ﰡ
بسم الله الرحمن الرّحيم
الآيات: (١- ٩) [سورة محمد (٤٧) : الآيات ١ الى ٩]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤)سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩)
التفسير:
قوله تعالى:
«الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ»..
هكذا تبدأ السورة بهذه المواجهة، التي تلقى المشركين والكافرين
ويبدو هذا اللقاء بالكافرين وكأنه أول وجه يلقاهم على طريق ضلالهم، ثم لا يكون منه إليهم إلا أن يلقى إليهم بهذا الخبر المزعج، وأنهم فى وجه عاصفة وشيك التقاؤهم بها، وهلاكهم بين يديها.. ذلك على حين أن هؤلاء الكافرين، قد كان لهم قبل هذا أكثر من لقاء مع آيات الله، ومع رسول الله، يدعوهم إلى الله، ويكشف لهم طريق الهدى، ويحذرهم عاقبة ما هم فيه من ضلال.. ولكن هكذا يجىء اللقاء بهم هنا، وكأنه يضرب صفحا عن كل هذه المواقف التي كانت لآيات الله ولرسول الله معهم إذ لم يكن لهذا كله، أثر فيهم، ولا نفع لهم.. وإذن فليستقبلوا ما كانوا.. يستحقون أن يستقبلوا به من أول الأمر.. فهذا هو حسابهم وجزاؤهم.. أما ما قدّم إليهم من قبل من وسائل الهداية، وسبل النجاة، فهو مما يقيم الحجة عليهم، ويقطع كل عذر لهم عند أنفسهم، كما أنه مما يملأ قلوبهم حسرة وكمدا، حين ينكشف لهم الأمر، ويحلّ بهم البلاء، ويرون أن وسائل النجاة من هذا البلاء، قد كانت بين أيديهم، وتحت سمعهم وأبصارهم، فلم يلتفتوا إليها، ولم يمدّوا أيديهم لها..
وإنه ليس أشدّ إبلاما للإنسان من أن تكون السلامة فى يده، ثم يلقى بنفسه إلى التهلكة!!.
ثم إنه مما يزيد فى حسرة هؤلاء الذين كفروا، أنهم لم يهلكوا أنفسهم وحسب، بل إنهم أهلكوا أهليهم وإخوانهم، إذ كانوا دعوة من دعوات الضلال لهم، وبمحادتهم لله ورسوله. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (١٥: الزمر).
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ».
هو بيان للوجه الآخر من وجوه الناس، وهم الذين آمنوا بالله، ثم أتبعوا إيمانهم بالله، الأعمال الصالحة، التي هى ثمرة الإيمان بالله، فمن آمن بالله، كان مطلوبا منه، بمقتضى هذا الإيمان، أن يستجيب لله، وأن يستقيم على طريق الحق والخير، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه..
وقوله تعالى: «وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ» هو إيمانهم بالرسالة الإسلامية التي جاء بها النبىّ، بعد الإيمان الذي تلقاه المؤمنون من الرسالات السماوية السابقة، أو دلّتهم عليه عقولهم..
فمن كان مؤمنا بالله قبل الرسالة المحمدية، كان من شأن إيمانه هذا، أن يدعوه إلى الإيمان بتلك الرسالة لأنها دعوة مجددة إلى الإيمان بالله..
والإيمان بالله، طريق واحد، يلتقى عليه المؤمنون جميعا.. وإنه ليس للمؤمنين بالله طريقان، بل هو طريق واحد.. فمن كان على غير هذا الطريق فهو ليس من المؤمنين، كما يقول الله سبحانه: «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (١١٥: النساء).
وقوله تعالى: «وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ».. إشارة إلى أن المؤمنين الذين آمنوا بالله، إنما يؤمنون- إذ يؤمنون بما أنزل على محمد- بالحقّ المنزل من ربهم.. فمن أنكر هذا الحق المنزل من عند الله، فليعلم أن ما عنده من إيمان ليس من الحقّ، إذ لو كان حقا لا لتقى مع هذا الحقّ، فالحقّ، لا يصادم الحق، ولا تختلف طريقه معه..
وقوله تعالى: «كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ».. هو خبر لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» أي أن الذين آمنوا هذا الإيمان، وعملوا الصالحات، كفّر الله عنهم ما كان منهم من سيئات، قبل أن يؤمنوا بالرسالة المحمدية، فهو إيمان مجدّد لإيمانهم، ومصحح له، إذ كان هو الدّين كله، وبه تمّ الدين الذي جمع كلّ ما جاء به الرسل، كما يقول الله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» (١٩: آل عمران) وكما يقول الله جل شأنه: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» (١٣: الشورى) وكما يقول جل شأنه:
«وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» (٨٥: آل عمران).
وفى قوله تعالى: «وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» - إشارة إلى ما يثمره الإيمان بدين الإسلام، إذ يجمع قلوب المؤمنين به، ويقيم مشاعرهم على أمر واحد، فلا يكون منهم التفات إلى هذا الدين أو ذاك، إذ أن الإيمان بالإسلام إيمان بجميع رسالات السماء،
والبال هو الحال والشأن، الذي يكون عليه الإنسان، يقال: ما بال فلان؟
أي ما شأنه؟ وما حاله؟.
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ»..
الإشارة هنا «ذلِكَ» مشاربها إلى ما تقرر فى الآيات السابقة، من أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد، سيهديهم الله ويصلح بالهم، وأن الذين كفروا قد أضل الله سعيهم، وأفسد مشاعرهم، وأزعج خواطرهم- فهذا الذي فيه المؤمنون من هدى وإصلاح بال، وما عليه الكافرون من ضلال وسوء حال، هو بسبب أن كلّا من الفريقين قد سلك الطريق الذي يصل به إلى هذا الذي هو فيه.. فالذين كفروا اتبعوا الباطل، فكان أمرهم إلى الخذلان والبوار، والذين آمنوا اتبعوا الحق المنزل عليهم من ربهم، وهو القرآن، فكان أمرهم إلى الأمن والهدى والسلام..
وقوله تعالى: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ» - الضمير فى «أَمْثالَهُمْ»
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الكافرين، والمؤمنين، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يضرب للناس أمثال الكافرين والمؤمنين، ليكون لهم العبرة والعظة، فيما يرون من هؤلاء وأولئك..
قوله تعالى:
«فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ»..
بعد أن بينت الآيات السابقة حال كلّ من الكافرين والمؤمنين، وأن الكافرين قد أضل الله أعمالهم، وأفسد أحوالهم، وأنه سبحانه قد هدى المؤمنين وأصلح بالهم- بعد هذا جاءت النتيجة اللازمة لهذا البيان، وهو أن الناس فريقان: كافرون ومؤمنون، وأعداء لله، وأولياء لله.. ومن ثمّ كان لا بد أن يقف المؤمنون فى وجه أعداء الله، وأن يعملوا على حماية أنفسهم من شرهم، إذ كان أهل الشر والفساد- دائما- حربا على أهل الخير والسلامة، شأن المصاب بداء خبيث، فإنه يكون خطرا على من يخالطه أو يتصل به..
وعلى هذا، فإن على المؤمنين، إذا التقوا بالكافرين فى ميدان قتال، أن يوطنوا أنفسهم على أن تكون الغلبة لهم، فإن انتصارهم انتصار للحق والخير، وهو انتصار لله، ولدين الله، وأن هزيمتهم تمكين للباطل، وتسليط للبغى والعدوان، على مواقع الخير والحق..
والمصدر هو أصل لما يشتق منه من أفعال وصفات، وأسماء.. وهذا يعنى أنه جامع لكل معنى يشتق منه.. وهذا يعنى أن تسليط المصدر على شىء، هو قصر كل معطيات المصدر على هذا الشيء وحده، دون التفات إلى شىء غيره..
وهنا فى هذا المصدر «فَضَرْبَ الرِّقابِ».. قد سلّط المصدر على الرقاب، فكان هذا قاضيا بألا يكون للمؤمنين شأن فى موقف القتال مع الذين كفروا- إلا الضرب، والضرب فى الرقاب، دون غيرها..
والمراد بضرب الرقاب، الضرب فى موطن القتل، لا فى موطن آخر، كالأطراف ونحوها، حيث لا يكون القتل محققا بضربها..
هذا، وليس الضرب للرقاب أمرا لازما لا بد منه، إلا إذا أمكن، وسنحت الفرصة للمؤمن من ضرب الكافر الضربة القاتلة.. أما حين لا يمكن ضرب العنق، أو الضرب فى مقتل، فليضرب حيث أمكنه الضرب، فى الأطراف أو غيرها..
أما فائدة الأمر بضرب الرقاب، فهو لعزل شعور المسلمين عن الاستبقاء على من أمكنتهم الفرصة فيهم من الكافرين، وقدروا على قتلهم، يريدون بذلك أسرهم، وجعلهم من مغانم الحرب.. وهذا من شأنه ألا يقيم نظر المسلم على الجهاد فى سبيل الله، وجعله خالصا له، إذ كان ينظر إلى ما يقع ليده من مغانم، وهذا بدوره يدعو المسلم إلى الحرص على حياته، والنجاة من القتل، حتى
وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ»..
«حَتَّى» حرف غاية، لبيان الحدّ الذي يجب أن يقف فيه المسلم عن قتل الكافر، فى ميدان القتال، وهو أن يرى الكافر وقد أثخنته الجراح، وسقط فى ميدان المعركة.. ، ولم يعد قادرا على المشاركة فيها- هنا لا يجوز للمسلم أن يقتل هذا المثخن بالجراح، بل كل ما يفعله، هو أن يتحقق من أنه لن ينهض ليحارب من جديد، وذلك بأن يشد وثاقه، أو يضربه ضربة تعجزه عن القيام، ولا تقضى عليه..
فشدّ الوثاق، قد يكون على حقيقته، إن أمكن، وقد يكون بتعجيز الجريح عن أن ينهض، ويعود إلى قتال المسلمين مرة أخرى، فى هذه المعركة..
وهذا وجه من وجوه الإسلام المشرقة- وكل وجوه الإسلام وضيئة مشرقة- وما فيه من معانى الإنسانية الرفيعة السامية، التي تراود أحلام الفلاسفة والأخلاقيين، ولا يجدون لها فى عالم الواقع مكانا..
فالإسلام فى حربه للكافرين- وهم حرب على كل حق وخير- لا يريد قتلهم، ولا يشتهى إراقة دمائهم، ولو كان من همّه هذا لما ردّ سيفه عمن كانوا لساعتهم حربا على المسلمين، يقتلونهم ويسفكون دماءهم، ثم أغمدت سيوفهم، وتكسرت رماحهم، وأصبحوا فى عجز قاهر لهم أن يضربوا بسيوفهم أو يطعنوا برماحهم!..
هذا هو الإسلام فى حربه.. إنها الحرب لطلب السلامة والسلام، وليست حربا للبغى، والتسلط..
فأى ميزان أعدل وأقوم من هذا الميزان فيما بين الناس والناس؟
وأي أمن وأي سلام كهذا الأمن والسلام، الذي يجده المجتمع الإنسانى فى ظل مبدأ كهذا المبدأ، الذي يفرضه الإسلام على أتباعه فى وجه العداوة وفى ردّ العدوان، مما تسوقه إليهم الحياة على يد الأعداء والمعتدين؟
يقول الرسول الكريم فى شرح هذا المبدأ، وتوكيده..
«لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأت» وكان صلوات الله وسلامه عليه، يوصى من يبعثهم للجهاد بقوله:
«اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون فى سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع» إنها حرب الإسلام، غايتها الإصلاح، ودفع الخطر، وبتر الأعضاء الفاسدة من المجتمع الإنسانى.. ولو كان من همّ الإسلام الحرب للغلب والقهر والتسلط، لما كان معها إلا التدمير لكل شىء، والقتل لكل نفس..
وقد تلقى المسلمون من دينهم، ومن هدى نبيهم هذا الأدب الإنسانى العالي، فى حرب عدوّهم، فلم تسكرهم حميّا النصر، ولم تجر على دينهم
يقول أبو بكر رضى الله عنه، وهو يودّع يزيد بن أبى سفيان وكان أحد القواد الأربعة، الذين وجههم أبو بكر لحرب الروم فى الشام:
«إنى موصيك بعشر خلال.. لا تقتل امرأت، ولا صبيّا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطع شجرا مثمرا، ولا تخرّب عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمّا كله، ولا تعقرنّ نخلا ولا تحرقه، ولا تغلل، ولا نخن».
وقوله تعالى:
«فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً».. هو تعقيب على قوله تعالى: «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ».. إذ المراد بشدّ الوثاق- كما قلنا- هو عزل الذين يثخنون بالجراح عن القتال، ثم أخذهم فى الأسرى، وإنزالهم على حكم الأسر.. إذ ليس الجريح من الأسرى إلا واحدا منهم، فلا يؤخذ بحكم المقاتلين، فيجهز عليه.. وهذا ما جاء فى قوله تعالى: «فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً».. لتقريره، ولدفع ما يقع من شبهة فى معاملة الجرحى، وإلحاقهم بالمحاربين الذين تضرب رقابهم..
فهؤلاء الجرحى من مقاتلى العدوّ، يؤسرون، ثم يؤخذون بحكم الأسرى على إطلاقه، وهو إما أن يمنّ عليهم، ويطلق سراحهم، تفضلا عليهم، وإحسانا إليهم، ومقابلة إساءتهم وعدوانهم بهذا الفضل والإحسان وإما قبول الفدية منهم، وهو عوض مالىّ، أو عيني، أو شخصىّ.. وذلك بأن يفرض على تخليص الأسير من الأسر قدر من المال، أو السلاح، أو المتاع، أو بتخليص أسير فى يد العدو من أسرى المسلمين..
قوله تعالى:
«حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» - هو غاية للحكم الذي جاء به الأمر فى قوله تعالى:
«فَضَرْبَ الرِّقابِ».. فهذا الحكم قائم على المسلمين الذين يلتقون بالكافرين فى ميدان القتال.. إنهم مأمورون أمرا إليها بأن يضربوا الضربات القاتلة للأعداء، غير ملتفتين إلى أخذهم أسرى، الأمر الذي يحملهم على أن يتحروا ضرب المواطن غير المميتة منهم، حتى يكونوا مغنما من مغانم الحرب.. ومن جهة أخرى تشير هذه الغاية إلى أن حكم الضرب فى رقاب الكافرين، إنما هو فى حال الحرب، أما إذا انتهت الحرب، وخمدت نارها، فليس للمسلم أن يبدأ بعدوان، أو أن يقتل أحدا من الكافرين إذا لقيه وأمكنته الفرصة منه.. إذ لا يستباح دم الكافر إلا إذا كان فى حرب على المسلمين.. أما فى غير الحرب، فإن لدمه حرمة يجب على المسلمين رعايتها، وصيانتها..
وهكذا يقيم الإسلام فى نفوس أتباعه هذه المشاعر الإنسانية العالية حتى مع عدوهم، الذي كان فى وقت ما حربا عليهم، والذي لا يزال على فيه الحرب والعدوان، إذا أمكنته الفرصة..
وأوزار الحرب: أثقالها، وأعباؤها، وما يحمل المسلمون منها فى مصادمة عدوهم، ودفع شره عنهم.. فإذا انتهت الحرب، وأخلى العدو ميدان
وفى إسناد الفعل «تَضَعَ» إلى «الْحَرْبُ» مع أن الذي يضع الأوزار، والأعباء هم المحاربون- فى هذا إشارة إلى أن الحرب هى سبب هذه الأوزار وتلك الأعباء، وأنها هى التي جلبتها، وألقت بها على كاهل المحاربين..
