ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١ الى ٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣). (١) أضل أعمالهم: أحبطها أو لم يوفقهم فيها إلى الرشاد، أو أبطل كيدهم.
(٢) أصلح بالهم: أصلح أمورهم أو سكن روعهم.
في الآيات:
(١) تنديد بالكافرين الذين يصدون عن سبيل الله بالإضافة إلى كفرهم وإيذان بأن الله أبطل كيدهم وأحبط أعمالهم.
(٢) وتنويه بالمؤمنين الصالحي الأعمال المصدقين برسالة النبي وما أنزل عليه وإيذان بتكفير الله عنهم سيئاتهم وبإصلاحه لأمورهم وتهدئته لروعهم.
(٣) وتعليل للتنديد والتوبة والإيذان. فالكفار ضالون متبعون للباطل.
والمؤمنون مهتدون متبعون للحق. وكل ينال ما يطابق خطته وعمله. وهذا جريا على عادة الله في ضربه الأمثال للناس للتذكير والموعظة.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات.
وإنما رووا عن ابن عباس أن الآية الأولى نزلت في كفار مكة والثانية في الأنصار.
ووصف الكفار بأنهم الذين صدوا عن سبيل الله قد يجعل صرف الآية الأولى إلى كفار مكة صوابا ووجيها. غير أن الآية الثانية من شأنها أن تكون شاملة لمؤمني الأنصار والمهاجرين معا. ومهما يكن من أمر فالمتبادر المستلهم من روحها وروح الآيات التالية أن الآيات مقدمة لما بعدها.
ولقد قال المفسرون «١» إن جملة أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ تعني أنه أذهب فضل
هذا، وعبارة الآيات المطلقة تشمل في الوقت ذاته كل كافر حاد عن سبيل الله وكل مؤمن صالح العمل في كل ظرف. وعلى هذا الاعتبار ينطوي فيها أولا تعليل لما يحل بالكافرين من سخط الله ولما يناله المؤمنون من عفوه ورضائه. وهو تعليل متسق مع ما جاء من ذلك في مناسبات كثيرة سابقة ومع المبدأ القرآني المحكم المتكرر بأن كل فئة تنال من الجزاء حسب ما تختاره وتسير فيه من طريقي الضلال والهدى. وثانيا تلقين مستمر المدى بتقبيح الباطل وأهله وتقرير لما ينتج عن أعمالهم من شرّ وضرر عليهم وتحسين الحق ومتبعيه وتقرير لما ينتج عن أعمالهم من خير وفائدة. وهو ما تكرر في القرآن بأساليب عديدة.
ومع ما قلناه فإننا نكرر هنا ما ذكرناه في مناسبات سابقة أن ما ذكر من أمر الكافرين بالنسبة لظروف الآيات هو من قبيل تسجيل الواقع وليس هو على التأبيد.
إلّا بالنسبة لمن يستمر على كفره وصده عن سبيل الله.
وكالعادة وقف مفسرو الشيعة عند الآية الثالثة وفسروا الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ بأنهم أعداء علي وآل الرسول رغم الصراحة القطعية على أنها في صدد الكافرين بالله مقابل الذين آمنوا... «٢».
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٤ الى ٦]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦).
(٢) التفسير والمفسرون للذهبي ج ٢ ص ٧١.
(٢) فشدوا الوثاق: ائسروهم وقيدوهم بالقيود.
(٣) فإما منّا بعد وإما فداء: فإما أن تمنوا عليهم فتطلقوهم بدون فداء وإما أن تطلقوهم بفداء بعد ذلك.
(٤) حتى تضع الحرب أوزارها: حتى تنتهي حالة الحرب ويخلص الناس من أثقالها.
(٥) عرّفها لهم: وصفها لهم أو أخبرهم بمنازلهم فيها.
الخطاب في الآيات موجّه إلى المسلمين كما هو المتبادر. وقد تضمنت:
(١) أمرا لهم بأن عليهم إذا لقوا الكافرين في الحرب أن يصدقوا في قتالهم حتى إذا أكثروا فيهم القتل وقهروهم وضمنوا لأنفسهم الغلبة عليهم جنحوا إلى أسر ما بقي منهم، ويظل أمرهم معهم على هذا المنوال حتى تنتهي حالة الحرب ويتخلص الناس من أعبائها.
(٢) وتشريعا في حق الأسرى. فالمسلمون مخيرون فيهم بعد ذلك: فإما أن يمنوا ويتفضلوا عليهم فيطلقوهم بدون فداء وإما أن يطلقوهم بفداء.
(٣) واستطرادا تنبيهيا بأن الله قادر على التنكيل بالكفار والانتصار للمسلمين منهم بدون حاجة إلى قتالهم. ولكن حكمته شاءت أن يبلو بعضهم ببعض.
(٤) وبشارة وتطمينا بأن الله تعالى لن يضيع أجر الذين قتلوا في سبيله. وأنه سيهدىء روعهم ويقرّ عيونهم ويدخلهم الجنة التي وصفها لهم.
وقد أول الزمخشري جملة وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ بمعنى أن الله شاءت حكمته بدلا من الانتقام منهم بدون قتال أن يبلو المؤمنين بالكافرين فيجاهدوا ويصبروا حتى يستوجبوا الثواب. والكافرين بالمؤمنين ليعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب. وقال غيره في
وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الجملة انطوت على تقرير كون قتال المسلمين للكفار هو الأكثر اتساقا مع طبائع الأشياء والأدعى إلى إيقاع هيبة المسلمين في قلوب الكفار أو أنها رمت إلى معالجة جوابية لما يمكن أن يقوم في أذهان بعض المسلمين من تساؤل عما إذا لم يكن الأولى أن يبطش الله بالكفار وينتقم منهم دون تعريض المسلمين لشدة الحرب وخسارة الأرواح. ومثل هذه المعالجة سبق في سورتي الأنفال وآل عمران.
ولقد أورد ابن كثير على هامش الآيات [٤- ٦] أحاديث نبوية عديدة في فضل الشهيد وثوابه عند الله عز وجل. ولقد أوردناها مع طائفة أخرى من الأحاديث من بابها في سياق آية سورة البقرة [١٥٤] فنكتفي بهذه الإشارة.
تعليق على الآية فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ.. إلخ والآيتين التاليتين لها ومسألة أسرى الحرب والرقّ
ولم نطلع على مناسبة خاصة للآيات. والمتبادر المستلهم من مضمونها وروحها أنها خطاب عام في معرض الحضّ على قتال الكفار مطلقا.
وإضافة تعبير وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إلى جملة الَّذِينَ كَفَرُوا في الآية الأولى من السورة تدل على أن الأمر الذي احتوته الآية الأولى من الآيات التي نحن بصددها أي الآية الرابعة بقتال الكفار وضرب رقابهم حينما يلقاهم المسلمون هو صدّ الكفار الناس عن سبيل الله مع كفرهم. والصدّ يتناول تعطيل الدعوة والكيد لها والعدوان على المسلمين. وتعبير لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ مما يؤيد ذلك، لأن الانتصار هو ردّ العدوان ومقابلته بالمثل. وهكذا يكون الأمر بالقتال هنا متسقا مع المبادئ الجهادية التي انطوت عليها الآيات القرآنية وهي قتال المعتدي وليس قتال الكافر
وينطوي في جملة إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ حكم قرآني في هدف القتال وهو أنه ليس للإبادة وإنما هو للتأديب والتنكيل والقهر. فحينما تتحقق هذه الغاية وجب الكفّ عن القتل والجنوح إلى الأسر.
