهي قوله- تعالى-: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ: تنفى الإجبار على الدخول في الدين، لأن هذا الإجبار لا فائدة من ورائه، إذ التدين إذعان قلبي، واتجاه بالنفس والجوارح إلى الله رب العالمين بإرادة حرة مختارة فإذا أكره عليه الإنسان إزداد كرها له ونفورا منه. فالإكراه والتدين نقيضان لا يجتمعان، ولا يمكن أن يكون أحدهما ثمرة للآخر.
ثم قال- تعالى-: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها.
الطاغوت: اسم لكل ما يطغى الإنسان، كالأصنام والأوثان والشيطان وكل رأس في الضلال وكل ما عبد من دون الله. وهو مأخوذ من طغا يطغى- كسعى يسعى- طغيا وطغيانا، أو من يطغو طغوا طغوانا، إذا جاوز الحد وغلا في الكفر وأسرف في المعاصي والفجور.
والعروة: في أصل معناها تطلق على ما يتعلق بالشيء من عراه أى من الجهة التي يجب تعليقه منها، وتجمع على عرى. والعروة من الدلو والكوز مقبضه، ومن الثوب مدخل زره.
والوثقى: مؤنث الأوثق، وهو الشيء المحكم الموثق. يقال وثق- بالضم- وثاقة أى: قوى وثبت فهو وثيق أى ثابت محكم.
والانفصام. الانكسار، والفصم كسر الشيء وقطعة.
والمعنى: فمن خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة غير الله، وآمن بالله- تعالى- إيمانا خالصا صادقا فقد ثبت أمره واستقام على الطريقة المثلى التي لا انقطاع لها وأمسك من الدين بأقوى سبب وأحكم رباط.
والفاء في قوله: فَمَنْ يَكْفُرْ للتفريع. والسين والتاء في استمسك للتأكيد والطلب، وقوله: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فيه- كما يقول الزمخشري- تمثيل للمعلوم بالمنظور والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنما ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده والتيقن به، وجملة «لا انفصام لها» استئناف مقرر لما قبله أو حال من «العروة» والعامل «استمسك».
ثم ختم- سبحانه الآية بقوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أى سميع للأقوال، وهمسات القلوب، وخلجات النفوس، عليم بما يسره الناس وما يعلنونه، وسيجازيهم بما يستحقون من ثواب أو عقاب.
قالت أنا عجوز كبيرة والموت إلى قريب. فقال عمر: اللهم اشهد وتلا: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ «١».
والذي تسكن إليه النفس أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، لأن التدين لا يكون مع الإكراه- كما أشرنا من قبل- ولأن الجهاد ما شرع في الإسلام لإجبار الناس على الدخول في الإسلام إذ لا إسلام مع إجبار، وإنما شرع الجهاد لدفع الظلم ورد العدوان وإعلاء كلمة الله، والرسول صلّى الله عليه وسلّم ما قاتل العرب ليكرههم على الدخول في الإسلام وإنما قاتلهم لأنهم بدءوه بالعداوة.
ولأن الروايات في سبب نزول هذه الآية تؤيد أنه لا إكراه في الدين، ومن هذه الروايات ما جاء عن ابن عباس أنه قال: نزلت في رجل من الأنجر من بنى سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلما، فقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم ألا استكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله هذه الآية «٢» وفي رواية أخرى أنه حاول إكراههما على الدخول في الإسلام فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال الأنصارى: يا رسول الله أيدخل بعضى النار وأنا أنظر إليه فنزلت الآية.
ولأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق بين الآيتين وهنا يمكن التوفيق بأن نقول:
إن الآية التي معنا تنفى إكراه الناس على اعتقاد ما لا يريدون وآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ جاءت لحض النبي صلّى الله عليه وسلّم وحض أصحابه على قتال الكفار الذين وقفوا في طريق دعوته، حتى يكفوا عن عدوانهم وتكون كلمة الله هي العليا.
ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة الكافرين فقال- تعالى-:
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ صفحة ٣١١.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٧]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)الولي: الناصر والمعين والحليف. مأخوذ من الولاية بمعنى النصرة والمعنى: الله الذي بيده ملكوت كل شيء وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أى معينهم وناصرهم ومتولى أمورهم، فهو- سبحانه- الذي يخرجهم من ظلمات الكفر، ومن ضلالات الشرك والفسوق والعصيان إلى نور الحق والهداية والتحرر من الأوهام. أما الذين كفروا فأولياؤهم ونصراؤهم الطاغوت الذي يتمثل في الشياطين والأصنام والأوهام الموروثة والكبرياء والمضلين، وهؤلاء يخرجونهم بسبب انطماس بصيرتهم وانتكاسهم في المعاصي من نور الإيمان والهداية إلى ظلمات الكفر والضلالة. أولئك الموصوفون بتلك الصفات القبيحة أصحاب النار هم فيها خالدون خلودا مؤبدا.
وأفرد- سبحانه- النور وجمع الظلمات، لأن الحق واحد أما الظلمات فقد تعددت فنونها وألوانها وأسبابها. وفي تقديم الَّذِينَ كَفَرُوا في قوله:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ إشارة إلى أنهم هم الذين ارتضوا أن يكون الطغيان مسيطرا على قلوبهم لأن كفرهم بالله- تعالى- هو الذي جعل الشيطان ينفذ إلى أقطار نفوسهم بسهولة ويسر.
وقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا مبتدأ وأَوْلِياؤُهُمُ مبتدأ ثان، والطَّاغُوتُ خبره والجملة خبر المبتدأ الأول.
ولم يقل- سبحانه- والطاغوت ولى الذين كفروا للاحتراز عن وضع اسم الطاغوت في مقابل لفظ الجلالة.
فإن قيل: وهل كان الكافرون في نور ثم أخرجوا منه؟ فالجواب أن المراد يخرجونهم من النور الفطري الذي جعل عليه الناس كافة أو من نور الحجج الواضحات التي من شأنها أن تحمل كل عاقل على الدخول في الإسلام. وقيل المراد بهؤلاء المخرجين من النور إلى الظلمات أولئك الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل بعثته ثم كفروا به بعدها والإشارة في قوله: أُولئِكَ تعود
وبذلك تكون الآية الكريمة قد ساقت أحسن البشارات للمؤمنين، وأشد العقوبات.
للكافرين الذين استحبوا العمى على الهدى.
ثم ساق القرآن بعد ذلك بعض الأمثلة للمؤمنين المهتدين وللضالين المغرورين.
فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)
حَاجَّ أى جادل وخاصم والمحاجة: المخاصمة والمغالبة بالقول يقال حاججته فحججته أى خاصمته بالقول فتغلبت عليه وتستعمل المحاجة كثيرا في المخاصمة بالباطل ومن ذلك قوله- تعالى-: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ.. وقوله- تعالى-:
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ.
والمعنى: لقد علمت أيها العاقل صفة ذلك الكافر المغرور الذي جادل إبراهيم- عليه السلام- في شأن خالقه عز وجل- ومن لم يعلم قصته فها نحن أولاء نخبره بها عن طريق هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والاستفهام للتعجب من شأن هذا الكافر وما صار إليه أمر غروره وبطره والمراد به- كما قال ابن كثير- نمرود بن كنعان بن كوس بن سام ابن نوح ملك بابل، وكان معاصرا لسيدنا إبراهيم- عليه السلام- وأطلق القرآن على ما دار بين هذا الملك المغرور وبين سيدنا إبراهيم أنها محاجة مع أنها مجادلة بالباطل من هذا الملك، أطلق ذلك من باب المماثلة اللفظية أو هي محاجة في نظره السقيم ورأيه الباطل.
وقوله: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ حكاية لما قاله إبراهيم عليه السلام لذلك الملك في مقام التدليل على وحدانية الله وأنه- سبحانه- هو المستحق للعبادة أى قال له: ربي وحده هو الذي ينشئ الحياة ويوجدها، ويميت الأرواح ويفقدها حياتها، ولا يوجد أحد سواه يستطيع أن يفعل ذلك.
وقول إبراهيم- كما حكاه القرآن-: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ مفيد للقصر عن طريق تعريف المبتدأ وهو رَبِّيَ والخبر هو الموصول وصلته.
وعبر بالمضارع في قوله: يُحْيِي وَيُمِيتُ لإفادة معنى التجدد والحدوث الذي يرى ويحس بين وقت وآخر.
أى ربي هو الذي يحيى الناس ويميتهم كما ترى ذلك مشاهدا في كثير من الأوقات، فمن الواجب عليك أن تخصه بالعبادة والخضوع وأن تقلع عما أنت فيه من كفر وطغيان وضلال.
وقوله: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ظرف لقوله: حَاجَّ أو بدل اشتمال منه، وفي هذا القول الذي حكاه القرآن عن إبراهيم- عليه السلام- أوضح حجة وأقواها على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة، لأن كل عاقل يدرك أن الحق هو الذي يملك الإحياء والإماتة ويملك بعث الناس يوم القيامة ليحاسبهم على أعمالهم وهو أمر ينكره ذلك الملك الكافر.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: والظاهر أن قول إبراهيم رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ جواب لسؤال سابق غير مذكور. وذلك لأنه من المعلوم أن الأنبياء بعثوا للدعوة إلى الله، ومتى ادعى الرسول الرسالة فإن المنكر يطالبه بإثبات أن للعالم إلها. فالظاهر هنا أن إبراهيم ادعى الرسالة فقال له نمرود: من ربك؟ فقال إبراهيم: ربي الذي يحيى ويميت، إلا أن تلك المقدمة حذفت لأن الواقعة تدل عليها، ودليل إبراهيم في غاية الصحة لأن الخلق عاجزون عن الإحياء والإماتة وقدم ذكر الحياة على الموت هنا. لأن من شأن الدليل أن يكون في غاية الوضوح والقوة، ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر، واطلاع الإنسان عليها أتم فلا جرم
ثم حكى القرآن جواب نمرود على إبراهيم فقال: قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ أى قال ذلك الطاغية: إذا كنت يا إبراهيم تدعى أن ربك وحده الذي يحيى ويميت فأنا أعارضك في ذلك لأنى أنا- أيضا أحيى وأميت وما دام الأمر كذلك فأنا مستحق للربوبية. قالوا: ويقصد بقوله هذا أنه يستطيع أن يعفو عمن حكم بقتله، ويقتل من شاء أن يقتله.
ولقد كان في استطاعة إبراهيم- عليه السلام- أن يبطل قوله، بأن يبين له بأن ما يدعيه ليس من الأحياء والإماتة المقصودين بالاحتجاج، لأن ما قصده إبراهيم هو إنشاء الحياة وإنشاء الموت، كان في استطاعة الخليل- عليه السلام- أن يفعل ذلك، ولكنه آثر ترك فتح باب الجدال والمحاورة، وأتاه بحجة هي غاية في الإفحام فقال له- كما حكى القرآن: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ.
أى قال إبراهيم لخصمه المغرور: لقد زعمت أنك تملك الإحياء والإماتة كما يملك الله- تعالى- ذلك، ومن شأن هذا الزعم أن يجعلك مشاركا لله- تعالى- في قدرته فإن كان ذلك صحيحا فأنت ترى وغيرك يرى أن الله- تعالى- يأتى بالشمس من جهة المشرق عند شروقها فأنت بها أنت من جهة المغرب في هذا الوقت فماذا كانت نتيجة هذه الحجة الدامغة التي قذفها إبراهيم- عليه السلام- في وجه خصمه؟ كانت نتيجتها- كما حكى القرآن- فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أى: غلب وقهر، وتحير وانقطع عن حجاجه، واضطرب ولم يستطع أن يتكلم، لأنه فوجئ بما لا يملك دفعه. وفَبُهِتَ فعل ماض جاء على صورة الفعل المبنى للمجهول- كزهى وزكم- والمعنى فيه على البناء للفاعل. وقوله: الَّذِي كَفَرَ هو فاعله. والبهت:
الانقطاع والحيرة، وقرئ بوزن- علم ونصر وكرم.
والفاء في قوله: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ.. إلخ فصيحة لأنها أفصحت عن جواب لشرط مقدر أى إن كنت كما تزعم أنك تحيى وتميت وأن قدرتك كقدرة الله فإن الله- تعالى- يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب.
وعبر عن هذا المبهوت بقوله: الَّذِي كَفَرَ للإشعار بأن سبب حيرته واضطرابه هو كفره وعناده.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أى لا يهديهم إلى طريق
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد حكت للناس لونا من ألوان رعاية الله لأوليائه وخذلانه لأعدائه لكي يكون في ذلك عبرة وعظة لقوم يعقلون.
ثم ساقت السورة الكريمة قصتين تدلان أبلغ دلالة على قدرة الله- تعالى- وعلى صحة البعث والنشور استمع إلى القرآن وهو يحكى هاتين القصتين بأسلوبه البليغ فيقول:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٥٩ الى ٢٦٠]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ معطوف على سابقه- وهو
والذي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ قيل هو عزيز بن شرخيا، وقيل حزقيال بن بوزى وقيل غير ذلك، والقرية قيل المراد بها بيت المقدس وكان قد خربها «بختنصر» البابلي.. والقرآن الكريم لم يهتم بتحديد الأشخاص والأماكن لأنه يقصد العبرة وبيان الحال والشأن. وجملة وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها في موضع الحال من الضمير المستتر في مَرَّ والواو رابطة بين الجملة الحالية وبين صاحبها والإتيان بها واجب لخلو الجملة من ضمير يعود على صاحبها وقيل هي حال من قرية، وسوغ إتيان الحال منها مع كونها نكرة وقوعها بعد الاستفهام المقدر وهو أرأيت ومعنى وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أن جدرانها ساقطة على سقوفها، أى أن الخراب قد عمها والدمار قد نزل بها، فأصبحت خالية من أهلها وفارغة ممن كان يعمرها وأصل الخواء الخلو. يقال خوت الدار وخربت تخوى خواء إذا سقطت وخلت.
والعروش جمع عرش وهو سقف البيت ويسمى العريش، وكل شيء يهيأ ليظل أو يكنّ فهو عريش وعرش.
وقوله- تعالى-: قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها حكاية لما قاله ذلك الذي مر على تلك القرية ورأى فيها ما رأى من مظاهر الخراب والدمار والمعنى: أو أرأيت مثل الذي مر على قرية وهي ساقطة حيطانها على سقوفها، وفارغة ممن كان يسكنها، فهاله أمرها، وراعه شأنها، وقال على سبيل التعجب كيف يحيى الله هذه القرية بعد موتها، بأن يعيد إليها العمران بعد الخراب، ويجعلها عامرة بسكانها الذين خلت منهم. فقوله: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ بمعنى كيف فتكون منصوبة على الحالية من اسم الإشارة ويجوز أن تكون أَنَّى هنا بمعنى متى أى: متى يحيى الله هذه القرية بعد موتها فتكون منصوبة على الظرفية.
وقال القرطبي: قوله: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها معناه من أى طريق وبأى سبب، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان، كما يقال الآن في المدن الخربة يبعد أن تعمر وتسكن أى: أنى تعمر هذه بعد خرابها. فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته» «٢».
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ صفحة ٢٩٩.
أى: بعد أن قال هذا الذي مر على تلك القرية الخاوية على عروشها ما قال، ألبثه الله- تعالى- في الموت مائة عام ثُمَّ بَعَثَهُ أى أحياه ببعث روحه إلى بدنه قالَ كَمْ لَبِثْتَ أى كم مدة من الزمان لبثتها على هذه الحال؟ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
وقال- سبحانه-: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ولم يقل ثم أحياه، للدلالة على أنه عاد كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية وللإشهار بسرعته وسهولة تأتيه على الباري- سبحانه-.
قال ابن كثير: كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيى بدنه فلما استقل سويا قال الله له بواسطة الملك كَمْ لَبِثْتَ؟ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر النهار فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «١».
وقوله: قالَ كَمْ لَبِثْتَ استئناف مبنى على سؤال كأنه قيل: فماذا قال له بعد بعثه؟
فقيل: قال كم لبثت ليظهر له العجز عن الإحاطة بشئون الله- تعالى- على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة.
وكم منصوبة على الظرفية ومميزها محذوف والتقدير كم يوما أو وقتا والناصب لها قوله:
لَبِثْتَ.
وفي هذه الجملة الكريمة بيان للناس بأن الموت يشبه النوم، وأن البعث يشبه اليقظة بعده وأنه لا شيء محال على الله- تعالى- فهو القائل: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ.
وفي الحديث الشريف: والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا، وإنها لجنة أبدا، أو لنار أبدا».
وقوله- تعالى-: قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ معطوف على مقدر، أى: ليس الأمر كما قلت إنك لبثت يوما أو بعض يوم بل إنك لبثت مائة عام ثم أرشده- سبحانه- إلى التأمل في أمور
قوله: لَمْ يَتَسَنَّهْ أى لم يتغير بمرور السنين الطويلة ولم تذهب طراوته فكأنه لم تمر عليه السنون ولفظ يتسنه: مشتق من السنة، والهاء فيه أصلية إذا قدر لام سنة هاء، وأصلها سنهة لتصغيرها على سنيهة وجمعها على سنهات كسجدة وسجدات، ولقولهم: سانهته إذا عاملته سنة فسنة، وتسنه عند القوم إذا أقام فيهم سنة. أو الهاء للوقف نحو كتابيه وجزمه بحذف حرف العلة إذا قدر لام سنه واوا، وأصلها سنوه لتصغيرها على سنية وجمعها على سنوات.
وقوله: نُنْشِزُها أى نرفعها. يقال: أنشز الشيء إذا رفعه من مكانه. وأصله من النشز- بفتحتين وبالسكون- وهو المكان المرتفع. وقرئ ننشرها- بضم النون والراء- أى نحييها من أنشر الله الموتى أى أحياهم. والمعنى: قال الله- تعالى- لهذا الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها إنك لم تلبث يوما أو بعض يوم في الموت كما تظن بل لبثت مائة عام فإن كنت في شك من ذلك فانظر إلى طعامك وشرابك لتشاهد أمرا آخر من دلائل قدرتنا فإن هذا الطعام والشراب كما ترى لم يتغير بمرور السنين وكر الأعوام بل بقي على حالته. وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه، وتفرقت أوصاله مما يشهد بأنه قد مرت عليه السنوات الطويلة.
وقوله: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ معطوف على محذوف متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف مقرر لمضمون ما سبق، والتقدير: فعلنا ما فعلنا لترى وتشاهد بنفسك مظاهر قدرة الله، ولنجعلك آية معجزة ودليلا على صحة البعث وقوله: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً أى انظر وتأمل في هذه العظام كيف نركب بعضها في بعض بعد أن نوجدها.
وقيل المعنى: وانظر إلى العظام أى عظام حمارك التي تفرقت وتناثرت لتشاهد كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها في جسده.
قال ابن كثير: قال السدى وغيره: تفرقت عظام حماره يمينا وشمالا حوله فنظر إليها وهي تلوح من بياضها، فبعث الله ريحا فجمعتها من كل موضع، ثم ركب كل عظم في موضعه، وذلك كله بمرأى من العزير» «١».
وجاء الضمير في قوله: لَمْ يَتَسَنَّهْ بالإفراد مع أن المتقدم طعام وشراب، لأنهما متلازمان
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أى:
فلما تبين له بالأدلة الناصعة، وبالمشاهدة الحسية قدرة الله- تعالى- على الإحياء والإماتة، وعلى البعث والنشور قال أعلم أى أستيقن وأومن وأعتقد أن الله- تعالى- على كل شيء قدير، وأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء. والفاء في قوله: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ... عاطفة على مقدر يستدعيه المقام فكأنه قيل: رفع الله العظام من أماكنها وأكساها لحما فلما تبين له ذلك، وتيقنه قال أعلم أن الله على كل شيء قدير. وفاعل تَبَيَّنَ مضمر يفسره سياق الكلام والتقدير: فلما تبين له كيفية الإحياء أو فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر إحياء الموتى قال أعلم أن الله على كل شيء قدير.
تلك هي القصة الأولى التي ساقها الله- تعالى كدليل على قدرته وعلى صحة البعث والنشور. أما القصة الثانية التي تؤكد هذا المعنى فقد حكاها القرآن في قوله: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى أى: واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن قال إبراهيم- عليه السلام- مخاطبا خالقه- سبحانه-: رب أرنى بعيني كيف تعيد الحياة إلى الموتى.
وفي قوله: (رب) تصريح بكمال أدبه مع خالقه- عز وجل- فهو قبل أن يدعوه يستعطفه ويعترف له بالربوبية الحقة، والألوهية التامة، ويلتمس منه معرفة كيفية إحياء الموتى، فهو لا يشك في قدرة الله ولا في صحة البعث- وحاشاه أن يفعل ذلك- فهو رسول من أولى العزم من الرسل، وإنما هو يريد أن ينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين، ومن مرتبة البرهان إلى مرتبة العيان، فإن العيان يغرس في القلب أسمى وأقوى ألوان المعرفة والاطمئنان.
