تفسير سورة الصافات

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

﴿ وَالصَّافَّاتِ صَفَّا ﴾ ؛ يعني صُفوفَ الملائكةِ في السَّماءِ كصُفوفِ الخلقِ في الدُّنيا للصَّلاةِ، وهذا قَسَمٌ أقسمَ اللهُ تعالى بالملائكةِ التي تَصُفُّ أنفُسَها في السَّماء، قال ابنُ عبَّاس :(يُرِيدُ الْمَلاَئِكَةَ صُفُوفاً لاَ يُعْرَفُ كُلُّ مَلَكٍ مِنْهُمْ مِنْ إلى جَانِبه، لَمْ يَلْتَفِتْ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ). وَقِيْلَ : اقسمَ اللهُ بصُفوفِ الملائكةِ تَصُفُّ أجنحتَها في الهواءِ واقفةً فيه حتى يأمُرَ اللهُ بما يريدُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً ﴾ ؛ أرادَ به الملائكةَ الذين يَزجُرون السَّحابَ فيسُوقُونَهُ إلى الموضعِ الذي أُمِرُوا به ويُؤَلِّفُونَهُ، وقال قتادةُ :(يَعْنِي زَوَاجِرَ الْقُرْآنِ) وَهُوَ كُلُّ مَا يَنْهَى وَيَزْجُرُ عَنِ الْقَبيحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ﴾ ؛ يعني جبريلَ والملائكةَ يَتْلُونَ كتابَ اللهِ وذكره، وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّ إِلَـاهَكُمْ لَوَاحِدٌ ﴾ ؛ جوابُ القسمِ، وإنما وقعَ القسَمُ بهذه الملائكةِ ؛ لأن في تعظيمِها تَعظِيماً للهِ، وَقِيْلَ : هذا أقسمَ باللهِ تعالى على تقديرِ : ورب الصافَّات، إلاَّ أنه حُذفَ لما يقتضِي من التعظيمِ، وكذلك﴿ وَالذَّارِيَاتِ ﴾[الذاريات : ١]﴿ وَالطُّورِ ﴾[الطور : ١]﴿ وَالنَّجْمِ ﴾[النجم : ١] وغيرِ ذلكَ.
وقد تضمَّنت الآيةُ تشريفَ الملائكةِ وتعظيمَ الاصطفافِ في الصَّلاة، وفي الحديثِ :" إنَّهُمْ يَصْطَفُّونَ فِي صَلاَتِهِمْ فِي السَّمَاءِ وَيُسَبحُونَ اللهَ تَعَالَى وَيَذْكُرُونَهُ، وَيَرْفَعُونَ أصْوَاتَهُمْ بقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ كَمَا يَصْطَفُّ النَّاسُ فِي صَلاَتِهِمْ " قال مقاتلُ :(وَذَلِكَ أنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُواْ : أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً وَاحِداً، فَأَقْسَمَ اللهُ بهَؤُلاَءِ أنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ شَرِيْكٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ ؛ أي خالقهما ومشيَتِهما وتدبُّرِ ما بينهما، ﴿ وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ﴾، مالِكُ المشارقِ، وإنما قالَ هَهُنا :(رَبُّ الْمَشَارقِ) لأن للشمسِ ثلاثُمائة وستِّين مَشرِقاً، تطلعُ كلَّ يومٍ من مشرقٍ، وتغربُ في مغربٍ، فإذا تحوَّلت السَّنةُ عادت إلى المشرقِ والمغرب، فإنما أرادَ جانبَ المشرقِ وجانبَ المغرب. وَقِيْلَ : أرادَ به الجنسَ، وَقِيْلَ : أرادَ به مشرِقَها ومغربَها في يومٍ واحد. وأما قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ ﴾[الرحمن : ١٧] فقيل : إنما أرادَ به مشرقَ الشمسِ ومشرقَ القمرِ. وَقِيْلَ : أرادَ بذلك مشرقَ الشتاءِ والصيفِ ومغرِبهَا. وشروقُ الشمسِ : طلُوعُها، يقال : شَرَقَتْ إذا طَلَعَتْ، وَأشرَقَت اذا أضاءَتْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾ ؛ أي زيَّنا السماءَ التي هي أدنَى إليكم مِن سائرِ السَّموات بضوءِ الكوَاكب ونُورها، قرأ أبو بكر (بزِينَةٍ) بالتنوينِ ونصبَ (الْكَوَاكِبَ) عمل الزِّينة في الكواكب ؛ أي بأنْ زيَّنا الكواكبَ فيها، وقرأ حمزةُ وحفص (بزِينَةٍ) بالتنوينِ وخفضِ (الْكَوَاكِب) على البدلِ ؛ أي بزينةٍ بالكواكب، وقرأ البافون بالإضافة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ﴾ ؛ أي جَعَلَ الكواكبَ حِفْظاً من كلِّ شيطان متجرِّدٍ للشرِّ، يُقذفون بها إذا استَرَقوا السمعَ، والماردُ : الخبيثُ الْخَالِي من الخيرِ، والْمَاردُ : هو الْمُتَمَرِّدُ، قال الحسنُ :(وَهَذا دَلِيلٌ أنَّهُ إنَّمَا يُرْجَمُ بالْكَوَاكِب بَعْضُ الشَّيَاطِينِ وَهُمُ الْمَرَدَةُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى ﴾ ؛ كأنَّهُ قالَ :(لاَ يَسْمَعُونَ) أي لا يسمعُ مَرَدَةُ الشياطين غلى الملائكةِ ولا إلى كلامِهم، قال الكلبيُّ :(مَعْنَى الآيَةِ : لِكَيْلاَ يَسْمَعُوا إلَى الْكَتَبَةِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ). والملأُ الأعلى : همُ الملائكةُ ؛ لأنَّهم في السَّماءِ، قرأ أهلُ الكوفةِ (يَسَّمَّعُونَ) بالتشديدِ أي يسمَعُون.
وقولهُ تعالى :﴿ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ﴾ ؛ أي يُرمَون من كلِّ جانبٍ بالشُّهُب، يعني أنَّ الشياطين يُرمَون بالشُّهب عندَ دُنُوِّهِمْ من السَّماء لاستماعِ كلامِ الملائكة في تدبُّر أمُور الدُّنيا. يُرمَون بالشُّهب من نواحِي السَّماء وأطرافِها.
وقولهُ تعالى :﴿ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ ﴾ ؛ أي طَرْداً وإبْعَاداً، يقال : دَحَرَهُ دَحْراً ودُحُوراً ؛ إذا طَرَدَهُ وأبعدَهُ، ولهم مع ذلك في الآخرةِ عذابٌ وَاصِبٌ أي دائمٌ لا ينقطعُ، وَقِيْلَ : معنى الواصِب الموجِعِ، من الوَصَب وهو الوجَعُ، وَقِيْلَ : الوجَعُ : معنى الآية : أنَّهم يُدحَرُونَ ويُبعَدُون عن تلك المجالسِ التي يسترِقُون السمعَ ﴿ وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ ﴾ أي دائمٌ إلى النفخةِ الأُولى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ﴾ ؛ أي إلاَّ منِ اختلسَ الكلمةَ من كلامِ الملائكة مُسَارَقةً، ﴿ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾ ؛ أي لَحِقَهُ وأصابَهُ نارٌ مضيئة تُحرِقهُ، والثاقبُ : النَّيِّرُ المضيءُ، وهذا قولهُ إلاَّ مَنِ استرقَ السمعَ مُختَلِساً. والْخَطْفُ : أخذُ الشيءِ بسرعة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾ أي نجمٌ وهَّاجٌ متوقِّد مضيٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ ﴾ ؛ قبلَهم من الأُمم الماضيةِ، كانت الأُمم الماضية أشدُّ منهم قوَّةً وآثاراً في الأرضِ، فأهلكناهم بكُفرِهمِ وتكذيبهم، فكيف يأمَنُ هؤلاءِ الهلاكَ مع إصرارهم على الكفر وهم أضعفُ مِمَّن قبلَهم.
ثم ذكرَ خلقَ الإنسان فقال :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ ﴾ ؛ أي خلَقنا أصلَهم وهو أبُو البشرِ آدمَ من طينٍ لاَزبٍ لاصِقٍ ثابت، يقالُ : له ضربَةُ لاَزبٍ، وضربَةُ لازمٍ، وإذا خلَقَ أصلَهم من طينٍ لازمٍ فكيف لا يُقِرُّونَ بقدرةِ الله تعالى على البَعثِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ﴾ ؛ أي بل عَجِبتَ يا مُحَمَّد من إنكارهم للبعث مع ظُهور ما وَجَبَ من الحجَّة والأدلة، ويقالُ : بل عَجِبَ من جهلِهم حيث اختارُوا ما تجبُ به النارُ لهم وتركوا ما يجب لهم به الجنَّة، وهم يسخَرون من بعثَتِكَ، ويستهزِئون بكلامِكَ بالقرآنِ.
وقرأ حمزةُ والكسائي وخلَف بضمِّ التاء، وهي قراءةُ ابنِ مسعود على معنى أنَّهم قد حَلُّوا محلَّ مَن تعجَّبَ منهم، وقال الحسنُ بن الفضل :(الْعَجَبُ مِنَ اللهِ عَلَى خِلاَفِ الْعَجَب مِنَ الآدَمِيِّينَ، وَإنَّمَا مَعْنَى الْعَجَب هَهُنَا هُوَ الإنْكَارُ وَالتَّعْظِيمُ، وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ :" أنَّ اللهَ لَيَعْجَبُ مِنَ الشَّاب لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ " ).
وَقِيْلَ : إن الجنيدَ سُئِلَ عن هذه الآيةِ فقال :(اللهُ لاَ يَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ اللهَ وَافَقَ رَسُولَهُ لَمَّا عَجِبَ رَسُولُهُ فَقَالَ :﴿ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ﴾[الرعد : ٥] أيْ هُوَ كَمَا تَقُولُهُ) قال شُرَيحُ :(إنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ لاَ يُعْلَمُ، وَاللهُ تَعَالَى عِنْدَهُ عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ).