وفى هذا تشنيع على الحرب، وتنفير منها، وتصوير لها فى صورة كريهة، حيث لا تحمل إلى المتلبسين بها إلا ما يبهظهم ويثقل كواهلهم..
ثم إن فى تسمية أعباء الحرب، وأثقالها، أوزارا، تشنيعا آخر على الحرب، وتأثيما لها، وأنها- أيّا كانت شىء- كريه، لا يطلبه المسلم، ولا يسعى إليه، ولا يرغب فيه، إلا إذا لم يكن منه بد، كدفع عدوان، أو إطفاء فتنة..
وهنا يدخل المسلم الحرب، من باب المحظور الذي يباح عند الضرورة، فيتعاطى منها بحساب، على قدر ما يدفع الضرر، فى غير شهوة، ولا إسراف..
أفرأيت وجها للحرب، أقرب إلى السلام، وأدنى إلى العافية، من هذه الحرب التي يكون الإسلام طرفا فيها؟ إنها حرب يتمنى أن يعيش فيها الناس، ما يعيش فيه السلام العالمى اليوم، الذي قل أن يمسى أو يصبح فى غير حرب..
قوله تعالى: «ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ» - الإشارة هنا إلى ما يطالب به المؤمنون من لقاء العدو فى ميدان القتال، ومن توجيه الضربات القاتلة له، الفاضية على كل كيد يكيد به للإسلام والمسلمين، ولو كان فى ذلك تعريض كثير من المؤمنين للاستشهاد فى سبيل الله.. فذلك ابتلاء من الله للمؤمنين، وإنزالهم هذا المنزل الكريم الذي يلبسون فيه ثوب المجاهدين فى سبيل الله، الواقفين فيه موقف جنود الله، المدافعين عن حرماته.. ولولا هذا الصدام بينهم وبين أهل الكفر والضلال، لما وقفوا هذا الموقف الكريم، ولما نالوا هذا الشرف العظيم..
فهذه الحرب بين المؤمنين والكافرين، هى لحساب المؤمنين قبل كل شىء، إذ هى التي أنزلتهم هذه المنزلة العالية، وأحلّتهم هذا المحل الكريم..
وما كان الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى جنود يجاهدون فى سبيله، ويقفون فى وجه هؤلاء الكافرين المحادّين له سبحانه.. إذ لو شاء الله سبحانه وتعالى «لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ» أي لسلط عليهم آفة مهلكة من الآفات، أو لما جاء بهم إلى هذه الحياة الدنيا، أو لهداهم إلى الحق، وكانوا فى المؤمنين..
ولكن هكذا شاءت مشيئة الله سبحانه.. فجعل الشرّ فى طريق الخير، وجعل الكافرين فى وجه المؤمنين، وذلك ليتيح للمؤمنين فرصة العمل لما يرفع منزلتهم عند الله، ويعلى قدرهم، وينزلهم منازل رضوانه..
هذا، وأرى شفاها تتحرك عليها عبارات التساؤل أو الإنكار، لهذا الذي نقوله، من أن وجود أهل الضلال فى هذه الدنيا، هو سبيل من السبل التي يتخذها المؤمنون للتقرب إلى الله، ولرفع درجاتهم عند الله بجهادهم، وقتلهم، أو الاستشهاد فى سبيل الله على أيديهم.. وقد يقول قائل:
ما ذنب هؤلاء الضالين فى تقديمهم على مذبح القربان لله؟ وأ لهذا كنت الغاية من خلقهم؟.
وقول: وماذا ينكر المنكرون من هذا؟ ولم لا يكون هؤلاء المشركون والكافرون والضالون جميعا قربانا يتقرب إلى الله بجهادهم من أهل الإيمان؟.
وقد يقول قائل: أهذا ممكن أن يكون فى شأن الإنسان، الذي كرمه الله سبحانه، ورفعه على سائر مخلوقات الأرض، وجعله خليفة له فيها؟.
وأولياء الله.. فإن هو أمسك شره، فلم يعرض لعباد لله بأذى، ترك وشأنه، كما تترك الوحوش فى الغابات.
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ».
هو تنويه خاص بشأن الذين يستشهدون فى سبيل الله. فهؤلاء الشهداء لن يضل الله أعمالهم، بل سيقيمها على طريقه المستقيم، حيث تنزل منازل الرضا والقبول من الله رب العالمين.. فهم داخلون أولا فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» ثم هم مختصون ثانيا بهذا لذكر، الذي يقيمهم بعد موتهم، مقام الأحياء، الذين لم يفارقوا هذه الدنيا، وذلك بإصلاح بالهم، على حين يقيمهم مقام أهل الجنة قبل أن يدخلها أحد غيرهم، فهم ساعون إلى الجنة، آخذون طريقهم التي يعرفونها، إليها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ
(١٦٩: آل عمران) قوله تعالى:
«سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ» - هو بيان لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ».. أي أن الله سبحانه وتعالى سيهدى الذين قتلوا فى سبيل الله، ويقيم بين أيديهم من أعمالهم الدليل الذي يأخذ بهم إلى الجنة التي أعدها الله لهم، وعرّفهم الطريق إليها..
وهذا مثل قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» (٩: يونس).
فأعمل الشهداء، مستنيرة مبصرة، تعرف طريقها إلى مقام الرضا والقبول، وأصحاب هذه الأعمال، وهم الشهداء، يتبعون أعمالهم تلك، ويأخذون طريقهم على هديها، حيث تنتظرهم عند الله فى جنات النعيم التي أعدها سبحانه لأصحاب هذه الأعمال الطيبة كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ»
(١٢: الحديد) فالذى يسعى بين أيديهم هو هذا النور المشع مما فى أيمانهم، وهو سجل أعمالهم، التي صارت كتبا تناولوها بأيديهم اليمنى.
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ».
هو التفات من الله سبحانه وتعالى إلى المؤمنين، ودعوة منه جل شأنه إلى أن يكونوا جميعا فى هذه المنزلة التي أعدها للمجاهدين فى سبيله..
فالمؤمنون الذين يقاتلون فى سبيل الله إنما ينصرون الله.. فهم جند الله، الذين يحاربون من حارب الله..
ونصر المؤمنين لله، إنما هو بنصر دينه، وإقامة شريعته، ودفع الضلال والشرك والإثم، وكل ما يعترض سبيل الله، ويخالف ما أمر به..
«مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً».. فالله سبحانه هو المعطى لكل ما فى أيدى الناس.. ثم هو سبحانه- فضلا وإحسانا منه- يدعوهم إلى أن يقرضوه مما أعطاهم!!.
وفى قوله تعالى: «يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» - إشارة إلى أن نصر المؤمنين لله، ليس نصرا على حقيقته، وإنما هو مظهر من مظاهر الطاعة والولاء لله..
وإلا فإن النصر الحقيقي هو الذي يمنحه الله سبحانه وتعالى المؤمنين، ويمدهم بالأسباب الممكنة لهم منه.. فهو سبحانه الذي ينصرهم على عدوهم، وثبت أقدامهم فى مواقع القتال على حين يملأ قلوب الذين كفروا رعبا وفزعا..
«وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (١٠: الأنفال).. ومع أن هذا النصر من عند الله، فإنه محسوب للمؤمنين، يلقون عليه أحسن الجزاء فى جنات النعيم.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ».
هو فى مقابل قوله تعالى للمؤمنين: «يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» فإنه- سبحانه- إذ ينصر المؤمنين ويثبت أقدامهم- يخذل الكافرين، وينزلهم منازل البوار والتعس، ويبطل أعمالهم، فلا يقبل منهم عدلا ولا صرفا. فكل عمل للكافرين إلى ضلال، وضياع.. وإذ كان الإنسان من وراء عمله، ينظر إليه، ويتبع آثاره ليجى ثمرة ما عمل، فإن الكافرين ستقودهم أعمالهم التي أصلها الله، إلى الضلال، وإلى عذاب السعير.
وفى التعبير بالماضي «أضل» بدلا من المضارع «يضل» - إشارة أخرى إلى أن الكافر محكوم مقدما على كل عمل من أعماله بالضلال، دون نظر فى وجه العمل، فإنه يستوى فى ذلك الحسن والقبيح، والخير والشر، من أعمال الكافرين.. إذ كل أعمالهم قبيحة، وكل أفعالهم شر.. هكذا تقع أعمال المشركين تحت حكم الضلال، وقوعا مطلقا، فلا ينتظر فى الحكم عليها حتى ينكشف وجهها، ويعرف الحسن والقبيح منها.. إنها كلها قبيحة الوجوه، منكرة الوجود، قبل أن تولد!..
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ»..
هذا بيان للسبب الذي من أجله كل الحكم عليهم بالبوار والخسران، وبإبطال كل عمل يعملونه، ولو كان مما يعدّ فى الأعمال الصالحة.. إنهم «كرهوا ما أنزل الله».. وهو القرآن الكريم، الذي يدعوهم إلى الإيمان بالله، ويحمل إليهم الهدى والنور..
وكراهيتهم لما أنزل الله، هى التي دعتهم إلى اتخاذ هذا الموقف العدائىّ لرسول الله، ولآيات الله التي يتلوها عليهم.. فإن من كره شيئا تجنبه،
وإحباط الأعمال، هو إفسادها، ووأدها فى مهدها.. ومنه الحديث الشريف:
«إن من الربيع ما يقتل حبطا أو بلمّ».. والقتل الحبط، هو أن تأكل البهيمة حتى تنتفخ وتموت متخمة!
الآيات: (١٠- ١٥) [سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٠ الى ١٥]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥)
قوله تعالى:
«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها»..
هو تهديد ووعيد للمشركين الذين كذبوا رسول الله، وأنكروا عليه ما دعاهم إليه من الإيمان بالله وحده، والإيمان باليوم الآخر، وبالحساب والجزاء..
وقد حمل هذا الوعيد إلى المشركين فى هذا الاستفهام الإنكارى الذي يرميهم بالعمى والغفلة عن النظر فيما حولهم، وفيما أصاب المكذبين برسل الله قبلهم، من عذاب ونكال.. لقد دمر الله على هؤلاء المكذبين، وأنى بنيانهم من القواعد، وأن للكافرين عند الله أمثال هذا التدمير..
وفى قوله تعالى: «دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» وفى تعدية الفعل بحرف الاستعلاء «على» - إشارة إلى أن هذا التدمير، قد وقع عليهم من جهة عالية، متمكنة، منهم، بحيث يكونون تحت رمياتها التي لا تخطىء الهدف أبدا..
وفى قوله تعالى: «وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها» بجمع أمثال، بدلا من قوله- مثلها- إشارة إلى أن ما يرمى به الكافرون من مهلكات، ليس على صورة واحدة، بل إن لكل أمة، ولكل جماعة لونا من ألوان الهلاك.. كما يقول الله تعالى:
«فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا» (٤٠: العنكبوت)..
فهى ألوان من الهلاك، مختلفة الأشكال، وإن كانت متفقة فى الآثار..
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ»..
فى الآية إشارة ضمنية إلى أن المؤمنين بالله واليوم الآخر، لا يصيبهم شىء من هذا البلاء المسلط على الكافرين.. وذلك بسبب «بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا» أي ناصرهم ودافع المكروه عنهم.. أما الذين كفروا فلا ناصر لهم ولا معين يعينهم..
فإنه لا يملك النفع والضر إلا الله سبحانه وتعالى، وقد لاذ المؤمنون بحمى الله، فلم يصل إليهم ضر، ولم يصبهم مكروه، على حين ركن المشركون والكافرون إلى ما يعبدون من دون الله، فلم تغن عنهم آلهتهم من الله من شىء..
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ»..
ومن آثار ولاية الله سبحانه وتعالى للمؤمنين أنه يدحلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.. فهم فى الدنيا، فى أمن من أن يحلّ بهم ما يحل بالكافرين من البلاء العام الشامل الذي يأتى على كل شىء.. وهم فى الآخرة، ينعمون فى جنات تجرى من تحتها الأنهار..
وفى قوله تعالى: «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» - إشارة إلى أن الإيمان الذي يثمر هذه الثمرات الطيبة لأهله، إنما هو الإيمان الذي يصدّقه العمل الصالح فليس الإيمان مجرد قول باللسان، وتصديق بالقلب، فهذا إيمان لا ثمرة له،
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ»..
كان مقتضى السياق أن يكون نظم الآية هكذا مثلا.. والذين كفروا لهم عذاب جهنم..
ولكن النظم القرآنى، المعجز، يضع الأمر موضعه، فيصل حياة الكافرين فى الدنيا، بحياتهم فى الآخرة.. إنهم على طريق واحد فى دنياهم وأخراهم جميعا..
فهم فى الدنيا، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وهم فى الآخرة يلقون فى عذاب جهنم..
والناظر المدقق فى الحالين يرى أنهما على سواء، وإن بدا الاختلاف بينهما بعيدا فى عينى من لا بصيرة له..
فالإنسان ليس جسدا حيوانيا، غايته أن يأكل كما تأكل البهائم، وإنما الإنسان إنسان، لأن له روحا يهفو إلى الملأ الأعلى، ويتشوف إلى مطالع النور منه، ولهذا الروح مطالب يجب أن يؤديها الإنسان له، حتى تظل أسبابه موصولة بالملأ الأعلى، آخذة طريقها إليه.. وإلا انقطعت تلك الأسباب، وأصبح الإنسان جسدا حيوانيا، لا شىء من معالم الإنسانية فيه.. وهذا عذاب وبلاء للإنسان.. إذ أنه يعيش فى الناس حيوانا ممسوخا فى جسد إنسان، أو إنسانا مردودا فى طبائع الحيوان..
وفى قوله تعالى: «يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ» - إشارة إلى
فقوله تعالى: «يَتَمَتَّعُونَ» أي يتناكحون، وينزو الذكر منهم على الأنثى كما ينزو ذكر الحيوان على أنثاه.
فمتعتهم الجنسية متعة حيوانية، لإشباع حاجة الجسد، وحفظ النوع..
وأكلهم أكل حيوانى، لإشباع البطون، وحفظ الحياة..
وتبدو لنا من الآية الكريمة صورة مسعدة مشرقة، لأولئك الذين يعيشون فى هذه الدنيا على ذلك الزاد الطيب من المعاني الكريمة، والمثل الرفيعة، والمبادئ القويمة، وإن فاتهم كل شىء من ماديات الحياة ومتاعها..
إنهم فى نعيم يملأ حياتهم المقفرة من متاع الدنيا، بألوان من البهجة والمسرة، لا يجد أحد مثلها إلا فى الجنة التي وعد الله المتقين من عباده.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» (٢٦: الرعد) قوله تعالى:
«وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ»..
هو تهديد للمشركين من قريش، الذين آذوا النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وآذوا أهله وأصحابه، حتى اضطر- صلوات الله وسلامه عليه- إلى
فكثير من القرى، كانت أشد قوة من هذه القرية- مكة- أهلكها الله ودمّرها على أهلها، ولم يكن لهم من ناصر ينصرهم من بأس الله إذ جاءهم..
وهذه القرية قد فعلت فعل القرى الظالمة التي أهلكها الله، فهل إذا أراد الله هلاك أهلها- أهناك من يدفع عنهم ما يرميهم الله سبحانه وتعالى به من إمهلكات؟..
