ولما نزه ربنا سبحانه نفسه الأقدس في ختام تلك عن كل شائبة
322
نقص، وأثبت له كل كمال ناصاً على العزة، وأوجب للمرسلين السلامة، افتتح هذه بالإشارة إلى دليل ذلك بخذلان من ينازع فيه فقال:
﴿ص﴾ أي إن أمرك - يا من أمرناه باستفتاء العصاة آخر الصافات وبشرناه بالنصر - مهيأ مع الضعف الذي أنتم به الآن والرخاوة والإطباق، وعلو وانتشار يملأ الآفاق
﴿والقرآن﴾ أي الجامع - مع البيان لكل خير - لأتباع لا يحصيهم العد، ولا يحيط بهم الحد. ولما كان القسم لا يليق ولا يحسن إلا بما يعتقد المقسم له شرفه قال:
﴿ذي الذكر *﴾ أي الموعظة والتذكير بما يعرف، والعلو والشرف والصدق الذي لا ريب فيه عند كل أحد، فكل من سمعه اعتقد شرفه وصدق الآتي به ليملأن شرفه المنزل عليه الأقطار، وليزيدن على كل مقدار، كما تقدمت الدلالة عليه بالحرف الأول، والذين كفروا وإن أظهروا الشك في ذلك وانتقصوه قولاً فإنهم لا ينتقصونه علماً
﴿بل الذين كفروا﴾ بما يظهرون من تكذيبه
﴿في عزة﴾ أي عسر وصعوبة ومغالبة بحمية الجاهلية مظروفون لها، فهي معمية لهم عن الحق لإحاطتهم بهم، وأنثها إشارة إلى ضعفها، وبشارة بسرعة زوالها وانقلابها إلى ذل
﴿وشقاق *﴾ أي إعراض وامتناع واستكبار على قبول الصدق من لساني الحال الذي أفصح به الوجود، والقال الذي
323
صرح به الذكر فهداهم إلى ما هو في فطرهم وجبلاتهم بأرشق عبارة وأوضح إشارة لو كانوا يعقلون، فأعرضوا عن تدبره عناداً منهم لا اعتقاداً فإنهم لا يكذبوك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون، وتنكيرهما للتعظيم، قال الرازي: حذف الجواب ليذهب فيه القلب كل مذهب ليكون أغزر وبحوره أزخر - انتهى.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما ذكر تعالى حال الأمم السالفة مع أنبيائهم في العتو والتكذيب، وأن ذلك أعقبهم الأخذ الوبيل والطويل، كان هذا مظنة لتذكير حال مشركي العرب وبيان سوء مرتكبهم وأنهم قد سبقوا إلى ذلك الارتكاب، فحل بالمعاند سوء العذاب، فبسط حال هؤلاء وسوء مقالهم ليعلم أنه لا فرق بينهم وبين مكذبي الأمم السالفة في استحقاق العذاب وسوء الانقلاب، وقد وقع التصريح بذلك في قوله تعالى
﴿كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد﴾ إلى قوله:
﴿إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب﴾ ولما أتبع سبحانه هذا بذكر استعجالهم في قوله
﴿عجل لنا قطناً قبل يوم الحساب﴾ أتبع ذلك بأمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصبر فقال
﴿اصبر على ما يقولون﴾ ثم آنسه بذكر الأنبياء وحال المقربين الأصفياء
﴿وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك﴾ - انتهى.
324
ولما كان للعلم الذي أراد الله إظهاره في هذا الوجود طريقان: حال ومقال، فأما الحال فهو ما تنطق به أحوال الموجودات التي أبدعها سبحانه في هذا الكون من علوم يدرك منها من أراد الله ما أراد، وأما المقال فهو هذا الذكر الذي هو ترجمة عن جميع الوجود، وكان سبحانه قد قدم الذكر لأنه أبين وأظهر، وأخبر أنهم أعرضوا عنه وشاققوه، وكان من شاقق الملك استحق الهلاك، وكان ما أبدوه من المغالبة أمراً غائظاً للمؤمنين، أتبعه ما يصلح لتخويف الكافرين وترجية المؤمنين مما أفصح به لسان الحال من إهلاك المنذرين، وهو أبين ما يكون من دلالاته، وأظهر ما يوجد من آياته، فقال استئنافاً:
﴿كم أهلكنا﴾ وكأن المنادين بما يذكر كانوا بعض المهلكين، وكانوا أقرب المهلكين إليهم في الزمان، فأدخل الجار لذلك، فقال دالاً على ابتداء الإهلاك:
﴿من قبلهم﴾ وأكد كثرتهم بقوله مميزاً:
﴿من قرن﴾ أي كانوا في شقاق مثل شقاقهم، لأنهم كانوا في نهاية الصلابة والحدة والمنعة - بما دل عليه
«قرن».
ولما تسبب عن مسهم بالعذاب دلهم قال جامعاً على معنى
«قرن» لأنه أدل على عظمة الإهلاك:
﴿فنادوا﴾ أي بما كان يقال لهم: إنه سبب للنجاة من الإيمان والتوبة، واستعانوا بمن ينقذهم، أو فعلوا النداء
325
ذعراً ودهشة من غير قصد منادي، فيكون الفعل لازماً، وقال الكلبي: كانوا إذا قاتلوا فاضطروا تنادوا
«مناص» أي عليكم بالفرار، فأجيبوا بأنه لا فرار لهم.
ولما قرر سبحانه في غير موضع أن التوبة لا تنفع إلا عند التمكن والاختيار لا عند الغلبة والاضطراب، قال تعالى مؤكداً لهذا المعنى في جملة حالية بزيادة التاء التي أصلها هاء في
«لا» أو في
«حين» كما أكدوا بزيادتها في رب وثم، والهاء في أراق والتاء في مثال والان فقالوا: ربت وثمت وأهراق وتمثال وتالان
﴿ولات﴾ أي وليس الحين
﴿حين مناص *﴾ أي فراراً بتحرك بتقدم ولا تأخر، بحركة قوية ولا ضعيفة، فضلاً عن نجاة، قال ابن برجان: والنوص يعبر به تارة عن التقدم وتارة عن التأخر وهو كالجماح والنفار من الفرس، ونوص حمار رفعه رأسه كأنه نافر جامح.
ولما كان جعل المنذر منهم ليس محلاًّ للعجب فعدوه عجباً لما ظهر
326
من تقسيمهم القول فيه، عجب منهم في قوله:
﴿وعجبوا أن﴾ أي لأجل أن
﴿جاءهم﴾ ولما كان تعجبهم من مطلق نذارته لا مبالغته فيها أتى باسم الفاعل دون فعيل فقال:
﴿منذر منهم﴾ أي من البشر ثم من العرب ثم من قريش ولم يكن من الملائكة مثلاً وكان ينبغي لهم أن لا يعجبوا من ذلك فإن كون النذير بما يحل من المصائب من القوم المنذرين - مع كونه أشرف لهم - أقعد في النذارة لأنهم أعرف به وبما هو منطو عليه من صدق وشفقة وغير ذلك، وهو الذي جرت به العوائد في القديم والحديث لكونهم إليه أميل، فهم لكلامه أقبل.
ولما كانوا أعرف الناس بهذا النذير صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أنه أصدقهم لهجة وأعلاهم همة وأنه منفي عنه كل نقيصة ووصمة، زاد في التعجيب بأن قال معبراً بالواو دون الفاء لأن وصفهم له بالسحر ليس شبيه هذا العجب:
﴿وقال﴾ ولما كانوا يسترون الحق مع معرفتهم إياه فهم جاحدون لا جاهلون، ومعاندون لا غافلون، أظهر موضع الإضمار
327
إشارة إلى ذلك وإيذاناً بشديد غضبه في قوله:
﴿الكافرون هذا﴾ أي النذير.
ولما كان ما يبديه من الخوارق إعجازاً فعلاً وقولاً يجذب القلوب، وكان أقرب ما يقدحون به فيه السحر قذفوه به ولم يعبروا بصيغة مبالغة لئلا يكون ذلك إيضاحاً جاذباً للقلوب إليه فقالوا:
﴿ساحر﴾ أي لأنه يفرق بما أتى به بين المرء وزوجه، فاعترفوا - مع نسبتهم له إلى السحر وهم يعلمون أنهم كاذبون في ذلك - أن ما أتى به فوق ما لهم من القوى
﴿كذاب *﴾ أي في ادعائه أن ما سحر به حق ليس هو كسحر السحرة، وأتوا بوقاحة بصيغة المبالغة وقد كانوا قبل ذلك يسمونه الأمين وهم يعلمون أنه لم يتجدد له شيء إلا إتيانه بأصدق الصدق وأحق مع ترقيه في معارج الكمال من غير خفاء على أحد له أدنى تأمل.
328
ولما ذكر قولهم الناشىء عن عجبهم، ذكر سببه ليعلم أن حالهم هو الذي يعجب منه لا حال من أنذرهم بقوله حاكياً قولهم إنكاراً لمضمون ما دخل عليه:
﴿أجعل﴾ أي صير بسبب ما يزعم أنه يوحى إليه
﴿الآلهة﴾ أي التي نعبدها
﴿إلهاً واحداً﴾ ولما كان الكلام في الإلهية التي هي أعظم أصول الدين، وكان هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل من تبعه بل وكل منصف ينكرون أن يكون هذا عجباً،
328
بل العجب كل العجب ممن يقبل عقله أن يكون الإله أكثر من واحد، أكدوا قولهم لذلك وإعلاماً لضعفائهم تثبياً لهم بأنهم على غاية الثقة والاعتقاد لما يقولون، لم يزلزلهم ما رأوا من منذرهم من الأحوال الغريبة الدالة ولا بد على صدقه، فسموها سحراً لعجزهم عنها:
﴿إن هذا﴾ أي القول بالوحدانية
﴿لشيء عجاب *﴾ أي في غاية العجب - بما دلت عليه الضمة والصيغة، ولذلك قرئ شاذاً بتشديد الجيم، وهي أبلغ قال الاستاذ أبو القاسم القشيري: فلا هم عرفوا الإله ولا معنى الإلهية فإن الإلهية هي القدرة على الاختراع، وتقدير القادرين على الاختراع غير صحيح لما يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه، وذلك يمنع من كمالهما، ولو لم يكونا كاملي الوصف لم يكونا إلهين، وكل أمر جر ثبوته سقوطه فهو باطل مطرح - انتهى. وستأتي الإشارة إلى الرد عليهم بقوله:
﴿العزيز الوهاب﴾ ثم بقوله:
﴿وما من إله إلا الله الواحد القهار﴾.
ولما كان العجب فكيف بالعجاب جديراً بأن يلزم صاحبه ليزداد الناظر عجباً، بين أنهم فعلوا خلاف ذلك تصديقاً لمن نسبهم إليه من الشقاق فقال:
﴿وانطلق﴾ ولما كان ما فعلوه لا يفعله عاقل فربما ظن السامع أن المنطلق منهم أسقاط من الناس من غيرهم قال:
﴿الملأ﴾
329
أي الأشراف، وقال:
﴿منهم﴾ أي لا من غيرهم فكيف بالأسقاط منهم وكيف بغيرهم، ثم حقق الانطلاق مضمناً له القول لأنه من لوازمه بقوله:
﴿أن امشوا﴾ أي قائلاً كل منهم لذلك آمراً لنفسه ولصاحبه بالجد في المفارقة حالاً ومقالاً، وإذا وقف على
«أن» ابتدئ بكسر الهمزة لأن أصله: امشيوا فالثالث مكسور كما أنه لو قيل لأمرأة: اغزي يبتدأ بالضم لأن الأصل: اغزوي كاخرجي
﴿واصبروا على آلهتكم﴾ أي لزوم عبادتها وعدم الالتفات إلى ما سواها، قال القشيري: وإذا تواصى الكفار فيما بينهم بالصبر على آلهتهم فالمؤمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم والاستقامة في دينهم.
ولما كان كل منهم قد أخذ ما سمعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلب وسلب لبه، على ما أشار إليه
«ذي الذكر بل» فهو خائف من صاحبه أن يكون قد استحال عن اعتقاد التعدد بما يعرف من تزحزحه في نفسه، أكدوا قولهم:
﴿إن هذا﴾ أي الصبر على عبادة الآلهة
﴿لشيء يراد *﴾ أي هو أهل للإرادة فهو أهل لئلا ينفك عنه،
330
أو الذي يدعو إليه شيء يريده هو ولا نعلم نحن ما هو على ما نحن عليه من الحذق، فهو شيء لا يعلم في نفسه.
ولما كان كأنه قيل: فما حال ما يقوله؟ قالوا جواباً واقفاً مع التقليد والعادة التي وجدوا عليها أسلافهم:
﴿ما سمعنا بهذا﴾ أي الذي تذكره من الوحداينة
﴿في الملة الآخرة﴾ وتقييدهم لها يدل على أنهم عالمون به في الملة الأولى، وأنهم عارفون بأن إبراهيم عليه السلام ومن وجد من أولاده الذين هم آباؤهم إلى عمرو بن لحي كانوا بعيدين من الشرك ملازمين للتوحيد وأنه لا شبهة لهم إلا كونه سبحانه لم يغير عليهم في هذه المدد الطوال، وكانوا أيضاً يعرفون البعث ولكنهم تناسوه، ذكر ابن الفرات في تأريخه يوم حليمة من أيام العرب وقال: إن حجر بن عمرو آكل المرار سار إلى بني أسد فقتلهم وسيرهم إلى تهامة فقال عبيد بن الأبرص من أبيات:
ومنعتهم نجداً فقد حلوا على وحل تهامه... أنت المليك عليهم وهم العبيد إلى القيامه... وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
331
قال:
«إن أول من سيب السوايب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر وأني رأيته يجر أمعاءه في النار» وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«أول من غير دين إبراهيم عليه السلام عمرو بن لحي بن قميئة» وروى البخاري في فتح مكة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخرج من البيت صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في أيديهما الأزلام فقال:
«قاتلهم الله! لقد علموا ما استقسما بها قط» فبطل ما يقال من أن أهل الفترة جهلوا جهلاً أسقط عنهم اللوم، ويؤيده ما في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال:
«في النار، فلما قفى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار» أخرجه مسلم في آخر كتاب الإيمان، وقد مر في سبحان في قوله تعالى:
﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً﴾ ما ينفع هنا، والقاطع للنزاع في هذا قوله
﴿ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدو الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة﴾ [النحل: ٣٦] فما تركت هذه الآية أحداً حتى شملته وحكمت عليه بالجنة أو النار.
332
ولما كان قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده جديراً بأن يزلزلهم فكيف إذا انضم إليه علمهم بأن أسلافهم لا سيما إسماعيل وأبوه إبراهيم عليهما السلام كانوا عليه، أكدوا قولهم:
﴿إن﴾ أي ما
﴿هذا﴾ أي الذي يقوله
﴿إلا اختلاق *﴾ أي تعمد الكذب مع أنه لا ملازمة بين عدم سماعهم فيها وبين كونه اختلاقاً، بل هو قول يعرف معانيه بأدنى تأمل، روى الترمذي - وقال: حسن صحيح - والنسائي وابن حبان في صحيحه وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والطبري وابن أبي حاتم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرض أبو طالب فجاءته قريش، وجاءه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعند أبي طالب مجلس رجل فقام أبو جهل كي يمنعه، قال: وشكوه ألى أبي طالب - زاد النسائي في الكبير وأبو يعلى: وقالوا: يقع في آلهتنا
333
فقال: يا ابن أخي! ما تريد من قومك؟ قال:
«أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم العجم الجزية، قال: كلمة واحدة، قال: كلمة واحدة، فقال: وما هي؟ فقال: يا عم، قولوا» لا إله إلا الله
«فقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن إلا اختلاق، قال: فنزل فيهم القرآن» ﴿ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفورا في عزة وشقاق﴾ إلى قوله:
﴿اختلاق﴾ وفي التفاسير أنهم قالوا: كيف يسع الخلق كلهم إله واحد.
ولما كان مرادهم بهذه التأكيدات الدلالة على أنهم في غاية الثبات على ما كانوا عليه قبل دعائه، وأبى الله أن يبقى باطلاً بغير إمارة يقرنه بها تفضحه، وسلطان يبطله ويهتكه، أتبع ذلك حكاية قولهم الذي جعلوه دليلاً على حرمهم، فكان دالاً على عدم صدقهم في هذا الحكم الجازم غاية الجزم بالاختلاق المنادى عليهم بأن أصل دائهم والحامل لهم على تكذيبهم إنما هو الحسد، فقال دالاً بتعبيرهم بالإنزال على أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان جديراً بأن يتوهم فيه النبوة بما كان له قبل الوحي من التعبد والأحوال الشريفة
334
وقدموا ما يدل على اختصاصه عناداً لما يعلمون من أحواله المقتضية للخصوصية بخلاف ما يذكر في القمر، وعبروا بحرف الاستعلاء إشارة إلى أن مثل هذا الذي يذكره لا يقوله إلا من غلب على عقله فقالوا:
﴿أءنزل عليه﴾ أي خاصة
﴿الذكر﴾ أي الذي خالف ما نحن عليه وصار يذكر به، وزادوا ما دلوا به على الاختصاص تصريحاً فقالوا:
﴿من بيننا﴾ ونحن أكبر سناً وأكثر شيئاً، وهذا كله كما ترى مع مناداته عليهم بالحسد العظيم ينادي عليهم غاية المناداة بالفضيحة، لأنه إن كان المدار على رعاية حق الآباء حتى لا يسوغ لأحد تغيير دينهم والطعن عليهم بدين محدث وإن قامت عليه الأدلة وتعاضدت على حقيته البراهين فما لآبائهم غيروا دين آبائهم لأجل ما أحدثه عمرو بن لحي - شخص ليس من قبيلتهم، وشهدوا على آبائهم بالضلال وهم عالمون بأن ما غيروه دين إسماعيل ومن قبله إبراهيم ومن تبعهما من صالحي أولادهما عليهم السلام، وإن كان المدار على المحدث حتى ساغ تغيير دين الأنبياء ومن تبعهم بإحسان عليهم السلام بما أحدثه عمرو بن لحي فما لهم لا يغيرون ما ابتدع من الضلال بما أتاهم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسموه محدثاً، وإن كان المدار على الحق فما لهم لا ينظرون الأدلة ويتبعون الحجج.
ولما كان هذا دالاًّ على أنهم ليسوا على ثقة مما جزموا به قال:
335
﴿بل﴾ أي إنهم ليسوا جازمين بما قالوا وإن أكدوه غاية التأكيد، بل
﴿هم في شك﴾ أي تردد محيط بهم مبتدئ لهم
﴿من ذكري﴾ أي فلهذا لا يثبتون فيه على قول واحد، أي إن أحوالهم في أقوالهم وأفعالهم أحوال الشاك. وعدل عن مظهر العظمة إلى الإفراد لأن هذا السياق للتوحيد فإلافراد أولى به وليكون نصاً على المراد بعد ذكر آلهتهم قطعاً لشبه متعنتيهم.
ولما كانوا في الحقيقة على ثقة من حقيقته وإن كان قولهم وفعلهم قول الشاك قال:
﴿بل﴾ أي ليسوا في شك منه في نفس الأمر وإن كان قولهم قول من هو في شك. ولما كانوا قد جرت لهم مصايب ومحن، وشدائد وفتن، ربما: ظنوا أنه لا يكون شيء من العذاب فوقها، نفى أن يكونوا ذاقوا شيئاً من عذابه الذي يرسله عند إرادة الانتقام، فعبر بما يفيد استغراق النفي في جميع الزمن الماضي فقال:
﴿لما يذوقوا﴾ من أول أمرهم إلى الآن
﴿عذاب *﴾ أي الذي أعددته للمكذبين فهم في عزة وشقاق، ولو ذاقوه لانحلت عرى عزائمهم، وصاروا أذل شيء وأحقره أدناه وأصغره! وإطباق
336
أهل الرسم وأكثر القراء على حذف يائه رسماً وقراءة إشارة إلى أنه العذاب الأدنى المذهب لحمية الجاهلية، وإثبات يعقوب وحده لها في الحالين إشارة إلى أنه العذاب المعد لإهلاك الأمم الطاغية لا مطلق العذاب.
337
ولما أرشد إنكارهم خصوصيته بالذكر بنفي شكهم اللازم منه إثبات أنهم على علم بأنه مرسل، وأنه أحقهم بالرسالة إلى أن التقدير: أفيهم غيره من هو أهل لتلقي هذا الذكر حتى ينزله الله عليه ويترك هذا البشير النذير صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عادل به قوله:
﴿أم عندهم﴾ أي خاصة دون غيرهم
﴿خزائن رحمة﴾ ولما كان إنزال الوحي إحساناً إلى المنزل عليه، عدل عن إفراد الضمير إلى صفة الإحسان المفيدة للتربية، فقال مخاطباً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه أضخم لشأنه، وأفخم لمقداره ومكانه:
﴿ربك﴾ أي المحسن إليك بإنزاله ليخصوا به من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا
﴿أهم يقسمون رحمة ربك﴾ [الزخرف: ٣٢] ولما كان لا يصلح للربوبية إلا الغالب لكل ما سواه، المفيض على من يشاء، ما يشاء، قال:
﴿العزيز الوهاب *﴾ أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، ويفيض على جهة التفضل ما يشاء على من يريد، وله صفة الإفاضة
337
متكررة الآثار على الدوام، فلا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى.
