تفسير سورة البقرة

المحرر في أسباب نزول القرآن
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة المعروف بـالمحرر في أسباب نزول القرآن .
لمؤلفه خالد بن سليمان المزيني .

سُورَةُ البَقَرَة
١ - قال اللَّه تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أقبلت يهود إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا أبا القاسم، إنَّا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتّبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه، إذ قالوا: اللَّه على ما نقول وكيل. قال: (هاتوا) قالوا: أخبرنا عن علامة النبي. قال: (تنام عيناه ولا ينام قلبه) قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تُذْكِر؟ قال: (يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماءَ المرأة أذكرت، وإذا علا ماءُ المرأة ماءَ الرجل آنثت) قالوا: أخبرنا ما حرَّم إسرائيل على نفسه؟ قال: (كان يشتكي عرق النَّسَا، فلم يجد شيئًا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا - قال أبي: قال بعضهم: يعني الإبل - فحرم لحومها) قالوا: صدقت. قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: (ملك من ملائكة الله - عَزَّ وَجَلَّ - موكل بالسحاب، بيده - أو في يده - مخراق من
201
نار، يزجر به السحاب، يسوقه حيث أمر اللَّه) قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: (صوته) قالوا: صدقت، إنما بقيت واحدة وهي التي نبايعك إن أخبرتنا بها، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه لخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: (جبريل - عليه السلام -): قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر، لكان. فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ... ) إلى آخر الآية.
202
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات الكريمة، وقد ذكر هذا الحديث بعض المفسرين كالطبري وابن عطية وابن كثير.
واقتصر البغوي والقرطبي والسعدي من الحديث على عداوة اليهود لجبريل - عليه السلام - دون سائر الأسئلة.
قال الطبري: (أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً على أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك، فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمر نبوته.. ثم ساق الحديث. اهـ.
وقال البغوي: (قال ابن عبَّاسٍ: إنَّ حَبْراً من أحبار اليهود قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيُّ ملك يأتيك من السماء، قال: جبريل، قال: ذاك عدونا من الملائكة، ولو كان ميكائيل لآمنا بك.. فذكر الحديث إلى أن قال: فلهذا نتخذه عدواً، فأنزل الله هذه الآية)، اهـ مختصراً.
وقال ابن عطية: (أجمع أهل التفسير أن اليهود قالت: جبريل عدونا... فذكر الحديث)، اهـ.
وقال القرطبي: (سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي، فمن
203
صاحبك حتى نتابعك؟ قال: جبريل. قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال، ذاك عدونا. لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك، فأنزل اللَّه الآية)، اهـ.
وقال السعدي: (قل لهؤلاء اليهود الذين زعموا أن الذي منعهم من الإيمان بك أن وليك جبريل - عليه السلام - ولو كان غيره من ملائكة اللَّه لآمنوا بك وصدقوا: إنّ هذا الزعم منكم تناقض وتهافت وتكبر على اللَّه)، اهـ.
وقد ذكر المفسرون سبباً آخر لنزولها، أخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن الشعبي قال: (نزل عمر الروحاء ثم ذكر صدر حديثه حتى قال: كنت أشهد اليهود يوم مِدْرَاسِهم فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان، ومن الفرقان كيف يصدق التوراة، فذكر الحديث بطوله حتى بلغ قوله: قالوا: إنّ لنا عدواً من الملائكة، وسلماً من الملائكة، وإنه قُرن به عدونا من الملائكة قال: قلت: ومن عدوكم ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل... فذكر الحديث حتى قال: ثم قمت فاتبعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو خارج من خَرْفَة لبني فلان فقال لي: يا ابن الخطاب ألا أُقرئك آيات نزلن عليَّ فقرأ: (قُل مَن
204
كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) حتى قرأ الآيات، قال: قلت: بأبي وأمي يا رسول اللَّه، والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أُريد أن أخبرك فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر) اهـ.
وبما تقدم تبين أنه لم يصح حديث مرفوع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخمسة المذكورة جميعاً، لكن بعضها صحت مفرقة، ولبعضها شواهد.
فمن ذلك قولهم: أخبرنا عن علامة النبي.
قالت عائشة - رضي الله عنها -: قلت: يا رسول اللَّه، أتنام قبل أن توتر؟ قال: (يا عائشة إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي).
أما قولهم: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تُذكر؟
فقد روى ثوبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت قائماً عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد.. فذكر الحديث وفيه قال: جئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال: (ينفعك إن حدثتك؟) قال: أسمع بأُذنيَّ. قال: جئت أسألك عن الولد؟ قال: (ماء الرجل أبيض وماءُ المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا منيُّ الرجل منيَّ المرأة، أَذْكَرَا بإذن اللَّه، وإذا علا منيُّ المرأة منيَّ الرجل، آنثا بإذن الله)، قال اليهودي: لقد صدقتَ وإنك لنبي.
وأمّا قولهم: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟
فقد ثبت أنه صحيح وقفه على ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كما تقدم.
205
وسبب ذلك أن أعرابياً قال لابن عبَّاسٍ: إني قلت لامرأتي: هي على حرام، قال: فإنها ليست عليك بحرام. قال: وأين قول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ)؟ قال: هل تدري ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: لا، قال: إن إسرائيل أخذته الأنساء فأضنته فجعل لِلَّهِ عليه: إن الله عافاه: أن لا يأكل عرقاً أبداً فلذلك تسلُّ اليهود العروق ولا يأكلونها.
أما قولهم: أخبرنا ما هذا الرعد؟
فهذا مما انفرد به بكير بن شهاب ولم يتابع عليه، وهو ممن لا يحتمل تفرده، فقصة الرعد لا تصح.
أما قولهم: فأخبرنا من صاحبك؟ قال: (جبريل - عليه السلام -).
فهذه الجملة من الحديث هي الأصل في سبب النزول وعليها يدور سياق القرآن وكلام المفسرين، وقد روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في أرض يخترف فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: فما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو أمه؟ قال: (أخبرني بهن جبريل آنفاً) قال: جبريل؟ قال: نعم. قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ).
وإذا ضممنا الآية للحديث تبين لنا الحقائق التالية:
206
١ - أن جبريل عدو اليهود من الملائكة.
٢ - أن المراد بالكافرين في قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) هم اليهود.
٣ - أن الآية ردٌّ على اليهود في كراهتهم لجبريل - عليه السلام - لكن يبقى النظر هل هذا الرد فوري فيكون قولُ عبد الله بن سلام سببَ نزولها أو ليس فوريًا؟ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - مال إلى الثاني، وقال: ظاهر السياق أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي قرأ الآية رداً لقول اليهود، ولا يستلزم ذلك نزولها حيئنذٍ وهذا هو المعتمد، وإنما تلا عليه الآية مذكرًا إياه سبب نزولها.
وبناءً على هذا قوى الحديث في سؤال اليهود للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأشياء السابقة فقال: (وهذه طرق يقوي بعضها بعضاً).
وعندي - والله أعلم - أن سبب نزولها هو قول عبد الله بن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة وإنما اخترت هذا لأمور:
أ - ما حكاه الطبري من إجماع أهل العلم بالتأويل جميعاً على أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود.
ب - أنّ المتأمل في قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) يرى أنها جواب سريع نافع عن حدث واقع. وإنما لم تصدر بقوله: (يسألونك) لأن عبد اللَّه بن سلام لم يسأله بل أخبره بعداوة اليهود لجبريل بخلاف الأسئلة القرآنية التي صدرت بالسؤال والجواب جميعاً.
جـ - أنّ قول الراوي: فقرأ هذه الآية لا يمنع السببية؛ لأنه لن يقرأها إلا بعد أن تنزل فيكون اقتصار الراوي على القراءة لأنها متضمنة للنزول، وإن لم يُرِدْ نفيَ السببية. ويمكن أن يُقال أيضاً إن هذا من تصرّف الرواة في ألفاظ الحديث، وهو كثير معروف.
د - أنّ الآية لو كانت نزلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل حديثه مع عبد الله لما خفي ذلك على عبد الله بن سلام لأنه حبر من أحبارهم، وسيد من ساداتهم، ولم يحتج عبد الله أيضاً إلى إخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعداوة اليهود لجبريل لأنه سيكون علم قبل ذلك.
207
هـ - قول أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لما سمع عبد اللَّه بقدوم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهذا يدل على أن عبد اللَّه بن سلام بادره قبل غيره من اليهود حرصاً منه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على اتباع الحق.
وإذا كان الأمر كذلك فمتى وقعت الأسئلة الخمسة من يهود لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
و أنّ ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ممن تأخرت هجرته إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة؛ لأنه كان صغيراً يتبع أباه، وأبوه لم يهاجر إلا قبل الفتح بقليل. قال ابن حجر: (ثم هاجر قبل الفتح بقليل وشهد الفتح) اهـ، يعني العباس بن عبد المطلب.
وإذا كان الأمر كذلك فابن عبَّاسٍ لم يشهد القصة، بل سمعها من غيره، فلعل من أخبره سمعها متفرقة فجمعها له في سياق واحد، واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ليس سبب نزولها؛ لما تقدم من الأسباب آنفة الذكر، وإنما سبب نزولها حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قصة عبد اللَّه بن سلام، لصحة سندها، وموافقتها للفظ الآية، واتفاق المفسرين على معناها، والله أعلم.
* * *
208
٢ - قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج الترمذي وابن ماجه عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفرٍ في ليلة مظلمة فلم ندرِ أين القبلة فصلى كل رجل منا على حيالها فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
ولفظ ابن ماجه: فتغيمت السماء وأشكلت علينا القبلة فصلينا وأعلَمْنا... لحديث.
209
٢ - أخرج مسلم وأحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وقد ذكر هذين الحديثين جمهور المفسرين، كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
فأما حديث عامر بن ربيعة الذي تضمن التصريح بالسببية فقد تبين أنه ضعيف لا يحتج به.
أما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقوله في الحديث: وفيه نزلت: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) فلا يخلو من احتمالين:
الأول: أن يريد أن الآية نزلت على سبب فأين ذلك السبب أو الحدث أو الواقعة؟ فلم يذكر المفسرون شيئاً من هذا، وهذا خلاف المعهود في أسباب النزول، كما أني لا أظن أن هذا مراده.
الثاني: أن يريد الاستدلال بالآية على جواز التنفل في السفر على الراحلة، ويكون قوله: وفيه نزلت، أي دلت الآية على ذلك الحكم فهو استدلال صحيح عند من يوافقه، (أعني استدلاله بالآية).
ولهذا قال ابن العربي: (لا يخفى أن عموم الآية يقتضي بمطلقه جواز التوجه إلى جهتي المشرق والمغرب بكل حال، لكن الله خص من ذلك جواز التوجه إلى جهة بيت المقدس في وقتٍ، وإلى جهة الكعبة في حال الاختيار في الفرض والحضر فيها أيضاً وبقيت على النافلة في السفر).
210
وعندي - والله أعلم - أنه لا بد لمن أراد التحقيق والتدقيق في معرفة تفسير الآية أو الوقوف على سبب نزولها أن يتأمل السياق القرآني الذي وردت فيه الآية؛ لأن الآيات في الأعم الأغلب، لا بد أن يكون لها ارتباط بما قبلها، وعلاقة بما بعدها، أما انتزاع الآية وحدها كأنها ثمرة فلا شك أنه يوقع المفسر في الخطأ والزلل.
وهذا السياق الذي معنا ليس بعيدًا من هذا، فالآية التي قبلها هي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا... ) الآية.
تتحدث عن المشركين الذين أخرجوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصدوه عن البيت حين قصده عام الحديبية كما هو الراجح من قولي المفسرين.
(ثم جاءت هذه الآية: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) تسلية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه الذين أُخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم).
وقال أبو حيان: (والذي يظهر أن انتظام هذه الآية بما قبلها هو أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر اللَّه، والسعي في تخريبها نبَّه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات ولا من ذكر الله، إذ المشرق والمغرب لِلَّهِ تعالى، فأيُّ جهة أديتم العبادة فيها فهي لِلَّهِ يثيب على ذلك ولا يختص مكان التأدية في المسجد).