وقرأ الباقونَ (بَلْ عَجِبْتَ) بفتحِ التاء على خطاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم. و(بَلْ) معناه : تركُ الكلامِ الأوَّلِ والآخرِ في كلامِ آخر، كأنَّهُ قال : دَعْ يا مُحَمَّد ما مضَى عجيبٌ من كفار مكَّة حين أوحيَ إليك القرآنُ ولَم يؤمنوا بهِ.
وقولهُ تعالى ﴿ وَيَسْخَرُونَ ﴾ لأنَّ سُخرِيَتَهم بالقرآنِ تركُ الإيمانِ به، قال قتادةُ :(عَجِبَ نَبيُّ اللهِ مِنْ هَذا الْقُرْآنِ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ، وَظَنَّ أنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَهُ آمَنَ بهِ، فَلَمَّا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يُؤْمِنُواْ بهِ وَسَخِرُواْ مِنْهُ، عَجِبَ النَّبيُّ ﷺ مِنْ ذلِكَ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : عَجِبْتَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْكَ وَتَرْكِهِمُ الإيْمَانَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ ﴾ ؛ وإذا وُعِظُوا بالقرآنِ لا يتَّعظون، ﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ﴾ ؛ إذا رأوا معجزةَ مثلَ انشقاقِ القَمَرِ وغيره اتَّخذوهُ سُخرِيَةً، ونسَبُوا ما دلَّهم على توحيدِ الله تعالى إلى السِّحرِ، ﴿ وَقَالُواْ إِن هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾. وقالوا أيضاً على وجهِ الإنكار :﴿ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا ﴾ ؛ صِرْنا ؛ ﴿ تُرَاباً وَعِظَاماً ﴾ ؛ بَالِيَةً، ﴿ أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ ؛ أي أنُبعَثُ بعدَ الموتِ، ﴿ أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ ﴾ ؛ الذين مضَوا قبلَنا، ﴿ قُلْ ﴾ ؛ لَهم يا مُحَمَّد :﴿ نَعَمْ ﴾ ؛ تُبعَثون ﴿ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ ﴾ ؛ أنتُم وآباؤُكم ؛ أي وأنتم أذلاَّءُ صاغِرُون، والدُّخُورُ أشَدُّ الذُّلِّ.
ثم ذكَرَ أنَّ بعثَهم يقعُ بزَجرَةٍ واحدةٍ ؛ أي بصَيحَةٍ واحدةٍ، فإذا هم قيامٌ ينظُرون ماذا يُؤمَرون به، وقولهُ تعالى :﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾ ؛ أي فإنَّما قضيةُ البعثِ صيحةٌ واحدة من إسرافيلَ، يعني نفخةَ البعثِ، ﴿ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ﴾ ؛ أي بُعِثَ الذي كذبوا به.
فلما عايَنُوا البعثَ ذكَرُوا قولَ الرسُلِ في الدُّنيا أنَّ البعثَ حقٌّ، فدَعَوا بالويلِ، ﴿ وَقَالُواْ ياوَيْلَنَا ﴾ ؛ من العذاب، ﴿ هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾ ؛ أي هذا يومُ الحساب والجزاء نُجازَى فيه بأعمالِنا. فقالت الملائكةُ :﴿ هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ ﴾ ؛ يومُ القضاءِ، ﴿ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ ؛ يُفْصَلُ به بين الْمُسِيءِ والْمُحْسِنِ، والْمُحِقِّ والْمُبْطِلِ، وهو اليومُ الذي كنتم به تكذِّبون في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ ؛ أي فيقالُ لِخَزَنَةِ جهنَّم : اجْمَعُوا الذين ظلَمُوا وقُرنَاءَهم من الشَّياطين الذين قبَضُوا لضَلالَتِهم، ويقالُ : أرادَ بالأزواجِ نُظَراءَهُمْ وأشكالَهم من الأتباعِ، والزَّوجُ في اللغة : النظيرُ، ومن ذلك : زوجَانِ من الْخُفِّ. ويقالُ : أرادَ بالأزواجِ نِساءَهُم، سواءاً أكانت امرأةُ الكافرِ كافرةً أو منافقةً، والمعنى : اجمعوا الذين ظلَمُوا من حيث هم إلى الوقفِ للجزاء والحساب، والمرادُ بالذين ظلَمُوا المشركينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ ؛ يعني اجْمَعُوا المشركين وأتباعَهم وأوثانَهم وطواغيتَهم وأصنامهم التي كانوا يعبدُونَها من دون اللهِ، قال مقاتلُ :(يَعْنِي إبْلِيسَ وَجُنُودَهُ) فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ ﴾[يس : ٦٠]. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ﴾ ؛ أي سُوقُوهم واذهَبُوا بهم إلى فريقِ الجحيم.
فلما انطُلِقَ بهم إلى جهنَّم أرسلَ مَلَكٌ يقولُ لِخَزَنَةِ جهنَّم :﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾ ؛ أي اسألُهم في موضعِ الحساب، يُسأَلُوا ويعرفوا أعمالَهم، وهذا سؤالُ توبيخٍ لا سؤالُ استفهامٍ، قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :(إنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ عَنْ أعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأقَاويلِهِمْ)، وقال مقاتلُ :(تَسْأَلُهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ : ألَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ).
ويجوزُ أن يكون هذا السؤالُ ما ذُكِرَ بعدُ، وهو قولهُ :﴿ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ ﴾ ؛ أي يقالُ لَهم على سبيلِ التوبيخِ : ما لكم لا ينصرُ بعضُكم بعضاً كما كنتم في الدُّنيا.
وذلك أنَّ أبا جهلٍ لَعَنَهُ اللهُ قالَ يومَ بدرٍٍ : نحنُ جميعٌ منتصر، فقيلَ لهم ذلكَ اليومِ : ما لَكم غير متناصِرين، وأنتم زعَمتُم في الدُّنيا أنكم تَنَاصَرون، فاللهُ تعالى قال :﴿ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ﴾ ؛ أي مُنقَادُون خاضِعون لِمَا يرادُ بهم، والمعنى : هم اليومَ أذِلاَّءُ منقادون، لا حيلةَ لهم، فالعابدُ منهم والمعبودُ لا يحمِلُ عن أحدِهم أحداً ولا يمنعُ أحدٌ عن أحدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ ؛ أي أقبلَ الشياطين والمشركون يسألُ بعضُهم بعضاً سؤالَ توبيخٍ، ﴿ قَالُواْ ﴾، فيقولُ المشركون للشياطين :﴿ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ﴾ ؛ فتُزَيِّنوا لنا الضَّلالةَ، وتَردُّوننا عن الخيرِ، ﴿ قَالُوا ﴾، فيقولُ لهم الشياطين :﴿ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ إنما كان الكفرُ مِن قِبَلِكم، ﴿ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ ؛ أي من قوَّةٍ فنُجبرَكم على الكفرِ، ﴿ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ ﴾ ؛ أي مُتجاوزين ضَالِّين.
وقال الحسنُ فِي مَعْنَى الآيَةِ :(وَأقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ؛ أيْ أقْبَلَ التَّابعُونَ عَلَى الْمَتْبُوعِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَيَقُولُونَ : لَوْلاَ أنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ، فَيَقُولُ لَهُمُ الرُّؤَسَاءُ : مَا أجْبَرْنَاكُمْ عَلَى الْكُفْرِ بَلْ كَفَرْتُمْ بسُوءِ اخْتِيَاركُمْ، فَيَقُولُ لَهُمُ التَّابعُونَ : إنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ؛ أيْ مِنْ أقْوَى الْجِهَاتِ، وَذلِكَ أنَّ جِهَةَ الْيَمِينِ أقْوَى مِنْ جِهَةِ الشِّمَالِ، كَمَا أنَّ الْيَمِينَ أقْوَى مِنَ الشِّمَالِ) وتقديرهُ : خدَعتُمونا بأقوَى الوجُوهِ، واليمينُ هي القوَّة، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ﴾[الصافات : ٩٣] أي بالقوَّة.
وقال قتادةُ :(مَعْنَى : إنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ؛ أيْ تَمْنَعُونَنَا عَنْ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى) فََيَقُولُ الرُّؤَسَاءُ : لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فِي الأَصْلِ، إذا لَمْ تَكُونُوا تُرِيدُونَهُ، فَكَيْفَ إجْبَارُكُمْ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سَلْطَنَةِ الإجْبَار عَلَى الْكُفْرِ، ﴿ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ ﴾ ؛ أي فوجبَ علينا جَميعاً كلمةُ ربنا بالعذاب والسُّخط، وهي قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ ﴾[الأعراف : ١٨].
وقوله :﴿ إِنَّا لَذَآئِقُونَ ﴾ ؛ أي لذائِقُوا العذاب، فالضَّالُّ والْمُضِلُّ في النار، وقولهُ تعالى :﴿ فَأَغْوَيْنَاكُمْ ﴾ ؛ أي أضْلَلْنَاكم عن الهدَى ودعوناكم إلى الغِوَايَةِ، ﴿ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴾، بأنفُسِنا.
يقولُ الله تعالى :﴿ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾ ؛ أي لا ينفَعُهم التنازعُ والتخاصمُ، وكِلاَ الفريقين مشتركون في العذاب، ﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ﴾ ؛ أي هكَذا نُعاقِبُ المشركين.
وقولهُ تعالى :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ ؛ أي إنَّهم كانوا يستَكبرون عن كلمةِ التوحيد، ﴿ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُواْ آلِهَتِنَا ﴾ ؛ أنَتركُ آلِهَتنا وعِبادتَها، ﴿ لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ﴾ ؛ يَعنُونَ النبيَّ ﷺ نَسَبوهُ إلى الشِّعرِ والجنون.