ولما سلب عنهم التصرف في الخزائن، أتبعه نفي الملك عما شاهدوا منها وهو جزء يسير جداً فقال:
﴿أم لهم﴾ أي خاصة
﴿ملك السماوات والأرض﴾ ولما كان الحكم على ذلك لا يستلزم الحكم على الفضاء قال:
﴿وما بينهما﴾ أي لتكون كلمتهم في هذا الكون هي النافذة ويتكلموا في الأمور الإلهية ويسندوا ما شاؤوا من الأمور الجليلة إلى من شاؤوا، ثم بين عجزهم وبكتهم وقرعهم ووبخهم بما سبب عن ذلك من قوله:
﴿فليرتقوا *﴾ أي يتكلفوا الرقي إن كان لهم ذلك
﴿في الأسباب *﴾ أي الطرق الموصلة إلى السماء ليستووا على العرش الذي هو أمارة الملك فيدبروا العالم فيخصوا من شاؤوا بالرسالة ليعلم أن لهم ذلك وأنه لا يسوغ لأحد أن يختص دونهم بشيء.
ولما انتفى عنهم بما مضى وعن كل من يدعون ممالأته ومناصرته عن آلهتهم وغيرها خصائص الإلهية، أنتج ذلك أنهم من جملة عباده سبحانه، فعبر عن حالهم بأعلى ما يصلون إليه من التجمع والتعاضد الذي دل عليه ما تقدم الإخبار عنه من عزتهم وشقاقهم، ونفرتهم عن القبول وانطلاقهم، فقال مخبراً عن مبتدأ حذف لوضوح العلم به:
338
﴿جند ما﴾ أي ليسوا في شيء مما مضى وإنما هم جند حقيرون من بعض جنودنا متعاونون في نجدة بعضهم لبعض، قال أبو حيان: ويجوز أن تكون
«ما» صفة أريد بها التعظيم على سبيل الهزء بهم أو التحقير لأن
«ما» الصفة تستعمل لهذين المعنيين. وبين بعدهم من غير ما أقامهم فيه واستعملهم له من الرتب التي فرضها لهم وسفولهم عنها بقوله واصفاً لجند:
﴿هنالك﴾ أي في الحضيض عن هذه المرامي العالية، وبين أنه كثيراً ما تحزب أمثالهم على الرسل فما ضروا إلا أنفسهم بقوله واصفاً بعد وصف مفرداً تحقيراً:
﴿مهزوم﴾ أي له الانهزام صفة راسخة ثابتة
﴿من الأحزاب *﴾ أي الذين جرت عادتهم عزة وشقاقاً بالتحزب على الأنبياء ثم تكون عليهم الدائرة، وللرسل عليهم السلام العاقبة، فلا تكترث بهم أصلاً قال ابن برّجان: فكان أول جند مهزوم منهم جند غزوة بدر، ثم انبسط
339
صدق الحديث على جنود كثيرة في وقائع مختلفة.
ولما أوجب ذلك التشوف إلى بيان الأحزاب الماضية، وكانوا أحقر شيء بالنسبة إليه سبحانه مع شدتهم في أنفسهم، بين ذلك بالتاء الدالة على الرتبة الثانية المؤخرة، وهي رتبة التأنيث اللازم منه الضعف فقال:
﴿كذبت﴾ ولما كانت نيتهم التكذيب لا إلى آخر، عدّوا مستغرقين للزمان فنزع الجار وقيل:
﴿قبلهم﴾ أي مثل تكذيبهم. ولما كان لأول المكذبين من الكثرة والقوة والاجتماع على طول الأزمان ما لم يكن لمن بعدهم، كانوا مع تقدمهم في الزمان أحق بالتقديم في هذا السياق فقال:
﴿قوم نوح﴾ واستمروا في عزتهم وشقاقهم إلى أن رأوا الماء قد أخذهم، ولم يسمحوا بالإذعان ولا بالتضرع إلى نوح عليه السلام في أن يركبوا معه أو يدعو لهم فينجوا.
ولما كان لقوم هود عليه السلام بعدهم من الضخامة والعز ما ليس لغيرهم مع قوة الأبدان وعلوا الهمم واتساع الملك حتى بنوا جنة في الأرض، أتبعهم بهم، ومن مناسبتهم لهم في أن عذابهم بالريح التي هي سبب السحاب الحامل للماء فقال:
﴿وعاد﴾ مسمياً لهم بالاسم المنبه على ما كان لهم من المكنة بالملك، واستمروا في شقاقهم إلى أن خرجت عليهم الريح، ورأوها تحمل الإبل فيما بين السماء والأرض، وهجم
340
عليهم أوائلها وهم يرون هوداً عليه السلام ومن معه من المؤمنين رضي الله عنهم في عافية منها، ولم يدعهم الشقاق يسألونه في الدعاء لهم ولا يذعنون لما دعاهم إليه.
ولما كان لهم من القوة والملك في جميع الأرض وبناء إرم ذات العماد ما يتضاءل معه ملك كل ملك، أتبعهم ملكاً ضخماً قهر غيره بعز سلطانه وكثرة أعوانه، حتى ادعى الألهية في زمانه، وتكبر بسعة ملكه والأنهار الجارية من تحته مع ما له من الوفاق لهم بأن عذابه كان بالريح باطناً وإن كان بالماء ظاهراً وذلك أن موسى عليه السلام لما ضرب البحر أرسل الله الريح ففرقته طرقاً وأيبست تلك الطرق، ولما خلص بنو إسرائيل أمرها الله تعالى فسكنت، فانطبق البحر على فرعون وآله، فقال تعالى:
﴿وفرعون﴾ ذكره باسمه نصاً على حقيقة أمره وتصريحاً بكفره إبطالاً لما أظهره الأخابث من شره طعناً في الدين وتشكيكاً لضعفاء المسلمين.
ولما نص على كفره، وصفه بما يدل مع الدلالة على مشاركة عاد في ضخامة الأمر وعلى كفر قومه فقال:
﴿ذو الأوتاد *﴾ أي الأسباب الموجبة لثبات الملك وتقويته من علو السلطان بكثرة الأعوان والتفرد
341
بالأوامر وسعة العقل ودقة المكر وكثرة الحيل بالسحر وغيره وجودة التدبير بالعدل فيما يزعم وصولة القهر، قال أبو حيان: وأصله من البيت المطنب بأوتاده - قال الأفوه الأودي:
والبيت لا يبتنى إلا له عمد | ولا عماد إذا لم ترس أوتاد |
واستمروا في عزة وشقاق وهم يضربون تارة بالطوفان وتارة بالجراد وتارة بالقمل، وأخرى بالضفادع وبغير ذلك، إلى أن رأوا آية البحر التي هي الغاية ولم يردهم شيء من ذلك عن شقاقهم إلى أن غرقوا على كفرهم عن بكرة أبيهم كما صرحت به هذه الآية.
342
ولما كانت ثمود أضخم الناس بعدهم بما لهم من إتقان الأبنية في الجبال والسهول والتوسع بعمارة الحدائق وإنباط العيون وغير ذلك من الأمور، مع مناسبتهم لهم في رؤية الآيات المحسوسة الظاهرة العظيمة أتبعهم بهم فقال:
﴿وثمود﴾ واستمروا فيما هم فيه إلى أن رأوا علامات العذاب من صفرة الوجوه ثم حمرتها ثم سوادها، ولم يكن لهم في ذلك زاجر يردهم عن عزتهم وشقاقهم.
ولما كان الحامل لثمود على المعصية الموجبة العذاب النساء لأن عاقر الناقة ما اجترأ على عقرها إلا لامرأة منهم جعلت له على عقرها
342
زواجها، وكان الموجب لعذاب قوم لوط إتيان الذكور، فالجامع بينهم الشهوة الفرج مع الطباق بالذكور والإناث، مع أن عذاب ثمود برجف ديارهم، وعذاب قوم لوط بقلع مدائنهم وحملها ثم قلبها، أتبعهم بهم فقال معبراً بما يدل على قوتهم مضيفاً لهم إلى نبيهم عليه السلام لأنهم عدة مداين ليس لهم اسم جامع كقوم نوح عليه السلام:
﴿وقوم لوط﴾ أي الذين لهم قوة القيام بما يحاولونه واستمروا في عزتهم وشقاقهم حتى ضربوا بالعشا وطمس الأعين، ولم يقدروا على الوصول إلى ما أرادوا من الدخول إلى بيت لوط عليه السلام ولا التمكن مما أرادوا ولم يردهم ذلك عن عزتهم وشقاقهم، بل توعدوه بطلوع النهار.
ولما ذكر أهل المدر، أتبعهم طائفة من أهل الوبر يقاربونهم في الاستعصاء بالشجر، مع أن عذابهم بظلة النار كما كان لقوم لوط عليه السلام حجارة من نار فقال:
﴿وأصحاب لئيْكَةِ﴾ ثم عظم أمرهم تهويناً لأمر قريش وردعاً لهم بالحث على استحضار عذابهم فقال:
﴿أولئك﴾ أي العظماء في التجند والاجتماع على من يناوونه
﴿الأحزاب *﴾ أي الذين أقصى رتب هؤلاء في المخالفة أن يكونوا مثل حزب منهم.
343
ولما كان في معرض المعارضة لتألبهم وشقاقهم، وتجمعهم على المناواة باطلاً واتفاقهم، ولما كانوا لما عندهم من العناد وحمية الجاهلية ربما أنكروا أن يكون هلاك هؤلاء الأحزاب لأجل التكذيب، وقالوا: هو عادة الدهر في الإهلاك والتخالف في أسباب الهلاك، قال مؤكداً بأنواع التأكيد:
﴿إن﴾ أي ما
﴿كل﴾ من هذه الفرق كان لهلاكه سبب من الأسباب
﴿إلا﴾ أنه
﴿كذب الرسل﴾ أي كلهم بتكذيب رسوله، فإن من كذب رسولاً واحداً مع ثبوت رسالته فقد استهان بمن أرسله، وذلك ملزوم لتكذيب جميع من يرسله لتساوي أقدام المعجزات التي ثبتت رسالتهم بها في إيجاب التصديق
﴿فحق﴾ أي فتسبب عن ذلك التكذيب أنه حق
﴿عقاب *﴾ أي ثبت عليه فلم يقدر على التخلص منه بوجه من الوجوه والعدول إلى إفراد الضمير مع أسلوب التكلم لأن المقام للتوحيد كما مضى وهو أنص على المراد، وتقدم السر في حذف الياء رسماً في جميع المصاحف، وقراءة عند أكثر القراء وفي إثباتها في الحالين ليعقوب وحده.
ولما كان السياق للشقاق والإذعان للذكر الذي هو الموعظة ذات الشرف:
ولا يسلم الشرف الرفيع من الأذى | حتى يراق على جوانبه الدم |
كان الحال مقتضياً للعقوبة بخلاف ما في
«ق» فإن السياق لإنكارهم البعث
344
وصحة النذارة وإثبات المجد، فكان الوعيد في ذلك كافياً.
ولما كان التقدير: فلقد أعقبنا كلاًّ من أولئك الأحزاب لما حق عليهم العقاب بنوع من الأنواع لا شك فيه عند أحد ولا ارتياب، عطف عليه قوله:
﴿وما﴾ ولما كانت قريش في شدة العناد والتصميم على الكفر والاستكبار عن الإذعان للحق وتعاطي جميع أسباب العذاب كأنهم ينتظرونه ويستعجلونه، عبر بما يدل على الانتظار. ولما كانوا لمعرفتهم بصدق الآتي إليهم والقطع بصحة ما يقول كأنهم يرون العذاب ولا يرجعون، جرد فعل الانتظار فقال:
﴿ينظر﴾ وحقرهم بقوله:
﴿هؤلاء﴾ أي الذين أدبروا عنك في عزة وشقاق، وغاية جهدهم أن يكونوا من الأحزاب الذين تحزبوا على جندنا فأخذناهم بما هو مشهور من وقائعنا ومعروف من أيامنا بأصناف العذاب، ولم تغن عنهم كثرتهم ولا قوتهم شيئاً ولم يضر جندنا ضعفهم ولا قلتهم
﴿إلا صيحة﴾ وحقر أمرهم بالإشارة إلى أن أقل شيء من عذابه كافٍ في إهلاكهم فقال
﴿واحدة﴾ ولما كان السياق للتهديد فعلم به أن الوصف بالوحدة للتعظيم، بينه بقوله:
﴿ما لها﴾ أي الصيحة
﴿من فواق *﴾ أي مزيد أيّ شيء من جنسها يكون فوقها، يقال: فاق أصحابه فوقاً وفواقاً، علاهم، وقرأه
345
حمزة بالضم فيكون كناية عن سرعة الهلاك بها من غير تأخر أصلاً، فإن الفواق كغراب ما يأخذ المحتضر عند النزاع، والمعنى أنه لا يحتاج في إهلاكهم إلى زيادة على الصيحة الموصوفة لأنه لا صيحة فوقها، ففي ذلك تعظيم أقل شيء من عذابه وتحقير أعلى شيء من أمرهم ويجوز أن تكون القرءاتان من فواق الحلب، قال الصغائي: والفواق والفواق أي بالضم والفتح: ما بين الحلبتين من الوقت لأنها تحلب ثم تترك سريعة يرضعها الفصيل لتدر قال في القاموس: أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع، فالمعنى: ما لها من رجوع كما يرجع اللبن في الضرع عن الفواق وكما يرجع المريض بالإفاقة من المرض إلى الصحة، أو ما لها من انفصال وافتراق بقدر ما يتنفس فيه أحد أقل تنفس وأقصره زمناً كما هي عادة الأصوات المألوفة يكون فيها ترجيع يوجب في الصوت تقطعاً يصير به وقعه ضعيفاً فاتراً، واعتماده على مخرجه رخواً، بل هي صماء على نمط واحد لا تفجأ أحداً إلا مات إلا من ثبته الله تعالى، ويجوز أن يكون من فواق المحتضر، أي أنه ليس فيها مقدمة للموت غير قرع الصوت، وهذا موافق لقولهم: ما لها
346
من نظرة وراحة - والله أعلم.
ولما عجب منهم بما مضى، وأبطل شبههم وعرفهم أنهم قد عرضوا أنفسهم للهلاك تعريضاً قريباً، أتبع ذلك تعجيباً أشد من الأول فقال:
﴿وقالوا﴾ أي استهزاء غير هائبين ما هددناهم به ولا ناظرين في عاقبته:
﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا
﴿عجل لنا﴾ أي إحساناً إلينا
﴿قطنا﴾ أي نصيباً من العذاب الذي توعدنا به وكتابنا الذي كتبت فيه ذلك وأحصيت فيه أعمالنا، وأصله من قط الشيء - إذا قطعه، ومنه قط القلم، وأكثر استعماله في الكتاب.
ولما كان المراد بهذا المبالغة في الاستهزاء بطلب العذاب في جميع الأزمان التي بينهم وبين القيامة، أسقطوا حرف الجر وقالوا:
﴿قبل يوم الحساب *﴾ فجعلوا جميع الزمان الذي بينهم وبينه ظرفاً لذلك، وجعلوا تعجيله من الإحسان إليهم دلالة على الإعراق في الاستهزاء، وعبر بالقط زيادة في التنبيه على ركوب الهوى من غير دليل فإن مادته دائرة في الأغلب على ما يكره، واشتقاقه من القط وهو القطع، فالقط النصيب والصك وكتاب المحاسبة لأنه قطعه من الورق،
347
والحساب قطعة من الأمور وهو يقطع فيه بما هو له والساعة - لأنها قطعة من الزمان وتقطقط الرجل: ركب رأسه أي تبع هواه الذي هو قطعة من أمره، وجاءت الخيل قطاقط أي قطعاً وجماعات في تفرقة، والقط: القطع، والقطط: القصير الجعد، والطقطقة: حكاية صوت الحجارة، فكأنهم قالوا: عجل من ذلك ما يكون مقطوعاً به لا شك فيه ويسمع صوته على غاية الشدة فيهلك ويفرق بين الأحباب ويكتب في كل صك، ويتلى خبره في سائر الأحقاب، فإن ذلك هو أنا لا نرجع عنه لشيء أصلاً، فسبحان الحليم الذي أكرمنا ورحمنا بنبي الرحمة، فلم يعجل لنا النقمة، وأقبل بقلوبنا إليه، وقصر هممنا بعد أن كانت في أشد بعد عليه. ولما بلغ السيل في ركوبهم الباطل عناداً - الزبى، وتجاوز في طغيانه رؤوس الربى، وكان سؤالهم في تعجيل العذاب استهزاء مع ما قدموا من الإكذاب، والكلام البعيد عن الصواب، ربما اقتضى أن يسأل في تعجيل ما طلبوا، وربما أوقع في ظن أن إعراضهم والابتلاء بهم ربما كان لشيء في البلاء أو المبلغ، بين تعالى أن عادته الابتلاء للصالحين رفعة لدرجاتهم، فقال تعالى مسلياً ومعزياً ومؤسياً لهذا النبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن تقدمه من إخوانه الأنبياء
348
والمرسلين، مذكراً له بما قاسوا من الشدائد وما لاقوا من المحن، وحاثاً على العمل بأعمالهم آمراً بالتأني والتؤدة والحلم، ومحذراً من العجلة والتبرم والضجر، وبدأ بأهل الشرف لأن السياق لشرف القرآن الذي يلزم منه شرف صاحبه تعريفاً بأنه لا يلزم من الشرف الراحة في الدنيا، ومنبهاً على أن شرفه محوج عن قرب بكثرة الأتباع إلى الحكم بين ذوي الخصومات والنزاع الذي لا قوام له إلا بالحلم والأناة والصبر، وبدأ من أهل الشرف بمن كان أول أمره مثل أول أمر هذا النبي الكريم في استضعاف قومه له وآخر أمره ملكاً ثابت الأركان مهيب السلطان، ليكون حاله مثلاً له فيحصل به تمام التسلية:
﴿اصبر﴾ وأشار بحرف الاستعلاء إلى عظيم الصبر فقال:
﴿على ما﴾ وزاد في الحث عليه بالمضارع فقال:
﴿يقولون﴾ أي يجددون قوله في كل حين من الأقوال المنكية الموجعة المبكية، فإنه ليس لنقص فيك، ولكنه لحكم تجل عن الوصف، مدارها زيادة شرفك ورفعة درجاتك، وصرف الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء ما يذكر من التسخير لذلك:
﴿واذكر عبدنا﴾ أي الذي أخلصناه لنا وأخلص نفسه للنظر إلى عظمتنا والقيام في خدمتنا، وأبدل منه أو بقوله:
﴿داود ذا الأيد﴾ أي القوى العظيمة في تخليص نفسه من علائق الأجسام، فكانت قوته
349
في ذلك سبباً لعروجه إلى المراتب العظام.
ولما كان أعظم الجهاد الإنقاذ من حفائر الهفوات وأوامر الشهوات، بالإصعاد في مدارج الكمالات، ومعارج الإقبال، وكان ذلك لا يكاد يوجد في الآدميين لما حفوا به من الشهوات وركز في طباعهم من الغفلات، علل قوته بقوله مؤكداً:
﴿إنه أواب *﴾ أي رجاع إلى الله تعالى ليصير إلى ما خلقه عليه من أحسن تقويم بالعقل المحض أطلق العلو درجة درجة على الرجوع، لأن ذلك دون الرتبة التي تكون نهاية عند الموت، فكان المقضي له بها أنزل نفسه عنها، ثم صار يرجع إليها كل لحظة بما يكابد من المجاهدات والمنازلات والمحاولات حتى وصل إليها بعد التجرد عن الهوى كله. ولما كان الإنسان لا يزال يتقرب إلى الله تعالى حتى يحبه فإذا أحبه صار يفعل به سبحانه، وظهرت على يديه الخوارق، قال مستأنفاً جواباً لمن سأل عن جزائه على ذلك الجهاد، مؤكداً له لما طبع عليه البشر من إنكار الخوارق لتقيده بالمألوفات:
﴿إنا﴾ أي على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء
﴿سخرنا الجبال﴾ أي التي هي أقسى من قلوب قومك فإنها أعظم الأراضي صلابة وقوة وعلواً ورفعة، بأن جعلناها منقادة ذلولاً كالجمل الأنف، ثم قيد ذلك بقوله:
﴿معه﴾ أي مصاحبة له فلم يوجد ذلك التسخير
350
ظاهراً لأحد بعده ولا قبله، ولما كان وجود التسبيح من الجبال شيئاً فشيئاً أعجب لأنها جماد، عبر بالفعل المضارع، فقال مصوراً لتلك الحال معبراً بضمير الإناث إشارة إلى أنها بعد ما لها من الصلابة صارت في غاية اللين والرخاوة، يسبح كل جبل منها بصوت غير مشبه بصوت الآخر، لأن ذلك أقرب إلى التمييز والعلم بتسبيح كل على انفراده:
﴿يسبحن﴾ ولم يقل:
«مسبحة» أو
«تسبح» لئلا يظن أن تسبيحها بصوت واحد ليشكل الأمر في بعضها، وهو يمكن أن يكون استئنافاً وأن يكون حالاً بمعنى أنهن ينقدن له بالتسبيح قالاً وحالاً انقياد المختار المطيع لله.
ولما كان في سياق الأوبة، وكان آخر النهار وقت الرجوع لكل ذي إلف إلى مألفه مع أنه وقت الفتور والاستراحة من المتاعب قال:
﴿بالعشي﴾ أي تقوية للعامل وتذكيراً للغافل. ولما كان في سياق الفيض والتشريف بالقرآن قال:
﴿والإشراق *﴾ أي في وقت ارتفاع الشمس عن انتشاب الناس في الأشغال، واشتغالهم بالمآكل والملاذ من الأقوال والأفعال، تذكيراً لهم وترجيعاً عن مألوفاتهم إلى تقديس ربهم سبحانه، وليس الإشراق طلوع الشمس، إنما هو صفاؤها
351
وضوءها، وشروقها طلوعها، وروت أم هانىء رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى في بيتها الضحى وقال لها:
«هذه صلاة الإشراق» وفي الجامع لعبد الرزاق أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلاة الضحى في القرآن، ولكن لا يغوص عليها إلا غائص، ثم قرأ هذه الآية. وإليها الإشارة أيضاً - والله أعلم - بصلاة الأوابين
﴿واذكر عبدنا داود ذا الأيد أنه أواب﴾ ﴿ووهبنا لداود سليمان نعم العبد أنه أواب﴾ ﴿يا جبال أوبي معه﴾ ﴿والطير محشورة كل له أواب﴾ روى مسلم في صحيحه وعبد بن حميد في مسنده والدارمي في جامعه المسمى بالمسند عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«صلاة الأوابين حين ترمض الفصال»، ولفظ الدارمي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج عليهم وهو يصلون بعد طلوع الشمس فقال:
«صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال»، ولفظ عبد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاهم في مسجد قباء فرآهم يصلون الضحى فقال:
«هذه صلاة الأوابين وكانوا يصلونها إذا رمضت الفصال» أي بركت من شدة الحر وإحراقه أخفافها، من الرمض - بالتحريك، وهو شدة الشمس على الرمل وغيره، والرمضاء: الشديدة الحر.