وليس من تعارض بين هذا الحكم وبين ما ورد في جملة ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الواردة في آية الأنفال [٦٧] بل وبينهما توافق. فهذه الجملة لم تمنع الأسر وإنما نبهت إلى أنه لا ينبغي أن يكون إلا بعد أن تكون هيبة النبي وقوته قد توطدتا في قلوب الأعداء ولم يبق من حرج في الأسر منهم بدلا من إبادتهم بالقتل، وحكم الجملة التي نحن في صددها قد سمحت بالأسر إذا ما أثخن المسلمون في أعدائهم وقهروهم وتحققت لهم الغلبة عليهم.
وقد أورد المفسرون»
أقوالا معزوة إلى ابن عباس وعلماء التابعين في صدد تأويل جملة حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها منها أنها بمعنى حتى تنتهي الحرب القائمة مع الكفار بتوبتهم وإسلامهم والانتهاء عن الشرك. ومنها أنها بمعنى الاستمرار في حرب الكفار إلى أن لا يكون في الأرض شرك أو حتى ينزل عيسى عليه السلام ويدخل الناس في دين الإسلام. وقد أورد البغوي في تأييد هذا القول حديثا عن النبي ﷺ جاء فيه «الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال».
ونحن نتوقف في التسليم بهذا التأويل على إطلاق. لأن هناك أحداثا يقينية الوقوع في العهد المدني تعارضه. منها أن النبي ﷺ قبل الفداء من أسرى بدر وأطلقهم وهم كفار وعادوا إلى مكة. وهذا ما انطوى في آيات سورة الأنفال [٦٧- ٦٩] التي مرّ شرحها ومنها مصالحة النبي ﷺ المشركين مع بقائهم على شركهم في صلح الحديبية الذي انطوى خبره في سورة الفتح المتأخرة كثيرا عن هذه السورة. وقد دخل نتيجة لذلك بنو بكر في صلح قريش وبنو خزاعة في صلح النبي
وقياسا على هذا القول الذي نرجو أن يكون هو الصواب فيمكن القول إنه يشمل كل حالة حرب تكون بين المسلمين والأعداء المستحقين للقتال من الكفار كما هو المتبادر. ولقد أورد البغوي قولا للكلبي لجملة حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها إنها بمعنى حتى يسلموا أو يسالموا وقولا للفراء إنها بمعنى حتى لا يبقى إلّا مسلم أو مسالم. والتأويلان يدعمان تأويلنا كما هو واضح.
وجملة فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً صريحة في أنها تجعل للمسلمين الخيار في الأسرى الذين يأسرونهم من الكفار بعد أن تنتهي حالة الحرب بأحد الشكلين السابقين بين المنّ والتسريح بدون فداء، والتسريح بالفداء. وصاحب الخيار هو ولي أمر المسلمين بطبيعة الحال.
وهذه هي المرة الثالثة التي يرد فيها حكم قرآني في صدد أسرى الأعداء.
وكانت المرة الأولى في آيات الأنفال [٦٧- ٦٩] أما آية سورة الأحزاب [٢٦] فإنها لم تحتو على حكم قرآني وإنما احتوت على حكاية ما فعله المسلمون ببني قريظة حكاية قد تنطوي على إقرار ذلك. ولسنا نرى تناقضا أو تعارضا بين آيات الأنفال والآية الرابعة التي نحن في صددها فآيات الأنفال تنبه على أنه لم يكن من مصلحة الإسلام والمسلمين أخذ أسرى من الأعداء قبل أن يثخن فيهم ويوقع الرعب في قلوبهم. وهذه الآيات تجيز ذلك في حال تحقق الإثخان والرعب. ويكون كل من آيات السورتين مستمر المدى والتلقين حسب ظروف الأحداث ومصلحة المسلمين العامة وحالة المسلمين والعدو المادية والمعنوية.
ولقد كانت جملة فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً مما تعددت الأقوال في حكمها ومداها في كتب المفسرين «١» عزوا إلى ابن عباس ومجاهد والضحاك والشافعي
وأن له أن يقتل أيضا لأن ذلك أبيح له في آية التوبة المذكورة آنفا. ومنها أن الآية لا تبيح القتل وحكمها هذا محكم، وللإمام أن يمنّ أو يفادي أو يسترقّ. ويلحظ أن هذه التأويلات هي اجتهادية. وغير متسقة مع فحوى الجملة التي تحصر الحكم بين المنّ والفداء حيث يكون قائلوها قد مزجوا بينها وبين أحكام قرآنية ونبوية أخرى. ولقد مارس النبي ﷺ أربع طرق مع الأسرى. وهي المنّ والفداء والاسترقاق والقتل على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة الأنفال والأحزاب في أسرى بدر وبني قريظة. ومن صور المفاداة التي مارسها مفاداة مسلم بابن أبي سفيان وإيجاب تعليم بعض أبناء المسلمين على أسرى قريش الذين لم يكن معهم ما يفتدون به أنفسهم على ما ذكرناه في سياق تفسير آيات الأنفال. ولقد روى الترمذي عن عمران بن الحصين «أن النبي ﷺ فدّى رجلين من المسلمين برجلين من المشركين» «١» ولقد روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة حديثا فيه حادث منّ نبوي مع غير أسرى بدر وقريظة في سياق طريف رأينا إيراده جاء فيه قال أبو هريرة «بعث رسول الله ﷺ بخيل قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيّد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندي يا محمد خير. إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر. وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه النبي حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة قال ما قلت لك فتركه رسول الله حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندي ما قلت لك فقال رسول الله أطلقوا ثمامة فذهب إلى
الجزء الثامن من التفسير الحديث ٢٠
وروى البخاري وأبو داود عن مروان حديثا فيه حادث منّ آخر لسبي هوازن بعد أن تقرر استرقاقه وقسم على المسلمين. وفيه صورة رائعة من صور مشاورة النبي ﷺ للمسلمين واسترضائه إياهم جاء فيه «جاء وفد هوازن مسلمين إلى النبي وسألوه أن يردّ إليهم أموالهم وسبيهم (وكان المسلمون استولوا عليها في يوم حنين) فقال لهم أحبّ الحديث إليّ أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال وقد كنت استأنيت بهم فكان النبي انتظر آخرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف. قالوا إنا نختار سبينا فقام رسول الله في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنّ إخوانكم هؤلاء قد جاؤوا تائبين وإني رأيت أن أردّ إليهم سبيهم. من أحبّ أن يطيّب فليفعل ومن أحبّ منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل فقال الناس طيّبنا ذلك لهم يا رسول الله. فقال لهم رسول الله إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلّمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى النبي ﷺ فأخبروه أنهم قد طيّبوا وأذنوا» «٢» وشيء من هذا روي في صدد سبي بني المصطلق حيث روي أن النبي ﷺ أغار عليهم وقتل بعضهم وسبى سبيا منهم وكانت جويرية بنت الحارث زعيمهم من السبي وقسم السبي على أصحابه فوقعت
(٢) المصدر نفسه ص ٣٥٥. [.....]