فأكذبَهم اللهُ تعالى بقولهِ :﴿ بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ ؛ أي ما هو يقولِ شاعر وما صَاحِبُكم بمجنون ﴿ بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ ﴾ أي بالقُرآن والتوحيدِ، ﴿ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ الذين كانوا قبلَهُ ؛ أي أتَى بما أتَوا بهِ من الأيمانِ وقول الحقِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ ﴾ ؛ أي يقالُ لَهم : إنَّكم أيها المشرِكون لذائِقُوا العذاب الأليمِ على شِرْكِكُم ونِسبَتِكُم النبيَّ ﷺ إلى الشِّعر والجنونِ، ﴿ وَمَا تُجْزَوْنَ ﴾ ؛ في الآخرةِ، ﴿ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ في الدُّنيا من الشِّرك.
ثُم استثنَى فقال :﴿ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾ ؛ أي لكن عباد الله الموحِّدين، فإنَّهم لا يُعذبون، ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ ﴾ ؛ أي يُجزَون بالبرِّ ما يستحقُّون، وَقِيْلَ : لَهم رزقُهم فيها بُكرةً وعَشِيّاً.
وَقِيْلَ : الرزقُ المعلوم هو ما ذكرَهُ بعدَ هذا في قولهِ تعالى ﴿ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ ﴾ ؛ والفَوَاكِهُ جَمعُ فَاكِهَةٍ، وعلى الثِّمار كُلِّها رَطِبها ويابسِها، وهم مُكرَمون بثواب الله تعالى على السُّرُر، ﴿ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ ؛ لا يرَى بعضُهم قَفَا بعضٍ، ﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴾ ؛ أي بآنِيَةٍ مملوءة من الشَّراب، ولا تُسمَّى الآنيةُ كاساً إلاَّ إذا كان فيها الشرابُ، والْمَعِينُ ههنا الخمرُ، سُمِّيت مَعِيناً لأنَّها تجرِي هناكَ على وجهِ الأرضِ من العُيونِ كما تجرِي الماءُ فيها في غيرِ الأُخدُودِ.
وقولهُ تعالى :﴿ بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴾ ؛ قال الحسنُ :(خَمْرُ الْجَنَّةِ أشَدُّ بَيَاضاً مِنَ اللَّبَنِ، لَيْسَتْ هِيَ عَلَى لَوْنِ خَمْرِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّهَا بَيْضَاءُ لِرِقَّتِهَا وَنُورهَا وَرَوْنَقِهَا وَصِفَائِهَا). وقولهُ تعالى ﴿ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴾ أي لذيذةٌ أو ذاتُ لذةٍ، يقالُ شَرب لذ ولذيذٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ﴾ ؛ أي ليس في شُربها صُدَاعٌ ولا وجعُ بطنٍ ولا أذَى، ولا تَغتَالُ عقولَهم فتذهبُ بها. ويقالُ للوجَعِ غَوْلٌ لأنه يؤدِّي إلى الهلاكِ، وقولهُ تعالى :﴿ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾ ؛ أي ولا هُم يَسكَرُونَ، يقالُ : نَزَفَ الرجلُ فهو مَنْزُوفٌ ونَزِيفٌ إذا سَكِرَ، وقال الكلبيُّ :(يَعْنِي لاَ فِيهَا غَوْلٌ أيْ إثْمٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ﴾[الطور : ٢٣]). وقال ابنُ كَسيَان :(الْغَوْلُ الْمََعْصِرُ).
وقال أهلُ المعانِي : الغَوْلُ فسادٌ يلحَقُ في خفاءٍ، يقالُ : اغتَالَهُ اغْتِيَالاً إذا فَسَدَ عليه أمرٌ فَسَدَ في خِفيَةٍ. وقولهُ تعالى ﴿ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾، قرأ حمزةُ والكسائيُّ وخلف بكسرِ الزاي ههنا، وفي الواقعةِ، ومعناهُ : لاَ ينفَذُ شرابُهم بل هو دائمٌ لَهم أبداً، يقالُ : نَزَفَ الرجلُ إذا نَفَذ شرابهُ، ومَن قرأ بفتحِ الزاي فمعناهُ : لا يَسكَرُونَ منها، يقالُ : نَزَفَ الرجلُ فهو مَنْزُوفٌ ونَزِيفٌ ؛ إذا سَكِرَ وزالَ عقلهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾ ؛ أي يُعقَدُ لَهم مجلسُ الشَّراب، ويُسقَوْنَ هذه الكؤوسَ اللَّذيذةَ، وتحضرُهم حُورُ عِينٍ قاصِراتُ الطَّرْفِ، قصرت أطرافُهن على أزواجهنَّ لا يبتغين بهم بَدَلاً، لا ينظُرون إلى غيرِ أزواجهن، والعِينُ جمعُ العين وهُنَّ كبارُ الأعيُن وحِسَانُها، وقال الحسنُ :(اللاَّتِي بَيَاضُ عَيْنِهِنَّ فِي غَايَةْ الَْبَيَاضِ، وَسَوَادُهَا فِي غَايَةِ السَّوَادِ).
ومعنى الآيةِ : وعندَهم حَابسَاتُ أعيُنهن الأعين غاضَّات الجفُونِ قصرنَ أعيُنهن عن غيرِ أزواجهن، فلا ينظُرن إلاَّ إلى أزواجهنَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عِينٌ ﴾ أي كبارُ الأعيُن حسانُها، واحدتُها عَينَاءُ يقال : رجلٌ أعيَنُ، وامرأةٌ عَيْنَاءُ، ونساءٌ عِيْنٌ. وقولهُ تعالى :﴿ عِينٌ ﴾ وامرأةٌ عَيْنَاءُ ونساءٌ عِينٌ.
وقولهُ تعالى ﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾ أي مستورٌ مَصُونٌ، والبيضُ مُحُّ البيضةِ، قال الحسنُ :(يُشْبهْنَ بَيْضَ النَّعَامِ يَكِنُّهَا الرِّيشُ مِنَ الرِّيحِ) وهذا مِن تشبيهات العرب في وَصفِ النِّساء بالبيضِ، فشَبَّهَ الأبياض أبدانَهن ببياضِ البَيض المكنون، ويقالُ : أراد بالبيضِ المكنون ههنا البياضَ الذي في داخلِ القشرِ الخارج.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ ؛ أي يتحدَّثون في الجنةِ عن أمُور الدُّنيا، ﴿ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ ﴾ ؛ في جواب ما يسألُ عنه :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ ؛ أي كان لِي صاحبٌ في الدُّنيا يقولُ لِي حين صدَّقتُ وهو منكِرٌ للبعثِ، ﴿ يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴾ ؛ بالبعثِ، ﴿ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً ﴾ ؛ باليةً، ﴿ أَءِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ ؛ أي لَمَجزِيُّون محاسَبون ؟ وهذا استفهامُ إنكار، والدِّينُ : الحسابُ والجزاء، كأنه يقول : إنَّ هذا الأمر ليس بكائنٍ. ﴿ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ ﴾، قال قائل من أهل الجنة لأصحابه : هل تطَّلِعون على النار وعلى أهلِها فتنظُرون إلى هذا الذي كان قَريناً لِي وتعرِفُون حالَهُ، فاطَّلعَ هو بنفسهِ على النار وأهلِها فرأى قَرِينَهُ في وسَطِ الجحيمِ يُعذبُ بألوانِ العذاب. قال ابنُ عبَّاس :(وَذَلِكَ أنَّ فِي الْجَنَّةِ كُوَّةٌ يُنْظَرُ مِنْهَا إلَى أهْلِ النَّار)، ﴿ فَاطَّلَعَ ﴾، هذا المؤمنُ، ﴿ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ ﴾ ؛ أي في وسطِ النار يُعذب.
فـ ﴿ قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ﴾ ؛ أي أرَدتَ أنْ تُهلِكَني كهلاكِ الْمُتَرَدِّ من الشَّاهقِ، وقال مقاتلُ :(مَعْنَاهُ : لَقَدْ كِدْتَ أنْ تُغْوِيَنِي فَأَنْزِلَ مَنْزِلَكَ)، والإرْدَاءُ الإهْلاَكُ، ومَن أغوَى إنساناً فقد أهلكَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي ﴾ ؛ أي لولاَ إنعامهُ علَيَّ بالإسلامِ، ﴿ لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ ؛ معكَ في النار.
وقال الكلبيُّ :(ثُمَّ يُؤْتَى بالْمَوْتِ فَيُذْبَحُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّار، وَيُنَادِي مُنَادٍ بأَهْلِ الْجَنَّةِ : خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَبأَهْلِ النَّار : خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ) فيقولُ هذا القائلُ لأصحابهِ على جهة السُّرور :﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ﴾ ؛ في هذه الجنَّة أبداً، ﴿ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى ﴾ ؛ التي كانت في الدُّنيا، ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ ؛ أبداً. فيقالُ لَهم : لاَ، فيقولون :﴿ إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ ؛ فُزْنَا بالجنَّة ونَعِيمها، ونَجَونا من النار وجحيمِها. فهذه قصةُ الأخَوَين ذكرَهما اللهُ في سورةِ الكهف بقوله تعالى﴿ وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ ﴾[الكهف : ٣٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِمِثْلِ هَـاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ ؛ أي لمثلِ هذا النَّعيمِ الْمُقيمِ، والْمُلكِ العظيمِ فليعملِ العاملون في الدُّنيا، يعني بالنعيمِ ما ذكرَهُ اللهُ من قوله﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ... ﴾[الصافات : ٤١-٤٣] إلى قولهِ﴿ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾[الصافات : ٤٩].