وقال الطاهر بن عاشور: (لما جاء بوعيدهم ووعد المؤمنين عطف على ذلك تسلية المؤمنين على خروجهم من مكة، ونكاية المشركين بفسخ ابتهاجهم بخروج المؤمنين منها وانفرادهم هم بمزية جوار الكعبة فبيَّن أن الأرض كلها لله تعالى وأنها ما تفاضلت جهاتها إلا بكونها مظنة للتقرب إليه تعالى، وتذكر نعمه وآياته العظيمة، فإذا كانت وجهة الإنسان نحو مرضاة الله تعالى فأينما تولى فقد صادف رضى اللَّه تعالى، وإذا كانت وجهته الكفر والغرور والظلم فما يغني عنه العياذ بالأماكن المقدسة. بل هو فيها دخيل لا يلبث أن يقلع منها) اهـ.
211
وهذا القول هو الصحيح، وهو أن الآية لا تتحدث عن استقبال القبلة بقدر حديثها عن توجه قلب العبد إلى ربه ومولاه، وأن الأماكن ظروف فقط لذلك التوجه، فإذا حيل بين العبد وبين ذلك التوجه في مكان فإن الأمر كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦).
فإن قيل: ما الدليل إذن على جواز التنفل على الراحلة في السفر؟
فالجواب أن يقال: إن الدليل مجرد فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثابت في الصحيح، وهذا من أبلغ الحجج وليس بالضرورة أن يدل على الحكم آية من القرآن.
* النتيجة:
أنه لا يوجد سبب نزول صحيح صريح نزلت لأجله الآية، فالصريح المذكور غير صحيح، والصحيح غير صريح، بل راويه لم يُردْ بذكره السببية أصلاً والسياق القرآني لا يدل على ذلك كما بيّنت.
* * *
212
٣ - قال الله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد والدارمي والترمذي والنَّسَائِي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: فقلت: يا رسول اللَّه، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وآية الحجاب، قلت: يا رسول اللَّه، لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البرُّ والفاجر. فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن فنزلت هذه الآية.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية، وقد أورده جمهور المفسرين وجعلوه سبباً لنزولها، منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير، وغيرهم.
وقوله: وافقت ربي في ثلاث، المعنى: وافقني ربي فأنزل القرآن على
213
وفق ما رأيت، لكن لرعاية الأدب أسند الموافقة إلى نفسه.
وقد اختلفت أقوال العلماء في المراد بمقام إبراهيم.
فقال بعضهم: الحج كله مقام إبراهيم.
وقال بعضهم: هو عرفة والمزدلفة والجمار.
وقال بعضهم: الحرم كله مقام إبراهيم.
وقال بعضهم: مقام إبراهيم هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه وضعف عن رفع الحجارة.
وهذا القول الأخير هو الصحيح لما روى ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إن إبراهيم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإنّ الله أمرني أن أبْنِيَ هاهنا بيتًا، وأشار إلى أكمةٍ مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وفي لفظ قال: حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
ومما يؤيد هذا التفسير ويرجحه على غيره فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في صفة حج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ثم نَفَذَ إلى مقام
214
إبراهيم - عليه السلام - فقرأ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان يقرأ في الركعتين: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ).
ولو كان المراد بالمقام أحد الأقوال الثلاثة الأولى لكان من المتعذر أو المتعسر اتخاذه مصلى - أي قبلة -. ولهذا قالوا: إن المراد بقوله: (مُصَلًّى) أي: مداعيَ تدعونني عندها. وهذا خلاف الصواب.
قال ابن كثير - رحمه الله -: (قلت: وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديمًا ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا واللَّه أعلم أُمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناءُ الكعبة فيه، وإِنَّمَا أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أُمِرْنَا باتباعهم، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده، ولذلك لم ينكر ذلك أحد من الصحابة - رضي اللَّه عنهم أجمعين -.
ثم ساق رواية عبد الرزاق عن عطاء ومجاهد أن أول من أخّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ثم ساق إسناد البيهقي إلى عائشة - رضي الله عنها - أن المقام كان زمان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وزمان أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ملتصقاً بالبيت ثم أخّره عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم، ثم ذكر قول سفيان بن عيينة في ذلك إلى أن قال: فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه، واللَّه أعلم.
ثم ساق إسناد الحافظ أبي بكر بن مردويه إلى مجاهد وقال فيه: فحوّله
215
رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى موضعه هذا، فقال: وهذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالف لما تقدم، ورواية عبد الرزاق أصح من طريق ابن مردويه، واللَّه أعلم) اهـ بتصرف.
وقال ابن حجر: (وكان عمر رأى أن إبقاعه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، وتهيأ له ذلك لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلى وأول من عمل عليه المقصورة الموجودة الآن).
* النتيجة:
أن سبب نزول هذه الآية هو قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت الآية لصحة سنده، وتصريحه بالنزول واحتجاج المفسرين به، وموافقته للفظ الآية، واللَّه أعلم.
* * * * *
216
٤ - قال الله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب أن يوجَّه إلى الكعبة، فأنزل اللَّه: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ). فتوجه نحو الكعبة. وقال السفهاء من الناس، وهم اليهود: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فصلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل، ثم خرج بعدما صلى، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرّف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة.
وفي لفظ له: فداروا كما هم قِبَل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَل بيت المقدس، وأهل الكتاب، فلما ولّى وجهه قِبَل البيت أنكروا ذلك.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورده جمهور المفسرين وجعلوه سبباً لنزولها كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
217
قال الطبري: (أَعلم الله جل ثناؤه نبيَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما اليهود والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن الشام إلى المسجد الحرام، وعلّمه ما ينبغي أن يكون من رده عليهم من الجواب. فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا محمد، فقل لهم: (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) اهـ.
وقال ابن كثير: (ولما وقع هذا أي (تحويل القبلة) حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب وتخبيط وشك وقالوا: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) أي قالوا: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا فأنزل الله جوابهم في قوله: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي الحكم والتصرف والأمر كله للَّه: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) و (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) أي الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وُجّهنا توجّهنا، فالطاعة في امتثال أمره) اهـ.
وقد صرَّح ابن حجر بذلك؛ وهو أن اليهود لما أنكروا ذلك نزلت: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ).
وفي قوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ) قال ابن عطية: (وجعل المستقبل موضع الماضي في قوله: (سَيَقُولُ) دلالة على استدامة ذلك، وأنهم يستمرون على ذلك القول، ونص ابن عبَّاسٍ وغيره أن الآية نزلت بعد قولهم) اهـ.
أما الخلاف في المدة التي صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بيت المقدس فقال فيها ابن حجر: (فيه تسع روايات - ثم حاول الجمع بين روايتي ستة عشر أو سبعة عشر باعتبارهما أصح الروايات - فقال: والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهراً وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معاً، ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح وبه جزم الجمهور.
وقال: تحرير المدة المذكورة ستة عشر شهراً وأيام) اهـ.
218
أما المراد بالسفهاء فقد اختلفت أقوال المفسرين فقال بعضهم: هم مشركو قريش، وقال بعضهم: هم المنافقون، وقال بعضهم: هم اليهود، وهو قول الأكثرين، ويشهد له حديث البراء المتقدم: وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَل بيت المقدس فلما ولّى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك. ويؤيد هذا قول الله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ).
قال ابن كثير - ﷺ -: (أي واليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن اللَّه تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمته وما خصه اللَّه تعالى به وشرّفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا، ولهذا تهدَّدهم بقوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).
قلت: ومن المعلوم أن المنافقين والذين أشركوا ليسوا من الذين أُوتوا الكتاب فلم يبق إلا اليهود.
* النتيجة:
أن هذه الآية نزلت بسبب إنكار اليهود على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه التوجه إلى الكعبة بعد أن كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فالآية تبيّن سفههم في قولهم هذا وتُعَلِّم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يجيبهم به. وذلك لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ القرآن، واحتجاج المفسرين به، واللَّه أعلم.
* * * * *
219
٥ - قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والنَّسَائِي عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت وأنه صلى، أو صلاها، صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، قال: أشهد باللَّه لقد صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل مكة، فداروا كما هم قِبَل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل اللَّه: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ).
ورواه ابن ماجه من حديث البراء بسياق مختلف.
220
٢ - وأخرج أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي من حديث ابن عبَّاسٍ نحوه.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر هذا الحديث جمهور المفسرين كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
قال ابن العربي: (اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس).
221
قال القرطبي: (اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلى إلى بيت المقدس) اهـ.
وقال السعدي: (ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل القبلة، فإن اللَّه لا يضيع إيمانهم، لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها) اهـ.
وقال ابن بطال: (لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت فى صلاتهم إلى بيت المقدس) اهـ.
وإذا كان قد تبين ضعف وشذوذ رواية ابن ماجه فإن الثابت فى سبب نزول الآية أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هم الذين استشكلوا الأمر وليس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذي سأل جبريل - عليه السلام - فأنزل الله الآية. كما دلت على هذا رواية ابن ماجه.
وهنا إشكالان يحسن إيرادهما والجواب عنهما:
الأول: كيف قال البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجال قتلوا ولم يقع قبل تحويل القبلة قتال؟
فالجواب: قال ابن حجر: (ذكر القتل لم أره إلا في رواية زهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدًا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير الجهاد ولم يضبط اسمه لقلة الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك) اهـ.
الثاني: كيف قال الله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين، والقوم المخاطبون إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس؟.
فالجواب: قال الطبري: (إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك فإنهم أيضًا
222
قد كانوا مشفقين من حبوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة وظنوا أن عملهم قد بطل فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذٍ فوجَّه الخطاب بها إلى الأحياء ودخل فيهم الموتى منهم لأن من شأن العرب إذا اجتمع في الخبر المخاطب والغائب أن يُغَلِّبُوا المخاطب فيدخل الغائب في الخطاب فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه، وعن آخر غائب غير حاضر فعلنا بكما. وصنعنا بكما كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران ولا يستجيزون أن يقولوا فعلنا بهما وهم يخاطبون أحدهما فيردوا المخاطب إلى عداد الغُيَّب) اهـ.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية ما ثبت في الصحيح من حديث البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته لِلفظ الآية، واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
* * * * *
223
٦ - قال الله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنَّسَائِي عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما قدم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، صلى نحو بيت المقدس ستة عشر، أو سبعة عشر شهراً وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل اللَّه تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) فوجه نحو الكعبة، وصلى معه رجل العصر، ثم خرج فمرَّ على قوم من الأنصار، فقال: هو يشهد أنه صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه قد وُجِّه إلى الكعبة، فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر.
وأخرجه مسلم من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي نحو بيت المقدس. فنزلت: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... ) الحديث.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورده جمهور المفسرين وجعلوه سبباً
224
لنزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية وابن كثير والسعدي.
قال الطبري: (إنما قيل له ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما بلغنا؛ لأنه كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من اللَّه جل ثناؤه أمره بالتحويل نحو الكعبة) اهـ.
وقال البغوي: (جعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة فأنزل اللَّه تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ). اهـ.
وقال السعدي: (يقول اللَّه لنبيه (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) أي كثرة تردده في جميع جهاته شوقاً وانتظارًا لنزول الوحي، باستقبال الكعبة إلى أن قال: وفي هذا بيان لفضله وشرفه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث إن اللَّه تعالى يسارع في رضاه، ثم صرح له باستقبالها فقال: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). اهـ.
وقد اختلف في السبب الذي كان لأجله رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب التوجه نحو المسجد الحرام:
فقال بعضهم: لمخالفة اليهود لأنهم كانوا يقولون يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا وهو المروي عن مجاهد وابن زيد.
وقال بعضهم: بل لأنها قبلة أبيه إبراهيم - عليه السلام - وهو المروي عن ابن عباس.
وقال بعضهم: بل ليتألف العرب لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم (١).