فلما عرف الناس قالوا إنهم صاروا أصهار رسول الله فأطلقوا ما في أيديهم من السبي فكانت أعظم امرأة بركة على قومها «١».
وتلخيصا لما مرّ وتعليقا عليه نقول أولا: إن القول بأن آية سورة التوبة الخامسة نسخت حكم آية سورة محمد فصار لا يصح للأسير الكافر إلّا القتل محل نظر. لأن الآية وإن كانت تأمر بقتل المشركين أنّى وجدوا فإن ذلك لا يتحمل أن يدخل فيه قتلهم بعد الأسر أيضا. وثانيا: إن الأحداث المروية تفيد أن النبي ﷺ مارس مع الأسرى أربع طرق حسب ما كان يراه من مصلحة الإسلام والمسلمين وهي المنّ والفداء (ويدخل مبادلة أسرى الكفار بأسرى من المسلمين في باب الفداء) والقتل والاسترقاق. منهما طريقتان نصّت عليهما آية سورة محمد وهما المنّ أو الفداء. وطريقتان حكت آية سورة الأحزاب [٢٦] أن النبي ﷺ مارسهما حكاية قد تفيد إقرارهما وهما القتل والأسر أي الاسترقاق. وقد جازت آيات سورة الأنفال [٦٧- ٦٩] الفداء أيضا.
وفي كتب التاريخ القديمة روايات كثيرة تذكر أن خلفاء رسول الله الراشدين وكبار أصحابه الذين تولوا حركة قمع الارتداد والفتوح كانوا يمارسون هذه الطرق حسب ما يرون فيه مصلحة الإسلام والمسلمين بحيث يصح القول إن هذه الطرق هي السنن الإسلامية القرآنية النبوية في صدد أسرى الكفار الأعداء الذين لا يسلمون قبل استرقاقهم وإن أولي الأمر مخيرون في ممارسة واحدة أو أكثر من هذه الطرق حسب ما تمليه مصلحة الإسلام والمسلمين. أما الذين يسلمون قبل تقرير استرقاقهم فيكونون قد تحرروا بالإسلام على ما يستفاد من حادث سبي هوازن الذي يتضمن أن النبي استرقهم قبل إسلامهم وإسلام ذويهم.
وإذا لوحظ أن عادة استرقاق أسرى الحرب التي كانت عامة في جميع الأمم والبلاد كانت المصدر الرئيسي لعادة الاسترقاق الإنساني التي ظلت جارية في كثير من البلاد الإسلامية مدة طويلة إلى عهد قريب حتى أن كلمة (الأسير) جاءت في آية قرآنية مرادفة للمملوك وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً الإنسان [٨] ثم إذا لوحظ أن آية سورة محمد هي التي احتوت تشريعا مطلقا في ما ينبغي عمله في الأسرى وأن هذا التشريع هو المنّ أو الفداء ظهرت لنا روعة هذا التشريع بتوجيهه ضربة حاسمة إلى هذه العادة. ولا يخفف من شدة الضربة طريقتا القتل والاسترقاق الجائزتان في الإسلام من حيث إنهما ليستا إلزاميتين وإنهما إنما طبقتا في ظروف خاصة. وإذا أضفنا إلى ذلك ما احتواه القرآن من وسائل عديدة لتحرير الرقيق والحث عليه كما مرّ شرحه في تفسير سورة البلد والبقرة والنساء وغيرها ظهر واضحا أن القرآن قد هدف إلى إلغاء الرقّ بالمرة في كل ذلك حيث تزداد روعة الهدف القرآني قوة وسطوعا. وما جاء في القرآن من أحكام متصلة بالرق لم يكن من قبيل الإنشاء وإنما كان من قبيل تنظيم أمر واقع في نطاق الحق والبرّ والإحسان مع الحث على تحريره وتشريع وسائل ذلك على ما شرحناه في تفسير سورة البلد.
وأخيرا نقول إنه لا أسر ولا استرقاق ولا منّ ولا فداء بين المسلمين في حالة وقوع قتال بينهم. لأن هذا القتال لا يدخل في مفهوم الجهاد في الإسلام ولا يستتبع آثاره وتظل صفة الطائفتين هي صفة (الأخوة) كما جاء في آيات سورة الحجرات وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) ويطلق سراح الأسير المسلم الذي يقع في يد المسلم بدون معنى منّ وفداء. كذلك فإنه لا أسر ولا استرقاق للمسالمين من الكفار ولا أسر ولا استرقاق لمن صالحوا المسلمين من الكفار الأعداء إذا تمّ الصلح قبل الاسترقاق أي قبل أن يقرر ولي أمر المسلمين استرقاقهم وإذا أسلم قبل ذلك يتحرر. وإذا جاء عبد مالكه كافر إلى المسلمين وأسلم يتحرر كذلك. وقد روي في صدد هذا حديث رواه أبو داود والترمذي عن علي قال «خرج عبدان إلى النبي ﷺ يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم والله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرقّ فقال ناس صدقوا يا رسول الله ردّهم إليهم فغضب النبي ﷺ وقال ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا. وأبى أن يردّهم وقال هم عتقاء الله عزّ وجل» «٢».
(٢) التاج ج ٤ ص ٣٥٥- ٣٥٦.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٧ الى ١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١)إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢)
. عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت:
(١) وعدا من الله للمسلمين بالنصر والتثبيت إذا نصروه أي نصروا دينه، وإيذانا بأن الله يكون مولاهم ويدخلهم الجنة.
(٢) وتنديدا بالكفار لكرههم لما أنزل الله وجحودهم فضله. وإيذانا بأنه قد أحبط بسبب ذلك مكائدهم وجعل الضلال والخسران حليفي أعمالهم. وإنذارا لهم بتدمير الله كما دمر الذين من قبلهم ممن رأوا آثارهم في أثناء طوافهم في الأرض ثم بالنار التي تكون مصيرهم في الآخرة. وتمثيلا لهم بالأنعام حيث كان تمتعهم في الدنيا لا يعدو تمتع الأنعام التي لا تشعر بمتعة والتي ليس لها من همّ إلّا إملاء بطونها وإشباع غرائزها.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتنوّه بالمؤمنين وتندد بالكافرين موضوع الكلام فيها. وأسلوبها قوي في حضّ المؤمنين وتثبيتهم وتبشيرهم وفي تقريع الكافرين وإنذارهم. وهو مما استهدفته الآيات بالنسبة لظروف نزولها كما هو المتبادر وهذا فضلا عما انطوى فيها من تلقين جليل مستمر المدى بالنسبة للمؤمنين والكافرين على السواء. وننبه هنا إلى ما نبهنا عليه مرارا من أن ما احتوته الآيات من دعاء على الكفار بالتعس وبإضلال أعمالهم وبأنه لا مولى لهم وأن النار مثواهم إنما هو تسجيل لواقع الأمر حين نزولها، وإنه إنما يظل واردا في حق من يموت كافرا وحسب. وقد جاء هذا المعنى صريحا في آية من آيات هذه السورة على ما يأتي بعد قليل.
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٣]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣). وجّه الخطاب في الآية إلى النبي ﷺ وقد تضمنت تقرير كون مدن كثيرة كان أهلها أشد قوة من أهل مدينته الذين اضطروه إلى الخروج منها قد أهلكهم الله ولم يجدوا لهم ناصرا منه.