وقولهُ تعالى :﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ﴾ ؛ معناهُ : أذلكَ الفوزُ الذي سبقَ ذِكرهُ لأهلِ الجنَّة خيرٌ مما يُهَيَّأُ من الإنزالِ أم نُزُلُ أهلِ النار ؟ وقولهُ تعالى :﴿ أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ﴾ لأهلِ النار في النار، والزَّقُّومُ : هو ما يُكرَهُ تناولهُ، والذي أرادَهُ اللهُ شيء مُرٌّ كريهٌ تناولهُ، وأهل النار يُكرَهون على تناوُلهِ، فهم يتَّزِقُّونَهُ على أشدِّ كراهةٍ، تقولُ : تَزَقَّمْ هذا العظامَ ؛ أي تناولْهُ على نَكَدٍ ومشقَّةٍ شديدةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ﴾ ؛ رُوي سببُ نزولِ هذه الآيةِ : أنه لَمَّا نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ﴾[الصافات : ٦٢] كانوا يقولون لا ندري ما الزقومُ ؟ فكانوا يتذاكَرون هذا الحديثَ إذ جاءَهم عبدُالله بن الزبعرَى السهمي فذكَرُوا له، فقالَ : أكثرَ اللهُ في بيوتِكم منها، إن أهلَ اليمنِ يدعُوا الزُّبدَ والتمرَ الزقُّوم، فقالَ أبو جهلٍ لجاريتهِ : زَقِّمِينَا يا جاريةُ، فَأتَتْهُ بزُبدٍ وتَمرٍ، فقال : تَزَقَّمُوا فإنَّ هذا الذي يُخوِّفُكم به مُحَمَّدٌ، فشاعَ في أهلِ مكَّة أن مُحَمَّداً يُخوِّفُ أصحابَهُ بالزُّبد والتمرِ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ﴾ أي عَذاباً بالكافرين، والفتنةُ : هي العذابُ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ ﴾[الذاريات : ١٣-١٤] أي عذابَكم فأنزلَ الله تعالى﴿ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ ﴾[الدخان : ٤٣-٤٤].
ويجوزُ أن يكون معنى الفتنةِ في هذه الْمِحْنَةَ والبليَّةَ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : هذه الشجرةُ افتتنَ بها الظَّلَمةُ. قالوا : كيف يكون في النار شجرةٌ وهي تأكلُها ؛ لأن النارَ تأكلُ الشجرَ، فأنزل اللهُ تعالى ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ﴾ أي خِبرةً لهم افتَتَنوا بها وكذبوا بكونِها.
وبيَّنَ اللهُ تعالى :﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ﴾ ؛ أي تنبتُ في قعرِ الجحيم، قال الحسنُ :(أصْلُهَا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، وَأصْلُهَا فِي دَرَكَاتِهَا، بالنَّار غُذِّيَتْ وَمِنْهَا خُلِقَتْ بلَهَب النَّار، كَمَا يَنْمُو شَجَرٌ بالْمَاءِ، كُلَّمَا ازْدَادَتِ النَّارُ الْتِهَاباً ازْدَادَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ نُمُوّاً وَارْتِفَاعاً، وَإنَّ أهْلَ النَّار لَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُونَ النَّارَ، وَيَتَقَلَّبُونَ فِي النَّار، وَإنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّار عَذاباً رَجُلٌ يَكُونُ لَهُ نَعْلاَنِ يَغْلِي مِنْ حَرِّهِمَا دِمَاغُهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴾ ؛ أي ثَمَرُها كريهٌ مرٌّ هائلُ المنظرِ كأنه حيَّاتٌ هائلاتُ الرُّؤوسِ تكون في طريقِ اليمَنِ، تسمِّي العربُُ تلك الحيَّات رؤوسَ الشَّياطين لقُبحِها. وقال بعضُهم : أُريدَ به الشياطينَ المعروفةَ، وقد اعتقدَ الناسُ قُبحَهم وقبحَ رُؤوسِهم، وإن لم يُشاهِدُوهم، ولذلك يشبهون الشيءَ القبيحَ بالشياطينِ، يقولُ الرجل : رأيتُ فلاناً كأنَّهُ شياطينُ، ورؤوسهُ رأسُ الشيطانِ، فالشياطينُ موصوفةٌ بالقُبحِ وإنْ كانت لا تُرَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا ﴾ ؛ أي من ثَمرِها، ﴿ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴾ ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى يُلقِي من أهلِ النار من شدَّة الجوعِ ما يُلجِؤُهم الى أكلِها بما هي عليه من الحرارةِ والمرَارةِ والخشونة، فيبتَلعُونَها على جهدٍ حتى يختَنِقوا بها وتَمتليءَ بطونُهم منها، ويكون حالُهم في الأكلِ منها أضرَّ كحالهم في الأكلِ منها أولاً.
وقولهُ تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ﴾ ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى يُلقِي عليهم عطشاً بعد ذلك حتى يشرَبُوا من الحميمِ، وهو الماءُ الحارُّ الذي قد انتهَى حرُّه، والشَّوبُ كما هو خلطُ الشيءِ بما ليس منه، بما هو شَرٌّ منه، يقالُ له شَابَهُ الشيءُ إذا خالطَهُ، فشَوبُ الجحيمِ في بطونِهم الزقومُ فيصير شَوباً له.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ ﴾ ؛ معناهُ : إن مَرجِعَهم بعد شُرب الجحيم وأكلِ الزقوم الى الجحيمِ، وذلك أنَّهم يورَدُون الحميمَ من شُربهِ وهو خارجٌ من الجحيمِ كما تُورَدُ الإبلُ الماءَ، ثم يُرَدُّونَ إلى الجحيمِ، فيتجرَّعونَهُ ويُصَبُّ على رُؤوسِهم، ومرَّةً يُردُّون إلى النار الموقَدة، وهذا عذابُهم أبداً. وعن رسولِ الله ﷺ أنه قال :" أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ، فَلَوْ أنَّ قَطْرَةً قَطَرَتْ مِنَ الزَّقُّومِ مِنَ الأَرْضِ لأَمَرَّتْ عَلَى أهْلِ الدُّنيا مَعِيشَتَهُمْ، فَكَيْفَ بمَنْ هُوَ طَعَامُهُ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ غَيْرُهُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّهم وجَدُوا آباءَهم في الدُّنيا ضالِّين عن الحقِّ والدِّين، فَـ، كانوا، ﴿ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾ ؛ أي يَمْضُوا مُسرِعين كأنَّهم يُزعَجون من الإسراعِ الى اتِّباع آبائِهم، يقالُ : هَرَعَ وأهْرَعَ إذا أسرعَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ ﴾ ؛ أي ولقد ضلَّ قبلَ هؤلاء المشركين أكثرُ الأوََّلين من الأُمم الخاليةِ، كما ضَلَّ قومُكَ، ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ ﴾ ؛ أي رُسلاً يُنذِرونَهم العذابَ ؛ أي يخوِّفونَهم بالعذاب على تركِ الإيمان، ﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ﴾ ؛ الذي أُنذِرُوا فكذبوا الرسُلَ، كيف أهلكَهم اللهُ تعالى، وقولهُ تعالى :﴿ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾ ؛ يعني إلاّ عبادَ الله الموحِّدين الذين لم يكَذِّبوا، فإنَّهم نَجَو من العذاب ولم يهلَكُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ﴾ ؛ أي ولقد دعَانا نوحُ على قومهِ بالإهلاكِ حين يَئِسَ من إيمانِهم، وأُذِنَ له في الدُّعاء، وقال﴿ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ﴾[القمر : ١٠]، وقال﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ﴾[نوح : ٢٦]، وقوله ﴿ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ﴾ أي نِعْمَ الْمُجِيبُونَ فأجَبناهُ وأهلكنا قومَهُ الكافرين، ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ﴾ ؛ ومَن آمَنَ به، ﴿ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴾ ؛ وهو الغرقُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ ﴾ ؛ وذلك مَن كان معه من المؤمنين في السَّفينة انقرَضُوا من غير عَقِبٍ، وكان نسلُ نوحٍ عليه السلام من أولادهِ الثلاثة : سام وحامُ ويافث، فأما سامُ فأبو العرب وفارسَ والرُّوم، وحامُ أبو الحبَشِ وجميع السُّودان والسِّند والهند والبربَرِ، ويافثُ أبو التُّرك ويَأْجُوجَ ومأْجُوجَ وما هنالك من باقِي الناس. قال ابنُ عبَّاس :(لَمَّا خَرَجَ نُوحُ عليه السلام مِنَ السَّفِينَةِ مَاتَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلاَّ وَلَدَهُ الثَّلاَثَةُ وَنِسَاءَهُمْ) فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾
وقولهُ تعالى :﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ﴾ ؛ أي ترَكنا على نوحٍ الذِّكرَ الجميلَ في الباقين بعده، وذلك الذكرُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ﴾ ؛ أي يُصَلَّى عليه إلى يومِ القيامة، قال الزجَّاجُ :(مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ﴾ أيْ وَأبْقَيْنَاهُ ذِكْراً حَسَناً وَثَنَاءً جَمِيلاً فِيمَنْ بَعْدَهُ إلَى يَوْمِ الْْقِيَامَةِ) ﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ أي كما جَزَينا نُوحاً وأنعَمْنا عليه، فكذلكَ نجزِي الْمُحسِنين في القولِ والعملِ، ﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ وَقِيْلَ :(معناهُ : تَرَكنا على نوحٍ في الآخِرين أن يُصَلَّى عليه إلى يومِ القيامة)، ﴿ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ﴾ ؛ معناهُ : وإنَّ مِنْ أهلِ ملَّةِ نوحٍ عليه السلام والمتمسِّكين بدينهِ لإبراهيم، ﴿ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ ؛ أي إذْ أقبَلَ إلى طاعةِ ربهِ بقلبٍ سَليمٍ من الكُفرِ والمعاصِي ومن كلِّ عيبٍ. والشِّيعَةُ : هي الجماعةُ التَّابعَةُ لِذي رأي لَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ﴾ ؛ هذا إنكارٌ من إبراهيمَ على قولهِ، كالرجُل ينظرُ غيرَهُ على قبيحٍ من الأمر، فيقولُ له : ما هذا الذي تفعلُ؟
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ﴾ ؛ معناهُ : أأتَّخذُ آلهةً تريدون عبادتَها على وجهِ الكذب. وَقِيْلَ : معناهُ : أتَأْفِكُونَ إِفْكاً هو أسوأُ الكذبُ، وتعبدون آلهةً سوَى اللهِ، ﴿ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ؛ إذا لقيتموهُ وقد عبدتُّم غيرَهُ، أي فما ظنُّكم أنه يصنعُ بكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ ؛ قال بعضُهم : إنَّما نظرَ إلى النُّجوم نظرَ تدبُّر واعتبارٍ، وليستدلَّ بها على وقتِ الحمَّى كانت تأتيهِ، فلما عرفَ بذلك وقت حماه قال إنِّي سقيمٌ ؛ أي جاءَ وقتُ سقَمي ومرَضي.