وفى إضافة القرية إلى النبىّ، إشارة إلى أنها قريته، وهو صاحبها، وأولى الناس بها، وإن أخرج منها.. إنها ستفتح عما قريب ذراعيها للنبىّ، وتستقبله استقبال الأرض الجديب جاءها الغيث، وإنها لتكون عما قريب البلد الإسلامى الأول، الذي يوجه النبىّ والمؤمنون معه، وجوههم إلى البيت الحرام فيه.. وفى الآية إشارة إلى أن هذه القرية لن يحل بها من الدمار والخراب ما حلّ بقرى القوم الظالمين، ففى إضافتها إلى النبىّ الكريم، ضمان لها من كل سوء إلى يوم القيامة، إنها قرية النبىّ، وستظل قريته إلى يوم الدين..
قوله تعالى:
«أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ»..
المراد بالاستفهام هنا، النفي، بمعنى أنه لا يستوى من كان على بينة من ربه، وعلى هدى منه، ومعرفة به- لا يستوى من كان هذا شأنه، ومن زين له سوء عمله، فرأى القبيح حسنا، والشر خيرا، والهدى ضلالا.. إنه لشتان بين هذا، وذاك.. «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» (٩: الزمر).
«أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» (٣٥- ٣٦: القلم).
أولها: أن الذي يكون على بينة من ربه، وعلى هدى منه، إنما هو إنسان استقلّ بنظره، وأحقكم إلى عقله، ولم يكن منقادا لهوى غيره، أو منساقا وراء هوى نفسه.
وثانيها: أن المؤمنين- وإن كانوا ذواتا كثيرة متعددة- كل منهم له كيانه ووجوده الذاتي المتحرر من التبعية الاعتقادية- هم جميعا ذلك المؤمن الذي على بينة من ربه.. فكل مؤمن يرى وجوده ووجهه فى هذا المؤمن..
وثالثها: أن المؤمن الذي يكون على بينة من ربه يرجح ميزانه موازين غير المؤمنين جميعا..
وفى إفراد «زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» وجمع «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» - فى هذا أكثر من إشارة كذلك..
فأولا: إفراد الذي زين له سوء عمله مع بناء فعله للمجهول، يشير إلى أن هذا التزيين، وإن كان يرد على الإنسان من جهة تزين له المنكر، وتغريه به، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» (٢٥: فصلت)..
- هذا التزيين وإن كان يرد على الإنسان من خارج- فإنه لا يدفع عنه حمل المسئولية، ولا يعفيه من الحساب والجزاء، إذ كان لكل إنسان ذاتيته ووجوده.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ» (٢١: الطور) ويقول سبحانه:
«كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (٣٨: المدثر).
وثانيا: فى جمع «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» - إشارة إلى أهل الضلال
قوله تعالى:
«مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ»..
هذا تعقيب على الآية السابقة: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ؟»..
ففى قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ..» الآية- فى هذا، جواب على هذا السؤال الذي أثارته الآية السابقة.. وقد جاء هذا الجواب فى صورة سؤال يحتاج هو الآخر إلى جواب، ولكن جواب هذا السؤال قريب واضح، يكاد يمسك باليد..
فما هى إلا نظرة يلقيها الإنسان إلى أهل الجنة وما يلقون فيها من نعيم، وإلى أهل النار، وما يساق إليهم من عذاب، حتى يرى هذا البعد البعيد بين حال هؤلاء وأولئك.. أصحاب الجنة، وأصحاب النار.. من كان على بينة من ربه، ومن زين له سوء عمله فرآه حسنا.. ومن هنا كان من المناسب، ذكر الجنة، وما فيها من ألوان النعيم..
وقوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ».. هو استفهام يردّ به على الاستفهام فى قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ»..
والتقدير: كلا.. ليس من كان على بينة من ربه، كمن زين له سوء عمله،
ويلاحظ فى الآية الكريمة أن عرض المقابلة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، لم يكن متطابقا، فقد جاءت الجنة مقابلة لأصحاب النار هكذا: «مثل الجنة التي وعد المتقون.. كمن هو خالد فى النار؟ ولو جاءت المقابلة على وجه التطابق، لجاء النظم هكذا: أمثل الجنّة التي وعد المتقون.. كمثل النار التي وعد المكذّبون المجرمون؟ أو هكذا: أمثل أصحاب الجنة التي ينعمون بطيباتها.. كمثل أصحاب النار الذين يتقلبون على جمرها؟
فما وجه هذا؟ وما سرّه؟
الجواب- والله أعلم- من وجوه:
فأولا: ليس المهمّ فى بلاغة المقابلة بين الأمور- لكى تتضح وجوه الخلاف بينها، ومن ثمّ تتضح سمة كل مقابل فى وجه مقابله- ليس المهم فى بلاغة المقابلة هنا، هو التطابق بين الصورتين، الموجبة والسالبة، كما فى العمل «الفتوغرافى».. وإنما الصميم من البلاغة، هو أن يقع التطابق فيما وراء الغلاف الخارجي، أو السطح الظاهري للأشياء.. بحيث يبلغ أعماقها، وينفذ إلى جوهرها..
وثانيا: هنا فى هذه الصورة التطابقية التي جاءت بها الآية الكريمة، لأصحاب الجنّة وأصحاب النار- نرى صورتين متطابقتين أتم التطابق وأكمله وأروعه..
ففى صورة النعيم، نرى جنّة! وهذه الجنة موصوفة بصفتين:
أولاهما: أنها للمتقين الذين وعدهم الله إياها..
وثانيهما: أن فيها أنهارا من ماء غير آسن، وأنهارا من لبن لم يتغير
فاللون الغالب البارز فى هذه الصورة، هو لون الجنة.. أما أصحابها فهم لون أقل بروزا وظهورا من الجنة ذاتها..
وهذا يعنى- فى مقام الإحسان- المبالغة فى إكرام هؤلاء الضيف المدعوّين من الله سبحانه، الموعودين بالنعيم فى جناته.. فإنه بمقدار الاهتمام بالإعداد لاستقبال الضيف، يكون مقدار منزلته عند مضيفه.
وفى صورة الإعداد لاستقبال الضيف- أي ضيف- يعرف- من لم يكن يعرف- قدر هذا الضيف ومنزلته، وإن لم يعرف من يكون، وما الجهة التي يجىء منها..
وفى الصورة المقابلة لصورة النعيم.. ماذا نرى؟
نرى اللون الغالب فيها، والذي يكاد يغطى الصورة كلّها، هو أصحاب النار، وما يلقون فيها من عذاب ونكال..
فهناك أناس خالدون فى النار، مقيمون إقامة دائمة فيها، شرابهم ماء يغلى فيقطع الأمعاء.. هذا هو كل ما فى الصورة! ولكن كلمة «النار»، وإن أخذت حيزا ضئيلا من الصورة، فإنها تلقى على الصورة كلها ظلالا كثيفة كئيبة، تتراقص عليها واردات جهنم كلها، وما يساق إلى أهلها من ألوان العذاب والنكال.. ومن تلك الواردات هذا الماء الجهنمى الذي يقطع أمعاء من يدخل إلى أمعائهم..
ومن جهة أخرى، فإن إبراز أصحاب النار فى النار، وتلونهم باللون الغالب الواضح فيها- إشارة إلى أن أصحاب النار قد أصبحوا بعضا من النار،
فهم إذن هذا اللهب المتسعّر منها، وأنه لولا هذا الخطب لما كانت هذه النار.. وهل نار بغير وقود؟
فإذا نظرنا إلى الصورتين: صورة النعيم، والصورة المقابلة لها على نحو نظرتنا هذه، وجدنا الجنة وأهلها، والنار وأصحابها، ورأينا التقابل كاملا بين الصورتين، وذلك بما يجريه العقل من عمليات منطقية، تقيم المتقابلين على ما يقضى به التطابق بينهما..
فإذا كانت هنا جنة، فليكن هناك نار..
وإذا كان فى النار أهلها وما يكابدون من عذابها، فليكن فى الجنة أهلها وما ينعمون به من خيراتها..
وهكذا تتبادل الصورتان، فتأخذ كل منهما من الأخرى عكس ما تعطى..
من الصفات أو الذوات..
قوله تعالى: «فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى» هو من صفات هذه الجنة، وما فيها من ألوان النعيم.
فإذا كان فى جنات الدنيا، جداول تجرى، أو أنهار تتدفق.. فالجنة التي أعدت للمتقين فيها أنواع شتّى من الأنهار لم تعرفها الجنّات فى الدنيا..
ففى الجنة التي وعد المتقون: «أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ»، أي غير متغير الريح أو الطعم، فهو ماء جار، صاف، طهور.. عذب فرات..
وفى هذه الجنة «أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ» أي لبن كأنما حلب لساعته، لم يمر به زمن ينقل فيه اللبن من حال إلى حال، أو أحوال، أخرى..
فليس فيها من خمر الدنيا هذا الطعم المرّ اللاذع، كما أنها لا تخامر العقل، ولا تذهب باللّب، كما يقول الله تعالى: «لا فِيها غَوْلٌ» (٤٧: الصافات).
وفى الجنة أيضا أنهار من عسل مصفى أي خالص من أي شائبة تعلق به..
إنها جنة فيها مشابه مما عرف الناس من نعيم الدنيا، ولكن الفرق بعيد، والبون شاسع بين الحقيقة والمثال، بين الكائن الحىّ وظله الواقع على الأرض!
الآيات: (١٦- ١٩) [سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٦ الى ١٩]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً؟ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ»..
الضمير فى «مِنْهُمْ» يعود إلى مفهوم من الآيات السابقة، التي أشارت إلى
فقوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» أي ومن هؤلاء المشركين، منافقون، جاءوا يستمعون إليك.. لا يريدون الهدى، ولا يطلبون الإيمان، وإنما يريدون أن يشغبوا، وأن يشوشوا على النبي، إن وجدوا سبيلا إلى الشغب والتشويش، فإن لم يجدوا سبيلا إلى هذا فى مجلس النبي صلوات الله وسلامه عليه، تصيّدوا الأكاذيب والمفتريات، ثم أذاعوها فى الناس، متخذين من حضورهم مجلس القرآن، دليلا على أنهم يقولون عن علم، ويتحدثون عن وقع!..
وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً» ؟..
«حتى» حرف غاية، أن غاية هؤلاء الذين يستمعون هذا الاستماع إلى النبي، وإلى ما يتلو من آيات الله- غايتهم هى أن يقفوا من الذين أوتوا العلم هذا الموقف، الذي يلقونهم فيه هازئين، مشككين فى آيات الله، وفى المعاني الكريمة التي بين يديها..
فلولا حضورهم مجلس النبي والاستماع إلى ما يتلو من آيات الله، لما كان لهم سبيل إلى أن يقفوا هذا الموقف من المؤمنين، الذين حضروا معهم هذا
وواضح أن هؤلاء الذين أشارت إليهم الآية فى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» - واضح أن هؤلاء من المشركين المنافقين الذين جاءوا إلى النبي يستمعون إلى ما يقول، وهم على شركهم، وإن أعلنوا إسلامهم، ودخلوا فى المسلمين..
ولذين أوتوا العلم فى قوله تعالى: «قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» هم المسلمون، الذين دخلوا فى الإسلام مؤمنين، وكانوا فى مجلس النبي يستمعون لآيات الله تتلى عليهم.. فهؤلاء المسلمون المؤمنون، هم أهل علم بما استمعوا إليه من آيات الله، وكلماته.. لأنهم استمعوا بآذان مصيغة، وقلوب واعية، وعقول متحررة من التبعية والتقليد الأعمى.. ومن هنا كان لهم هذا العلم الذي حصلوه من آيات الله التي استمعوا إليها.. وفى هذا تعريض بالمنافقين، ووصفهم بالجهل والغباء والبلادة.. وأنهم لو كانوا على حظ من العقل والإدراك، لكانوا من الذين أوتوا العلم، الذين جلسوا فى مجلسهم، واستمعوا إلى ما استمعوا إليه، ولكن شتان بين أذنين تسمعان.. أذن إنسان، وأذن حيوان!!.
فهؤلاء المنافقون، الذين استمعوا إلى النبىّ، قد فضحوا أنفسهم، وكشفوا عن غبائهم، إذ جاءوا يسألون عن مضمون كلام استمعوا إليه، دون أن يدركوا له معنى، مع أن هذا الكلام قد أفاء على من استمعوا إليه، وأحسنوا الاستماع- قد أفاء عليهم علما، وخلع عليهم خلعة العلماء، فكانوا من الذين أوتوا العلم، يسألهم المشركون المنافقون هذا السؤال النبىّ: «ماذا قالَ آنِفاً» ؟
قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» هو الحكم الذي وقع على هؤلاء المنافقين، بعد موقفهم هذا من الاستماع إلى القرآن الكريم، يتلوه الرسول الكريم، ثم سؤالهم عما سمعوا، هذا السؤال المستهزئ المنكر..
فهؤلاء هم الذين طبع الله على قلوبهم، وختم عليها، فلا تقبل خيرا، ولا تأذن بخير يدخل إليها، ومن أجل هذا فقد أخلوا مع أهوائهم، تقودهم إلى حيث مواقع الضلال والهلاك، دون أن تمتد إليهم يد منقذة.. إنهم قطعوا كل سبب يصل بينهم وبين أية وسيلة من وسائل الإنقاذ..
قوله:
«وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ».
الذين اهتدوا هم أولئك المؤمنون الذين أوتوا العلم، وهم كل المؤمنين..
إذ لا يكون الإيمان إيمانا إلا عن علم..
والذين اهتدوا إنما اهتدوا لأنهم أوتوا علما، فكان هذا العلم طريقا فسبحا لهم إلى مزيد من العلم، ومزيد من الهدى.. فكلما ازداد الإنسان معرفة بربه ازداد هدى. وازداد تقوى.. «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (٢٨: فاطر)..
وهذا يعنى أمورا:
إن كل حبة من تلك الحبات التي نبتت وازدهرت وأثمرت، لم تخرج إلى وجه الأرض إلا بما فيها من حياة كامنة، وإلا بمجهود ذاتى، بذلته الحبة حين اختلطت بالماء والتراب، حتى لكأنها الأنثى تضع حملها، فتعانى آلام الطلق، والوضع!.
والذين «اهْتَدَوْا» أي بذلوا جهدا ذاتيا من أنفسهم، للاتجاه نحو النور، والدخول فى دائرته- هؤلاء يزيدهم الله هدى بهذا النور الذي وضعه بين أيديهم، فيرون على ضوء هذا النور أكثر مما رأوا، حيث تهديهم هذه الرؤية إلى نور أعظم، فيسعون إليه، ويدخلون فى دائرته.. وهكذا.. «نُورٌ عَلى نُورٍ.. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» (٣٥: النور) وفى قوله تعالى: «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» - إشارة إلى أن التقوى التي يبلغها المؤمن بإيمانه، هى مطلب أعظم من مطلب العلم، وأنها إنما تنال بعد جهد، ومصابرة.. ولهذا، فإنه إذ يبلغ الإنسان الدرجة التي يدخل بها مدخل المتقين، يحتفى به فى الملأ الأعلى، وتخلع عليه خلعة التقوى من الله رب العالمين، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ».. إنها هبة عظيمة من الله، وعطاء كريم، من رب كريم، لعباد كرام على الله، مكرمين فى رحابه..
ومن أجل هذا- والله أعلم- جاء فعل الهدى محمولا على فاعله: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا».. على حين جاء إتيان التقوى مسندا إلى الفعّال المريد، الله رب العالمين: «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» لأن التقوى مطلب مسير، ومقام كريم، تمتد به يد الرحيم الكريم، إلى من أخذوا بالأسباب إلى التقوى..
قوله تعالى:
«فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ».