وقد انطوى في هذا التقرير تقرير كون الله قادرا من باب أولى على إهلاك أهل مدينته والتنكيل بهم. واستهدفت الآية بذلك تسلية النبي وتطمينه وتثبيته كما هو المتبادر.
وقد روى المفسرون «١» عن ابن عباس أن النبي ﷺ لما خرج من مكة مهاجرا التفت إليها وقال: أنت أحبّ بلاد الله إلى الله وأنت أحبّ بلاد الله إليّ ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك فأعدى الأعداء من عدا على الله في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بذحول الجاهلية. فأنزل الله الآية. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أنها نزلت في طريق هجرة النبي إلى المدينة أيضا.
غير أننا نلاحظ أن الآية متصلة بما سبقها من إنذار ووعيد للكفار ومنسجمة في السياق انسجاما وثيقا في حين أن الروايات تفيد أنها نزلت منفصلة عنها وفي ظرف غير ظروف نزولها مما يسوغ الشك فيها. وهذا لا يمنع أن يكون النبي ﷺ ظل يذكر مرارة موقف مشركي قريش منه واضطراره بسبب ذلك إلى الخروج من بلده، فاقتضت حكمة التنزيل الالتفات في الخطاب إليه في سياق إنذار الكفار وتثبيته وتطمينه بأن الله سوف ينتقم منهم كما انتقم ممن هم أشد منهم قوة.
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٤]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)
. في الآية تساؤل إنكاري عما إذا كان الذين هم على بينة من ربّهم سائرون
وتضمنت الآية نفي إمكان التسوية بين الفريقين على ما تلهمه روحها.
وقد رأينا الخازن ينفرد في القول إن الآية في صدد المقايسة بين النبي ﷺ وأبي جهل وغيره من مشركي قريش. ولم يسند قوله إلى رواية ما. والمتبادر أنها استمرار للسياق وفيها معنى التعقيب على الآيات السابقة مع التنويه بالصالحين المهتدين والتنديد بالضالين المسيئين.
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥)
. (١) غير آسن: غير منتن أو غير متغير الرائحة والطعم نتيجة للفساد والركود.
والآية استمرار في السياق أيضا كما هو المتبادر. وقد استهدفت تقرير عدم إمكان التسوية في المصائر الأخروية بين الصالحين المهتدين والضالين المسيئين لعدم إمكان التسوية بينهم بسبب مسلك كل منهم. فالمتقون موعودون بجنة فيها الأنهار من الماء النقي السائغ واللبن الطيب والخمر اللذيذ والعسل المصفى وكل الثمرات بالإضافة إلى رضاء الله ومغفرته في حين أن الكافرين الضالين المسيئين مقدر عليهم الخلود في النار، يشربون فيها الماء الشديد الغليان الذي يقطع الأمعاء.
والتعبيرات الوصفية عما في الجنة والعذاب في الآخرة مستمدة من مألوفات الدنيا في أصلها. وقد جاءت بأسلوب التفخيم والتعظيم لحظ الناجين والتهويل لحظ الأشقياء للتشويق والإرهاب مما جرى عليه النظم القرآني واستهدفه على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. مع التنبيه إلى أن ما فيها ليس خارجا عن نطاق قدرة الله تعالى ووجوب الإيمان بحقيقتها المغيبة التي أخبر عنها القرآن
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن حكيم بن معاوية عن أبيه قال «سمعت رسول الله ﷺ يقول في الجنة بحر اللبن وبحر الماء وبحر العسل وبحر الخمر ثم تشقّق الأنهار منها بعد». وحديثا رواه أبو بكر بن مردويه عن عبد الله بن قيس عن أبيه قال «قال رسول الله ﷺ هذه الأنهار تشخب من جنة عدن في جوبة ثم تصدّع بعد أنهارا» وحديثا رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني عن لقيط بن عامر قال «قلت يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة قال على أنهار عسل مصفّى وأنهار من خمر ما بها صداع ولا ندامة وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وماء غير آسن وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله، وأزواج مطهّرة قلت يا رسول الله أولنا فيها أزواج مصلحات قال الصالحات للصالحين تلذّونهن مثل لذّاتكم في الدنيا ويلذّونكم غير أن لا توالد».
وينطوي في الأحاديث توضيحات نبوية للآيات وترغيب وتبشير متسقان مع ما استهدفته كما هو المتبادر.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧)
. (١) ماذا قال آنفا: ماذا قال الآن من جديد.
في الآيتين حكاية لحالة من حالات بعض فئات الكفار والمنافقين وحالة المؤمنين حينما كانوا يحضرون مجالس النبي ويستمعون إلى ما يقوله ويبلغه، حيث كان الأولون يحضرون هذه المجالس لاهية أذهانهم وقلوبهم مستخفّين بما يسمعون وحينما يخرجون يسألون بعض ذوي العلم والفهم من أصحاب رسول الله
وسؤال ماذا قالَ آنِفاً يحتمل أن يكون استخفافا وسخرية كما يحتمل أن يكون بقصد التأكد لأنهم لم ينتبهوا إلى ما كان يقوله النبي أو لم يعوه ويفهموه، وقد ذكر المفسرون الاحتمالين. وفي سورة التوبة آيتان قد تكونان من هذا الباب وتفيدان أن السؤال على سبيل السخرية والاستخفاف وهما هاتان وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) حيث يصح الاستئناس بالآيتين لترجيح احتمال الاستخفاف والسخرية في السؤال الذي نحن في صدده.
وجملة وَمِنْهُمْ التي بدئت بها الآيتان تدلّ على أنهما معطوفتان على موضوع الكلام السابق أي الكافرين. حيث يفيد هذا أولا: أن الآيتين استمرار للسياق السابق. وثانيا: أن الكفار كانوا يجلسون إلى النبيّ ﷺ مع غيرهم.
ويستمعون إليه في العهد المدني أيضا.
وإذا صح هذا الاستنتاج فيكون هؤلاء الكفار من المعاهدين أو المسالمين وليسوا على كل حال من أعداء محاربين. ويكون في ذلك صورة من صور هذا العهد.
على أن هناك احتمالا بأن يكون هؤلاء من المنافقين أيضا. وفي آيات تأتي بعد قليل إشارات إلى مواقف المنافقين ومرضى القلوب وحملة عليهم وفضح لأخلاقهم ومكائدهم حيث يستأنس بذلك على هذا الاحتمال.
وهذا الاحتمال لا يقطع الصلة الموضوعية بين هاتين الآيتين والسياق
وننبه على أن المفسرين لم يرووا مناسبة ما لهاتين الآيتين أيضا كما هو الأمر بالنسبة للآيات السابقة. حيث يصحّ أن يقال إن السياق جميعه من أول السورة عرض عام لمواقف المؤمنين والكفار والمنافقين وما يجب على المؤمنين أن يفعلوه مع الكفار الصادين عن سبيل الله. والله أعلم.
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٨]
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨)
. (١) أشراطها: علاماتها. والكلمة جمع شرط بمعنى العلامة والأمارة.
في الآية: سؤال استنكاري عما إذا كان الذين هم موضوع الكلام السابق أي الكافرين أو الكافرين والمنافقين. ينتظرون قيام الساعة حتى يخافوا ويؤمنوا مع أنها لا تأتي إلّا بغتة وقد جاءت أشراطها. وحينما تأتي لا ينفعهم التذكر والارعواء.
