تفسير سورة الممتحنة

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة الممتحنة وهي مدنية حروفها ألف وخمسمائة وعشرة كلماتها ثلاثمائة وثمان وأربعون آياتها ثلاث عشرة ).

(سورة الممتحنة)
(وهي مدنية حروفها ألف وخمسمائة وعشرة كلماتها ثلاثمائة وثمان وأربعون آياتها ثلاث عشرة)
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١ الى ١٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤)
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
289
القراآت
يَفْصِلُ ثلاثيا معلوما: عاصم غير المفضل وسهل ويعقوب يفصل بالتشديد: حمزة وعلي وخلف. مثله ولكن مجهولا: ابن ذكوان. الآخرون: ثلاثيا مجهولا في إبراهام كنظائره أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بتشديد التاء: البزي وابن فليح تمسكوا بالتشديد:
أبو عمرو وسهل ويعقوب.
الوقوف
مِنَ الْحَقِّ ج لأن ما بعده يحتمل الحال من ضمير كَفَرُوا والاستئناف بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ط أَعْلَنْتُمْ ط السَّبِيلِ هـ تَكْفُرُونَ هـ أَوْلادُكُمْ ج لاحتمال تعلق الظرف ب لَنْ تَنْفَعَكُمْ أو يفصل يَوْمَ الْقِيامَةِ ج بناء على المذكور بَيْنَكُمْ ط بَصِيرٌ هـ وَالَّذِينَ مَعَهُ ج لأن الظرف قد يتعلق باذكر محذوفا أو أسوة مِنْ دُونِ اللَّهِ ط لأن ما بعد مستأنف في النظم وإن كان متصلا في المعنى مِنْ شَيْءٍ ط الْمَصِيرُ هـ لَنا رَبَّنا هـ للإبتداء بأن مع أن التقدير فإنك الْحَكِيمُ هـ الْآخِرَ ط الْحَمِيدُ هـ مَوَدَّةً ط قَدِيرٌ هـ رَحِيمٌ هـ إِلَيْهِمْ ط الْمُقْسِطِينَ هـ تَوَلَّوْهُمْ ج للشرط مع العطف الظَّالِمُونَ هـ فَامْتَحِنُوهُنَّ ط بِإِيمانِهِنَّ ط الْكُفَّارِ ط لَهُنَّ ط ما أَنْفَقُوا ط أُجُورَهُنَّ ط ما أَنْفَقُوا ط حُكْمُ اللَّهِ ط بَيْنَكُمْ ط حَكِيمٌ هـ ز ما أَنْفَقُوا ط مُؤْمِنُونَ هـ لَهُنَّ اللَّهَ ط رَحِيمٌ هـ الْقُبُورِ هـ.
التفسير:
يروى أن مولاة أبي عمرو ابن صيفي بن هاشم يقال لها سارة، أتت رسول الله ﷺ بالمدينة وهو متجهز لفتح مكة فعرضت حاجتها، فحث بني المطلب على الإحسان إليها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا واستحملها كتابا إلى أهل مكة هذه نسخته «من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة. اعلموا أن رسول الله ﷺ يريدكم فخذوا حذركم». فخرجت سارة ونزل جبريل عليه السلام بالخبر، فبعث رسول الله ﷺ عليا رضي الله عنه وعمارا وعمرو فرسانا أخر وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فإن أبت فاضربوا عنقها. فأدركوها فجحدته وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله ﷺ وسل سيفه وقال:
290
أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك فأخرجته من عقاص شعرها. فقال رسول الله ﷺ لحاطب:
ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكني كنت غريبا في قريش وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدّقه وقبل عذره فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال: وما يدريك يا عمر لعل الله قد أطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم وأنزلت السورة.
وتُلْقُونَ مستأنف أو حال من ضمير لا تَتَّخِذُوا أو صفة لأولياء، ولا حاجة إلى الضمير البارز وهو أنتم وإن جرى على غير من هو له لأن ذاك في الأسماء دون الأفعال كما لو قلت مثلا ملقين أنتم والإلقاء عبارة عن الإيصال التام. والباء في بِالْمَوَدَّةِ إما زائدة كما في قوله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [البقرة: ١٩٥] أو للسببية ومفعول تُلْقُونَ محذوف معناه تلقون إليهم أخبار الرسول ﷺ بسبب المودة. وأَنْ تُؤْمِنُوا تعليل ل يُخْرِجُونَ أي يخرجونكم لإيمانكم. وإِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ تأكيد متعلق ب لا تَتَّخِذُوا وجوابه مثله. وانتصب جِهاداً وابْتِغاءَ على العلة أي إن كنتم خرجتم من أوطانكم لأجل جهاد عدوّى ولابتغاء رضواني فلا تتولوا أعدائي. وقوله تُسِرُّونَ مستأنف والمقصود أنه لا فائدة في الإسرار فإن علام الغيوب لا يخفى عليه شيء. ثم خطأ رأيهم بوجه آخر وهو أنهم إن يظفروا بهم أخلصوا العداوة ويقصدونهم بكل سوء باللسان والسنان.