الاستفهام هنا إنكارى، تقريعى، تهديدى، ينكر على المشركين موقفهم هذا، من الإيمان بالله وبرسول الله، ويقرّعهم على أنهم لم يفتحوا أبصارهم ولا بصائرهم لهذا النور الذي بين أيديهم، ولا إلى هذه المثلاث التي حلّت بالأمم من قبلهم.. ثم يتهددهم بالعذاب الذي يلقاهم يوم القيامة، وقد قرب يومها، وجاءت أشراطها، أي العلامات المنذرة بمقدمها..
فهؤلاء المشركون.. ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون- إن انتظر بهم- إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون؟... وإنها لآية لا ريب فيها.. فكيف يكون حالهم إذا جاءتهم، وقدّموا للحساب والجزاء؟.. هل ينفعهم شىء فى هذا اليوم؟ وهل من سبيل إلى أن يصلحوا ما أفسدوا؟ كلا، فقد انتهى وقت
وقوله تعالى: «فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ».. أي فكيف تنقعهم الذكرى، إذا جاءتهم الساعة؟ والذكرى هى العبرة والعظة.. وفى يوم القيامة تكثر العبر والعظات، وتمتلىء القلوب بالندامة والحسرة على ما كان من الإنسان من تفريط فى جنب الله، وتقصير فى رعاية حقه.. فمن لم يكن مؤمنا قتل نفسه حسرة على أنه لم يكن فى المؤمنين، ومن كان مؤمنا ندم على ألا يكون فى المحسنين، ومن كان فى المحسنين، ندم على أنه لم يزدد إحسانا.. ولكن لا شىء ينفع فى هذا اليوم، إلا ما كان من عمل فى الدنيا. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى. «يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» (٢٣- ٢٤: الفجر).
قوله تعالى:
«فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ».
المتقلب: ما يتقلب فيه الإنسان من شئون الحياة، والمراد به الحركة..
والمثوى المأوى، الذي يثوى إليه الإنسان، ويسكن إليه، والمراد به:
السكون.. والآية التفات من الله سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم، واستدعاء، واستدناء له من الله، ليتلقّى ما يوصيه به ربه، تاركا هؤلاء المشركين وما هم فيه من عمى وضلال.. إنهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الضلال والشرك، على الإيمان.. فلبموتوا بشركهم، وليلقوا المصير الذي هم أهل له..
أما أنت أيها النبي «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ».. فالألوهة مقصورة على الله وحده، لا يشاركه فيها أحد.. «إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ».. «وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ».
إن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- كان على التوحيد الخالص لله قبل أن يبعث، فكيف يراد منه أن يعرف هذه الحقيقة بعد أن بعث؟ وهل الخلاف بينه وبين قومه إلا على عبادة الله وحده، دون ما يعبدون من آلهة؟.
فما مفهوم هذا الأمر بالعلم؟
الجواب- والله أعلم- من وجوه:
أولا: أن دعوة النبي من الله سبحانه وتعالى للعلم بأن لا إله إلا الله- هو نداء قرب وأنس للنبى من ربه، يلقى إليه فيه بالوصف الذي ينبغى أن يعلمه من ربه، فيحققه، ويؤكده..
وثانيا: العلم المطلوب من النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ليس هو العلم المجرد، وإن كان مستيقنا، وإنما هو العلم الذي يعطى ثمرا حاضرا.. والمراد بدعوة النبي هنا بأن يعلم أن لا إله إلا الله- هو ألا يأسى على هؤلاء المشركين والمنافقين، وألا يحفل بهم وبكثرتهم وقوتهم، فإن الله الذي لا إله إلا هو، معينه، ومؤيده، وناصره على كل عدو له، وللدين الذي جاء به.. إنه سبحانه صاحب الأمر، ومالك الملك..
وثالثا: إذا كان مطلوبا من النبي أن يذكر ربه، وأن يجدد له كل حين بهذا الذكر ولاء لربه، وخضوعا لجلاله وقدرته- إذا كان ذلك مطلوبا من النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وهو الذي تنام عينه ولا ينام قلبه عن ذكر ربه- فإن غير النبي أولى بأن يقيم على نفسه من هذا الأمر حارسا يحرسه من أهواء نفسه، ووساوس شيطانه، حتى لا يلهو عن ذكر الله، ولا يقطع الصلة بينه وبين ربه، فتمتد غربته عن ربّه ساعات، أو أياما، أو شهورا، أو سنين!!.
[النبي.. وما ذنبه الذي يستغفر له؟] والسؤال هنا: هل للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- ذنوب يطلب لها المغفرة من الله سبحانه وتعالى؟ وكيف يتفق هذا والعصمة الواجبة للنبى؟
والجواب على هذا- والله أعلم- من وجهين.
فأولا: عصمة النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لا تقطعه بحال أبدا عن البشرية، التي لا تسلم- مهما بلغت من السموّ والكمال- من عوارض الخطأ، والتقصير، وذلك كشاهد على بشريّتها.
وما يقع من الأنبياء والرسل من خطأ وتقصير، هو من الهنات التي تمدّ حسنات إذا صدرت من غيرهم.. ومثل هذه الهنات لا تجور على عصمة النبىّ، فإنه- مع هذه الهنات- لا يزال على قمة الإنسانية فى أكرم صفاتها، وأنبل أخلاقها.. وقد استغفر كثير من الأنبياء من ذنوب سجلها القرآن الكريم عليهم.. كما فى قوله تعالى عن داود عليه السلام: «وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ» (٣٤: ص).
وكسليمان- عليه السلام- إذ يقول سبحانه: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ» (١٤٤: الصافات).. ويونس عليه السلام: «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (١٤٤: الصافات)..
فكل ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون.. والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أبناء آدم.. وأخطاؤهم هى أخطاء على حدود الكمال المطلق، الذي لا تطوله يد بشر! وثانيا: أن فى دعوة النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الاستغفار لذنبه، إشارة إلى أن الإنسان مهما كان أمره من الإيمان والتقوى، لا يبلغ أبدا غاية الكمال المطلق.. فإنه كلما حثّ الخطا إلى هذا الكمال ارتفع صعدا فى منازله، ووجد منازل لا تنتهى.. وذكر الله، واستغفاره، يبعت فى شعور الذاكر المستغفر، أنه بين يدى الله الذي لا إله إلا هو، وأنه فى حضرة من يعلم السرّ وأخفى، فتأخذه لذلك خشية ورهبة من كل زلة زلها، أو هفوة وقعت منه.. فلا يجد غير الله ملجأ يلجأ إليه، ليغفر له ما كان منه.. «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ». (١٣٥: آل عمران).
فإذا كان النبي مطالبا بأن يستغفر لذنبه، فكيف حالنا نحن؟ وكيف بما نحمل من أوزار لا تستقلّ بحملها الجبال؟ ثم كيف بأولئك الذين يحسبون- إن صدقا وإن خداعا- أنهم على هدى، وتقوى من الله.. كيف بهم يخلون أنفسهم من التكاليف الشرعية، بدعوى يدّعونها لأنفسهم، أو يدّعيها لهم غيرهم- بأنهم من الواصلين.. أي الذين وصلوا إلى غاية الكمال، وتحرروا من القيود والحدود، وفنوا فى المطلق؟ إن من يفنى فى المطلق لا يكون إنسانا، ولا ينبغى أن يسكن إلى الناس، وأن يسكن إليه الناس..!
وقوله تعالى: «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» معطوف على قوله تعالى «لِذَنْبِكَ» أي استغفر لذنبك، ولذنب المؤمنين والمؤمنات.. وأعيد حرف الجر «اللام»
وفى اختلاف النظم القرآنى بين قوله تعالى فى شأن النبي: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» وبين قوله تعالى فى شأن المؤمنين والمؤمنات: «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» من غير أن يضيف إلى المؤمنين والمؤمنات ذنوبا- فى هذا الاختلاف أكثر من إشارة:
فأولا: فى قوله تعالى فى شأن النبي: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» - إشارة إلى أن ما كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذنب، هو معلوم له.. ذلك أن ما يعدّ من الذنب فى مقامه- صلوات الله وسلامه عليه- يشعر به النبي صلّى الله عليه وسلّم بمجرد وقوعه، لأنه شىء مظلم يدخل على هذا الوجود المشرق بنور الحق..
إنه سرعان ما يجد النبي فى نفسه نخسة لهذا الذنب، وسرعان ما يتجه إلى الله سبحانه، طالبا التوبة والمغفرة.. فإذا غفل النبي، عن ذنب وقع منه نبهه الله سبحانه وتعالى إلى ذنبه، وكشف له عنه، فى صورة عالية من الأدب الربانىّ..
ومن هذا عتابه سبحانه وتعالى لنبيه، فيما كان منه حين أعرض عن ابن أم مكنوم، الذي جاء يسأله عن شىء من أمر دينه، على حين كان النبي مشغولا بالحديث إلى جماعة من أشراف قريش، جاءوا يحاجّونه ويجادلونه.. فقال تعالى:
«عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» (١- ٣: عبس).
ومن هذا أيضا عتابه سبحانه للنبى، وقد أذن لبعض المنافقين الذين جاءوا يستأذنونه فى التخلف عن الجهاد.. فقال سبحانه: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ؟» (٤٣: التوبة).
هذا هو مما يرى فى حق النبي ذنبا..
فقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» - إشارة إلى ذنب معلوم للنبى، قد علمه بمراجعة نفسه أو بإعلام الله إياه.. وهذا يعنى أن ذنب النبي شىء قليل،
وثانيا: فى وقوع فعل الاستغفار على الذنب، فى قوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ»، إشارة أخرى، إلى أن هذا الذنب لم يدخل على النبي صلوات الله وسلامه عليه شىء منه، بل ظلت ذاتية النبي فى صفائها ونقائها، وظل هذا الذنب كائنا يحوم بأجنحته حول حمى النبوة، دون أن يقدر على اختراق هذا الحمى..
ففى إفراد الذنب، وعزله عن ذنوب المؤمنين- تكريم للنبى، وإعلاء لقدره، وتنويه بمقامه عند ربه، وأنه شىء، وهذا الذنب شىء آخر.. إن هذا الذنب هو الذي يحتاج إلى معالجة، أما النبي الكريم فهو على الصحة والسلامة.
وثالثا: فى قوله تعالى: «وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» هو مقابل لذنبك..
فالنبى إذ يستغفر لهذا الذنب الذي كان منه، عليه كذلك أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات الذين هم غرس يده.
وإن عمل النبىّ- أيّا كان هذا العمل- هو عمل مبرور.. وإن ما يعمله النبىّ ويحسب عليه من قبيل الذنب.. وعمل مبرور كذلك، وإن لم يستوف غاية البرّ.. شأن عمل النبي هنا، فى هذا شأن المؤمن أو المؤمنة، يتلبسان بالذنوب، ويختلطان بالآثام.. ثم هما- مع ذلك- أقرب إلى الله، وأدنى إلى رحمته ممن لا يؤمنون بالله، ولو لم يواقعوا إثما، أو يفعلوا منكرا..
فكما أن الإيمان يحمى المؤمن من غائلة المعاصي، التي تقع منه، وذلك بأن يتوب إلى الله فيتوب الله عليه، ويستغفر لذنوبه فيغفر الله له.. على حين أن غير المؤمن لا يقبل منه عمل أبدا- كذلك النبوّة تحمى النبىّ من أن يعلق به ذنب، أو تتحكك بحماه معصية.. إن ذنبه طاهر أشبه بطهر المؤمن أو المؤمنة. -
ورابعا: استغفار النبىّ لذنبه.. استغفار لذات محدّدة معروفة، هى هذا الذنب، «اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ».. أما استغفاره- صلوات الله وسلامه عليه- للمؤمنين والمؤمنات، فهو استغفار لتلك الذوات.. ذوات المؤمنين والمؤمنات.. وما تلبس بها من ذنوب، وهذا يعنى:
أولا: أن النبىّ إذ يستغفر لذنبه، إنما يستغفر لذنب غفره له الله سبحانه وتعالى، من قبل أن يقع منه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» (٢: الفتح) وقوله سبحانه: «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» (٢- ٣ الانشراح).. فالاستغفار هنا استغفار حمد وشكر، كما يشير إلى ذلك النبىّ الكريم، وقد سئل، كيف يجهد نفسه فى قيام الليل حتى تورمت قدماه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فيقول صلوات الله وسلامه عليه:
«افلا أكون عبدا شكورا».
ثانيا: أن استغفاره صلى الله عليه وسلم.. وللمؤمنين المؤمنات.. ذواتا وذنوبا، هو بركة، ورحمة، تتنزل عليهم، فتشيع فى قلوبهم السكينة، وتجلى عن أبصارهم غواشى الجهل والضلال.. فيثوب العاصي، ويهتدى الضال، ويزداد الذين اهتدوا هدى..
فاستغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات، إنما هو دعاء لهم بالخير والهدى واستدناء لهم من رضا الله وتوفيقه.. وبهذا يكون للمؤمنين والمؤمنات، من
«وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» (٢٥: الشورى).
وكما يقول جل شأنه: «ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً»
(١١٠: النساء) أو بأن يعمل المرء عملا صالحا، فيكون ذلك العمل الصالح طهرة من العمل السيء، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» (١١٤: هود) أو أن يكون ذلك بفضل من الله ونعمة.
وهذا الذي ذهبنا إليه من أن استغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات، لا يكفر عنهم ذنوبهم، وإنما يمدّهم بأمداد الهدى والاستقامة- هذا الذي ذهبنا إليه، هو ما يتفق وروح الشريعة الإسلامية، التي تحترم الإنسان، وتعلى ذاته، وتجعل إليه وجوده كله، من غير قوامة عليه من أحد.. فهو بهذا الوضع إنسان يحمل المسئولية كاملة، ماله، وما عليه..
ولو كان استغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات مكفّرا عنهم سيئاتهم غافرا لذنوبهم وآثامهم.. لكان من هذا داعية إلى المؤمنين والمؤمنات إلى إخلاء أنفسهم من المسئولية، ولما كان للإساءة حساب عندهم، إذ كان هناك من يستغفر لهم، ويحمل عنهم ذنوبهم! ومن جهة أخرى، فإنه لو كان معنى استغفار النبي للمؤمنين والمؤمنات، هو طلب المغفرة لذنوبهم، لكان ذلك أمرا مقضيّا للنبى عند ربّه، ولغفر الله سبحانه وتعالى ذنوب المؤمنين والمؤمنات جميعا، لانه دعاء من النبىّ، وكل دعاء من النبىّ إلى ربّه، هو دعاء مستجاب، لا يتخلف أبدا.. وقد رأيت ما يقضى إليه غفران ذنوب كل مؤمن ومؤمنة، من غير عمل منهم.
ففى هذه الآية الكريمة، ترى المؤمنين فى مقام الإحسان، وهم يؤدون زكاة أموالهم إلى النبي، فيقبلها النبي منهم، فيكون لهم من هذه الزكاة طهرة لأنفسهم، وزكاة لأموالهم: «تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها».. فإن زكاتهم تلك التي أخذها النبي منهم، يردّها عليهم طهرا لأنفسهم، ونماء لأموالهم..
فهذا إحسان إليهم، فى مقابل إحسان منهم و: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ؟» (٦٠: الرحمن)..
ثم بعد مقابلة هذا الإحسان بإحسان، دعا الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم إلى أن يضيف إلى هذا الإحسان إحسانا، فضلا وكرما من الله سبحانه، وذلك بأن يصلى النبي على هؤلاء المتصدقين: «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» فهذه الصلاة، من النبي على المتصدقين، هى سكن لهم، واطمئنان لقلوبهم، وزاد من الإيمان يثبت أقدامهم على الخير، ويفتح أبصارهم إلى مواقع الإحسان.. أما غفران ذنوبهم- كلها أو بعضها- فهو موكول إلى الله، وبما يقدمون لله سبحانه وتعالى من طاعات وقربات..
«وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ»
الآيات: (٢٠- ٣٠) [سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٠ الى ٣٠]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩)
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠)
قوله تعالى:
«وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ».
هذه لفتة من القرآن الكريم إلى مواقع المسلمين، ونظرة ينظر بها إلى مجتمعهم الذي أصبح يضم كثيرا من الجماعات.
لقد كان القرآن الكريم منذ يوم نزل على النبي، وهو فى مواجهة دائمة
وقد قطعت الرسالة الإسلامية إلى يوم نزول هذه السورة- سورة محمد- (وهى مدنية) - شوطا بعيدا على الطريق إلى غايتها، ودخل كثير من الناس فى دين الله، فكان من تدبير الحكيم العليم أن يلفت المسلمين إلى أنفسهم، وإلى أن يكتشفوا مواقع القوة والضعف منهم.. فهم ليسوا على حال واحدة من السلامة والعافية فى دينهم، وإن من الخير لهم- وهم على الطريق- أن ينظروا إلى أنفسهم، وألا يشغلهم النظر الدائم إلى عدوهم، عن النظر إلى أنفسهم، فإنه من الغبن والظلم معا، أن يرعى الإنسان غيره ويهمل نفسه، ففى ذلك تضييع للراعى ولمن يرعاه جميعا..
وقوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ» - إشارة إلى تطلع أنظار المؤمنين، إلى آيات الله، وتعلق قلوبهم بما ينزل من وحي السماء..
فهم على شوق دائم بهذا النور الذي ينزل من السماء، فإذا أمسك الوحى عنهم قليلا، هفت قلوبهم إليه، وشاقهم الحنين له، وباتوا يتمنون على الله أن ينزّل عليهم سورة! «لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ» !! فلولا هنا استفهام يراد به الرجاء والتمني..
هذا هو موقف المؤمنين من آيات الله.. يرصدون منازلها، ويشدّون قلوبهم وعقولهم إلى مطالعها، وينتظرون فى لهف وشوق هطول غيوثها..
أما من فى قلوبهم مرض من المؤمنين- فإن لهم مع آيات الله موقفا غير هذا الموقف، وشأنا غير هذا الشأن..
وقوله تعالى: «فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ».
فهذه السورة التي كان يتمناها المؤمنون، قد نزلت إليهم، وهى سورة محكمة، أي محددة المعنى، محكمة المفهوم، لا مجال فيها لتأويل، أو تخريج..
إنها على مفهوم واحد لا اختلاف فيه.. ولكن هذه السورة المحكمة تحمل إلى المسلمين ابتلاء واختبارا.. إنها تدعوهم إلى الجهاد فى سبيل الله، وإلى القتال والقتل فى سبيل الله..
وهنا تختلف بالمؤمنين مواقفهم من هذه السورة المحكمة، التي تحمل دعوة إلى الجهاد فى سبيل الله..
فأما المؤمنون الصادقون، الذين أخلصوا دينهم لله، فهم يستبشرون بما تلقوا من آيات الله، إذ يتلقون الأمر الصادر إليهم منها بالرضا والقبول..
وأما الذين فى قلوبهم مرض، فيأحذهم لهذا الأمر همّ ثقيل، إنهم يتمثلون فى تلك الحالة النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو على رأس المؤمنين، يقودهم إلى الجهاد فى سبيل الله، فيتمثل لهم أنهم فى هذا الجيش الذاهب إلى ميدان القتال، وتتمثل لهم مصارعهم هناك، فيغشاهم لذلك ما يغشى الميت ساعة احتضاره..
إن آيات التي الله تنزل من السماء ليست أناشيد تردد، ولا مزامير ترتّل، ولكنها رسول هداية، ودليل خير، وقائد يقود إلى العمل فى مواقع الحق والخير، وداع يدعو إلى البدل، والتضحية والفداء..
وفى الآية الكريمة، إشارة كاشفة إلى أول عرض من أعراض النفاق، وأول سحابة تطلع فى سماء المؤمن من سحبه.
وهذا أول مرض تكشف عنه الآية الكريمة فى نظرتها الأولى إلى الجماعة الإسلامية.. إنها أرت المسلمين بعضا من أنفسهم، وإن بهم خللا ينبغى أن يعالجوه فيما بينهم، وأن يتلافوه قبل أن يستفحل ويعظم، وتتولد منه مواليد كثيرة من المنافقين، الذين يكونون حربا خفية على المسلمين.
وقوله تعالى: «فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» - هو دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى هؤلاء المؤمنين، الذين عرفوا أن فى قلوبهم مرضا، وذلك لما وجدوا فى أنفسهم من ضيق وهمّ، حين استمعوا إلى آيات الله التي تنزلت على النبي، داعية إلى القتال- هو دعوة من الله سبحانه إلى هؤلاء المؤمنين، أن يغيروا ما بأنفسهم، وأن يصححوا إيمانهم بالله، وأن يكونوا على ولاء مطلق لله، فيسمعوا، ويطيعوا، على المكره والمنشط.. فذلك هو الذي يمسك عليهم إيمانهم بالله، وفى هذا سلامة لهم، وصلاح لأمرهم فى الدنيا والآخرة جميعا..
هذا، وقد جاءت الجملة الخبرية: «فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» - جاءت وأحد جزميها (المبتدأ) فى آية والجزء الآخر (الخبر) فى آية أخرى.
فما سرّ هذا؟ أو ما بعض سره؟
يقول المفسرون، وعلماء البيان: إن ذلك لمراعاة الفاصلة القرآنية..
«هم» أو الميم الساكنة وحدها.. مثل «أَعْمالَهُمْ».. «بالَهُمْ».. «أَمْثالَهُمْ»... ومثل: «تَقْواهُمْ».. «ذِكْراهُمْ» ومثل «مَثْواكُمْ»...
وهذا قول لا يستقيم مع إعجاز القرآن، ومع أوضح وجه من وجوه إعجازه، وهو النظم..
فهذا النظم، لكى يكون معجزا، ينبغى أن يعلو على حكم الضرورات، التي تتحكم فى أعمال البشر..
والقول بأن الوقوف بالآية عند قوله تعالى: «فَأَوْلى لَهُمْ» كان لرعاية الفاصلة- هو قول بإخضاع القرآن لحكم الضرورة، وعجزه عن أن يخرج من قيدها..
إنه لا بد أن يكون لهذا سر، بل وأسرار، ليس منها هذا الذي يقال، عن الفاصلة ورعايتها..
فما السر؟ وما بعض السر؟
نقول- والله أعلم-: إن هذا الفصل بين المبتدأ والخبر، مقصور قصدا من القرآن الكريم، وأنه بغير هذا الفصل لا يتحقق المعنى كاملا كما قصد إليه القرآن..
فالله سبحانه وتعالى، يلفت المؤمنين الذين فى قلوبهم مرض، إلى هذا المرض الذي اندس فى قلوبهم، ولا يكادون يعرفون أنهم مصابون به..
ولكن بعد أن نزلت السورة المحكمة التي تحمل أمرا محكما بالقتال- عرف الذين فى قلوبهم مرض، أن فى قلوبهم مرضا، لما عراهم من تلك الأوصاف التي
وفى قوله تعالى: «فَأَوْلى لَهُمْ» دعوة إلى هؤلاء المؤمنين الذين فى قلوبهم مرض- دعوة لهم إلى ما هو أولى وأوفق بهم أن يفعلوه فى هذا الموقف.. فإن كلمة «فَأَوْلى لَهُمْ»، تعنى أن هناك انحرافا لا يصحّ للإنسان أن يظل فيه، وأن هناك ما هو أولى به، وأحق من هذا الموقف..
وهذا يعنى:
أولا: أنهم على غير الطريق السوىّ، الذي ينبغى أن يكون عليه المؤمن..
وأنه من الخير لهم أن يعيّروا من وضعهم هذا الذي هم فيه..
وثانيا: أنهم- وهم مؤمنون- مطلوب منهم أن يكشفوا عن الآفات التي تعرض لهم، وتحاول أن تفسد عليهم إيمانهم، لأنهم أولى الناس وأجدرهم بأن يكونوا على الصحة والسلامة.. إنهم مؤمنون بالله، وإن المؤمن ليبلغ به إيمانه أقصى درجات الكمال البشرىّ، إذا هو كان على نية مخلصة، صادقة، وعلى وعى وإدراك للحقائق الدينية التي آمن بها..
وهنا سؤال:
أين خبر المبتدأ: «فأولى لهم» ؟
هذا ما أراد النظم القرآنى أن يكون مثار بحث وتفكير.. حتى إذا أخذ العقل طريقه للبحث عن هذا الخبر، ثم اهتدى إليه، أو هدى إليه- كان له فى النفس موقعه الذي يحقق له وجودا ذاتيا متمكنا، فى إدراك الإنسان وشعوره..
ومرة أخرى.. أين خبر المبتدأ؟
وأنه من الأولى لهم أن يتحولوا عما هم عليه، وأن يتبدّلوا بحالهم حالا أحسن، وأجمل..
فما هى تلك الحال؟
قد تكون التوبة إلى الله، والاستغفار لما كان منهم من استقبال سيى لآيات الله المحكمات..
وقد تكون بالعمل الفورىّ، بطلب الجهاد فى سبيل الله، والغزو فى أي وجه يوجههم إليه الرسول..
وقد تكون، وتكون.. مما يراه المؤمن مصححا لإيمانه، بعد أن كشفت الآية عن ضعف هذا الإيمان.. وذلك على نحو ما فى قوله: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» (٣٤، ٣٥: القيامة).
حيث جاء المبتدأ ولا خبر له! فهذه الحال التي يرى المؤمن التحول إليها ليصحح إيمانه- هذه الحال هى خبر المبتدأ.. أي فأولى لهم أن يرجعوا إلى الله، أو فأولى لهم أن يتلقّوا آيات الله سبحانه بالحفاوة والتكريم والولاء..
أما قوله تعالى: «طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ».. فهو الدواء الذي تقدّمه السماء لأولئك المؤمنين، الذين يريدون أن يصححوا إيمانهم.. وهو خبر المبتدأ، الذي طلع من أفق جديد، فى سماء آية جديدة.. فإذا التقى به المؤمن بعد هذا ترك جميع الخواطر التي طرفته، وجاء إلى هذا الدواء السماوي الذي حملته
إن الخبر الصحيح للمبتدأ هو: «طاعة وقول معروف».. وهو الذي يجمع فى كيانه كل ما وقع فى خاطر الإنسان، وهو يبحث عن الطريق التي يقيم عليها إيمانه، ويسلك به المسلك الذي هو الذي هو أولى بالمؤمن..!
فالطاعة المطلقة، والولاء الخالص، والتسليم الكامل، هى الإيمان فى صميمه.. وإنه لا إيمان فى شىء، أو بشىء، إلا إذا سكن هذا الشيء فى ضمير الإنسان واستقر فى وجدانه، وخالط مشاعره، وملأ عليه وجوده.. ومن هنا يكون الولاء والتسليم، والطاعة..
ومن هنا أيضا، كان من أول مبادئ الإسلام التي قامت عليها دعوته، هو أنه: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ».. إذ لا يتفق الولاء والتسليم والطاعة مع الإكراه..
ونودّ أن تنظر بنفسك فى وجه الآية الكريمة على هذا المفهوم الذي فهمناها عليه..
فلعلك ترى هذا الذي رأيناه، أو يفتح الله سبحانه وتعالى لك أبوابا من المعرفة تطّلع منها على ما لا حصر له من الأسرار..
«فَأَوْلى لَهُمْ.. طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ».
إننا نرى- والله أعلم- أن الوقوف على فاصلة الآية، هو وقوف محمود، إن لم يكن لازما!!. فهات رأيك، أو خذ بما رأينا! قوله تعالى:
«فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ»..
هو تعقيب شارح لقوله تعالى: «طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ»..
فقوله تعالى: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» أي إذا جاء وقت الابتلاء، وهو الجهاد، الذي أمر الله به المؤمنين، أصبح هذا الأمر عزيمة لا يجوز للمؤمن أن يترخّص فيها، أو ينكل عنها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» أي فإذا جاء أوان الجهاد نكشفت على محكّه حقيقة الإيمان، وظهر الصادقون والكاذبون، فلو أن هؤلاء المؤمنين صدقوا الله فيما أعطوا من إقرار بالإيمان به، وجاهدوا فى سبيله- لو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم..
فالفاء فى قوله تعالى: «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ» هى للتفريع، والتعقيب على كلام محذوف، هو جواب «إذا» فى قوله تعالى: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» -، أي فإذا عزم الأمر انكشفت أحوال المؤمنين وأقوالهم، وظهر الصادق والكاذب..
فلو صدق هؤلاء المتخلّفون، أو الذين تحدّثهم أنفسهم بالتخلف- لو صدقوا الله وجاهدوا، لكان خيرا لهم..
ويلاحظ فى نظم الآية الكريمة، أنها لم تأخذ الخط الطبيعي الذي تقوم عليه العلاقات بين الكلمات، والترابط بين أجزاء العبارات والجمل.. كما
إذا، ولو..
وقد كشفنا عن بعض السر فى هذا، وما يحمل هذا النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة من معان لا يمكن أن يستقلّ بها نظم آخر، على أي وجه كان من وجوه النظم، غير هذا النظم القرآنى..
ولكن الذي نريد أن نشير إليه بتلك الملاحظة، هو أن هذا النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة- بصرف النظر عن المعاني التي يحملها فى فى كيانه- هذا النظم يمثل فى صورته اللفظية، من تقطّع، وتوقّف، وتدافع، ما تكون عليه أحوال المؤمنين الذين لم يدخل الإيمان فى قلوبهم دخولا متمكمنا- من اضطراب، وخلخلة، وتردد، وتدافع بين مختلف العواطف، حين يدعى هؤلاء المؤمنون إلى الجهاد، وقد عزم الأمر، وجدّ الجد! فجاء النظم على صورة هذه المشاعر، يفرقها، ويجمعها، كما تتفرق وتجمع فى هذا المقام!..
فسبحان من هذا كلامه.. سبحانه.. عدد كلماته.
قوله تعالى:
«فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ»..
هو بيان للحال التي سينتهى إليها أمر هؤلاء المؤمنين، الذين فى قلوبهم مرض، وهو أنهم إذا لم يستجيبوا لدعوة الله سبحانه وتعالى لهم، ولم يسمعوا ويطيعوا، ويجاهدوا فى سبيل الله- فإن هذا سينتهى بهم إلى أخذ طريق
وفى إسناد فعل الرجاء «عسى» إلى هذه الجماعة من المؤمنين، إشارة إلى هذا الأمر الذي وقع عليه الرجاء، وهو الإفساد، وتقطيع الأرحام- وأنهم إنما يرجونه هم لأنفسهم، بتولّيهم، وإعراضهم عن الله.. وهذا لا يكون إلا ممن سفه نفسه، وخان إنسانيته، حتى لقد أصبح ما يتمناه لنفسه، ويرجوه لها، هو هذا الشر الصّراح: الإفساد فى الأرض، وتقطيع الأرحام!.
وماذا يكون من شأن من لا يؤمن بالله، ولا يرجو لله وقارا؟.. أتراه يرى لإنسان حرمة، أو يؤدى لذى رحم حقّا؟ إنه إنسان ضال، سفيه الرأى، غليظ القلب، متلبد الإحساس.. فهل يكون منه غير الإفساد، فى الأرض، وقطع كل سبب طيب يصل بينه وبين الناس، من قريب، أو بعيد..