وقد ذكر المفسرون لسؤال إبراهيم- عليه السلام- أسبابا منها: أنه لما قال للنمرود رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أحب أن يترقى بأن يرى ذلك مشاهدة. وقد أجاب الخالق- عز وجل- على طلب إبراهيم بقوله: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أى: أتقول ذلك وتطلبه ولم تؤمن بأنى قادر على الإحياء وعلى كل شيء؟
فالجملة الكريمة استئناف مبنى على السؤال، وهي معطوفة على مقدر، والاستفهام للتقرير.
وهنا يحكى القرآن جواب إبراهيم على خالقه- عز وجل- فيقول: قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. أى قال إبراهيم في الرد على سؤال ربه له أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ بلى يا رب آمنت بك وبقدرتك وبوحدانيتك إيمانا صادقا كاملا، ولكني سألت هذا السؤال ليزداد قلبي سكونا واطمئنانا وإيمانا لأن من شأن المشاهدة أن تغرس في القلب سكونا واطمئنانا أشد، وإيمانا
قال القرطبي ما ملخصه: لم يكن إبراهيم شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا جاء في الحديث (ليس الخبر كالمعاينة)، قال الأخفش: لم يرد إبراهيم رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين. وقال الحسين:
سأل ليزداد يقينا إلى يقينه.
وأما قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق بالشك منه، ونحن لا نشك فإبراهيم- عليه السلام- أحرى ألا يشك، فالحديث مبنى على نفى الشك عن إبراهيم.. وإذا تأملت سؤاله- عليه السلام- وسائر ألفاظه الآتية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول، وكيف هنا إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء والإحياء متقرر، - فسؤال إبراهيم إنما هو عن الكيفية لا عن أصل القضية..» «١».
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف قال له أَوَلَمْ تُؤْمِنْ وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا؟ قلت: ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين. وبَلى إيجاب لما بعد النفي معناه: بلى آمنت. وقوله: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أى ليزداد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة- أى علم المشاهدة- إلى علم الاستدلال الذي يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك. فإن قلت: بم تعلقت اللام في قوله: لِيَطْمَئِنَّ قلت بمحذوف تقديره: ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب» «٢».
ثم حكى القرآن بعد ذلك ما كان من جواب الخالق- عز وجل- على نبيه إبراهيم فقال:
قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً.
قوله: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ أى فاضممهن إليك- قرئ بضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء- يقال: صاره يصوره ويصيره، أى أماله وضمه إليه. ويقال- أيضا صار الشيء بمعنى قطعه وفصله والمعنى: قال الله- تعالى- لإبراهيم: إذا أردت معرفة ما سألت عنه فخذ أربعة من الطير فاضممهن إليك لتتأملهن وتعرف أشكالهن وهيئاتهن كيلا تلتبس عليك بعد الإحياء، ثم اذبحهن وجزئهن أجزاء ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً أى ثم اجعل على كل مكان
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٣٠٨.
وقوله: مِنَ الطَّيْرِ متعلق بمحذوف صفة لأربعة أى فخذ أربعة كائنة من الطير، أو متعلق بقوله فَخُذْ أى خذ من الطير. والطير اسم جمع- كركب وسفر- وقيل هو جمع طائر مثل تاجر وتجر. قالوا: وهذه الطيور الأربعة هي الطاوس والنسر والغراب والديك.
ومما قالوه في اختيار الطير لهذه الحالة: أن الطير من صفاته الطيران، وأنه لا يستأنس بالإنسان بل يطير بمجرد رؤيته، ولسهولة تأتى ما يفعل به من التجزئة والتفرقة.
وقوله: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً معطوف على محذوف دل عليه قوله:
جُزْءاً لأن تجزئتهن إنما تقع بعد الذبح والتقدير: فاذبحهن ثم اجعل.. إلخ. وقوله: ثُمَّ ادْعُهُنَّ أى قل لهن تعالين بإذن الله.
وقوله يَأْتِينَكَ جواب الأمر فهو في محل جزم، سَعْياً منصوب على المصدر النوعي، لأن السعى نوع من الإتيان فكأنه قيل: يأتينك إتيانا سريعا:
قال الفخر الرازي: أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية: قطعهن، وأن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها وخلط بعضها ببعض- وفعل كما أمره الله، ثم قال لهن تعالين بإذن الله فأقبلن مسرعات إليه بعد أن انضم كل جزء إلى أصله- ثم قال: ولكن أبا مسلّم أنكر ذلك وقال: إن إبراهيم لما طلب إحياء الميت من الله- تعالى- أراه الله مثالا قرب به الأمر عليه، والمراد بصرهن إليك: الإمالة والتمرين على الإجابة. أى: فعود الطيور الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك، فإذا صارت كذلك فاجعل على كل جبل واحدا حال حياته، ثم ادعهن يأتينك سعيا، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة..» «١».
والذي يطمئن إليه القلب هو رأى الجمهور لأن الآية مسوقة لتحقيق معجزة تجرى على يد إبراهيم وهي إحياء الموتى بالمشاهدة كما جرى إحياء الرجل الذي أماته الله مائة عام والذي جاء ذكره في الآية السابقة، ولأن ظاهر الآية صريح في أنه حصل تقطيع لأجزاء الطير ثم وضع كل جزء منها على مرتفع من الأرض، وما دام الأمر كذلك فلا يجوز حمل المعنى على غير هذا الظاهر، كما لا يجوز تحميل الألفاظ ما لا تحتمله. وما ذهب إليه أبو مسلّم هو قول بلا دليل فضلا عن مخالفته لما عليه إجماع المفسرين.
ثم حض الله- تعالى- عباده على الإنفاق في سبيله، ووعدهم على ذلك بجزيل الثواب، فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦١ الى ٢٦٢]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢)
ذكر بعض المفسرين أن هاتين الآيتين نزلنا في صدقة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما حث الناس حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك، جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم فقال: يا رسول الله كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت». وجاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال عبد الرحمن بن سمرة- راوي الحديث- فرأيته صلّى الله عليه وسلّم يدخل يده فيها ويقلبها ويقول: «ماضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان». وقال أبو سعيد الخدري: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول: «يا رب عثمان إنى رضيت عن عثمان فارض عنه».
ونزول هاتين الآيتين في شأن صدقة هذين الصحابيين الجليلين لا يمنع من شمولهما لكل من نهج نهجهما، وبذل من ماله في سبيل الله.
و «المثل»، الشبه والنظير. ثم أطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه لمورده الذي ورد فيه أولا. ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، وعلى هذا المعنى يحمل المثل في هذه الآية.
وسنبلة- بوزن فنعلة- من أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل، أى استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالإسبال. وقيل: معناه صار فيه حب مستور كما يستر الشيء بإسبال الستر عليه. والجمع سنابل «١».
والمعنى: مثل صدقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، أى: في طاعته، كمثل حبة ألقيت في أرض طيبة، أصابها الغيث، فخرجت الحبة على هيئة زرع قوى جميل فأنبتت في الوقت المناسب لإنباتها سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.
فأنت ترى أن الخالق- عز وجل- قد شبه حال الصدقة التي ببذلها المؤمن في سبيل الله فيكافئه الله- تعالى- عليها بالثواب العظيم، بحال الحبة التي تلقى في الأرض النقية فتخرج عودا مستويا قائما قد تشعب إلى سبع شعب، في كل شعبة سنبلة، وفي كل سنبلة مائة حبة. وفي هذا التشبيه ما فيه من الحض على الإنفاق في وجوه الخير، ومن الترغيب في فعل البر ولا سيما النفقة في الجهاد في سبيل الله.
قال ابن كثير: وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة. فإن هذا فيه اشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله- تعالى- لأصحابها كما ينمى الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة» «٢».
وقال- سبحانه-: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ فأسند الإنبات إلى الحبة، مع أن المنبت في الحقيقة هو الله، وذلك لأنها سبب لوجود تلك السنابل المليئة بالحبات، ولأنها هي الأصل لما تولد عنها.
ثم قال- تعالى-: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أى والله- تعالى- يضاعف الثواب والجزاء أضعافا كثيرة لمن يشاء من عباده، فيعطى بعضهم سبعمائة ضعف، ويعطى بعضهم أكثر من ذلك، لأن الصدقة يختلف ثوابها باختلاف حال المتصدق، فمتى خرجت منه بنية خالصة، وقلب سليم، ونفس صافية، ومن مال حلال، ووضعت في موضعها المناسب، متى كانت كذلك كان الجزاء عليها أوفر، والمضاعفة لها تزيد على سبعمائة ضعف. إذ عطاء الله لمن يشاء من عباده ليس له حدود، وثوابه ليس له حساب معدود.
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٣١٦.
وقوله- تعالى-: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ استئناف جيء به لبيان كيفية الإنفاق الذي يحبه الله، ويجازى عليه المنفقين بالجزاء العظيم.
وقوله: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً تحذير للمتصدق من هاتين الصفتين الذميمتين لأنهما مبطلتان لثواب الصدقة.
والمن معناه: أن يتطاول المحسن بإحسانه على من أحسن إليه، ويتفاخر عليه بسبب ما أعطاه من عطايا. كأن يقول على سبيل التفاخر والتعبير: لقد أحسنت إليك وأنقذتك من الفقر وما يشبه ذلك.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: والمن في اللغة على وجوه: فقد يأتى بمعنى الإنعام. يقال:
قد من الله على فلان. إذا أنعم عليه بنعمه. وقد يأتى بمعنى النقص من الحق والبخس له. قال- تعالى-: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أى غير مقطوع وغير ممنوع ومنه سمى الموت منونا لأنه يقطع الأعمار، ومن هذا الباب المنة المذمومة لأنها تنقص النعمة وتكدرها، والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة.
والمراد بالمن في الآية المذموم الذي هو بمعنى «إظهار الاصطناع إليهم» «١».
وقال صاحب الكشاف: المن: أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه، ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقا له، وكانوا يقولون: إذا صنعتم صنيعة فانسوها. ولبعضهم.
وإن امرؤ أسدى إلى صنيعة وذكرنيها إنه للئيم وفي نوابغ الكلم: صنوان: من منح سائله ومنّ، ومن منع نائله وضن» «٢» والمراد بالأذى في الآية: أن يقول المعطى لمن أعطاه قولا يؤذيه، أو يفعل معه فعلا يسيء به إليه، وهو أعم من المن، إذ المن نوع من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه.
وجاء العطف بثم في الجملة الكريمة، لإظهار التفاوت الشديد في الرتبة بين الإنفاق الذي يحبه الله، وبين الإنفاق الذي يصاحبه المن والأذى، وللإشعار بأن المن والأذى بغيضان عند
(٢) تفسير الكشاف ج ١ ص ٣١١.
قال الشيخ ابن المنير مبينا أن ثُمَّ هنا تفيد استمرار الفعل بجانب إفادتها للتفاوت في الرتبة: وعندي فيها- أى في ثم- وجه آخر محتمل في هذه الآية ونحوها. وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه. فهي على هذا لم تخرج عن الإشعار ببعد الزمن، ولكن معناها الأصلى تراخى زمن وقوع الفعل وحدوثه، ومعناها المستعار إليه دوام وجود الفعل وتراخى زمن بقائه. وعليه حمل قوله-: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أى: داوموا على هذه الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد.. وكذلك قوله هنا «ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى» أى يدومون على تناسى الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان والأذى.. «١».
وكرر- سبحانه- النفي في قوله: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لتأكيده وشموله لأفراد كل واحد منهما، أى يجب ألا يقع منهم أى نوع من أنواع المن ولا أى نوع من أنواع الأذى. حتى لقد قال بعض الصالحين: «لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه بنفقة تبتغى بها وجه الله، فلا تسلّم عليه».
ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان عاقبة المنفقين بلا من ولا أذى فقال: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أى: لهم جزاؤهم العظيم مكافأة لهم على أدبهم وإخلاصهم، عند مربيهم ومالك أمرهم، ولا خوف عليهم مما سيجدونه في مستقبلهم، ولا هم يحزنون على ماضيهم، وذلك لأن الله- تعالى- قد أحاطهم برعايته في دنياهم وأخراهم وعوضهم عما فارقوه خير عوض وأكرمه.
ثم كرر- سبحانه- التحذير من المن والأذى، مناديا المؤمنين بأن يجتنبوا في صدقاتهم هاتين الرذيلتين، مبينا أن الكلمة الطيبة للفقير خير من إعطائه مع إيذائه، استمع إلى القرآن الكريم وهو يسوق هذه المعاني وغيرها بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٣ الى ٢٦٤]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)
لأن الكلمة الطيبة للسائل، والستر عليه، والعفو عنه فيما صدر منه، كل ذلك يؤدى إلى رفع الدرجات عند الله، وإلى تهذيب النفوس، وتأليف القلوب وحفظ كرامة أولئك الذين مدوا أيديهم بالسؤال. أما الصدقة التي يتبعها الأذى فإن إيتاءها بتلك الطريقة يؤدى إلى ذهاب ثوابها، وإلى زيادة الآلام عند السائلين ولا سيما الذين يحرصون على حفظ كرامتهم، وعلى صيانة ماء وجوههم، فإن ألم الحرمان عند بعض الناس أقل أثرا في نفوسهم من آلام الصدقة المصحوبة بالأذى، لأن ألم الحرمان يخففه الصبر الذي وراءه الفرج، أما آلام الصدقة المصحوبة بالأذى لهم فإنها تصيب النفوس الكريمة بالجراح التي من العسير التئامها وشفاؤها.
قال القرطبي: روى مسلّم في صحيحه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكلمة الطيبة صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق». فعلى المسئول أن يتلقى السائل بالبشر والترحيب، ويقابله بالطلاقة والتقريب ليكون مشكورا إن أعطى ومعذورا إن منع. وقد قال بعض الحكماء: الق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره» «١».
وقوله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لوصفها وللعطف عليها. وقوله:
وَمَغْفِرَةٌ عطف عليه وسوغ الابتداء بها العطف أو الصفة المقدرة إذ التقدير ومغفرة للسائل أو من الله وقوله: خَيْرٌ خبر عنهما وقوله يَتْبَعُها أَذىً في محل جر صفة لصدقة.
ثم ختم الله- تعالى- الآية بقوله: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ أى والله- تعالى- غنى عن إنفاق المنفقين وصدقات المتصدقين. وإنما أمرهم بهما لمصلحة تعود عليهم. أو غنى عن الصدقة
والجملة الكريمة تذييل لما قبله مشتملة على الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب.
وقوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى نداء منه- سبحانه- للمؤمنين يكرر فيه نهيهم عن المن والأذى، لأنهما يؤديان إلى ذهاب الأجر من الله- تعالى- وإلى عدم الشكر من الناس ولذا جاء في الحديث الشريف: «إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر».
ثم أكد- سبحانه- هذا النهى عن المن والأذى بذكر مثلين فقال في أولهما: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
والمعنى: يا من آمنتم بالله- تعالى- لا تبطلوا صدقاتكم بأن تحبطوا أجرها، وتمحقوا ثمارها، بسبب المن والأذى، فيكون مثلكم في هذا الإبطال لصدقاتكم بسبب ما ارتكبتم من آثام، كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل أن يرى الناس منه ذلك ولا يبغى به رضاء الله ولا ثواب الآخرة، لأنه كفر بالله، وكفر بحساب الآخرة.
وفي هذا التشبيه تنفير شديد من المن والأذى لأنه- سبحانه- شبه حال المتصدق المتصف بهما في إبطال عمله بسببهما بحال هذا المنافق المرائى الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
وقوله: كَالَّذِي.. الكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف أى:
لا تبطلوها إبطالا كابطال الذي ينفق ماله رئاء الناس | أو في محل نصب على الحال من فاعل تُبْطِلُوا أى لا تبطلوها مشابهين الذي ينفق ماله رئاء الناس. |
وأما المثال الثاني فقال- سبحانه-: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا.
الصفوان اسم جنس جمعى واحده صفوانة كشجر وشجرة وهو الحجر الكبير الأملس، مأخوذ من الصفاء وهو خلوص الشيء مما يشوبه. يقال: يوم صفوان أى صافى الشمس. وقيل هو مفرد كحجر. والوابل المطر الشديد. يقال: وبلت السماء تبل وبلا ووبولا. اشتد مطرها والصلد هو الشيء الأجرد النقي من التراب الذي كان عليه. ومنه رأس أصلد إذا كان لا ينبت شعرا، والأصلد الأجرد الذي لا ينبت شيئا مأخوذ من صلد يصلد صلدا فهو صلد.
فالتشبيه في الجملة الكريمة بين الذي ينفق ماله رياء وبين الحجر الكبير الأملس الذي عليه قدر رقيق من التراب ستر حاله، ثم ينزل المطر فيزيل التراب وتنكشف حقيقته ويراه الرائي عاريا من أى شيء يستره. وكذلك المنافق المرائى في إنفاقه يتظاهر بمظهر السخاء أمام الناس ثم لا يلبث أن ينكشف أمره لأن ثوب الرياء يشف دائما عما تحته، وإن لم يكشفه فإن الله كاشفه.
ومن المفسرين من يرى أن التشبيه في الجملة الكريمة بين المنفق الذي يبطل صدقته بالمن والأذى وبين الحجر الأملس، وأن الضمير في قوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ يعود إلى هذا المبطل لصدقته بالمن والأذى. فيكون المعنى: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فيكون مثلكم كمثل الحجر الأملس الذي عليه تراب كان يرجى أن يكون منبتا للزرع فنزل المطر فأزال التراب فبطل إنتاجه، فالمن والأذى يبطلان الصدقات ويزيلان أثرها النافع، كما يزيل المطر التراب الذي يؤمل منه الإنبات من فوق الحجر الأملس.
والذي نراه أن عودة الضمير في قوله: فَمَثَلُهُ على الذي ينفق ماله رثاء الناس أظهر لأنه أقرب مذكور، ولأن التشبيه في قوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ قد جاء بلفظ المفرد وهو المناسب للذي ينفق ماله رثاء الناس لأنه مفرد مثله، بخلاف قوله: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى فإن الضمير فيه بلفظ الجمع، فمن الأولى أن يعود الضمير في قوله: فَمَثَلُهُ إلى المرائى لتوافقهما في الأفراد.
ثم قال- تعالى-: لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أى أن الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى، والذين يتصدقون رياء ومفاخرة لا يقدرون على تحصيل شيء من ثواب ما عملوا لأن ما صاحب أعمالهم من رياء ومن أذى محق بركتها، وأذهب ثمرتها، وأزال ثوابها.
أو المعنى: أن أولئك المنانين والمرائين ليس عندهم قدرة على شيء من المال الذي بين أيديهم وإنما هذا المال ملك لله وهو- سبحانه- الذي أنعم به عليهم، فعليهم أن يشكروه على هذه النعمة، وأن ينفقوه بدون من أو أذى أو مراءاة، حتى يظفروا بحسن المثوبة منه- سبحانه-.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أى لا يهديهم إلى ما ينفعهم لأنهم آثروا الكفر على الإيمان.
والذي ينظر في هذه الآيات الكريمة يرى أن الله- تعالى- قد حذر المنفقين من المن والأذى في ثلاث آيات متواليات، كما حذرهم من الرياء، وساق أكثر من تشبيه لتقبيح الصدقات التي لا تكون خالصة لوجه الله فلماذا كل هذا التشديد في النهى؟
والجواب عن ذلك: أن المن والأذى في الإنفاق كثيرا ما يحصلان بسبب استعلاء كاذب، أو رغبة في إذلال المحتاج وإظهاره بمظهر الضعيف: وكلا الأمرين لا يليق بالنفس المؤمنة المخلصة، ولا يتلاقى مطلقا مع الحكم التي من أجلها شرعت الصدقات بل إنه ليتنافر معها تنافرا تاما لأن الصدقات شرعها الله لتهذيب النفوس وتطهير القلوب ولتربط بين الأغنياء والفقراء برباط المحبة والمودة والإخاء، فإذا ما صاحبها المن والأذى أثمرت نقيض ما شرعت له، لأنها تثير في نفس المعطى بسبب ذلك الكبر والخيلاء وغير ذلك من الصفات الذميمة، وتثير في نفس الآخذ شعورا بالحقد والانتقام ممن أعطاه ثم آذاه وبذلك تنقطع الروابط، ويتمزق المجتمع، وتتحول المحبة إلى عداوة.
ولقد تحدث الإمام الرازي عن الآثار السيئة للمن والأذى فقال ما ملخصه:
وإنما كان المن مذموما لوجوه:
الأول: أن الفقير الآخذ للصدقة منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة، فإذا أضاف المعطى إلى ذلك إظهار الإنعام زاد ذلك في انكسار قلبه فيكون في حكم المضرة بعد المنفعة، وفي حكم المسيء إليه بعد أن أحسن إليه.
والثاني: أن إظهار المن يبعد أهل الحاجة عن الرغبة في صدقته إذا اشتهر من طريق ذلك.
الثالث: أن المعطى يجب أن يعتقد أن هذه النعمة من الله- تعالى- عليه- وأن يعتقد أن لله عليه نعما عظيمة حيث وفقه لهذا العمل ومتى كان الأمر كذلك امتنع عن أن يجعل ما ينفقه منة على الغير.