ويقالُ : أوهَمهم بهذا القول أن به مرضاً فتركوهُ، وكان يريدُ بهذا القولِ في نفسه : إنِّي سقيمُ القلب بما أرَى من أحوالِكم القبيحة في عبادةِ غيرِ الله، وذلك أنه أرادَ أن يُكايدَهم في أصنامِهم لِيُلزمَهم الحجَّةَ في أنَّها غيرُ معبودةٍ، وكان لَهم عيدٌ يخرجون إليه، فكلَّفوهُ الخروجَ معهم إلى عيدِهم ؛ فنظرَ في النُّجوم يُرِيَهم أنه مستدلٌّ بها على حالهِ، فقالَ : إنِّي سقيمٌ، ﴿ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ ﴾ ؛ فتركوهُ وذهبوا إلى عِيدهم.
وقولهُ تعالى :﴿ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ ﴾ ؛ أي مَالَ إلى أصنامِهم مَيلةً في خِفيةٍ سِرّاً لَمََّا أدبَرُوا عنه فوجدَ بين أيدِيهم طعاماً كانوا قد وضعوهُ قبلَ خروجِهم إلى عيدِهم، وزعَمُوا بجهلِهم أن أصنامَهم تباركُ لهم فيه، فإذا رجَعُوا من عيدِهم أكلوهُ. قال مقاتلُ :(كَانَتْ أصْنَامُهُمْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ صَنَماً مِنْ خَشَبٍ وَحَدِيدٍ وَرَصَاصٍٍ وَذهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَكَانَ أكْبَرُهُمْ مِنْ ذهَبٍ وَعَيْنَاهُ يَاقُوتَتَانِ، فَلَمَّا رَآهُمْ إبْرَاهِيمُ كَذلِكَ وَبَيْنَ أيْدِيِهِمُ الطَّعَامُ، قَالَ : ألاَ تَأْكُلُونَ مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الأَطَعِمَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ أكْلٌ وَلاَ جَوَابٌ قَالَ لَهُمْ : ألاَ تَنْطِقُونَ إنْ كُنْتُمْ آلِهَةً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ﴾ ؛ أي مَالَ عليهم بالضَّرب بيدهِ اليُمنَى وبالقوَّة، ويقالُ : برَّ يَمِينَهُ التي كان حلفَ باللهِ لأكِيدَنَّ أصنامَكم، فجعلَ يضربُهم بالفأسِ حتى جعلَهم جُذاذاً، ثم جعلَ الفأسَ على عاتقِ كبيرِ الأصنام، والرَّوَغَانُ في اللغة : هو الْمَيْلُ على وجهِ الاضطراب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ﴾ ؛ أي أقبلَ المشركون إليه بعدَ رجُوعِهم من عيدِهم يُسرِعون في المشيِ، كأنَّهم أُخبرُوا بصُنعهِ فقصدوهُ. والزَّفِيفُ : هو الْمَشْيُ السَّريعُ، ومن ذلكَ زَفِيفُ النَّعَامِ وهو خَبَبُهُ الذي يكون بين المشيِ والعَدْو، ومنه الآزفَةُ لسُرعةِ مجيئها وهو القيامةُ.
وقرأ حمزةُ (يُزِفُّونَ) بضمِّ الياءِ ؛ أي يَحمِلُونَ دوابَّهم وظُهورَهم على الإسراعِ في المشي، وذلك أنَّهم أُخبرُوا بصُنعِ إبراهيمَ بآلهتِهم، وأسرَعُوا ليأخذوهُ، فلما انتهَى إليه ؛ ﴿ قَالَ ﴾ لَهم محتجّاً عليهم :﴿ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴾ ؛ بأيدِيكم من الأصنامِ، أي تعبدُون ما تَنحِتُونَهُ من الخشب والحجرِ أمواتاً لا تنطقُ ولا تسمعُ ولا تَنصُر ولا تعقلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ تَنحِتُونَ بأيديكم ؛ أي خلَقَكم ومعمُولكم وهو منحوتُهم الذي نَحتوهُ، والمعنى : خلَقَكم وعمَلَكم، وهذا مذهبُ أهلِ السُّنة ؛ لأنَّهم يعتقدون أنَّ اللهَ خلَقَهم وعمَلَهم، والقدريَّةُ تُنكِرُ خلقَ الأعمالِ.
فلمَّا ألزمَهم إبراهيمُ عليه السلام الحجَّةَ، ﴿ قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ﴾ ؛ أي قالوا : ابنُوا له حَائِطاً من حجارةٍ طولهُ في السَّماء ثلاثون ذِرَاعاً، وعرضهُ عشرون ذراعاً، ومَلَؤُوهُ نَاراً، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ﴾ وهي النارُ العظيمة، فبَنَوا له ذلك وجَمعُوا فيه الحطبَ، وأرسَلُوا فيه النارَ حتى صارَ جَحيماً، ثم رمَوهُ بالمنجنيقِ.
فنجَّاهُ اللهُ تعالى، وجعلَ النارَ عليه بَرْداً وسَلاماً لم يُؤذهِ منها شيءٌ ولا أحرقَتْ شيئاً من ثيابهِ، وذلك لإخلاصهِ وقوَّةِ دِينهِ وصدقِ توكُّلهِ ويقينهِ، كما رُوي أنه عليه السلام لما انفصلَ من المنجنيقِ أتاهُ جبريل في الهواءِ، فقالَ هل لكَ من حاجةٍ ؟ فقال : وأمَّا إليكَ فلاَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً ﴾ ؛ أي أرَادُوا به شَرّاً، وهو أن يحرِقوهُ بالنار، ﴿ فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ ﴾، لأن إبراهيمَ علاَهُم بالحجَّة حين سَلَّمَهُ اللهُ تعالى وردَّ كيدَهم عنه، ولم يلبَثُوا إلاَّ يَسِيراً حتى أهلكَهم اللهُ تعالى، وجعلَهم في نارٍ أعظمَ وأسفلَ مما ألقَوهُ فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ ؛ أي قالَ إبراهيمُ : إنِّي ذاهبٌ إلى مرضاتِ ربي سيَهدينِي لِمَا فيه رُشدِي وصَلاحِي، وأرادَ بهذا الذهابَ إلى الأرضِ المقدَّسة، وَقِيْلَ : إلى أرضِ الشَّام، قال مقاتلُ :(فَلَمَّا قَدِمَ الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ سَأَلَ رَبَّهُ الْوَلَدَ) فقال :﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ ؛ أي ولَداً صَالحاً.
واستجابَ اللهُ دعاءَهُ بقولهِ :﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ ﴾ ؛ قال الزجَّاجُ :(هَذِهِ الْبشَارَةُ تَدُلُّ عَلَى أنَّهُ مُبَشَّرٌ بابْنٍ ذكَرٍ، وَأنَّهُ يَبْقَى حَتَّى يَنْتَهِي فِي السِّنِّ، وَيُوصَفُ فِي الْحِلْمِ)، قال الحسنُ :(وَهُوَ إسْحَاقُ عليه السلام). وقال الكلبيُّ :(هُوَ إسْمَاعِيلُ، وَكَانَ أكْبَرَ مِنْ إسْحَقَ بثَلاَثَةَ عَشَرَ سَنَةً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ﴾ ؛ أي فلمَّا بلغَ ذلك الغلامُ معه حالةَ السَّعيِ في طاعةِ الله تعالى، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ﴾[البقرة : ١٢٧]، وَقِيْلَ : معناهُ : فلما بلغَ أن يمشِي معه، وقال مجاهدُ :(لَمَّا شَبَّ حَتَّى بَلَغَ أنْ يَتَصَرَّفَ مَعَهُ وَيُعِينَهُ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ سَنَةً). وَقِيْلَ : أرادَ بالسَّعي في الوقتِ الذي ينتفعُ الوالدُ بالولدِ في قضاءِ حوائجه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ يابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ﴾ ؛ أي رأيتُ في المنامِ رُؤيا تأويلُها أنِّي أذبَحُكَ، وَقِيْلَ : رأيتُ في المنامِ أنِّي أذبَحُكَ، قال مقاتلُ :(رَأى إبْرَاهِيمُ ذلِكَ فِي الْمَنَامِ ثَلاَثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ)، قال ابنُ جبير :(رُؤْيَا الأَنْبيَاءِ وَحْيٌ)، وقال قتادةُ :(رُؤَى الأَنْبيَاءِ حَقٌّ، إذا رَأَوا شَيْئاً فَعَلُوهُ).
وقولهُ تعالى :﴿ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾ ؛ أي مِن الرأيِ فيما ألقيتُ إليكَ، وقرأ حمزةُ والكسائيُّ :(مَاذا تُرِي) بضمِّ التاء وكسرِ الراء، ومعناهُ : ماذا تُشِيرُ وماذا تُرِيني صَبرِكَ أو جَزَعِكَ ؟ ﴿ قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ ﴾ ؛ به من ذبحِي، ﴿ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ ؛ على بَلائهِ، وإنما قالَ له إبراهيمُ هذا القولَ مع كونهِ مأمُوراً بذبحهِ ؛ لأنه أحبَّ أن يعلمَ صبرَهُ وعزيمتَهُ على أمرِ الله وطاعته.