واختصاص ذوى الأرحام بالذكر هنا- هو إشارة إلى أن هذا الذي تولّى وأعرض عن الإيمان بالله، لا يرجى منه خير لإنسان، ولو كان فيه خير يرجى، لكان ذلك فى أهله، ولما قطع صلة الرحم بينه وبينهم..
والمراد بالتولّى هنا- والله أعلم- هو الإعراض عن الاستجابة لدعوة الله والرسول إلى الجهاد..
قوله تعالى:
«أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ»..
هو حكم صادر على هؤلاء الذين دعوا إلى الايمان- قولا وعملا-
فهؤلاء قد لعنهم الله، فأصابهم بالصمم والعمى، فلم يسمعوا كلمة خير، ولم يروا طريق هدى..
وانظر:
لقد كان هؤلاء المؤمنون فى موقف خطاب من ربّ العزة جلّ وعلا فى قوله تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» - كانوا هنا فى موقف الخطاب، لأنهم كانوا فى جماعة المؤمنين، وكانت الدعوة إليهم ليصححوا إيمانهم، وليأخذوا السبيل التي يأخذها المؤمنون الصادقون..
أمّا هنا، فى قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» فإنهم الآن بعد حكم صدر عليهم- وهو أنهم يولّون وجوههم إلى طريق آخر غير طريق الإسلام- فقذف بهم بعيدا عن هذا الموطن الكريم الذي كانوا فيه بين المؤمنين، ثم أتبعوا بهذا الحكم الذي يأخذ طريقه معهم إلى حيث انتهى بهم المطاف: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ»..
قوله تعالى:
«أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها».
هو سؤال يتردد فى صدور من ينظرون إلى هؤلاء الذين كانوا على طريق الإيمان، ثم لم يلبثوا أن انحرفوا عنه، وضلوا سواء السبيل.. ثم ألقى بهم بعيدا عن دائرة المؤمنين..
فكل من كان بمشهد منهم من المؤمنين، يسأل هذا السؤال: ما بال هؤلاء الأشقياء، قد ألقوا بأنفسهم فى مواقع الهلاك، وقد كانت آيات الله بين أيديهم؟ أمع آيات الله يكون عمى وضلال؟ وكيف وهى صبح مشرق، ونور مبين؟..
وسواء أكان هذا أو ذاك، فإن الداء منهم، وفيهم.. وليس من آيات الله، ولا فى آيات الله.. فما فى آيات الله هدى، وحق ونور..
وهذا مثل قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ» (٦٨: المؤمنون)..
ولا يصحّ أن يكون الاستفهام فى قوله تعالى: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» للتحضيض، يمعنى هلّا، لأن التحضيض إنما يكون لمن يرجى منه إتيان ما يحضّ عليه، وهؤلاء قد سبق الحكم عليهم بأن الله قد لعنهم فأصمهم وأعمى أبصارهم.. فكيف يدعون بعد هذا إلى تدبر القرآن؟
وفى قوله تعالى: «أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» - جاء النظم على خلاف الظاهر، وهو أن يجىء هكذا مثلا: أم على قلوبهم أقفال.. وبذلك يتحقق إضافة هذه القلوب إلى أهلها، ونسبتها إلى أصحابها، هؤلاء الذين لم يتدبروا القرآن.. فما سرّ هذا النظم القرآنى؟
نقول- والله أعلم-: إن من بعض أسرار هذا النظم:
أولا: فصل هذه القلوب عن أصحابها، وذلك يحقق للقلوب وجودا ذاتيا مستقبلا، فتقوم مقام أصحابها، وهذا يعنى أن القلب هو الإنسان مختصرا، وأنه السلطان القائم على كيان الإنسان، فإذا أفسد القلب فسد الإنسان،
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى.. الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ» سوّل لهم: أي زين لهم الضلال، وأصله من السّؤل، وهو ما يسأل الإنسان غيره لتحقيقه، «قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى».. وسوّل لهم الشيطان: أجاب سؤلهم بالخداع والتضليل.. وأملى لهم: أي مدّلهم فى حبال الأمل والرجاء فيما يمنّيهم به..
والآية ترجم أولئك الذين كانوا قد دخلوا فى الإيمان، ثم لم يحتملوا تبعاته، فعادوا إلى الكفر. ترجمهم الآية بهذه الرجوم والصواعق، التي تصبّ عليهم لعنة الله، وتجمع بينهم وبين الشيطان على مودة وإخاء!! وفى ارتدادهم على الأدبار إشارة إلى أنهم كانوا على الإسلام، وأنهم إذ يولّون وجوههم إلى المسلمين، يرجعون إلى الوراء شيئا فشيئا، على أدبارهم، على
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ» الذين كرهوا ما نزّل الله: هم اليهود، يقول الله سبحانه: «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ» (١٠٥: البقرة)..
والذين قالوا، هم هؤلاء الذين نحولوا من الإيمان إلى النفاق، مرتدّين على أدبارهم.. والذي قالوه هو قولهم: «سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ».. أي أنه التقى هؤلاء المنافقون مع اليهود لقاء الأولياء، تقدّموا إلى اليهود يعرضون عليهم أن يكونوا من ورائهم فى حربهم مع المسلمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ» (١١: الحشر) هكذا كان موقف المنافقين من النبي والمسلمين بعد غزوة الخندق (الأحزاب) وكان على رأس المنافقين عبد الله بن أبى بن سلول، الذي خذّل الناس عن القتال يوم أحد.. فلما أن ردّ الله الأحزاب على أعقابهم خاسرين، التفت رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى اليهود الذين كانوا قد حزبوا الأحزاب على رسول الله، وتحالفوا مع المشركين على أن يكونوا
«من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلا فى بنى قريظة» وهناك حاصرهم النبي والمسلمون، ثم استسلموا لحكم النبي فيهم..
وفى أثناء الحصار الذي ضربه النبي والمسلمون على بنى قريظة، كان كثير من المنافقين يبعث إلى اليهود أن يثبتوا فى حصونهم، وألا يستسلموا، وألّا يخرجوا من ديارهم.. وأن النبي لو أخرجهم لخرج المنافقون معهم، احتجاجا على إخراج اليهود من المدينة، ولن يسمعوا لأحد قولا يفرق به بين اليهود وبينهم، وأن النبي والمسلمين لو قاتلوا اليهود، لكان هؤلاء المنافقون مقاتلين معهم.. وهكذا منّى المشركون إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب- منوهم هذه الأمانى الكاذبة، التي فضحها الله سبحانه وفضح أهلها، فقال تعالى: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» (١١- ١٢: الحشر) قوله تعالى:
«وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ» أي ما أسرّ به المنافقون واليهود، بعضهم إلى بعض، وسيجزيهم عليه جزاء وفاقا..
قوله تعالى:
«فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ».
الفاء هنا للتفريع على كلام سابق مقدّر، وتقديره: لقد كان جزاء هؤلاء
فالاستفهام هنا لتهويل العذاب الأخروىّ الواقع بهؤلاء المنافقين، وأنه عذاب لا يحتمل، وإنه لمن العجب أن يرى هؤلاء المنافقون فى النار، وفيهم أثر للحياة.
وهذا مثل قوله تعالى: «فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ».
وقوله تعالى: «يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ» جملة حالية، من الملائكة، أي يتوفونهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم.. أي يضرنهم من أمام، إذا أقبلوا، ويضربونهم من خلف، إذا أدبروا..
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ».
الإشارة هنا إلى هذا الذي يلقاه المنافقون، من السوء والخزي فى الدنيا، والعذاب والنكال فى الآخرة، وأن ذلك إنما هو بسبب زيغهم وانحرافهم عن الطريق المستقيم، واتباعهم ما أسخط الله، وأغضبه، وأوجب لعنته، بما أتوا من منكر القول، والعمل.
وقوله تعالى: «فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يقبل منهم عملا، حتى ولو كان مما يحسب فى الأعمال الصالحة للمؤمنين، لأنهم غير مؤمنين بالله، والإيمان بالله شرط أول فى قبول العمل! قوله تعالى:
«أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ».
وقوله تعالى: «أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ» - أي لن يبدى هذه الأضغان، ويكشفها، فتظهر لأعين الناس، بعد أن كانت مخبوءة فى الصدور..
قوله تعالى:
«وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ».
هو معطوف على محذوف يقدر جوابا على الاستفهام الواقع فى قوله تعالى:
«أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ».. أي أن ذلك ظنّ باطل منهم، وأن الله سبحانه سيخرج أضغانهم، ويفضحهم بها على الملأ، وأنه سبحانه لو شاء أن يسمهم بسمات مادية، بطبعها على وجوههم، فلا يراهم أحد إلا عرف أنهم منافقون- لو شاء الله أن يفعل ذلك بهم لفعله، ولرآهم النبي رأى العين، ولرآهم المسلمون معه.. ولكن الله سبحانه لم نشأ حكمته أن يشاء ذلك، إذ لو أنه حدث لكان فتنة للناس.. وكيف لا يفتن الناس إذا كان ما يسرونه فى أنفسهم، وما يودعونه ضمائرهم، يظهر مجسدا عليهم؟ ثم كيف لا يفتنون إذا فعل أحدهم فعلا قبيحا لم يطلع عليه أحد، ثم إذا هذا الفعل قد لبس صاحبه، وأخذ ينادى فى الناس بهذا المنكر الذي فعله صاحبه؟ كيف يكون حال الناس لو أن هذا كان حادثا فيهم؟ ترى أتحتمل الحياة الإنسانية- فى
أحسن الله بنا... أن الخطايا لا تفوح
أي أنه لو كان للذنوب التي نقترفها آثارا مادية تعلق بصاحبها، وتكشف للناس أمره، لكان ذلك، ابتلاء عظيما.. ولكن الله أحسن إلينا، إذ عافانا من هذا البلاء.
فقوله تعالى: «وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ» - هو خطاب للنبى، وتهديد للمنافقين الذين ظنوا أن الله سبحانه لن يفضح نفاقهم، وينزع عنهم هذا الثوب الزائف الذي لبسوه، وظهروا به فى سمت المؤمنين.. فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يخرج نفاق المنافقين من طوايا أنفسهم، وينسج منه وجوها يلبسها هؤلاء المنافقون بدلا من تلك الوجوه الآدمية التي لهم.. فإذا أطلّ أحد المنافقين بوجهه هذا الذي نسجه له الله سبحانه، من نفاقه- قال الناس جميعا: هذا منافق.. ولكن الله سبحانه لم يفعل هذا بالمنافقين، ليكونوا هكذا، فتنة للناس وتقريرا لهم بأنفسهم..
والسيما: السّمة، والعلامة..
وقوله تعالى: «وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ».. هو معطوف على محذوف، تقديره: وإذ لم يشأ الله تعالى أن يريك- أيها النبي- المنافقين لتعرفهم بسيماهم، فإنه مطلوب منك أيها النبي أن تتعرف إلى المنافقين بنظرك الشخصي، وإنك
فوقوع الفعل «تعرف» جوابا لقسم، الأمر الذي أوجب توكيده- إشارة إلى أن هذا الفعل واقع لا محالة، وخاصة إذا كان القسم الواقع عليه، من الله سبحانه.. ولهذا فإن هذه الجملة جملة خبرية، تحدّث عن أمر سيقع مستقبلا على سبيل القطع والتوكيد.. فهذا وعد موثق مؤكد من الله تعالى للنبى الكريم، بأنه سيعرف المنافقين من لحن القول.. والتوثيق والتوكيد لهذا الخبر، لا لإزالة شك من النبي فى تحقيق ما يخبر به من ربه، فإن الرسول الكريم على ثقة وإيمان مطقين بالله، وبقدرة الله.. ولكن توكيد هذا الخبر وتوثيقه، يحمل أكثر من دلالة:
فأولا: إلفات النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلفاتا قويا إلى المنافقين.
ومراقبتهم مراقبة دائمة، وخاصة فيما يجرى على ألسنتهم من كلام..
وثانيا: أنه إذا اشتبه على النبي أمر فى أحد مرضى القلوب من المسلمين، فلا يدعه معلقا فى حبال هذه الشبهة، بل ينبغى، أن يكشف عنه كشفا دقيقا، بهذا المشير الذي يعرف به أهل النفاق، مما يجرى على ألسنتهم من مقولات..
فإذا كشف هذا الاختبار عن هذا الإنسان أنه منافق، فهو من المنافقين، وإلا كان من المؤمنين، فإنه إذا برىء المؤمن من النفاق فقد سلم له دينه، على أي حال كان عليه..
ولحن القول، هو ما يندسّ فى الكلام من معان خفية، ذات دلالات وإشارات، يعرفها المنافقون فيما بينهم، ويتعاملون بها، وسمى هذا الضرب من الكلام لحنا، لأنه يخرج فى صورة خادعة من النظم، تتماوج فيها المعاني، وتتراقص الكلمات، فتتناغم العبارات، فتخرج أشبه باللحن الموسيقى الذي
وقد كان للمنافقين من لحن القول هذا، نماذج، كشف القرآن الكريم عن بعض منها، لتكون للنبى وللمؤمنين معلما من معالم الكشف عن نفاق المنافقين، فى لحون أقوالهم.. فيقول سبحانه، عن مقولة من أقوالهم:
«وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا.. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ.. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» (٤٦: النساء) فهم يقولون: «سَمِعْنا».. يقولونها جهرة، ثم يتبعونها بقولهم سرا «وَعَصَيْنا» ! أي يعطون النبي تسليما بالسمع، لقد سمعوا ما قال، ويبدو من هذا أنهم مؤمنون، ولكن يضمرون فى أنفسهم، ويحركون على ألسنتهم العصيان لهذا الذي سمعوه.. وهم يقولون للنبى: «اسمع» أي اسمع منا ما نقول لك،.. يقولون ذلك جهرا، ثم يتبعون ذلك بدعاء خفى على النبي: «غير مسمع» أي أصمّ، لا تسمع.. وهو دعاءه أي اسمع.. لا سمعت.. لعنهم الله بما قالوا..
وهم يقولون فيما يقولون من خطابهم للنبى: «راعِنا» أي ارعنا، وانظر إلينا.. ويلوون بها ألسنتهم، فتخرج منطوقة هكذا «راعنا» بالتنوين المدغوم..
وهى من الرعونة، والطيش، يدعون بها على رسول الله.. أي ذا رعونة، مثل لابن، وتمر، أي صاحب لبن وتمر..
وقد رسم الله سبحانه وتعالى صورة سليمة مستقيمة لهذا الكلام السقيم المعوج، فقال تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ..»
ومن هذه الأساليب وأمثالها مما ينطق به المنافقون- عرف النبىّ المنافقين، وعزلهم عن المجتمع الإسلامى.. وكان كثير من المؤمنين، يعرفون وجوه المنافقين
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ» أي أنه سبحانه، لا يؤاخذ على ما تكنّه الضمائر، وما تخفيه الصدور، ولكنه يؤاخذ على ما يقع من أعمال، إذ هى التي يكون لها آثارها فى الحياة، وفى الناس.. وهذا هو بعض السرّ، فى جعل فاصلة الآية «أَعْمالَكُمْ» على حين جاء فاصلة الآية (٢٦) :«وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ»..
لأن هنا مقاما، وهناك مقاما.. فهنا حساب للمنافقين على جرائمهم التي تقع من أعمالهم، أو أقوالهم، التي تجرى مجرى الأعمال.. وهناك محاسبة للمنافقين على أقوال جرت فى الخفاء بينهم وبين اليهود.. فهى سرّ بالنسبة إلى المؤمنين، لأنه جرى بعيدا عنهم، وقد كشف الله سبحانه هذا السرّ، وفضح أهله،..