الرابع: أن المعطى في الحقيقة هو الله، ومتى اعتقد العبد ذلك استنار قلبه، أما إذا اعتقد غير ذلك فإنه يكون في درجة البهائم الذين لا يترقى نظرهم عن المحسوس إلى المعقول، وعن الآثار إلى المؤثر... وأما الأذى فيتناول كل ذلك وغيره مما يسيء إلى الفقير بأن يقول له: فرج الله عنى منك، وأنت أبدا تأتى إلى بما يؤلم. إلخ «١».
وبعد أن بين القرآن سوء عاقبة الذين يراءون في صدقتهم، ويفسدون ثمارها بالمن والأذى، أتبع ذلك ببيان حسن عاقبة الذين ينفقون أموالهم ابتغاء رضا الله، فقال- تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٥]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)
التثبيت: تحقيق الشيء وترسيخه، والجنة- كما يقول الراغب- كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض. وأصل الجن ستر الشيء على الحاسة، يقال: جنه الليل وأجنه أى ستره. وسميت الجنة بذلك لأنها تظلل ما تحتها وتستره. والربوة- بضم الراء وفتحها- المكان المرتفع من الأرض. وأصلها من قولهم:
ربا الشيء يربو إذا ازداد وارتفع ومنه الربا للزيادة المأخوذة على أصل الشيء.
والمعنى: ومثل الذين ينفقون أموالهم طلبا لرضى الله- تعالى- وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أى:
وتوطينا لأنفسهم على حفظ هذه الطاعة وعلى ترك ما يفسدها كمثل جنة بموضع مرتفع من الأرض نزل بها مطر كثير فأخرجت ثمرها ضِعْفَيْنِ أى ضعفا بعد ضعف فتكون التثنية للتكثير، أو فأعطت صاحبها أو الناس مثلي ما كانت تثمر في سائر الأوقات بسبب ما أصابها من المطر الغزير. أو فأخرجت ثمرها ضعفين بالنسبة إلى غيرها من الجنان.
والمقصود تشبيه نفقة هؤلاء المؤمنين المخلصين في زكائها ونمائها عند الله بتلك الحديقة اليانعة المرتفعة التي تنزل عليها المطر الغزير فآتت أكلها مضاعفا وأخرجت للناس من كل زوج بهيج.
وقوله: وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ معطوف على سابقه، وقد ذكر صاحب الكشاف أوجها في معنى هذه الجملة الكريمة فقال: قوله: وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أى وليثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح على سائر العبادات الشاقة وعلى الإيمان، لأن النفس إذا ريضت بالتحامل عليها وتكليفها، ما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها وقل طمعها في اتباعه لشهواتها وبالعكس، فكان إنفاق المال تثبيتا لها على الإيمان واليقين. ومِنْ على هذا الوجه للتبعيض، مثلها في قولهم: هز من عطفه وحرك من نشاطه. ويجوز أن يراد من قوله- تعالى-: وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أى: وتصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم لأنه إذا أنفق المسلّم ماله في سبيل الله، علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه.
ومِنْ على هذا الوجه لابتداء الغاية، كقوله- تعالى- حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ويحتمل أن يكون المعنى: وتثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه، وتعضد هذا المعنى قراءة مجاهد: وتثبيتا من أنفسهم: فإن قلت: فما معنى التبعيض؟ قلت: معناه أن من يذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها كما في قوله- تعالى-: وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ «١».
وخصص الجنة بأنها بربوة لأن الأشجار في المكان المرتفع من الأرض تكون عادة أحسن منظرا، وأزكى ثمرا، للطافة هوائها، فكان من فوائد هذا القيد إعطاء وجه الشبه- وهو تضعيف المنفعة وجمالها قوة ووضوحا، كما أن من فوائده تحسين المشبه به تحسينا يعود أثره إلى المشبه عند السامع.
ثم قال- تعالى-: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ.
والطل: هو المطر القليل وجمعه طلال، وهو مبتدأ محذوف الخبر أى فطل قليل يصيبها يكفيها.
والمراد أن هذه الجنة لطيبها وكرم منبتها تزكو وتثمر كثر المطر النازل عليها أو قل فكذلك نفقة المؤمنين المخلصين تزكو عند الله وتطيب كثرت أو قلت، لأن إخلاصهم فيها جعلها عند الله- تعالى- مضاعفة نامية.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
وبذلك نرى القرآن الكريم قد ساق في هذه الآية وسابقتها حالتين متقابلتين: حالة الذي يبطل صدقته بالمن والأذى والرياء، وكيف تكون عاقبته ونهايته. وحالة الذي ينفق ماله طلبا لرضا الله وتعويدا لنفسه على فعل الطيبات وكيف يكون جزاؤه عند العليم الخبير ولقد صور القرآن هاتين الحالتين تصويرا مؤثرا بديعا، من شأنه أن يهدى العقلاء إلى فعل الخيرات، وإخلاص النيات، واجتناب السيئات.
ثم ساق القرآن آية كريمة حذر فيها الناس من ارتكاب ما نهى الله عنه وبين فيها كيف أن المن والأذى والرياء وما يشبه ذلك من رذائل يؤدى إلى ذهاب الشيء النافع من بين يدي صاحبه وهو أحوج ما يكون إليه. استمع إلى القرآن وهو يصور نهاية هذا الإنسان البائس.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٦]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
قوله: أَيَوَدُّ هو من الود بمعنى المحبة الكاملة للشيء وتمنى حصوله، والاستفهام فيه للإنكار والإعصار ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كالعمود، وهي التي يسميها بعض الناس زوبعة. وسميت إعصارا لأنها تعصر ما تمر به من الأجسام، أو تلتف كما يلتف الثوب المعصور. والريح مؤنثة وكذا سائر أسمائها إلا الإعصار فإنه مذكر ولذا قيل فِيهِ نارٌ أى سموم وصواعق.
والمعنى: أيحب أحدكم- أيها المنانون المراءون- أن تكون له جنة معظم شجرها مِنْ
تجرى من تحت أشجارها الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ النافعة، والحال أنه قد أصابه الكبر الذي أقعده عن الكسب من غير تلك الحديقة اليانعة، وله فضلا عن شيخوخته وعجزه ذرية ضعفاء لا يقدرون على العمل، وبينما هو على هذه الحالة إذا بالجنة ينزل عليها إعصار فيه نار فيحرقها ويدمرها ففقدها صاحبها وهو أحوج ما يكون إليها وبقي هو وأولاده في حالة شديدة من البؤس والحيرة والغم والحسرة لحرمانه من تلك الحديقة التي كانت محط آماله.
فالآية الكريمة قد اشتملت على مثل آخر لحالة الذين يبطلون أعمالهم وصدقاتهم بالمن والأذى والرياء، وغير ذلك من الأفعال القبيحة والصفات السيئة فقد شبه- سبحانه- حال من يعمل الأعمال الحسنة ثم يضم إليها ما يفسدها فإذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة ذاهبة، شبه هذا الإنسان في حسرته وألمه وحزنه بحال ذلك الشيخ الكبير العاجز الذي له ذرية ضعفاء لا يملك سوى حديقة يانعة يعتمد عليها في معاشه هو وأولاده فنزل عليها إعصار فيه نار فأحرقها ودمرها تدميرا.
وحذف- سبحانه- حالة المشبه وهو الذي يبطل صدقته بالمن والأذى والرياء وما يشبه ذلك، لظهورها من المقام.
وقد وصف- سبحانه- تلك الجنة بثلاث صفات:
وصفها أولا: بأنها من نخيل وأعناب أى معظمها من هذين الجنسين النفيسين اللذين هما أنفع الفواكه وأجملها منظرا.
ووصفها ثانيا: بأنها تجرى من تحتها الأنهار، أى تجرى من تحت أشجارها الأنهار التي تسر النفس. وتبهج القلب، وتزيد في حسن الجنة وبهائها.
ووصفها ثالثا: بأنها زاخرة بكل أنواع الثمار التي تنفع صاحبها، وتغنيه عن الاحتياج إلى غيره، فهي جنة قد جمعت بين حسن المنظر، وكثرة النفع، وهذا نهاية ما يتمناه كل إنسان لما يملكه.
أما صاحبها فقد وصفه- سبحانه- بأنه إنسان قد أصابه الكبر وله ذرية ضعفاء أى أنه في منتهى الاحتياج إليها لكبر سنه وعجزه عن الاكتساب من غيرها ولمسئوليته عن الإنفاق على أولاد صغار لا يعولهم أحد سواه.
تلك هي حالة الجنة وحالة صاحبها في احتياجه إليها، فماذا حدث بعد ذلك؟ لقد أصابها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ فماذا يكون حال هذا الإنسان الذي أصابه الكبر وله ذرية ضعفاء وهو يرى جنته ومحط أمله قد احترقت وهو في أشد الحاجة إلى ظلها وثمارها ومنافعها؟
ولكأن الله- تعالى- يقول للناس بعد هذا التصوير البديع المؤثر: احذروا أن تبطلوا أعمالكم الصالحة بارتكابكم لما نهى الله عنه، فلا تجدون لها نفعا يوم القيامة وأنتم في أشد الحاجة إليها في هذا اليوم العصيب، لأنكم إذا فعلتم ذلك كان مثلكم في التحسر والحزن كمثل هذا الشيخ الكبير الذي احترقت جنته وهو في أشد الحاجة إليها.
وإنه لتصوير قرآنى في أسمى درجات البلاغة والتأثير، وفي أعلى ألوان التأديب والتهذيب.
قال القرطبي: روى البخاري عن عبيد بن عمير قال: قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يوما لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فيم ترون هذه الآية نزلت وهي قوله- تعالى-: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ الآية. قالوا الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال عمر: يا ابن أخى قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلا لرجل غنى عمل بطاعة الله. ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق عمله. وروى ابن أبى مليكه أن عمر تلا هذه الآية وقال: هذا مثل ضربه الله للإنسان يعمل عملا صالحا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل العمل السيئ» «١».
ثم ختم- سبحانه- هذه الآية بقوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أى: كما يبين الله في هذه الآية ما يهديكم وينفعكم يبين لكم آياته وهداياته في سائر أمور دينكم لكي تتفكروا فيما يصلحكم، وتعملوا ما يرضى خالقكم.
ثم وجه القرآن بعد ذلك نداء إلى المؤمنين أمرهم فيه بأن يتحروا في نفقتهم الحلال الطيب، بعد أن حضهم على الإنفاق بسخاء وإخلاص.
فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٧ الى ٢٦٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)قال ابن كثير: عن البراء بن عازب- رضي الله عنه- في قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ.. الآية قال: نزلت في الأنصار كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من نخيلها البسر فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف- أى التمر الرديء- فيدخله مع أفناء البسر يظن أن ذلك جائز فأنزل الله فيمن فعل ذلك الآية» «١».
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا اجعلوا نفقتكم التي تنفقونها في سبيل الله من أطيب أموالكم التي اكتسبتموها عن طريق التجارة وغيرها.
قال ابن عباس: أمرهم الله- تعالى- بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئة وخبيثة، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا» قال- تعالى-: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.
وقوله: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ معطوف على ما قبله أى أنفقوا من طيبات أموالكم التي اكتسبتموها ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض من الحبوب والثمار والزروع وغيرها.
وترك- سبحانه- ذكر كلمة الطيبات في هذه الجملة لسبق ذكرها في الجملة التي قبلها.
فالآية الكريمة تأمر المؤمنين بأن يلتزموا في نفقتهم المال الطيب في كل وجه من وجوهه، بأن يكون جيدا نفيسا في صنفه، وحلالا مشروعا في أصله.
وقد أكد الله- تعالى- هذا الأمر بجملتين كريمتين فقال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ.
والخبيث هو الرديء من كل شيء وخبث الفضة والحديد ما نفاه الكير لأنه ينفى الرديء.
ويطلق الخبيث على الشيء الحرام والمستقذر.
والإغماض في اللغة- كما يقول الرازي- غض النظر وإطباق جفن على جفن، وأصله من الغموض وهو الخفاء، والمراد بالإغماض هاهنا المساهلة وذلك لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عنه لئلا يرى ذلك. ثم كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضا» «١».
والمعنى: أنفقوا أيها المؤمنون من أطيب أموالكم وأنفسها وأجودها، ولا تتحروا وتقصدوا أن يكون إنفاقكم من الخبيث الرديء، والحال أنكم لا تأخذونه إن أعطى لكم هبة أو شراء أو غير ذلك إلا أن تتساهلوا في قبوله، وتغضوا الطرف عن رداءته، وإذا كان هذا شأنكم في قبول ما هو رديء فكيف تقدمونه لغيركم؟ إن الله- ينهاكم عن ذلك لأن من شأن المؤمن الصادق في إيمانه ألا يفعل لغيره إلا ما يجب أن يفعله لنفسه، ولا يعطى من شيء إلا ما يحب أن يعطى إليه، ففي الحديث الشريف: «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به».
قال الآلوسى: وقوله: مِنْهُ تُنْفِقُونَ الضمير المجرور يعود للخبيث، وهو متعلق يتنفقون، والتقديم للتخصيص، والجملة حال مقدرة من فاعل تَيَمَّمُوا أى لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه، أو من الخبيث أى مختصا به الإنفاق، وأيا ما كان لا يرد أنه يقتضى أن يكون النهى عن الخبيث الصرف فقط مع أن المخلوط أيضا كذلك لأن التخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطون من إنفاق الخبيث خاصة.
وقوله: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ حال من ضمير تُنْفِقُونَ أى: والحال أنكم لستم بآخذيه في وقت من الأوقات أو بوجه من الوجوه إلا وقت إغماضكم فيه» «٢» ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أى واعلموا أن الله- تعالى- غنى عن صدقاتكم وإنما أمركم بها لمنفعتكم، حَمِيدٌ يجازى المحسن أفضل الجزاء، وهو- سبحانه- المستحق للحمد الحقيقي دون سواه، فمن الواجب عليكم أن تبذلوا في سبيله الجيد من أموالكم شكرا له على نعمه حتى يزيدكم من عطائه وآلائه.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٣ ص ٣٩ بتلخيص.
قوله: يَعِدُكُمُ من الوعد، وهو في أصل وضعه لغة شائع في الخير والشر، وأما في الاستعمال الشائع فالوعد في الخير والإيعاد في الشر. وقد استعمل هنا في الشر نظرا إلى أصل الوضع، لأن الفقر مما يراه الإنسان شرا ولذلك يخوف الشيطان به المنفقين فيقول لهم: لا تنفقوا الجيد من أموالكم لأن إنفاقكم هذا يؤدى إلى فقركم ونضوب ما بين أيديكم من أموال.
والفقر هو ما يصيب الإنسان من سوء في الحال ومن ضعف بسبب قلة المال، وأصل الفقر في اللغة كسر فقار الظهر، ثم وصف الإنسان المحتاج الضعيف بأنه فقير تشبيها له بمن كسر فقار ظهره فأصبح عاجزا عن الحركة لأن الظهر هو مجمع الحركات، ومنه تسميتهم المصيبة فاقرة، وقاصمة الظهر.
والفحشاء والفحش والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، ويرى كثير من العلماء أن المراد بالفحشاء في الآية البخل الشديد فإن كلمة الفاحش تطلق في لغة العرب على البخيل الشديد البخل، ومن ذلك قول طرفة بن العبد.
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى | عقيلة مال الفاحش المتشدد «١» |
قال الجمل: وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الشيطان يخوف الرجل أولا بالفقر ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء وهو البخل، وذلك لأن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فلا يستطيع الشيطان أن يحسن له البخل إلا بتلك المقدمة وهي التخويف من الفقر فلهذا قال.
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ «٢».
وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة- أى همة وخطرة تقع في القلب- فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب
(٢) تفسير الجمل ج ١ صفحة ٢٢٣. [.....]
هذا ما يعده الشيطان للإنسان، فما الذي يعده الله- تعالى- لعباده؟ لقد بين- سبحانه- ذلك فقال: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
أى: إذا كان الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، فالله- تعالى- يعدكم مغفرة منه لذنوبكم على ما تنفقونه من أموالكم في سبيله ففي الحديث الشريف «الصدقة تطفئ الخطيئة». ويعدكم- أيضا- فَضْلًا أى نماء وزيادة في أموالكم، فإن الصدقات تزيد البركة في الرزق فيصير القليل منه في يد السخي كثيرا بتوفيق الله وتأييده.
وصدر له سبحانه- الجملة بلفظ الجلالة، للإشارة إلى أن الوعد الذي وعد به المنفقين وعد حق لا يمكن أن يخالطه شك أو ريب، لأنه وعد من الله الذي لا يخلف وعده، وإذا كان الشيطان يهدد الناس بالفقر عند العطاء، ويأمرهم بالفحشاء، فالله- تعالى- يبشر عباده بمغفرته ورضوانه، بسبب اتفاقهم في السراء والضراء ويعدهم على ذلك بالرزق الوفير، والفضل الكبير في الدنيا والآخرة.
وقد ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ تأكيدا لوعده الذي وعد به عباده المتقين المتصدقين بأن يزيدهم من فضله، أى والله- تعالى- واسع الجود والعطاء والرحمة، وسيحقق لكم ما وعدكم به من المغفرة وتضعيف ما تنفقونه، وهو مع ذلك عليم بأحوال عباده صغيرها وكبيرها، وسيجازى الذين اتبعوا أوامره بجزيل الثواب، كما سيجازى الذين اتبعوا وسوسة الشيطان بسوء العذاب.
ثم قال- تعالى-: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً.
قال الإمام الرازي: «اعلم أنه- تعالى- لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء، وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبه على أن الأمر الذي أوجب لأجله ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم.
ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل، وحكم الشهوة والنفس يوقع الإنسان في البلاء، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول، فهذا هو وجه النظم» «٢».
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٧٢.
والحكمة بالنسبة للإنسان صفة نفسية هي أساس المعرفة السليمة التي توافق الحق، وتوجه الإنسان نحو عمل الخير، وتمنعه من عمل الشر، فهي فيه مانعة ضابطة تسير به نحو الكمال والاستقامة وللعلماء في المراد بها في الآية الكريمة أقوال كثيرة أرجحها أن المراد بها إصابة الحق في القول والعمل، أو هي العلم النافع الذي يكون معه العمل به.
والمعنى: أن الله- تعالى- الفاعل لكل شيء يؤت الحكمة لمن يشاء من عباده وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً لأن الإنسان إذا أوتى الحكمة يكون قد اهتدى إلى العلم النافع، وإلى العمل الصالح الموافق لما علمه، وإلى الإيمان بالحق وإلى الاستجابة لكل خير والابتعاد عن كل شر، وبذلك يكون سعيدا في دنياه وأخراه.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا حسد- أى لا غبطة- إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله- تعالى- الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها».
ثم قال- تعالى-: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.
والألباب جمع لب وهو في الأصل خلاصة الشيء وقلبه، وأطلق هنا على عقل الإنسان لأنه أنفع شيء فيه.
والمراد بأولى الألباب هنا أصحاب العقول السليمة التي تخلصت من شوائب الهوى، ودوافع الشر، فقد جرت عادة القرآن ألا يستعمل هذا التعبير إلا مع أصحاب العقول المستقيمة.
أى: وما يتعظ بهذه التوجيهات القرآنية، وينتفع بثمارها إلا أصحاب العقول الراجحة والنفوس الصافية التي اهتدت إلى الحق وعملت به، والتي أنفقت في سبيل الله أجود الأموال وأطيبها لا أصحاب العقول الفاسدة التي استحوذ عليها الشيطان فأنساها ذكر الله، والتي ترى أن البخل بالمال هو الحكمة، وأن الإنفاق في سبيل الله هو نوع من الإسراف والتبذير.
فالجملة الكريمة تذييل قصد به مدح أولئك المؤمنين الصادقين، الذين استجابوا لتوجيهات دينهم، فأصابوا الحق في أقوالهم وأعمالهم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٠ الى ٢٧١]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
النفقة: هي العطاء العاجل في باب من أبواب الخير. أما النذر: فهو التزام قربة من القربات أو صدقة من الصدقات بأن يقول: لله على نذر أن أفعل كذا من أنواع البر. أو إن شفى الله مريضى فسأفعل كذا.
والمعنى: وما أنفقتم- أيها المؤمنون- من نفقة عاجلة قليلة أو كثيرة، أو التزمتم بنفقة مستقبلة وعاهدتم الله- تعالى- على القيام بها، فإنه- سبحانه- يعلم كل شيء، ويعلم ما صاحب نياتكم من إخلاص أو رياء، ويعلم ما أنفقتموه أهو من جيد أموالكم أم من رديئها، وسيجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. فالآية الكريمة بيان لحكم كلى شامل لجميع أفراد النفقات إثر بيان حكم ما كان منها في سبيل الله- تعالى- وما في قوله: وَما أَنْفَقْتُمْ شرطية أو موصولة والفاء في قوله: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ رابطة لجواب الشرط إذا اعتبرنا ما شرطية، ومزيدة في الخير إذا اعتبرناها موصولة ومِنْ في قوله: مِنْ نَفَقَةٍ بيانية أو زائدة.