والظاهر - والله أعلم - أن الآية تحتمل هذه الأقوال جميعاً إذ لا منافاة بينها ولا تعارض وإن كنت أميل إلى أن سبب ذلك - واللَّه أعلم - أن هذه البقعة أحب البقاع إلى اللَّه تعالى وأرضاها عنده، ويدل لذلك ما روى عبد اللَّه بن عديِّ بن الحمراء قال: رأيت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واقفاً على الحَزْوَرة فقال:
(١) في غاية البعد البعيد. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
225
(واللَّه إنك لخيرُ أرضِ الله، وأحبّ أرض الله إلى الله ولولا أَني أُخرجت منك ما خرجت).
وهنا إشكال أورده الماوردي حيث قال: (فإن قيل: أكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير راضٍ ببيت المقدس أن يكون له قبلة حتى قال له في الكعبة: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا)؟ قيل: لا يجوز أن يكون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير راضٍ ببيت المقدس، لما أمره الله تعالى به؛ لأن الأنبياء يجب عليهم الرضا بأوامر الله تعالى، لكن معنى ترضاها: أي تحبها وتهواها) اهـ.
وعندي - والله أعلم - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلم أن وجهته إلى بيت المقدس وجهة مؤقتة وليست دائمة لحكمة ذكرها الله في كتابه فقال: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ.. ) الآية فكان يتطلع ويتشوف أن يوجه إلى القبلة التي يحبها الله ويحبها هو، ولا يعني قوله: (تَرْضَاهَا) أنه لم يرض التوجه إلى بيت المقدس بل لأن رضاه بالتوجه إلى الكعبة أعظم وأبلغ (١).
* النتيجة:
أن سبب نزول هذه الآية أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب أن يوجه إلى الكعبة لأنها كانت أحبَّ البقاع إلى اللَّه وإليه، كما دلَّ على ذلك حديثًا البراء وعبد اللَّه بن عدي بن الحمراء وكان جرّاء ذلك يرفع بصره إلى السماء ويقلب وجهه فيها رجاءَ أن يُوجَّه إلى الكعبة فأجابه الله لذلك وأنزل عليه الآية. وذلك لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول وموافقته للفظ القرآن، واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
(١) الرضا له معنيان رضا محبة، ورضا تفويض وتسليم، وكلاهما تحقق للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رضا محبة وكان متمثلاً في التوجه إلى البيت الحرام، ورضا تسليم وكان متمثلاً في التوجه إلى بيت المقدس. والله أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).
226
٧ - قال اللَّه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري ومالك وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنا يومئذٍ حديث السن: أرأيت قول اللَّه تبارك وتعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فلا أُرى على أحد شيئًا أن لا يطوف بهما؟. فقالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول، كانت فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يهلون لمناة، وكانت مناةُ حذو قُدَيْدٍ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فأنزل اللَّه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) زاد سفيان وأبو معاوية عن هشام: ما أتم اللَّه حج امرئ ولا
227
عمرته لم يطف بين الصفا والمروة.
وللبخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رجال من الأنصار ممن كان يُهلُّ لمناة، ومناةُ صنم بين مكة والمدينة قالوا: يا نبي اللَّه كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة.
ولمسلم عنها - رضي الله عنها - قالت: إنما أُنزل هذا في أُناس من الأنصار كانوا إذا أَهلّوا أهلّوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما قدموا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحج ذكروا ذلك له فأنزل الله هذه الآية.
ولمسلم عنها - رضي الله عنها - أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة وكان ذلك سنة في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة وإنهم سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
228
ذلك حين أسلموا فأنزل اللَّه في ذلك: ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ.. ).
فمن خلال الروايات المتقدمة يتبين أن سبب امتناعهم من السعي بين الصفا والمروة هو تعظيم مناة وطائفة أخرى كان امتناعها عن السعي بينهما لأنهما من شعائر الجاهلية ودليلها.
٢ - ما أخرج البخاري عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قيل له: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل اللَّه: ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) وللبخاري في رواية: سُئل أنس عن الصفا والمروة فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).
وفي رواية لمسلم عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه سمع رجالاً من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية فأنزل اللَّه الآية، وطائفة كان امتناعها عن السعي بينهما لأن اللَّه ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر السعي بين الصفا والمروة.
٣ - ودليل ذلك ما أخرج البخاري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن رجال من أهل العلم: أن اللَّه تعالى لما ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول اللَّه! كنا نطوف بالصفا والمروة وإن اللَّه أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل اللَّه: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ).
229
ولمسلم عنه قال: وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بين الصفا والمروة، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد أورد جمهور المفسريين هذه الروايات وجعلوها سبباً لنزول الآية، وخلاصة هذه الروايات أن الآية أُنزلت لرفع الحرج عن المطوِّفين بين الصفا والمروة، وقد تعددت دوافع الحرج والامتناع حسبما أفادته الروايات:
فطائفة كان امتناعها عن السعي بينهما تعظيماً لمناة.
وطائفة كان امتناعها عن السعي بينهما لأنهما من شعائر الجاهلية.
وطائفة كان امتناعها عن السعي بينهما لأن الله ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر السعي بينهما.
وعندي - والله أعلم - أنه يمكن ردُّ الدافع الأخير إلى سابقيه وجعله نتيجةً لهما وأثراً عنهما.
وبيان ذلك: أن يُقال إن الامتناع إما أن يكون تعظيماً لمناة وإما لأن الطواف بينهما من أمر الجاهلية وأئاً كان الدافع فإن القوم قد أحجموا عن الطواف بينهما حتى أنزل اللَّه قوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فقالوا حينئذٍ: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بين الصفا والمروة، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).
ومن خلال ما تقدم يبقى الدافع الأول وهو تعظيم مناة خالٍ من الاشتباه والالتباس والروايات فيه صريحة واضحة في الامتناع عن الطواف بين الصفا والمروة حيث جاء فيها:
230
بيان الحرج: (فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة).
نفي الوقوع وبيان العلة: (كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة).
نفي الحل: (كانوا إذا أهلّوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة).
أن هذا الفعل قديم موروث: (وكان ذلك سنةً في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة).
أما الدافع الثاني للامتناع عن الطواف بينهما فلأنه من أمر الجاهلية كما حدّث أنس بذلك لما قيل له: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية.
وفي رواية: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية.
ولم يبين أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كيف كانا من شعائر الجاهلية، لكن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر يُقال لهما: إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة ثم يحلقون فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية قالت: فأنزل اللَّه: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ).. قالت: فطافوا.
لكن قال القاضي عياض: (هذا خطأ والصواب ما جاء في الروايات الأُخر في الباب (يهلون لمناة) وأما إساف ونائلة فلم يكونا قط لجهة البحر) اهـ.
قلت: وقول القاضي مؤيد بما روى زيد بن حارثة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (وكان صنمان من نحاس يُقال لهما إساف ونائلة فطاف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطفتُ معه فلما مررت مسحتُ به... الحديث).
231
فقول زيد: فلما مررت مسحت به يدل على أنهما في المسجد إذ لو كانا على شط البحر لم يتمكن من المسح بهما.
وأخرج الطبري عن الشعبي: أن وثنًا كان في الجاهلية على الصفا يسمى إسافًا ووثنًا على المروة يسمى نائلة فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوثنين فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان، قال المسلمون: إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين وليس الطواف بهما من الشعائر قال: فأنزل اللَّه إنهما من الشعائر.
وقال ابن كثير: يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم بمفضي السيول من إساف ونائل
وبهذا التقرير يسلم الدافع الثاني من الاعتراض والرد فهل إلى الجمع بينهما من سبيل؟
الحافظ ابن حجر كأنه يميل إلى ترجيح رواية إساف ونائلة فقال بعد أن ذكر كلامًا، (فهذا كله يوضح قوة رواية أبي معاوية وتقدمها على رواية غيره) اهـ.
وتارةً أخرى جعل المسألة محتملة فقال: (ويحتمل أن يكون الأنصار في الجاهلية كانوا فريقين: منهم من كان يطوف بينهما على ما اقتضته رواية أبي معاوية، ومنهم من كان لا يقربهما على ما اقتضته رواية الزهري أي (بسبب تعظيم مناة) واشترك الفريقان في الإسلام على التوقف عن الطواف بينهما لكونه كان عندهم جميعًا من أفعال الجاهلية فيجمع بين الروايتين بهذا) اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن ما ذكره الحافظ احتمالاً هو المتعين لأنه يقتضي الجمع بين النصوص، ولا ريب أن إعمال الدليلين أولى من تعطيل أحدهما.
232
ثم إن ترك الطواف بينهما تعظيمًا لمناة رواتها أكثر وأشهر وأصح فكيف تترك ويقدم عليها غيرها.
وفي الروايات ما يدل على الجمع بينهما: وجه ذلك أن أنساً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما قيل له: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية، مع أن أنساً أنصاري، فليس كل الأنصار يدعون السعي بينهما تعظيمًا لمناة بل منهم من كان يفعل ذلك ومنهم من يرى أنهما من شعائر الجاهلية بسبب الصنمين عليهما وبهذا يتحقق الجمع بينهما واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن الآية نزلت لرفع الحرج عن المطوفين بين الصفا والمروة لأن بعضهم كان قد امتنع عن السعي بينهما تعظيماً لمناة وبعضهم كان سبب امتناعه أنهما من شعائر الجاهلية لوجود الصنمين عليهما، فنزلت الآية إذناً من الله بالسعي بينهما. وإخباراً أنهما من شعائر اللَّه. وذلك لصحة أسانيد الأحاديث الواردة، وتصريحها بالنزول، واحتجاج المفسرين بها واللَّه أعلم.
* * * * *
233
٨ - قال الله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان أصحابُ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان الرجل صائمًا، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبةً لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت هذه الآية: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ففرحوا بها فرحاً شديداً ونزلت: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ).
234
٢ - أخرج البخاري أيضاً عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل اللَّه: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ).
٣ - أخرج الإمام أحمد عن عبد اللَّه بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام، حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة، وقد سهر عنده، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها، فقالت: إني قد نِمتُ، قال: ما نِمتِ، ثم وقع بها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك، فغدا عمر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره فأنزل اللَّه تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ).
235
٤ - أخرج أبو داود عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فكان الناس على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء، وصاموا إلى القابلة، فاختان رجل نفسه، فجامع امرأته، وقد صلى العشاء ولم يفطر فأراد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يجعل ذلك يسراً لمن بقي ورخصة ومنفعة فقال سبحانه: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) وكان هذا مما نفع اللَّه به الناس ورخص لهم ويسر.
٥ - أخرج أبو داود عن ابن أبي ليلى قال: أُحيلت الصلاة ثلاثة أحوال فذكر الحديث.. وفيه قال: وحدثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح قال: فجاء عمر بن الخطاب، فأراد امرأته، فقالت: إني قد نِمتُ فظن أنها تعتل فأتاها، فجاء رجل من الأنصار، فأراد الطعام، فقالوا: حتى نسخن لك شيئاً فنام فلما أصبحوا أُنزلت عليه هذه الآية: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ).
236
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وقد ذكر جمهور المفسرين هذه الروايات وجعلوها سبباً لنزول الآية منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
237
قال الطبري: (إن قال لنا قائل وما هذه الخيانة التي كان القوم يختانونها أنفسهم التي تاب الله منها عليهم فعفا عنهم؟
قيل: كانت خيانتهم أنفسهم التي ذكرها الله في شيئين:
أحدهما: جماع النساء، والآخر: المطعم والمشرب في الوقت الذي كان حراماً ذلك عليهم) اهـ.
ثم ساق الأسباب.
وقال البغوي: (قال أهل التفسير كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حلَّ له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة، أو يرقد قبلها، فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى الليلة القابلة). اهـ. ثم ساق الأسباب.
وقال ابن كثير: (وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغيرهم في سبب نزول هذه الآية في عمر بن الخطاب، ومن صنع كما صنع، وفي صرمة بن قيس فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصةً ورفقاً) اهـ.
وقال السعدي: (كان في أول فرض الصيام يحرم على المسلمين الأكل والشرب والجماع في الليل بعد النوم فحصلت المشقة لبعضهم فخفف اللَّه عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع سواء نام أو لم ينم لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أُمروا به) اهـ.