فقال سبحانه «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ»..
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥)
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ»..
الواو: واو القسم.. والابتلاء: الاختبار..
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى الآيات السابقة أشارت إلى أن هناك فى المجتمع الإسلامى منافقين، وأصحاب قلوب مرضى، وأن الله سبحانه لو شاء أن يكشف عنهم، ويفضح مستورهم لفعل، إذ لا شىء يصادم إرادته، أو يعطّل مشيئه- ولو شاء سبحانه- لأهلك هؤلاء المنافقين، أو لهداهم إلى الإيمان وقتل هذه الآفات الخبيثة التي ترعى كل نبتة خير فيهم.. ولكنه سبحانه لم يقدّر هذا
فقوله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» - هو خبر مؤكد من الله سبحانه وتعالى إلى المؤمنين بأنهم لم يتركوا هكذا، يتحلون بحلية الإيمان، وينزلون منازل المؤمنين دون أن يوضعوا موضع الامتحان والابتلاء.. فهذا الامتحان هو الذي يكشف عن حقيقة الإيمان فى قلوب المؤمنين، وهل هو إيمان صادق، انشرح به الصدر، واطمأن به القلب، أم هو مجرد صورة من الشارات والمراسم.. ؟
«أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» (٢: العنكبوت) وقوله تعالى: «حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ»..
حتى غاية لهذا الامتحان أو الابتلاء.. بمعنى أنكم أيها المؤمنون واقعون- لا محالة- فى مواقع ابتلاء، وأنكم لن تتركوا حتى تدخلوا فى هذا الابتلاء، وتتجرعوا كؤوسه المرّة، فإن صمدتم فى هذا الابتلاء، وصبرتم على ما تلقون من بأساء وضراء، فقد أثبتم أنكم مؤمنون.. وهذا حسبكم من إيمانكم.
وقدم الجهاد على الصبر، لأنه أعم منه.. فقد يكون فى المجاهدين من لا صبر له على الجهاد، فلا يثبت للأعداء إذا رأى الخطر محدقا به، ولا يقدم على القتال والهجوم إذا رأى الموت دانيا منه.. إنه مجاهد فى حواشى المجاهدين،
أما الجهاد الذي يكون معه الصبر، فهو الجهاد الكامل، الذي تم عقده وتوثيقه، بين الله سبحانه، وبين المجاهدين، وفى هذا العقد يقول الله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ.. وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (١١١: التوبة).
وفى قوله تعالى: «وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» - إشارة إلى أن الأفعال هى التي عليها المعوّل فى الكشف عن إيمان المؤمنين وصبر الصابرين.. فابتلاء الله سبحانه لأخبار المؤمنين، إنما هو ابتلاء لهم، وتعرف على أحوالهم، من أخبارهم، التي هى حكاية لأعمالهم، وتصوير لها.. وهذا يشير أيضا إلى أن للأعمال آثارها فى الحياة، وفى الناس، وأنها تقع تحت حكم الناس عليها والإخبار عنها بما يرضيهم أو يسخطهم منها.. وهذا يشير مرة أخرى إلى أن المجتمع الإنسانى له وزنه وله قدره، فى الحكم على أعمال الناس، وأن حكمهم على عمل بأنه حسن غير حكمهم عليه بأنه سيء.. فلهذا وزنه، ولذلك وزنه عندهم، وعند الله كذلك..
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
هو حديث إلى أولئك المنافقين، مرة أخرى، بعد أن تهددتهم الآيات السابقة بفضح نفاقهم..
فهذا وعيد للمنافقين، الذين يمسكون بما معهم من نفاق.. إنهم كفروا بعد أن آمنوا، وصدّوا أنفسهم عن سبيل الله بعد أن وردوا عليه، وشاقّوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى.. هكذا المنافق، لا تستقيم له على سبيل الإيمان طريق، ولا تثبت له فيه قدم! وقوله تعالى: «لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» هو خبر عن هؤلاء المنافقين، الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، أي أنهم بفعلهم هذا، وخروجهم من الإيمان إلى الكفر والنفاق- لن يضر الله شيئا من الضر، كما أن إيمان المؤمنين لن ينفعه شيئا من النفع..
وقوله تعالى: «وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ» أي يفسد تدبيرهم، ولا يقبل لهم أي عمل، ولو كان من الأعمال الحسنة فى ذاتها..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ»..
هو دعوة كريمة، والتفاتة رحيمة، من رب كريم رحيم، إلى عباده المؤمنين، وقد طال وقوفهم مع حديث الله سبحانه وتعالى إلى المنافقين، فشاقهم أن أن يسمعوا حديثا من الله سبحانه عنهم.. فناداهم الحق جل وعلا، واستدناهم منه، ثم أسمعهم ما فيه رشدهم، وصلاحهم، وفوزهم.. فى الدنيا والآخرة.. فقال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. الآية»
«وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ..»
فطاعة الله وطاعة الرسول، شرط أول من شروط المؤمن، فإنه لا إيمان بغير طاعة، وتسليم، وانقياد..
وإن عصيان الله وعصيان رسوله، لا يبقى على إيمان، إذ لا يجتمع إيمان وعصيان..
وإذا أخلى الإيمان مكانه من القلوب، لم يبق غير الكفر، وغير بطلان العمل، لمن تبدل الكفر بالإيمان..
فالآية دعوة للمؤمنين أن يحفظوا إيمانهم، ويوثقوه، بالطاعة لله ورسوله..
وفى الآية تهديد للمؤمنين الذي لا يلتفتون إلى أنفسهم ولا يحرسونها من النفاق، أن يدخل عليهم فيطرد الإيمان من قلوبهم، ثم لا يكون لهم بعد هذا عمل إلا بطل وفسد!..
وقوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ».
هو دعوة إلى هؤلاء المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم- أن يتوبوا إلى الله من قريب، وأن يؤمنوا بالله، حتى تنالهم مغفرته.. فإن هم أبوا إلا أن يمضوا على كفرهم إلى أن يموتوا، فإنهم يموتون على الكفر، ومن مات منهم على الكفر فلن يغفر الله له..
قوله تعالى:
«فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ».
ولن يتركم أعمالكم: لا يبطلها كما أبطل أعمال المنافقين والكافرين..
وأصله من الوتر، وهو الفرد.. ومعنى هذا أنه لا يقطع أعمالكم عنكم، بل هى فى صحبتكم، تجدونها حاضرة يوم الجزاء.
والآية تعود إلى أولئك المؤمنين الذي أسمعهم الله سبحانه وتعالى. قوله:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ»..
ثم تركهم فى هذا الموقف. حتى يتدبروا هذا القول ويأخذ كل منهم موقفه منه.. إنهم مدعوون إلى أن يسمعوا ويطيعوا.. أما ما يدعون إلى أن يسمعوه ويطيعوه، فهو آت، ولكن بعد أن يأخذ هذا القول مكانه من العقول والقلوب..
وفى فترة الانتظار هذه، يسمع المؤمنون هذا الوعيد الذي يتهدد الله سبحانه وتعالى به أهل الكفر والنفاق.. «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ».. إنها صورة كريهة للإنسان، ونهاية محزنة، تلك التي ينتهى إليها من يكفر بالله، ويموت على الكفر.. ومن هذا الوعيد يتدسس إلى مشاعر المؤمنين التي دخلت عليهم من قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» - يتدسس إلى هذه المشاعر ما يدفع بها بعيدا عن مزالق الكفر.. ولن يكون ذلك إلا بالسمع والطاعة لله ورسوله..
وهنا يلقاهم قول الله تعالى: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ».
وكأن هذا الخطاب وارد على سؤال سأله الله سبحانه وتعالى المؤمنين، بعد
هل سمعتم ما أمرتم به؟ وهل أنتم على السمع والطاعة؟ وهل اختبرتم ما فى قلوبكم من إيمان؟..
إذن: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ..»
فهذا أمر من الله إليكم، وهو ألا تهنوا، أو تتخاذلوا فى موقفكم من العدو، وألا تطلبوا السلم.. فإن طلب السلم لا يحمله أعداؤكم إلّا أنه ضعف منكم وشعور بالهزيمة، وهذا من شأنه أن يغرى العدو بكم، ويشدد وطأته عليكم، ولا يجيبكم إلى السلم الذي تدعون إليه، لأنه يراكم غنيمة ليده..
هذا ويلاحظ أن ما طلبه الله سبحانه وتعالى من المؤمنين فى قوله سبحانه:
«فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» - لم يلقهم سبحانه به لقاء مباشرا، بل جاء هذا الطلب إلى المؤمنين، بعد وقفة طويلة معهم على مجتمع الكافرين والمنافقين، حيث يرمو من الله بنذر من رجوم البلاء والهلاك، ثم بعد دعوتهم إلى أن يجعلوا إيمانهم بالله قائما على الطاعة والولاء لله ورسوله، وكان هذا كله تمهيدا لأن يتلقى المسلمون قوله تعالى: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ»، وأن يستجيبوا له..
فلا يقع منهم فى ميدان القتال فتور أو تخاذل، وبهذا يحاربون، وقلوبهم على إيمان بالنصر الذي وعد الله المؤمنين، فلا يمدون أيديهم مستسلمين للعدو أبدا.
وهذا الأسلوب الذي جاء عليه الطلب فى قوله: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» - يدل على مزيد من العناية بهذا الطلب، وإلفات المخاطبين به إلى ما لهذا المطلوب من قدر وخطر..
وإنه ليس هناك عدو يستطيع أن يقف فى وجه المسلمين المجاهدين فى سبيل الله، إذا هم أعطوا الجهاد حقه.. مهما كان قليلا عددهم وعدتهم، بالنسبة إلى عدد عدوهم وعدّته..
وحق الجهاد، هو أن يقوم على نية القتال والقتل فى سبيل الله.. ومن كان من المجاهدين على تلك النية، فإنه لا ينظر إلى كثرة العدو، ولا يقيم موازنة بين جيش المسلمين وجيش العدوّ، على أساس العدد والعتاد، فإن ذلك إن وقع فى شعور المجاهد، حارب بنفس متخاذلة، وبقلب يخفق خفقات الهزيمة.. فذلك كله يجب ألا يكون فى حساب المجاهد شىء منه.. فهو يجاهد، ويقاتل فى سبيل الله، ولن تبرأ ذمته من أداء هذه الأمانة- أمانة الجهاد- إلا إذا رجع من جهاده بإحدى الحسنيين، إما النصر على العدوّ، والفوز بالغنائم، وإما الموت والفوز بالشهادة.. فالمؤمنون بهذه المشاعر هم الأعلون دائما..
إن المجاهد- حقّ المجاهد- هو الذي يقاتل العدوّ بكل ما لديه من قوة، وأن يكون وجهه للعدو، ولأسلحة العدو، يضرب ويضرب، وينفذ ضرباته فى العدو، ويتقى ضربات العدو له، غير مبال إن وقع على الموت أو وقع الموت عليه..!
[الجهاد.. والحرب النفسية]
والحرب النفسية أداة من أدوات الحرب، وسلاح ماض من أسلحة القتال..وكم تركت هذه الأداة من آثار سجلها التاريخ لها، فهزمت الأبطال، ومزقت الجيوش، ومكنت الفئة القليلة من أن تغلب الفئة الكثيرة..
وهل كان ميزان المؤمنين ثقيلا فى ميدان القتال، حتى ليعد الواحد منهم بعشرة من عدوهم- هل كان هذا الميزان ثقيلا إلّا لما امتلأت به مشاعر المؤمنين من إيمان بالله، وثقة فى ثوابه، وتصديق بوعده الذي وعد المجاهدين؟ وهل استخف المؤمنون بالموت، إلا لما امتلأت به قلوبهم من إيمان بالحياة الآخرة، وأن حياتهم الدنيا هذه، ليست إلا مرحلة على طريق الحياة الأبدية الخالدة؟.
النفس إذن، وما تحمل من مشاعر، هى التي تحدد موقف المحارب فى جبهة القتال، وهى التي تزين له الموت فى الميدان، أو تغريه بالنجاة والفرار..
فحبّ الجبان النفس أورده التقى «١» | وحبّ الشجاع النفس أورده الحربا!! |
فالجبان يحب نفسه لا بسة جسده، ولو كانت مهينة ذليلة، ترعى المهانة، وتسام الخسف! والشجاع يجب نفسه عزيزة كريمة، فإنه إن رأى أنها لن تسكن إليه إلا على مركب الذل والهوان، ضنّ بها على أن تلقى الإهانة والإذلال فى هذا المقام، مقام الجسد، فأوردها مورد القتل، لتخلص من هذا البلاء، وتأخذ طريقها إلى العالم الآخر..
وقد اهتدى الإنسان بطبيعته، إلى أن تكون النفس ميدانا من ميادين الحرب التي يشتبك فيها مع غيره من بنى جنسه، وأن يتخذ منها درعا واقية له..
حيث يدخل المعركة، وقد صفىّ حسابه بينه وبين نفسه، وأجلى عنها كل نوازع الخوف من الموت، أو الإشفاق على ما يخلّف وراءه من ولد، وأهل، وصديق..
يقول قطرىّ بن الفجاءة: وقد راودته نفسه على أن يطلب السلامة، ويدع مواطن الحرب، وما يتعرض له المحاربون من قتل.. يقول:
أقول لها وقد طارت شعاعا | من الأبطال، ويحك، لن تراعى |
فإنك لو سألت بقاء يوم | على الأجل الذي لك لم تطاع |
فصبرا فى مجال الموت صبرا | فما نيل الخلود بمستطاع |
ولهذا كان من سياسة الحرب أن تكون الضربة الأولى ضربة يرمى فيها كلّ من المتحاربين بثقله كله، حتى تقع الضربة موقعا قائما وراء تقدير العدو، الذي ما كان يحسب حسابا لها من هذا الوجه.. وهنا تكثر دواعى البلبلة والاضطراب، ثم التفكك والانحلال، ثم الهزيمة والاستسلام، إذا لم يكن الضارب قد تلقى ضربة كهذه الضربة.. وعندئذ تتعادل الكفتان، ثم يكون الغلب لمن أمسك بالثقة والطمأنينة فى قلبه، واحتمل فى صبر وجلد نار الحرب، وأهوالها.. إنها الحرب، وإنها ابتلاء في الأموال والأنفس والثمرات! إنها قتال وقتل..!
يروى أن سائلا سأل عنترة: كيف كان منك أنك لم تفرّ فى معركة قط، على كثرة ما دخلت فى معارك، وما التقيت بأبطال؟
فقال عنترة لسائله: أعطنى يدك، وخذ يدى، وعضّ إبهامى وسأعض إبهامك!! ففعل الرجل، وفعل عنترة.. ولكن سرعان ما صرخ الرجل! فبادره عنترة قائلا: «إنك لو لم تصرخ أنت لصرخت أنا» !! وبهذا تلقى الرجل الجواب الوافي الشافي على سؤاله.
إن عنترة إنسان قبل أن يكون بطلا، فهو يخاف، ويتألم، ويكره أن يقتل، أو يجرح.. شأنه فى هذا شأن الناس، أبطالا، وغير أبطال.. ولكنه لبس ثوب البطولة بصبره على المكاره، أكثر من خصمه.. فلو أن خصم عنترة صبر صبره على المكروه، الذي يسقيه كل منهما لصاحبه- لو أنه صبر
وكثير من الحيوانات، فى مختلف أجناسها، تستخدم هذا السلاح فى لقاء عدوها.. فتستعرض كل ما عندها من قوّى جسدية، ظاهرة، أو خفية، حتى تبدو فى صورة مخيفة مفزعة للعدو.. وقد تكون هذه الحركات قاضية على العدو من غير قتال، فيجمد فى مكانه ويستسلم لعدوه!.