قال علماء المعاني: إنما عطف قوله وَوَدُّوا وهو ماض لفظا على ما تقدمه وهو مضارع تنبيها على أن ودادهم كفرهم أسبق شيء عندهم لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من الأرواح والأموال وأهم شيء عند العدوّ أن يقصد أعز شيء عند صاحبه. ثم بين خطأ رأيهم بوجه آخر وهو أن المودة إذا لم تكن في الله لم تنفع في القيامة لانفصال كل اتصال يومئذ كما قال يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس: ٣٤] الآية. ويجوز أن يكون الفصل بمعنى القضاء والحكم. ثم ذكر أن وجوب البغض في الله وإن كان أخاه أو أباه أسوة في إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه حيث جاهروا قومهم بالعداوة وقشروا لهم العصا وصرحوا بأن سبب العداوة ليس إلا الكفر بالله، فإذا آمنوا انقلبت العداوة موالاة والمناوأة مصافاة والمقت محبة. ثم استثنى إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ من قوله أسوة كأنه قال حق عليكم أن تأتسوا بأقواله إلا هذا القول الذي هو الاستغفار لقوله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: ١١٣] أما قوله وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فليس بداخل في
291
حكم الاستثناء لأنه قول حق، وإنما أورده إتماما لقصة إبراهيم مع أبيه. وقال في الكشاف:
هو مبني على الاستغفار وتابع له كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار. ثم أكد أمر المؤمنين بأن يقولوا رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا الآية. ويجوز أن يكون من تتمة قول إبراهيم ومن معه وفيه مزيد توجيه. ثم أكد أمر الائتساء بقوله لَقَدْ كانَ فأدخل لام الابتداء وأبدل من قوله لَكُمْ قوله لِمَنْ كانَ يَرْجُوا وختم الآية بنوع من الوعيد. ثم أطمع المؤمنين فيما تمنوا من عداوة أقاربهم بالمودة وَاللَّهُ قَدِيرٌ على تقليب القلوب وتصريف الأحوال وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن وادهم قبل النهي أو لمن أسلم من المشركين، فحين يسر الله فتح مكة أسلم كثير منهم ولم يبق بينهم إلا التحاب والتصافي. ولما نزلت هذه الآيات تشدّد المؤمنون في عداوة أقاربهم وعشائرهم فنزل لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ وقوله أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل من الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ وكذا قوله أَنْ تَوَلَّوْهُمْ من الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء. ومعنى تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ تعطوهم مما تملكون من طعام وغيره قسطا. وعدّي ب «إلى» لتضمنه معنى الإحسان وقال في الكشاف: تقضوا إليهم بالقسط أي العدل ولا تظلموهم. وقيل: أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله ﷺ على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه. وعن مجاهد: الذين آمنوا بمكة.
وقيل: هم النساء والصبيان. وعن قتادة: نسختها آية القتال.
قال المفسرون: إن صلح الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة رد إليهم ومن أتى مكة منهم لم يرد إليكم وكتبوا بذلك كتابا وختموه. فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنبي ﷺ بالحديبية، فأقبل زوجها مسافرا المخزومي. وقيل: صيفي بن الراهب فقال: يا محمد اردد إليّ امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ الآية.
فكانت بيانا لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء.
وعن الضحاك: كان بين رسول الله ﷺ وبين المشركين عهد أن تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها. وللنبي ﷺ من الشرط مثل ذلك فأتت امرأة فاستحلفها رسول الله ﷺ لقوله تعالى فَامْتَحِنُوهُنَّ فحلفت فأعطى زوجها ما أنفق وتزوّجها عمر.
وفائدة قوله اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أنه لا سبيل لكم إلى ما تسكن إليه النفس من اليقين الكامل لأنكم تختبرونهن بالحلف والنظر في سائر الأمارات التي لا تفيد إلا الظن، وأما الإحاطة بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما تفرد به علام الغيوب فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ العلم الذي يليق بحالكم وهو الظن الغالب فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى أزواجهن
292
الْكُفَّارِ لأنه لا حلّ بين المؤمنة والمشرك وآتوا أزواجهن مِثْلَ ما أَنْفَقُوا مثل ما دفعوا إليهن من المهور. ثم نفى عنهم الحرج في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا أعطوهن مهورهن.