352
ولما أخبر سبحانه عن تسخير أثقل الأشياء وأثبتها له، أتبعها أخفها وأكثرها انتقالاً، وعبر فيها بالاسم الدال على الاجتماع جملة والثبات لأنه أدل على القدرة فقال معبراً باسم الجمع دون الجمع إشارة إلى أنها في شدة الاجتماع كأنها شي واحد، ذكر حالها في وصف صالح للواحد، وجعله مؤنثاً إشارة إلى ما تقدم من الرخاوة اللازمة للإناث المقتضية لغاية الطواعية والقبول لتصرف الأحكام:
﴿والطير﴾ أي سخرناها له حال كونها
﴿محشورة﴾ أي مجموعة إليه كرهاً من كل جانب دفعة واحدة - بما دل التعبير بالاسم دون الفعل وهو أدل على القدرة وهي أشد نفرة من قومك وأعسر ضبطاً وهذا كما كان الحصى يسبح في يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي يد بعض أصحابه، وكما تحرك الجبل فضربه برجله وقال:
«اسكن أحد» فسكن، وكما حشر الدبر على رأس عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح رضي الله عنه فمنع من أخذه ليتلعب به، فلما جاء الليل أرسل الله سيلاً فاحتمله إلى حيث لم يعرف له خبر ولا وقف له على أثر
﴿كل﴾ أي كل واحد من الجبال والطير
﴿له أواب *﴾ أي رجاع لأجل داود عليه السلام خاصة
353
عن مألوفه لا بمعنى آخر مما ألفته، فكلما رجع هو عن حكمه وما هو فيه من الشغل بالخلق إلى تسبيح الحق رجعت معه بذلك الجبال والطير، وجعل الخبر مفرداً إشارة إلى إلى شدة زجلها بالتأديب وعظمته، والإفراد أيضاً يفيد الحكم على كل فرد، ولو جمع لطرقه احتمال أن الحكم على المجموع يقيد الجمع، فكأن داود عليه السلام يفهم تسبيح الجبال والطير، وينقاد له كل منهما إذا أمره بالتسبيح، وكل من تحقق بحاله ساعده كل شيء - قاله القشيري، ففي هذا إشارة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنا متى شئنا جعلنا قومك معك في التسخير هكذا، فلا تيأس منهم على شدة نفرتهم وقوة سماجتهم وغرتهم، فإنا جعلناهم كذلك لتروض نفسك بهم وتزداد بالصبر عليهم جلالاً، وعلواً ورفعة وكمالاً - إلى غير ذلك من الحكم التي لا تسعها العقول، ولا تيأس من لينهم لك ورجوعهم إليك فإنهم لا يعدون أن يكونوا كالجبال قوة وصلابة، أو الطير نفرة وطيشاً وخفة، فمتى شئنا جعلناهم لك مثل ما جعلنا الجبال والطير مع داود عليه السلام، بل أمرهم أيسر وشأنهم أهون.
ولما كان هذا دالاً على الملك من حيث أنه التصرف في الأشياء العظيمة قسراً، فكان كأنه قيل: كل ذلك إثباتاً لنبوته وتعظيماً لملكه،
354
قال:
﴿وشددنا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿ملكه﴾ بغير ذلك مما يحتاج إليه الملك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان أشد ملوك الأرض سلطاناً.
ولما كان أعظم المثبتات للملك المعرفة قال:
﴿وآتيناه﴾ أي بعظمتنا
﴿الحكمة﴾ أي النبوة التي ينشأ عنها العلم بالأشياء على ما هي عليه، ووضع الأشياء في أحكم مواضعها، فالحكمة العمل بالعلم. ولما كان تمامه بقطع النزاع قال:
﴿وفصل الخطاب *﴾ أي ومعرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير روية في ذلك، بل يفرق بديهة بين المتشابهات بحيث لا يدع لبساً يمكن أن يكون معه نزاع لغير معاند وكسوناه عزاً وهيبة ووقاراً يمنع أن يجترىء أحد على العناد في شيء من أمره بعد ذلك البيان الذي فصل بين المتشابهات، وميز بين المشكلات الغامضات، وإذا تكلم وقف على المفاصل، فيبين من سرده للحديث معانيه، ويضع الشيء في أحكم مبانيه.
ولما كان السياق للتدريب على الصبر والتثبيت الشافي والتدبر التام والابتلاء لأهل القرب، وكان المظنون بمن أوتي فصل الخطاب
355
أن لا يقع له لبس في حكم ولا عجلة في أمر، وكان التقدير: هل أتتك هذه الأنباء، عطف عليه - مبيناً عواقب العجلة معلماً أن على من أعطى المعارف أن لا يزال ناظراً إلى من أعطاه ذلك سائلاً له التفهيم، استعجازاً لنفسه متصوراً لمقام العبودية التي كرر التنبيه عليها في هذه السورة بنحو قوله:
«نعم العبد» قوله في سياق ظاهره الاستفهام وباطنه التنبيه على ما في ذلك من الغرابة خبره العظيم جداً، وأفرده وإن كان المراد الجمع دلالة على أنهم على كلمة واحدة في إظهار الخصومة لا يظهر لأحد منهم أنه متوسط مثلاً ونحو ذلك.
ولما كان الخصم مصدراً يقع على الواحد فما فوقه ذكراً كان أو أنثى، وكان يصح تسمية ربقة المتخاصمين خصماً لأنهم في صورة الخصم قال:
﴿إذا﴾ أي خبر تخاصمهم حين
﴿تسوروا﴾ أي صعدوا السور ونزلوا من هم ومن معهم، آخذاً من السور وهو الوثوب
﴿المحراب *﴾ أي أشرف ما في موضع العبادة الذي كان داود عليه السلام به، وهو كناية عن أنهم جاؤوه في يوم العبادة ومن غير الباب، فخالفوا عادة الناس في الأمرين، وكأن المحراب الذي تسوروه كان فيه باب من داخل باب آخر، فنبه على ذلك بأن أبدل
356
من
«إذ» الأول قوله:
﴿إذ﴾ أي حين
﴿دخلوا﴾ وصرح باسمه رفعاً للبس وإشعاراً بما له من قرب المنزلة وعظيم الود فقال:
﴿على داود﴾ ابتلاء منا له مع ما له من ضخامة الملك وعظم القرب منا، وبين أن ذلك كان على وجه يهول أمره إما لكونه في موضع لا يقدر عليه أحد أو غير ذلك بقوله:
﴿ففزع﴾ أي ذعر وفرق وخاف
﴿منهم﴾ أي مع ما هو فيه من ضخامة الملك وشجاعة القلب وعلم الحكمة وعز السلطان.
ولما كان كأنه قيل: فما قالوا له؟ قال:
﴿قالوا لا تخف﴾ ولما كان ذلك موجباً لذهاب الفكر في شأنهم كل مذهب، عينوا أمرهم بقولهم:
﴿خصمان﴾ أي نحن فريقان في خصومة، ثم بينوا ذلك بقولهم:
﴿بغى بعضنا﴾ أي طلب طلبة علو واستطالة
﴿على بعض﴾ فأبهم أولاً ليفصل ثانياً فيكون أوقع في النفس، ولما تسبب عن هذا سؤاله في الحكم قالوا:
﴿فاحكم بيننا بالحق﴾ أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، وإنما سألاه ذلك مع العلم بأنه لا يحكم إلا بالعدل ليكون أجدر بالمعاتبة عند أدنى هفوة
﴿ولا تشطط﴾ أي لا توقع البعد ومجاوزة الحد لا في العبارة عن ذلك بحيث يلتبس علينا المراد ولا في غير ذلك،
357
أو ولا تمعن في تتبع مداق الأمور فإني أرضى بالحق على أدنى الوجوه، ولذا أتى به من الرباعي والثلاثي بمعناه، قال أبو عبيد: شط في الحكم وأشط - إذا جار، ولذا أيضاً فك الإدغام إشارة إلى أن النهي إنما هو عن الشطط الواضح جداً. ولما كان الحق له أعلى وأدنى وأوسط، طلبوا التعريف بالأوسط فقالوا
﴿واهدنا﴾ أي أرشدنا
﴿إلى سواء﴾ أي وسط
﴿الصراط *﴾ أي الطريق الواضح، فلا يكون بسبب التوسط ميل إلى أحد الجانبين: الإفراط في تتبع مداق الأمر والتفريط في إهمال ذلك.
358
ولما كانت هذه الدعوى بأمر مستغرب يكاد أن لا يسمعه أحد إلا أنكره ساق الكلام مؤكداً فقال:
﴿إن هذا﴾ يشير إلى شخص من الداخلين، ثم أبدل منه قوله:
﴿أخي﴾ أي في الدين والصحبة، ثم أخبر عنه بقوله:
﴿له تسع وتسعون نعجة﴾ ويجوز أن يكون
﴿أخي﴾ هو الخبر والتأكيد حينئذ لأجل استبعاد مخاصمة الأخ وعدوانه على أخيه ويكون ما بعده استئنافاً
﴿ولي﴾ أي أنا أيها المدعي
﴿نعجة﴾ ولما كان ذلك محتملاً لأن يكون جنساً أكده بقوله:
﴿واحدة﴾ ثم سبب عنه قوله:
﴿فقال﴾ أي الذي له الأكثر:
﴿أكفلنيها﴾ أي أعطنيها لأكون كافلاً لها
﴿وعزني﴾ أي غلبني وقوى عليّ واشتد وأغلظ بي
﴿في الخطاب *﴾ أي الكلام الذي له شأن من جدال
358
وغيره بأن حاورني إلى أن أملّني فسكت عجزاً عن التمادي معه، ولم يقنع مني بشيء دون مراده.
ولما تمت الدعوى، حصل التشوف إلى الجواب فاستؤنف قوله:
﴿قال﴾ أي على تقدير صحة ما قلت، وذلك أنه لما رأى الخصم قد سكت ولم ينكر مما قال المدعي شيئاً، وربما أظهر هيئة تدل على تصديقه قال ذلك فعوتب وإن كان له مخرج، كل ذلك تدريباً على التثبت في القضاء وأن لا ينحي نحو القرآئن، وأن لا يقنع فيه إلا بمثل الشمس، وأكد قوله في سياق القسم ردعاً للظالم على تقدير صحة الدعوى بالمبالغة في إنكار فعله لأن حال من فعل شيئاً مؤذن بإنكار كونه ظالماً وكون فعله ظلماً. مفتتحاً لقوله بحرف التوقع لاقتضاء حال الدعوى له:
﴿لقد ظلمك﴾ أي والله قد أوقع ما فعله معك في غير موقعه على تقدير صحة دعواك
﴿بسؤال نعجتك﴾ أي بأن سألك أن يضمها، وأفاد أن ذلك على وجه الاختصاص بقوله:
﴿إلى نعاجه﴾ بنفسه أو بغيره نيابة عنه ولذا لم يقل: بسؤاله ثم عطف على ذلك أمراً كلياً جامعاً لهم ولغيرهم واعظاً ومرغباً ومرهباً ولما كانت الخلطة موجبة لظن الألفة لوجود العدل والنصفة واستبعاد وجود البغي معها، أكد قوله واعظاً للباغي إن كان وملوحاً بالإغضاء والصلح
359
للمظلوم:
﴿وإن كثيراً من الخلطاء﴾ أي مطلقاً منكم ومن غيركم
﴿ليبغي﴾ أي يتعدى ويستطيل
﴿بعضهم﴾ عالياً
﴿على بعض﴾ فيريدون غير الحق
﴿إلا الذين آمنوا﴾ من الخلطاء
﴿وعملوا﴾ أي تصديقاً لما ادعوه من الإيمان
﴿الصالحات﴾ أي كلها فإنهم لا يقع منهم بغي
﴿وقليل﴾ وأكد قلتهم وعجب منها بما أبهم في قوله:
﴿ما﴾ مثل نعماً ولأمرها
﴿هم﴾ وأخر هذا المبتدأ وقدم الخبر اهتماماً به لأن المراد التعريف بشدة الأسف على أن العدل في غاية القلة، أي فتأس بهم أيها المدعي وكن منهم أيها المدعى عليه.
ولما أتم ذلك ذهب الداخلون عليه فلم ير منهم أحداً فوقع في نفسه أنه لا خصومة، وأنهم إنما أرادوا أن يجربوه في الحكم ويدربوه عليه، وأنه يجوز للشخص أن يقول ما لم يقع إذا انبنى عليه فائدة عظيمة تعين ذلك الكلام طريقاً للوصول إليها أو كان أحسن الطرق مع خلو الأمر عن فساد، وحاصله أنه تذكر كلام، والمراد به بعض لوازمه، فهو مثل دلالة التضمن في المفردات، وهذا مثل قول سليمان عليه السلام
«ائتوني بالسكين أشقه بينهما» وليس مراده إلا ما يلزم عن ذلك من
360
معرفة الصادقة والكاذبة بإباء الأم لذلك وتسليم المدعية كذباً، وتحقيقه أنه لا ملازمة بين الكلام وإرادة المعنى المطابقي لمفردات ألفاظه بدليل لغو اليمين، وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصفية رضي الله عنها
«عقرى حلقى» ولأم سلمة رضي الله عنها
«تربت يمينك» وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ثلاث جدهن جد وهزلهن جد» مشير إلى أن الكلام قد لا يراد به معناه، ومن هنا كان الحكم في ألفاظ الكنايات أنه لا يقع بها شيء إلا إن اقترن بقصد المعنى، ولما كان هذا القدر معلوماً عطف عليه قوله:
﴿وظن داود﴾ أي بذهابهم قبل فصل الأمر وقد دهمه من ذلك أمر عظيم من عظمة الله لا عهد له بمثله
﴿أنما فتناه﴾ أي اختبرناه بهذه الحكومة في الأحكام التي يلزم الملوك مثلها ليتبين أمرهم فيها. وعلم أنه بادر إلى نسبة المدعى عليه إلى أنه ظلم من قبل أن يسمع كلامه ويسأله المدعي الحكم، فعاتبه الله على ذلك، والأنبياء عليهم السلام لعلو مقاماتهم يعاتبون على مثل هذا، وهو من قصر الموصوف على الصفة قلباً، أي هذه القصة مقصورة على الفتنة لا تعلق لها بالخصوصة، ولو كان المراد ما قيل من قصة المرأة التي على كل مسلم تنزيهه وسائر إخوانه عليهم السلام عن مثلها لقيل
«وعلم داود» ولم يقل: وظن -
361
كما يشهد بذلك كل من له أدنى ذوق في المحاورات - والله الموفق، وقال الزمخشري: وعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين، وهو حد الفرية على الأنبياء عليهم السلام، وروي أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز، وعنده رجل من أهل الحق، فكذب المحدث به وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله عز وجل فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها ستراً على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما ينبغي إظهارها عليه، فقال عمر بن عبد العزيز: لسماعي هذا الكلام أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس.
وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود، وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام لأن عيسى عليه السلام من ذريته ليجدوا السبيل إلى الطعن فيه.
ولما ظن هذا، سبب له تحقيق ما وصفه الله من الأوبة فعبر عن ذلك بقوله:
﴿فاستغفر﴾ ولما استغرقته العظمة التي هذا مخرها، رجع إلى ذكر الإحسان واللطف فقال:
﴿ربه﴾ أي طلب الغفران
362
من مولاه الذي أحسن إليه بإحلاله ذلك المحل العظيم من أن يعود للحكم للأول بدون أن يسمع الآخر
﴿وخر﴾ أي سقط من قيامه توبة لربه عن ذلك، ولما كان الخرور قد يكون لغير العبادة قال:
﴿راكعاً﴾ أي ساجداً لأن الخرور لا يكون إلا للسقوط على الأرض، ولأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسره بالسجود فيما روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد في
«ص» وقال:
«سجدها داود توبة ونسجدها شكراً» وعبر بالركوع عن السجود ليفهم أنه كان عن قيام وأنه في غاية السرعة لقوة الاهتمام به وتوفر الداعي إليه بحيث إنه وصل إلى السجود في مقدار ما يصل غيره إلى الركوع، قال ابن التياني في كتابه الموعب: وكل شيء يكب لوجهه فتمس ركبته الأرض بعد أن يطأطىء رأسه فهو راكع. ابن دريد: الراكع الذي يكبو على وجهه - انتهى. والركعة - بالضم: الهوة من الأرض، كأنها سميت بذلك لأنها تسقط فيها على الوجه، وكأنها هي أصل المادة، وقال في القاموس: ركع أي صلى، فحينئذ
363
يكون المعنى: سقط مصلياً، ومعلوم أن صلاتهم لا ركوع فيها وقد تقدم ذلك في آل عمران والبقرة
﴿وأناب *﴾ أي تاب أي رجع عن أن يعود لمثلها. ولما كان الحال قد يشكل في الإخبار عن المغفرة لو عبر بضمير الغائب لإيهام أن ربه غير المتكلم، وكان الغفران لا يحسن إلا مع القدرة، عاد إلى مظهر العظمة إثباتاً للكمال ونفياً للنقص: فقال:
﴿فغفرنا﴾ أي بسبب ذلك وفي أثره على عظمتنا وتمام قدرتنا غفراً يناسب مقداره ما لنا من العظمة
﴿له ذلك﴾ أي الوقوع في الحديث عن إسناد الظلم إلى أحد بدون سماع لكلامه، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشترط على ربه سبحانه لأجل هذه القصة أن كل من سبه أو دعا عليه وليس أهلاً لذلك أن يكون ذلك له صلاة وبركة ورحمة، والحاصل أن هذه القضية لتدريب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصبر على قومه، والثاني فإن هذه السورة على ما روي عن جابر بن زيد من أوائل ما أنزل بمكة، وعلى هذا دل الحديث السابق عن ابن عباس رضي الله عنهما في شكوى المشركين منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عمه أبي طالب الوقوع في آلهتهم فإنه كان في أوائل الأمر، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول ما دعاهم لم يؤمر بذكر آلهتهم فلم يجيبوه ولم يبعدوا عن كل البعد، ثم أمره الله بذكر ألهتهم فناكروه حينئذ
364
وباعدوه، وتقدموا ذلك بالشكوى إلى أبي طالب مرة بعد أخرى ليرده عنه، فكانت هذه الدعوى تدريباً لداود عليه السلام في الأحكام، وذكرها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدريباً له على الأناة في جميع أموره على الداوم.
ولما كان ذكر هذا ربما أوهم شيئاً في مقامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سيق في أسلوب التأكيد قوله:
﴿وإن له﴾ أي مع الغفران، وعظم ذلك بمظهر العظمة لأن ما ينسب إلى العظيم لا يكون إلا عظيماً فقال:
﴿عندنا﴾ وزاد في إظهار الاهتمام بذلك نفياً لذلك الذي ربما توهم فأكد قوله:
﴿لزلفى﴾ أي قربة عظيمة ثابتة بعد المغفرة
﴿وحسن مآب *﴾ أي مرجع في كل ما يؤمل من الخير، وفوق ذلك فهذا معلم ولا بد بأن هذه القضية لم يجر إلى ذكرها إلا الترقية في رتب الكمال لا غير ذلك، وأدل دليل على ما ذكرته - أن هذه الفتنة إنما هي بالتدريب في الحكم لا بامرأة ولا غيرها وأن ما ذكروه من قصة المرأة باطل وإن اشتهر فكم من باطل مشهور ومذكور هو عين الزور - قوله تعالى عقبها على هيئة الاستثمار منها صارفاً القول عن مظهر
365
العظمة إلى المواجهة بلذيذ الخطاب، على نحو ما يجري بين الأحباب
﴿يا داود﴾.
ولما كان مضمون الخبر لزيادة عظمة مما من شأنه أن تستنكره نفوس البشر، أكده لذلك وإظهاراً لأنه مما يرغب فيه لحسنه وجميل أثره وينشط غاية النشاط لذكره فقال:
﴿إنا﴾ أي على ما لنا من العظمة
﴿جعلناك﴾ فلا تحسب لشيء من أسبابه حساباً ولا تخش له عاقبة
﴿خليفة﴾ أي من قبلنا تنفذ أوامرنا في عبادنا فحكمك حكمنا، وحذف ما يعلم أنه مراد من نحو
﴿قلنا﴾ إشارة إلى أنه استقبل بهذا الكلام الألذ عند فراغه من السجود إعلاماً بصدق ظنه، وقال:
﴿في الأرض﴾ أي كلها إشارة إلى إطلاق أمره في جميعها، فلا جناح عليه فيما فعل في أي بلد أرادها، ولم يذكر المخلوف تعظيماً له بالإشارة إلى أن كل ما جوزه العقل فيه فهو كذلك فهو كان خليفة في بيت المقدس بالفعل على ما اقتضاه صريح الكلام بالتعبير بفي، وأشار الإطلاق والتعبير بآل إلى أنها الأرض الكاملة لانبساط الحق منها بإبراهيم عليه السلام وذريته على سائر الأرض وهو خليفة في جميع الأرض بالقوة بمعنى أنه مهما حكم فيها صح، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرسل إلى قومه خاصة فيكون
366
ما يؤديه إليه واجباً عليه، وأما بقية الناس فأمره معهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهما فعله منه صح ومضى، ثم كان خليفة في جميع الأرض حقيقة بالفعل بابنه سليمان عليه السلام فاستوفى الإطلاق
﴿وآل﴾ المكملة أقصى ما يراد منه، إعلاماً بأن كلام القدير كله كذلك وإن لم يظهر في الحالة الراهنة، وذلك كما أن المنزل عليه هذا الذكر وبسببه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان خليفة بالفعل في أرض العرب التي هي الأرض كلها لأن الأرض دحيت منها وبيتها لأول بيت وضع للناس وهو قيام لهم، ومن انبسط القيام بالنور والعدل على جميع الأرض وفي جميع الأرض بالقوة بمعنى أنه مهما حكم به فيها مضى، فقد أعطى تميماً الداري رضي الله عنه أرض بلد الخليل من بلاد الشام قبل أن يفتح وصح ونفذ، وأعطى شويلاً رضي الله عنه بنت بقيلة من أهل الحيرة وصح ذلك ونفذ وقبض كل منهما عند الفتح ما أعطاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو من ذرية داود عليه السلام ثم في جميع الوجود يوم القيامة يوم الشفاعة العظمى يوم يكون الأنبياء كلهم تحت لوائه، ويغبطه الأولون والاخرون بذلك المقام المحمود.