وإذا كان الجهاد والقتال فريضة واجبة الأداء على كل قادر من المسلمين، متى دعت دواعى الجهاد، ولزم القتال- لأنه لا يقوم أمر الجماعة الإسلامية، فى المجتمع الإنسانى إلا إذا كانت ذا قدرة على حماية وجودها، ودفع الأيدى الباغية عليها- نقول إذ كان شأن الجهاد على تلك الصفة فى الإسلام، فقد كان من تدبير الإسلام أن التفت التفاتا قويّا إلى هذا الجانب من الحرب الذي يعرف فى عصرنا هذا، بالحرب النفسية، فوضع بين يدى جند الله، المجاهدين فى سبيله منهجا متكاملا للتدريب على هذه الحرب، واستخدام أسلحتها، والضرب بهذه الأسلحة حيث تقع الضربة، فتصيب الصميم مما وقعت عليه..
ومن تدبير الإسلام فى هذا:
أولا: أنه هوّن على المؤمنين خطب الموت، وذلك بإيمانهم بالحياة الآخرة إيمانا يشعرون معه أن الموت ليس إلا انتقالا من عالم إلى عالم أرحب، وأفسح،. ومن هنا فلا ينظرون إلى الموت على أنه فناء أبدى للميت، وضياع لا نهائى لمن بموت، كما ينظر إلى ذلك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.. إنه ليس معهم إلا هذه الحياة الدنيا، وأنهم إذا فارقوها، فارقوها إلى غير رجعة أبدا.. فهم لهذا أحرص ما يكونون على حياتهم هذه، وأشد ما يكون جزعا إذا ذكروا الموت، أو أحسوا قرب الأجل..
«وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» (٦٩: النساء).
وإنما تتجلى طاعة الله ورسوله على أتم وجه وأكمله فى ميدان الجهاد فى سبيل الله.. يقول سبحانه: «وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (٧٤: النساء).. فالأجر العظيم الذي يناله المجاهد من ربه مشروط بأحد شرطين: أن يقتل فى ميدان القتال، أو ينتصر على عدوه.. فلا يعود المجاهد إلى أهله إلا منتصرا على العدو.. فإن لم يشهد نهاية المعركة، ومات قبل أن يحقق المسلمون النصر، فإنه يكون قد شارك بدمه المراق على أرض المعركة، فى كتابة كلمة النصر، التي يؤذن بها مؤذن الحق فى نهاية المعركة..
وثالثا: أنه توعد الذين ينتظمون فى صفوف المجاهدين، ثم إذا التحم القتال، وتساقطت الرءوس، وتناثرت الأشلاء، وسالت الدماء- ركبهم الفزع، واستبد بهم الجزع، والتمسوا وجوه النجاة فى الفرار من الميدان، أو النكوص على الأعقاب، أو الدعوة إلى السلم، والاستسلام- توعد الإسلام من كان فى المجاهدين، المقاتلين، ثم أخذ هذا الموقف المتخاذل- توعده بغضب من الله، وبعذاب أليم فى نار جهنم، كما يقول سبحانه:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (١٥، ١٦: الأنفال)..
إن هذا الفارّ إنما يمثل- من غير قصد- صرخة الانهزام فى صفوف المجاهدين، وإنه لخير له وللمسلمين المجاهدين، ألا يشهد مثل هذا الإنسان مواقف القتال، وألا يكون فى صفوف المقاتلين.. وأما وقد خرج، ودخل المعركة، فإن فراره من القتال، خيانة لله، ولرسوله، وللمؤمنين..
ومن أجل هذا، عزل الله سبحانه وتعالى المنافقين عن مواقف الجهاد، ونقىّ جيش المجاهدين من هذه الأجسام الغريبة التي تدخل على الجسد السليم بأعراض الحمى. من صداع، وعرق، وأرق! فقال سبحانه لنبيه الكريم.
«فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ» (٨٣: التوبة)..
ومن التطبيق العملي لهذا الذي تسميه الحرب النفسية- أن الرسول- صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه- حين رجع من غزوة أحد، وعلم أن قريشا تريد الكرة على المدينة، وتنتهز فرصة الهزيمة التي حلت بالمسلمين فى أحد، فتضرب ضربتها القاضية، والحديد ساخن، كما يقولون- تقول حين علم الرسول الكريم بهذا دعا أصحابه، إلى أن يخرجوا إلى ظاهر المدينة، للقاء عدوهم، إن هو سولت له نفسه أن يهجم على المدينة.. وكان مما
وقد كان لهذا أثره النفسي عند المشركين، فإنهم ما إن علموا بأن محمدا قد خرج بأصحابه وراء القوم حتى توقفوا عن المسيرة نحو المدينة، وقد وقع فى أنفسهم أن محمدا يطلبهم ليثأر من هزيمة أمس فى أحد- وطالب الثأر هيهات أن يغلب، وحسبهم ما ظفروا به من المسلمين فى معركة الأمس، فقد تدور الدائرة عليهم فى الكرة التالية.
ورابعا: من أساليب الحرب النفسية- تخويف العدو وإرهابه، بما يرى فى جيش المجاهدين من أمارات القوة، ووسائل الغلب.. وشبيه بهذا ما تقوم به الأمم من عرض قوتها فى تلك العروض العسكرية، التي تكشف بها عن بعض عدتها وعتادها، على حين أنها إذ تكشف عن بعض قوتها، فإنها تشير إلى أن وراء هذا الذي أعلنته قوى كثيرة خفية، أشد أثرا، وأقوى فتكا، من هذا الذي عرف الناس أمره، وأن ذلك سرّ من أسرارها الحربية، التي لا تظهر إلا عند الحرب!!.
ولهذا الجانب من الحرب النفسية أثر كبير فى كسر شوكة العدو، وفى قتل مطامعه فى النّيل من عدوه، فلا يقدم على العدوان وهو يرى هذه القوى المهيأة للحرب، الراصدة لكل عدو.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» (٦٠: الأنفال).
قوله تعالى:
«إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ».
هو تعقيب على قوله تعالى: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ»..
وفى هذا التعقيب دعوة للمؤمنين إلى أن ينظروا إلى الحياة الدنيا نظرا جادّا متفهّما، فإنهم لو نظروا إليها هذا النظر، لعرفوا أنها لعب ولهو، وأنها متاع قليل وظل زائل، وأنها إذ كانت هكذا هزيلة باهتة، فإن الحرص عليها، والتشبث بالحياة فيها على أية صورة من صور الحياة، وإن كان فى ثوب الذل والمهانة- إن هذا غبن للإنسان، وجور على إنسانيته..
قوله تعالى: «وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ»..
هو بيان لما هو مطلوب من الإنسان فى هذه الدنيا، حتى ينال الجزاء الطيب من الله سبحانه وتعالى، وينزل فى الآخرة منازل رضوانه..
وهذا المطلوب من الإنسان هو الإيمان، ثم العمل الصالح الذي يبلغ بالإنسان مبلغ التقوى.. فمن آمن واتّقى أخذ أجره كاملا فى الدنيا والآخرة..
وإتيان الأجر، هو الجزاء الحسن الطيب، للأعمال الحسنة الطيبة، كما فى قوله تعالى: «وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» (٢٧:
العنكبوت). وقوله تعالى: «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» (٣٠: فاطر) فالأجر هو جزاء عن عمل طيب، يؤجر عليه صاحبه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان ابنة شعيب عليه السلام: «يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ» (٢٦: القصص) وقوله تعالى: «وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ» - هو واقع فى جواب الشرط، معطوف على قوله تعالى: «يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ» أي أنه إذا حقق المؤمن الإيمان والتقوى فإنه لا يسأل شيئا من ماله، الذي بين يديه، غير ما هو مفروض عليه فيه من زكاة..
أولا: أن أداء الفرائض على وجهها كاملة، هو غاية المطلوب من الإنسان..
وأنه يأخذ أجره كاملا، دون أن يقدم نظير هذا الأجر عوضا له من ماله..
وثانيا: أنه مهما حرص الإنسان على أداء الفرائض كاملة مستوفاة شرائطها، وأركانها- فإنه لا يمكن أن يتحقق له ذلك على كماله وتمامه، لما يعرض للإنسان من معوقات نفسية، ومادية، تحول بينه وبين الوصول إلى درجة الكمال.. ومن هنا كانت النوافل، التي تقوم إلى جانب الفرائض، ليجبر بها الإنسان ما يقع منه من تقصير فيها.. كما فى النوافل التي تصحب الصلاة والصوم، والزكاة، والحج.. فكل فريضة من هذه الفرائض تصحبها نوافل، هى فى حقيقة أمرها- تعويض وجبر لما قد يقع- ولا بدّ- فى أداء الفريضة من تقصير..
وثالثا: ما تجبر به الفرائض من نوافل قد يخفّ أمره على النفوس، إلا ما كان منها متصلا بالمال، الذي هو رغيبة النفوس، ومتعلق الآمال.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية الكريمة بعد هذا..
«إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ».
يسألكموها: أي إن يسألكم إياها، أي يطلب إليكم مزيدا من الإنفاق من أموالكم، غير ما هو مفروض عليكم من زكاة فيها..
«فَيُحْفِكُمْ» : أي يشتدّ عليكم فى الطلب، ويطلب الكثير مما فى أيديكم.
وأصله من الحفا والحفاء، وهو ما يصيب الراحلة من الإبل، من طول السفر، حتى تحفى أخفافها، ويتآكل جلدها ولحمها.. يقول الأعشى عن ناقته التي كان يتجه بها إلى الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ليعلن إسلامه
فآليت لا أرنى لها من كلالة | ولا من حفى حتى تلاقى محمدا |
ومعنى الآية الكريمة أنه لما يعلم الله سبحانه وتعالى من طبيعة النفوس، وحرصها على المال، وتعلقها به، فقد كان من رحمته سبحانه وتعالى بالناس أن رفق بهم، ورضى بالقليل من أموالهم ينفقونها فى سبيل الله.. ولو أنه سبحانه وتعالى ألزم المؤمنين أن يقدموا المال فى مقابل الأجر الذي ينالونه من عند الله، لأتى ذلك على كل ما معهم من مال، ولما استوفت كلّ أموالهم بعض ما أخذوا من أجر، ولوقع المؤمنون فى حرج شديد، ولأخذوا مأخذ المخالفين المقصّرين.. فكان من حكمة الحكيم العليم، ورحمة الرحمن الرحيم، أن أعطى النفوس حظها من هذا المال، واكتفى بأخذ القليل منه، الأمر الذي لا تضيق به النفوس، ولا تحرج به الصدور، وذلك مع إعطائهم أجرهم كاملا، بما فى قلوبهم من إيمان وتقوى..
وفى الآية الكريمة، إشارة إلى أن هذا المال، هو مال الله سبحانه وتعالى، وأن لله سبحانه وتعالى أن يسأل هذا المال كلّه، وأن يأخذه جميعه، دون أن يكون فى هذا ظلم لأحد، لأنه سبحانه لم يأخذ شيئا ليس له!! ومع هذا، فإنه سبحانه، أعطى الكثير متفضّلا منعما، وأخذ القليل، رحيما مترفقا.. فسبحانه، سبحانه، يهب فضله وإحسانه لعباده، ثم يتقبل منهم بعض ما وهب، ليكون رصيدا لهم من الفضل والإحسان، يطهرون به نفوسهم، ويغسلون به أدرانهم..
«ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ».
بهذه الآية الكريمة تختم السورة، فتلتقى بالمؤمنين، بعد أن وضعتهم فى مواجهة أعدائهم من الكافرين والمشركين، الذين يحادون الله ورسوله، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر، وأنه مطلوب من المؤمنين أن يعملوا على حماية أنفسهم من هذا العدو المتربص بهم، وذلك بالجهاد فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم..
ولمّا كان للمال سلطانه على النفوس، فقد جاءت الآيات السابقة تكشف عن هذه المشاعر، التي يجدها المؤمنون حين يمتحنون فى أموالهم، وأن الله سبحانه وتعالى قد شملهم برحمته، فلم يدعهم إلى الخروج عن أموالهم جملة، على سبيل الإلزام والفرض، بل جعل ذلك دعوة مطلقة، يأخذ منها الناس ما تتسع له نفوسهم، كلّ على حسب ما تسخو به نفسه، ويرضاه قلبه..
دون حرج أو إعنات.
وفى قوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» امتحان للمؤمنين، واستدعاء لما فى نفوسهم من إيمان، فى مقام البذل فى سبيل الله..
وقوله تعالى: «فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ» هو بيان لما كشف عنه هذا الامتحان من شحّ فى بعض النفوس، وضنّ بالبذل
وفى تعدية الفعل «يبخل» بحرف الجر «عن» بدلا من الحرف «على» الذي يستدعيه ظاهر النظم- فى هذا إشارة إلى أن هذا البخل هو حجز للخير عن النفس، التي كان من حقها على صاحبها أن يسوقه إليها من هذا المال الذي بخل به، وهو يظن أنه إنما فعل ذلك ابتغاء لخيرها وإسعادها..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ» - هو تعقيب على موقف أولئك الذين بخلوا بالإنفاق فى سبيل الله، ولم يستجيبوا الدعوة الله، الذي آتاهم من فضله، ووسّع لهم من رزقه- فالله- سبحانه- غنىّ عنهم، وهم الفقراء إليه..
ولو شاء سبحانه أن يعفيهم من هذا الامتحان، لفعل، ولحرمهم الثواب الذي ينالونه بما ينفقون من مال الله الذي بين أيديهم..
وقوله تعالى: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ»..
هو تهديد ووعيد لهؤلاء الباخلين بأموالهم عن الإنفاق منها فى سبيل الله وأنهم إذا أصروا على موقفهم هذا، ولم ينفقوا فى سبيل الله، كان فى المؤمنين من يقوم مقامهم، ويسدّ هذا النقص الذي كان منهم.. ثم إن هؤلاء الذين يلبسون الإيمان ظاهرا وباطنا، لا يكون منهم تردد، أو نكوص عن تقبل البذل والإنفاق، كما كان من هؤلاء المترددين المنقلبين على أعقابهم، بل ستثبت أقدامهم على طريق الإيمان إلى النهاية..
نزولها: مدينة.. نزلت بعد صلح الحديبية..
عدد آياتها: تسع وعشرون آية..
عدد كلماتها: خمسمائة وستون كلمة عدد حروفها: ألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا.
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة «محمد» (عليه الصلاة والسلام) بدعوة المؤمنين إلى البذل والإنفاق فى سبيل الله، حاملة بين يدى هذه الدعوة، إشارة إلى أن هذه الدعوة لا تلقى قبولا من بعض ذوى النفوس التي لم يتمكن الإيمان منها، وأن هؤلاء سيخلون مكانهم لغيرهم من المؤمنين الذي صدقوا الله ورسوله، وهؤلاء المؤمنون هم الذين يتلقاهم الله سبحانه وتعالى بالقبول، ويمنحهم النصر والتأييد الذي وعد عباده المؤمنين..
وقد جاءت سورة «الفتح» تزف إلى المؤمنين هذه البشرى بالفتح والنصر الذي أعز الله به نبيه، وأعز به المؤمنين معه.. كما يقول سبحانه فى مطلع السورة: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ».. وكما يقول سبحانه بعد ذلك: «وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً»..
ومن جهة أخرى، فإن سورة «محمد» (صلى الله عليه وسلم) قد حملت إلى النبي الكريم هذا الأمر الكريم من ربه: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