وقوله: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ كناية عن الجزاء عليه، لأن علم الله- تعالى- بالكائنات لا يشك فيه السامعون، فأريد لازم معناه وهو الجزاء. وإنما كان لازما له لأن القادر لا يصده عن الجزاء إلا عدم العلم بما يفعله المحسن أو المسيء.
وهذه الجملة الكريمة مع إيجازها قد أفادت الوعد العظيم للمطيعين والوعيد الشديد للمتمردين، لأن الإنسان إذا أيقن أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية من شئون خلقه، فإن هذا اليقين سيحمله على الطاعة والإخلاص، وسيحضه على المسارعة في الخيرات، خصوصا وإن
قال بعضهم: وإنما قال- سبحانه-: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ولم يقل يعلمها لوجهين:
الأول: أن الضمير عائد إلى الأخير- وهو النذر-، كما في قوله- تعالى-: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً.
والثاني: أن الكناية عادت إلى ما في قوله: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ لأنها اسم كقوله:
وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ «١».
وقوله: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ وعيد شديد للخارجين على طاعة الله أى: ليس للظالمين أى نصير أو مغيث يمنع عقوبة الله عنهم.
والمراد بالظالمين: الواضعون للأشياء في غير موضعها التي يجب أن توضع فيها، والتاركون لما أمرهم الله به، فيندرج فيهم الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى والرياء والذين يتصدقون بالرديء من أموالهم، والذين ينفقون أموالهم في الوجوه التي نهى الله عنها، والذين لم يوفوا بنذورهم التي عاهدوا الله على الوفاء بها كما يندرج فيهم كل من ارتكب ما نهى الله عنه أو أهمل فيما كلفه الله به.
ثم بين- سبحانه- أن الصدقة متى صدرت عن المسلّم بالطريقة التي دعت إليها تعاليم الإسلام فإنها تكون مرجوة القبول عند الله- تعالى- سواء أفعلها المسلّم في السر أم في العلن، فقال- تعالى-: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
الصدقات: جمع صدقة وهي ما يخرجه المسلّم من ماله على جهة القربة، وتشمل الفرض والتطوع، وهي مأخوذة من الصدق بمعنى صدق النية وتخليصها من كل ما نهى الله عنه، وسمى- سبحانه- ما يخرجه المسلّم من ماله صدقة لأن المال بها يزكو وينمو يطهر.
والفاء في قوله: فَنِعِمَّا هِيَ واقعة في جواب الشرط، وفَنِعِمَّا أصلها نعم ما، فأدغمت إحدى الميمين في الأخرى، ونعم فعل ماض، وما نكرة تامة بمعنى شيء، وهي منصوبة على أنها تمييز، والفاعل ضمير مستتر في نعم.
والمعنى: إن تبدو صدقاتكم- أيها المؤمنون- وتظهروها فنعم شيئا إبداؤها وإعلانها، لأنه يرفع التهمة ويدعو أهل الخير إلى الاقتداء بهذا الفعل الحسن.
هذه صدقة الجهر إذا خلصت من الرياء أما صدقة السر فقد أثنى الله على فاعلها بقوله:
وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أى: وإن تحفوا الصدقات وتعطوها للفقراء سرا، دون أن يراكم أحد من الناس، فعملكم هذا خير لكم عند الله لأنكم بإخفائكم للصدقة ودفعها للفقير سرا تكونون قد ابتعدتم عن الرياء، وسترتم حال هذا الفقير المحتاج.
وقوله: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ أى أنه- سبحانه- يستر السيئات التي يرتكبها الشخص، ويخفيها ولا يظهرها عند إثابته إياه على فعله الحسن لأن ما فعله من حسنات مسح ما فعله من سيئات فهو كقوله- تعالى-: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ ومِنْ في قوله: مِنْ سَيِّئاتِكُمْ بيانية بمعنى أن الصدقات تكفر السيئات لأن المسلّم إذا بذل ماله في سبيل الله بصدق وإخلاص، كان أهلا لمثوبة الله ومغفرته، ويجوز أن تكون للتبعيض أى يكفر عنكم بعض سيئاتكم بمقدار ما قدمتم من صدقات لأن الصدقات لا تكفر جميع السيئات.
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أى أن الله- تعالى- عليم علما دقيقا بكل ما تعملونه أيها المؤمنون، فعليكم أن تخلصوا له أعمالكم، وأن تراقبوه في سركم وجهركم، وأن تسارعوا في عمل الخيرات التي ترفع درجاتكم عند خالقكم.
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد مدحت صدقتي الجهر والسر متى كان المتصدق متبعا آداب الإسلام وتوجيهاته، ومبتعدا عن كل ما يبطل الصدقات، ويحبط الأعمال.
ثم ختمت السورة حديثها عن النفقة والمنفقين ببيان حسن عاقبة من يبذل ماله في سبيل الله، وبيان صفات بعض المستحقين للصدقة، وببيان أن هداية البشر إنما هي بيد الله- تعالى- وحده، فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٢ الى ٢٧٤]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
والمعنى: ليس عليك يا محمد هداية من خالفك في دينك. ولكن الله- تعالى- يهدى من يشاء هدايته إلى نور الإيمان، وطريق الحق. وما دام الأمر كذلك فعليك وعلى أتباعك أن تعاملوا غيركم بما يوجبه عليكم إيمانكم من سماحة في الخلق، وعطف على المحتاجين حتى ولو كانوا من المخالفين لكم في الدين.
وعلى هذا المعنى الذي يؤيده سبب النزول يكون الضمير في قوله: هُداهُمْ يعود على غير المسلمين.
قال الآلوسى: وعلى هذا الرأى تكون الجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بأولئك المكلفين مبالغة في حملهم على الامتثال.. ثم قال: «والذي يستدعيه سبب النزول رجوع ضمير هُداهُمْ إلى الكفار، وحينئذ لا التفات، وإنما هناك تلوين الخطاب فقط....» «١».
ثم حض- سبحانه- المؤمنين على الإنفاق في وجوه الخير فقال: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ أى: ما تقدمونه من مال في وجوه البر- أيها المؤمنون- فإن نفعه سيعود عليكم بالسعادة في الدنيا، وبالثواب الجزيل في الآخرة، فكونوا أسخياء في الإحسان إلى الفقراء، وابتعدوا عن وسوسة الشيطان الذي يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ.
و «ما» شرطية جازمة لتنفقوا، وهي منتصبة به على المفعولية، و «من» للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لفعل الشرط والتقدير: أى شيء تنفقوا كائنا من المال فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيرها.
قال الفخر الرازي ما ملخصه: وقوله- تعالى-: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ يحتمل وجوها.
الأول: أن يكون المعنى: ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله، فقد علم الله هذا من قلوبكم، فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر، وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم.
الثاني: أن هذا وإن كان ظاهره خبرا إلا أن معناه نهى أى: ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله.
الثالث: أن قوله: وَما تُنْفِقُونَ أى ولا تكونوا منفقين مستحقين الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله. وفي ذكر الوجه تشريف عظيم لأنك إذا قلت: فعلت هذا الشيء لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من قولك: فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه، ثم كثير حتى
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أى:
أن ما تنفقونه من خير- أيها المؤمنون ستعود عليكم ثماره ومنافعه في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنكم بسبب هذا الانفاق تزكو أموالكم، وتحسن سيرتكم بين الناس، وأما في الآخرة فإنكم تنالون من خالقكم ورازقكم أجزل الثواب، وأفضل الدرجات.
وقوله: وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أى لا تنقصون شيئا مما وعدكم الله به على نفقتكم في سبيله.
قال الجمل. وهاتان الجملتان أى قوله- تعالى- وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وقوله:
وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ تأكيد للجملة الشرطية الأولى وهي قوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ. وقوله: وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الضمير في إِلَيْكُمْ فالعامل فيها يُوَفَّ وهي تشبه الحال المؤكدة لأن معناها مفهوم من قوله: يُوَفَّ إِلَيْكُمْ لأنهم إذا وفوا حقوقهم لم يظلموا. ويجوز أن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب أخبرهم فيها أنه لا يقع لهم ظلم فيندرج فيه توفية أجورهم بسبب إنفاقهم في طاعة الله- تعالى- اندراجا أوليا» «٢».
هذا، والذي يتدبر هذه الآية الكريمة يراها من أجمع الآيات التي وردت في الحض على بذل المال في وجوه الخير، فقد كرر فيها فعل تُنْفِقُونَ ثلاث مرات لمزيد الاهتمام بمدلوله، وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب، وجاءت كل جملة منها مستقلة ببعض الأحكام لكي يسهل حفظها وتأملها فتجرى على الألسنة مجرى الأمثال وتتناقلها الأمم والأجيال.
ثم بعد هذا التحريض الحكيم على بذل الأموال في وجوه الخير، خص- سبحانه- بالذكر طائفة من المؤمنين هي أولى الناس بالعون والمساعدة، ووصف هذه الطائفة بست صفات من شأنها أن تحمل العقلاء على المسارعة في إكرام أفرادها وسد حاجتهم.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يصور حالة هذه الطائفة من المؤمنين تصويرا كريما نبيلا يستجيش المشاعر، ويحرك القلوب لمساعدة هذه الطائفة المتعففة فيقول: لِلْفُقَراءِ، الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ، يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ، لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٢٥٥. بتصرف يسير.
وقوله: لِلْفُقَراءِ متعلق بمحذوف يفهم من الكلام السابق والتقدير: اجعلوا نفقتكم وصدقتكم للفقراء لأن الكلام السابق موضوعه للإنفاق في سبيل الله، وما يتعلق بذلك من آداب وفوائد.
والجملة استئناف بيانى، فكأنهم لما أمروا بالصدقات سألوا لمن هي؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء الذين ذكرت الآية صفاتهم.
ومن فوائد الحذف هنا للمتعلق: تعليم المؤمنين الأدب في عطائهم للفقراء بأن لا يصرحوا لهم بأن ما يعطونه إياهم هو صدقة حتى لا يشعروهم بالمذلة والضعف، وأيضا ففي هذا الحذف لون من الإيجاز البليغ الذي قل فيه اللفظ مع الوفاء بحق المعنى.
قال القرطبي: والمراد بهؤلاء الفقراء، فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفتهم غابر الدهر. وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر، لأنه لم يكن هناك سواهم، وهم أهل الصفة» «١» وكانوا نحوا من أربعمائة رجل، وذلك أنهم كانوا يأتون فقراء وما لهم أهل ولا مال فبنيت لهم صفة في المسجد النبوي بالمدينة فقيل لهم: «أهل الصفة» «٢».
أما الصفة الثانية من صفات هؤلاء الذين هم أولى الناس بالعون والمساعدة فهي قوله- تعالى-: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
والإحصار في اللغة هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين ما يريده بسبب مرض أو شيخوخة أو عدو أو ذهاب نفقة أو ما يجرى مجرى هذه الأشياء.
والمعنى: اجعلوا الكثير مما تنفقونه- أيها المؤمنون- لهؤلاء الفقراء الذين حصروا أنفسهم ووقفوها على الطاعات المتنوعة التي من أعظمها الجهاد في سبيل الله، أو الذين منعوا من الكسب بسبب مرضهم أو شيخوختهم، أو غير ذلك من الأسباب التي جعلتهم في حالة شديدة من الفاقة والاحتياج.
وعبر في الجملة الكريمة «بأحصروا» بالبناء للمجهول، للإشعار بأن فقرهم لم يكن بسبب تكاسلهم وإهمالهم في مباشرة الأسباب، وإنما كان لأسباب خارجة عن إرادتهم.
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ ص ٣٣٩.
أما الصفة الثالثة من صفاتهم فقال فيها لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ والضرب في الأرض هو السير فيها للتكسب والتجارة وغيرهما.
أى أنهم عاجزون عن السير في الأرض لتحصيل رزقهم بسبب اشتغالهم بالجهاد، أو بسبب ضعفهم وقلة ذات يدهم.
والصفة الرابعة من صفاتهم هي قوله- تعالى-: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ.
والتعفف: ترك الشيء والتنزه عن طلبه، بقهر النفس والتغلب عليها. يقال عف عن الشيء يعف إذا كف عنه. والحسبان بمعنى الظن.
أى يظنهم الجاهل بحالهم، أو الذي لا فراسة عنده، يظنهم أغنياء من أجل تجملهم وتعففهم عن السؤال، أما صاحب الفراسة الصادقة، والبصيرة النافذة فإنه يرحمهم ويعطف عليهم لأنه يعرف ما لا يعرفه غيره.
ومِنَ في قوله: مِنَ التَّعَفُّفِ للتعليل، أو لابتداء الغاية لأن التعفف مبدأ هذا الحسبان.
أما الصفة الخامسة من صفاتهم فهي قوله- تعالى-: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ والسيما والسيماء: العلامة التي يعرف بها الشيء، وأصلها من الوسم بمعنى العلامة.
والمعنى: تعرف فقرهم وحاجتهم- أيها الرسول الكريم أو أيها المؤمن العاقل- بما ترى في هيئتهم من آثار تشهد بقلة ذات يدهم.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: قال مجاهد: «سيماهم» التخشع والتواضع. أى- تعرفهم بتخشعهم وتواضعهم- وقال السدى: - تعرفهم بسيماهم- أى بأثر الجهد من الفقر والحاجة. وقال الضحاك: أى بصفرة ألوانهم ورثاثة ثيابهم... ثم قال- رحمه الله-: وعندي أن كل ذلك فيه نظر والمراد شيء آخر هو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعا في قلوب الخلق، وكل من رآهم تأثر منهم وتواضع لهم، وذلك له إدراكات روحانية، لا علامات جسمانية. ألا ترى أن الأسد إذا مر هابته سائر السباع بطباعها لا بالتجربة، لأن الظاهر أن تلك التجربة
وقد ذكر- سبحانه- في الجملة السابقة أن الجاهل بحالهم يظنهم أغنياء من أجل تعففهم عن السؤال، وذكر هنا أنهم يعرفون بسيماهم، وذلك للإشعار بأن أنظار الناس تختلف باختلاف فراستهم ونفاذ بصيرتهم. فأصحاب الأنظار التي تأخذ الأمور بمظاهرها يظنونهم أغنياء، أما أصحاب البصيرة المستنيرة، والحس المرهف، والفراسة الصائبة، فإنهم يدركون ما عليه أولئك القوم من احتياج، بسبب ما منحهم الله من فكر صائب ونظر نافذ، وفي الحديث الشريف: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» «٢».
أما الصفة السادسة من صفاتهم فهي قوله- تعالى-: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً والإلحاف- كما يقول صاحب الكشاف: هو الإلحاح بأن لا يفارق- السائل المسئول- إلا بشيء يعطاه. من قولهم: لحفني من فضل لحافه أى أعطانى من فضل ما عنده. ومعناه:
أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا. وقيل هو نفى للسؤال والإلحاف» «٣».
والذي عليه المحققون من العلماء أن النفي منصب على السؤال وعلى الإلحاف أى أنهم لا يسألون أصلا تعففا منهم، لأنهم لو كانوا يسألون ما ظنهم الجاهل أغنياء من التعفف، ولو كانوا يسألون ما كانوا متعففين، ولو كانوا يسألون ما احتاج صاحب البصيرة النافذة إلى معرفة حالهم عن طريق التفرس في سماتهم لأن سؤالهم كان يغنيه عن ذلك.
وإنما جاء النفي بهذه الطريقة التي يوهم ظاهرها أن النفي متجه إلى الإلحاف وحده، للموازنة بينهم وبين غيرهم، فإن غيرهم إذا كان يسأل الناس إلحافا فهم لا يسألون مطلقا لا بإلحاف ولا بدونه، والنفي بهذه الطريقة فيه تعريض للملحفين وثناء على المتعففين. ولذا قال بعضهم: وإذا علم أنهم لا يسألون البتة فقد علم أنهم لا يسألون الناس إلحافا والمراد التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا، ومثاله إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور قليل الكلام، والآخر طياش مهذار سفيه، فإذا أردت أن تمدح أحدهما وتعرض بذم الآخر قلت:
فلان رجل عاقل وقور لا بخوض في الترهات ولا يشرع في السفاهات، ولم يكن غرضك من قولك لا يخوض في الترهات وصفه بذلك لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغنى عن ذلك، بل
(٢) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٣٢٤.
(٣) تفسير الكشاف ج ١ ص ٣٢٨.
هذا وقد وردت أحاديث متعددة تمدح المتعففين عن السؤال، وتذم الملحفين فيه ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان ولا التمرة والتمرتان إنما المسكين الذي يتعفف. اقرؤا إن شئتم: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً.
وروى مسلّم في صحيحه عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم».
وروى مسلّم- أيضا- في صحيحه عن عوف بن مالك قال: كنا تسعة أو ثمانية أو سبعة عند رسول الله فقال: «ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا علام نبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. والصلوات الخمس، وتطيعوا ولا تسألوا الناس. فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحدا يناوله إياه».
والخلاصة أن السؤال إنما يجوز عند الضرورة، وأنه لا يصح لمؤمن أن يسأل الناس وعنده ما يكفيه، لأن السؤال ذل يربأ بنفسه عنه كل من يحافظ على مروءته وكرامته وشرفه.
وقوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تحريض للمؤمن على البذل والسخاء، وترقية لنفسه على الشعور بمراقبة الله- تعالى- وعلى محبة فعل الخير.
أى: وما تنفقوا من خير سواء أكان المنفق قليلا أم كثيرا سرا أم علنا فإن الله يعلمه وسيجازيكم عليه بأجزل الثواب، وأعظم العطاء.
ثم ختم- سبحانه- الحديث عن النفقة والمنفقين بقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً استئناف المقصود منه مدح أولئك الذين يعممون صدقاتهم في كل الأزمان وفي كل الأحوال فهم يتصدقون على المحتاجين في الليل وفي النهار، في الغدو وفي الآصال، في السر وفي العلن، في كل وقت وفي كل حال، لأنهم لقوة إيمانهم، وصفاء نفوسهم يحرصون كل الحرص على كل ما يرضى الله تعالى.
والجملة الكريمة خبر لقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ... ودخلت الفاء في الخبر لأن الموصول في معنى الشرط فتدخل الفاء في خبره جوازا، وللدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها أى أن استحقاق الأجر متسبب عن الإنفاق في سبيل الله.
وقال في الجملة الثانية وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أى: لا خوف عليهم من أى عذاب لأنهم في مأمن من عذاب الله بسبب ما قدموا من عمل صالح.
وقال في الجملة الثالثة: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أى لا يصيبهم ما يؤدى بهم إلى الحزن والهم والغم، لأنهم دائما في اطمئنان يدفع عنهم الهموم والأحزان وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها أن على بن أبى طالب كان يملك أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا وبدرهم سرا، وبدرهم علانية فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما حملك على ذلك؟ فقال:
أريد أن أكون أهلا لما وعدني ربي. فقال صلّى الله عليه وسلّم: لك ذلك» فأنزل الله هذه الآية «١».
والحق أن هذه الرواية وغيرها لا تمنع عمومها، فهي تنطبق على كل من بذل ماله في سبيل الله في عموم الأوقات والأحوال.
أما بعد: فهذه أربع عشرة آية بدأت من قوله- تعالى- مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ... وانتهت بقوله- تعالى-: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ....
والذي يقرأ هذه الآيات الكريمة بتدبر وتعقل يراها قد حضت الناس على الإنفاق في سبيل الله بأبلغ الأساليب، وأحكم التوجيهات، وأفضل الوسائل، كما يراها بينت أحكام الصدقة وآدابها، والآفات التي تذهب بخيرها وضربت الأمثال لذلك، كما يراها قد بينت أنواعها، وطريقة أدائها، وأولى الناس بها ورسمت صورة كريمة للفقراء المتعففين، وكما بدأت الآيات حديثها بالثناء الجميل على المتفقين فقد ختمته أيضا بالثناء عليهم وبالعاقبة الحسنى التي أعدها الله لهم.
ولو أن المسلمين أخذوا بتوجيهات هذه الآيات لعمتهم السعادة في دنياهم، ولنالوا رضا الله ومثوبته في أخراهم.
وبعد هذه الصورة المشرقة التي ساقها القرآن عن النفقة والمنفقين أتبعها بصورة مضادة لها
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٥ الى ٢٨١]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ | استئناف قصد به الترهيب من تعاطى الربا، بعد الترغيب في بذل الصدقة لمستحقيها. |
والأكل في الحقيقة. ابتلاع الطعام، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص وهو المراد هنا. وعبر عن التعامل بالربا بالأكل، لأن معظم مكاسب الناس تنفق في الأكل.
والربا في اللغة: الزيادة مطلقا، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد ونما، ومنه قوله- تعالى-:
وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ... أى: زادت.
وهو في الشرع: - كما قال الآلوسى- عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال.
وقوله: يَتَخَبَّطُهُ: من التخبط بمعنى الخبط وهو الضرب على غير استواء واتساق. يقال:
خبطته أخبطه خبطا أى ضربته ضربا متواليا على أنحاء مختلفة. ويقال: تخبط البعير الأرض إذا ضربها بقوائمه ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدى فيه يخبط خبط عشواء. قال زهير بن أبى سلمى في معلقته:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب | تمته ومن تخطى يعمر فيهرم |
والمعنى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أى يتعاملون به أخذا وإعطاء لا يَقُومُونَ يوم القيامة للقاء الله إلا قياما كقيام المتخبط المصروع المجنون حال صرعه وجنونه، وتخبط الشيطان له، وذلك لأنه يقوم قياما منكرا مفزعا بسبب أخذه الربا الذي حرم الله أخذه.