وبناءً على ما تقدم فالآية في قول المفسرين نزلت على سببين: أحدهما في الطعام والشراب، والآخر في إتيان النساء.
فأما الأول: وهو الامتناع من الطعام والشراب بعد النوم فقد دلَّ عليه حديث البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ودلت الآية على رفع ذلك الحكم لأن اللَّه - جل وعلا - جعل غاية الامتناع من الطعام والشراب بيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فدل هذا على أن ما قبل الغاية زمناً للطعام والشراب لا سيما أن نوم صرمة كان في أول الليل فرخص اللَّه في الليل كله.
238
أما الثاني: وهو الامتناع من النساء فقد دلّ عليه حديث البراء عند البخاري مجملاً وجاء مفصلاً عن كعب بن مالك وابن عبَّاسٍ وابن أبي ليلى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لكن في أسانيدها كلام - سطرته في الحاشية - ومع هذا فمجموع هذه الأحاديث يدل على ثبوت هذه القصة لا سيما أن لها أصلاً عند البخاري.
وأما قول الطبري: (كانت خيانتهم أنفسهم في شيئين أحدهما المطعم والمشرب في الوقت الذي كان حرامًا ذلك عليهم).
فهذا غريب منه لأن الخيانة لم تقع في الطعام والشراب، ولا ذكرها اللَّه في سياق الطعام والشراب، بل لو وقع ذلك لما غشي على صرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بسبب الجهد والجوع.
* مسألة:
هل التحريم يحصل بالنوم وحده، أو بصلاة العشاء وحدها أو بالسابق منهما؟
فالجواب: أن حديث ابن عبَّاسٍ يدل على تعلق التحريم بصلاة العشاء وحدها لقوله: (إذا صلوا العتمة) وسائر الأحاديث التي معنا تعلق التحريم بالنوم وحده ولهذا قال ابن حجر: (اتفقت الروايات في حديث البراء على أن المنع من ذلك كان مقيدًا بالنوم وهذا هو المشهور في حديث غيره، وقُيد المنع من ذلك بحديث ابن عبَّاسٍ بصلاة العتمة وهذا أخص من حديث البراء من وجه آخر، ويحتمل أن يكون ذكر صلاة العشاء لكون ما بعدها مظنة النوم غالبًا، والتقييد في الحقيقة إنما هو بالنوم كما في سائر الأحاديث) اهـ.
وعندي - واللَّه أعلم - أن قول الحافظ مؤيد بما جاء في حديث كعب بن مالك: (فرجع عمر من عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة وقد سهر عنده فوجد امرأته قد نامت) فقوله: (سهر عنده) يقتضي سهرُه أن يتجاوز صلاة العشاء، وحينئذٍ يكون الأمر بيِّنا ظاهرًا عند عمر لا اشتباه فيه.
ثم امرأته أيضًا احتجت بالنوم ولو كان التحريم معلقًا بصلاة العشاء، لقالت: قد صليت العشاء لأنها لن تنام قبل الصلاة.
239
* النتيجة:
أن الآية نزلت على سببين: الأول: قصة صرمة بن قيس في الطعام والشراب، والثاني: في الذين كانوا يخونون أنفسهم في إتيان النساء كعمر وكعب بن مالك وغيرهما - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كما دلت على هذا الآية الكريمة فأولها وآخرها يتحدث عن حكم إتيان النساء ووسطها يتناول حكم الطعام والشراب ليالي الصيام وما تقدم مؤيد بصحة الأحاديث وتصريحها بالنزول واحتجاج المفسرين بها واللَّه أعلم.
* * * * *
240
٩ - قال اللَّه تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي عن سهل بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أُنزلت: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل اللَّه بعدُ (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذا المقطع من الآية وأورده جمهور المفسرين وجعلوه سبباً للنزول منهم: الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي، وابن كثير وابن عاشور وهنا يحسن التنبيه إلى أن المفسرين والمحدِّثين حين يوردون
241
حديث سهل بن سعد السابق يذكرون معه حديث عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث قال: لما نزلت: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عمدتُ إلى عقالٍ أسودَ وإلى عقالٍ أبيضَ فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرتُ له ذلك فقال: (إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار).
ولفظ مسلم: لما نزلت: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).
والظاهر - والله أعلم - أن سبب هذا الإيراد ظن بعضهم أن لحديث عدي علاقةً بسبب النزول وليس الأمر كذلك.
ولهذا قال الطاهر بن عاشور: (يظهر من حديث سهل بن سعد أن مثل ما عمله عدي بن حاتم كان قد عمله غيره من قبله بمدة طويلة، فإن عدياً أسلم سنة تسع أو سنة عشر وصيام رمضان فرض سنة اثنتين ولا يعقل أن يبقى المسلمون سبع أو ثماني سنين في مثل هذا الخطأ، فمحمل حديث سهل بن سعد على أن يكون ما فيه وقع في أول مدة شرع الصيام ومحمل حديث عدي بن حاتم أن عدياً وقع في مثل الخطأ الذي وقع فيه من تقدموه فإن الذي عند مسلم عن عدي أنه ذكر الآية مستكملة) اهـ. يعني إلى قوله: (مِنَ الْفَجْرِ).
قلت: ما ذكره ابن عاشور هو الصحيح المتعين لأن حديث سهل بن سعد صحيح صريح في أن سبب نزول قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) الخطأ الذي وقعوا فيه وهو ربط بعضهم في رجله خيطاً أبيض وخيطاً أسود.
وسواءٌ كان لفظ مسلم في سياق الآية إلى قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) محفوظاً عن عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أو هو من تصرّف الرواة فإن هذا لا يغير من الأمر شيئاً لأن إسلام عدي تأخر كثيراً عن نزول الآية.
242
(١) نعم لو كان هذا الاختلاف في حديث سهل بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لكان اختلافاً مؤثراً في سبب النزول على اعتبار أن السببية مستمدة منه.
وأما قول عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لما نزلت فلا يعني هذا أنه شهد نزول الآية على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولهذا قال الحافظ ابن حجر: (إما أن يؤول قول عدي هذا على أن المراد بقوله: (لما نزلت) أي لما تليت عليّ عند إسلامي، أو لما بلغني نزول الآية أو في السياق حذف تقديره لما نزلت الآية ثم قدمت فأسلمت وتعلمت الشرائع عمدتُ) اهـ.
فإن قال قائل: إذا كان الرجال المذكورون في حديث سهل بن سعد قد تبين لهم الخطأ بنزول قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) فكيف يقع عديٌّ في الخطأ مع أن اللفظ بين يديه؟
فالجواب: ما ذكره ابن حجر بقوله: (وأما عديٌّ فكأنه لم يكن في لغة قومه استعارة الخيط للصبح، وحمل قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) على السببية فظن أن الغاية تنتهي إلى أن يظهر تمييز أحد الخيطين من الآخر بضياء الفجر، أو نسي قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) حتى ذكره بهذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
* النتيجة:
هي أن قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) نزلت بسبب ما وقع من بعض القوم المذكورين في حديث سهل لصحة سنده وتصريحه بالنزول واحتجاج المفسرين به، وهذا ليس بغريب في القرآن فقد نزل قوله تعالى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بسبب شكوى ابن أم مكتوم وستأتي دراسته إن شاء الله تعالى.
وأما قضية عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلا علاقة لها بالنزول وعدمه، إنما ارتباطها بفهمه النص فقط واللَّه أعلم.
* * * * *
(١) هذه الصفحة في النسخة المطبوعة وضعت - سهوًا - متأخرة عن ترتيبها، فتم تعديلها. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
243
١٠ - قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري ومسلم عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤُوا، لم يدخلوا من قِبَل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبَل بابه، فكأنه عُيّرَ بذلك، فنزلت: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).
وفي رواية للبخاري والنَّسَائِي عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل اللَّه: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء فى سبب نزول هذه الآية وقد أورده جمهور المفسرين وجعلوه سببًا لنزولها منهم: الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والطاهر بن عاشور.
قال البغوي: (قال أهل التفسير: كان الناس في الجاهلية وفي أول
244
الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة، لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه) اهـ.
فإن قيل: ما سبب فعلهم هذا؟
فالجواب: (أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك لأنهم كانوا إذا أحرموا يكرهون أن يحولَ بينهم وبين السماء سقف إلى أن ينقضيَ إحرامهم، ويصلوا إلى منازلهم، فإذا دخلوا منازلهم دخلوها من ظهورها. قاله الزهري. ويعتقدون أن ذلك من البِرِّ والقُرب) اهـ.
وقال القرطبي: (كان الأنصار إذا حجوا وعادوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، فإنهم كانوا إذا أهلُّوا بالحج أو العمرة يلتزمون شرعاً ألا يحول بينهم وبين السماء حائل فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك، أي من بعد إحرامه من بيته، فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء فكان يتسنم ظهر بيته على الجدران ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته فكانوا يرون هذا من النسك والبر، كما كانوا يعتقدون أشياء نسكاً فرد عليهم فيها وبيّن الرب تعالى أن البر في امتثال أمره) اهـ.
* تنبيه:
ما صلة قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) بقوله: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا)؟
قال القرطبي: (اتصل هذا بذكر مواقيت الحج لاتفاق وقوع القضيتين في وقت السؤال عن الأهلة وعن دخول البيوت من ظهورها، فنزلت الآية فيهما جميعاً).
* النتيجة:
أن الآية نزلت بسبب ما كان الأنصار يفعلونه عند إحرامهم بحج أو عمرة حيث كانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها بل من ظهورها ظناً منهم أن هذا من البر والنسك فبين اللَّه أن هذا ليس من البر وأن البر في تقواه - عَزَّ وَجَلَّ - لصحة سند الحديث وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ القرآن، واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
245
١١ - قال الله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج الترمذي وأبو داود والنَّسَائِي عن أسلم أبي عمران التُّجِيبي، قال: كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلُهُم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يُلقي بيديه إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم لتُأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أُنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعزّ اللَّه الإسلام وكَثُر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أموالنا قد ضاعت، وإن اللَّه قد أعز الإسلام وكَثُر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله على نبيِّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يردُّ علينا ما قلنا: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصًا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم.
246
٢ - وأخرج البخاري عن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قال: نزلت في النفقة.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد المفسرون مع ذلك جملة من الأقوال وجعلوها أسبابًا لنزول الآية ومنها مع ما تقدم:
١ - أن الأنصار كان احتبس عليهم بعض الرزق، وكانوا قد أنفقوا نفقات، قال: فساء ظنهم وأمسكوا قال: فأنزل اللَّه: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قال: وكانت التهلكة سوء ظنهم وإمساكهم وهو مروي عن الشعبي ومجاهد وعكرمة.
٢ - وقال آخرون: كان رجال يخرجون في بعوث يبعثها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير نفقة فإما أن يقطع بهم وإما أن يكونوا عالة على غيرهم فأمرهم اللَّه أن يستنفقوا مما رزقهم اللَّه ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع والعطش أو من المشي. وهذا مروي عن زيد بن أسلم.
٣ - وقال آخرون: هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم ويلقي بيده إلى التهلكة ويقول: لا توبة لي، وهو المروي عن البراء بن عازب وعبيدة السلماني.
ما تقدم هو خلاصة ما قيل في سبب نزول هذه الآية. وبعد النظر والتأمل يتبين الآتي في قولهم: إن الأنصار احتبس عليهم الرزق فساء ظنهم وأمسكوا، وهو عندي - واللَّه أعلم - معلول بالآتي:
أ - أن القائل به من التابعين الذين لم يشهدوا التنزيل فقولهم فيه مرسل والمرسل من قسم الضعيف.
247
ب - قولهم: إن الأنصار احتبس عليهم الرزق، معلوم أن الرزق لو احتبس لم يحتبس عن الأنصار وحدهم إذ كان المهاجرون مخالطين لهم في ذلك الوقت فلماذا يختص الأنصار بانحباس الرزق ثم لو احتبس الرزق عليهم فأمسكوا لحاجتهم وأهليهم لم يكونوا ملومين لأن حفظ نفوسهم وأهليهم من أوجب الواجبات.