قال العلماء: إما أن يريد بهذا الأجر ما كان يدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزوّجهن تقديم أدائه، وإما أن يراد بيان أن ذلك المدفوع لا يقوم مقام المهر وأنه لا بد من إصداق. احتج أبو حنيفة بالآية على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلما أو بذمة وبقي الآخر حربيا وقعت الفرقة بينهما ولا يرى العدة على المهاجرة ويصح نكاحها إلا أن تكون حاملا وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وهو ما يعتصم به من عقد وسبب قال ابن عباس: أراد من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعدّها من نسائه لأن اختلاف الدين قطع عصمتها وحل عقدتها. وعن النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر. وقال مجاهد: هذا أمر بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ من مهور أزواجكم الملحقات بالكفار وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا من مهور نسائهم المهاجرات. أمر المؤمنين بالإيتاء ثم أمر الكافرين بالسؤال وهذه غاية العدل ونهاية الإنصاف. ثم أكد ما ذكر من الأحكام بأنها حكم الله. قال جار الله: يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ كلام مستأنف أو حال من حكم الله على حذف العائد أي يحكمه الله، أو جعل الحكم حاكما على المبالغة.
يروى أن بعض المشركين أبوا أن يؤدّوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين فأنزل الله تعالى وَإِنْ فاتَكُمْ
أي سبقكم وانفلت منكم شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ أحد منهن قال أهل المعاني: فائدة إيقاع شيء في هذا التركيب التغليظ في الحكم والتشديد فيه أي لا ينبغي أن يترك شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر غير معوّض عنه. ويجوز أن يراد وإن فاتكم شيء من مهور أزواجكم. ومعنى فَعاقَبْتُمْ فجاءت عقبتكم من أداء المهر والعقبة النوبة شبه أداء كل طائفة من المسلمين والكافرين المهر إلى صاحبتها بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ إلى الكفار مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي مثل مهرها من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر. وقال الزجاج: معنى فَعاقَبْتُمْ فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم، فالذي ذهبت زوجته كان يعطي من الغنيمة المهر. قال بعض المفسرين: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شدّاد الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن نصلة وزوجها عمرو بن عبد ودّ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص، وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر. أعطاهم رسول الله ﷺ مهور نسائهم من الغنيمة. وفي قوله وَاتَّقُوا اللَّهَ ندب إلى سيرة التقوى ورعاية العدل ولو مع الكفرة.
293
ثم نبّه نبيه ﷺ على شرائط المبايعة وهي المعاهدة على كل ما يقع عليه اتفاق كالإسلام والإمارة والإمامة، والمراد هاهنا المعاقدة على الإسلام وإعطاء العهود به وبشرائطه وعدم قتل الأولاد ووأد البنات، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك فكني عنه بالهتان المفترى بين يديها ورجليها لأن بطنها الذي تحمله فيه هو بين اليدين وفرجها الذي تلد به بين الرجلين. وقيل: البهتان في الآية الكذب والتهمة والمشي بالسعاية مختلقة من تلقاء أنفسهنّ. وقيل: قذف المحصنين. قال ابن عباس: في قوله وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ إنما هو شرط شرطه الله تعالى على النساء، والمعروف كل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات. واختلف في كيفية مبايعته إياهنّ فقيل: دعا بقدح من ماء وغمس يده فيه ثم غمسن أيديهنّ. وقيل: صافحهنّ وكان على يده ثوب. وقيل: كان عمر يصافحهنّ ما مست يد رسول الله ﷺ يد امرأة يملكها إنما كان كلاما.
وعن أميمة بنت رقيقة قالت: أتيت رسول الله ﷺ في نسوة من الأنصار نبايعه على الإسلام فأخذ علينا يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنّ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصينك في معروف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما استطعتن وأطقتن. قلنا الله ورسوله أرحم بنا منا بأنفسنا هلمّ نصافحك يا رسول الله. قال:
إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة.
يروى أن بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود طمعا في ثمارهم فنزلت لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً الآية.
وسبب يأسهم من الآخرة تكذيبهم بصحة نبوّة الرسول ثم عنادهم كما يئس الكفار من موتاهم أن يرجعوا أحياء. وقيل: من أصحاب القبور بيان للكفار لأنهم أيسوا من خير الآخرة ومعرفة المعبود الحق فكأنهم أولى.
294
Icon