وهنا نحب أن نوضح أمرين:
أما الأمر الأول: فهو أن جمهور المفسرين يرون أن هذا القيام المفزع للمرابين يكون يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم كما أشرنا إلى ذلك.
قال الآلوسى: وقيام المرابى يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار، فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إياك والذنوب التي لا تغفر. الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة، وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط» ثم قرأ الآية، وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه، ولعل الله- تعالى- جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له... ثم قال. وقال ابن عطية: المراد تشبيه المرابى في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة: قد جن، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة ولما روى عن رسول صلّى الله عليه وسلّم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات» «١».
والذي نراه أنه لا مانع من أن تكون الآية تصور حال المرابين في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا في قلق مستمر، وانزعاج دائم، واضطراب ظاهر بسبب جشعهم وشرههم في جمع المال، ووساوسهم التي لا تكاد تفارقهم وهم يكفرون في مصير أموالهم.... ومن يتتبع أحوال بعض المتعاملين بالربا يراهم أشبه بالمجانين في أقوالهم وحركاتهم. أما في الآخرة فقد توعدهم الله- تعالى- بالعقاب الشديد، والعذاب الأليم.
وقد رجح الإمام الرازي أن الآية الكريمة تصور حال المرابى في الدنيا والآخرة فقال ما ملخصه: «إن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطا... وآكل الربا بلا شك أنه يكون مفرطا في حب الدنيا متهالكا فيها، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك حجابا بينه وبين الله- تعالى-، فالخبط الذي كان حاصلا له في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذل الحجاب، وهذا التأويل أقرب عندي من غيره» «٢».
وأما الأمر الثاني: فهو أن جمهور المفسرين يرون أيضا أن التشبيه في الآية الكريمة على
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٩٦.
ولكن الزمخشري ومن تابعه ينكرون ذلك، ويرون أن كون الصرع أو الجنون من الشيطان باطل لأنه لا يقدر على ذلك، فقد قال الزمخشري في تفسيره: وتخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع. والمس الجنون، ورجل ممسوس- أى مجنون-. وهذا أيضا من زعماتهم، وأن الجنى يمسسه فيختلط عقله، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن، ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات» «١».
ومن العلماء الذين تصدوا للرد على الزمخشري ومن تابعه الإمام القرطبي فقد قال: «وفي هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس. وقد روى النسائي عن أبى اليسر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو فيقول: اللهم إنى أعوذ بك من التردي والغرق والهدم والحريق، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا» «٢».
وقال الشيخ أحمد بن المنير: ومعنى قول الزمخشري أن تخبط الشيطان من زعمات العرب، أى من كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها، كما يقال في الغول والعنقاء ونحو ذلك. وهذا القول من تخبط- الشيطان بالقدرية- أى المعتزلة- في زعماتهم المردودة بقواطع الشرع، ثم قال: واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشارع عنها، والقدرية ينكرون كثيرا مما يزعمونه مخالفا لقواعدهم.. من ذلك السحر، وخبطة الشيطان، ومعظم أحوال الجن. وإن اعترفوا بشيء من ذلك فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة وينبئ عنه ظاهر الشرع في خيط طويل لهم، «٣» والذي نراه أن ما عليه جمهور العلماء من أن التشبيه على الحقيقة هو الحق، لأن الشيطان قد يمس الإنسان فيصيبه بالجنون، ولأنه لا يسوغ لنا أن تؤول القرآن بغير ظاهره بسبب اتجاه دليل عليه.
وقوله: مِنَ الْمَسِّ متعلق بيقومون أى لا يقومون من المس الذي حل بهم بسبب أكلهم الربا إلا كما يقوم المصروع من جنونه.
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ ص ٣٥٥.
(٣) الانتصاف على الكشاف لابن المنير ج ١ ص ٣٢٠ من الكشاف.
واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى الأكل أو إلى العقاب الذي نزل بهم. والمعنى: ذلك الأكل الذي استحلوه عن طريق الربا، أو ذلك العذاب الذي حل بهم والذي من مظاهره قيامهم المتخبط، سببه قولهم إن البيع الذي أحله الله يشابه الريا الذي نتعامل به في أن كلا منهما معاوضة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا قيل إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع، فوجب أن يقال إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه وكانت شبهتهم أنهم قالوا: لو اشترى الرجل الشيء الذي لا يساوى إلا درهما بدرهمين جاز، فكذلك إذا باع درهما بدرهمين؟ قلت:
جيء به على طريق المبالغة. وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا في الحل حتى شبهوا به البيع» «١».
وقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا جملة مستأنفة، وهي رد من الله- تعالى- عليهم، وإنكار لتسويتهم الربا بالبيع.
قال الآلوسى: وحاصل هذا الرد من الله- تعالى- عليهم: أن ما ذكرتم- من أن الربا مثل البيع- قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو من عمل الشيطان، على أن بين البابين فرقا، وهو أن من باع ثوبا يساوى درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابلة شيء من الثواب. وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بدون عوض، ولا يمكن جعل الإمهال عوضا إذ الإمهال ليس بمال في مقابلة المال» «٢».
وقوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ. تفريع على الوعيد السابق في قوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا.. إلخ».
والمجيء بمعنى العلم والبلاغ، والموعظة: ما يعظ الله- تعالى- به عباده عن طريق زجرهم وتخويفهم وتذكيرهم بسوء عاقبة المخالفين لأوامره.
أى: فمن بلغه نهى الله- تعالى- عن الربا، فامتثل وأطاع وابتعد عما نهاه الله عنه، فَلَهُ ما سَلَفَ أى فله ما تقدم قبضه من مال الربا قبل التحريم وليس له ما تقدم الاتفاق عليه ولم بقبضه.. لأن الله- تعالى- يقول بعد ذلك وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ...
(٢) تفسير الآلوسى ج ٣ ص ٥٠.
قال ابن كثير: قوله فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ.. إلخ أى من بلغه نهى الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة لقوله: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وكما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة: «وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين وأول ربا أضع ربا عمى العباس، ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال- تعالى-: فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أى فله ما كان قد أكل من الربا قبل التحريم» «١».
و «من» في قوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ شرطية وهو الظاهر، ويحتمل أن تكون موصولة.
وعلى التقديرين فهي في محل رفع بالابتداء، وقوله: فَلَهُ ما سَلَفَ هو الجزاء أو الخبر، ومَوْعِظَةٌ فاعل جاء، وسقطت التاء من الفعل للفصل بينه وبين الفاعل أو تكون الموعظة هنا بمعنى الوعظ فهي في معنى المذكر وقوله: مِنْ رَبِّهِ جار ومجرور متعلق بجاءه، أو بمحذوف وقع صفة لموعظة وفي قوله: مِنْ رَبِّهِ تفخيم لشأن الموعظة، وإغراء بالامتثال والطاعة لأنها صادرة من الله- تعالى- المربى لعباده.
وفي هذه الجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر السماحة فيما شرعه الله لعباده، لأنه- سبحانه- لم يعاقب المرابين على ما مضى من أمرهم قبل وجود الأمر والنهى، ولم يجعل تشريعه بأثر رجعي بل جعله للمستقبل، إذ الإسلام يجب ما قبله. فما أكله المرابى قبل تحريم الربا فلا عقاب عليه فيه وهو ملك له، إلا أنه ليس له أن يتعامل به بعد التحريم، وإذا تعامل به فلن تقبل توبته حتى يتخلص من هذا المال الناتج عنه الربا.
ولقد توعد الله- تعالى- من يعود إلى التعامل بالربا بعد أن حرمه الله- تعالى- فقال وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
أى ومن عاد إلى التعامل بالربا بعد أن نهى الله عنه فأولئك العائدون هم أصحاب النار الملازمون لها، والماكثون فيها بسبب تعديهم لما نهى الله عنه.
وفي هذه الجملة الكريمة تأكيد للعقاب النازل بأولئك العائدين بوجوه من المؤكدات منها:
التعبير فيها بأولئك التي تدل على البعيد فهم بعيدون عن رحمة الله، والتعبير بالجملة الاسمية التي تفيد الدوام والاستمرار والتعبير، بكلمة أصحاب الدالة على الملازمة والمصاحبة، وبكلمة
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة المرابين، وحسن عاقبة المتصدقين فقال: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ والمحق: النقصان والإزالة للشيء حالا بعد حال، ومنه محاق القمر، أى انتقاصه في الرؤية شيئا فشيئا حتى لا يرى، فكأنه زال وذهب ولم يبق منه شيء.
أى: أن المال الذي يدخله الربا يمحقه الله، ويذهب بركته، أما المال الذي يبذل منه صاحبه في سبيل الله فإنه- سبحانه- يباركه وينميه ويزيده لصاحبه.
قال الإمام الرازي عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: اعلم أنه لما كان الداعي إلى التعامل بالربا تحصيل المزيد من الخيرات، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان المال، لما كان الأمر كذلك بين- سبحانه- أن الربا، وإن كان زيادة في الحال إلا أنه نقصان في الحقيقة، وأن الصدقة وإن كانت نقصانا في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى، واللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضى به الطبع والحس والدواعي والصوارف، بل يعول على ما أمر به الشرع.
ثم قال: واعلم أن محق الربا وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة. أما محق الربا في الدنيا فمن وجوه:
أحدها: أن الغالب في المرابى وإن كثر ماله أن تؤول عاقبته إلى الفقر، وتزول البركة عنه، ففي الحديث: الربا وإن كثر فإلى قل.
وثانيها: إن لم ينقص ماله فإن عاقبته الذم والنقص وسقوط العدالة وزوال الأمانة.
وثالثها: إن الفقراء يلعنونه ويبغضونه بسبب أخذه لأموالهم...
ورابعها: أن الأطماع تتوجه إليه من كل ظالم وطماع بسبب اشتهاره أنه قد جمع ماله من الربا ويقولون: إن ذلك المال ليس له في الحقيقة فلا يترك في يده.
وأما أن الربا مسبب للمحق في الآخرة فلوجوه منها أن الله- تعالى- لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ولا صلة رحم- كما قال ابن عباس-، ومنها أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت بل الباقي هو العقاب وذلك هو الخسران الأكبر.
وأما إرباء الصدقات في الدنيا فمن وجوه: منها: أن من كان لله كان الله له، ومن أحسن إلى عباد الله أحسن الله إليه وزاده من فضله، ومنها أن يزداد كل يوم في ذكره الجميل وميل القلوب إليه، ومنها أن الفقراء يدعون له بالدعوات الصالحة وتنقطع عنه الأطماع.
ففي هذه الجملة الكريمة بشارة عظيمة للمتصدقين، وتهديد شديد للمرابين ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ.
وكَفَّارٍ فعيل بمعنى فاعل فهي صيغة مبالغة من آثم، والأثيم هو المكثر من ارتكاب الآثام المبطئ عن فعل الخيرات.
أى: أن الله- تعالى- لا يرضى عن كل من كان شأنه الستر لنعمه والجحود لها، والتمادي في ارتكاب المنكرات، والابتعاد عن فعل الخيرات.
وقد جمع- سبحانه- بين الوصفين للإشارة إلى أن إيمان المرابين ناقص إن لم يستحلوه وهم كفار إن استحلوه، وهم في الحالتين آثمون معاقبون، يعيدون عن محبة الله ورضاه. وسيعاقب- سبحانه- الناقصين في إيمانهم، والكافرين به بما يستحقون من عقوبات.
فالجملة الكريمة تهديد شديد لمن استحلوا الربا، أو فعلوه مع عدم استحلالهم له.
وبعد هذا التهديد الشديد للمتعاملين بالربا، ساق- سبحانه- آية فيها أحسن البشارات للمؤمنين الصادقين فقال- تعالى-:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أى إيمانا كاملا بكل ما أمر الله به وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أى الأعمال الصالحة التي تصلح بها نفوسهم والتي من جملتها الإحسان إلى المحتاجين، والابتعاد عن الربا والمرابين وَأَقامُوا الصَّلاةَ بالطريقة التي أمر الله بها، بأن يؤدوها في أوقاتها بخشوع واطمئنان وَآتَوُا الزَّكاةَ أى أعطوها لمستحقيها بإخلاص وطيب نفس.
هؤلاء الذين اتصفوا بكل هذه الصفات الفاضلة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أى لهم ثوابهم الكامل عند خالقهم ورازقهم ومربيهم.
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يوم الفزع الأكبر وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لأى سبب من الأسباب، لأن ما هم فيه من أمان واطمئنان ورضوان من الله- تعالى- يجعلهم في فرح دائم، وفي سرور مقيم.
ثم ينتقل القرآن إلى أسلوب الخطاب المباشر للمؤمنين فيأمرهم بتقوى الله، وينهاهم عن التعامل بالربا فيقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أى اخشوه وصونوا أنفسكم عن الأعمال
وقوله: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا أى: اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا ولا تأخذوا منهم إلا رءوس أموالكم فحسب، فهذا مقابل لقوله- تعالى- قبل ذلك: فَلَهُ ما سَلَفَ أى ما سلف قبضه من الربا قبل نزول الآية فهو لكم، وما لم تقبضوه فأنتم مأمورون بتركه.
وقوله: مِنَ الرِّبا متعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل بَقِيَ أى اتركوا الذي بقي حال كونه بعض الربا، ومن للتبعيض. أو متعلق ببقى.
وذَرُوا فعل أمر- بوزن علوا- مبنى على حذف النون والواو فاعل، وأصله «وذروا» فحذفت فاؤه، والماضي منه «وذر».
وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حض لهم على ترك الربا أى إن كنتم مؤمنين حق الإيمان فامتثلوا أمر الله وذروا ما بقي من الربا مما زاد على رءوس أموالكم.
قال ابن كثير: نزل هذا السياق في بنى عمرو بن عمير بن ثقيف، وبنى المغيرة من بنى مخزوم كان بينهم ربا في الجاهلية فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم فتشاوروا. وقالت بنو المغيرة: لا نؤدى في الإسلام، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- فنزلت هذه الآية، فكتب بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه. فقالوا نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا فتركوه كلهم. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لكل من استمر على تعاطى الربا بعد الإنذار» «١» ثم هدد الله- تعالى كل من يتعامل بالربا تهديدا عنيفا فقال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
أى: فإن لم تتركوا الربا وأخذتم منه شيئا بعد نهيكم عن ذلك، فكونوا على علم ويقين بحرب كائنة من الله- تعالى- ورسوله، ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبدا.
وقوله: فَأْذَنُوا من أذن بالشيء يأذن إذا علمه. وقرئ فآذنوا من آذنه الأمر وآذنه به:
أعلمه إياه: أى أعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله.
وتنكير «حرب» للتهويل والتعظيم أى فكونوا على علم ويقين من أن حربا عظيمة ستنزل عليكم من الله ورسوله.
قال بعضهم: والمراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب. وقال آخرون: المراد نفس الحرب بمعنى أن الإصرار على عمل الربا إن كان من شخص وقدر عليه الإمام قبض عليه
وقال ابن عباس: من تعامل بالربا يستتاب فإن تاب فبها وإلا ضرب عنقه «١».
ثم بين- سبحانه- ما يجب عليهم عند توبتهم عن التعامل بالربا فقال: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ.
أى: وإن تبتم عن التعامل بالربا الذي يوجب الحرب عليكم من الله ورسوله، فلكم رءوس أموالكم أى أصولها بأن تأخذوها ولا تأخذوا سواها، وبذلك لا تكونون ظالمين لغرمائكم، ولا يكونون ظالمين لكم، لأن من أخذ رأس ماله بدون زيادة كان مقسطا ومتفضلا، ومن دفع ما عليه بدون إنقاص منه كان صادقا في معاملته.
ثم أمر الله- تعالى- الدائنين أن يصبروا على المدينين الذين لا يجدون ما يؤدون منه ديونهم فقال- تعالى-: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ.
والعسرة: اسم من الإعسار وهو تعذر الموجود من المال يقال: أعسر الرجل إذا صار إلى حالة العسرة وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال.
والنظرة: اسم من الإنظار بمعنى الإمهال. يقال: نظره وانتظره وتنظره، تأنى عليه وأمهله في الطلب.
والميسرة: مفعلة من اليسر الذي هو ضد الإعسار. يقال: أيسر الرجل فهو موسر إذا اغتنى وكثر ماله وحسنت حاله.
والمعنى: وإن وجد مدين معسر فأمهلوه في أداء دينه إلى الوقت الذي يتمكن فيه من سداد ما عليه من ديون، ولا تكونوا كأهل الجاهلية الذين كان الواحد منهم إذا كان له دين على شخص وحل موعد الدين طالبه بشدة وقال له: إما أن تقضى وإما أن تربى أى تدفع زيادة على أصل الدين.
وكانَ هنا الظاهر أنها تامة بمعنى وجد أو حدث، فتكتفى بفاعلها كسائر الأفعال. وقيل يجوز أن تكون ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود إلى المدين وإن لم يذكر وذلك على قراءة ذا عسرة بالنصب وقوله: فَنَظِرَةٌ الفاء جواب الشرط. ونظرة خبر لمبتدأ محذوف أى فالأمر أو فالواجب أو مبتدأ محذوف الخبر أى فعليكم نظرة.
ثم حبب- سبحانه- إلى عباده التصدق بكل أو ببعض ما لهم من ديون على المدينين
أى: وأن تتركوا للمعسر كل أو بعض ما لكم عليه من ديون وتتصدقوا بها عليه، فإن فعلكم هذا يكون أكثر ثوابا لكم من الإنظار.
وجواب الشرط في قوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ محذوف. أى إن كنتم تعلمون أن هذا التصدق خير لكم فلا تتباطؤا في فعله، بل سارعوا إلى تنفيذه فإن التصدق بالدين على المعسر ثوابه جزيل عند الله- تعالى-.
وقد أورد بعض المفسرين جملة من الأحاديث النبوية التي تحض على إمهال المعسر، والتجاوز عما عليه من ديون.
ومن ذلك ما أخرجه مسلّم في صحيحه عن أبى قتادة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة».
وروى الطبراني عن أسعد بن زرارة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظلله فلييسر على معسر أو ليضع عنه».
وروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر» «١».
ثم ساق- سبحانه- في ختام حديثه على الربا آية كريمة ذكر الناس فيها بزوال الدنيا وفناء ما فيها من أموال، وبالاستعداد للآخرة وما فيها من حساب فقال- تعالى-: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
أى: واحذروا أيها المؤمنون يوما عظيما في أهواله وشدائده، وهو يوم القيامة الذي تعودون فيه إلى خالقكم فيحاسبكم على أعمالكم، ثم يجازى- سبحانه- كل نفس بما كسبت من خير أو شر بمقتضى عدله وفضله، ولا يظلم ربك أحدا.
فالآية الكريمة تعقيب حكيم يتناسب كل التناسب مع جو المعاملات والأخذ والعطاء، حتى يبتعد الناس عن كل معاملة لم يأذن بها الله- تعالى-.
قال الآلوسى: أخرج غير واحد عن ابن عباس أن هذه الآية هي آخر ما نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن. واختلف في مدة بقائه بعدها. فقيل: تسع ليال. وقيل: سبعة أيام. وقيل:
واحدا وعشرين يوما. وروى أنه قال: اجعلوها بين آيات الربا وآية الدين... » «٢».
(٢) تفسير الآلوسى ج ٣ صفحة ٥٤.
وقد تكلم الفقهاء «١» وبعض المفسرين عن الربا وأقسامه وحكمة تحريمه كلاما مستفيضا، قال بعضهم: الربا قسمان: ربا النسيئة، وربا الفضل.
فربا النسيئة: هو الذي كان معروفا بين العرب في الجاهلية، وهو أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوه في موعد معين، فإذا حل الأجل طولب المدين برأس المال كاملا، فإن تعذر الأداء زادوا في الحق وفي الأجل.
وربا الفضل: أن يباع درهم بدرهمين، أو دينار بدينارين، أو رطل من العسل برطلين، أو كيلة من الشعير بكيلتين.
وكان ابن عباس في أول الأمر لا يحرم إلا ربا النسيئة وكان يجوز ربا الفضل اعتمادا على ما روى من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما الربا في النسيئة» ولكن لما تواتر عنده الخبر بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد» رجع عن قوله. لأن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الربا في النسيئة» محمول على اختلاف الجنس فإن النسيئة حينئذ تحرم ويباح التفاضل كبيع الحنطة بالشعير. تحرم فيه النسيئة ويباح التفاضل.
ولذلك وقع الاتفاق على تحريم الربا في القسمين: أما ربا النسيئة فقد ثبت تحريمه بالقرآن كما في قوله- تعالى-: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا.
وأما ربا الفضل فقد ثبت تحريمه بالحديث الصحيح الذي رواه عبادة ابن الصامت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير والتمر بالتمر.