تعليق على الآية فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها... إلخ
والآية متصلة بالسياق كما هو المتبادر. وقد أورد المفسرون قولا لابن عباس «١» جاء فيه إن بعثة النبي ﷺ من أشراط الساعة ومعالمها. وحديثا رواه الشيخان والترمذي أيضا جاء فيه إن رسول الله ﷺ قال: بعثت أنا والساعة هكذا،
انظر إذا شئت التاج ج ٥ ص ٢٧٣ وما بعدها.
ولقد أوردوا بالإضافة إلى ذلك أحاديث أخرى عن أشراط الساعة منها حديث عن أنس رواه قرب وفاته قال «ألا أحدّثكم حديثا عن النبي ﷺ لا يحدثكم به أحد غيري سمعت رسول الله يقول: لا تقوم الساعة أو قال من أشراط الساعة:
أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويفشو الزنا ويذهب الرجال ويبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيّم واحد» «٢» وثان عن أبي هريرة جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويبقى الشحّ ويكثر الهرج قالوا: وما الهرج؟ قال القتل» «٣» وثالث عن أبي هريرة جاء فيه «أن أعرابيا جاء إلى النبي فقال له متى الساعة وكان يتكلّم فمضى حتى أتمّ كلامه ثم سأل عن السائل، فقال: ها أنا ذا يا رسول الله، فقال إذا ضيّعت الأمانة فانتظر الساعة. قال وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» «٤» ولما كان ما جاء في هذه الأحاديث لم يكن قد تحقق حين نزول الآية، فالأولى أن يكون هدفها على ضوء قول ابن عباس والحديث النبوي الأول ما هو متحقق من الأشراط حين نزولها، وهو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل حال فإن الآية بسبيل التنديد بالمنافقين والكافرين لارتكاسهم في الضلال والغواية وعدم استجابتهم إلى دعوة الله قبل فوات الفرصة لأنها إذا فاتتهم ندموا حيث لا ينفع الندم. وبعبارة أخرى بسبيل الحثّ على الارعواء والاستجابة بدون إبطاء وإضاعة وقت. وهذا المعنى قد تكرر في آيات كثيرة مرت أمثلة عديدة منها لنفس الغاية والهدف.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) المصدر نفسه.
(٤) المصدر نفسه.
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٩]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩). (١) متقلبكم: تنقلكم وحركاتكم.
(٢) مثواكم: إقامتكم وسكناتكم.
عبارة الآية واضحة. وفيها التفات إلى النبي ﷺ على سبيل التعقيب على الآيات السابقة. كأنما أريد أن يقال له فيها والله أعلم بقصد التسلية والتثبيت: إنه لا ينبغي أن يغتم كثيرا لتصامم أولئك الكفار والمنافقين عن الدعوة واندفاعهم في الغواية والضلالة فالله كاف لهم. وليس عليه إلّا الاستمرار في توحيد الله والدعوة إليه والتقرب إليه بالعبادة وطلب الغفران لذنبه وذنوب المؤمنين والمؤمنات. والله هو العليم بجميع حركاتهم وسكناتهم وحلّهم وترحالهم وبيده مصائرهم.
ومثل هذه الآية كثير في مقام التعقيب والتطمين في مثل هذه المواقف مما مرّ منه أمثلة عديدة.
ومقطع وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ورد لأول مرة في سورة غافر وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. أما أمر الله تعالى نبيه ﷺ بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات فإنه يأتي لأول مرة بصيغته. وقد قال البغوي إن فيه إكراما للمؤمنين والمؤمنات لأن النبي هو الشفيع المجاب فيهم. وهذا تأويل وجيه. وقد يصح أن يضاف إليه أن الجملة جميعها تتضمن تلقينا بأن على النبي ﷺ أن يطلب دائما من الله تعالى الغفران لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات حتى يظلوا قيد رحمته وهو يعرف كل ما يكون منهم في مختلف ظروفهم ويعرف أنهم بطبيعتهم البشرية لا يمكن أن يخلوا من هفوات ومواقف تقتضي الاعتذار منها إليه. ثم تطمينا بأن الله تعالى وقد شاءت حكمة التنزيل أن يأمر نبيه بالاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات قد شاءت حكمته كذلك الاستجابة لهذا الاستغفار وغدوّ الجميع قيد رحمته. وقد يدعم هذا ما رويناه في سياق أواخر سورة البقرة من حديث يفيد أن الله عز وجل حينما أوحى
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)
. (١) لولا: هنا للتمني.
(٢) محكمة: هنا بمعنى صريحة حاسمة.
(٣) فأولى لهم: بعض المفسرين قالوا إنها دعاء في مقام التنديد والوعيد، وبمعنى ويل لهم أو جاءهم ما يكرهون «١». ومنها ما جاء في سورة القيامة أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) وبعضهم ربطها بالجملة التي بعدها ليكون معناها أولى لهم أن يقولوا طاعة «٢». والقول الأول هو الأوجه المتسق مع روح الآيات كما يتبادر لنا.
في الآيات:
(١) حكاية لما كان يتمناه المخلصون من المؤمنين من نزول سورة قرآنية حاسمة تأمر بالجهاد حتى يجاهدوا في سبيل الله.
(٢) وحكاية لحالة ذوي القلوب المريضة حينما ينزل الله سورة محكمة
(٢) المصدر نفسه.
(٣) ودعاء عليهم وتنديد بهم من أجل هذه الحالة التي تعتريهم.
(٤) وتعقيب على هذا الموقف الكئيب الكريه. فلقد كان الأولى بهم والأفضل أن يعلنوا السمع والطاعة ويظهروا الاستعداد لاستجابة أمر الله بالقول الحسن ثم يصدقوا الله إذا ما جاء وقت التنفيذ والعزيمة وندبوا إلى القتال.
(٥) وتساؤل تنديدي موجّه إلى هذه الفئة عما يتوقع منهم إذا تولوا حيث يفسدون في الأرض ويقطعون ما بينهم بذلك من الأرحام في حين أن الذين يفعلون ذلك يستحقون لعنة الله ويكونون كمن أعمى الله أبصارهم وأصمّ آذانهم.
(٦) وتساؤل استنكاري ينطوي على التنديد والتعقيب أيضا عما إذا كانت هذه الفئة لا تتدبر ما في القرآن من مواعظ وآيات بينات ولا تتأثر بها، أم هل على قلوبهم أقفال فلا ينفذ إليها شيء من ذلك.
تعليق على الآية وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ.. والآيات الأربع التي بعدها
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها فصل ملحق بالفصل السابق احتوى ذكر حالة أخرى من حالات المنافقين في المدينة والتنديد بهم عليها. وهي وقوفهم من الدعوة إلى الجهاد وقوف الخائف المثبط المتخاذل.