جـ - قولهم: فساء ظنهم وأمسكوا. هذا واللَّه لا يليق بمن هو دون الأنصار بمراحل فكيف يليق بهم ويوصفون به وهم من نَصَرَ الدين وذاد عن رسول رب العالمين وبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم وأهليهم رخيصة لإعلاء كلمة اللَّه، ومن كان في ريب في ذلك فليقرأ ثناء المولى عليهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، أفيصح هذا القول مع هذا الثناء الرباني فتأمل وأنت الحكم؟
وأما ما ذكر من أنها نزلت في قوم يغزون بغير نفقة فهو مرسل كالأول وقد قال الحافظ ابن حجر معقبًا عليه بعد ذكره: (فيلزم على قوله اختلاف المأمورين فالذين قيل لهم: (أنفقوا وأحسنوا) أصحاب الأموال، والذين قيل لهم: (ولا تلقوا) الغزاة بغير نفقة ولا يخفى ما فيه) اهـ.
وأما قولهم: إن الآية نزلت في الرجل يذنب الذنب فيستسلم ويقول: لا يغفر لي. فالظاهر - واللَّه أعلم - أن قائل هذا القول لم يرد به السببية وإِنَّمَا أراد أن الآية بعمومها تتناول من هذا حاله، وأنه ممن يلقي بنفسه إلى التهلكة بفعله هذا.
ولعل مما يؤيد هذا الفهم من السياق خلوه من ذكر الذنوب والقنوط من رحمة اللَّه ولو كانت مرادةً أصلاً هنا لبينها اللَّه بأوضح من هذا كما قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وإنما الآية آمرةٌ بالإنفاق في أولها وبالإحسان في آخرها.
248
وبهذا يتبين أن الثلاثة السابقة ليست من أسباب نزول الآية.
فإن قيل: ما سبب نزول الآية إذن؟
فالجواب: أن السبب ما ذكره أبو أيوب الأنصاري من أن الآية نزلت فيهم لما همُّوا بالإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الجهاد مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومما يدل على هذا أمور:
١ - أن أبا أيوب أحد الذين وقع منهم هذا لقوله: فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحب القصة أعلم بالمراد بها من غيره.
٢ - قول أبي أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأنزل اللَّه على نبيه يردُّ علينا ما قلنا، فقد صرح بأن الآية ردٌّ عليهم في قولهم هذا، وإذا كانت رداً عليهم فكيف يقال إنها نزلت في غيرهم.
٣ - أن أبا أيوب امتثل ما أُمر فلم يزل شاخصاً في سبيل اللَّه حتى قبض، ومن البعيد جداً أن يستمسك أبو أيوب بهذا حتى الموت وهو يشك أن الخطاب بالآية يعنيه.
٤ - أن القائل بهذا القول هم أكثر السلف وأكثر المفسرين والأكثرون أقرب للصواب في الغالب.
فإن قيل: فما الجواب عن قول حذيفة نزلت في النفقة؟
فالجواب: أن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يضف جديداً لأن الآية صدرت بالأمر بالإنفاق في سبيل، وهذا يتفق مع قول أبي أيوب تماماً لأن الجهاد في سبيل اللَّه يتضمن الإنفاق فيه بخلاف القعود على الأموال وإصلاحها ففيه من قصد الدنيا ما لا يخفى.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية قول أبي أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن معه من الأنصار في حديثهم عن الإقامة في الأموال وإصلاح ما ضاع منها لأن الحديث في ذلك صحيح صريح قائله صحابي شهد التنزيل بل هو أحد الذين نزلت بسببهم الآية، ولم يوجد ما يعترضه حقاً واللَّه أعلم.
249
١٢ - قال اللَّه تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٩٦)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن كعب بن عجرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وقف عليّ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً، فقال: (يؤذيك هوامُّك). قلت: نعم، قال: (فاحلق رأسك، أو قال: احلق). قال فيَّ نزلت هذه الآية: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ) إلى آخرها، فقال النبي - ﷺ -: (صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفَرَق بين ستة، أو انسك بما تيسر).
250
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورده المفسرون وجعلوه سببًا لنزولها. كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
قال الطبري: (وقد تظاهرت الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن هذه الآية نزلت عليه بسبب كعب بن عجرة، إذ شكا كثرة أذى برأسه من صِئبانه، وذلك عام الحديبية). اهـ.
وقال ابن عطية: (ونزلت هذه الآية في كعب بن عجرة حين رآه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورأسه يتناثر قملاً فأمره بالحلاق ونزلت الرخصة). اهـ.
* النتيجة:
أن الآية نزلت بسبب ما جرى لكعب بن عجرة من الأذى في رأسه فأنزل اللَّه الرخصة لإزالة الأذى وبيان الفدية.
* * * * *
251
١٣ - قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٧)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - ر. يما - قال: كان أهل اليمن يحجُّون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).
ورواه ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة مرسلاً.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورده جمهور المفسرين وجعلوه سبباً لنزولها منهم الطبري والبغوي والقرطبي وابن كثير والطاهر بن عاشور وغيرهم.
قال الطبري بعد أن ساق الروايات في ذلك: (وتزودوا من أقواتكم ما فيه بلاغكم إلى أداء فرض ربكم عليكم في حجكم ومناسككم، فإنه لا برَّ للَّه جل ثناؤه في ترككم التزود لأنفسكم ومسألتكم الناس، ولا في تضييع أقواتكم وإفسادها) اهـ.
وقال البغوي: (نزلت في ناس من أهل اليمن كانوا يخرجون إلى الحج
252
بغير زاد ويقولون نحن متوكلون ويقولون نحن نحج بيت اللَّه فلا يطعمنا فإذا قدموا مكة سألوا الناس). اهـ.
وقال ابن العربي: (إنما خاطب اللَّه تعالى أهل الأموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ويقولون نحن المتوكلون). اهـ.
وقال القرطبي: (إن المراد الزاد المتخذ في سفر الحج المأكول حقيقة كما روى البخاري عن ابن عبَّاسٍ ثم ساق الحديث المذكور أعلاه.. ثم قال وهذا نص فيما ذكرنا وعليه أكثر المفسرين). اهـ.
* النتيجة:
أن الآية نزلت على السبب المذكور في حديث ابن عبَّاسٍ في شأن أهل اليمن الذين يحجون ولا يتزودون فأمرهم الله بالتزود المحسوس من الطعام والشراب والكساء وأخبرهم أن الزاد المعنوي وهو التقوى خير وأجل، كما قال تعالى:
(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) وذلك لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ الآية، واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
* * * * *
253
١٤ - قال الله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانت عكاظ ومجنَّةُ وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم،
254
فنزلت: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) في مواسم الحج.
٢ - أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن أبي أمامة التيمي، قال: قلت لابن عمر: إنا نُكري، فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المعرَّف، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ قال: قلنا: بلى. فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن الذي سألتني، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل - عليه السلام - بهذه الآية: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أنتم حجاج.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية. وقد أورد جمهور المفسرين هذه الروايات وجعلوها سبباً لنزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي،
255
وابن كثير والطاهر بن عاشور لكن بعد النظر والتأمل تبين أن بين السببين اختلافًا، فهل يمكن الجمع بينهما أو لا بد من الترجيح؟
أنا لم أجد من أهل العلم من تطرق لهذا ونظر فيه لكن لعل من أمثل ما يُجمع به بين السببين أن يقال: إن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - علم ما حصل في القصة المذكورة التي رواها ابن عمر ثم ساقها على وجه الإجمال كما في حديثه، لكن يعكر على هذا أن المذكور في حديث ابن عبَّاسٍ أسواق الجاهلية المشهورة وفيها البيع والشراء بخلاف المذكور في حديث ابن عمر فإنه الإجارة وبدون ذكر الأسواق.
ويمكن أن يقال بأن مراد ابن عبَّاسٍ بقوله: (فنزلت) ليس النزول المصطلح عليه عند العلماء وهو النزول عند حدوث واقعة أو إيراد سؤال فنزلت الآية جواباً لهذا لكن مراده أن الجمع بين التجارة والعبادة في الحج يتناول حكمَه لفظُ الآية وأنه مما أذن اللَّه فيه لكن يعكر على هذا قوله: فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت. فإن هذا اللفظ لا يسعف هذا الفهم.
فإذا تعذر الجمع بينهما فلا بد من الترجيح وحينئذ هل يقدم حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأن راويه البخاري، بخلاف حديث ابن عمر فراويه أحمد وأبو داود وقد أجمعت الأمة على أن أصح كتاب بعد كتاب اللَّه تعالى الجامع الصحيح للبخاري؟
يشكل على هذا أن حديث ابن عمر صحيح لا مطعن فيه بوجه من الوجوه.
فما الجواب الفصل لحل هذا الإشكال؟
فالجواب: أن الحديث المقدم في السببية هو حديث ابن عمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبيان ذلك أن الحديث فصّل الحديث تفصيلاً يدل على الضبط والإتقان فقول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله عن الذي سألتني. يبين
256
أن سؤاله كسؤال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالقضية فيها سؤال، والسؤال أيضاً عن الكراء في الحج ثم قوله: فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية، دليل صريح على أن الآية نزلت بسبب سؤال الرجل.
وقوله: فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دليل على ما تقدم إذ لو كانوا جماعة كما في حديث ابن عبَّاسٍ لما قال الراوي (دعاه).
ثم مما يؤيد هذا ويؤكده أن الأسواق الثلاثة تنتهي، قبل الحج وحينئذ تنفك التجارة عن العبادة فلا يبقى إشكال يُسأل عنه.
فإن قيل: كيف قال ابن عبَّاسٍ: (فتأثموا فنزلت الآية)؟
فالجواب: ربما فهم ابن عبَّاسٍ هذا من قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) والجناح هو الإثم والحرج كما في قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا... ) الآية.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية هو حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قصة سؤال الرجل لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الكراء في الحج، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل - عليه السلام - بهذه الآية، والآية بعموم لفظها تتناول جميع التجارات في الحج وليست مقصورة على صورة السبب وذلك لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ الآية واللَّه أعلم.
* * * * *
257
١٥ - قال الله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج مسلم والبخاري والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن هشام بن عروة ابن الزبير عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراةً إلا الحمس. والحمس قريش وما ولدت كانوا يطوفون عراةً إلا أن تعطيهم الحمس ثياباً فيُعطي الرجالُ الرجالَ والنساءُ النساءَ. وكانت الحُمس لا يخرجون من المزدلفة وكان الناس كلهم يبلغون عرفات. قال هشام: فحدثني أبي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: الحمس هم الذين أنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - فيهم: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) قالت: كان الناس يفيضون من عرفات. وكان الحمس يفيضون من مزدلفة. يقولون: لا نفيض إلا من الحرم. فلما نزلت: (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) رجعوا إلى عرفات.
وفي رواية للبخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون
258
بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد ذلك جمهور المفسرين وجعلوه سببًا لنزولها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والشنقيطي وابن عاشور.
قال ابن العربي: (وقد اختلف الناس في المراد بهذه الإفاضة على قولين:
أحدهما: أن المراد به من عرفات مخالفةً لقريش، قاله الجماعة.
الثاني: المراد به من المزدلفة إلى منى، قاله الضحاك وإنما صار إلى ذلك لأنه رأى الله تعالى ذكر هذه الإفاضة بعد ذكره الوقوف بالمشعر الحرام، والإفاضة التي بعد الوقوف بالمشعر الحرام هي الإفاضة إلى منى). اهـ.
وقد اختلف العلماء في الجواب عن هذا الإشكال على أقوال:
الأول: (أن هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم، قاله الطبري). اهـ.
والمعنى على هذا: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات مع الناس فاذكروا الله عند المشعر الحرام.
الثاني: (أن لفظة ثم للترتيب الذكري بمعنى عطف جملة على جملة وترتيبها عليها في مطلق الذكر ونظيره قوله تعالى: (فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧). ومنه قول الشاعر:
259
إن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده
قاله الشنقيطي). اهـ واختاره أكثر المفسرين.