وفي الآيةِ دلالةٌ على أنَّ إبراهيمَ كان مأمُوراً بذبحِ ولَدهِ، لأن رُؤيَا الأنبياءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ وَحْيٌ بمنْزِلة الوحيِ إليهم في اليقظَةِ، ولذلك قالَ الابنُ :(يَا أبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) ولَم يقل : افعل ما رأيتَ في المنامِ.
واختلَفُوا في الذبيحِ مَن هو ؟ فذهبَ الأكثَرون إلى أنه إسحقُ، وإليه ذهبَ من الصَّحابة عمرُ بن الخطَّاب وعليُّ بن أبي طالبٍ وعبدُالله بن مسعودٍ وعبَّاسُ بن عبدِالمطَّلب، ومِن التابعين كعبُ الأحبار وسعيدُ بن جبير وقتادةُ ومسروق وعكرمة وعطاءُ ومقاتل والزهريُّ والسدي.
وقال آخرُونَ : هو إسماعيلُ، وهو قولُ ابنِ عمر وابنِ عبَّاس وسعيدِ بن المسيَّب والشعبيِّ والحسن ومجاهدٍ والكلبيِّ والربيع بن أنسٍ ومحمَّد بن كعب القُرَظِيِّ. وروُي عن أبي إسحق الزجَّاج أنه قال :(اللهُ أعْلَمُ أيُّهُمَا الذبيحُ).
وسياقُ الآيةِ يدلُّ على أنه إسحق ؛ لأنه تعالَى قال﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ ﴾[الصافات : ١٠١] ولا خلافَ أنه إسحقَ، ثم قالَ : فلما بلغَ معه السعيَ، فعطفَ بقصَّة الذبحِ مع ذكر اسحق، وقد رُوي عن النبيِّ ﷺ القولانِ، ورُوي عن النبيِّ ﷺ أنه قال :" الَّذِي أرَادَ إبْرَاهِيمُ ذبْحَهُ هُوَ إسْحَقُ ".
وعن معاويةَ رضي الله عنه أنه قالَ : كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ عُدَّ عَلَيَّ مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ الذبيحَيْنِ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَسَأَلَ مُعَاويَةُ وَمَنِ الذبيحَانِ ؟ فَقَالَ :[إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِب لَمَّا حَفَرَ زَمْزَمَ نَذرَ للهِ تَعَالَى لَئِنْ سَهَّلَ اللهُ أمْرَهُ لَيَذْبَحَنَّ أحَدَ وَلَدِهِ، فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى عَبْدِاللهِ، فَمَنَعَهُ أخْوَالُهُ وَقَالُواْ : إفْدِ ابْنَكَ بمِائَةٍ مِنَ الإبلِ، فَفَدَاهُ بمِائَةٍ مِنَ الإبلِ، وَالذبيحُ الثَّانِي إسْمَاعِيلُ]، ويدلُّ على صحَّة هذا قولهُ عليه السلام :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ ؛ أي فلمَّا انقادَا وخضعا لأمرِ الله تعالى ورَضِيَا به، وقرأ ابنُ مسعود :(فَلَمَّا سَلَّمَا) أي فَوَّضَا. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ أي صَرَعَهُ وأضجعَهُ وكَبَّهُ على وجههِ للذبحِ، وَقِيْلَ : طرحَهُ على الأرضِ على أحدِ جَنبَيْهِ كما يُفعَلُ بالكبشِ حين يُذبَحُ، نادته الملائكةُ من الجبلِ بإذن الله :﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ ﴾ ؛ أي وَفَّيْتَ الرُّؤيا حقَّها ؛ أي وفَّيتَ بما أُمِرتَ به في المنامِ، دَعِ ابنكَ وخُذِ الكبشَ الذي ينحدرُ إليكَ من الجبلِ المشرفِ على مسجدِ مِنَى.
وقولهُ تعالى ﴿ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ ﴾ أي نُودِيَ من الجبلِ أن يا إبراهيمُ قد صدَّقتَ الرُّؤيا لأنَّ الله تعالى قد عرَفَ منهُما الصدقَ حين قصدَ إبراهيمُ الذبحَ بما أمكنَهُ وطاوعَ الابنُ بالتمكينِ من الذبحِ، ففَعلَ كلُّ واحدٍ منهما ما أمكنَهُ وإن لم يحقِّقوا الذبحَ، وكان قد رأى في المنامِ معالجةَ الذبح ولم يُرَقِ الدمُ، ففعلَ في اليقظةِ ما رأى في المنامِ، فلذلكَ قيل له :﴿ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ ﴾ وتَمَّ الكلامُ. ثم قال ﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ أي هكذا نُجزِي كلَّ مُحسِنٍ ممن سلكَ طريقَهما في الانقيادِ لأمر الله، وجميلِ الصبر على ابتلائهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ ﴾ ؛ أي لَهُوَ الاختيارُ البيِّنُ فيما يوجبُ النعمةَ والنقمةَ، وأيُّ اختبارٍ أعظمُ من أن يؤمرَ الشيخُ الكبير بذبحِ الولد العزيزِ بيده. وقولهُ تعالى :﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾، أي بكبشٍ عظيم ؛ أي أقَمنَا الذبحَ مقامَهُ وجعلناهُ بَدَلاً عنه.
وعن عطاءِ بن يسار قال :(لَمَّا بَلَغَ إسْمَاعِيلُ سَبْعَ سِنِينَ رَأى إبْرَاهِيمُ عليه السلام أنَّّهُ يَذْبَحُ، فَأَخَذ بيَدِهِ وَمَضَى بهِ إلَى حَيْثُ أُمِرَ حَتَّى انْتَهَى إلَى مَنْحَرِ الْبُدْنِ الْيَوْمَ، فَقَالَ : يَا بُنَيَّ إنَّ اللهَ أمَرَنِي بذبْحِكَ، قَالَ إسْمَاعِيلُ : فَأَطِعْ رَبَّكَ.
فَفَعَلَ إبْرَاهِيمُ، فَجَعَلَ يَنْحَرُهُ فِي حَلْقِهِ، نَحَرَ فِي فَأْسٍ لَمْ تُؤَثِّرْ فِيْهِ الشَّفْرَةُ، فَشَحَدَهَا مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاَثاً بالْحَجَرِ، وَفِي كُلٍّ لاَ يَسْتَطِيعُ، فَرَفَعَ رَأسَهُ فَإذا هُوَ بكَبْشٍ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أرْبَعِينَ خَرِيفاً).
قال الحسنُ بن الفضل :(مَا فُدِيَ إلاَّ بتَيْسٍ هَبَطَ عَلَيْهِ مِنْ ثَبير فَذبَحَهُ إبْرَاهِيمُ فِدَاءً عَنِ ابْنِهِ). وَقِيْلَ : كان الفداءُ وَعْلاً من الأوْعَالِ الجبليَّة.
وأما قولهُ ﴿ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ قال سعيدُ بن جبير :(حَقٌّ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ عَظِيماً، وَقَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أرْبَعِينَ خَرِيفاً). وقال مجاهد :(سُمِّيَ لأَنَّهُ مُتَقَبَّلٌ)، وقال الحسنُ ابن الفضل :(لأَنَّهُ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى)، وقال أبو بكرٍ الورَّاقُ :(لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ نَسْلٍ وَإنَّمَا كَانَ بالتَّكْوِينِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ﴾ ؛ أي ترَكنا على إبراهيم في العالَمين أنْ يُقالَ :﴿ سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾، ويصلَّى عليه إلى يومِ القيامةِ، ﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾، وبقينا عليها حُسنا، ﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ ؛ مَن جعلَ الذبيحَ إسماعيلَ قال : بشَّرَ اللهُ إبراهيمَ بولدٍ بعدَ هذه القصَّة جزاءً لطاعتهِ، ومَن جعلَ الذبيحَ إسحق قالَ : بُشِّرَ إبراهيمُ بنبوَّةِ إسحق، وأُثيبَ إسحقُ بصبرهِ بالنبوَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ ﴾ ؛ أي وبارَكنا على إبراهيمَ وعلى إسحقَ، وَقِيْلَ : على إسماعيلَ وعلى إسحقَ، وقولهُ تعالى :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ ؛ الْمُحسِنُ هو المؤمنُ، والظالِمُ المبينُ هو الكافرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ ؛ أي أنعَمنا عليهما بالنبوَّة والرسالةِ وغير ذلك من أنواعِ النعيمِ، والْمَنُّ قطعُ كلِّ أذِيَّةٍ، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾[الانشقاق : ٢٥] أي غيرُ مقطوعٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴾ ؛ أي وخلَعنَاهما من الخزيِ القطيعِ من استعبادِ فرعون إيَّاهم، ومن ذبحِ الأبناء، وتسخيرِ الرجُلِ في الأمور الشاقَّة، ﴿ وَنَصَرْنَاهُمْ ﴾، على فرعونَ وقومهِ، ﴿ فَكَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ ﴾ ؛ بعدَ ما كانوا مغلُوبين، ﴿ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ﴾ ؛ أي أعطينَاهُما الكتابَ البيِّنَ وهو التوراةُ، ﴿ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ ؛ وهو دينُ الاسلامِ، ﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(هُوَ عَمُّ الْيَسَعَ، وَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ، وَهَارُونُ هُوَ جَدُّ أبيهِ). وقال ابنُ إسحق :(إلْيَاسُ هُوَ يُوشُعُ بْنُ نُونٍ).
ويقالُ : إلياس والخضِرُ في الأحياءِ، فإلياسُ صاحب البراري، والخضِرُ صاحبُ الجزائرِ، ويجتمعان في كلِّ سنةٍ مرَّة بعرفات!