وقد تكرر ذكر هذه الحالة عنهم في مناسبات عديدة سابقة ولا حقة. وفي سورة النساء فصل فيه مماثلة لهذا الفصل. وقد رويت في سياق ذلك رواية ذكرناها هناك عن مراجعة بعض كبار المسلمين وأقويائهم ومخلصيهم للنبي ﷺ بشأن الإذن لهم بالجهاد ومقابلة عدوان الكفار بالمثل، ثم اعتراض المنافقين وتذمرهم من فرض الجهاد وتمنّيهم أن يكون هذا الفرض قد تأخر مدة أخرى. والأولى أن تكون
ولقد تعددت روايات وأقوال المفسرين «١» في تخريج الآية [٢٢] فقال بعضهم إنها بمعنى «إنكم إن أعرضتم وتوليتم عن سماع القرآن وتنفيذ أوامره عدتم إلى جاهليتكم فأفسدتم في الأرض وقطعتم بذلك أرحام بعضكم» وقال بعضهم إنها بمعنى «إنكم إن نكلتم عن الجهاد عدتم إلى ما كنتم عليه من الفساد وتقطيع الأرحام» وقال بعضهم إنها بمعنى «إذا توليتم الأمور أفسدتم في الأرض وقطعتم أرحام بعضكم» بل وقال بعضهم. إنها في صدد ما فعله بنو أمية حينما تولوا الأمر حيث قتلوا بني هاشم وبذلك أفسدوا في الأرض وقطعوا أرحامهم.
وأثر التشيع بارز في القول الأخير وليس له أي محل في مدى الآية.
والقولان الأول والثاني هما أوجه من القول الثالث. وقد تبادر لنا تخريج نرجو أن يكون فيه الصواب وهو «إنكم إذا لم تنفذوا أمر الله وتصدقوا النية في الجهاد وتقابلوا فرضه بالرضا والطاعة تكونوا بذلك قد أطمعتم العدو وجعلتموه يفسد في الأرض ويعتدي عليكم ويقطع ما بينكم من الأرحام» والله أعلم.
وأسلوب الآيات قوي لاذع. يلهم ما كان لموقف مرضى القلوب والمنافقين في نفس النبي والمخلصين من أثر، وما كان يتوقع منه من شر وخطر ومفسدة.
وفيها تلقين قوي مستمر المدى بتقبيح وقوف أية فئة من الأمة موقف الجبن والفزع والإحجام والتخاذل وعدم التضامن مع المجموع في دفع البغي والعدوان وبيان ما ينجم عن ذلك من أخطار ومفاسد لا تسلم منها هذه الفئة نفسها لا في وطنها ولا في دمها ولا في ذويها.
ولفظ سُورَةٌ هنا قد يفيد أمرا قرآنيا أو جملة قرآنية على الإطلاق أكثر منه
هذا، ولقد أورد المفسرون «١» أحاديث عديدة في سياق الآيتين [٢٢ و ٢٣] أوردنا ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة منها في سياق الآية الأولى من سورة النساء السابقة لهذه السورة ونبهنا بما تضمنته من تعظيم لشأن الأرحام وتلقين بوجوب حفظها وتوطيد الصلة بين ذوي الأرحام وإنذار لمن يقدم على قطعها.
فنكتفي بهذا التنبيه.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨)
. (١) سوّل لهم وأملى لهم: زيّن لهم ومنّاهم وغرّهم.
(٢) إسرارهم: ما يفعلونه سرّا أو ما يكنونه في أنفسهم.
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بالذين ارتدوا عن الهدى بعد أن ظهرت لهم أعلامه واتبعوا ما يسخط الله وكرهوا ما يرضيه وكانوا يتآمرون مع الكفار ويعدونهم بطاعتهم والسير وفق رغبتهم. وإنذارا لهم، فقد فعلوا ما فعلوا بتزيين الشيطان وتغريره. وسيحبط الله مكائدهم وأعمالهم في الدنيا. ولسوف يكون استقبال الملائكة لهم حين يتوفونهم أسوأ استقبال حيث يضربونهم على وجوههم وأقفيتهم.
الجزء الثامن من التفسير الحديث ٢١
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها هي أيضا فصل آخر ملحق بالفصلين السابقين. وقد روى المفسرون «١» عن ابن عباس وعلماء التابعين قولين في من عنتهم جملة إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ | إلخ أحدهما أنهم أهل الكتاب أو اليهود الذين عرفوا الحق وارتدوا عنه وثانيهما أنهم المنافقون الذين ارتدوا عن الإسلام. وقد رجح الطبري القول الثاني. وهو الأوجه على ما يلهمه فحوى السياق السابق الذي ذكر فيه مرضى القلوب. |
وعلى كل حال ففي الآية [٢٦] التي فيها هذه الجملة إشارة إلى ما كان من تواطؤ المنافقون وانسجامهم مع أعداء الرسالة المحمدية سواء أكانوا اليهود أم المشركين. وقد تكررت هذه الإشارة في آيات عديدة مرّت أمثلة منها.
والآيات قوية التنديد والإنذار والتشنيع من جهة وفيها تلقين مستمر المدى كالفصلين السابقين من جهة أخرى بتقبيح النفاق والارتداد إلى الضلال والباطل بعد ظهور الحق والهدى والتواطؤ مع أعداء الإسلام والمسلمين.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠).
(٢) المصدر نفسه.
(٢) لحن القول: لهجة الكلام وأسلوبه.
في هذه الآيات:
(١) تساؤل إنكاري فيه معنى التسفيه والإنذار عما إذا كان ذوو القلوب المريضة المنافقون يظنون أن أمرهم خاف على الله وأنه عاجز عن فضيحتهم وإظهار ما في قلوبهم من حقد ونوايا سيئة للمسلمين.
(٢) وتنبيه موجه إلى النبي ﷺ إلى أن الله لو أراد لأراه كل واحد منهم بعينه وعرفهم له بأشكالهم وأسمائهم. ومع ذلك فإنه يستطيع أن يعرفهم ويميزهم من لهجة كلامهم وأسلوب حديثهم بما فيه من المواربة والكذب والنفاق وأمارات الكيد والعناد والتشويش.
(٣) وتوكيد تقريري بأن الله يعلم أعمال جميع الناس ومحيط بها.
تعليق على الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ والآية التالية لها
الآيتان متصلتان بالفصول السابقة ومعقبتان عليها كما هو ظاهر. والمتبادر المستلهم من روح الآية الثانية ومضمونها أنها انطوت أولا: على تقرير كون الأصلح للجميع ما اقتضته مشيئة الله من عدم تعريف جميع المنافقين للنبي والمسلمين تعريفا حاسما وصريحا. ولا سيما أنهم لا يخفون في لهجة الكلام وأسلوب التصرف على النبي ذي النظر الناقد والذهن الثاقب والمتصل بوحي الله وإلهامه. وثانيا: على تهديد المنافقين في الوقت نفسه بالفضيحة من جهة ورغبة
وهذا وذاك يلهمان أولا أن من المنافقين من استطاع أن يخفي حقيقة أمره على بعض المسلمين على الأقل. وفي سورة التوبة آية صريحة بذلك بل وبكون بعض المنافقين استطاعوا إخفاء حقيقة أمرهم على النبي ﷺ وهي وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وثانيا أن المنافقين كانوا يحذرون أن يعرف نفاقهم ويتحاشون الفضيحة به ويحاولون تأويل مواقفهم. وقد حكت ذلك آيات عديدة منها آية سورة المنافقون هذه إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) ومنها آية سورة التوبة هذه وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) وآية سورة التوبة هذه يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا [٧٤].