الثالث: (أن المعنى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللَّه عند المشعر الحرام: يا معشر من حل بالمشعر الحرام أفيضوا من حيث أفاض الناس. وأخر اللَّه تعالى الخطاب إلى المشعر الحرام ليعمَّ من وقف بعرفة ومن لم يقف حتى يمتثله مع من وقف. ذكره ابن العربي وقال هو التحقيق). اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن الصواب القول الثاني، وأن (ثم) للترتيب الذكري وليست للترتيب للزمني، أما الترتيب الزمني فقوله (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) أي من عرفات (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ).
بقي أن يُقال: كيف قالت عائشة - رضي الله عنها - في الرواية الأخرى: فلما جاء الإسلام أمر اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، مع العلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقف بعرفات ثم يفيض منها؟
فالجواب: أن يقال إن أمر اللَّه لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يمنع أن يكون المقصود بالخطاب غيره وهم الحمس لكن الخطاب توجه إليه باعتبار الرسالة.
وقد يُقال: إن الآية لا تتضمن خطابًا مباشراً لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل خاطبت الناس بلفظ (أفيضوا) ويكون المراد بقولها (أمر اللَّه نبيه) أي أنزل اللَّه على نبيه.
ويمكن أن يُقال: إن لفظ هذا الحديث غير محفوظ بدليل مخالفته للحديث قبله وقولها فيه: (الحمس هم الذين أنزل اللَّه فيهم (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) لكن هذا خلاف الأصل وما دام الجمع ممكنًا بغيره فالعدول عنه أولى) واللَّه أعلم.
260
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية هو امتناع الحمس من الوقوف بعرفة والإفاضة منها واقتصارهم على الوقوف بالمزدلفة لأنها من الحرم فأنزل اللَّه على نبيه أمره إياهم بالإفاضة من عرفات كما يفيض سائر الناس. لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول واحتجاج المفسرين به، وموافقته للفظ الآية واللَّه أعلم.
* * * * *
261
١٦ - قال اللَّه تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (٤٣).
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١).
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، والنَّسَائِي عن عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بيّن لنا في
الخمر بيانًا شفاءً فنزلت هذه الآية التي في البقرة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) قال: فدُعي عمر، فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً فنزلت الآية التي في النساء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) فكان منادي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال: فقال عمر: انتهينا انتهينا.
262
٢ - أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حرمت الخمر ثلاث مرات؛ قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنهما فأنزل اللَّه على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) إلى آخر الآية، فقال الناس: ما حُرِّم علينا إنما قال: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) وكانوا يشربون الخمر.
حتى إذا كان يوم من الأيام، صلى رجل من المهاجرين، أمَّ أصحابه في المغرب، خلط في قراءته فأنزل الله فيها آيةً أغلظ منها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق.
ثم نزلت آية أغلظ من ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فقالوا: انتهينا ربنا، فقال الناس: يا رسول اللَّه، ناس قتلوا في سبيل الله، وماتوا على فُرُشهم، كانوا
263
يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله اللَّه رجسًا من عمل الشيطان، فأنزل اللَّه: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا) فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد ذكر بعض المفسرين كابن العربي وابن كثير حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند آية سورة البقرة.
وعندي - واللَّه تعالى أعلم - أن هذا الحديث وان صح سنده ليس سبباً لنزول آية سورة البقرة فإن اللَّه تعالى نص فيها على وقوع السؤال بقوله: (يَسْأَلُونَكَ) وأن السؤال وقع عن شيئين وهما الخمر والميسر بقوله: (عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) فأين حديث عمر من سياق الآية فالاختلاف بينهما ظاهر من وجهين:
الأول: أن الآية فيها السؤال عن الخمر والميسر جميعاً بينما حديث عمر فيه الدعاء بالبيان عن الخمر فقط.
الثاني: أن الله قال في الآية: (يَسْأَلُونَكَ) وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما يدل على هذا لفظ الحديث وإنما دعا اللَّه فقال: (اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شفاءً) وفرق بين دعاء الله وسؤال رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسياق الآية والحديث يأبيان الاجتماع.
264
ولهذا (أعني عدم التطابق بين لفظ الآية وحديث عمر) ساق الواحدي والبغوي وابن عاشور حديثاً آخر في نزولها فقالوا: نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
وهذا لا يصح سبباً في نزولها لأنه لا إسناد له في كتب السنة فتعيّن إطراحه.
وأما ما أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه نصٌّ في الموضوع لولا الضعف الشديد في إسناده مما يحول ويمنع من الاستدلال به، بالإضافة إلى أنه لم يذكره من المفسرين إلا ابن كثير فقط.
وإذا كان الأمر كذلك فإن الثابت الذي لا ريب فيه أن سبب نزول الآية أنهم سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الخمر والميسر فأنزل اللَّه الآية لأن لفظ الآية الصريح يدل على ذلك.
ولم أجد دليلاً صحيحًا صريحًا من السنة يدل على هذا السؤال واللَّه تعالى أعلم.
أما سبب نزول الآيتين من سورة النساء والمائدة فستأتي دراستهما إن شاء الله في موضعهما من سورة النساء والمائدة.
* النتيجة:
أن السببين المذكورين لنزول الآية لا يصحان لأن حديث عمر صحيح غير صريح وحديث أبي هريرة صريح غير صحيح فلعل للآية سبباً لم يندرج ضمن نطاق البحث لكن الشيء الذي يدل عليه لفظ الآية أنها نزلت بسبب سؤالهم عن الخمر والميسر واللَّه أعلم.
* * * * *
265
١٧ - قال الله تعالى: (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الإمام أحمد وأبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما نزلت: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) عزلوا أموال اليتامى حتى جعل الطعام يفسد واللحم ينتن فذُكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) قال: فخالطوهم.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وعلى هذا جمهور المفسرين منهم الطبري
266
والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والطاهر بن عاشور.
وهذا السبب وإن كان ضعيفاً من جهة إسناده لكنه يعتضد بأمرين:
الأول: سياق الآية القرآني فإنه يدل على هذا السبب حيث يلاحظ التطابق بينه وبين لفظ الحديث من جهة توجيه السؤال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومجيء الجواب من الله بقوله: (قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ).
الثاني: أن هذا السبب قال به جمهور السلف والخلف ولهذا لما ساق ابن كثير هذا السبب قال: (وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد وعطاء والشعبي، وابن أبي ليلى وقتادة وغير واحد من السلف والخلف). اهـ.
وإذا كان السبب مؤيدًا بما تقدم فإن هذا يدل على أن له أصلاً ثابتًا - والعلم عند اللَّه تعالى -.
* النتيجة:
أن هذه الآية نزلت على سبب ولم تنزل ابتداء ويدل على هذا سياقها حيث ذكر السؤال والجواب، لكن السبب المذكور هنا لا يخلو من ضعف ولعله يتأيد بما تقدم واللَّه أعلم.
* * * * *
267
١٨ - قال الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج الإمام أحمد والدارمي ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوهن ولم يجامعوهن في البيوت فسأل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) حتى فرغ من الآية فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول اللَّه، إن اليهود قالت: كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أنه لم يجد عليهما.
٢ - أخرج الدارمي عن عكرمة قال: كان أهل الجاهلية يصنعون في
268
الحائض نحواً من صنيع المجوس فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) فلم يزدد الأمر فيهن إلا شدة.
٣ - وأخرج الدارمي عن مجاهد قال: كانوا يجتنبون النساء في المحيض ويأتونهن في أدبارهن فسألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) في الفرج ولا تعدوه.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية والذي عليه جمهور المفسرين في سبب نزولها ما جاء من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن فعل اليهود مع نسائهم حال الحيض فأنزل اللَّه الآية منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والطاهر بن عاشور.
وأما قول عكرمة: كان أهل الجاهلية يصنعون في الحائض نحواً من صنيع المجوس فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت الآية فهذا الأثر معلول بالآتي:
١ - أنه مرسل فعكرمة لم يدرك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو يدرك زمن نزولها بالإضافة إلى مخالفة هذا الأثر للحديث الصحيح الصريح المرفوع كما سيتبين بعد ذلك.
٢ - قول عكرمة: كان أهل الجاهلية. هذا المصطلح اشتهر إطلاقه على الكفار في مكة فأما بعد الهجرة إلى المدينة فلا يعرف إلا المهاجرون والأنصار
269
والمنافقون واليهود فكيف يكون فعل أهل الجاهلية سببًا لنزول آية مدنية، هذا إذا أدركنا أن المسلمين لم يتأثروا بفعل أهل الجاهلية لأنهم يعرفون جهلهم بل كانوا يلحظون فعل اليهود لأنهم أهل كتاب وعندهم شبهة حق فيما لم ينزل على المسلمين فيه شيء.
٣ - لو كان أهل الجاهلية يصنعون هذا في الحائض أعني (الاعتزال التام) لما استغرب أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا من اليهود لأنهم سيكونون قد عهدوه من قبل من أهل الجاهلية.
أما قول مجاهد: كانوا يجتنبون النساء في المحيض ويأتونهن في أدبارهن فهو معلول بالإرسال أيضًا كالأول وقد قال عنه ابن العربي: (وهذا ضعيف) اهـ.
ثم لو كانوا يأتونهن في أدبارهن فأين جواب هذا في الآية؟
الآية لم تتعرض لهذا إلا بقوله تعالى: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) وهذا ليس صريحًا لأن يكون سبب نزولها؛ لأن السؤال في الآية موجّه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شأن المحيض فقال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى).
فتبين بهذا ضعف هذين الأثرين وأنه لا يعول عليهما بشأن سبب نزول الآية.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية هو حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث استشكل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل اليهود مع نسائهم حال الحيض فسألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله الآية مبينًا للمسلمين ما يحرم وما يحل من المرأة في تلك الحال. وذلك لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ الآية، واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
* * * * *
270
١٩ - قال اللَّه تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج مسلم والدارمي والبخاري وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن جابر بن عبد اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).
٢ - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: جاء عمر إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللَّه هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: حوّلت رحلي الليلة، قال: فلم يرد عليه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً قال: فأوحي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الآية: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
271
شِئْتُمْ) أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة.
٣ - أخرج النَّسَائِي عن أبي النضر أنه قال لنافع مولى عبد اللَّه بن عمر: قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر: إنه أفتى بأن يؤتى النساء في أدبارهن، قال نافع: لقد كذبوا عليَّ، ولكني سأخبرك كيف كان الأمر: إن ابن عمر عرض المصحف يومًا وأنا عنده حتى بلغ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال: يا نافع، هل تعلم ما أمر هذه الآية؟ إنا كنا معشر قريش نجبيءُ النساء، فلما دخلنا المدينة، ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد من نسائنا، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه وكانت نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن فأنزل اللَّه تعالى: ((نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).
272
٤ - أخرج أبو داود عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إن ابن عمر - واللَّه يغفر له - أوهم، إنما كان هذا الحي من الأنصار - وهم أهل وثن - مع هذا الحي من يهود - وهم أهل كتاب - وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم وكان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يُشرِّحُون النساء شرحًا منكرًا، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة، تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نُؤتى على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى شري أمرهما فبلغ ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: ((نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد.
٥ - أخرج النَّسَائِي عن عبد اللَّه بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رجلاً أتى امرأته في
273
دبرها في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد من ذلك وجداً شديداً فأنزل الله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية، وقد ذكر جمهور المفسرين هذه الأحاديث على تفاوت بينهم في ذكر بعضها وترك بعضها، ومن هؤلاء الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال السعدي: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) مقبلة ومدبرة، غير أنه لا يكون إلا في القبل، لكونه موضع الحرث، وهو الموضع الذي يكون منه
274
الولد، وفيه دليل على تحريم الوطء في الدبر؛ لأن اللَّه لم يبح إتيان المرأة إلا في الموضع الذي منه الحرث، وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تحريم ذلك ولعن فاعله) اهـ.
فأما ما روى النَّسَائِي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رجلاً أتى امرأته في دبرها في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجد من ذلك وجداً شديداً.