وعن أنسٍ رضي الله عنه قال :" غزَونا مع رسولِ الله ﷺ حتى إذا كنَّا نفحَ الناقةِ إذ نحن بصَوتٍ يقولُ : اللَّهم اجعلني من أُمة مُحَمَّد المرحومةِ المغفور لها المثوب عليها المستجاب لها، فقالَ رسولُ الله ﷺ :" يَا أنَسُ انْظُرْ هَذا " فدخلتُ الجبلَ فاذا أنا برجُلٍ أبيضَ الرأسِ واللحيَةِ، عليه ثيابٌ بيض طولهُ أكثرَ من ثلاثمائة ذراعٍ، فلما نظرَ إليَّ قال : أنتَ من أصحاب رسول الله ﷺ ؟ قلتُ : نعم، قال : ارجِعْ إليه فأقرئْهُ منِّي السَّلامَ، وقل له : أخوكَ إلياسُ يريدُ لقاءكَ، فجاءَ النبيُّ ﷺ وأنا معه، حتى إذا كُنَّا قريباً منه، تقدَّمَ النبيُّ ﷺ وتأخرتُ، فتحادثَا طويلاً، فنَزل عليهما من السَّماء شبه السُّفْرَةِ، فدعَونِي أكلتُ معهما، فإذا فيها كمأةٌ ورمَّان وكرفس، فلما أكلتُ قمت فتنحيتُ، فجاءت سحابةٌ فاحتملَتْهُ وأنا أنظرُ إلى بياضِ ثوبه، فهوَت به قبَل الشَّام ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ ؛ عقابَ اللهِ بعبادة غيرِ الله، وقولهُ تعالى :﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلاً ﴾ ؛ أي أتَدَّعون بالإلهيَّة بَعْلاً صَنَماً، ﴿ وَتَذَرُونَ ﴾، وتتركون عبادةَ، ﴿ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ﴾ ؛ وكان قومهُ يعبدون صَنماً لهم من ذهب يقال له بَعْلٌ، وكان طولهُ عشرين ذراعاً، وكان له أربعةُ وجوهٍ، فجعلَ إلياسُ يدعوهم إلى عبادةِ الله وهم في ذلك لا يسمَعون منه شيئاً.
وقولهُ تعالى :﴿ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ ﴾ ؛ أي خالقُكم وخالقُ آبائكم، ومَن قرأ (رَبَّكُمْ) بالنصب فعلى صفة (أحْسَنَ الْخَالِقِينَ).
وقولهُ تعالى :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾ ؛ أي لِمُحضَرون في النار والعذاب بتكذِيبهم، ﴿ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾ ؛ أي لكن عبادَ الله المخلَصين مبعَدُون من الموضعِ الذي فيه المشرِكون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ﴾، يريدُ إلياسَ ومَن آمنَ معه، ﴿ سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ قال أبو علي الفارسي :(تَقْدِيرُهُ : اليَاسِيِّينَ) إلاَّ أنَّ اليَائَيْنِ لِلنِّسْبَةِ حُذِفَتَا، كَمَا حُذِفَتَا فِي الأشْعَرِيِّينَ وَالأَعْجَمِينَ، وقرأ نافعُ (اليَاسِينَ) أي سلامٌ على أهلِ كلام الله وآل مُحَمَّد ﷺ، فإن يس مِن كلامِ الله تعالى في القرآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ ؛ أي من جُملة المرسَلين، ﴿ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ ﴾ ؛ يعني امرأتَهُ المنافقةَ تخلَّفت في موضعِ العذاب في جُملة الباقين، ﴿ ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ ﴾ ؛ أي أهلَكنَاهم بعذاب الاستئصال.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ ؛ هذا خطابٌ لِمُشرِكي العرب، كانوا يَعْدُونَ على قرياتِ قوم لوطٍ فلم يعتَبروا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾ ؛ أي هربَ من قومهِ إلى السفينةِ المملوءَةِ بالناسِ والدواب، وإنما هربَ لأن الله كان أوعدَهم بالعذاب إنْ لم يؤمِنُوا فلم يؤمنوا، وعلِمَ أنَّ العذابَ نازلٌ بهم، فخرجَ من بينِهم من غيرِ أن يأمرَهُ اللهُ تعالى بالخروجِ، فكان ذلك ديناً منه وكان قصدهُ حين خرجَ منهم للمبالغةِ في تحذيرِهم وإنذارهم، فكان بذهابهِ كالفارِّ من مولاهُ، فوُصِفَ بالأبَاقِ.
وقولهُ تعالى :﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴾ ؛ وذلكَ أنه لَمَّا رَكِبَ السفينةَ، وقفَتِ السفينةُ ولم تَسِرْ بأهلِها، فقالَ الملاَّحون : ههُنا عبدٌ آبقٌ من سيِّدهِ، وهذا رسمُ السفينة إذا كان فيها عبدٌ آبقٌ لا تجرِي، واقترَعُوا فوقعتِ القُرعَةُ على يونسَ فقال : أنا الآبقُ، ﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ﴾.
قال سعيدُ بن جبير :(لَمَّا اسْتَهَمُوا جَاءَ حُوتٌ إلَى السَّفِينَةِ فَاغِراً فَاهُ يَنْتَظِرُ أمْرَ رَبهِ، كَأَنَّهُ يَطْلُبُ وَاحِداً مِنْ أهْلِهَا، فَقَالَ يُونُسُ : يَا أهْلَ السَّفِينَةِ أنَا الْمَطْلُوبُ مِنْ بَيْنِكُمْ، فَقَالُواْ : أنْتَ أكْرَمُ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ أنْ يَبْتَلِِيكَ بمِثْلِ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ : اقْتَرِعُوا فَمَنْ خَرَجَتِ الْْقُرْعَةُ عَلَى اسْمِهِ أُلْقِيَ إلَى الْحُوتِ، وَكَانَ يَعْلَمُ أنَّ الْقُرْعَةَ تَخْرُجُ عَلَيْهِ، إلاَّ أنَّهُ لَمْ يَبْدَأ بإلْقَاءِ نَفْسِهِ إلَى الْحُوتِ مَخَافَةَ أنْ تَلْحَقَهُ سِمَةُ الْجُنُونِ، فَسَاهَمَ فَوَقَعَ السَّهْمُ عَلَيْهِ فَكَانَ مِنَ الْمَسْهُومِينَ).
وَالْمُدْحَضُ في اللغة : هو المغلوبُ في الحجَّة، وأصلهُ من دَحَضَ الرجلُ إذا نزلَ مِن مكانهِ، فلما أُلقِيَ عليه السُّلَّمُ في البحرِ ابتلعَهُ الحوتُ ابتلاعَ اللُّقمَةِ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ ؛ أي أتَى بما يستحقُّ عليه اللّومَ، والْمَلِيمُ : الآتِي بما يُلائِمُ على مثلهِ، وسببُ استحقاقهِ اللَّومَ خروجهُ من بين قومهِ قبل ورُودِ الإذنِ عليه مِن اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴾، أي لولاَ أنه كان قبلَ أن يلتقمَهُ الحوتُ من المصَلِّين للهِ تعالى، ﴿ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ ؛ لَمَكَثَ في بطنِ الحوتِ إلى يوم البعثِ والنُّشور. قال الحسنُ :(مَا كَانَتْ لَهُ صَلاَةٌ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ عَمَلاً صَالِحاً قَبْلَ ذلِكَ).
ويقالُ : إن المرادَ بالتسبيحِ في هذه الآيةِ قولهُ في الحوتِ : لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ سُبْحَانََكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. قال السديُّ :(لَبثَ يُونُسُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أرْبَعِيْنَ يَوْماً)، وقال الضحَّاكُ :(عِشْرِينَ يَوْماً)، وقال عطاءُ :(تِسْعَةَ أيَّامٍ)، وقال مقاتلُ :(ثلاَثَةَ أيَّامٍ).
وقولهُ تعالى :﴿ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ﴾ ؛ اي ألْهَمنَا الحوتَ أن يطرحَهُ على فضاءٍ من الأرضِ، والعَرَاءُ هو المكانُ الخالِي من الشَّجر والبناءِ، قال مقاتلُ :(مَعْنَى :﴿ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ ﴾ يَعْنِي وَجْهَ الأَرْضِ وَهُوَ سَقِيمٌ قَدْ بَلِيَ لَحْمُهُ مِثْلَ الصَّبيِّ الْمَوْلُودِ)، قال ابنُ مسعودٍ :(كَهَيْئَةِ الْفَرْخِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ ريشٌ).
وَقِيْلَ : معنى ﴿ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾ أي وهو مَرِيضٌ، وذلك لما أصابَهُ في بطنِ الحوت من الشدَّةِ والضَّغطَةِ والبُعدِ من الهواءِ والغذاء، حتى ضعُفَ جسمهُ ورقَّ جلده ولم يبقَ ظُفْرٌ ولا شعرٌ كالولدِ أوَّلَ ما يخرجُ من بطنِ أُمِّه.
فلما أُلقِيَ على وجهِ الأرض كان يتأذى بحرِّ الشمس، فأنبتَ اللهُ تعالى عليه شجرةً من يَقْطِينٍ، قال الكلبيُّ :(هِيَ الْقَرْعُ)، وهي شجرةٌ الدُّبَّاءِ العربي، وكلُّ شجرةٍ لا تقومُ على ساقٍ وتمتدُّ على وجهِ الأرضِ مثل القَرْعِ والبطِّيخ ونحوِها فهو يقينٌ، واشتقاقهُ من قَطَنَ من المكانِ إذا اقامَ به، فهذا الشَّجرُ يكون ورقهُ وساقهُ على وجهِ الأرض، فلذلك قِيْلَ : يَقْطِين، ومن خصائصِ شجرةِ القَرْعِ أنَّها لا يقربُها ذبابٌ، قالوا : فكان يستظلُّ بها من الشَّمسِ، وسخَّرَ اللهُ له وَعْلَةً بُكرَةً وَعَشِيّاً تختلفُ إليه، فكان يشربُ من لبَنِها حتى اشتدَّ ونبتَ شعرهُ.