والملح بالملح. مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كانت يدا بيد».
وقد اشتهرت رواية هذا الحديث حتى صارت مسلمة عند الجميع. وجمهور العلماء على أن الحرمة ليست مقصورة على هذه الأشياء الستة، بل تتعداها إلى غيرها مما يتحد معها في العلة.
وقد فسر بعضهم هذه العلة باتحاد الجنس والقدر..» «٢».
(٢) تفسير آيات الأحكام- بتصرف وتلخيص- للشيخ محمد على السائس ج ١ صفحة ١٦١.
ومن الأحاديث الشريفة التي وردت في التحذير من تعاطى الربا ما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: اجتنبوا السبع الموبقات- أى المهلكات- قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات».
وأخرج مسلّم في صحيحه عن جابر بن عبيد الله قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه».
وبعد أن أمر- سبحانه- المؤمنين أن يسارعوا في التصدق على المحتاجين، وأن يجتنبوا الربا والمرابين، وبين لهم أن أموالهم تزكو وتنمو بالإنفاق في وجوه الخير، وتمحق وتذهب بتعاطى الربا، بعد أن وضح كل ذلك ساق لهم آية جامعة، متى اتبعوا توجيهاتها استطاعوا أن يحفظوا أموالهم بأفضل طريق، وأشرف وسيلة، وأن يصونوها عن الهلاك والضياع عند ما يعطى أحدهم أخاه شيئا من المال على سبيل الدين أو القرض الحسن المنزه عن الربا. استمع إلى القرآن وهو يتكلم عن أحكام الدين وعن أحكام بعض المعاملات التجارية الحاضرة فيقول:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)قال ابن كثير: قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ هذا إرشاد منه- تعالى- لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها، وقد نبه على ذلك في آخر الآية حيث قال: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا وروى البخاري عن ابن عباس أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله وأذن فيه ثم قرأ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ. الآية. وثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» «١».
ومعنى تَدايَنْتُمْ: تعاملتم بالدين وداين بعضكم بعضا. وحقيقة الدين- كما يقول القرطبي- «عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا، والدين ما كان غائبا» «٢».
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ صفحة ٣٧٧.
أجل الشيء يأجل إذا تأخر والآجل نقيض العاجل.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا عامل بعضكم بعضا بالدين إلى وقت معين فاكتبوا هذا الدين، لأن في هذه الكتابة حفظا له، وضبطا لمقداره، ومنعا للتنازع من أن يقع بينكم.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا قيل: إذا تداينتم إلى أجل مسمى، وأى حاجة إلى ذكر الدين؟ قلت: ذكر- لفظ الدين- ليرجع الضمير إليه في قوله: فَاكْتُبُوهُ إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين، فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال. فإن قلت: ما فائدة قوله: مُسَمًّى قلت: ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام. ولو قال: إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج لم يجز لعدم التسمية» «١».
وجمهور العلماء على أن الأمر في قوله «فاكتبوه» للندب، ولأن الله- تعالى- قد قال بعد ذلك فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يلزم الدائنين بكتابة ديونهم، ولا المدينين بأن يكتبوها.
وقال الظاهرية: إن الأمر هنا للوجوب، ومن لم يفعل ذلك كان آثما، لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب..
وقوله: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها عقب الأمر بها على سبيل الإجمال.
أى: عليكم أيها المؤمنون إذا تعاملتم بالدين إلى أجل معين أن تكتبوا هذا الدين، وليتول الكتابة بينكم شخص يجيدها وعنده فقهها وعلمها، بأن يكون على معرفة بشروط العقود وتوثيقها، وما يكون من الشروط موافقا لشريعة الإسلام وما يكون منها غير موافق، وعلى هذا الكاتب أن يلتزم الحق مع الدائن والمدين في كتابته، لأن الله- تعالى- يقول: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. فالجملة الكريمة تحض المتعاملين بالدين أن يختاروا لكتابته شخصا تتوفر فيه إجادة الكتابة، والخبرة بشروط العقود وتوثيقها، كما تتوفر فيه الاستقامة وتحرى الحق. ومفعول يَكْتُبَ محذوف ثقة بانفهامه أى وليكتب بينكم الكتابة كاتب بالعدل. والتقييد بالظرف بينكم للإيذان بأنه ينبغي للكاتب ألا يسمح لنفسه بأن ينفرد به أحد المتعاقدين، لأن في هذا الانفراد تهمة يجب أن يربأ بنفسه عنها.
وليكتب بالحق.
ثم نهى الله- تعالى- من كان قادرا على الكتابة عن الامتناع عنها متى دعى إليها فقال:
وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ.
أى: ولا يمتنع كاتب من أن يكتب للمتداينين ديونهما بالطريقة التي علمه الله إياها أن يتحرى العدل والحق في كتابته، وأن يلتزم فيها ما تقتضيه أحكام الشريعة الإسلامية.
فالكاف في قوله- تعالى-: كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ نعت لمصدر محذوف والتقدير: فليكتب كتابة مثل ما علمه الله- تعالى- بمعنى أن يلتزم الحق والعدل فيها.
ويجوز أن تكون الكاف للتعليل فيكون المعنى: لا يمتنع عن الكتابة لأنه كما علمه الله إياها ويسرها له ونفعه بها، فعليه أن ينفع غيره بها، فهو كقوله- تعالى-: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وفي الحديث الشريف «إن من الصدقة أن تعين صانعا أو تصنع لأخرق» وفي حديث آخر: «من كتم علما يعلمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» «١».
وقوله: فَلْيَكْتُبْ تفريع على قوله «ولا يأب كاتب» أى: فليكتب الكتابة التي علمه الله إياها فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ. ويجوز أن يكون توكيدا للأمر الصريح في قوله: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ.
قال القرطبي: واختلف الناس في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد. فقال الطبري: واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب. وقال الحسن: ذلك واجب عليه في الموضع الذي لا يقدر فيه على كاتب غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع، فإن كان كذلك فهو فريضة، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام بها غيره» «٢».
وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد قررت مبدأ الكتابة في الدين، وبينت كيفية الكتابة، وأشارت إلى إجادة الكاتب لها، ونهته عن الامتناع عنها إذا دعى إليها. ثم انتقلت الآية بعد ذلك إلى بيان من يتولى الإملاء فقال- تعالى-: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً.
والإملال معناه الإملاء. فهما لغتان معناهما واحد. وقد جاء القرآن باللغتين قال- تعالى-: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ ص ٣٨٥.
وقد أمر الله- تعالى- بأن يكون الذي يملى على الكاتب هو المدين لأنه هو المكلف بأداء مضمون الكتابة، ولأنه بإملائه يكون قد أقر على نفسه بما عليه، ولأنه لو أفلس الدائن فربما يزيد في الدين، أو يملى شيئا ليس محل اتفاق بينه وبين المدين، ولأن المدين في الغالب في موقف ضعيف فأعطاه الله- تعالى- حق الإملاء على الكاتب حتى لا يغبن من الدائن.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد مكن المدين من الإملاء على الكاتب حتى تكون الكتابة تحت سمعه وبصره وباختياره، ولكنه في الوقت نفسه أوجب عليه أمرين: تقوى الله وعدم الانقاص من الدين الذي عليه، وإن ذلك لتشريع عادل حكيم لا ظلم فيه لا للدائن ولا للمدين.
ثم بين- سبحانه- الحكم فيما إذا كان الذي عليه الدين لا يحسن الإملاء فقال- تعالى-:
فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وهو المدين سَفِيهاً أى جاهلا بالإملاء أو ناقص العقل، أو متلافا مبذرا لا يحسن تدبير أمره».
أَوْ ضَعِيفاً بأن يكون صبيا أو شيخا تقدمت به الشيخوخة.
أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ بأن يكون عييا أو أخرس أو لا خبرة له بإملاء أمثال هذه المكاتبات.
فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ أى فعلى ولى أمره أو من يهمه شأنه ولا يرضى له أن يضيع حقه أن يتولى الإملاء متحريا الحق والعدل فيما يكلف به.
وبعد هذا البيان الحكيم عن الكتابة وأحكامها في شأن الديون، انتقل القرآن إلى الحديث عن الإشهاد فقال- تعالى-: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ أى: اطلبوا شاهدين عدلين من الرجال ليشهدوا على ما يجرى بينكم من معاملات مؤجلة، لأن هذا الإشهاد يعطى الديون والكتابة توثيقا وتثبيتا. والسين والتاء في قوله: «واستشهدوا» للطلب.
قال الآلوسى: «وفي اختيار صيغة المبالغة في شَهِيدَيْنِ للإيماء إلى من تكررت منه الشهادة، فهو عالم بها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزا إلى العدالة، لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك. والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف على ذلك» «١».
ثم بين- سبحانه- الحكم إذا لم يتيسر شاهدان من الرجال فقال: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ.
وقوله: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ متعلق بمحذوف على أنه صفة لرجل وامرأتان. أى فإن لم يتيسر رجلان للشهادة فليشهد رجل وامرأتان كائنون مرضيون عندكم بعدالتهم.
وهذا الوصف وإن كان في جميع الشهود إلا أنه ذكر هنا للتشديد في اعتباره، لأن اتصاف النساء به قد لا يتوفر كثيرا.
وقوله: مِنَ الشُّهَداءِ متعلق بمحذوف حال من الضمير المفعول المقدر في تَرْضَوْنَ العائد إلى الموصول: أى فليشهد رجل وامرأتان ممن ترضونهم حال كونهم من بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم، وثقتكم بهم.
وقوله- تعالى-: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أدق في الدلالة على صدق الشهادة من العدالة، لأن الإنسان العدل قد يكون مرضيا في دينه وخلقه ولكنه قد يتأثر بالمشاهد المؤثرة فتخونه ذاكرته في وقت الحاجة إليها، أو قد يكون ممن يمنعه منصبه وجاهه ومقامه في الناس من الكذب إلا أنه قد يرتكب بعض المعاصي، فجاء- سبحانه- بهذه الجملة الحكيمة لكي يقول للناس. اختاروا الشهداء من الذين يرتضى قولهم، ويقيمون الشهادة على وجهها الحق بدون التأثر بأى نوع من أنواع المؤثرات.
هذا، وشهادة النساء مع الرجال تجوز عند الحنفية في الأموال والطلاق والنكاح والرجعة وكل شيء إلا الحدود والقصاص. وعند المالكية تجوز في الأموال وتوابعها خاصة، ولا تقبل في أحكام الأبدان مثل الحدود والقصاص والنكاح والطلاق والرجعة.
ثم بين- سبحانه- العلة في أن المرأتين تقومان مقام الرجل في الشهادة فقال: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى.
قال القرطبي: معنى تضل تنسى، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء، ويبقى المرء حيران بين ذلك ضالا» «١».
والمعنى: جعلنا المرأتين بدل رجل واحد في الشهادة، خشية أن تنسى إحداهما فتذكر كل
والعلة في الحقيقة هي التذكير، ولكن الضلال لما كان سببا في التذكير، نزل منزلة العلة.
وذلك كأن تقول: أعددت السلاح خشية أن يجيء العدو فأدفعه، فإن العلة هي الدفاع عن النفس، ولكن لما كان مجيء العدو سببا فيه نزل منزلته.
وكما أمر الله- تعالى- الكتاب في أول الآية بعدم الامتناع عن الكتابة أمر الشهود أيضا بعدم الامتناع عن الشهادة فقال- تعالى-: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا أى: ولا يمتنع الشهود عن أداء الشهادة وتحملها متى دعوا إليها، لأن الامتناع عن تحمل الشهادة وأدائها قد يؤدى إلى ضياع الحقوق. والله- تعالى- قد شرع الشهادة لإحقاق الحق، ونشر العدل بين الناس، فعلى من اشتهروا بالعدالة ووثق الناس بهم أن يؤدوا الشهادة كما أمرهم الله- تعالى-.
ثم أمر- سبحانه- بكتابة الدين سواء أكبر الدين أم صغر فقال: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ.
السأم: الضجر والملل. يقال: سئمت الشيء أسأمه سأما وسآمة أى مللته وضجرته.
والمعنى: وعليكم أيها المؤمنون أن لا تملوا من كتابة الدين إلى الوقت المحدد له سواء أكان هذا الدين كبيرا أم صغيرا، لأن الكتابة في الحالتين أدعى إلى حفظ الحقوق وصيانتها، وإلى عدم نشوب التنازع أو التخاصم بينكم، ولأن الدين قد يكون صغيرا في نظر الغنى المليء، إلا أنه كبير في نظر الفقير المعسر، ولأن التهاون في شأن الدين الصغير قد يؤدى إلى التهاون في شأن الدين الكبير، لذا وجب عليكم أن تنقادوا لشرع الله وأن تكتبوا ما بينكم من ديون.
والضمير في قوله: أَنْ تَكْتُبُوهُ يعود إلى الدين أو إلى الحق، وقوله: صَغِيراً أَوْ كَبِيراً حالان من الضمير. أى لا تسأموا أن تكتبوه على كل حال قليلا أو كثيرا، وقدم الصغير على الكبير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى.
ثم بين- سبحانه- ثلاث فوائد تعود عليهم إذا ما امتثلوا ما أمرهم الله- تعالى- به، فقال: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ.
واسم الإشارة ذلِكُمْ يعود إلى كل ما سبق ذكره في الآية من الكتابة والإشهاد ومن عدم الامتناع عنهما، ومن تحرى الحق والعدل.
وأَقْسَطُ بمعنى أعدل. يقال: أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطا إذا عدل فهو مقسط.
أى: ذلكم الذي شرعناه لكم في أمر الديون من الكتابة والإشهاد وغيرهما أعدل في علم الله- تعالى-، وكل ما كان كذلك فهو الأعدل والأفضل والأحكم في ذاته، لأنه- سبحانه- هو الأعلم بما فيه مصلحتكم فاستجيبوا له، وتلك هي الفائدة الأولى.
أما الفائدة الثانية فهي قوله- سبحانه-: وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ ومعنى أَقْوَمُ أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج. أى: أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها.
وأما الفائدة الثالثة فهي قوله: وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أى: أقرب إلى زوال الشك والريبة.
أى أن الأوامر والنواهي السابقة إذا نفذت على وجهها كان تنفيذها أعدل في علم الله- تعالى- وأعون على إقامة الشهادة إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ، وأقرب إلى عدم الشك في جنس الدين وقدره وأجله، وإذا توفرت هذه الفوائد الثلاث في المعاملات ساد الوفاق والتعاون بين الناس، أما إذا فقدت فإن الثقة تزول من بينهم، ويحل محلها النزاع والشقاق.
ثم أباح- سبحانه- في التجارة الحاضرة عدم الكتابة فقال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها.
والتجارة الحاضرة التي تدور بين التجار: هي التي يجرى فيها التقابض في المجلس أو التي يتأخر فيها الأداء زمنا يسيرا. وسميت حاضرة، لأن المبيع والثمن كلاهما حاضر.
والمعنى: أن الله- تعالى- يأمركم بكتابة الديون وبالإشهاد عليها إلا أنه- سبحانه- رحمة بكم أباح لكم عدم الكتابة في التجارة الحاضرة التي تكثرون إدارتها والتعامل فيها، لأنه لو كلفكم بذلك لشق الأمر عليكم، وهو- سبحانه- ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
ولأن أمثال هذه التجارات التي يحصل فيها التقابض ويكثر تكرارها، لا يتوقع فيها التنازع أو النسيان.
والاستثناء هنا منقطع لأنه ليس هناك دين حتى يكتب، وليست التجارة الحاضرة من جنس التعامل بالديون فكأنه قيل: إذا تداينتم فتكاتبوا وأشهدوا لكن التجارة الحاضرة التي يجرى فيها التقابض لا جناح عليكم في عدم كتابتها.
وقيل: الاستثناء متصل والجملة المستثناة في موضع نصب لأنه استثناء من الجنس، لأنه أمر بالكتابة في كل معاملة واستثنى منها التجارة الحاضرة والتقدير: آمركم بالكتابة والإشهاد في كل معاملة إلا في حال حضور التجارة فلا بأس من ترك الكتابة. وتِجارَةً قرأها الجمهور بالرفع
وقرأها عاصم بالنصب على أنها خبر تكون واسمها ضمير مستتر فيها يعود على التجارة.
أى. إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة.
وقوله- تعالى-: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ أمر منه- سبحانه- بالإشهاد عند البيع، وهذا الأمر للإرشاد والتعليم عند جمهور العلماء. ويرى الظاهرية أنه للوجوب.
قال صاحب الكشاف: هذا أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا ناجزا أو كالئا- أى مؤجلا- لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف. ويجوز أن يراد: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع. يعنى التجارة الحاضرة على أن الإشهاد كاف فيه دون الكتابة، وعن الضحاك: هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل» «١».
ثم نهى- سبحانه- عن المضارة فقال: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ.
والمضارة: إدخال الضرر. والفعل يُضَارَّ يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل، وأن أصله «لا يضارر- بكسر الراء- ويحتمل أن يكون مبنيا للمفعول. وأن أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى.
والمعنى على الأول: نهى الكاتب والشاهد عن أن ينزلا ضررا بأحد المتعاقدين، بأن يبخس الكاتب أحدهما، أو يشهد بغير الحق.
والمعنى على الثاني: وهو الظاهر- نهى الدائن والمدين عن أن ينزل أحدهما ضررا بالكاتب أو الشاهد لحملهما على كتابة غير الحق أو قول غير الحق، فإنهما أمينان، والإضرار بهما قد يحملهما على الخيانة وفي ذلك ضياع للأمانة وذهاب للثقة. ولذا قال- تعالى- بعد ذلك وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ.
أى: وإن تفعلوا ما نهيتم عنه أو تخالفوا ما أمرتم به، فإنكم بذلك تكونون قد خرجتم عن طاعة الله، وتلبستم بمعصيته، وصرتم أهلا لعقوبته، فعليكم أن تقفوا عند حدود الله حتى تتحقق لكم السعادة في دينكم ودنياكم.
ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالأمر بخشيته. وبتذكيرهم بنعمه فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أى: واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فهو- سبحانه- الذي يعلمكم ما يصلح لكم
وبعد: فهذه هي آية الدين التي هي أطول آية في القرآن، تقرؤها فتراها قد اشتملت على أدق التشريعات، وأحكم التوجيهات، وأنجع الإرشادات التي تهدى إلى حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل.
تقرؤها فترى الدقة العجيبة في الصياغة بأن وضع كل لفظ في مكانه المناسب، وترى الطلاوة في التعبير، والعذوبة في الألفاظ بحيث لا تطغى دقة الصياغة على جمال العرض.
وترى الوفاء الكامل، لكل الجوانب التشريعية والاحتراس التام من كل المؤثرات التي قد تؤثر على سلامة التعاقد، والإرشاد الجامع إلى كل ما يضمن وصول الحق والعدل إلى جميع الأطراف بدون محاباة أو غبن.
وترى قبل ذلك وبعد ذلك كيف يسوق القرآن تشريعاته بطريقة تغرس في النفوس الخوف من الله- تعالى- والمراقبة له، والاستجابة لأوامره، لا كطريقة البشر في قوانينهم التي صاغوها في قوالب صماء من الألفاظ لا تشعر معها بتأثير في النفس، ولا باهتزاز في القلب.
ولو لم يكن في شريعة الله سوى هذا التأثير الذي تشعر به النفوس النقية الصافية عند تدبرها لكفاها ذلك دليلا على سموها وفضلها وعلى أنها من صنع الله- تعالى- ولو أن المسلمين أخذوا بها وبتوجيهاتها في سائر شئونهم لظفروا بالسعادتين: الدينية والدنيوية.
ثم بين- سبحانه- ما يحب على المسلمين فعله إذا لم يتمكنوا من كتابة ديونهم بأن كانوا مسافرين وليس معهم كاتب فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٣]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)
الرهان: جمع رهن بمعنى مرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول وقرأ ابن كثير وأبو عمر فرهن مقبوضة وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحبس قال- تعالى-:
والمعنى: وإن كنتم. أيها المؤمنون- مسافرين وتداينتم بدين إلى أجل مسمى، ولم تجدوا كاتبا يكتب لكم ديونكم، أو لم تتيسر لكم أسباب الكتابة لأى سبب من الأسباب، فإنه في هذه الحالة يقوم مقام الكتابة رهان مقبوضة يقبضها صاحب الدين ضمانا لحقه عند تعذر أخذه من الغريم.
وفي التعبير بقوله: عَلى سَفَرٍ استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه. وفيه كذلك إشارة إلى اضطراب الحال، لأن حال المسافر يغلب عليها التنقل وعدم الاستقرار.
وجملة وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً معطوفة على فعل الشرط، أى: وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا، كاتبا فتكون في محل جزم تقديرا. ويجوز أن تكون الواو للحال والجملة بعدها في محل نصب على الحال.
وقوله: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: فالذي يستوثق به رهان مقبوضة.
أو مبتدأ محذوف الخبر والتقدير: فعليكم رهان مقبوضة.