والنفاق في حد ذاته يتضمن هذا القصد. فالمنافق كافر وغير مخلص ولو لم يخش الفضيحة والأذى لظهر على حقيقته بدون مواربة. ومع ذلك فلعل من الصواب أن يقال إن الحذر في المنافقين قد اشتد بعد توطد مركز النبي في المدينة وبخاصة بعد تطهيرها من اليهود إجلاء وتنكيلا.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس والضحاك في سياق الآية الثانية أن الله سبحانه عرفه إياهم في سورة التوبة حيث أوحى له وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [الآية: ٨٤] ولَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [الآية: ٨٣].
غير أن الآية [١٠١] من سورة التوبة التي أوردناها والتي يلهم سياقها أنها نزلت بعد هاتين الآيتين صريحة النصّ كما قلنا بأن النبي ﷺ كان لا يعرف بعضهم.
ومع ذلك فإن الآية التي نحن في صددها تلهم أن المنافقين مهما حاولوا التستر فإن
هذا، ومما لا شك فيه أن الآيات قد احتوت درسا وموعظة بليغة مستمرة التلقين وبخاصة للزعماء والحكام الذين يسوسون الناس ويتولون توجيههم في كيفية التصرف معهم مخلصهم ومترددهم ومنافقهم.
ولقد روى الطبرسي وهو مفسر شيعي في سياق الآية الثانية أن أبا سعيد الخدري قال «لَحْنِ الْقَوْلِ هو بغض عليّ بن أبي طالب. وقد كنّا نعرف المنافقين في عهد رسول الله ببغضهم له» وقال المفسر إن مثل هذا روي عن جابر ابن عبد الله وعبادة بن الصامت. ولا يوثّق المفسر رواياته بسند وثيق. ولم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. والهوى الشيعي واضح في هذا. وقد يكون حقّا أن بغض عليّ رضي الله عنه من علامات النفاق. ولكن ليس من محل للاختصاص بحيث يصح أن يكون من علامات النفاق بغض كل واحد من الرعيل الأول من أصحاب رسول الله ومن أقران عليّ أيضا وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم وغيرهم رضي الله عنهم.
وإذا كان هناك حقا حديث رواه الترمذي عن أم سلمة جاء فيه «كان رسول الله ﷺ يقول لا يحبّ عليا منافق ولا يبغضه مؤمن» «١» فهناك أحاديث أخرى من هذا الباب عن أصحاب رسول الله عامة وعن الأنصار خاصة منها حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود جاء فيه «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» «٢» وحديث رواه الشيخان ومسلم عن البراء عن النبي ﷺ قال «الأنصار لا يحبّهم إلّا مؤمن ولا يبغضهم إلّا منافق فمن أحبّهم أحبّه الله ومن أبغضهم أبغضه الله» «٣».
(٢) المصدر نفسه ص ٢٧٢.
(٣) المصدر نفسه ص ٣٤١.
[سورة محمد (٤٧) : آية ٣١]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١). المتبادر أن الخطاب في الآية موجّه إلى المؤمنين إطلاقا من قبيل الالتفات والتعقيب على ما حكته الآيات السابقة من مواقف وحالات المنافقين: حيث نبهوا فيها إلى أن الله إنما يختبرهم بالجهاد والأمر به حتى يمتاز المجاهدون والصابرون والمخلصون من غيرهم. وتظهر أعمال ومواقف كل منهم.
وقد احتوت بيان حكمة الله فيما فرض وأمر من شأنها بعث الطمأنينة والبشرى والصبر والرغبة في التضحية في نفوس المخلصين وإثارة الحافز والارعواء في المنافقين والمترددين.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤)
. عبارة الآيات واضحة واتصالها بالسياق السابق ظاهر. وفيها عود على بدء في الإيذان بأن الله سيحبط مكائد وأعمال الكفار الصادين عن سبيل الله والمشاقين لرسوله برغم ما ظهر لهم من أعلام الهدى. وبأنهم لن يضروا الله شيئا بأعمالهم وبأنه لن يغفر لمن يموت منهم على حاله هذه، وفيها في الوقت نفسه هتاف بالمؤمنين بإطاعة الله ورسوله وعدم إبطال ثمرة إيمانهم بالانحراف عن ذلك بأي شكل.
وفي الآيات توطيد لأوامر الله ورسوله وبخاصة في أمر الجهاد الذي كان موضوع الكلام في الفصل السابق. وتحذير للمخلصين من الانحراف وحفز للكفار على الارعواء قبل الموت.
وقد قال بعض المفسرين إن الكفار المعنيين هنا هم أهل الكتاب «١».
وفي الآية الأخيرة تقرير أو توكيد جديد لما نبهنا عليه مرة أخرى من أن الحملات القرآنية على الكفار وتقرير عذابهم الأخروي وكون الله لن يهديهم ولن يصلح بالهم وسيحبط أعمالهم إنما هي بالنسبة لمن يبقى على حاله كافرا صادا عن سبيل الله إلى أن يموت.
[سورة محمد (٤٧) : آية ٣٥]
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥)
. (١) لن يتركم: لن ينقصكم، أو لن يحرمكم، أو لن يفجعكم فيها.
تعليق على الآية فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ... إلخ
لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. والمتبادر أنها استمرار للسياق. ومعطوفة بخاصة على الآيات السابقة لها مباشرة والتي وجّه الخطاب فيها إلى المسلمين.
وقد اختلفت التأويلات التي يرويها المفسرون عزوا إلى ابن عباس وعلماء التابعين للفقرة الأولى منها «١». فمنهم من قال إنها تأمر المسلمين بعدم دعوة
وأكثرهم رووا أكثر من تأويل من التأويلات المذكورة.
والذي يتبادر لنا أنها تأمرهم بعدم الضعف والتراخي في الجهاد والجنوح إلى موادعة الكفار المعطلين المشاقين أو إهمال شأنهم تفاديا من تضحيات الجهاد ونتائجه. وتطمئنهم بأنهم هم الأعلون المفضلون المنصورون وأن الله معهم. ولن يخذلهم ويضيع أعمالهم. ومن كان هذا شأنه فلا يليق به أن يضعف ويتراخى في مكافحة المعتدين الصادين عن سبيل الله. وهذا التأويل هو المتسق مع روح الآيات القرآنية الجهادية عامة ومع روح الآيات وروح آيات السورة معا مع التنبيه على أنه ليس في الفقرة نهي عن الجنوح إلى السلم إذا جنح لها الأعداء من الكفار وكانوا صادقي الرغبة في الانتهاء من موقف العداء والبغي. وآية سورة الأنفال هذه وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [٦١] مما يؤيد ذلك.
والآية بهذا الشرح الذي نرجو أن يكون هو الصواب تحتوي تلقينا مستمر المدى سواء أفي تهوين شأن الأعداء أم في الحثّ على عدم التهاون معهم والغفلة عنهم أم في حظر بثّ روح التراخي والضعف في ظروف النضال وواجباته. أم في تلقين كون المسلمين هم الأعلون لأنهم أولياء الله المجاهدون في سبيل دينه وأن من واجبهم أن يدركوا ذلك وأن يحتفظوا بهذه الكرامة التي كرّمهم الله بها وجعلهم أهلا لها بالإضافة إلى ما فيها من وعد الله لهم. بمكافأتهم على أعمالهم مهما كانت النتائج وما يبثّه هذا الوعد من ثقة فيهم.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
تعليق على الآية إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ | إلخ والآيتين التاليتين لها |
(١) تقرير كون الحياة لعبا ولهوا ومتاعها وأمدها قصيران زائلان.