ثم أرسلَهُ اللهُ بعدَ ذلك وهو قولهُ :﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ ؛ وقال الحسنُ :(مَعْنَاهُ : بَلْ يَزِيدُونَ)، وقال الكلبيُّ :(مَعْنَاهُ : وَيَزِيدُونَ)، وكان الذين أُرسِلَ إليهم أهلُ نِينَوَى، كأنَّهُ أُرسِلَ قبلَ ما الْتَقَمَهُ الحوتُ إلى قومٍ، وبعدَ ما نبذهُ الحوتُ إلى قومٍ آخَرين.
قولهُ :﴿ فَآمَنُواْ ﴾ ؛ أي فآمَنَ مَن أُرسِلَ إليهم يونسُ عليه السلام بما جاءَهم به من عندِ الله تعالى. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ ؛ أي إلى حين آجالِهم. واختلَفُوا في الزيادةِ على مائة ألفٍ، قال مقاتلُ :(كَانَتِ الزِّيَادَةُ عِشْرِينَ أَلْفاً)، وقال الحسنُ :(بضْعاً وَثَلاَثِينَ ألْفاً)، وقال سعيدُ بن جبير :(سَبْعِينَ ألْفاً).
وقولهُ تعالى :﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ﴾ ؛ أي سلهُم - يا مُحَمَّدُ - أهلَ مكَّة سؤالَ توبيخٍ وتقريعٍ (ألِرَبكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونُ) ؟ وذلك أنَّ قُريشاً وقبائلَ من العرب منهم خُزاعَةُ وجُهَيْنَةُ وبنو سُليم كانوا يقولُون : إنَّ الملائكةَ بناتُ الله، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبيراً. وقولهُ تعالى :﴿ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴾ ؛ أي حَاضِرُوا خَلقِنا إيَّاهم، فكيفَ جعَلوهم إنَاثاً ولم يشهَدُوا خَلقَهم كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾[الزخرف : ١٩].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ ؛ في إضافةِ الأولادِ إلى اللهِ تعالى حين زعَمُوا أنَّ الملائكةَ بناتُ اللهِ، تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبيراً، ﴿ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ﴾ ؛ القراءة المعروفةُ المشهودة بفتحِ الألِفِ على الاستفهامِ الذي فيه التوبيخُ، والمعنى : سَلْهُمْ أصْطَفَى البناتِ، إلاَّ أنه حذفَ ألِفَ الوصلِ وبقيت ألِفُ الاستفهامِ مفتوحةً مقطوعة على حالِها مثل أستَكبَرتَ وأستغفرتَ، وأذهَبتُم ونحوها. وقرأ نافعُ برواية وَرْشٍ (اصْطَفَى) موصولةً على الخبرِ والحكاية عن قولِ المشركين، تقديرهُ : ليَقولُون ولدَ اللهُ ويقولون اصْطَفَى البناتِ.
وقولهُ تعالى :﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ ؛ هذا توبيخٌ لَهم ؛ أي كيف ترضُون لله ما لا ترضون لأنفُسِكم، ﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾، أفلاَ تتَّعظُون فتمتَنعون عن مقالِتكم، ﴿ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ ﴾ ؛ أم لكم حجَّةٌ بيِّنةٌ على صحَّة دعواكم هذهِ، ﴿ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ ﴾ ؛ وحجَّتِكم، ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فيما تدَّعون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ﴾ ؛ أي جعلَ هؤلاءِ بينَ اللهِ وبينَ الملائكةِ الذين يشاهدونَهم نسَباً، وسُميت الملائكة جِنَّةً في هذا لاستتارهم عن أعيُن الناسِ كاستتار الجنِّ، وقولهُ تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾ ؛ أي علِمَت الملائكةُ أنَّ الكفارَ الذين عبَدُوهم لَمُحضَرون في العذاب لدُعائِهم إلى هذا القولِ.
ثم نَزَّهَ اللهُ تعالى نفسَهُ فقالَ :﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ ؛ أي عمَّا يصِفُونَهُ ويُضِيفُونَهُ إليه، ﴿ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾ ؛ لكنَّ عبادَ اللهِ المخلَصين من الجنِّ والإنسِ لا يُحضَرون هذا العذابَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ﴾ ؛ هذا خطابٌ لأهلِ مكَّة، معناهُ : فإنَّكم أيُّها المشرِكون وما تعبدونَهُ من دونِ الله الأصنامُ، ﴿ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ﴾ ؛ أي ما أنتم على ذلك بمُضِلِّين أحَداً، ﴿ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ﴾، إلاَّ مَن كان في علمِ الله أنه يَصْلَى الجحيمَ، وفي هذا بيانٌ على أنَّهم يُفسِدون أحَداً إلاَّ مَن كان في معلومِ الله أنه سيَكفُر، يعني أن قضاءَ اللهِ سبَقَ في قومِ بالشَّقاوة، فإنَّهم يَصْلُونَ النارَ، فهُم الذين يُضِلُّونَ في الدِّينِ ويعبدون الأصنامَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ ؛ هذا من قولُ جِبرِيلَ عليه السلام للنبيِّ ﷺ يقولُ : ليس منَّا معشرُ الملائكةِ ملَكٌ في السَّمواتِ والأرضِ إلاَّ له موضعٌ معلوم يَعبُدُ اللهَ فيه، لا يتجاوزُ ما أُمِرَ به، ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ ﴾ ؛ أي الْمُصْطَفُّونَ في الصَّلاة كصُفوفِ المؤمنين. وَقِيْلَ : صافُّون حولَ العرشِ ينتظرون الأمرَ والنهيَ من اللهِ تعالى، ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ﴾ ؛ أي الْمُصَلُّونَ للهِ، المنَزِّهُون له عن السُّوءِ، وعن جميعِ ما لا يَليقُ بصفاتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ ﴾، أي وقد كان كفارُ مكَّة يقولون :﴿ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأَوَّلِينَ ﴾، لو جاءَنا ذِكرٌ كما جاءَ غيرَنا من الأوَّلِين من الكتُب، ﴿ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾ ؛ لأخلَصْنا العبادةَ لله، فلمَّا جاءَهم الرسولُ والكتاب كما قالُوا وطلبوا ؛ ﴿ فَكَفَرُواْ بِهِ ﴾، كفَرُوا بذلكَ، ﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾، ماذا ينْزِلُ بهم، وهذا كما قالُوا : لو أنَّا أُنزِلَ علينا الكتاب لكُنَّا أهدَى منكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ﴾ ؛ معناهُ : لقد تقدَّمَ وعدُنا بالنصرِ والظَّفر لعبادِنا المرسَلين، ﴿ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ﴾، يعني بالكلمةِ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي ﴾[المجادلة : ٢١] فهذه الكلمةُ التي قد سبقَت، فاللهُ تعالى لم يفرِضَ على نبيٍّ الجهادَ إلاّ ونصرَهُ وجعلَ العاقبةَ له، قال الحسنُ :(مَا غُلِبَ نَبِيٌّ فِي حَرْبٍ وَلاَ قُتِلَ فِيْهِ قَطٌّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ ؛ أي جندُ اللهِ لهم الغلبَةُ بالحجَّة والنصرِ في الدُّنيا، وينتقمُ الله من أعدائهِ في الآخرة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ﴾ ؛ أي أعْرِضْ عنهم حتى تنقضِيَ المدَّةُ التي أُمهِلوا فيها، ﴿ وَأَبْصِرْهُمْ ﴾، في عذاب الآخرة، ﴿ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴾ ؛ ما وُعدوا من العذاب. وَقِيْلَ : معناهُ : أعرِضْ عنهم حتى نأْمُرَكَ بقتالهم، وأبصِرهُم بقلبكَ فسوف يُبصِرُونَ العذابَ بأعيُنهم.
فقالوا للنبيِّ ﷺ : متى ينْزلُ بنا العذابُ الذي تعِدُنا به ؟ فقالَ اللهُ تعالى :﴿ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴾ ؛ أي يطلبُون تعجيلَ عذابنا لجهلِهم، ﴿ فَإِذَا نَزَلَ ﴾ ؛ العذابُ، ﴿ بِسَاحَتِهِمْ ﴾ ؛ أي بفَنَاءِ دارهم وموضعِ منازلهم، ﴿ فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ﴾ ؛ أي فبئسَ صباحُ قومٍ أنذرَهم الرسلُ فلم يؤمنوا.
وعن أنسٍ رضي الله عنه قال :" لَمَّا أتَى النَّبيُّ ﷺ خَيبَرَ، قالَ :" اللهُ أكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ إنَّا إذا نَزَلْنَا سَاحَةَ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذرينَ " ".
وقولهُ تعالى :﴿ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ﴾ ؛ إنما ذكرَهُ ثانياً تأكيداً لوعدِ العذاب، وقولهُ تعالى :﴿ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴾ ؛ ليس هذا بتكرار ؛ لأنَّهما عذابَان، أرادَ بالأولِ عذابَ الآخرةِ، وبالثانِي عذابَ الدُّنيا يومَ بدرٍ.
قَوْلُهُ تَعَلَى :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ ؛ أي تنْزِيهاً لربكَ رب القُدرَةِ والمنَعَة والغلبَةِ عمَّا يقولون من الكذب بالأوثان آلهةً، وأنَّ الملائكةَ بناتُ اللهِ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴾ ؛ الذين بلَّغُوا عن اللهِ التوحيدَ والشرائعَ. قال النبيُّ ﷺ :" إذا سَلَّمْتُمْ عَلَيَّ فَسَلِّمُواْ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَإنَّمَا أنَا رَسُولٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ؛ أي الشُّكْرُ للهِ رب الخلائقِ على إهلاكِ الأعداء وإعزاز الأولياء. وَقِيْلَ : معناهُ : والحمدُ للهِ رب العالَمين على إهلاكِ المشرِكين ونُصرَةِ الأنبياءِ.
وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه قالَ :(مَنْ أحَبَّ أنْ يَكْتَالَ بالْمِكْيَالِ الأَوْفَى مِنَ الأَجْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلْيَكُنْ آخِرُ كَلاَمِهِ مِنْ مَجْلِسِهِ : سُبْحَانَ رَبكَ رَب الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ...) إلى آخرِ السُّورة.
Icon