367
ولما تمت النعمة، سبب عنها قوله:
﴿فاحكم بين الناس﴾ أي الذين يتحاكمون إليك من أي قوم كانوا
﴿بالحق﴾ أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع. ولما كان أعدى عدو للإنسان نفسه التي بين جنبيه لما لها من الشهوات، وأعظم جناياته وأقبح خطاياه ما تأثر عنها من غير استناد إلى أمر الله، مشيراً بصيغة الافتعال إلى أنه سبحانه عفا الخطرات، وما بادر الإنسان الرجوع عنه والخلاص منه توبة إلى الله تعالى:
﴿ولا تتبع الهوى﴾ أي ما يهوى بصاحبه فيسقطه من أوج الرضوان إلى حضيض الشيطان، ثم سبب عنه قوله:
﴿فيضلك﴾ أي ذلك الاتباع أو الهوى لأن النفس إذا ضربت على ذلك صار لها خلقاً فغلب صاحبها عن ردها عنه، ولفت القول عن مظهر العظمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى تعظيماً لأمر سبيله، وحثاً على لزومه والتشرف بحلوله، فقال:
﴿عن سبيل الله﴾ أي طريقه التي شرعها للوصول إليه بما أنزل من النقل المؤيد بأدلة ما خلق من العقل، ولا يوصل إليه بدونها لأن اتباعه يوجب الانهماك في اللذات الجسمانية، والإهمال لتكميل القوى الروحانية، الموصلة إلى السعادة الأبدية، فإن دواعي البدن والروح متضادتان فبقدر زيادة إحداهما تنقص الأخرى.
368
ولما كانت النفس نزاعة إلى الهوى، ميالة عن السوى، قال معللاً للنهي مؤكداً لما للنفس من التعللات عند المخالفة بالكرم والمغفرة الدافع للعذاب:
﴿إن الذين يضلون﴾ أي يوجدون الضلال بإهمالهم التقوى الموجب لاتباع الهوى المقتضي لأن يكون متبعه ضالاً
﴿عن سبيل الله﴾ إعادة تفخيماً لأمره وتيمناً بذكره وإيذاناً بأن سبيله مأمور به مطلقاً من غير تقييد بداود عليه السلام ولا غيره فيه
﴿لهم عذاب شديد﴾ أي بسبب ضلالهم.
ولما أمر سبحانه ونهى، وذكر أن السبب في النهي كراهة الضلال وعلم منه أن سبب الضلال الهوى، ذكر سبب هذا السبب فقال معبراً بالنسيان إشارة إلى أنه من شدة ظهوره كما كان محفوظاً فنسي، وفك المصدر لأنه أصرح لأنه لو عبر بالمصدر لأمكن إضافته إلى المفعول، واختيرت
﴿ما﴾ دون
﴿إن﴾ لأن صورتها صورة الموصول الاسمي، وهو أبلغ مما هو حرف صورة ومعنى:
﴿بما نسبوا يوم الحساب﴾ أي عاملوه معاملة المنسي بعضهم بالإنكار وبعضهم بخبث الأعمال، فإنهم لو ذكروه حقيقة لما تابعوا الهوى المقتضي للضلال على أنه مما لا يجهله من له أدنى مسكة من عقل فإنه لا يخطر في عقل عاقل أصلاً أن أقل الناس وأجهلهم يرسل أحداً إلى مزرعة له يعملها، ثم لا يحاسبه عليها
369
فكيف إذا كان حكيماً فكيف إذا كان ملكاً فكيف وهو ملك الملوك، وقال الغزالي في آخر كتاب العلم من الإحياء في الكلام على العقل: ثم لما كان الإيمان مركوزاً في النفوس بالفطرة انقسم الناس إلى من أعرض فنسي، وهم الكفار، وإلى من جال فكره فتذكر، وكان كمن حمل شهادة فنسيها بغفلة ثم تذكرها، ولذلك قال تعالى
﴿لعلهم يتذكرون﴾ ﴿وليتذكر أولوا الألباب﴾ ﴿واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به﴾ [المائدة: ٧]
﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ [القمر: ١٧] وتسمية هذا النمط تذكراً ليس ببعيد، وكأن التذكر ضربان: أحدهما أن يذكر صورة كانت حاضرة الوجود في قلبه، لكن غابت بعد الوجود، والآخر أن يكون عن صورة كانت متضمنة فيه الفطرة، وهذه حقائق ظاهرة لناظر بنور البصيرة ثقيلة على من يستروح إلى السماع والتقليد دون الكشف والعيان - انتهى. وقد علم من هذه القصة وما قبلها أن المعنى: اصبر على ما يقولون الآن، فلننصرك فيما يأتي من الزمان، ولنؤيدنك كما أيدنا داود العظيم الشأن.
370
ولما كان التقدير: فما قضيناه في الأزل بيوم الحساب وتوعدنا به سدى، عطف عليه قوله صارفاً الكلام عن الغيبة إلى مظهر العظمة إشارة إلى أن العظيم تأبى له عظمته غير الجد العظيم:
370
﴿وما خلقنا﴾ أي على ما لنا من العظمة، ويجوز أن تكون الجملة حالية. ولما كان السياق لما وقع من الشقاق عناداً لا جهلاً، ذكر من السماوات ما لا يمكن النزاع فيه مع أن اللفظ للجنس فيشمل الكل فقال:
﴿السماء﴾ أي التي ترونها
﴿والأرض وما بينهما﴾ مما تحسونه من الرياح وغيرها خلقا
﴿باطلاً﴾ أي لغير غاية أردناها بذلك من حساب من فيهما كما يحاسب أقل من فيكم إجزاء، ومجازاة من فيهما بالثواب لمن أطاع والعقاب لمن عصى كما يفعل أقل ملوككم فإن أدنى الناس عقلاً لا يبني بناء ضخماً إلا لغاية أرادها، وتلك الغاية هي الفصل بين الناس الذين أعطيناهم القوى والقدر في هذه الدار، وبثثنا بينهم الأسباب الموجبة لانتشار الصفاء فيهم والأكدار، وأعطيناهم العقول تنبيهاً على ما يراد، وأرسلنا فيهم الرسل، وأنزلنا إليهم الكتب، بالتعريف بما يرضينا ويسخطنا، فنابذوا كل ذلك فلو تركناهم بلا جمع لهم ولا إنصاف بينها لكان هذا الخلق كله باطلاً لا حكمة فيه أصلاً، لأن خلقه للضر أو النفع أو لا لواحد منهما، والأول باطل لأنه غير لائق بالرحيم الكريم، والثالث باطل لأنه كان في حال العدم كذلك، فلم يبق للإيجاد مرجح، فتعين الوسط وهو النفع، وهو لا يكون بالدنيا لأن ضرها أكثر من نفعها، وتحمل ضر كثير لنفع
371
غير لائق بالحكيم الكريم، فتعين ما وقع الوعد الصادق به من نفع الآخرة المطابق لما ذكر من عقل العقلاء وسير النبلاء.
ولما كان هذا - وهو منابذة الحكمة - عظيماً جداً، عظمه بقوله:
﴿ذلك﴾ أي الأمر البعيد عن الصواب
﴿ظن الذين كفروا﴾ أي من أوقع هذا الظن في وقت ما، فقد أوجد الكفر لأنه جحد الحكمة التي هي البعث لإظهار صفات الكمال والمجازاة بالثواب والعقاب، ومن جحد الحكمة فقد سفه الخالق، فكان إقراره بأنه خالق كلا إقرار فكان كافراً به، ثم سبب عن هذا الظن قوله:
﴿فويل﴾ أي هلاك عظيم بسبب هذا الظن، وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال:
﴿للذين كفروا﴾ أي مطلقاً بهذا الظن وبغيره
﴿من﴾ أي مبتدأ من
﴿النار *﴾ أي الحكم عليهم بها.
ولما كان التقدير: أفنحن نخلق ذلك باطلاً؟ فلا يكون له مآل يظهر فيه حكمته ونحن منزهون عن العبث، عطف عليه قوله إنكاراً لما يلزم من ترك البعث من التسوية بين ما حقه المفاوتة فيه، وذلك أشد من العبث وإن كان له أن يفعل ذلك لأنه لا يقبح منه شيء:
﴿أم نجعل﴾ أي على عظمتنا
﴿الذين آمنوا﴾ أي امتثالاً
372
لأوامرنا
﴿وعملوا﴾ أي تصديقاً لدعواهم الإيمان
﴿الصالحات﴾ من الأعمال كالذين أفسدوا وعملوا السيئات أم نجعل المصلحين في الأرض
﴿كالمفسدين﴾ أي المطبوعين على الفساد الراسخين فيه
﴿في الأرض﴾ أي بالكفر وغيره، والتسوية بينهم لا يشك عاقل في أنها سفه
﴿أم نجعل﴾ على ما لنا من العز والمنعة الذين اتقوا كالذين فجروا أم نصيّر
﴿المتقين﴾ أي الراسخين من المؤمنين في التقوى الموجبة للتوقف عن كل ما لم يدل عليه دليل
﴿كالفجار *﴾ أي الخارجين من غير توقف عن دائرة التقوى من هؤلاء الذين كفروا أو من غيرهم في أن كلاًّ من المذكورين يعيش على ما أدى إليه الحال في الدنيا، وفي الأغلب يكون عيش الطالح أرفع من عيش الصالح، ثم يموت ولا يكون شيء بعد ذلك، ولا شك أن المساواة بين المصلح والمفسد والمتقي والمارق لا يراها حكيم ولا غيره من سائر أنواع العقلاء فهو لا يفعلها سبحانه وإن كان له أن يفعل ذلك، فإنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء، وقد علم أن الآية من الاحتباك، وأنه مشير إلى احتباك آخر، فإنه ذكر
﴿الذين أمنوا﴾ أولاً دليلاً على
﴿الذين أفسدوا﴾ ثانياً، وذكر
﴿المفسدين﴾ ثانياً دليلاً
﴿على المؤمنين﴾ أولاً، وأفهم ذلك ذكر
﴿الذين اتقوا﴾ وأضدادهم وسر ما ذكر وما حذف أنه ذكر أدنى أسنان الإيمان تنبيهاً على شرفه وأنه سبب السعادة وإن كان على
373
أدنى الوجوه وذكر أعلى أحوال الفساد، إشارة إلى أنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء وذكر أعلى أحوال التقوى إيماء إلى أنه لا يوصف بها ويستحق جزاءها إلا الراسخ فيها ترغيباً للمؤمن في أن يترقى إلى أوجها.
ولما ثبت بما ذكر من أول السورة إلى هنا ما ذكر في هذا الذكر من البراهين التي لا يأباها إلا مدخول الفكر مخالط العقل، ثبت أنه ذو الذكر والشرف الأعظم فقال تعالى منبهاً على ذلك تنبيهاً على أنه القانون الذي يعرف به الصلاح ليتبع والفساد ليجتنب مخبراً على مبتدأ تقديره هو:
﴿كتاب﴾ أي له من العظمة ما لا يحاط به، ووصفه بقوله:
﴿أنزلناه﴾ أي بما من العظمة
﴿إليك﴾ وذلك من عظمته لأنك اعظم الخلق، ثم أخبر عن مبتدأ آخر مبين لما قبله على طريق الاستئناف فقال:
﴿مبارك﴾ أي دائم الخير كثير النفع ثابت كل ما فيه ثباتاً لا يزول أبداً ولا ينسخه كتاب ولا شيء.
ولما ذكر ما له من العظمة إشارة وعبارة، ذكر غاية إنزاله المأمور بها فقال:
﴿ليدبروا﴾ بالفوقانية وتخفيف الدال بالخطاب
374
في قراءة أبي جعفر مشرفاً للأمة بضمهم بالخطاب إلى حضرته الشماء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولافتاً للقول في قراءة الجماعة بالغيب وتشديد الدال إلى من يحتاج إلى التنبيه على العلل، لما له من الشواغل الموقعة في الخلل، وأما هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففي غاية الإتعام للنظر، والتدبر بأجلى الفكر، من حين الإنزال، لعلمه بعلة الإنزال بحيث إنه من شدة إتعابه لنفسه الشريفة بالتخفيف وضمن له تعالى جمعه وقرآنه
﴿آياته﴾ أي لينظروا في عواقب كل آية وما تؤدي إليه وتوصل إليه من المعاني الباطنة التي أشعر بها طول التأمل في الظاهر، فمن رضي بالاقتصار على حفظ حروفه كان كمن له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نتوج لا يستولدها، وكان جديراً بأن يضيع حدوده فيخسر خسراناً مبيناً.
ولما كان كل أحد مأموراً بأن ينتبه بكل ما يرى ويسمع على ما وراءه ولم يكن في وسع كل أحد الوصول إلى النهاية في ذلك، قنع منهم بما دونها فأدغمت تاء التفعل في فاء الكلمة إشارة إلى ذلك كما تشير إليه قراءة أبي جعفر، وربما كانت قراءة الجماعة إشارة إلى الاجتهاد في فهم
375
خفاياه - والله أعلم.
ولما كان السياق للذكر، وأسند إلى خلاصة الخلق، وكان استحضار ما كان عند الإنسان وغفل عنه لا يشق لظهوره، أظهر التاء حثاً على بذل الجهد في إعمال الفكر والمداومة على ذلك فإنه يفضي بعد المقدمات الظنية إلى أمور يقينية قطعية إما محسوسة أولها شاهد في الحس فقال:
﴿وليتذكر﴾ أي بعد التدبر تذكراً عظيماً جلياً - بما أشار إليه الإظهار
﴿أولوا الألباب *﴾ أي كل ما أرشد إليه مما عرفه الله لهم في أنفسهم وفي الآفاق فإنهم يجدون ذلك معلوماً لهم بحس أو غيره في أنفسهم أو غيرها، لا يخرج شيء مما في القرآن عن النظر إلى شيء معلوم للإنسان لا نزاع له فيه أصلاً، ولكن الله تعالى يبديه لمن يشاء ويخفيه عمن يشاء
﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم﴾ [فصلت: ٥٣] وأظهره يوم القيامة فإنه مركوز في طبع كل أحد أن الرئيس لا يدع من تحت يده بغير حساب أصلاً.
ولما كان الإنسان وإن أطال التدبر وأقبل بكليته على التذكر لا بد له من نسيان وغفلة وذهول، ولما كان الممدوح إنما هو الرجاع
«لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» وكان الله تعالى هو الملك الذي لا شريك له والمالك الذي له الملك كله فهو يرفع
376
من يشاء ممن لا يخطر في وهم أن يرتفع، ويخفض من يشاء ممن علا في الملك حتى لا يقع في خاطر أنه يحصل له خلل ولا سيما إن كان على أعلى خلال الطاعة ليبين لكل ذي لب أن الفاعل لذلك هو الفاعل المختار، فلا يزال خيره مرجواً، وانتقامه مرهوباً مخشياً، قال تعالى:
﴿ووهبنا﴾ أي بما لنا من الحكمة والعظمة
﴿لدواد سليمان﴾ فجاء عديم النظير في ذلك الزمان ديناً ودنياً وعلماً وحكمة وحلماً وعظمة ورحمة، ولذلك نبه على أمثال هذه المعاني باستئناف الإخبار عما حرك النفس إلى السؤال عنها من إسناد الهبة إلى نون العظمة فقال:
﴿نعم العبد﴾ ولما كان السياق لسرعة الانتباه من الغفلات، والتفضي من الهفوات، والتوبة من الزلات، وبيان أن الابتلاء ليس منحصراً في العقوبات، بل قد يكون لرفعة الدرجات، وكان هذا بعيداً من العادات، علل مدحه مؤكداً له بقوله:
﴿إنه أواب *﴾ أي رجاع إلى الازدياد من الاجتهاد في المبالغة في الشكر والصبر على الضر كلما علا من مقام بالاستغفار منه وعده مع ما له من الكمال مما يرغب عنه.
377
ولما كانت الخيل من أعظم ما زين للناس من حب الشهوات،
377
وكان السياق للعزة والشقاق الدالين على عظيم الاحتياج إلى ما يكف ذلك مما أعظمه الخيل، ذكر فيها آمراً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دل على أنه مع ما له من عظمة الملك كثير الأوبة عظيمها لأن من لم يكن ذلك له طبعاً لم يقدر على ما فعل فقال:
﴿إذ﴾ أي اذكر لتقف على شاهد ما أخبرناك به حين
﴿عرض عليه بالعشيّ﴾ أي فيما بعد زوال الشمس
﴿الصافنات﴾ أي الخيول العربية الخالصة التي لا تكاد تتمالك بجميع قوائمها الاعتماد على الأرض اختيالاً بأنفسها وقرباً من الطيران بلطافتها وهمتها وإظهاراً لقوتها ورشاقتها وخفتها، قال في القاموس: صفن الفرس يصفن صفوناً: قام على ثلاث قوائم وطرف حافز الرابعة، وقال القزاز: قام على ثلاث قوائم وقائمة يرفعها عن الأرض أو ينال سنبكها الأرض ليستريح بذلك، وأكثر ما تصفن الخيل العتاق، قال: وقالوا: كل ذي حافز يفعله ولكنه من الجياد أكثر، لا يكاد يكون إلا في العراب الخلص، وقيل: الصافن الذي يجمع يديه ويثني طرف سنبك إحدى رجليه، وقيل: الصافن الذي يرفع سنبك إحدى يديه فإذا رفع طرف سنبك إحدى رجليه فهو مخيم، وقد أخام - إذا فعل ذلك.
ولما تحرر أنه يجوز أن يجمل الصافن على غير العتيق وإن كان قليلاً، حقق أن المراد الوصف بالجودة واقفة وجارية فقال:
﴿الجياد *﴾ أي التي تجود في جريها بأعظم ما تقدر عليه، جمع جواد،
378
فلم تزل تعرض عليه حتى فاتته صلاة آخر النهار، وكان المفروض على من تقدمنا ركعتين أول النهار وركعتين آخره، فانتبه في الحال.
ولما كان بيان ضخامة ملكه وكثرة هيبته وعزته مع زيادة أوبته لتحصل التأسية به في حسن ائتماره وانتهائه والتسلية بابتلائه مع ذلك من شرفه وبهائه، أشار إلى كثرة الخيل جداً وزيادة محبته له وسرعة أوبته بقوله:
﴿فقال﴾ ولما كان اللائق بحاله والمعروف من فعاله أنه لا يؤثر على ذكر الله شيئاً فلا يكاد أحد ممن شاهد ذلك يظن به ذلك بل يوجهون له في ذلك وجوهاً ويحملونه على محامل تليق بما يعرفونه من حال من الإقبال على الله والغنا عما سواه، أكد قوله تواضعاً لله تعالى ليعتقدوا أنه بشر يجوز عليه ما يجوز عليهم لولا عصمة الله:
﴿إني﴾ ولما كان الحب أمراً باطناً لا يظهر في شيء إلا بكثرة الاشتغال به، وكان الاشتغال قد يكون لغير الحب فهو غير دال عليه إلا بقرائن قال اعترافاً:
﴿أحببت﴾ أي أوجدت وأظهرت بما ظهر مني من الاشتغال بالخيل مقروناً ذلك بأدلة الود
﴿حب الخير﴾
379
وهو المال بل خلاصة المال وسبب كل خير دنيوي وأخروي
«الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» أظهرت ذلك بغاية الرغبة غافلاً
﴿عن ذكر ربي﴾ المحسن إليّ بهذه الخيل التي شغلتني وغيرها، فلم أذكره بالصلاة التي كانت وظيفة الوقت وإن كان غرضي لها لكونه في طاعته ذكراً له. ولم يزل ذلك بي
﴿حتى توارت﴾ أي الشمس المفهومة من
«العشي» ﴿بالحجاب *﴾ وهي الأرض التي حالت بيننا وبينها فصارت وراءها حقيقة.
ولما اشتد تشوف السامع إلى الفعل الذي أوجب له الوصف بأواب بعد سماع قوله في لومه نفسه ليجمع بين معرفة القول والفعل، أجيب بقوله:
﴿ردوها﴾ أي قال سليمان عليه السلام: ردوا
﴿عليّ﴾ الخيول التي شغلتني. ولما كان التقدير: فردوها عليه، نسق به قوله:
﴿فطفق﴾ أي أخذ يفعل ظافراً بمراده لازماً له مصمماً عليه واصلاً له معتمداً على الله في التقوية على العدو لا على الأسباب التي من أعظمها الخيل مفارقاً ما كان سبب ذهوله عن الذكر معرضاً عما يمكن أن يتعلق به القلب متقرباً به إلى الله تعالى كما يتقرب في هذه الملة
380
بالضحايا
﴿مسحاً﴾ أي يوقع المسح - أي القطع - فيها بالسيف إيقاعاً عظيماً. ولما كان السيف إنما يقع في جزء يسير من العضوين أدخل الباء فقال:
﴿بالسوق﴾ أي منها
﴿والأعناق *﴾ يضربها ضرباً بسيف ماض وساعد شديد وصنع سديد يمضي فيها من غير وقفة أصلاً حتى كأنه يمسحه مسحاً على ظاهر جلودها كما يقال: مسح علاوته، أي ضرب عنقه - والله أعلم.