ففيه علتان قويتان:
الأولى: في إسناده، فقد أنكر أبو حاتم أن يكون هذا الإسناد المروي لهذا المتن بل له إسناد آخر غيره تبين تفصيله في الحاشية.
الثانية: في متنه، فقد قال ابن القيم: (هذا غلط بلا شك، غلط فيه سليمان بن بلال، أو ابن أبي أويس راويه عنه، وانقلبت عليه لفظة (مِن) بلفظة (في) وإنما هو (أتى امرأته من دبرها) ولعل هذه هي قصة عمر بن الخطاب بعينها لما حوَّل رحله، ووجد من ذلك وجداً شديداً فقال لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هلكت، أو يكون بعض الرواة ظن أن ذلك هو الوطء في الدبر فرواه بالمعنى الذي ظنه) اهـ.
وحينئذٍ ينحسر البحث في أربعة أحاديث، منها حديث النَّسَائِي عن أبي النضر في قصة نافع مع ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وهذا الحديث - واللَّه أعلم - ليس سبب نزولها، وإن كان إسناده يحتمل التحسين لما روى أحمد والدارمي عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: إن الأنصار كانوا لا يُجبُّون النساء، وكانت اليهود تقول: إنه من جبَّى امرأته خرح ولده أحول، فلما قدم المهاجرون المدينة، نكحوا في نساء الأنصار، فجبّوهُن، فأبت امرأة أن تطيع زوجها، فقالت لزوجها: لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدخلت على أم سلمة فذكرت ذلك لها، فقالت: اجلسي حتى يأتي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحيت الأنصارية أن تسأله، فخرجت، فحدثت أمُّ سلمة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (ادعي
275
الأنصارية)، فدعيت فتلا عليها هذه الآية: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) صمامًا واحدًا.
فسياق أم سلمة لهذا الحديث يقارب كثيرًا حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مما يشير إلى أن القصة في الحديثين واحدة، وهي في سياق أم سلمة أتم وأوفى كيف لا وقد وقعت في بيتها، وهي راويتها من غير واسطة، وقد أشار الحديث إلى حقيقتين هامتين:
الأولى: أن حديث أم سلمة - رضي الله عنها - لم يتعرض للنزول أعني قوله: (فأنزل) وإنما فيه أنه تلا عليها الآية فقط، وهذا كالتذكير لها بحكم نازل سابق.
وإذا كان الأمر كذلك فان قول ابن عمر: فأنزل الله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) إما أن يكون من تصرف الرواة، أو يكون من قول ابن عمر، ولم يرد به النزول المصطلح عليه، وإنما أراد أن لفظ الآية يتضمن حكم هذه المسألة، أو ربما ظن أنها نزلت بسبب ذلك وليس الأمر كذلك.
الثانية: أن أم سلمة - رضي الله عنها - ذكرت في حديثها قول اليهود: من جبّى خرج ولده أحول، وهذا يدل على أن أصل الإشكال عند الأنصار ناشئ من اعتقاد اليهود في ذلك.
أما حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عند أبي داود في توهيمه لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فالجواب عنه كالجواب عما رواه النَّسَائِي عن نافع عن ابن عمر سواء بسواء، لأن شأن الحديثين واحد لوجهين:
الأول: أن في حديث ابن عبَّاسٍ قالت: إنما كنا نُؤتى على حرف، وفي حديث ابن عمر: وكانت نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن.
الثاني: أن في حديث ابن عبَّاسٍ: أن الأنصار يقتدون بأهل الكتاب، وفي حديث ابن عمر: فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه، وسبب الكراهة
276
والتعظيم اقتداؤهم بأهل الكتاب كما أشار إلى ذلك حديث أم سلمة - رضي الله عنها - وحينئذٍ يؤول الحديثان إلى حديث أم سلمة وقد وقعت القصة في بيتها وخلا لفظها من النزول، والله أعلم.
وهنا ينحسر البحث في حديثي جابر، وابن عبَّاسٍ في قصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فأيهما السبب؟
فيقال: المقدم في سبب النزول هو حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لصحة إسناده، وكثرة رواته، وحديث ابن عبَّاسٍ في قصة عمر ضعيف لا يداني حديث جابر، فضلاً عن أن ينازعه السببية.
وعلى فرض صحته يقال: إن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ممن تأثر بقول اليهود، فلهذا قال: هلكت، ووجه تأثره: أنه قرشي، والقرشيون لم يكونوا يستنكرون التجبية كما دلت الأحاديث المتقدمة على ذلك، فلما سمع بقول اليهود تأثر به، فلما وقع منه ذلك خشي الهلاك فسأل فنزلت الآية ردًا على يهود فيما زعموا، وتطميناً لعمر ومن فعل فعله. واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن سبب نزول هذه الآية الكريمة حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما زعمه اليهود أن الرجل إذا أتى امرأته من دبرها في قُبلها كان الولد أحول لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وعدم المعارض واللَّه أعلم.
* * * * *
277
٢٠ - قال الله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أبو داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية - رضي الله عنها - أنها طُلقت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - حين طُلقت أسماء العدة للطلاق، فكانت أول من أُنزلت فيها العدة للمطلقات.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وقد أورد ابن كثير هذا الحديث عند تفسيره لهذه الآية، وزاد على ذلك أن عيّن الآية النازلة فقال يعني: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ).
وكذلك فعل أبو الطيب شمس الحق أبادي حيث قال: والمنزل قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ).
ولعل اختيارهما لهذه الآية عائد إلى الغالب، إذ عامّة المطلقات إنما
278
يُطلقن بعد الدخول بهن، وقبل إياسهن من المحيض، وهنّ حوائل.
وإلا فإن عِدَدَ المطلقات متفاوتة، فمن المطلقات من تعتد بوضع الحمل، فيما إذا كانت حاملاً، ومنهن من تعتد ثلاثة أشهر كالآيسة، والصغيرة التي لم تحض، ومنهن من لا عدة عليها كالتي طُلقت قبل الدخول.
وإذا نظرنا إلى الحديث، ومدى مناسبته لنزول الآية وجدنا المطابقة بينهما تامة من جميع الوجوه، مما يدل على أنه سبب نزولها.
* النتيجة:
أن الحديث الذي معنا سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وموافقته للفظ الآية، وسياق الآيات وتصريحه بالنزول والله أعلم.
* * * * *
279
٢١ - قال الله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان الناس، والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته: واللَّه لا أطلقك فتبيني مني، ولا آويكِ أبداً. قالت: وكيف ذاك؟ قال: أُطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها فسكتت عائشة حتى جاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته، فسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى نزل القرآن: ((الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) قالت عائشة: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلاً من كان طلق ومن لم يكن طلق.
وأخرجه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلاً.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة وهذا الذي عليه جمهور
280
المفسرين كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والطاهر بن عاشور فقد ذكروا هذا الحديث عند سياقهم لتفسيرها.
قال الطبري: (ذِكر من قال إن هذه الآية أُنزلت لأن أهل الجاهلية، وأهل الإسلام قبل نزولها لم يكن لطلاقهم نهاية تبين بالانتهاء إليها امرأته منه ما راجعها في عدتها منه، فجعل اللَّه تعالى ذكره لذلك حداً حرم بانتهاء الطلاق إليه على الرجل امرأته المطلقة إلا بعد زوج وجعلها حينئذٍ أملك بنفسها منه) اهـ.
وقال ابن العربي: (ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكان عندهم العدة معلومةً مقدرة) اهـ.
وقال ابن كثير: (هذه الآية رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مئة مرة ما دامت في العدة فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم اللَّه إلى ثلاث طلقات وأباح الرجعة في المرة والثنتين وأبانها بالكلية في الثالثة) اهـ.
وقال السعدي: (كان الطلاق في الجاهلية واستمر أول الإسلام هو أن يطلق الرجل زوجته بلا نهاية، فكان إذا أراد مضارتها طلقها، فإذا شارفت انقضاء عدتها راجعها، ثم طلقها، وصنع بها مثل ذلك أبدًا، فيحصل عليها من الضرر ما اللَّه به عليم. فأخبر تعالى أن الطلاق الذي تحصل به الرجعة مرتان) اهـ.
وعندي - واللَّه أعلم - أن اتفاق جمهور المفسرين على المعنى الذي دلَّ عليه حديث عروة المرسل يدل على أن لهذا أصلاً ثابتاً حملهم على القول بمقتضاه واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن الحديث الذي معنا، وإن كان الصحيح فيه الإرسال، هو سبب نزول الآية لصحة سنده إلى عروة، وتصريحه بالنزول، واحتجاج المفسرين به وتعويلهم عليه واللَّه أعلم.
281
٢٢ - قال اللَّه تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج مالك عن ثور بن زيد الديلي، أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يراجعها ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها. كيما يُطول بذلك عليها العدة ليضارها فأنزل الله تبارك وتعالى: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) يعظهم الله بذلك.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وهو المروي عن ابن عبَّاسٍ ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك والربيع والزهري، والسدي وغيرهم.
قال الطبري: (أي لا تراجعوهنّ إن راجعتموهن في عددهن مضارةً لهن لتطولوا عليهن مدة انقضاء عددهن أو لتأخذوا منهن بعض ما آتيتموهن بطلبهن الخلع منكم لمضارتكم إياهن بإمساككم إياهن ومراجعتكم إياهن ضراراً واعتداءً) اهـ.
282
وقال القرطبي: (وهذا الخبر موافق للخبر الذي نزل بترك ما كان عليه أهل الجاهلية من الطلاق والارتجاع حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) فأفادنا هذان الخبران أن نزول الآيتين المذكورتين كان في معنى واحد متقارب وذلك حبس الرجل المرأة ومراجعته لها قاصداً إلى الإضرار بها وهذا ظاهر) اهـ.
* النتيجة:
أن السبب المذكور في نزول الآية ضعيف لا يصلح للاحتجاج لكنه معتضد بما يروى عن ابن عبَّاسٍ والتابعين في ذلك، وظاهر السياق القرآني يؤيد ذلك ويدل على أن له أصلاً لأن قوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) يدل على وجود شيء من ذلك وأن العلة لفعلهم هذا هي الاعتداء والظلم ولهذا كرر اللَّه في هذه الآية النهي والتذكير والعظة وختمها ببيان علمه بكل شيء وهذا يدل على تحذير بليغ وزجرٍ شديد.
فلولا وجوده ما بلغ الله في التحذير هذا المبلغ واللَّه أعلم.
* * * * *
283
٢٣ - قال اللَّه تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن معقل بن يسار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها نزلت فيه، قال: زوجتُ أُختًا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوّجتك وفرشتك وأكرمتك، فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً. وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) فقلت: الآن أفعل يا رسول اللَّه، قال: فزوجها إياه.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد ذكر المفسرون هذا الحديث وجعلوه سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال الطبري: (ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل كانت له أُخت كان
284
زوَّجها من ابن عم لها، فطلقها وتركها فلم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم خطبها منه، فأبى أن يزوجها إياه ومنعها منه وهي فيه راغبة... ثم اختلف أهل التأويل في الرجل الذي كان فعل ذلك فنزلت فيه هذه الآية، فقال بعضهم: كان ذلك الرجل معقل بن يسار المزني، ثم ساق الروايات في ذلك) اهـ.
وقال البغوي: (نزلت في جميلة بنت يسار أخت معقل بن يسار المزني كانت تحت أبي القداح بن عاصم بن عدي بن عجلان فطلقها) اهـ.
وقال ابن العربي: (وقد صح أن معقل بن يسار كانت له أُخت فطلقها زوجها فلما انقضت عدتها خطبها فأبى معقل فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية) اهـ.
وقال ابن كثير: (وهكذا ذكر غير واحد من السلف أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار وأخته) اهـ.
* النتيجة:
أن حديث معقل بن يسار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سبب نزول الآية لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته لِلفظ الآية، واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
* * * * *
285
٢٤ - قال اللَّه تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج مسلم وأحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
وفي رواية للبخاري، إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) فأمرنا بالسكوت.
٢ - أخرج الإمام أحمد وأبو داود والنَّسَائِي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها قال فنزلت: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) وقال إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين.