ومن الأحكام التي أخذها الفقهاء من هذه الآية الكريمة: أن تعليق الرهان على السفر ليس لكون السفر شرطا في صحة الرهان، فإن التعامل بالرهان مشروع في حالتي السفر والحضر، وإنما علق هنا على السفر لأنه مظنة تعسر الكتابة لما فيه من التنقل وعدم الاستقرار. وقد ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفى ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير رهنها قوتا لأهله» «١».
ومن الواضح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ما رهن درعه لليهودي كان مقيما ولم يكن مسافرا.
قال القرطبي: ولم يرو عن أحد منع الرهن في الحضر سوى مجاهد والضحاك وداود متمسكين بالآية، ولا حجة فيها لهم، لأن هذا الكلام وإن خرج مخرج الشرط فالمراد به غالب الأحوال. وليس كون الرهن في الآية في السفر مما يحظر في غيره» «٢».
كذلك أخذ بعض الفقهاء من قوله: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ أن الرهن لا يتم إلا بالقبض، فإذا افترق المتعاقدان من غير قبض كان الرهن غير صحيح بنص الآية وهذا مذهب الأحناف
(٢) تفسير القرطبي ج ٣ ص ٤٠٧.
وقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ تفريع على أحكام الديون السابقة، وحض على أداء الأمانة وعلى حسن المعاملة.
أى: فإن أمن الدائن المدين واعتمد على ذمته ووفائه ولم يوثق الدين بالكتابة والشهود والرهن، فعلى المدين أن يكون عند حسن ظن الدائن به بأن يؤدى ما عليه من ديون في الموعد المحدد بدون تسويف أو مماطلة، وعليه كذلك أن يتقى الله ربه في رعاية حقوق غيره فلا يجحدها ولا يتأخر في أدائها لأن الله العليم بكل شيء سيحاسب كل إنسان بما قدمت يداه.
وعبر- سبحانه- بقوله: فَإِنْ أَمِنَ دون أو أودع، للإشارة إلى الجانب الذي اعتمد عليه الدائن في المدين وهو خلق الأمانة، فهو لا يرى فيه إلا جانبا مأمونا لا يتوقع منه شرا أو خيانة، وللتنبيه إلى أن صفة الأمانة والوفاء من الصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون جميعا حتى ينالوا السعادة في دينهم ودنياهم، عبر بقوله: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ ولم يقل فليؤد المدين لحضه: على الأداء بأحسن أسلوب، لأنه ما دام الدائن قد ائتمنه على ما أعطاه من ديون، فعلى هذا الذي اؤتمن وهو المدين أن يكون عند حسن الظن به وأن يرد إليه حقه في موعده مع شكره على حسن ظنه به.
وقوله: أَمانَتَهُ أى دينه. والضمير يصح أن يعود إلى الدائن باعتباره مالك الدين، وإلى المدين باعتبار أن الدين عليه، وفي إضافتها- أى الأمانة- إلى المدين إشعار له بأنها عبء في ذمته يجب أن يؤديه حتى يتخلص من تكاليفه، إذ الأمانة عبء ثقيل عند العقلاء الذين يشعرون بالمسئولية نحو أنفسهم ونحو غيرهم.
وجمع- سبحانه- بين صفتي الألوهية والربوبية في قوله: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ للمبالغة في التحذير من الخيانة والمماطلة فإنهما يغضبان الله- تعالى- الذي خلق الإنسان ورباه وأسبغ عليه نعمه الظاهرة والباطنة، ولإشعار هذا المدين بأن التقوى هي الوثيقة الكبرى التي لا تعدلها وثيقة أخرى من كتابة أو شهادة أو رهان.
وبذلك نرى لونا من ألوان التدرج الحكيم في شريعة الله- تعالى- فأنت ترى أن الله- تعالى- قد بين قبل ذلك أن الكتابة في الديون والإشهاد عليها مطلوبان، فإن تعذرت الكتابة والشهادة لسبب من الأسباب فإنه يترخص حينئذ بالرهن المقبوض.
فيا له من تشريع حكيم، بين للناس ما يصلح شأنهم في دينهم وفي دنياهم.
ثم أمر الله تعالى- عباده بأن يؤدوا الشهادة على وجهها وألا يكتموها فقال- تعالى-:
وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ. أى: وعليكم- أيها المؤمنون- ألا تمتنعوا عن أدائها إذا دعيتم إليها وألا تخفوها فإن الذي يخفيها ويمتنع عن أدائها يكون معاقبا من الله- تعالى- بسبب ارتكابه لما نهى عنه.
وقد أسند- سبحانه- الإثم إلى القلب خاصة مع أن الإثم يسند إلى الشخص، لأن الإثم في كتمان الشهادة عمل القلب لا عمل الجوارح، ولأن القلب أساس كل خير وكل شر، ففي الحديث الشريف: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا اقتصر على قوله فَإِنَّهُ آثِمٌ وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟ قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها. فلما كان إثما مقترنا بالقلب أسند إليه لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني، ووعاه قلبي. ولأن القلب هو رئيس الأعضاء فكأنه قيل: ومن يكتمها فقد تمكن الإثم من أصل نفسه، وملك أشرف مكان فيه: ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام التي تتعلق باللسان فقط. وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه. ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، وهي لها كالأصول التي تتشعب عنها. ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر. وهما من أفعال القلوب فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب.
وقوله: آثِمٌ خبر إن وقَلْبُهُ رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل: فإنه يأثم قلبه. ويجوز أن يرتفع قلبه بالابتداء. وآثم خبر مقدم. والجملة خبر إن والضمير للشأن» «١».
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أى: والله- تعالى- عليم بكل أعمالكم وأقوالكم وسائر شئونكم وسيجازى المحسنين إحسانا، والمسيئين سوءا فعليكم أيها المؤمنون أن تستجيبوا لأوامر الله، وأن تجتنبوا ما نهاكم عنه حتى تكونوا من السعداء.
فالجملة الكريمة تذييل قصد به الوعد الحسن للمؤمنين الصادقين، والوعيد الشديد للعصاة
وبعد هذا البيان الجامع الحكيم لطرق التعامل التي أباحها الله- تعالى- لعباده والتي حرمها عليهم، بين سبحانه- أن ما في السموات والأرض ملك له، وأنه سيحاسب عباده بما يقتضيه علمه الشامل، وإرادته النافذة فقال- تعالى-.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٤]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
وما دام الأمر كذلك فعليكم- أيها المؤمنون- أن تبذلوا نهاية جهدكم في العمل الصالح الذي بين أيديكم إنما هو عارية مستردة، وأن المالك الحقيقي له إنما هو الله رب العالمين، فأنفقوا من هذا المال- الذي هو أمانة بين أيديكم- في وجوه الخير واجمعوه من طريق حلال، وكونوا من القوم العقلاء الصالحين الذين لم تشغلهم دنياهم عن أخراهم، بل كانوا كما قالوا: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
وقوله- سبحانه-: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ بيان لشمول علم الله- تعالى- لما أظهره الإنسان أو أخفاه من أقوال وأعمال، وأنه سيحاسبه على ذلك بما يستحقه من خير أو شر.
والجملة الكريمة صريحة في أن الله- تعالى- يحاسب العباد على نياتهم وما تكسبه قلوبهم سواء أأخفوه أم أظهروه.
وقد بين المحققون من العلماء أن هذه المحاسبة إنما تكون على ما يعزم عليه الإنسان وينويه ويصر على فعله، سواء أنفذ ما اعتزم عليه أم حالت دونه حوائل خارجة عن إرادته: كمن عزم على السرقة واتخذ الوسائل لذلك ولكن لم يستطع التنفيذ لأسباب لم يتمكن معها من السرقة التي أصر عليها.
أما الخواطر النفسية التي تجول في النفس، وتعرض للإنسان دون أن يعزم على تنفيذها، فإنها ليست موضع مؤاخذة، بل إن التغلب عليها، وكفها بعد مكافحتها يجعله أهلا للثواب.
وروى الجماعة في كتبهم عن أبى هريرة قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله تجاوز لي عن أمتى ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم» «٢».
قال الفخر الرازي: الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين: فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، ومنها ما لا يكون كذلك، بل تكون أمورا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس.
فالقسم الأول يكون مؤاخذا به.
والثاني لا يكون مؤاخذا به، ألا ترى إلى قوله- تعالى-: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ «٣».
وقال الآلوسى: المؤاخذة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات، وليس كذلك سائر ما يحدث في النفس- أى من خواطر لا تصميم ولا عزم معها- قال بعضهم:
مراتب القصد خمس هاجس ذكروا | فخاطر فحديث النفس فاستمعا |
يليه هم فعزم كلها رفعت | سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا «٤» |
أى: أنه- سبحانه- بمقتضى علمه الشامل، وإرادته النافذة، يحاسب عباده على ما أسروه وما أعلنوه من أقوال وأعمال، فيغفر بفضله لمن يشاء أن يغفر له، ويعذب بعدله من يشاء أن يعذبه، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه.
وقوله: فَيَغْفِرُ ويعذب، قرأه عاصم وابن عامر ويعقوب وأبو جعفر برفع الراء والباء على
(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٧ صفحة ١٣٤. [.....]
(٤) تفسير الآلوسى ج ٣ صفحة ٦٤.
يُحاسِبْكُمْ.
وقوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته- سبحانه- على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما سبق ذكره من المحاسبة لعباده، وإثابة من يشاء إثابته وتعذيب من يشاء تعذيبه، فهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير.
ثم ختم- سبحانه- سورة البقرة بآيتين كريمتين في أولاهما أن رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم امتداد للرسالات السماوية السابقة وخاتمة لها ومهيمنة عليها، وبين في الثانية أنه- سبحانه- لم يكلف الناس إلا بما في قدرتهم، وأنهم سيحاسبون على أعمالهم، وأن من شأن الأخيار أن يكثروا من التضرع إليه بخالص الدعاء. قال- تعالى-:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨٥ الى ٢٨٦]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)
وقوله: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ استئناف قصد به الإخبار عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بما يشرفهم ويعلى من أقدارهم ومنازلهم.
أى: صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم بما أنزل إليه من ربه في هذه السورة وغيرها من العقائد والأحكام
وقد قرن- سبحانه- إيمان المؤمنين بإيمان رسولهم صلّى الله عليه وسلّم تشريفا لهم وللإشارة إلى أنهم متى صدقوا في إيمانهم كانت منزلتهم عند الله- تعالى- قريبة من منازل الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-.
وفي تأخيرهم في الذكر إشارة إلى تأخر التابع عن المتبوع، وإشارة إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو أول من آمن بما أوحى إليه من ربه، وهو أقوى الناس إيمانا، وأصدقهم يقينا. وأكثرهم استجابه لأوامر الله.
وقوله: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ بيان للإيمان الكامل الذي اعتقدوه وصدقوا به.
أى: كل فريق من هذين الفريقين وهما الرسول والمؤمنون آمن إيمانا تاما بوجود الله- تعالى- ووحدانيته، وكمال صفاته، ووجوب الخضوع والعبادة له، وبوجود الملائكة وأنهم عباد مكرمون لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ كما آمنوا بكتب الله التي أنزلها لسعادة البشر، وبرسله الذين أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
ثم بين- سبحانه- أن من صفات هؤلاء الأخيار أنهم لا يفرقون بين رسل الله- تعالى فقال: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ أى يقولون لا نفرق في الإيمان بين رسل الله- تعالى- وإنما نؤمن بهم جميعا، ونصدق برسالة كل رسول أرسله الله- تعالى- ولا نقول كما قال الضالون نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ.
ثم حكى- سبحانه- ما قالوه مما يدل على صدق إيمانهم، ونقاء نفوسهم وطهارة قلوبهم فقال: «وقالوا سمعنا وأطعنا» أى: وقالوا سمعنا قولك وفهمناه، وامتثلنا أمرك- يا الهنا- واستقمنا عليه، وصبرنا على تكاليفه بكل رضا واستسلام. «غفرانك ربنا» أى اغفر لنا غفرانك الذي هو من فضل رحمتك ونعمك فأنت ربنا وخالقنا والعليم بأحوالنا وبضعفنا.
فقوله: غُفْرانَكَ مصدر منصوب على المفعول المطلق والعامل فيه مقدر أى: اغفر غفرانك. وقوله: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أى: وإليك وحدك المرجع والمآب، ومنك وحدك يكون الحساب والثواب والعقاب، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
وبذلك نرى أن هذه الآية الكريمة قد مدحت الرسول صلّى الله عليه وسلّم مدحا عظيما، ومدحت أتباعه المؤمنين الصادقين لاستجابتهم لأوامر الله ونواهيه، وتضرعهم إليه بخالص الدعاء أن يغفر لهم ما فرط منهم.
فالجملة الكريمة تحكى لنا بعض مظاهر فضل الله علينا ورحمته بنا، حيث كلفنا بما تسعه قدرتنا، وتستطيعه نفوسنا، وقد حكى القرآن هذا المعنى في آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-:
ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وقوله- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً.
وإذا كانت بعض التكاليف التي كلفنا الله بها فيها مشقة، فإن هذه المشقة محتملة وفي وسع الإنسان وقدرته وطاقته، وسيثيبنا الله- تعالى- عليها ثوابا جزيلا، فهو القائل: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ.
ثم بين- سبحانه- أن كل نفس ستجازى بما عملت فقال: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ أى لها وحدها ثواب ما كسبت من حسنات بسبب أعمالها الصالحة، وعليها وحدها عقاب ما اكتسبت من سيئات بسبب أعمالها القبيحة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم خص الخير بالكسب، والشر بالاكتساب؟ قلت. في الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال» «٢».
وقال الأستاذ الإمام محمد عبده: «لا شك أن الميل إلى الخير مما أودع في نفس الإنسان، والإنسان يفعل الخير بطبعه وتكون فيه لذته. ولا يحتاج إلى تكلف في فعل الخير، لأنه يعلم أن كل أحد يرتاح إليه ويراه بعين الرضا وأما الشر فإنه يعرض للنفس بأسباب ليست من طبيعتها ولا من مقتضى فطرتها ومهما كان الإنسان شريرا فإنه لا يخفى عليه أن الشر ممقوت عند الناس وصاحبه مهين عندهم.. وهكذا شأن الإنسان عند اقتراف كل شر يشعر في نفسه بقبحه، ويجد
(٢) تفسير الكشاف ج ١ صفحة ٣٣٢.
وبعد بيان سنة الله- تعالى- في التكليف وفي الجزاء عليه، ختم- سبحانه- السورة الكريمة بتلك الدعوات الجامعات للسعادة حتى يكثر المؤمنون من التضرع بها فقال- تعالى-:
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا أى: ربنا يا واسع العفو والمغفرة لا تؤاخذنا أى لا تعاقبنا إِنْ نَسِينا أمرك ونهيك أَوْ أَخْطَأْنا ففعلنا خلاف الصواب جهلا منا بوجهه الشرعي.
فأنت ترى أن هؤلاء الذين اتقوا ربهم، فصفت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، وخشعت جوارحهم، يتضرعون إلى الله أن يغفر لهم ما فرط منهم نسيانا أو خطأ، وذلك لأن المؤمن عند ما يصل إلى هذه الدرجة من التقوى والصفاء يشعر بأن الله- تعالى- يحاسبه على مالا حساب عليه، ويشعر بأن حسناته- مهما كثرت- فهي قليلة بجانب هفواته وسيئاته، فهو لشدة خشيته من الله يرجح جانب المؤاخذة على جانب العفو فيكثر من الضراعة والدعاء.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله: فإن قلت: النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ قلت:... لأنهم كانوا متقين الله حق تقاته، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ. فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به. كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به، فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان. ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه» «٢».
هذا هو الدعاء الأول الذي حكاه القرآن عن المؤمنين الصادقين.
أما الدعاء الثاني فهو قوله- سبحانه-: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا.
والإصر في اللغة: الثقل والشدة. مأخوذ من أصر بمعنى حبس، فكأنه يحبس صاحبه في مكانه فيمنعه من الحركة.
والمعنى: أن أولئك يضرعون إلى الله- تعالى- ألا يلقى تكاليف وأعباء شديدة، يثقل عليهم حملها ويعجزون عن أدائها، كما كان الحال بالنسبة للذين سبقوهم فقد كلف الله- تعالى- بنى إسرائيل بتكاليف شاقة ثقيلة بسبب تعنتهم وفسوقهم عن أمره، ومن ذلك
(٢) تفسير الكشاف ج ١ صفحة ٣٣٢.
قال الرازي: والمؤمنون إنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير. والتقصير موجب للعقوبة، ولا طاقة لهم بعذاب الله- تعالى- فلا جرم التمسوا السهولة في التكاليف «١».
أما الدعاء الثالث فهو قوله- تعالى-: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ.
الطاقة- كما يقول الراغب-: اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة، وذلك تشبيه بالطوق المحيط، فقوله- تعالى-: لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ أى ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا به» «٢».
فالطاقة على هذا تكون فيما فعله بأقصى القدرة والقوة.
أى: ونسألك يا ربنا ألا تحملنا ما هو فوق طاقتنا وقدرتنا من المصائب والعقوبات وغير ذلك من الأمور التي لا نستطيعها.
وهذا الدعاء هو تدرج مترتب على الدعاء السابق، فهم هنا يلتمسون منه- سبحانه- ألا ينزل بهم ما هو فوق قدرتهم وطاقتهم من بلايا ومحن، بعد أن التمسوا منه ألا يكلفهم بتكاليف شاقة ثقيلة كما كلف الذين من قبلهم.
ثم حكى القرآن دعاءهم الرابع والخامس والسادس فقال: وَاعْفُ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنا، وَارْحَمْنا أى نسألك يا ربنا أن تعفو عنا بأن تمحو عنا ما ألممنا به من ذنوب وتتجاوز عنها، وأن تغفر لنا سيئاتنا بأن تسترها ولا تفضحنا بإظهارها فأنت وحدك الغفار الستار. وأن ترحمنا برحمتك السابقة التي شملت كل شيء، فإننا مع تقصيرنا في طاعتك تأمل ألا تحرمنا من رحمتك فأنت تراهم قد تضرعوا إلى ربهم أن يعفو عنهم بأن يسقط عنهم العقاب وأن يغفر لهم بأن يستر عليهم ذنوبهم فلا يفضحهم بها، وأن يشملهم بعطفه ورحمته.
وهي دعوات تدل على رقة إحساسهم، ونقاء نفوسهم، وشدة خشيتهم من ربهم، وشعورهم نحوه بالتقصير مهما قدموا من أعمال صالحة.
ثم ختموا دعاءهم بقوله- تعالى-: أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أى: أنت مولانا وناصرنا وحافظنا ومعيننا وممدنا بالخير والهدى فانصرنا يا ربنا على القوم الكافرين لكي تكون
(٢) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني صفحة ٣١٢.
وقولهم: أَنْتَ مَوْلانا يدل على نهاية خضوعهم وتذللهم وطاعتهم لله رب العالمين، لأنهم قد اعترفوا بأنه- سبحانه- هو المتولى لكل نعمة يصلون إليها.
قال ابن كثير: وقد ورد في صحيح مسلّم عن النبي: صلّى الله عليه وسلّم- أن الله- تعالى- قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات: قد فعلت.
وروى البخاري والجماعة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه».
وروى الإمام أحمد عن أبى ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي».
وبعد فهذه هي سورة البقرة التي اشتملت على ما يشفى الصدور، ويهدى القلوب، ويصلح النفوس: من توجيهات سامية، وآداب حميدة، وعقائد سليمة، وتشريعات حكيمة، وأمثال هادية، وقصص من شأنه أن يغرس في النفوس الخلق القويم، وأن يغريها بالاتعاظ والاعتبار حتى تكون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
ولقد سبق لنا أن تكلمنا قبل البدء في تفسيرها عن وقت نزولها، وعن فضلها وعن مقاصدها الإجمالية...
والله نسأل أن ينفعنا بها وبكتابه الكريم، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه، ونافعة لعباده.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا وبصائرنا، وجلاء همنا وحزننا، وأعنا على إتمام ما قصدناه بفضلك ورعايتك يا أكرم الأكرمين. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سار على طريقته إلى يوم الدين.