ولما ظهر بهذا ما له من ضخامة الملك وعز السلطان، وكانت الأوبة عظيمة جداً، وكان الثبات على مقام الشهود مع حفظه من جميع جهاته أعظم، نبه عليه بقوله مؤكداً لما طبعت عليه النفوس من ظن أن الأواب لا ينبغي أن يواجه بالعتاب:
﴿ولقد فتنا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿سليمان﴾ أي مع إسراعه بالرجوع إلى الله والتنبه لما فيه رضاه نوعاً من الفتنة، الله أعلم بحقيقتها، فأسفرت تلك الفتنة عن رسوخه في مقام الأوبة فتنبه لما أردنا بها من تدريبه على ما أقمناه فيه كما فعلنا بأبيه داود عليهما السلام فاقتد بهما في الاستبصار بالبلاء، فإنا نريد بك أمراً عظيماً جليلاً شريفاً كريماً
﴿وألقينا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿على كرسيه﴾ الذي كانت تهابه أسود الفيل.
381
ولما كانت العبرة إنما هي بالمعاني، فمن كان معناه ناقصاً كان كأنه جسد لا روح فيه، له صورة بلا معنى، قال:
﴿جسداً﴾ فغلب على ذلك المكان الشريف مع ما كنا شرفناه به من هيبة النبوة المقرونة بالملك بحيث لم يكن أحد يظن أن أحداً يقدر على أن يدنو إليه فضلاً عن أن يغلب عليه، فمكنا هذا الجسد منه تمكيناً لا كلفة عليه فيه، بل كان ذلك بحيث كأنه ألقى عليه بغير اختياره ليعلم أن الملك إنما هو لنا، نفعل ما نشاء بمن نشاء، فالسعادة لمن رجانا والويل لمن يأمن مكرنا فلا يخشانا، فعما قليل تصير هذه البلدة في قبضتك، وأهلها مع العزة والشقاق طوع مشيئتك ويكون لك بذلك أمر لا يكون لأحد بعدك كما أنه ما كان لأحد كان قبلك من نفوذ الأمر وضخامة العز وإحلال الساحة الحرام بقدر الحاجة وسعة الملك وبقاء الذكر، والذي أنت فيه الآن ابتلاء واختبار وتدريب على ما يأتي من الأمور الكبار.
ولما كان المراد بإطلاق الجسد عليه التعريف بأنه لا معنى له، لا أنه لا روح فيه، أطلقه ولم يتبعه ما يبين أنه جماد كما فعل في
382
العجل حيث قال
«له خوار» فبين بذلك أنه لا روح له، وإن صح أن هذا الجسد هو صخر الجني وأن سببه سجود الجرادة امرأة سليمان عليه السلام لصورة أبيها بغير علم نبي الله سليمان عليه السلام ولا إرادته، فالإشارة بذلك في التسلية أنا سلبنا الملك من صفينا لصورة رفع سجود بعض من ينسب إليه لها في بيته أمره ولا إرادته ولا علمه، فكيف بمن يسجد لهذه الأوثان في البيت الحرام فعما قليل نزيل أمرهم ونخمد شرهم ونمحو ذكرهم.
ولما كانت الإنابة رجوعاً إلى ما كان، فهي استرجاع لما فات قال:
﴿ثم أناب *﴾ وفسر الإنابة ليعلم أنه تعالى فتنه مع أنه عبد عظيم المنزلة مجاب الدعوة بقوله جوباً لمن سأل عنها:
﴿قال ربّ﴾ أي أيها المحسن إلي
﴿اغفر لي﴾ أي الأمر الذي كانت الإنابة بسببه. ولما قدم أمر الآخرة، أتبعه قوله:
﴿وهب لي﴾ أي بخصوصي
﴿ملكاً لا ينبغي﴾ أي لا يوجد طلبه وجوداً تحصل معه المطاوعة والتسهل
﴿لأحد﴾ في زمان ما طال أو قصر سواء كان كاملاً في الصورة والمعنى أو جسداً خالياً عن العز كما حصلت به الفتنة من قبل، وبعّض الزمان بذكر الجار فقال:
﴿من بعدي﴾ حتى أتمكن من كل ما أريد من التقرب
383
إليك وجهاد من عاداك، ويكون ذلك إمارة لي على قبول توبتي ولا تحصل لي فتنة بإلقاء شيء على مكان حكمي ولا غيره وهذا يشعر بأن الفتنة كانت في الملك وكذا ذكر الإلقاء على الكرسي مضافاً إليه من غير أن ينسب إليه هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء، وهو مناسب لعقر الخيل الذي هو إذهاب ما به العز - والله أعلم، وبهذا التقدير علم أنه لو ذكر الظرف من غير حرف لأوهم تقيد الدعوة بملك يستغرق الزمان الذي بعده، ثم علل ما طلبه من الإعطاء والمنع بقوله على سبيل التأكيد إسقاطاً لما غلب على النفوس من رؤية الأسباب:
﴿إنك أنت﴾ أي وحدك
﴿الوهاب *﴾ أي العظيم المواهب مع التكرار كلما أردت، فتعطي بسبب وبغير سبب من تشاء وتمنع من تشاء.
ولما تسبب عن دعائه الإجابة، أعلم به سبحانه بقوله:
﴿فسخرنا﴾ أي ذللنا بما لنا من العظمة
﴿له الريح﴾ لإرهاب العدو وبلوغ المقاصد عوضاً عن الخيل التي خرج عنها لأجلنا؛ ثم بين التسخير بقوله مستأنفاً:
﴿تجري بأمره رخاء﴾ أي حال كونها لينة غاية اللين منقادة يدرك بها ما لا يدرك بالخيل
﴿غدوها شهر ورواحها شهر﴾ وكل من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وهو هنا مبالغة من الرخاوة. ولما كانت إصابته لما يشاء ملازمة لإرادته، عبر بها عنها لأنها المقصود بالذات فقال:
﴿حيث أصاب *﴾ أي أراد إصابة شيء من الأشياء، وقد جعل الله
384
لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم من ذلك وهو أن العدو يرعب منه إلى مسيرة شهر من جوانبه الأربعة فيه أربعة أشهر
﴿والشياطين﴾ أي الذين عندهم خفة الريح مع الاقتران بالروح سخرناهم له؛ ثم نبه على منفعتهم بالإبدال منهم فقال:
﴿كل﴾ وعبر ببناء المبالغة في سياق الامتنان فقال:
﴿بناء وغواص *﴾ أي عظيم في البناء صاعداً في جو السماء والغوص نازلاً في أعماق الماء، يستخرج الدر وغيره من منافع البحر.
385
ولما دل على مطلق تسخيرهم، دل على أنه قهر وغلبة كما هو شأن أيالة الملك وصولة العز فقال:
﴿وآخرين﴾ أي سخرناهم له من الشياطين حال كونهم
﴿مقرنين﴾ بأمره إلى من يشاكلهم أو مقرونة أيديهم بأرجلهم أو بأعناقهم، وعبر به مثقلاً دون
«مقرونين» مثلاً إشارة إلى شدة وثاقهم وعظيم تقرينهم. ولما كانت مانعة لهم من التصرف في أنفسهم، جعلوا كأنهم بأجمعهم فيها وإن لم يكن فيها إلا بعض أعضائهم مثل
﴿جعلوا أصابعهم في آذانهم﴾ [نوح: ٧] فقال:
﴿في الأصفاد *﴾ أي القيود التي يوثق بها الأسرى من حديد أو قيد أو غير ذلك، جمع صفد - بالتحريك، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
385
قال:
«إن عفريتاً من الجن تفلت عليّ البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان ﴿هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي﴾ فرددته خاسئاً»، وقد حكمه الله في بعض الجن، فحمي من الذين يطعنون دار مولده ودار هجرته، روى أحمد في مسنده بسند حسن إن شاء الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منهما ملك، فلا يدخلهما الدجال ولا الطاعون» هذا في البلدين، وأما المدينة خاصة ففيها أحاديث عدة عن عدة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما، وقد عوض الله نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الشياطين التأييد بجيوش الملائكة في غزواته، وقد كان نبينا عبداً كما اختار فلم يكن له حاجة بغير ذلك.
ولما كان ذلك ملكاً عظيماً، نبه على عظمته بكثرته ودوامه وعظمة مؤتيه فقال مستأنفاً بتقدير: قلنا له ونحوه:
﴿هذا﴾ أي الأمر الكبير
﴿عطاؤنا﴾ أي على ما لنا من العظمة؛ ثم سبب عن ذلك
386
إطلاق التصرف الذي هو أعظم المقاصد، فكم من مالك لشيء وهو مغلول اليد عن التصرف فيه، فقال بادئاً بما يوجب الحب ويقبل بالقلوب دالاً على عظمته وظهور أمره بفك الإدغام:
﴿فامنن﴾ أي أعط من شئت عطاء مبتدئاً من غير تسبب من المعطي:
﴿أو أمسك﴾ أي عمن شئت.
ولما كان هذا عطاء يفوت الوصف عظمه، زاده تعظيماً بكثرته وتسهيله وسلامة العاقبة فيه فقال:
﴿بغير﴾ أي كائناً كل ذلك من العطاء والمن خالياً عن
﴿حساب *﴾ لأنك لا تخشى من نقصه وربك هو المعطي والآمر، ولا من كونه مما يسأل عنه في الآخرة لأنه قد أذن لك، فنفي الحساب عنه يفيد شيئين الكثرة وعدم الدرك في إعطاء أو منع، وجعله مصدراً مزيداً يفهم أنه إنما ينفي عنه حساب يعتد به لا مطلق حسب بالتخمين كما يكون في الأشياء التي تعيي الحاصر فيقرب أمرها بنوع حدس.
ولما رفع الحرج عنه في الدارين، أثبت المزيد فقال عاطفاً على ما تقديره: هذا له في الدنيا، مؤكداً زيادة في الطمأنية لكونه خارقاً لما حكم به من العادة في أنه كل ما زاد عن الكفاف في الدنيا كان ناقصاً
387
للحظ في الآخرة:
﴿وإن له﴾ أي خاصاً به
﴿عندنا﴾ أي في الآخرة
﴿لزلفى﴾ أي قربى عظيمة
﴿وحسن مآب *﴾ أي مرجع.
ولما انقضى الخبر عن الملك الأواب الذي ملك الدنيا بالفعل قهراً وغلبة شرقاً وغرباً، وكان أيوب عليه السلام في ثروة الملوك وإن لم يكن ملكاً بالفعل، وكان تكذيب من كذب بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو بتسليط الله الشياطين بوسوسته عليهم، وأمره سبحانه بالصبر على ذلك وقص عليه من أخبار الأوابين تعليماً لحسن الأوبة إن وهن الصبر، أتبعه الإخبار عن الصابر الأواب الذي لم يتأوه إلا من وسوسة الشيطان لزوجه بما كان يفتنها ليزداد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذكر هذه الأخبار صبراً ويتضاعف إقباله على الله تعالى وتضرعه له اقتداء بإخوانه الذين لم تشغلهم عنه منحة السراء ولا محنة الضراء، وتذكيراً لقدرة الله على كل ما يريده تنبيهاً على أنه قادر على رد قريش عما هم فيه ونصر المستضعفين من عباده عليهم بأيسر سعي فقال:
﴿واذكر عبدنا﴾ أي الذي هو أهل للإضافة إلى عظيم جنابنا، وبينه بقوله:
﴿أيوب﴾ وهو من الروم من أولاد عيص بن إسحاق عليهم السلام لتتأسى بحاله فنصبر على قومك وإن رأيت ما لا
388
صبر لك عليه دعوت الله في إصلاحه.
ولما أمره بذكره، بين أن معظم المراد بعض أحواله الشريفة ليتأسى به فقال مبدلاً منه بدل اشتمال:
﴿إذ﴾ أي اذكر حاله الذي كان حين:
﴿نادى﴾ وصرف القول عن مظهر العظمة إلى صفة الإحسان لأنه موطنه لاقتضاء حاله ذلك فقال:
﴿ربه﴾ : أي المحسن إليه الذي عرف إحسانه إليه في تربيته ببلائه كما عرف امتنانه بظاهر نعمائه وآلائه، ثم ذكر المنادى به حاكياً له بلفظه فقال مشيراً بالتأكيد إلى أنه - وإن كان حاله فيما عهد من شدة صبره مقتضياً عدم الشكوى - أتاه ما لا صبر عليه:
﴿إني﴾ أي رب أدعوك بسبب أني. ولما كان هنا في سياق التصبير عظم الأمر بإسناد الضر إلى أعدى الأعداء إلهاباً إلى الإجابة وأدباً مع الله فقال:
﴿مسّني﴾ أي وأنا من أوليائك
﴿الشيطان﴾ أي المحترق باللعنة البعيد من الرحمة بتسليطك له
﴿بنصب﴾ أي ضر ومشقة وهم داء ووجع وبلاء يثقل صاحبه فيتبعه ويعيده ويكده ويجهده ويصل به إلى الغاية من كل ذلك، وقرئ بضم الصاد أيضاً وقرئ بالتحريك كالرُشد والرَشد، وكان ذلك إشارة إلى أحوال الضر في الشدة والخفة فالمسكن أدناه، والمحرك أوسطه، والمثقل بالضم أعلاه
﴿وعذاب *﴾ أي نكد قوي جداً دائم مانع من
389
كل ما يلذ، ويمكن أن يساغ ويستطعم أجمله، ونكره تنكير لتعظيم استغنائه على وجازته عن جمل طوال ودعاء عريض إعلاماً بأن السيل قد بلغ الزبى، وأوهن البلاء القوي، ولم يذكره بلفظ إبليس الذي هو من معنى اليأس وانقطاع الرجاء دلالة على أنه هو راج فضل الله غير آيس من روحه، وذلك أن الله تعالى سلطه على إهلاك أهله وولده وماله فصبر ثم سلطه على بدنه إلى أن سقط لحمه واستمر على ذلك مدداً طوالاً، فلذلك ثم تراءى لزوجته رضي الله عنها في زي طبيب وقال لها: أنا أداويه ولا أريد أن يقول لي، إذا عوفي أنت شفيتني، وقيل: قال لها: لو سجد لي سجدة واحدة شفيته، فأتته وحدثته بذلك فأخبرها وعرفها أنه الشيطان، وحذرها منه وخاف غائلته عليها، فدعا الله بما تقدم وشدد النكير والتعظيم لما وسوس لها به بأن حلف ليضربنها مائة ضربة، ردعاً لها عن الإصغاء إلى شيء من ذلك، وتهويناً لما يلقاه من بلائه في جنبه.
390
ولما تشوف السامع إلى جوابه عن ذلك، استأنف قوله:
﴿اركض﴾ أي قلنا له: اضرب الأرض وأوجد الركض وهو
390
المشي والتحريك والإسراع والاستحثاث
﴿برجلك﴾ يخرج منها ماء نافع حسن لتغتسل فيه وتشرب منه ففعل فأنبعنا له عيناً، فقيل له:
﴿هذا﴾ بإشارة القريب إشارة إلى تسهله
﴿مغتسل﴾ أي ماء يغتسل به وموضعه وزمانه
﴿بارد﴾ أي يبرد حر الظاهر
﴿وشراب *﴾ يبرد حر الباطن.
ولما كان التقدير: ففعل اغتسل فبرأ ظاهره وسر باطنه، عطف عليه قوله صارفاً القول إلى مظهر الجلال تنبيهاً على عظمة الفعل:
﴿ووهبنا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿له أهله﴾ أي الذين كان الشيطان سلط عليهم بأن أحييناهم، وجمع اعتباراً بالمعنى لأنه أفخم وأقرب إلى فهم المراد فقال:
﴿ومثلهم﴾ وأعلم باجتماع الكل في آنٍ واحد فقال:
﴿معهم﴾ جددناهم له وليعلم من يسمع ذلك أنه لا عبرة بشيء من الدنيا وأنها وكل ما فيها عرض زائل لا ثبات له أصلاً إلا ما كان لنا، فإنه من الباقيات الصالحات، فلا يغير أحد بشيء منها ولا يشتغل عنا أصلاً، ويعلم من هذا من صدقه القدروة على البعث بمجرد تصديقه له ومن توقف فيه سأل أهل الكتاب فعلم ذلك بتصديقهم له، ثم علل سبحانه فعله ذلك بقوله:
﴿رحمة﴾ ولما كان في مقام الحث على الصبر عظم الأمر بقوله:
﴿منا﴾ فإنه أعظم من التعبير في سورة الأنبياء بعندنا، ليكون ذلك أحث على لزوم الصبر، وإذا نظرت إلى ختام الآيتين عرفت تفاوت العبارتين ولاح لك أن مقام الصبر لا يساويه
391
شيء، لأن الطريق إليه سبحانه لا ينفك شيء منه عن صبر وقهر للنفس وجبر، لأنها بالإجماع خلاف ما تدعو إليه الطبائع
﴿وذكرى﴾ أي إكراماً وتذكيراً عظيماً
﴿لأولي الألباب *﴾ أي الأفهام الصافية، جعلنا ذلك لرحمته ولتذكير غيره من الموصوفين على طول الزمان ليتأسى به كل مبتلى ويرجو مثل ما رجا، فإن رحمة الله واسعة، وهو عند القلوب المنكسرة، فما بينه وبين الإجابة إلا حسن الإنابة، فمن دام إقباله عليه أغناه عن غيره:
لكل شيء إذا فارقته عوض | وليس لله إن فارقت من عوض |
ولما أجمل العذاب الصالح لألم الظاهر، وذكر المخلص منه، أتبعه التنبيه على أعظمه وهو ألم الباطن، بل أبطن الباطن التعلق بالاعتقاد فيما وسوس لزوجه رضي الله عنها بما كاد يزلها فحلف ليضربنها مائة لئلا تعود إلى شيء من ذلك فيزلها عن مقامها كما أزل غيرها فأرشده سبحانه وتعالى إلى المخلص من ذلك الحلف على أخف وجه لأنها كانت صابرة محسنة، فشكر الله لها ذلك، وجعل هذا المخلص بعدها سنة باقية لعباده تعظيماً لأجرها وتطييباً لذكرها فقال عاطفاً على
392
﴿اركض﴾ ﴿وخذ بيدك﴾ أي التي قد صارت في غاية الصحة
﴿ضغثاً﴾ أي حزمة صغيرة من حشيش فيها مائة عود كشمراخ النخلة، قال الفراء: هو كل ما جمعته من شيء مثل الحزمة الرطبة، وقال السمين: وأصل المادة يدل على جميع المختلطات
﴿فأضرب به﴾ أي مطلق ضرب ضربة واحدة
﴿ولا تحنث﴾ في يمينك أي تأثم بترك ما حلفت على فعله، فهذا تخفيف على كل منهما لصبره، ولعل الكفارة لم تكن فيهم وخصنا الله بها مع شرعه فينا ما أرخصه له تشريفاً لنا، وكل هذا إعلاماً بأن الله تعالى ابتلاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بدنه وولده وماله، ولم يبق له إلا زوجة فوسوس لها الشيطان طمعاً في إيذائهما كما آذى آدم وحواء عليهما السلام، إلى أن قارب منها بعض ما يريد، والمراد بالإعلام به تذكير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه إن كان مكن الشيطان من الوسوسة لأقاربه والإغواء والإضلال فقد منّ عليه بزوجه أعظم وزراء الصدق وكثير من أقاربه الأعمام وبني الأعمام وغيرهم، وحفظ له بدنه وماله ليزداد شكره لله تعالى، وفي القصة إشارة إلى أنه قادر على أن يطيع له من يشاء، فإنه قادر على التصرف في المعاني كقدرته على التصرف في الذوات، وأنه سبحانه يهب لهذا النبي الكريم قومه العرب الذين هم الآن أشد الناس
393
عليه وغيرهم فيطيعه الكل.
ولما كان الصبر والأفعال المرضية عزيزة في العباد لا تكاد توجد فلا يكاد يصدق بها، علل سبحانه هذا الإكرام له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكده، فقال على سبيل الاستنتاج مما تقدم رداً على من يظن أن الشكوى إليه تنافي الصبر، وإشارة إلى أن السر في التذكير به التأسي في الصبر:
﴿إنا﴾ أي على ما لنا من العظمة
﴿وجدناه﴾ أي في عالم الشهادة طبق ما كان لنا في عالم الغيب ليتجدد للناس من العلم بذلك ما كنا به عالمين، ولما كان السياق للحث على مطلق الصبر في قوله تعالى
﴿واصبر على ما يقولون﴾ [المزمل: ١٠] أتى باسم الفاعل مجرداً على مبالغة فقال:
﴿صابراً﴾ ثم استأنف قوله:
﴿نعم العبد﴾ ثم علل بقوله مؤكداً لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك:
﴿إنه أواب *﴾ أي رجاع بكليته إلى الله سبحانه على خلاف ما يدعو إليه طبع البشر، قال الرازي في اللوامع: قال ابن عطاء: واقف معنا بحسن الأدب لا يغيره دوام النعمة، ولا يزعجه تواتر البلاء والمحنة، روى عبد بن حميد في مسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: وضع رجل يده على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا
394
الأجر، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلي بالقمل حتى يقتله وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلي بالفقر حتى يأخذ العباة فيحويها وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء».