286
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد المفسرون هذه الروايات وجعلوها من أسباب نزول الآية منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور وغيرهم.
وعند النظر في حديث زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجد أنه مشكل من وجهين: الأول: قوله: ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها فإن أراد بالأصحاب أهل الإيمان منهم فهذه الحال لا تنطبق عليهم فقد وصفهم اللَّه في كتابه بأجمل الأوصاف فقال عنهم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ... ) الآية. فقوله: (وَالَّذِينَ مَعَهُ) هم أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن أراد بقوله أصحاب الظاهر وهم المنافقون فهذه الحال أيضاً لا تنطبق عليهم لما روى مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - ﷺ -: (إن أثقل صلاةٍ على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً... الحديث).
الوجه الثاني: استدلاله بالآية على أن الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر
287
وهذا يخالف النص الصحيح الصريح من سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن المراد بالصلاة الوسطى صلاة العصر فقد أخرج الشيخان واللفظ لمسلم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الأحزاب: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللَّه بيوتهم وقبورهم نارًا) ثم صلاها بين العشائين بين المغرب والعشاء.
وبهذا يتبين أن حديث زيد بن ثابت غير محفوظ فلا يستقيم الاحتجاج به على السببية، إذ مقتضى الاستدلال به أن نضرب بكتاب اللَّه سنةَ رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصحيحة وهذا أمر يبرأ منه من له أدنى حظ من علم أو إيمان واللَّه المستعان.
وعند النظر في حديث زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يظهر لنا الإشكال التالي:
وهو أن ظاهر الحديث أن تحريم الكلام في الصلاة إنما كان في المدينة لأن الآية مدنية بالاتفاق وهذا يخالف بظاهره حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقد روى الشيخان عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نسلِّم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي فيردّ علينا فلما رجعنا من عند النجاشي، سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا: يا رسول اللَّه، إنا كنا نسلم عليك فترد علينا؟ قال: إن في الصلاة شغلاً.
وهذا يدل على أن تحريم الكلام في الصلاة سابقٌ للهجرة إلى المدينة لأن هجرتهم إلى الحبشة قبلها قطعًا فما الجواب؟
فالجواب من خمسة أوجه:
أولاً: (أن زيد بن أرقم أراد بقوله: كان الرجل يكلم أخاه في حاجته في الصلاة، الإخبار عن جنس الكلام واستدل على تحريم ذلك بهذه الآية بحسب ما فهمه منها.
288
ثانياً: أنه أراد أن ذلك قد وقع بالمدينة بعد الهجرة إليها ويكون ذلك قد أُبيح مرتين وحرم مرتين) اهـ.
ثالثاً: (أن تحريم الكلام كان بمكة وحملوا حديث زيد بن أرقم على أنه وقومه لم يبلغهم النسخ وقالوا: لا مانع أن يتقدم الحكم ثم تنزل الآية بوفقه).
رابعاً: ذهب آخرون إلى الترجيح فقالوا يترجح حديث ابن مسعود لأنه حكى لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخلاف زيد بن أرقم فلم يحكه.
خامساً: قالوا: إن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أراد بقوله: فلما رجعنا، رجوعه الثاني وذلك أن بعض المسلمين هاجر إلى الحبشة ثم بلغهم أن المشركين أسلموا فرجعوا إلى مكة فوجدوا الأمر بخلاف ذلك واشتد الأذى عليهم فخرجوا إليها أيضاً فكانوا في المرة الثانية أضعاف الأولى وكان ابن مسعود مع الفريقين، وقد ورد أنه قدم المدينة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتجهز إلى بدر، فظهر أن اجتماعه بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد رجوعه كان بالمدينة وإلى هذا الجمع نحا الخطابي ويقوي هذا الجمع رواية كلثوم فإنها ظاهرة في أن كلاً من ابن مسعود وزيد بن أرقم حكى أن الناسخ قوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) اهـ بتصرف.
قلت: رواية كلثوم التي أشار إليها ابن حجر هي قول عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كنت آتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فأسلم عليه فيرد عليَّ، فأتيته فسلمتُ عليه وهو يصلي فلم يرد عليَّ فلما سلم أشار إلى القوم فقال: إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يعني أحدث في الصلاة أن لا تكلموا إلا بذكر اللَّه وما ينبغي لكم وأن تقوموا للَّه قانتين.
فقول عبد اللَّه في الحديث وأن تقوموا للَّه قانتين مع حديث زيد بن أرقم يدلان على أن القصة واحدة وأن ذلك كان بالمدينة.
289
بل لو قدرنا جدلاً أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يذكر في حديثه وقوموا لله قانتين واقتصر ذكرها في حديث زيد بن أرقم لما كان في هذا إشكال لأن التحريم سيكون حينئذٍ ثابتاً بحديث زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ويكون مجيء ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى المدينة بعد تحريم الكلام في الصلاة ولهذا قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن في الصلاة شغلاً.
وهذا القول الأخير في الجمع بين الحديثين هو أصح الأقوال التي ذكرها ابن حجر والله أعلم.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية ما دلّ عليه حديث زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من أن الصحابة كانوا يتكلمون في الصلاة فيما بينهم عن حوائجهم فأنزل الله الآية آمرةً بالمحافظة على الصلاة والسكوت فيها ناهيةً عن الكلام الذي ليس من شأنها. لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ الآية واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
* * * * *
290
٢٥ - قال الله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أبو داود والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانت المرأة تكون مقلاةً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).
وفي لفظ للنسائي عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت المرأة من الأنصار لا يكون لها ولد تجعل على نفسها لئن كان لها ولد لتهوِّدنه فلما أسلمت الأنصار قالوا: كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث وجعلوه سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
291
قال الطبري: (اختلف أهل التأويل في معنى ذلك فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار، أو في رجل منهم كان لهم أولاد قد هوَّدوهم أو نصَّروهم فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه فنهاهم اللَّه عن ذلك حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام). اهـ.
وقال ابن كثير: (يقول تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى اللَّه قلبه، وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار وإن كان حكمها عاماً). اهـ.
* النتيجة:
أن الحديث الذي معنا سبب نزول الآية لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ الآية، واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
* * * * *
292
٢٦ - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الترمذي وابن ماجه عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) قال: نزلت فينا معشر الأنصار كنا أصحابَ نخلٍ فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلَّته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلِّقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل، وكان ناسٌ ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلِّقه فأنزل اللَّه تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) قالوا: لو أن أحدكم أُهدي إليه مثلُ ما أَعطى لم يأخذه إلا على إغماض أو حياء.
قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده.
293
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد ذكر المفسرون هذا الحديث عند تفسيرها وجعلوه سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية وابن كثير.
قال الطبري: (لا تعمدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم فتصدقوا منه، ولكن تصدقوا من الطيب الجيد، وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من الأنصار علق قنواً من حشف في الموضع الذي كان المسلمون يعلقون صدقة ثمارهم صدقةً من تمره). اهـ.
وقال ابن العربي: (لا خلاف بين أهل التفسير أنها نزلت في الرجل كان يأتي بالقنو من الحشف فيعلقه في المسجد يأكل منه الفقراء فنزلت: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) اهـ.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة ما جاء فى حديث البراء، وإن كان إسناده لا يخلو من مقال، لتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ الآية، واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
* * * * *
294
٢٧ - قال اللَّه تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسبائهم من المشركين فسألوا فرضخ لهم فنزلت هذه الآية: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد ذكر بعض المفسرين الحديث بنصه كالطبري وابن العربي وابن كثير، وغيرهم ذكره بمعناه كالبغوي وابن عطية والقرطبي.
قال الطبري: (يعني تعالى ذكره بذلك: ليس عليك يا محمد هدى
295
المشركين إلى الإسلام فتمنعهم صدقة التطوع ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، ولكن اللَّه هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم له فلا تمنعهم الصدقة) اهـ.
وقال ابن عاشور: (نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين عن الصدقة على الكفار إلجاءً لأولئك الكفار على الدخول في الإسلام.
والمعنى: أن ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد دون هداهم بالفعل أو الإلجاء إذ لا هادي لمن يضلل الله وليس مثل هذا بميسّر للهدى) اهـ.
وكلام الطبري وابن عاشور وغيرهما من المفسرين تجدهم فيه ينسبون النهي عن التصدق على الكافرين إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليحملهم ذلك على الدخول في الإسلام عند الحاجة.
وهذا القول - فيما أعلم - ليس له مستند شرعي صحيح من كتاب اللَّه، أو سنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما حمل قائلَه عليه فهمُه لسياق الآية في قوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) وهذا ليس بسديد لأنه لا يلزم من التنبيهِ الوقوعُ في المحذور ودليل ذلك قول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥).
فهل وقع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشرك أو قارب الوقوع فيه؟.
والجواب: لا بلا ريب ولا تردد فلم يقع شيء من ذلك بحمد اللَّه.
ثم أيضاً هذا الكلام معارض بأمرين:
الأول: سبب النزول، فقد جاء في السبب كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسبائهم ولم يقل كانوا ينهون، وأيضاً قوله فسألوا فرخص لهم، ولم يقل فمنعهم.
ولهذا قال ابن العربي: (في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تصدقوا إلا على أهل دينكم فنزلت: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ).
الثاني: أنه ساق الحديث الذي معنا ثم قال: وهذا هو الصحيح لوجهين:
296
أحدهما: أن الأول حديث باطل.
الثاني: أن أسماء - رضي الله عنها - قالت: (قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أبيها، فاستفتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: إن أُمي قدمت وهي راغبة؟ قال: نعم صِلِي أُمكِ) فإنما شكوا في جواز الموالاة لهم، والصدقة عليهم فسألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأذن لهم). اهـ.
الأمر الثاني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الزكاة الواجبة كان يعطي المؤلفة قلوبهم امتثالاً لأمر اللَّه، وترغيباً لهم في الدخول في الإسلام مع أن شأنها أعظم وأخطر وأجلُّ من صدقة التطوع في وجوب التحري والنظر لمستحقها، فكيف يفعل العكس والضد في غير الأموال الزكوية ويتخذه سبيلاً لجرِّ الناس إلى الإسلام؟
أليس هذا ينافي حكمة العقلاء فضلاً عن حكمة سيد الأنبياء.
* تنبيه:
فإن قال قائل: الآية خاطبتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والكراهة وقعت من غيره فلماذا يوجه الخطاب إليه؟
والجواب: هذا صحيح، ووجه توجيه الخطاب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه إمامهم وقدوتهم ومثل هذا موجود في القرآن كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).
* النتيجة:
أن الحديث الذي معنا سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته للفظ الآية، واحتجاج المفسرين بالمعنى الذي دلَّ عليه واللَّه أعلم.
297
٢٨ - قال الله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج مسلم وأحمد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم بركوا على الركب، فقالوا: أيْ رسول اللَّه كُلِفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلَّت بها ألسنتهم: فأنزل اللَّه في إثرها: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فلما فعلوا ذلك نسخها اللَّه تعالى. فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (قال: نعم) (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) (قال: نعم) (رَبَّنَا وَلَا
298
تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (قال: نعم) (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (قال: نعم).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث وجعلوه سبب نزول الآيتين منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال ابن عطية: (سبب هذه أنه لما نزلت: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) وأشفق منها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ثم تقرر الأمر على أن قالوا: سمعنا وأطعنا فرجعوا إلى التضرع والاستكانة مدحهم اللَّه وأثنى عليهم في هذه الآية، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم، فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى اللَّه تعالى، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من المذلة والمسكنة والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله أعاذنا اللَّه من نقمه) اهـ.
* النتيجة:
أن سبب نزول قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ.. ) الآية أنهم قالوا: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)
299
بعد نزول قوله سبحانه: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ).
وأن سبب نزول قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.. ) الآية مكافأتهم على السمع والطاعة والاستجابة لأمر اللَّه حيث رفع عنهم المؤاخذة على الخطأ والنسيان وصرف عنهم الآصار التي كانت على من قبلهم. وذلك لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول، وموافقته لِلفظ الآيات، واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
* * * * *
300
سورة آل عمران
301
Icon