(٢) وتقرير كون أجر المسلمين عند الله مضمونا إذا ما أخلصوا في الإيمان وتقوى الله.
(٣) وتقرير كون الله لا يطلب منهم الخروج عن جميع أموالهم ولا يلحّ عليهم في ذلك لأنه يعلم طبيعة البشر إزاء مثل هذا الطلب من شحّ وضنّ وتجهّم وإعراض ولا يريد لهم أن تظهر عليهم أعراض تلك الطبيعة. وكل ما في الأمر أنه يسألهم إنفاق بعضها. وهذا أمر هين كان يجب عليهم أن يفعلوه بدون تردد. ومع ذلك فإن منهم من يبخل به. ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه لأن خطر البخل في هذا المقام عائد عليه. والله تعالى غني عن الناس. والناس فقراء إليه على كل حال. والإنفاق الذي يدعوهم إليه إنما هو لمصلحتهم فإذا أعرضوا عن الاستجابة إلى ما يدعون والإخلاص لله فإن الله لا يعزّ عليه أن يستبدل بهم قوما آخرين لا يكونون مثلهم في البخل والإعراض وضعف الإخلاص والتقوى. وروح الآيات ومضمونها جعل من المتبادر لنا أن المقصود من جملة وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أنه لا يسألكم أموالكم جميعها. ونرجو أن يكون هو الصواب.
وأسلوب الآيات قوي رصين موجّه إلى العقول والقلوب معا. ومتسق مع
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية ما في مناسبة نزول الآيات.
والمتبادر أنها استمرار للسياق السابق واستطراد إلى ذكر مسألة الإنفاق لأن مجاهدة العدو تتطلب ذلك. ولعل ما احتوته الآية السابقة من الأمر بعدم التراخي عن العدو متصل بهذه المسألة حيث كان بعض المسلمين يقصّر فيها فيكون ذلك مظهرا من مظاهر التهاون والتراخي فاقتضت الحكمة الاستطراد إليها.
ويبدو من روحها أن المقصرين في هذه المسألة هم فئة أخرى غير المنافقين. وإذا صح هذا فيكون في الآيات صورة لما كانت تقابل به الدعوة إلى التضحية بالمال في سبيل الله من فتور وتردد من قبل بعض المسلمين الذين هم غير مدموغين بالنفاق والذين هم في الغالب من المستجدين الذين أسلموا رغبة أو رهبة أو مسايرة للظروف، ثم لم يخامروا ولم ينافقوا. وفي آيات أخرى في سور البقرة وآل عمران والنساء إشارات إلى مقابلة هذه الفئة الدعوة إلى الجهاد بالنفس بالفتور والتردد أيضا. وفي سورة الصف آيات صريحة في ذلك وهي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) ويلفت النظر إلى أنها خاطبت المخاطبين بخطاب الذين آمنوا.
وهذه الفئة هي غير الذين وصفهم الله في آية التوبة [١٠٠] بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وقال عنهم فيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ثم عناهم بوصف الصادقين في آية التوبة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩).
وما جاء في الآيات في صدد البخل والإنفاق في سبيل الله جدير بالتنويه من حيث انطواؤه على التنبيه على تعظيم أمر الإنفاق في سبيل الله وشدة ضرورته وخطر
ولعل ما احتوته الفقرة الأولى من وصف للحياة الدنيا وتقرير لكون الإيمان والتقوى هما اللذان يجب أن يتصف بهما المسلم الصادق، وهما اللذان يمكن أن يعودا عليه من هذه الحياة بالنفع والأجر متصل بذلك. وفي كل هذا تلقينات مستمرة المدى كما هو المتبادر. ويلفت النظر بخاصة إلى الإنذار الرهيب المستمر المدى كذلك للمسلمين الذين يسمعون القرآن وقت نزوله وجلّهم من العرب إذا هم قصروا وبخلوا في الإنفاق في سبيل الله تعالى ينطوي فيه إنذار بزوالهم أو زوال عزهم واستعلاء غيرهم عليهم.
وواضح من هذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب أن ما جاء في الآية الأولى من وصف للحياة إنما هو بسبيل حفز المسلمين على التزام الأفضل والأكرم والأبقى والمؤدي إلى رضاء الله فيها وهو الإيمان والتقوى.
ولقد روى الطبري بطرقه على هامش الآية الأخيرة حديثا عن أبي هريرة قال «نزلت هذه الآية وسلمان الفارسي إلى جنب رسول الله ﷺ تحكّ ركبته ركبته فقالوا يا رسول الله ومن الذين إن تولّينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا فضرب فخذ سلمان ثم قال هذا وقومه» وقد روى هذا الحديث البغوي أيضا ورواه الترمذي وهذا نصّ الترمذي عن أبي هريرة قال «قال ناس من أصحاب النبي ﷺ يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله إن تولّينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا قال وكان سلمان بجنب النبي فضرب على فخذه وقال هذا وأصحابه. والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريّا لتناوله رجال من فارس» «١» ومع ذلك فإن الطبري يروي عن شريح بن عبيد وعبد الرحمن بن جبير من التابعين أن المقصود بهم أهل اليمن.
كما أن البغوي يروي عن الكلبي أنهم كنده والنخع «٢». ولقد أورد ابن كثير نصّ
(٢) قبيلتان يمانيتان.
وقد تكلم فيه بعض الأئمة رحمة الله عليهم. ولقد أورده كذلك الطبرسي ثم روى عن أبي عبد الله أحد الأئمة أنه قال في معنى الآية «إن تتولّوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم يعني الموالي وقد والله أبدل بهم خيرا منهم الموالي».
ونحن نتوقف في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأهل فارس ليسوا الوحيدين الذين دخلوا الإسلام من الأمم الأعجمية وليسوا الوحيدين الذين صار لهم سلطان في ظل الإسلام على أنقاض السلطان العربي. وهناك من كان أكثر وأقوى وأدوم وأوسع سلطانا وهم الترك. والقول المروي عن الإمام أبي عبد الله يرويه مفسر شيعي. ونحن نخشى أن يكون ذلك متأثرا بما كان من التعاون بين الهاشميين ثم العلويين وأهل فارس في سياق المنافسة على السلطان في القرون الثلاثة الأولى للهجرة. ويلحظ أن بعض علماء التابعين قالوا إن المقصودين هم أهل اليمن الذين لم يكونوا أسلموا بعد حين نزول الآيات والذين كانوا من أقوى الأركان التي قامت عليها الدول العربية الإسلامية الأولى حيث قد يفيد هذا أن الحديث المنسوب إلى النبي ﷺ لم يثبت عند هؤلاء العلماء.
ومن الجدير بالذكر أن الموضوع الجوهري المتصل بأهل فارس الذي جاء في هذا الحديث قد ورد في حديث آخر رواه البخاري ومسلم في سياق تفسير جملة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ من سورة الجمعة على ما أوردناه وعلقنا عليه في سياق تفسير هذه السورة في الجزء السابق. وبصرف النظر عما علقنا به على هذا الحديث في سياق تفسير سورة الجمعة فإن الفرق مهم في مناسبة الروايتين فضلا عن أن الحديث الوارد في مناسبة آية سورة الجمعة أقوى اعتبارا في مراتب الحديث. حيث نرى في هذا دعما وتصويبا لموقفنا في الحديث المروي في مناسبة آية سورة محمد التي نحن في صددها. والله تعالى أعلم.