ولما ذكر سبحانه من ابتلاه في بدنه وماله وولده ثم جعل له الماء برداً وسلاماً وعافية ونظاماً وشفاء وقواماً، عطف عليه من ابتلاه بالنار على أيدي الجبابرة فجعلها عليه برداً وسلاماً باعتماده عليه وصبره لديه، ونجاه من كيدهم، وجعل أيده بمفرده فوق أيدهم، ثم ابتلاه بالهجرة لوطنه وأهله وعشيرته وسكنه، ثم بذبح ابنه، فصبر على ذلك كله، اعتماداً على فضل الله ومنّة فقال:
﴿واذكر عبدنا﴾ بالتوحيد في رواية ابن كثير للجنس أو لإبراهيم وحده عليه السلام لأنه أصل من عطف عليه ديناً وأبوة، فبين الله أساس عطفه عليه في المدح بالعبودية أيضاً، ثم بين المراد بقوله:
﴿إبراهيم﴾ وعطف على العبد لا على مبينه لئلا يلزم بيان واحد بجماعة إذا أريد به إبراهيم وحده لا الجنس ابنه لصبره على دينه في الغربة بين عباد الأوثان ومباعدي الإيمان، فلم يلفت لفتهم ولا داناهم، بل أرسل إلى أقاربه في
395
بلاد الشرق، فتزوج منه من وافقته على دينه الحق، واستمر على إخلاص العبادة لا يأخذه في الله لومة لائم إلى أن مضى لسبيله فقال:
﴿وإسحاق﴾ ثم أتبعه ولده الذي قفا أثره، وصبر صبره، وابتلى بفقد ولده، وبهجة كبده، فصبر أتم الصبر في ذلك الضر، وأبلغ في الحمد والشكر، فقال تعالى:
﴿ويعقوب﴾ وألحقهما سبحانه بأبيها بعد أن بينت قراءة الإفراد إصالته في المدح بالعبودية فعطفهما عليه نفسه في قراءة غير ابن كثير
﴿عبادنا﴾ بالجمع كما قال تعالى
﴿والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم﴾ [الطور: ٢١].
ولما اجتعموا بالعطف أو البدل وصفهم بقوله:
﴿أولي الأيدي﴾ أي القوة الشديدة والأعمال السديدة لأن الأيدي أعظم آلات ذلك
﴿والأبصار *﴾ أي الحواس الظاهرة والباطنة التي هي حقيقة بأن تذكر وتمدح بها لقوة إدراكها وعظمة نفوذها فيما هو جدير بأن يراعى من جلال الله ومراقبته في الحركات والسكنات سراً وعلناً، وعبر عن ذلك بالأبصار لأنها أقوى مبادئه، ومن لم يكن مثلهم كان مسلوب القوة والعقل، فلم يكن له عقل فكان عدماً، فهو أعظم توبيخ لمن رزقه الله قوة وعقلاً، ثم لا يصرفه في عبادة الله والمجاهدة فيه سبحانه.
396
ولما اشتد تشوف السامع لما استحقوا به هذا الذكر، قال مؤكداً إشارة إلى محبته سبحانه لمدحهم ورداً على من ينسب إليهم أو إلى أحد منهم ما لا يليق كما كذبه اليهود فيما بدلوه من التوراة في حق إسحاق عليه السلام في بعض المواضع معدياً للفعل بالهمزة إشارة إلى أنه جذبهم من العوائق إليه جذبة واحدة هي في غاية السرعة:
﴿إنا أخلصناهم﴾ أي لنا إخلاصاً يليق بعظمتنا التي لا تدانيها عظمة
﴿بخالصة﴾ أي أعمال وأحوال ومقامات وبلايا ومحن هي سالمة عن شوب ما، فصاروا بالصبر عليها في غاية الخلوص.
ولما كان سبب الإخلاص تذكر يوم الدين وما يبرز فيه من صفات الجلال والجمال وينكشف فيه من الأمور التي لا توصف عظمتها، بينها بقوله:
﴿ذكرى الدار﴾ أي تذكرهم تلك الخالصة تذكيراً عظيماً لا يغيب عنهم أصلاً الدار التي لا يستحق غيرها أن يسمى داراً بوجه بحيث نسوا بذكر هذا الغائب ذكر ما يشاهدونه من دار الدنيا فهم لا ينظرون إليه أصلاً بغضاً فيها فقد أنساهم هذا الغائب الثابت الشاهد الزائل عكس ما عليه العامة، وإضافة نافع وأبي جعفر وهشام عن ابن عامر بخلاف عنه لخالصة مؤيد لما قلت من أن ذكرى بيان لأنها إضافة الصفة إلى الموصوف، والمعنى أنهم لا يعملون شيئاً إلا وهو
397
مقرب للآخرة، فالمعنى أن ذكرهم لها خالص عن سواه لا يشاركه فيه شيء ولا يشوبه شوب أصلاً.
ولما دلت هذه الجملة على هذا المدح البليغ، عطف عليه ما يلازم الإخلاص فقال مؤكداً لمثل ما تقدم من التنبيه على أنهم ممن يغتبط بمدحهم، ورداً على من ربما ظن خلاف ذلك بكثرة مصائبهم في الدنيا:
﴿وإنهم عندنا﴾ أي على ما لنا من العظمة والخبرة
﴿لمن المصطفين﴾ المبالغ في تصفيتهم مبالغة كأنها بعلاج
﴿الأخيار *﴾ الذين كل واحد منهم بخير بليغ في الخير، وإصابتنا إياهم بالمصائب دليل ذلك لا دليل عكسه كما يظنه من طمس قلبه، والآية من الاحتباك: ذكر
﴿أخلصناهم﴾ أولاً دليل على
﴿اصطفيناهم﴾ ثانياً، و
﴿المصطفين﴾ دليلاً على
﴿المخلصين﴾ أولاً، وسر ذلك أن الإخلاص يلزم منه الاصطفاء، لا سيما إذا أسنده إليه بخلاف العكس بدليل
﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه﴾ [فاطر: ٣٢].
ولما أتم الأمر بذكر الخليل وابنه عليهما السلام الذي لم يخرج من كنفه قط ونافلته المبشر به للتأسي بهم في صبرهم الدين وإن خالفهم من خالفهم، أتبعه ولده الذي أمر بالتجرد عنه مرة بالإسكان عند البيت الحرام ليصير أصلاً برأسه في أشرف البقاع، ومرة بالأمر بذبحه في تلك المشاعر الكرام، فصار ما أضيف إليه من الأحوال
398
والأفعال من المناسك العظام عليه الصلاة والسلام، وأفرده بالذكر دلالة على أنه أصل عظيم برأسه من أصول الأئمة الأعلام، فقال:
﴿واذكر إسماعيل﴾ أي أباك وما صبر عليه من البلاء بالغربة والانفراد والوحدة والإشراف على الموت في الله غير مرة وما صار إليه بعد ذلك البلاء من الفرج والرئاسة والذكر في هذه البلدة
﴿واليسع﴾ أي الذي استخلفه إلياس عليه السلام على بني إسرائيل فجمعهم الله عليه بعد ذلك الخلاف الشديد الذي كان منهم لإلياس عليه السلام
﴿وذا الكفل﴾ أي النصيب العظيم بالوفاء بما يكفله من كل أمر عليّ، وعمل صالح زكي.
ولما تقدم وصف من قبل إبراهيم عليه السلام بالأوبة وخصوا بالتصريح، لما كان لهم من الشواغل عنها بكل من محنة السراء ومحنة الضراء وكذلك بالعبودية سواء، وكان الأمر بالذكر مع حذف الوصف المذكور لأجله والإشارة إليه بالتلويح ولا مانع من ذكره - دالاً على غاية المدح له لذهاب الوهم في تطلبه كل مذهب، قال معمّماً للوصف بالعبودية والأوبة بها جميع المذكورين، عاطفاً بما أرشد إليه العطف على غير مذكور على ما تقديره: إنهم أوابون، ليكون تعليلاً لذكرهم بما علل به ذكر أول مذكور فيهم:
399
﴿وكل﴾ أي من هؤلاء المذكورين في هذه السورة من الأنبياء قائمون بحق العبودية فهم من خيار عبادنا من هؤلاء الثلاثة ومن قبلهم
﴿من الأخيار *﴾ أي كما أن كلاًّ منهم أواب بالعراقة في وصف الصبر - كما مضى في الأنبياء، وبغير ذلك من كل خير على أن الصبر - جامع لجميع الطريق، فهم الذين يجب الاقتداء بهم في الصبر على الدين ولزوم طريق المتقين.
ولما أتم سبحانه ما أراد من ذكر هؤلاء الأصفياء عليهم السلام الذين عافاهم بصبرهم وعافى من دعوهم، فجعلهم سبحانه سبب الفلاح ولم يجعلهم سبباً للهلاك، قال مؤكداً لشرفهم وشرف ما ذكروا به، حاثاً على إدامة تذكره وتأمله وتدبره للعمل به، مبيناً ما لهم في الآخرة على ما ذكر من أعمالهم وما لمن نكب عن طريقهم على سبيل التفصيل:
﴿وهذا﴾ أي ما تلوناه عليك من أمورهم وأمور غيرهم
﴿ذكر﴾ أي شرف في الدنيا وموعظة من ذكر القرآن ذي الذكر، ثم عطف على قوله
﴿إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد﴾ ما لأضدادهم، فقال مؤكداً رداً على من ينكر ذلك من كفار العرب
400
وغيرهم:
﴿وإن﴾ ويجوز - وهو أحسن - أن يكون معطوفاً على
«هذا» وتقديره: هذا ذكر للصابرين.
ولما أداهم إليه صبرهم في الدنيا وأن لهم على ما وهبناهم من الأعمال الصالحة التي مجمعها الصبر لمرجعاً حسناً، ولكنه أظهر الوصف الذي أداهم إلى هذا المآب تعميماً لكل من اقتدى بهم حثاً على الاقتداء فقال:
﴿للمتقين﴾ أي جميع العريقين في وصف التقوى الذين يلزمون لتقواهم الصراط المستقيم
﴿لحسن مآب *﴾ أي مصير ومرجع ولما شوق سبحانه إلى هذا الجزاء أبدل منه أو بينه بقوله:
﴿جنات عدن﴾ أي إقامة في استمراء وطيب عيش ونمو وامتلاء وشرف أصل.
ولما كانت من الأعلام الغالبة، نصب عنها على الحال قوله:
﴿مفتحة﴾ أي تفتيحاً كثيراً وبليغاً من غير أن يعانوا في فتحها شيئاً من نصب أو طلب أو تعب، وأشار جعل هذا الوصف مفرداً أن تفتحيها على كثرتها كان لهم في آن واحد حتى كأنها باب واحد
﴿لهم﴾ أي لا لغيرهم
﴿الأبواب﴾ التي لها والتي فيها فلا يلحقهم في دخولها ذل الحجاب ولا كلفة الاستئذان، تستقبلهم الملائكة
401
ولما ذكر إقامتهم ويسر دخولهم، وصف حالهم إذ ذاك فقال:
﴿متكئين فيها﴾ أي ليس لهم شغل سوى النعيم ولا عليهم كلفة أصلاً. ولما كان المتكىء لا يتم نعيمه إلا إن كان مخدوماً، دل على سؤددهم بقوله:
﴿يدعون فيها﴾ اي كلما أرادوا من غير مانع أصلاً ولا حاجة إلى قيام ولا قعود يترك به الاتكاء. ولما كان أكلهم إنما هو للتفكه لا لحفظ الجسد من آفة قال:
﴿بفاكهة كثيرة﴾ فسمى جميع مآكلهم فاكهة، ولما كانت الفاكهة لا يمل منها، والشراب لا يؤخذ إلا بقدر الكفاية، وصفها دونه فقال:
﴿وشراب *﴾.
ولما كان الأكل والشرب داعيين إلى النساء لا سيما مع الراحة قال:
﴿وعندهم﴾ أي لهم من غير مفارقة أصلاً. ولما كان سياق الامتنان مفهماً كثرة الممتن به لا سيما إذا كان من العظيم، أتى بجمع القلة مريداً به الكثرة لأنه أشهر وأوضح وأرشق من
«قواصر» المشترك بين جمع قاصر وقوصرة - بالتشديد والتخفيف - لوعاء التمر فقال:
﴿قاصرات﴾ ولما كن على خلق واحد في العفة وكمال الجمال وحد فقال:
402
﴿الطرف﴾ أي طرفهن لعفتهن وطرف أزواجهن لحسنهن، ولما لم تنقص صيغة جمع القلة المعنى، لكونه في سياق المدح والامتنان، وكان يستعار للكثرة، أتى على نمط الفواصل بقوله:
﴿أتراب *﴾ أي على سن واحد مع أزواجهن وهو الشباب، سمي القرين ترباً لمس التراب جلده وجلد قرينه في وقت واحد، قال البغوي: بنات ثلاث وثلاثين سنة، لأن ذلك ادعى للتآلف فإن التحاب بين الأقران أشد وأثبت.
ولما ذكر هذا النعيم لأهل الطاعة، وقدم ذلك العذاب لأهل المعصية قال:
﴿هذا﴾ أي الذي ذكر هنا والذي مضى
﴿ما﴾ وبني للمفعول اختصاراً وتحقيقاً للتحتم قوله:
﴿توعدون﴾ من الوعد والإيعاد، وقراءة الغيب على الأسلوب الماضي، ومن خاطب لفت الكلام للتلذيذ بالخطاب تنشيطاً لهممهم وإيقاظاً لقلوبهم
﴿ليوم الحساب *﴾ أي ليكون في ذلك اليوم.
ولما كان هذا يصدق بأن يوجد ثم ينقطع كما هو المعهود من حال الدنيا، أخبر أنه على غير هذا المنوال فقال:
﴿إن هذا﴾ أي المشار إليه إشارة الحاضر الذي لا يغيب
﴿لرزقنا﴾ أي للرزق الذي
403
يستحق الإضافة إلينا في مظهر العظمة، فلذلك كانت النتيجة:
﴿ما له من نفاد *﴾ أي فناء وانقطاع، بل هو كالماء المتواصل في نبعه، كلما أخذ منه شيء أخلف في الحال بحيث إنه لا يميز المأخوذ من الموجود بوجه من الوجوه، فيكون في ذلك تلذيذ وتنعيم لأهل الجنة بكثرة ما عنده، وبمشاهدة ما كانوا يعتقدونه ويثبتونه لله تعالى من القدرة على الإعادة في كل وقت، جزاء وفاقاً عكس ما يأتي لأهل النار.
ولما كانت النفوس نزاعة للهوى ميالة إلى الردى، فكانت محتاجة إلى مزيد تخويف وشديد تهويل، قال تعالى متوعداً لمن ترك التأسي بهؤلاء السادة في أحوال العبادة، مؤكداً لما مضى من إيعاد العصاة وتخويف العتاة:
﴿هذا﴾ أي الأمر العظيم الذي هو جدير بأن يجعل نصب العين وهو أنه لكل من الفريقين ما ذكر وإن أنكره الكفرة، وحذف الخبر بعد إثباته في الأول أهول ليذهب الوهم فيه كل مذهب
﴿وإن للطاغين﴾ أي الذين لم يصبروا على تنزيلهم أنفسهم في منازلها بالصبر على ما أمروا به فرفعوا أنفسهم فوق قدرها، وتجاوزوا الحد وعلوا في الكفر به وأسرفوا في المعاصي والظلم وتجبروا وتكبروا فكانوا أحمق الناس
﴿لشر مآب *﴾ أي مصير ومرجع،
404
وأبدل منه أو بينه بقوله:
﴿جهنم﴾ أي الشديدة الاضطرام الملاقية لمن يدخلها بغاية العبوسة والتجهم.
ولما كان اختصاصهم بها ليس بصريح في عذابهم، استأنف التصريح به في قوله:
﴿يصلونها﴾ أي يدخلونها فيباشرون شدائدها. ولما أفهم هذا غاية الكراهة لها وأنه لا فراش لهم غير جمرها، فكان التقدير: فيكون مهاداً لهم لتحيط بهم فيعمهم صليها، سبب عنه قوله:
﴿فبئس المهاد *﴾ أي الفراش هي، فإن فائدة الفراش تنعيم الجسد، وهذه تذيب الجلد واللحم ثم يعود في الحال كلما ذاب عاد عقوبة لهم ليريهم الله ما كانوا يكذبون به من الإعادة في كل وقت دائماً أبداً، كما كانوا يعتقدون ذلك دائماً أبداً جزاء وفاقاً عكس ما لأهل الجنة من التنعيم والتلذيذ بإعادة كل ما قطعوا من فاكهتها وأكلوا من طيرها، لأنهم يعتقدون الإعادة فنالوا هذه السعادة.
ولما قدم أن لأهل الطاعة فاكهة وشراباً، وكان ما وصف به مأوى العصاة لا يكون إلا عذاباً، وكان مفهماً لا محالة أن الحرارة تسيل من أهل النار عصارة من صديد وغيره قال:
﴿هذا﴾ أي العذاب للطاغين
﴿فليذوقوه﴾ ثم فسره بقوله:
﴿حميم﴾ أي ماء حار، وأشار بالعطف بالواو إلى تمكنه في كل من الوصفين فقال:
﴿وغساق *﴾
405
أي سيل منتن عظيم جداً بارد أسود مظلم شديد في جميع هذه الصفات من صديد ونحوه وهو في قراءة الجماعة بالتخفيف اسم كالعذاب والنكال من غسقت عينه، أي سالت، وغسق الشيء، أي امتلأ، ومنه الغاسق للقمر لامتلائه وكماله، وفي قراءة حمزة والكسائي وحفص بالتشديد صفة كالخباز والضراب، تشير إلى شدة أمره في جميع ما استعمل فيه من السيلان والبرد والسواد.
ولما كان في النار - أجارنا الله منها بعفوه ورحمته - ما لا يعد من أنواع العقاب، قال عاطفاً على هذا،
﴿وآخر﴾ أي من أنواع المذوقات - على قراءة البصريين بالجمع لأخرى، ومذوق على قراءة غيرهما بالإفراد، وهو حينئذ للجنس، وأخبر عن المبتدأ بقوله:
﴿من شكلة﴾ أي شكل هذا المذوق ولما كان المراد الكثرة في المعذبين وهم الطاغون وفي عذابهم مع افتراقه بالأنواع وإن اتحد في جنس العذاب، صرح بها في قوله:
﴿أزواج *﴾ أي هم أو هي أو هو، أي جنس عذابهم أنواع كثيرة.
ولما كان مما أفهمه الكتاب في هذا الخطاب أن الطاغين الداخلين إلى جهنم أصناف كثيرة، وكانت العادة جارية بأن الأصناف إذا اجتمعوا
406
كانت محاورات ولا سيما إن كانوا من الطغاة العتاة، تحرك السامع إلى تعرف ذلك فقال تعالى مستأنفاً جوابه بما يدل على تقاولهم بأقبح المقاولة وهو التخاصم الناشىء عن التباغض والتدابر الذي من شأنه أن يقع بين الذين دبروا أمراً فعاد عليهم بالوبال في أن كلاًّ منهم يحيل ما وقع به العكس على صاحبه، وذلك أشد لعذابهم:
﴿هذا﴾ أي قال أطغى الطغاة لما دخلوها أولاً كما هم أهل له لأنهم ضالون مضلون ورأوا جمعاً من الأتباع داخلاً عليهم: هذا
﴿فوج﴾ أي جماعة كثيفة مشاة مسرعون. ولما كانوا يدخلونها من شدة ما تدفعهم الزبانية على هيئة الواثب قال مشيراً بالتعبير بالوصف مفرداً إلى أنهم في الموافقة فيه والتسابق كأنهم نفس واحدة:
﴿مقتحم﴾ أي رام بنفسه في الشدة بشدة فجاءة بلا روية كائناً
﴿معكم﴾.
ولما كان أهل النار يؤذي بعضهم بعضاً بالشهيق والزفير والزحام والدفاع والبكاء والعويل وما يسيل من بعضهم على بعض من القيح والصديد وغير ذلك من أنواع النكد، ولا سيما إن كانوا أتباعاً لهم في الدنيا، فصاروا مثلهم في ذلك الدخول في الرتبة، لا يتحاشون عن دفاعهم وخصامهم ونزاعهم، قالوا استئنافاً:
﴿لا مرحباً﴾ ثم بينوا المدعو عليه فقالوا:
﴿بهم﴾ وهي كلمة واقعة في أتم مواقعها لأنها دالة على
407
التضجر والبغضة مع الصدق في أهل مدلولها الذي هو مصادقة الضيق، مفعل من الرحب مصدر ميمي وهو السعة، أي لا كان بهم سعة أصلاً ولا اتسعت بهم هذه الأماكن ولا هذه الأزمان ولا حصلت لهم ولا بهم راحة، ولذلك عللوا استحقاقهم لهذا الدعاء بقولهم مؤكدين لما كان استقر في نفوسهم وتطاول عليه الزمان من إنكارهم له:
﴿إنهم صالوا النار *﴾ أي ومن صليها صادف من الضيق ما لم يصادفه أحد وآذى كل من جاوره.
408
ولما كان من المعلوم على ما جرت به العوائد أنهم يتأثرون من هذا القول فيحصل التشوق إلى ما يكون من أمرهم هل يجيبونهم أم تمنعهم هيبتهم على ما كانوا في الدنيا، اعلم بما يعلم منه انقطاع الأسباب هناك، فلا يكون من أحد منهم خوف من آخر، فقال مستأنفاً:
﴿قالوا﴾ أي الأتباع المعبر عنهم بالفوج لسفولهم وبطون أمرهم:
﴿بل أنتم﴾ أي خاصة أيها الرؤساء
﴿لا مرحباً﴾ وبينوا بقولهم:
﴿بكم﴾ أي هذا الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به منا، ثم عللوا قولهم بما أفهم أنهم شاركوهم في الضلال وزادوا عليهم بالإضلال
408
فقالوا:
﴿أنتم﴾ أي خاصة
﴿قدمتموه﴾ أي الاقتحام في العذاب بما أقحمتمونا فيه من أسبابه وقدمتم في دار الغرور من تزيينه
﴿لنا﴾ ولما كان الاقتحام وهو الوثوب أو الدخول على شيء بسرعة كأنها الوثوب ينتهي منه إلى استقرار، وكان الفريقان قد استقروا في مقاعدهم في النار، سببوا عن ذلك قولهم:
﴿فبئس القرار *﴾ أي قراركم.
ولما كان قول الأتباع هذا مفهماً لأنهم علموا أن سبب ما وصلوا إليه من الشقاء هو الرؤساء، وكان هذا موجباً لنهاية غيظهم منهم، تشوف السامع لما يكون من أمرهم معهم؟ هل يكتفون بما أجابوهم به أو يكون أمنهم شيء آخر؟ فاستأنف قوله إعلاماً بأنهم لم يكتفوا بذلك وعلموا أنهم لا يقدرون على الانتقام منهم:
﴿قالوا﴾ أي الأتباع:
﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا الذي منعنا هؤلاء عن الشكر له
﴿من قدم لنا هذا﴾ أي العذاب بما قدم لنا من الأسباب التي اقتحمناه، وقدموا ذلك اهتماماً به وأجابوا الشرط بقولهم:
﴿فزده﴾ أي على العذاب الذي استحقه بما استحققنا به نحن وهو الضلال
﴿عذاباً ضعفاً﴾ أي زائداً على ذلك مثله مرة أخرى بالإضلال، وقيدوه طلباً لفخامته بقولهم معبرين بالظرف لإفهام الضيق الذي تقدم الدعاء
409
المجاب فيه به ليكون عذاباً آخر فهو أبلغ مما في الأعراف لأن السياق هنا للطاغين وهناك لمطلق الكافرين
﴿في النار *﴾ أي كائناً فيها، وهذا مثل الآية الأخرى ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيراً أي مثل عذابنا مرّتين.
ولما ذكر من اقتحامهم في العذاب وتقاولهم بما دل على خزيهم وحسرتهم وحزنهم، أعلم بما دل على زيادة خسرانهم وحسرتهم وهوانهم بمعرفتهم بنجاة المؤمنين الذين كانوا يهزؤون بهم ويذلونهم فقال:
﴿وقالوا﴾ أي الفريقان: الرؤساء والأتباع بعد أن قضوا وطرهم مما لم يغن عنهم شيئاً من تخاصمهم:
﴿ما﴾ أي أيّ شيء حصل
﴿لنا﴾ مانعاً في أنا
﴿لا نرى﴾ أي في المحل الذي أدخلناه
﴿رجالاً﴾ يعنون فقراء المؤمنين
﴿كنا نعدهم﴾ أي في دار الدنيا
﴿من الأشرار *﴾ أي الأراذل الذين لا خير فيهم بأنهم قد قطعوا الرحم، وفرقوا بين العشيرة وأفسدوا ذات البين، وغيروا الدين بكونهم لا يزالون يخالفون الناس في أقوالهم وأفعالهم، مع ما كانوا فيه من الضعف والذل والهوان وسوء الحال في الدنيا، فيظن أهلها نقص حظهم منه وكثرة مصائبهم فيها لسوء حالهم عند الله وما دروا أنه تعالى يحمي أحباءه منها كما
410
يحمي الإنسان عليله الطعام والشراب ومن يرد به خيراً يصب منه.
ولما كانوا يسخرون من المؤمنين ويستهزئون بهم، وهم ليسوا موضعاً لذلك، بل حالهم في جِدهم وجَدهم في غاية البعد عن ذلك، قالوا مستفهمين، أما على قراءة الحرميين وابن عامر وعاصم فتحقيقاً، وأما على قراءة غيرهم فتقديراً:
﴿اتخذناهم﴾ أي كلفنا أنفسنا وعالجناها في أخذهم
﴿سخرياً﴾ أي نسخر منهم ونستهزئ بهم - على قراءة الكسر، ونسخرهم أي نستخدمهم على قراءة الضم، وهم ليسوا أهلاً لذلك، بل كانوا خيراً منا فلم يدخلوا هنا لعدم شرارتهم، وكأنهم إلى تجويز كونهم في النار معهم ومنعهم من رؤيتهم أميل، فدلوا على ذلك بتأنيث الفعل ناسبين خفاءهم عنهم إلى رخاوة في أبصارهم على قوتها في ذلك الحين فقالوا:
﴿أم زاغت﴾ أي مالت متجاوزة
﴿عنهم﴾.
ولما كان تعالى يعيد الخلق في القيامة على غاية الإحكام في أبدانهم ومعانيها فتكون أبصارهم أحد ما يمكن أن تكون وأنفذه
«اسمع بهم وابصر يوم يأتوننا فبصرك اليوم حديد» عدوا أبصارهم في الدنيا بالنسبة إليها عدماً، فلذلك عرفوا قولهم:
﴿الأبصار *﴾ أي منا التي لا أبصار في الحقيقة سواها فلم نرها وهم فينا ومعنا في النار ولكن حجبهم عنا بعض أوديتها وجبالها ولهبها. ف
﴿أم﴾ معادلة لجملة السخرية، وقد
411
علم بهاذ التقدير أن معنى الآية إلى إنفصال حقيقي معناه: أهم معنا أم لا؟ فهي من الاحتباك: أثبت الاتخاذ المذكور الذي يلزمه بحكم العناد بين الجملتين عدم كون المستسخر بهم معهم في النار أولاً دليلاً على ضده ثانياً، وهو كونهم معهم فيها، وأثبت زيغ الأبصار ثانياً اللازم منه بمثل ذلك كونهم معهم في النار دليلاً على ضده أولاً وهو كونهم ليسوا معهم، وسر ذلك أن الموضع لتسحرهم ولومهم لأنفسهم، في غلطهم والذي ذكر عنهم أقعد في ذلك.
ولما كان هذا أمراً رائعاً جداً زاجراً لمن له عقل فتأمله مجرداً لنفسه من الهوى، وكانت الجدود تمنعهم عن التصديق به، كان موضعاً لتأكيد الخبر عنه فقال:
﴿إن ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي تقدم الإخبار به
﴿لحق﴾ أي ثابت لا بد من وقوعه إذا وقع مضمونة وافق الواقع منه هذا الإخبار عنه، ولما كان أشق ما فيه عليهم وأنكأ تخاصمهم جعله هو المخبر به وحده، فقال مبيناً له مخبراً عن مبتدإ استئنافاً تقديره: هو
﴿تخاصم أهل النار *﴾ لأنه ما أناره لهم إلا الشر والنكد فسمي تخاصماً.
412
ولما كانت قد جرت عادتهم عند التخويف أن يقولوا: عجل لنا هذا إن كنت صادقاً فينا ادعيت، ومن المقطوع به أنه لا يقدر على ذلك إلا الإله فصاروا كأنهم نسبوه إلى أنه ادعى الإلهية، قال تعالى منبهاً على ذلك آمراً له بالجواب:
﴿قل﴾ أي لمن يقول لك ذلك:
﴿إنما أنا منذر﴾ أي مخوف لمن عصى، ولم أدّع أني إله، ليطلب مني ذلك فإنه لا يقدر على مثله إلا الإله، فهو قصر قلب للموصوف على الصفة، وأفرد قاصراً للصفة في قوله:
﴿وما﴾ وأعرق في النفي بقوله:
﴿من إله﴾ أي معبود بحق لكونه محيطاً بصفات الكمال. ولما كان السياق للتوحيد الذي هو أصل الدين، لفت القول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه وأبين فقال:
﴿إلا الله﴾ وللإحاطة عبر بالاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى ولو شاركه شيء لم يكن محيطاً وللتفرد قال مبرهناً على ذلك:
﴿الواحد﴾ أي بكل اعتبار فلا يمكن أن يكون له جزء أو يكون له شبيه محتاجاً مكافئاً
﴿القهار *﴾ أي الذي يقهر غيره على ما يريد، وهذا برهان على أنه الإله وحده وأن آلهتهم بعيدة عن استحقاق الإلهية لتعددها وتكافئها بالمشابهة واحتياجها.
ولما وصف نفسه سبحانه بذلك، دل عليه بقوله:
﴿رب السماوات﴾ أي مبدعها وحافظها على علوها وسعتها وإحكامها بما لها من الزينة والمنافع، وجمع لأن المقام للقدرة، وإقامة الدليل على تعددها سهل
413
﴿والأرض﴾ على سعتها وضخامتها وكثافتها وما فيها من العجائب.
ولما كان القائل مخيراً كما قال ابن مالك في الكافية الشافية عند اختلاط العقلاء بغيرهم في إطلاق ما شاء من
«مَن» التي أغلب إطلاقها على العقلاء و
«ما» التي هي بعكس ذلك، وكان ربما وقع في وهم أن تمكنه تعالى من العقلاء دون تمكنه من غيرهم لما لهم من الحيل التي يحترزون بها عن المحذور، وينظرون بها في عواقب الأمور، أشار إلى أن حكمه فيهم كحكمه في غيرهم من غير فرق بالتعبير عنهم ب
«ما» التي أصلها وأغلب استعمالها لمن لا يعقل، وسياق العظمة بالوحدانية وآثارها دال على دخولها في العبادة قطعاً فقال:
﴿وما بينهما﴾ أي الخافقين من الفضاء والهواء وغيرهما من العناصر والنبات والحيوانات العقلاء وغيرها، ربي كل شيء من ذلك إيجاداً وإبقاء على ما يريد وإن كره ذلك المربوب، فدل ذلك على قهره، وتفرده في جميع أمره.
ولما كان السياق للإنذار، كرر ما يدل على القهر فقال:
﴿العزيز﴾ أي الذي يعز الوصول إليه ويغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، ولما ثبت أنه يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، وكانت دلالة الوصفين العظيمين على الوعيد أظهر من إشعارها بالوعد، كان موضع قولهم،
414
فما له لا يعجل بالهلاك لمن يخالفه فقال:
﴿الغفار *﴾ أي المكرر ستره لما يشاء من الذنوب حلماً إلى وقت الماحي لها بالكلية بالنسبة إلى من يشاء من العباد كما فعل مع أكثر الصحابة رضي الله عنهم حيث غفر لهم ما اقترفوه قبل الإسلام.
ولما ثبت بهذا وحدانيته وقدرته ولم يزعهم ذلك عن ضلالهم، ولا ردهم عن عتوهم ومحالهم، مع كونه موجباً لأن يقبل كل أحد عليه ولا يعدل أبداً عنه، قال آمراً له بما ينبههم على عظيم خطئهم:
﴿قل هو﴾ أي هذا الأمر الذي تلوته عليكم من الأخبار عن الماضي والآتي من القيامة المشتملة على التخاصم المذكور وغيرها والأحكام والمواعظ، فثبت بمضمونه الوحدانية، وتحقق بإعجازه مع ثبوت الوحدانية وتمام القدرة وجميع صفات الكمال أنه كلام الله:
﴿نبؤا عظيم *﴾ أي خبر يفوت الوصف في الجلال والعظم بدلالة العبارة والصفة لا يعرض عن مثله إلا غافل لا وعي له ولا شيء من رأى.
ولما كانوا يدعون أنهم أعظم الناس إقبالاً على الغرائب، وتنقيباً عن الدقائق والجلائل من المناقب، بكتهم بقوله واصفاً له:
﴿أنتم عنه﴾
415
أي خاصة لا عن غيره والحال أن غيره من المهملات ولما كان أكثرهم متهيئاً للإسلام والرجوع عن الكفران لم يقل: مدبرون، ولا
«يعرضون» بل قال:
﴿معرضون *﴾ أي ثابت لكم الإعراض في هذا الحين، وقد كان ينبغي لكم الإقبال عليه خاصة والإعراض عن كل ما عداه لأن في ذلك السعادة الكاملة، ولو أقبلتم عليه بالتدبر لعلمتم قطعاً صدقي وأني ما أريد بكم إلا السعادة في الدنيا والآخرة، فبادرتم الإقبال إليّ والقبول لما أقول.
ولما قصر نفسه الشريفة على الإنذار، وكانوا ينازعون فيه وينسبونه إلى الكذب، دل على صدقه وعلى عظيم هذا النبأ بقوله:
﴿ما كان لي﴾ وأعرق في النفي بالتأكيد في قوله:
﴿من علم﴾ أي من جهة أحد من الناس كما تعرفون ذلك من حالي له إحاطة ما
﴿بالملإ﴾ أي الفريق المتصف بالشرف
﴿الأعلى﴾ وهم الملائكة أهل السماوات العلى وآدم وإبليس، وكأن مخاطبة الله لهم كانت بواسطة ملك كما هو أليق بالكبرياء والجلال، فصح أن المقاولة بين الملأ
﴿إذ﴾ أي حين، ولما أفرد وصف الملأ إيذاناً بأنهم في الاتفاق في علو رتبة الطاعة كأنهم شيء واحد، جمع لئلا يظن حقيقة الوحدة فقال:
﴿يختصمون *﴾ أي في شأن آدم عليه السلام، أول خليفة في الأرض
416
بل الخليفة المطلق، لأن خلافه أولاده من خلافته، وفي الكفارات الواقعة من بينه، كما أنه ما كان لي من علم بأهل النار إذ يختصمون، ولا بالخصم الذين دخلوا على داود عليه السلام الذي جعله الله تعالى خليفة في الأرض إذ يختصمون، وقد علمت ذلك علماً مطابقاً للحق بشهادة الكتب القديمة وأنتم تعلمون أني لم أخالط عالماً قط، فهذا علم من أعلام النبوة واضح في أني لم أعلم ذلك إلا بالوحي لكوني رسول الله وعبر هنا بالمضارع - وإن كان قد وقع ومضى من أول الدهر - تذكيراً بذلك الحال وإعلاماً بما هم فيه الآن من مثله في الدرجات، كما سيأتي قريباً في الحديث القدسي، وعبر في تخاصم أهل النار - وهو لم يأت - بالماضي تنبيهاً على أن وقوعه مما لا ريب فيه، فكأنه وقع وفرغ منه لأنه قد فرغ من قضائه من لا يرد له قضاء، لأنه الواحد فلا شريك له ولا منازع.
ولما كانوا ربما قالوا في تعنتهم: فلعله مثل ما أوحي إليك بعلم ما لم تكن تعلم، يوحي إليك بالقدرة على ما لم تكن تقدر عليه، فتعجل لنا الموت ثم البعث لنرى ما أخبرتنا به من التخاصم مصوراً، لعلناً نصدقك فيما أتيت به، قال مجيباً لهم قاصراً للوحي على قصره على النذارة وهي إبلاغ ما أنزل إليه، لا تعجيل شيء مما توعدوا به:
﴿إن﴾ أي ما
﴿يوحى﴾ أي في وقت من الأوقات، وبناه للمفعول لأن
417
ذلك كاف في تنبيههم على موضع الإشارة في أن دعواه إنما هي النبوة لا الإلهية
﴿إليّ إلا﴾ ولما كان الوحي قولاً قرأ أبو جعفر بكسر
﴿إنما أنا نذير﴾ أي قصري على النذارة لا أني أنجز ما يتوعد به الله؛ فإنما مفعول يوحى القائم مقام الفاعل في القراءتين وإن اختلف التوجيهان فالتقدير على قراءة الجماعة بالفتح: إلا الإنذار أو إلا كوني نذيراً، وعلى قراءة الكسر: إلا هذا القول وهو أني أقول لكم كذا
﴿مبين *﴾ أي لا أدع لبساً فيما ابلغه بوجه من الوجوه.
418
ولما دل على أنه نذير، وأزال ما ربما أوردوه عليه، أتبعه ظرف اختصام الملأ الأعلى، أو بدل
«إذ» الأولى فقال:
﴿إذ﴾ أي حين
﴿قال﴾ ودل على أنه هذا كله إحسان إليه وإنعام عليه بذكر الوصف الدال على ذلك، ولفت القول عن التكلم إلى الخطاب لأنه أقعد في المدح وأدل على أنه كلام الله كما في قوله:
﴿قل من كان عدواً لجبريل﴾ [البقرة: ٩٧] دليلاً يوهم أنه ظرف ليوحى أو لنذير فقال:
﴿ربك﴾ أي المحسن إليك بجعلك خير المخلوقين وأكرمهم عليه فإنه أعطاك الكوثر، وهو كل ما يمكن أن تحتاج إليه
﴿للملائكة﴾ وهم الملأ الأعلى وإبليس منهم
418
لأنه كان إذ ذاك معهم وفي عدادهم. ولما كانوا عالمين بما دلهم عليه دليل من الله كما تقدم في سورة البقرة أن البشر يقع منه الفساد، فكانوا يبعدون أن يخلق سبحانه من فيه فساد لأنه الحكيم الذي لا حكيم سواه، أكد لهم سبحانه قوله:
﴿إني خالق بشراً﴾ أي شخصاً ظاهر البشرة لا ساتر له من ريش ولا شعر ولا غيرهما ليكون التأكيد دليلاً على ما مضى من مراجعتهم لله تعالى التي أشار إليها بالاختصام، وبين أصله بقوله معلقاً بخالق أو بوصف بشر:
﴿من طين *﴾ اجعله خليفتي في الأرض وإن كان في ذلك فساد لأني أريد أن أظهر حلمي ورحمتي وعفوي وغير ذلك من صفاتي التي لا يحسن في الحكمة إظهارها إلا مع الذنوب
«لو لم تذنبوا فتستغفروا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» قال القشيري: وإخباره للملائكة بذلك يدل على تفخيم شأن آدم عليه السلام لأنه خلق ما خلق من الكونين والجنة والنار والعرش والكرسي والملائكة، ولم يقل في صفة شيء منها ما قاله في صفة آدم عليه السلام وأولاده، ولم يأمر بالسجود لشيء غيره.
ولما أخبرهم سبحانه بما يريد أن يفعل، سبب عنه قوله:
﴿فإذا سويته﴾ أي هيأنه بإتمام خلقه لما يراد منه من قبول الروح وما يترتب عليه
﴿ونفخت فيه من روحي﴾ فصار حساساً متنفساً، سبه سبحانه إفاضته الروح بما يتأثر عن نفخ الإنسان من لهب النيران، وغير ذلك من التحريك والإسكان، والزيادة والنقصان، وأضافه سبحانه إليه تشريفاً له،
419
﴿فقعوا له﴾ أي خاصة
﴿ساجدين *﴾ أي اسجدوا له للتكرمة امتثالاً لأمري سجوداً هو بغاية ما يكون من الطواعية والاختيار والمحبة لتكونوا كأنكم وقعتم بغير اختيار، ففعلوا ما أمرهم به سبحانه من غير توقف، ولذلك ذكر فعلهم مع جواز تأنيثه فقال:
﴿فسجد﴾ أي عند ما نفخ فيه الروح
﴿الملائكة﴾ على ما أمرهم الله، ولما كان إسناد الخبر إلى الجميع قد يراد به أكثرهم، أكد بقوله:
﴿كلهم﴾ إرادة لرفع المجاز.
ولما كان لا يقدح في ذلك واحد مثلاً أو قليل لا يعبأ بهم لضعف أو نحوه، رفع ذلك بقوله:
﴿أجمعون*﴾ مع إفادة أن السجود كان في آن واحد إعلاماً بشدة انقيادهم، وحسن تأهبهم للطاعة واستعدادهم، ثم زاد في إيضاح العموم بالاستثناء الذي هو معياره فقال:
﴿إلا إبليس﴾ عبر عنه بهذا الاسم لكونه من الإبلاس وهو انقطاع الرجاء إشارة إلى أنه في أول خطاب الله له بالإنكار عليه على كيفية علم منها تأبد الغضب عليه وتحتم العقوبة له.
ولما عرف بالاستثناء أنه لم يسجد، وكان مبنى السورة على استكبار الكفرة بكونهم في عزة وشقاق، بين أن المانع له من السجود
420
الكبر تنفيراً عنه مقتصراً في شرح الاختصام عليه وعلى ما يتصل به فقال:
﴿استكبر﴾ أي طلب أن يكون أكبر من أن يؤمر بالسجود له وأوجد الكبر على أمر الله، وكان من المستكبرين العريقين في هذا الوصف كما استكبرتم أيها الكفرة على رسولنا، وسنرفع رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما رفعنا آدم صفينا عليه السلام على من استكبر عن السجود له، ونجعله خليفة هذا الوجود كما جعلنا آدم عليه السلام، وأشرنا إلى ذلك في هذه السورة بافتتاحها بخليفة واختتامها بخليفة أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذكر كل من أحوالهما.
ولما كان الفعل الماضي ربما أوهم أنه حدث فيه وصف لم يكن، وكان التقدير: فكفر بذلك، عطفاً عليه بياناً لأنه جبل على الكفر ولم يحدث منه إلا ظهور ذلك للخلق قوله:
﴿وكان﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿من الكافرين *﴾ أي عريقاً في وصف الكفر الذي منشؤه الكبر على الحق المستلزم للذل للباطل، فالآية من الاحتباك: ذكر فعل الاستكبار أولاً، دليلاً على فعل الكفر ثانياً ووصف الكفر ثانياً دليلاً على وصف الاستكبار أولاً، وسر ذلك أن ما ذكره أقعد في التحذير بأن من وقع منه كبر جره إلى الكفر.
421
ولما كان من خالف أمر الملك جديراً بأن يحدث إليه أمر ينتقم به منه، فتشوف السامع لما كان من الملك إليه، استأنف البيان لذلك بقوله:
﴿قال﴾ وبين أنه بمحل البعد بقوله:
﴿يا﴾ وبين يأسه من
421
الرحمة، وأنه لا جواب له اصلاً بتعبيره بقوله:
﴿إبليس ما﴾ أي، أي شيء
﴿منعك أن تسجد﴾ وبين ما يوجب طاعته ولو أمر بتعظيم ما لا يعقل بقوله معبراً بأداة ما لا يعقل عمن كان عند السجود له عاقلاً كامل العقل:
﴿لما خلقت﴾ فأنا العالم به وبما يستحقه دون غيري، وما أمرت بالسجود له إلا لحكمة في الأمر وابتلاء للغير، وأكد بيان ذلك بذكر اليد وتثنيتها فقال:
﴿بيدي﴾ أي من غير توسط سبب من بين هذا النوع وما ذاك إلا لمزيد اختصاص، والمراد باليد هنا صفة شريفة غير النعمة والقدرة معلومة له سبحانه ولمن تبحر في علمي اللغة والسنّة، خص بها خلق آدم عليه السلام تشريفاً له وفي تثنية اليد إشارة إلى أنه ربما أظهر فيه معاني الشمال وإن كان كل من يديه مباركاً، ثم قسم المانع إلى طلب العلو ووجود العلو مع الإنكار عليه في الاستناد إلى شيء منهما، فقال في صيغة استفهام التقرير مع الإنكار والتقريع، بياناً لأنه يلزمه لا محالة زيادة على ما كفر به أن يكون على أحد هذين الأمرين:
﴿أستكبرت﴾ أي طلبت أن تكون أعلى منه وأنت تعلم أنك دونه فأنت بذلك ظالم، فكنت من المستكبرين العريقين في وصف الظلم، فإن من اجترأ على أدناه أوشك أن يصل إلى أعلاه
﴿أم كنت﴾ أي مما لك من الجبلة الراسخة
﴿من العالين *﴾ أي الكبراء المستحقين للكبر وأنا لا أعلم ذلك فنقصتك من منزلتك فكنت جائراً في أمري
422
لك بما أمرتك به، فلذلك علوت بنفسك فلم تسجد له، هذا المراد لا ما يقوله بعض الملاحدة من أن العالين جماعة من الملائكة لم يسجدوا لأنهم لم يؤمروا لأن ذلك قدح في العموم المؤكد هذا التأكيد العظيم، وفي تفسير العلماء له من غير شبهة، والآية من الاحتباك؛ دل فعل الاستكبار أولاً على فعل العلو ثانياً، ووصف العلو ثانياً على وصف الاستكبار أولاً، وسر ذلك ان إنكار الفعل المطلق مستلزم لإنكار المقيد لأنه المطلق بزيادة، وإنكار الوصف مستلزم لإنكار الفعل لأنه جزوه مع أن إنكار الفعل من هذا مستلزم لإنكار الفعل من ذاك، فيكون كل من الفعلين مدلولاً على إنكاره مرتين: تارة بإنكار فعل عديله وأخرى بإنكار وصفه نفسه والوصفان كذلك وفعل الكبر أجدر بالإنكار من فعل العلو و
«أم» معادلة لهمزة الاستفهام وإن حذفت من قراءة بعضهم لدلالة
«أم» عليها وإن اختلف الفعل، قال أبو حيان: قال سيبويه: تقول: أضربت زيداً أم قتلته، فالبدء هنا بالفعل أحسن لأنك إنما تسأل عن أحدهما لا تدري أيهما كان، ولا تسأل عن موضع أحدهما كأنك قلت: أي ذلك كان - انتهى.
423
ولما صدعه سبحانه بهذا الإنكار، دل على إبلاسه بقوله مستأنفاً:
﴿قال﴾ مدعياً لأنه من العالين:
﴿أنا خير منه﴾ أي فلا حكمة في أمري بالسجود له، ثم بين ما ادعاه بقوله:
﴿خلقتني من نار﴾ أي وهي في غاية القوة والإشراق
﴿وخلقته من طين *﴾ أي وهو في غاية الكدورة والضعف، واستؤنف بيان ما حصل التشوف إليه من علم جوابه بقوله معرضاً عن القدح في جوابه لظهور سقوطه بأن المخلوق المربوب لا اعتراض له على ربه بوجه:
﴿قال فاخرج﴾ أي بسبب تكبرك ونسبتك الحكيم الذي لا اعتراض عليه إلى الجور
﴿منها﴾ أي من الجنة محل الطهر عن الأدواء الظاهرة والباطنة، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لأجل ادعاء أنه أهل لأقرب القرب:
﴿فإنك رجيم *﴾ أي مستحق للطرد والرجم وهو الرمي بالحجارة الذي هو للمبالغة في الطرد.
ولما كان الطرد قد يكون في وقت يسير، بين أنه دائم بقوله، مؤكداً إشارة إلى الإعلام بما في نفسه من مزيد الكبر:
﴿وإن عليك﴾ أي خاصة. ولما كان السياق هنا للتكلم في غير مظهر العظمة لم يأت بلام الكلام بخلاف الحجر فقال:
﴿لعنتي﴾ أي إبعادي مع الطرد والخزي والهوان والذل مستعل ذلك عليك دائماً قاهراً لك لا تقدر على الانفكاك
424
عنه بوجه، وأما غيرك فلا يتعين للعن بل يكون بين الرجاء والخوف لا علم للخلائق بأنه مقطوع بلعنة ما دام حياً إلا من أخبر عنه نبي من الأنبياء بذلك، ثم غيى هذا اللعن بقوله:
﴿إلى يوم الدين *﴾ أي فإذا جاء ذلك اليوم أخذ في المجازاة لكل عامل بما عمل ولم يبق لمذنب وقت يتدارك فيه ما فاته، وحينئذ يعلم أهل الاستحقاق للعن كلهم، ولم يبق علم ذلك خاصاً بإبليس، بل يقع العلم بجميع أهل اللعنة، فالغاية لعلم الاختصاص باللعن لا للعن.
ولما كان ذلك، تشوف السامع إلى ما كان منه فأخبر سبحانه به في سياق معلم أنه منعه التوفيق فلم يسأل التخفيف ولا عطف نحو التوبة، بل أدركه الخذلان بالتمادي في الطغيان، فطلب ما يزداد به لعنة من الإضلال والإعراق في الضلال ضد ما أنعم به على آدم عليه السلام، فقال ذاكراً صفة الإحسان والتسبيب لسؤال الإنظار لما جرأه عليهما من ظاهر العبارة في أن اللعنة مغباة بيوم الدين:
﴿قال رب﴾ أي أيها المحسن إليّ بإيجادي وجعلي في عداد الملائكة الكرام
﴿فأنظرني﴾ أي بسبب ما عذبتني به من الطرد
﴿إلى يوم يبعثون *﴾ أي آدم وذريته الذين تبعثهم ببعث جميع الخلائق:
﴿قال﴾ مؤكداً لأن
425
مثل ذلك في خرقه للعادة لا يكاد يتصور:
﴿فإنك﴾ أي بسبب هذا السؤال
﴿من المنظرين *﴾ وهذا يدل أن مثل هذا الإنظار لغيره أيضاً.
426
ولما دبج في عبارته بما يقتضي السؤال في أن لا يموت، فإن يوم البعث ظرف لفيض الحياة لا لغيضها ولبسطها لا لقبضها، منعه ذلك بقوله:
﴿إلى يوم الوقت﴾ ولما كان تدبيجه في السؤال قد أفهم تجاهله بما هو أعلم الخلق به من تحتم الموت لكل من لم يكن في دار الخلد الذي أبلغ الله تعالى في الإعلام به، قال:
﴿المعلوم *﴾ وهو الصعقة الأولى وما يتبعها.
ولما كانت هذه الإجابة سبباً لأن يخضع وينيب شكراً عليها، وأن يطغى ويتمرد ويخيب لأنها تسليط، وتهيئة للشر، فاستشرف السامع إلى معرفة ما يكون من هذين المسببين، عرف أنه منعه الخذلان من اختيار الإحسان بقوله:
﴿قال فبعزتك﴾ أي التي أبت أن يكون لغيرك فعل لا بغير ذلك، ويجوز أن تكون الباء للقسم
﴿لأغوينهم﴾ أي ذرية آدم عليه السلام
﴿أجمعين *﴾ قال القشيري: ولو عرف عزته لما
426
أقسم بها على مخالفته.
ولما كان عالماً بأن القادر ما خلق آدم عليه السلام وشرفه بما شرفه به ليشقي ذريته كلهم قال:
﴿إلا عبادك﴾ فأضافهم إليه سبحانه تنبيهاً على أن غيرهم قد انسلخوا من التشرف بعبوديته بالنسبة إلى من أطاعوه. ولما كان يمكن أن يكون المستثنى، من غير البشر قيد بقوله:
﴿منهم المخلصين *﴾ أي الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته فأخلصوا قصدهم لها، وعرف من الاستثناء أنهم قليل وأن الغواة هم الأصل.
ولما حصل التشوف إلى جوابه، دل عليه بقوله:
﴿قال فالحق﴾ أي فبسبب إغوائك وغوايتهم أقول الحق
﴿والحق﴾ أي لا غيره أبداً
﴿أقول *﴾ أي لا أقول إلا الحق، فإن كل شيء قلته ثبت، فلم يقدر أحد على نقضه ولا نقصه. ولما كانت إجابته بالإنظار ربما كانت سبباً لطمعه في الخلاص، قطع رجاءه بما أبرزه في أسلوب التأكيد من قوله جواباً لقسم مقدر وبياناً للحق، وفي قراءة عاصم وحمزة برفع
﴿فالحق﴾ يكون هو المقسم به أي فالحق قسمي، والجواب
﴿لأملأن﴾ وما بينهما اعتراض مبين أن هذا مما لا يخلف اصلاً
﴿جهنم﴾ أي النار العظيمة التي من شأنها تجهم من حكم بدخوله إياها
﴿منك﴾ أي نفسك وكل من كان على شاكلتك من جنسك من
427
جميع الجن
﴿وممن﴾.
ولما كان الأغلب على سياقات هذه السورة سلامة العاقبة، كان توحيد الضمير في
﴿تبع﴾ أولى، وليفهم الحكم على كل فرد ثم الحكم على المجموع فقال:
﴿تبعك﴾ ولما كان ربما قال متعنت: إن المالىء لجهنم من غير البشر قال:
﴿منهم﴾ أي الناس الذين طلبت الإمهال لأجلهم، وأكد ضمير
﴿منك﴾ والموصول في
﴿ممن﴾ بقوله:
﴿أجمعين *﴾ لا تفاوت في ذلك بين أحد منكم، وهذا الخصام الذي بين سبحانه أنه كان بين الملأ الأعلى كان سبباً لهم إلى انكشاف علوم كثيرة منها أن السجود والتحيات والاستغفار والكفارات سبب الوصول إلى الله والقربات، فصاروا بعد ذلك يختصمون فيها، فكانت هذه القضية سبباً لاطلاع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أسرار الملك والملكوت، وإلى ذلك الإشارة بالحديث الذي رواه أحمد والترمذي - وقال: حسن غريب - والدارمي والبغوي في تفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«إني نعست فاستثقلت
428
نوماً فأتاني ربي» - وفي رواية؛
«آتٍ من ربي - في أحسن صورة، فقال لي يا محمد، قلت: لبيك ربي وسعديك، قال: هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى، فقلت لا يا رب» - وفي رواية:
«قلت: أنت أعلم أي رب مرتين - قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي - أو قال: نحري - فعلمت ما في السماوات وما في الأرض» - وفي رواية:
«ما بين المشرق والمغرب» - وفي رواية الدارمي والبغوي:
«ثم تلا هذه الآية ﴿وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين﴾ قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى، قلت: نعم، في الدرجات والكفارات، قال: وما هن؟ قلت: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره» - وفي رواية:
«في السبرات - وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال: من فعل ذك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد، قلت: لبيك وسعديك، قال: إذا صليت فقل» اللهم إني أسالك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك
429
غير مفتون
«قال:» والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام «، قال المنذري: الملأ الأعلى: الملائكة المقربون، والسبرات - بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة: جمع سبرة، وهي شدة البرد، وعزاه شيخنا في تخريج أحاديث الفردوس إلى أحمد والترمذي عن معاذ رضي الله عنه أيضاً وقال: وفي الباب عن ثوبان رضي الله عنه عند أحمد بن منيع وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، وأبي رافع وأبي أمامة وأبي عبيدة وأسامة وجابر بن سمرة وجبير بن مطعم وأسامة بن عمير وأنس رضي الله عنهم عند أحمد، فهذا اختصام سبب العلم بتفاصيله الاختصام الأول وهو ما في شأن آدم عليه السلام وذريته، والعلم الموهوب لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبب السؤال عن هذا الاختصام كالعلم الموهوب لأبيه آدم عليه عليه السلام بسبب ذلك الاختصام، وهذا الاختصام - والله أعلم - هو اختلافهم في مقادير جزاء العاملين من الثواب المشار إليه بالدرجات الحامل عليها العقل الداعي إلى أحسن تقويم، والعقاب المشار إليه بالكفارات الداعي إلى أسبابها الوساوس الشيطانية الرادة إلى أسفل سافلين التي سأل إبليس الإنظار لأجلها، وسبب اختلافهم في
430
مقادير الجزاء اختلاف مقادير الأعمال الباطنة من صحة النيات وقوة العزائم وشدة المجاهدات ولينها على حسب دواعي الحظوظ والشهوات التي كان سبب علمهم بهذا الاختصام في أمر آدم عليه السلام وما نشأ عنه تفصيله بأمور دقيقة المأخذ المظهرة لأن الفضل ليس بالأمور الظاهرة وإنما هو بما يهبه الله من الأمور الباطنة وسمي تقاولهم في ذلك اختصاماً دلالة على عظمة ما تقاولوا فيه، لأن الخصومة لا تكون إلا بسبب أمر نفيس، فالمعنى أن الملائكة كل واحد منهم مشغول بما أقيم فيه من الخدمة، فليس بينهم تقاول يكون بغاية الجد والرغبة كما هو شأن الخصام إلا في هذا لشدة عجبهم منه لما يعملون من صعوبة هذه الأمور على الآدمي لما عنده من الشواغل والصوارف عنها بما وهبهم الله من العلم جزاء لانقيادهم للطاعة بالسجود بعد ذلك الخصام فنزوع الآدمي عن صوارفه وحظوظه إلى ما للملائكة من الصفوف في الطاعة والإعراض أصلاً عن المعصية غاية في العجب، وعلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما في السماوات وما في الأرض علم عام لما كان في حين الرؤيا ظهر له به ملكوتهما، ونسبة ذلك كله إلى علم الله تعالى كالنسبة التي ذكرها الخضر لموسى عليهما السلام في نفرة العصفور من البحر، والذي ذكره العلماء في ذلك أنه تقريب للإفهام فإنه لا نسبة في الحقيقة لعلم أحد من علمه تعالى ولا بنقص علمه أصلاً سبحانه عما يلم بنقص أو يدني إلى وهن
{قل
431
لو كان البحر مداداً} [الكهف: ١٠٩]
﴿ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام﴾ [لقمان: ٢٧]
﴿يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا﴾ [المائدة: ١٠٩] ويقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ناس اختلجوا دونه عن حوضه
«إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فيقول: فسحقاً سحقاً».
ولما تم ما أراد من الدليل على أن ما ذكره لهم نبأ عظيم هم عنه معرضون بما أخبر به من الغيب مع ما له من الإعجاز، فثبت بذلك ما اقتضى أنه صادق في نسبته إلى الله تعالى، وختم بالتحذير من اتباع إبليس، أمره بالبراءة من طريقه وأن ينفي عن نفسه ما قد يحمل على التقول بقوله:
﴿قل﴾ أي لأمتك:
﴿ما أسئلكم﴾ سؤالاً مستعلياً، وعلق به لا
«بأجر» قوله:
﴿عليه﴾ أي على التبليغ والإنذار مما أنتم متعرضون له من الهلاك بالإعراض، فأداة الاستعلاء للاحتراز عن سؤال المودة في القربى وحسن الاتباع فإنهما مسؤولان وهما روح الدين، ولكن سؤالهما ليس مستعلياً على الإبلاغ بحيث إنهما لو انتفيا انتفى، وأعرق في النفي بقوله:
﴿من أجر﴾ أي فيكون لكم في الرد شبهة
﴿وما أنا من المتكلفين *﴾ أي المتحلين بما ليسوا من أهله من قول
432
ولا فعل، الذين يكلفون أنفسهم تزوير الكلام والتصنع فيه وترتيبه على طريق من الطرق بنظم أو نثر سجع أو خطب أو غير ذلك، أو وضع أنفسهم في غير مواضعها، كما فعل إبليس، لست منهم بسبيل ولا أعد في عدادهم بوجه، لا أفعل أفعالهم ولا أحبهم ولا أتعصب لهم، فهو أبلغ من
«وما أنا متكلفاً» قد عرفتموني طول عمري كذلك، ومن المعلوم أن ذلك لو كان في غريزتي لما كففت عنه طول زماني النمو من الصبي والشباب اللذين توجد فيهما الغرائز ولا توجد بعدهما، فإذا ثبت أن ذلك لم يكن لي إذ ذاك ثبت أنه متعذر بعده، لما تقرر من أنه لا توجد غريزة بعد الوقوف عن النمو في سن الثلاث والأربعين، فإذا علم أني لست كذلك علم أني مأمور بما أنا فيه من القول والفعل، فأنا من المكلفين لا المتكلفين، فكل من قال أو فعل ما لم يؤمر به فهو متكلف، وروى الثعلبي بسنده من حديث سلمة بن نفيل رضي الله عنه مرفوعاً والبيهقي في الشعب من قول علي بن أرطاة وأبو نعيم في الحلية من قول وهب: علامة المتكلف ثلاث: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم.
ولما أثبت المقتضيات لأنه من عند الله وأزال الموانع، بين حقيقته التي لا يتعداها إلى ما نسبوه إليه بقوله:
﴿إن﴾ أي ما
﴿هو إلا ذكر﴾
433
أي عظة وشرف
﴿للعالمين *﴾ أي كلهم يفهم كل فرد ما تحتمله قواه ذكياً كان أو غبياً على ما هو عليه من العلو الذي لا يدانيه فيه كلام بخلاف الشعر والكهانة التي محطها السجع والكذب في الإختبار ببعض المغيبات، فإنهما مع سفول رتبتهما لا يفهمهما من العالمين إلا ذاك وذاك.
ولما كان التقدير: أنا عالم بذلك، عطف عليه قوله جواباً لقسم:
﴿ولتعلمن﴾ أي أنتم أيضاً
﴿نبأه﴾ أي صدقي في جميع ما أنبأتكم به فيه وعنه من الأخبار العظيمة وفيما أشار إليه افتتاح هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه السورة بخليفة وختامهم بخليفة من أن عزتكم تصير إلى ذل وشقاقكم يصير إلى مسالمة وألفة، وكثرتكم تصير إلى قل، وأن ما أنا فيه الآن يفضي بي إلى خلافة الله في أرضه، وأن أوسط أمري يصير إلى مثل خلافة الأول في جميع جزيرة العرب التي هي أرض المسجد الأعظم الذي هو قبل المسجد الأقصى الذي هو محل خلافته، ثم يزاد أمر خلافتي في سائر البلاد ولا يزال حتى يعم الأرض بطولها والعرض على يد ابنه عيسى عليه السلام خاتمة أكابر أتباعي
434
وأنصاري وأشياعي، وترك الجار إعلاماً باستغراق العلم لزمان البعد فقال:
﴿بعد حين *﴾ أي مبهم عندكم معلوم لي في الدنيا إذا ظهر عبادي عليكم وفي الآخرة مطلقاً، وإنما أخروا إلى هذا الحين ليبلغ في الإعذار إليهم فتنقطع حججهم وتتناهى ذنوبهم التي يستحقون الأخذ بها، ولقد والله علموا ذلك ثم ندموا من مات منهم ومن عاش قبل مضي عشرين سنة من إعلاء كلمته وإظهار رسالته وإتمام دينه، واستمر العلم لهم ولمن بعدهم بما بث فيه من العلوم، وجمع فيه من شريف الرسوم، وأظهر مما تقدم الوعد به فيه إلى هذا الزمان، وإلى أن يفنى كل فان، ثم يبعثوا إلى الجنان أو النيران، فقد أثبتت هذه الآية من كون القرآن ذكراً ما أثبتته أول آية فيها على أتم وجه مع زيادة الوعيد، فانعطف الآخر على الأول، واتصل به أحسن اتصال وأجمل، ونظر إلى أول الزمر أعظم نظر وأكمل، فلله در هذا الانتظام، فهو لعمري أضوأ من شمس الضحى وأتم من بدر التمام، فسبحان من أنزله وأجمله وفصله، وفضله وشرفه وكرمه - والله أعلم.
435
سورة الزمر
مقصودها الدلالة على أنه سبحانه وتعالى صادق الوعد، ، أنه غالب لكل شيء، فلا يعجل لأنه لا يفوته شيء، ويضع الأشياء في أوفق محالها يعرف ذلك أولو الألباب المميزون بين القشر واللباب، وعلى ذلك دلت تسميتها الزمر لأنها إشارة إلى أنه أنزل كلا من المحشورين داره المعدة له بعد الإعذار في الإنذار، والحكم بينهم بما استحقته أعمالهم، عدلا منه سبحانه في أهل النار، وفضلا على المتقين الأبرار، وكذا تسميتها) تنزيل (لمن تأمل آيتها، وحقق عبارتها وإشارتها، وكذا) الغرف (، لأنها إشارة إلى حكمه سبحانه في الفريقين أهل الظلل النارية والغرف النورية، تسمية للشيء بأشرف جزئيه، فالقول فيها كالقول في الزمر سواء، ويزيد أهل الغرف ختام آيتهم) وعد الله لا يخاف الله الميعاد () بسم الله (الذي تمت كلمته فع أمره) الرحمن (الذي وضع، رحمته العامة أحكم وضع فدق لذي الأفهام سره) الرحيم (الذي خص أولياءه بالتوفيق لطاعته فعمهم بره.
436