رقم الآية الآية المفسرة رقم الصفحة سورة الفاتحة ١١ ١ بسم الله الرحمن الرحيم ١٥ ٢ الحمد لله رب العالمين ١٧ ٣ الرحمن الرحيم ١٧ ٤ مالك يوم الدين ٢٠ ٥ إياك نعبد وإياك نستعين ٢١ ٦ اهدنا الصراط المستقيم ٢٢ ٧ صراط الذين أنعمت عليهم ٢٤ سورة البقرة ٢٧ ١ الم ٣٧ ٢ ذلك الكتاب لا ريب فيه ٣٩ ٣ الذين يؤمنون بالغيب ٤٢ ٤ والذين يؤمنون بما أنزل إليك ٤٥ ٥ أولئك على هدى من ربهم ٤٦ ٦ إن الذين كفروا سواء عليهم ٤٨ ٧ ختم الله على قلوبهم ٥٠ ٨ ومن الناس من يقول آمنا ٥٣ ٩ يخادعون الله والذين آمنوا ٥٥ ١٠ في قلوبهم مرض فزادهم ٥٦ ١١ وإذا قيل لهم لا تفسدوا ٥٧ ١٢ ألا إنهم هم المفسدون ٥٨ ١٣ وإذا قيل لهم آمنوا ٥٩ ١٤ وإذا لقوا الذين آمنوا ٦٠ ١٥ الله يستهزئ بهم ٦١ ١٦ أولئك الذين اشتروا ٦٢ ١٧ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ٦٣ ١٨ صم بكم عمى فهم لا يرجعون ٦٥ ١٩ أو كصيب من السماء ٦٦ ٢٠ يكاد البرق يخطف أبصارهم ٦٧ ٢١ يا أيها الناس اعبدوا ربكم ٧٠ ٢٢ الذي جعل لكم الأرض ٧٢ ٢٣ وإن كنتم في ريب مما نزلنا ٧٤ ٢٤ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ٧٧ ٢٥ وبشر الذين آمنوا ٨٠ ٢٦ إن الله لا يستحيى أن يضرب ٨٢ ٢٧ الذين ينقضون عهد الله ٨٦ ٢٨ كيف تكفرون بالله ٨٨ ٢٩ هو الذي خلق لكم ما في الأرض ٨٩ ٣٠ وإذ قال ربك للملائكة ٩٠ ٣١ وعلم آدم الأسماء كلها ٩٤ ٣٢ قالوا سبحانك لا علم لنا ٩٥
٢٩٦ ١٤٤ قد نرى تقلب وجهك ٢٩٨ ١٤٥ ولئن أتيت الذين ٣٠٠ ١٤٦ الذين آتيناهم الكتاب ٣٠٢ ١٤٧ الحق من ربك ٣٠٢ ١٤٨ ولكل وجهة هو موليها ٣٠٣ ١٤٩ ومن حيث خرجت ٣٠٣ ١٥٠ من حيث خرجت ٣٠٣ ١٥١ كما أرسلنا فيكم ٣٠٦ ١٥٢ فاذكروني أذكركم ٣٠٩ ١٥٣ يا أيها الذين آمنوا استعينوا ٣١١ ١٥٤ ولا تقولوا لمن يقتل ٣١٢ ١٥٥ ولنبلونكم بشيء من ٣١٤ ١٥٦ الذين إذا أصابتهم ٣١٦ ١٥٧ أولئك عليهم صلوات ٣١٧ ١٥٨ إن الصفا والمروة ٣١٩ ١٥٩ إن الذين يكتمون ٣٢٣ ١٦٠ إلا الذين تابوا ٣٢٦ ١٦١ إن الذين كفروا ٣٢٦
[المجلد الثاني]
تفسير سورة آل عمرانبسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسّلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.وبعد: فهذا تفسير مفصل لسورة آل عمران، حاولت فيه أن أكشف عن بعض ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات قويمة، وهدايات جامعة. وإرشادات حكيمة. ووصايا جليلة، وآداب عالية، وحجج باهرة، تقذف حقها على باطل الضالين فتدمغه فإذا هو زاهق.
وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسيرها أن أسوق كلمة بين يديها تكون بمثابة التعريف بها، وبيان فضلها ومقاصدها الإجمالية، والموضوعات التي اهتمت بالحديث عنها.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
القاهرة- مصر الجديدة ٢٠ من رجب سنة ١٣٩٣ هـ ١٩ أغسطس سنة ١٩٧٣ م المؤلف د. محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر
سورة آل عمران هي السورة الثالثة في ترتيب المصحف إذ تسبقها في الترتيب سورتا الفاتحة والبقرة.
وتبلغ آياتها مائتي آية. وهي مدنية باتفاق العلماء.
وسميت بسورة آل عمران، لورود قصة آل عمران بها بصورة فيها شيء من التفصيل الذي لا يوجد في غيرها.
والمراد بآل عمران عيسى، ويحيى ومريم، وأمها. والمراد بعمران والد مريم أم عيسى- عليه السّلام-.
وقد ذكر العلماء أسماء أخرى لهذه السورة منها:
أنها تسمى بسورة الزهراء، لأنها كشفت عما التبس على أهل الكتاب من شأن عيسى- عليه السّلام-.
وتسمى بسورة الأمان، من تمسك بها أمن الغلط في شأنه.
وتسمى بسورة الكنز لتضمنها الأسرار التي تتعلق بعيسى عليه السّلام.
وتسمى بسورة المجادلة، لنزول أكثر من ثمانين آية منها في شأن مجادلة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لوفدى نصارى نجران.
وتسمى بسورة طيبة، لجمعها الكثير من أصناف الطيبين في قوله- تعالى- الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ.
قال القرطبي ما ملخصه: وهذه السورة ورد في فضلها آثار وأخبار. فمن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وبأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران- وضرب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق- أى ضوء، أو كأنهما فرقان- أى قطعتان من طير صواف- تحاجان عن صاحبهما».
ثم قال: وصدر هذه السورة نزل بسبب وفد نجران، وكانوا قد وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فقال بعض الصحابة: ما رأينا وفدا مثلهم جمالا وجلالة.
وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في المسجد إلى المشرق. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: دعوهم. ثم أقاموا بها أياما يناظرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شأن عيسى ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرد عليهم بالبراهين الساطعة ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية، إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المباهلة «٢».
أما النصف الثاني من سورة آل عمران فقد كان نزول ما يقرب من ستين آية منه «٣» في أعقاب غزوة أحد.
هذا ونرى من الخير قبل أن نبدأ في تفسير هذه السورة الكريمة بالتفصيل أن نذكر على سبيل الإجمال ما اشتملت عليه من توجيهات سامية، وآداب عالية، وأحكام جليلة، وتشريعات قويمة.
إنك عند ما تفتح كتاب الله- تعالى- وتطالع سورة آل عمران تراها في مفتتحها تثبت أن المستحق للعبادة إنما هو الله وحده، وتقيم البراهين الساطعة على ذلك.
الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ.
ثم بعد أن مدحت أصحاب العقول السليمة لقوة إيمانهم، وشدة إخلاصهم وكثرة تضرعهم إلى خالقهم- سبحانه- وبشرتهم بحسن العاقبة.. بعد أن فعلت ذلك ذمت الكافرين وتوعدتهم بسوء المصير فقالت: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ.
ثم تحدثت عن الشهوات التي زينت للناس، وبينت ما هو خير منها، وصرحت بأن الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده هو دين الإسلام، وأن أهل الكتاب ما تركوا الحق الذي جاءهم به محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا بسبب ما استولى على قلوبهم من بغى وجحود، وأنهم بسبب ما ارتكبوه من كفر
(٢) تفسير القرطبي ج ٤ ص ٣
(٣) من الآية ١٢١- ١٧٩.
ثم نهت السورة الكريمة المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصدقاء يلقون إليهم بالمودة، وذكرتهم بأن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا السماء، وأنه- سبحانه- سيحاسب كل نفس بما كسبت يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً.
فإذا ما طالعت- أيها القارئ الكريم- الربعين: الثالث والرابع منها، وجدت فيهما حديثا حكيما عن آل عمران.
قد تحدثت السورة الكريمة عما قالته امرأة عمران- أم مريم- عند ما أحست بالحمل في بطنها، وعما قالته عند ما وضعت حملها.
قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى، وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ.
وتحدثت عن الدعوات الخاشعات التي تضرع بها زكريا إلى ربه، سائلا إياه الذرية الطيبة، وكيف أن الله- تعالى- أجاب له دعاءه فبشره بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.
وتحدثت عن اصطفاء الله- تعالى- لمريم وتبشيرها بعيسى- عليه السّلام- وتعجبها من أن يكون لها ولد دون أن يمسها بشر وكيف أن الله- تعالى- قد رد عليها بما يزيل عجبها.
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وتحدثت عن الصفات الكريمة، والمعجزات الباهرة التي منحها الله- تعالى- لعيسى- عليه السّلام- وعن دعوته للناس إلى عبادة الله وحده وعن موقف أعدائه منه وعن صيانة الله له من مكرهم وعن تشابه عيسى وآدم في شأن خلقهما بدون أب.. وكيف أن الله- تعالى- أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يتحدى كل من يجادله بالباطل في شأن عيسى فقال:
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ، أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ.
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
ثم واصلت السورة الكريمة في الربعين: الخامس والسادس منها حديثها عن أهل الكتاب، فمدحت القلة المؤمنة منهم، وذمت من يستحق الذم منهم- وهم الأكثرون- وحكت بعض الرذائل التي عرفت عن أشرارهم وفريق من علمائهم.
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
ثم بينت أن الله- تعالى- قد أخذ الميثاق على أنبيائه بأن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأنهم قد أقروا بذلك وأمرت النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يجابه مخالفيه بكلمة الحق التي جاء بها من عند الله، وأن يخبرهم بأن من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه.
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ.
ثم ساقت السورة الكريمة بعض الشبهات التي أثارها اليهود حول ما أحله الله وحرمه عليهم من الأطعمة، وردت عليهم بما يفضحهم ويثبت كذبهم، ووبختهم على كفرهم وعلى صدهم الناس عن طريق الحق. وحذرت المؤمنين من مسالكهم الخبيثة التي يريدون من ورائها تفريق كلمتهم وفصم عرى أخوتهم واعتصامهم بحبل الله. وذكرتهم بنعمة الإيمان التي بسببها نالوا ما نالوا من الخير وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها.
ثم بشرت السورة الكريمة المؤمنين بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وإنهم هم الغالبون ماداموا معتصمين بدينهم.. وذكرت بعض العقوبات التي عاقب الله- تعالى- بها اليهود بسبب كفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه، وعصيانهم أوامره.. وأثنت على من يستحق الثناء من أهل
وبعد أن أقامت السورة الكريمة- في عشرات الآيات منها- الأدلة الواضحة، وساقت الحجج الساطعة على صحة دين الإسلام.. انتقلت إلى الحديث عن معارك السيف والسنان التي دارت بين أهل الحق وأهل الباطل.
فتحدثت في الربع السابع والثامن والتاسع والعاشر منها عن غزوة أحد.
وكان حديثها عن هذه الغزوة زاخرا بالتوجيهات الحكيمة والتربية القويمة، والوصايا الحميدة، والعظات الجليلة والتشريعات السامية، والآداب العالية.
كان حديثها عنها هاديا للمسلمين في كل زمان ومكان إلى الطريق الذي يوصلهم إلى النصر ليسلكوه، موضحا لهم طريق الفشل ليجتنبوه. كان حديثها عنها يدعو المسلمين كافة إلى الاعتبار بأحداث الحياة «وكيف أنها تسير على سنن وقوانين علينا أن نطلبها ونسلك السبيل إلى تعلمها، وأن أحداث الحياة ليست مجموعة من المصادفات المتوالية، أو التدفق العشوائى، وإنما للنصر قوانين، وللهزيمة قوانين. ومن الممكن أن ينهزم المسلمون في حرب ولو كان فيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ما خالفوا عن أمره، وسلكوا غير سبيل النصر، وأن لهم النصر على عدوهم وإن فاقهم عددا وعدة إذا ما استطاعوا أن يرتفعوا إلى ما فوق فاعلية عدوهم إيمانا وعلما وتنظيما» «١».
لقد بدأت سورة آل عمران حديثها عن غزوة أحد بتذكير المؤمنين بما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم قبل بدء المعركة من إعداد وتنظيم للصفوف، وبما هم به بعضهم من فشل، وبما تم لهم من نصر على أعدائهم في غزوة بدر.. استمع إلى القرآن وهو يحكى كل ذلك فيقول: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
وفي هذا الربط بين الغزوتين تذكير للمؤمنين بأسباب انتصارهم في بدر وأسباب هزيمتهم في
ثم وجهت السورة نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه عن التعامل بالربا، وحثتهم على المسارعة إلى الأعمال الصالحة التي توصلهم إلى رضوان الله، لأنه إذا كان أعداؤهم يجمعون المال من كل طريق لحربهم، فعليهم هم أن يتحروا الحلال في جمعهم للمال، وأن يتبعوا الوسائل الشريفة التي تبلغهم إلى غايتهم النبيلة، ثم حضتهم على الاعتبار بسنن الله في خلقه، وأمرتهم بالتجلد والصبر، ونهتهم عن الوهن والضعف، وبشرتهم بأنهم هم الأعلون، وشجعتهم على مواصلة الجهاد في سبيل الله فإن العاقبة لهم، وأخبرتهم بأن ما أصابهم من آلام وجراح في أحد، قد أصيب أعداؤهم بمثلها، وأن الأيام دول، وأن هزيمتهم في أحد من ثمارها أنها ميزت قوى الإيمان من ضعيفه، لأن المصائب كثيرا ما تكشف عن معادن النفوس، وخفايا الصدور.
قال- تعالى- قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ.
ثم بينت السورة الكريمة أن الآجال بيد الله وحده، وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول قد خلت من قبله الرسل، وسيدركه الموت كما أدركهم. وأن الأخيار من أتباع الرسل السابقين كانوا يقاتلون معهم بثبات وصبر من أجل إعلاء كلمة الله.. فعلى المؤمنين في كل زمان ومكان أن يقدموا على الجهاد في سبيل الله بعزيمة صادقة، وبنفوس مخلصة لأن الإقدام لا ينقص شيئا من الحياة، كما أن الإحجام لا يؤخرها، وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا.
ثم حذرت السورة الكريمة المؤمنين من طاعة الكافرين لأن طاعتهم تفضى بهم إلى الخسران، وبشرتهم بأن الله- تعالى- سيلقى الرعب في قلوب أعدائهم، وأخبرتهم بأنه- سبحانه- قد صدق وعده معهم، حيث مكنهم في أول معركة أحد من الانتصار على خصومهم وأنهم- أى المؤمنين- ما أصيبوا بما أصيبوا به في أحد إلا بسبب فشلهم وتنازعهم وتطلعهم إلى الغنائم، ومخالفتهم لوصايا رسولهم صلّى الله عليه وسلّم.
قال- تعالى- وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ وبينت لهم كيف أن الله- تعالى- قد شملهم برحمته، حيث أنزل عليهم النعاس في أعقاب المعركة ليكون أمانا لهم من الخوف، وراحة لهم من الآلام التي أصابتهم... وكيف أنه- سبحانه- قد فضح المنافقين، ورد على أقوالهم وأراجيفهم بما يدحضها ويبطلها.
قال- تعالى- ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ. يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ، يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا، قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ ثم وجهت السورة الكريمة حديثها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فوصفته بأكرم الصفات وأفضلها، ونزهته عن كل قول أو فعل يتنافى مع منزلته الرفيعة.. وأمرته باللين مع أتباعه وبالعفو عنهم وبالاستغفار لهم، وبمشاورتهم في الأمر.
ثم عادت السورة الكريمة فأكدت للمؤمنين أن ما أصابهم في أحد كان سببه من عند أنفسهم، فهم الذين خالفوا ما أمرهم به نبيهم صلّى الله عليه وسلّم.
قال- تعالى- أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ.
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن غزوة أحد ببيان فضل الشهداء، وما أعده الله لهم من ثواب جزيل، وبالثناء على المؤمنين الصادقين الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ والذين لم يرهبهم قول المرجفين: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ بل إن هذا القول زادهم إيمانا على إيمانهم، وجعلهم يفوضون أمورهم إلى الله ويقولون: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
ولقد ذكر- سبحانه- أن حكمته قد اقتضت أن يحدث ما حدث في أحد حتى يتميز الخبيث من الطيب فقال- تعالى:
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وأنهم قالوا: أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ.
وأنهم قد نقضوا عهودهم مع الله وباعوا دينهم بدنياهم الفانية.
وقد توعدهم الله- تعالى- على ارتكابهم لهذه الرذائل والمنكرات بالعذاب المهين ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
ثم تحدثت السورة الكريمة في أواخرها عن صفات أولى الألباب، وحكت عنهم ما كانوا يتضرعون به إلى الله من دعوات خاشعات، وابتهالات طيبات، وكيف أنه- سبحانه- قد أجاب لهم دعاءهم ببركة قوة إيمانهم، وصفاء نفوسهم، وطهارة قلوبهم.
وكانت الآية الخاتمة فيها تدعو المؤمنين إلى الصبر والمصابرة والمرابطة وتقوى الله، لأن المؤمن الذي تتوفر فيه هذه الصفات يكون أهلا للفلاح في الدنيا والآخرة. قال- تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
هذا ونستطيع بعد هذا العرض الإجمالى لأهم المقاصد التي اشتملت عليها سورة آل عمران أن نستخلص ما يأتى:
أولا: أن السورة الكريمة قد اهتمت بإثبات وحدانية الله- تعالى- وإقامة الأدلة الساطعة على ذلك، وإثبات أن الدين الحق الذي ارتضاه الله تعالى- لعباده هو دين الإسلام، الذي أرسل به نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
وقد ساقت السورة الكريمة لإثبات هذه الحقائق آيات كثيرة منها قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
وقوله- تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.
وقوله- تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ.
ثانيا: أن السورة الكريمة قد فصلت الحديث عن أحوال أهل الكتاب، بأسلوب مقنع حكيم يحق الحق ويبطل الباطل.
فأنت إذا طالعتها بتدبر تراها تارة تتحدث عن الكفر الذي ارتكسوا فيه بسبب اختلافهم وبغيهم. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.
وتارة توبخهم على كفرهم بآيات الله. وعلى مجادلتهم بالباطل، وعلى سوء أدبهم مع الله- تعالى- وعلى نقضهم لعهودهم ومواثيقهم، وعلى كتمانهم لما أمرهم الله بإظهاره من حقائق.
وقد توعدتهم السورة الكريمة بسوء العذاب بسبب هذه الرذائل والمنكرات وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ.
وتارة تحذر المؤمنين من شرورهم فتقول: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
ولا تغفل السورة الكريمة عن مدح من يستحق المدح منهم، لأن القرآن الكريم لا يذم إلا من يستحق الذم، فقد قال- تعالى- لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ.
وقال- تعالى- وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً.
وقال- تعالى-: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ.
هذا جانب من حديث سورة آل عمران عن أهل الكتاب، وهو حديث يكشف عن حقيقتهم حتى يكون المؤمنون على بينة من أمرهم.
وقد تحدثت السورة. أيضا عن المشركين وعن المنافقين إلا أن حديثها عن أهل الكتاب كان أكثر وأشمل.
ثالثا: أن السورة الكريمة قد اهتمت اهتماما بارزا بتربية المؤمنين بتربية ينالون باتباعها النصر والسعادة في الدنيا والفوز والفلاح في الآخرة.
فقد وجهت إليهم سبعة نداءات أمرتهم فيها بتقوى الله، وبالصبر والمصابرة والمرابطة، ونهتهم عن طاعة الكافرين، وعن التشبه بهم، وعن اتخاذهم أولياء كما نهتم عن تعاطى الربا وعن كل ما يتنافى مع آداب دينهم وتعاليمه.
وهذه النداءات السبعة تراها في قوله تعالى:
١- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ
٥- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ.
٦- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ٧- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا.
وبجانب هذه النداءات التي اشتملت على أسمى ألوان التربية الفاضلة، والتوجيه القويم.. نرى السورة الكريمة تسوق للمؤمنين في آيات كثيرة منها ما يهدى بهم إلى الخير والرشاد ويبعدهم عن الشر والفساد. فهي تحكى لهم ألوانا من الدعوات التي يتضرع بها الأخيار من الناس لكي يتأسوا بهم. وتبين لهم أن حب الشهوات طبيعة في الناس إلا أن العقلاء منهم يجعلون حبهم لما يرضى الله فوق أى شيء آخر. وتحرضهم على الاعتصام بحبل الله وتحثهم على المسارعة إلى الأعمال الصالحة التي توصلهم إلى رضا الله.
إلى غير ذلك من التوجيهات الحكيمة التي زخرت بها سورة آل عمران والتي من شأنها أن تزيد المؤمنين إيمانا مع إيمانهم، وأن تهديهم إلى الصراط المستقيم.
رابعا: أن السورة الكريمة عرضت أحداث غزوة أحد عرضا حكيما زاخرا بالعظات والعبر وفصلت الحديث عنها تفصيلا لا يوجد في غيرها من السور، وساقت ما دار فيها بأسلوب بليغ مؤثر يخاطب العقول والعواطف، ويكشف عن خفايا القلوب ونوازعها، وطوايا النفوس وخواطرها، ويعالج الأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين حتى لا يعودوا لمثلها ويشجعهم على المضي في طريق الجهاد حتى لا يؤثر في عزيمتهم ما حدث لهم في أحد، ويبشرهم بأن الله- تعالى- قد عفا عمن فر منهم، ويذكرهم بمظاهر فضل الله عليهم خلال المعركة وبعدها، ويبصرهم بسنن الله التي لا تتخلف، وبقوانينه التي لا تتبدل، وبتعاليمه التي من سار عليها أفلح وانتصر، ومن أعرض عنها خاب وخسر فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا.
أما بعد، فهذا عرض إجمالى لسورة آل عمران رأينا أن نسوقه قبل البدء في التفسير المفصل لآياتها، ولعلنا بذلك نكون قد قدمنا تعريفا موجزا نافعا عن هذه السورة الكريمة يعين على فهم بعض أسرارها ومقاصدها وتوجيهاتها.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
د. محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر