تفسير سورة الأعراف

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة١ الأعراف٢
مقصودها إنذار من أعرض عما دعا إليه الكتاب في السورة الماضية من التوحيد والاجتماع على الخير والوفاء لما قام على وجوبه من الدليل في الأنعام، وتحذيره٣ بقوارع الدارين، وهذا أحسن مما كان ظهر لي وذكرته عند " والوزن يومئذ الحق " وأدل ما فيها على هذا المقصد أمر الأعراف فإن اعتقاده يتضمن الإشراف على الجنة/ والنار والوقوف على حقيقة ما فيهما وما أعد لأهلهما٤ الداعي إلى امتثال كل خير واجتناب كل شر والاتعاظ بكل مرقق ( بسم الله ) المتردى برداء الكبر وإزار العظمة والجلال ( الرحمن ) الذي من رحمته انتقامه من أهل الكفر والضلال ( الرحيم ) الهادي لأهل الاصطفاء إلى لزوم طريق الوفاء ﴿ المص ﴾.
١ - زيد قبله في ظ: بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر يا كريم. ومن هنا تبتدئ صفحة ظ ا/ألف..
٢ - مكية، ومائتان وخمس آيات في البصري والشامي، وست في المدني والكوفي..
٣ - في ظ: تحذير..
٤ - من ظ وفي الأصل: أهلهما..

لما ذكر سبحانه في آخر التي قبلها أنه أنزل إليهم كتاباً مباركاً، وأمر باتباعه وعلل إنزاله وذكر ما استتبعه ذلك مما لا بد منه في منهاج البلاغة وميدان البراعة، وكان من جملته أن أمر المدعوين به ليس إلا إليه، إن شاء هداهم وإن شاء أضلهم واستمر فيها لا بد منه في تتميم ذلك إلى أن ختم السورة بما انعطف على ما افتتحت به، فاشتد اعتناقه له
347
حتى صارا كشيء واحد؛ أخذ يستدل على ما ختم به تلك من سرعة العقاب وعموم البر والثواب وما تقدمه، فقال مخبراً عن مبتدإ تقديره: هو ﴿كتاب﴾ أي عظيم أوضح الطريق المستقيم فلم يدع بها لبساً ولم يذر خيراً إلا أمر به ولا شراً إلا نهى عنه، فإنزاله من عظيم رحمته؛ ثم وصفه بما أكد ما أشار إليه من رحمته بقوله: ﴿أنزل إليك﴾ أي وأنت أكرم الناس نفساً وأوسعهم صدراً وأجملهم قلباً وأعرقهم إصالة وأعرفهم باستعطاف المباعد واستجلاب المنافر المباغض، وهذا شيء قد خصك به فرفعك على جميع الخلق درجات لا تحصى ومراتب لا حد لها فتستصى.
ولما كان المقصود من البعثة أولاً النذارة للرد عما هم عليه من الضلال، وكانت مواجهة الناس بالإنذار شديدة على النفوس، وكان الإقدام عليها من الصعوبة بمكان عظيم؛ قدم قوله مسبباً عن تخصيصه بهذه الرحمة: ﴿فلا يكن﴾ وعبر عن القلب بمسكنه الذي هو أوسع منه مبالغة في الأمر فقال: ﴿في صدرك حرج﴾ أي شيء من ضيق بهم أو خوف أو نحو ذلك ﴿منه﴾ على ما تعلق ب «أنزل» من قوله:
348
﴿لتنذر به﴾ أي نذري لكل من بلغه أو للمخالفين من سرعة العقاب على نحو ما أوقع سبحانه بالقرون الماضية والأمم السابقة - كما أشار إليه آخر الأنعام، وسيقص من أخبارهم من هذه السورة ﴿و﴾ لتنذر به ﴿ذكرى﴾ أي عظيمة ﴿للمؤمنين*﴾ أي بالبشر والمواعظ والغفران والرحمة على ما أشار إليه ختام الأنعام، وحذف المفعول يدل على عموم الرسالة لكل من أمكن إنذاره وتذكيره من العقلاء، ويجوز أن تتعلق لام «لتنذر» بمعنى النهي، أي انف الحرج لكذا، فإن من كان منشرح الصدر أقدم على ما يريد أو يحرج، أي لا يكن الحرج الواقع لأجل أن تنذر، أي لأجل إنذارك به، والنهي للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حُوّل إلى الحرج مبالغة وأدباً، ويجوز أن يكون التقدير: لتنذر به وتذكر به، فإنه نذرى للكافرين وذكرى للمؤمنين، والآية على كل تقدير من الاحتباك: إثباته «لتنذر» أولاً، دال على حذف «لتذكر» ثانياً، وإثبات المؤمنين ثانياً دال على حذف المخالفين أولاً، فإن النفوس على قسمين: نفوس بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في طلب اللذات الجسمانية والشهوات الحيوانية فبعثة الرسل في حقهم إنذار وتخويف، ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية فبعثة الرسل في حقهم تذكير لأن هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية وجبلتها الخلقية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس إلا أنه ربما غشيها غواش من عالم الأجساد فيعرض لها
349
نوع ذهول وغفلة، فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصلت بها أنوار أرواح رسل الله تذكرت مركزها وأبصرت منشأها، فاشتاقت إلى ما حصل هناك من الروح والريحان فطارت نحوهم كل مطار فتمحضت لديها تلك الأنوار؛ وقال أبو حيان: واعتلاق هذه السورة بما قبلها هو أنه لما ذكر تعالى قوله:
﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه﴾ [الأنعام: ١٥٥] واستطرد ممنه لما بعده إلى قوله في آخر السورة ﴿وهو الذي جعلكم خلائف الأرض﴾ [الأنعام: ١٦٥] وذكر ابتلاءهم فيما آتاهم، وذلك لا يكون إلا بالتكاليف الشرعية، ذكر ما يكون به التكاليف، وهو الكتاب الإلهي، وذكر الأمر باتباعه كما أمر في قوله ﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه﴾ [الأنعام: ١٥٥]- انتهى. وقال شيخه الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما قال تعالى ابتداء بالاعتبار ﴿ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين﴾ [الأنعام: ٦] ثم قال تعالى ﴿ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون﴾ [الأنعام: ١٠] ثم قال تعالى: ﴿قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين﴾ [الأنعام: ١١] ثم قال تعالى
350
﴿ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا﴾ [الأنعام: ٣٤] وقال تعالى ﴿ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء﴾ [الأنعام: ٤٢]، وقال تعالى ﴿يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي﴾ [الانعام: ١٣] فوقعت الإحالة في هذه الآي على الاعتبار بالأمم السالفة وما كان منهم حين حين كذبوا أنبياءهم وهلاك تلك القرون بتكذيبهم وعتوهم وتسلية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجريان ما جرى له بمن تقدمه مت الرسل ﴿قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون﴾ [الأنعام: ٣٣] فاستدعت الإحالة والتسلية بسط أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، والإعلام بصبر الرسل - عليهم السلام - عليهم وتلطفهم في دعائهم، ولم يقع في السور الأربع قبل سورة الأنعام مثل هذه الإحالة والتسلية وقد تكررت في سورة الأنعام كما تبين بعد انقضاء ما قصد من بيان طريق المتقين أخذاً وتركاً وحال من حاد عن سننهم ممن رامه أو قصده فلم يوفق له ولا أتم له أمله من الفرقتين: المستندة للسمع والمعتمدة للنظر، فحاد الأولون بطارىء التغيير والتبديل، وتنكب الآخرون بسوء التناول وقصور الأفهام وعلة حيد الفريقين السابقة الأزلية؛ فلما انقضى أمر هؤلاء وصرف الخطاب إلى تسليته عليه السلام وتثبيت فؤاده
351
بذكر أحوال الأنبياء مع أممهم وأمر الخلق بالاعتبار بالأمم السالفة، وقد كان قدّم لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ذكر الأنبياء
﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾ [الأنعام: ٩٠] بسط تعالى حال من وقعت الإحالة عليه، واستوفى الكثير من قصصهم إلى آخر سورة هود إلى قوله سبحانه ﴿وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك﴾ [هود: ١٢٠] فتأمل بما افتتحت به السورة المقصودة بها قصص الأمم وبما اختتمت يَلُح لك ما أشرت إليه - والله أعلم بمراده، وتأمل افتتاح سورة الأعراف بقوله ﴿فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين﴾ [الأعراف: ٧] وختم القصص فيها بقوله: ﴿فاقصص القصص لعلهم يتفكرون﴾ [الأعراف: ١٧٦] بعد تعقيب قصص بني إسرائيل بقصة بلعام ﴿واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا﴾ [الأعراف: ١٧٥]، ثم قال: ﴿ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا﴾ [الأعراف: ١٧٦] فتأمل هذا الإيماء بعد ذكر القصص، وكيف ألحق مَنْ كذب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العرب وغيرهم بمن قص ذكره من المكذبين، وتأمل افتتاح ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام وكلاهما ممن كفر على علم، وفي ذلك أعظم موعظة، قال الله تعالى إثر ذلك ﴿من يهد الله فهو المهتدي﴾ [الأعراف: ١٧٨]، فبدأ الاستجابة بنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذكر ما أنعم عليه وعلى من استجاب له فقال تعالى: ﴿المص كتاب أنزل إليك﴾ [الأعراف: ١-٢]
352
فأشار إلى نعمته بإنزال الكتاب الذي جعله هدى للمتقين، وأشار هنا ما يحمله عليه من التسلية وشرح الصدور بما جرى من العجائب والقصص مع كونه هدى ونوراً، فقال ﴿فلا يكن في صدرك حرج منه﴾ [الأعراف: ٢] أي أنه قد تضمن مما أحلناك عليه ما يرفع الحرج ويسلي النفوس لتنذر به كما أنذر من قبلك ممن نقص خبره من الرسل، ولتستن في إنذارك ودعائك وصبرك سننهم، وليتذكر المؤمنون؛ ثم أمر عباده بالاتباع لما أنزله فقال: ﴿اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم﴾ [الأعراف: ٣] فإنة هلاك من نقص عليكم خبره من الأمم إنما كان لعدم الاتباع والركون إلى أوليائهم من شياطين الجن والإنس، ثم أتبع ذلك بقصة آدم عليه السلام ليبين لعباده ما جرت سنته فيهم من تسلط الشياطين وكيده وأنه عدو لهم ﴿يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة﴾ [الأعراف: ٢٧] ووقع في قصة آدم هنا ما لم يقع في قصة البقرة من بسط ما أجمل هناك كتصريح اللعين بالحسد وتصور خيريته بخلقه من النار وطلبة الإنظار والتسلط على ذرية آدم والإذن له في ذلك ووعيده ووعيد متبعيه ثم أخذ في الوسوسة إلى آدم عليه السلام وحلفه له ﴿وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين﴾ [الأعراف: ٢١] وكل هذا مما أجمل في سورة البقرة ولم تتكرر قصة إلا وهذا شأنها، أعني أنها تفيد مهما تكررت ما لم يكن حصل منها أولاً؛ ثم انجزت
353
الآي إلى ابتداء قصة نوح عليه السلام واستمرت القصص إلى قصص بني إسرائيل، فبسط هنا من حالهم وأخبارهم شبيه ما بسط في قصة آدم وما جرى من محنة إبليس، وفصل هنا الكثير وذكر ما لم يذكر في البقرة حتى لم يتكرر بالحقيقة ولا التعرض لقصص طائفة معينة فقط، ومن عجيب الحكمة أن الواقع في السورتين من كلتا القصتين مستقل شاف، وإذا ضم بعض ذلك إلى بعض ارتفع إجماله ووضح كماله، فتبارك من هذا كلامه ومن جعله حجة قاطعة وآية باهرة.
ولما أعقب تعالى قصصهم في البقرة بأمره نبيه والمؤمنين بالعفو والصفح فقال تعالى ﴿فاعفوا واصفحوا﴾ [البقرة: ١٠٩] أعقب تعالى أيضاً هنا بقوله لنبيه عليه الصلاة والسلام ﴿خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين﴾ [الأعراف: ١٩٩] وقد خرجنا عن المقصود فلنخرج إليه - انتهى.
354
ولما تقدم سبحانه إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر الإنذار والإذكار بالكتاب تقدم إلى اتباعه فأمرهم باتباعه ونهاهم عن اتباع أهل الضلال وما يوحي إليهم أولياؤهم من زخارفهم بعد أن أخبر بكونه ذكرى أنه سبب لعلو شأنهم وعز سلطانهم، فقال ملتفتاً إليهم مقبلاً بعز جلاله
354
عليهم ﴿اتبعوا﴾ أي حملوا أنفسكم حملاً عظيماً بجد ونشاط على اتباع ﴿ما أنزل إليكم﴾ أي قد خصصتم به دون غيركم فاشكروا هذه النعمة ﴿من ربكم﴾ أي الذي لم يزل محسناً إليكم ﴿ولاتتبعوا﴾ ولعله عبر بالافتعال إيماء إلى أن ما كان دون علاج - بل هفوة وبنوع غفلة - في محل العفو ﴿من دونه﴾ أي دون ربكم ﴿أولياء﴾ أي من الذين نهيناكم عنهم في الأنعام وبينا ضررهم لكم من شياطين الإنس والجن وعدم إغنائهم وأن الأمر كله لربكم.
ولما كانوا قد خالفوا في اتباعهم صريح العقل وسليم الطبع، وعندهم أمثلة ذلك لو تذكروا، قال منبهاً لهم على تذكر ما يعرفون من تصرفاتهم: ﴿قليلاً﴾ وأكد التقليل ب «ما» النافي وبإدغام تاء التفعيل فقال: ﴿ما تذكرون*﴾ أي تعالجون أنفسكم على ذكر ما هو مركوز في فطركم الأولى فإنكم مقرون بأن ربكم رب كل شيء، فكل من تدعون من دونه مربوب، وأنتم لا تجدون في عقولكم ولا طباعكم ولا استعمالاتكم ما يدل بنوع دلالة على أن مربوباً يكون شريكاً لربه.
ولما كان من أعظم ما يتذكر سار النعم وضار النقم للإقبال على الله والإعراض عما سواه وعدم الأغترار باسباب الأمن والراحة، قال: ﴿وكم﴾ أي قلّ تذكركم وخوفكم من سطواتنا والحال أنه
355
كم ﴿من قرية﴾ وإن جلت؛ ولما كان المراد المبالغة في الإهلاك، أسنده إلى القرية والمراد أهلها فقال: ﴿أهلكناها﴾ أي بما لنا من العظمة لظلمها باتباع من دون الله، فلا تغتروا بأوليائكم من دونه وأنتم عالمون بأنهم لم ينفعوا من ضل من الأمم السالفة وقت إنزالنا بهم السطوة وإحلالنا بهم النقمة وتحقق المهلكون إذ ذاك - مع أنهم كانوا أشد بطشاً واكثر عدداً وأمتن كيداً - عدم إغنائهم فلم يوجهوا آمالهم نحوهم.
ولما كان المعنى: أردنا إهلاكها وحكمنا به، سبب عنه قوله: ﴿فجاءها بأسنا﴾ أي عذابنا بما لنا من القوة والعظمة، أو الإهلاك على حقيقته وهذا تفصيل له وتفسير؛ ولما كان لا فرق في إتيان عذابه سبحانه بين كونه ليلاً أو نهاراً، وكان أفحش البأس وأشده ما كان في وقت الراحة والدعة والغفلة قال: ﴿بياتاً﴾ أي وقت الاستكنان في البيوت ليلاً كما أهلك قوم لوط عليه السلام وقت السحر.
ولما كان المراد بالقرية اهلها، بينه بقوله لأنه إذا حذف المضاف جاز فيه اعتباران بحسب ما يحسن من المعنى: أن لا يلتفت إليه - كما في اول الآية، وإن يلتفت إليه - كما في هذا الأخير لبيان أن الأهل هم المقصودون بالذات لأنه موضع التهديد: ﴿أو هم قائلون*﴾ أي
356
نائمون وقت القائلة أو مستريحون من غير نوم كما أهلك قوم شعيب عليه السلام، يعني أنهم كانوا في كل من الوقتين غافلين بسبب أنهم كانوا آمنين، لم يظنوا أن شيئاً من أعمالهم موجب للعذاب ولا كانوا مترقبين لشيء منه، فالتقدير: بياتاً هم فيه بائتون أي نائمون، أو قائلة هم فيها قائلون أي نائمون، فالآية من الاحتباك: دل إثبات «بياتاً» أولاً على حذف «قائلة» ثانياً، وإثبات «هم قائلون» ثانياً على حذف «هم نائمون» أولاً، والذي أرشدنا إلى هذا المعنى الحسن سوق «هم» من غير واو، وهذا قريب من قوله تعالى فيما يأتي
﴿أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون﴾ [الأعراف: ٩٧] فالأقرب أن يكون المحذوف أولاً نائمون، وثانياً نهاراً، فيكون التقدير: بياتاً هم فيه نائمون، أو نهاراً هم فيه قائلون، وبين عظمة ما جاءهم وهوله بأنهم في كل من الوقتين لم يقع في فكر أحد منهم التصويب إلى مدافعته بما سبب عن ذلك من قوله: ﴿فما كان دعواهم﴾ أي قولهم الذي استدعوه ﴿إذ جاءهم بأسنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿إلا أن قالوا﴾ أي إلا قولهم ﴿إنا كنا﴾ أي بما لنا من الجبلة ﴿ظالمين*﴾ أي في أنا لم نتبع من أنزل إلينا من ربنا، فلم يفدهم ذلك شيئاً غير شدة التحسر؛ ثم سبب عما مضى من أمر الرسول والأمم
357
قوله دفعاً لوهم من يظن أن الأمر انقضى بما عذبوا به في الدنيا: ﴿فلنسئلن﴾ أي بما لنا من العظمة على جهة التوبيخ والتقريع للعصاة والتشريف والتعظيم للمطيعين، وأظهر موضع الإضمار تعميماً فقال: ﴿الذين﴾.
ولما كانت الملامة على تكذيب الرسول لا بقيد كونه معيناً بنى للمفعول قوله: ﴿أرسل إليهم﴾ أي وهم الأمم، هل امتثلوا أوامرنا وأحجموا عند زواجرنا كما أمرتهم الرسل أم لا ﴿ولنسئلن﴾ أي بعظمتنا ﴿المرسلين*﴾ أي هل كان في صدورهم حرج مما أرسلناهم به وهل بلغوه أم لا يوم تكونون شهداء على الناس بما علمتم من شهادتي في هذا القرآن ويكون الرسول عليكم شهيداً فإنا لا بد أن نحييكم بعد الموت ثم نسألكم في يوم تظهر فيه السرائر وتنكشف - وإن اشتد خفاؤها - الضمائر، ولنرين الأفعال والأقوال، ولا نترك شيئاً من الأحوال.
ولما كان السؤال يفهم خفاء المسؤول عنه على السائل، سبب عن ذلك ما يزيل هذا الوهم بقوله مؤذناً بأنه أعلم من المسؤولين عما سألهم عن: ﴿فلنقصن﴾ أي بما لنا من صفات العظمة المستلزمة لكل كمال ﴿عليهم﴾ أي المسؤولين من الرسل وأممهم، جميع أحوالهم وما يستحقون من جزائها ﴿بعلم﴾ أي مقطوع به لا مظنون، فقد كنا معهم في جميع تقلباتهم ﴿وما كنا﴾ أي في وقت من الأوقات كما هو مقتضى ما لنا من العظمة ﴿غائبين*﴾ أي مطلقاً ولا عن أحد من الخلق
358
بل علمنا شامل لجميع الكليات والجزئيات لأن ذلك مقتضى العظمة ما لنا من صفات الكمال، ومن لم يكن محيط العلم بأن يميز المطيع من العاصي لا يصح أن يكون إلهاً.
359
ولما تقدمت الإشارة بقوله تعالى ﴿وأوفوا الكيل والميزان بالقسط﴾ [الأنعام: ١٥٢] الآية إلى المساواة الحقيقية في الميزان معجوز عنها وأنه أبعد المقادير عن التساوي، والنص في قوله تعالى ﴿ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها﴾ [الأنعام: ١٦٠] على قدرة القدير على ذلك، وختم الآية السالفة بإحاطة العلم على الوجه الأبلغ المقتضي لذلك على أعلى الوجوه، أكد الأمر أيضاً وقصره على علمه هنا فقال: ﴿والوزن﴾ بميزان حقيقي لصحف الأعمال أو للاعمال أنفسها بعد تصويرها بما تستحقه من الصور أو بغير ذلك بعد أن يقذف الله في القلوب العلم به، ولعله حال من نون العظمة في الاية التي قبلها، أي إنا لا نكتفي بما نقص بل نزنه فيصير بحيث يظهر لكل أحد أنه على غاية ما يكون من التساوي؛ قال أبو حيان وعلي بن الحسين النحوي الأصفهاني في إعرابه: «الوزن» مبتدأ ﴿يومئذ﴾ ظرف منصوب به ﴿الحق﴾ خبر المبتدأ، زاد الأصفهاني فقال: واستضعف إعمال المصدر وفيه لام التعريف وقد ذكرنا أنه جاء في التنزيل ﴿لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم﴾ [النساء: ١٤٨]- انتهى. أي والوزن في ذلك اليوم مقصور على الحق، يطابقه الواقع
359
مطابقة حقيقية لا فضل فيها أصلاً ولا يتجاوز الوزن في ذلك اليوم الحق إلى شيء من الباطل بزيادة ذرة ولا نقصها ولا ما دون ذلك، فتحرر أن مقصود السورة الحث على اتباع الكتاب، وهو يتضمن الحث على اتباع الرسول والدلالة على التوحيد والقدرة على البعث ببيان الأفعال الهائلة في ابتداء الخلق وإهلاك الماضين إشارة إلى أن من لم يتبعه ويوحد - من إنزله على هذا الأسلوب الذي لا يستطاع، والمنهاج الذي وقفت دونه العقول والطباع، لما قام من الأدلة على توحيده بعجز من سواه عن أقواله وأفعاله - أوشك أن يعاجله قبل يوم البعث بعقاب مثل عقاب الأمم السالفة والقرون الخالية مع ما ادخر له في ذلك اليوم من سوء المنقلب وإظهار اثر الغضب.
ولما أخبر أن العبرة بالميزان على وجه يظهر أنه لا حيف فيه بوجه، تسبب عنه قوله: ﴿فمن ثقلت﴾ أي دست ورسبت على ما يعهد في الدنيا ﴿موازينه﴾ أي موزونات أعماله، أي أعماله الموزونة، ولعله عبر بها عنها إشارة إلى ان كل عمل يوزن على حدة ليسعى في إصلاحه ﴿فأولئك﴾ أي العالو الهمم ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿المفلحون*﴾ أي الظاهرون بجميع مآربهم ﴿ومن خفت﴾ أي طاشت ﴿موازينه﴾ أي التي توزن فيها الأعمال الصالحة ﴿فأولئك﴾ المبعدون ﴿الذين خسروا أنفسهم﴾ أي التي هي رأس مالهم فكيف بما دونها ﴿بما كانوا بآياتنا﴾ أي على ما لها من العظمة ﴿يظلمون*﴾
360
أي باستمرار ما يجددونه من وضعها في غير المحل الذي يليق بها فعل من هو في ظلام؛ قال الحسن، وحق الميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل، وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف.
ولما أمر الخلق بمتابعة الرسل وحذرهم من مخالفتهم، فأبلغ في تحذيرهم بعذاب الدنيا ثم بعذاب الآخرة، التفت إلى تذكيرهم ترغيباً في ذلك بإسباغ نعمه وتحذيراً من سلبها، لأن المواجهة أردع للمخاطب، فقال في موضع الحال من ﴿خسروا انفسهم﴾ :﴿ولقد مكناهم﴾ أي خسروها والحال أنا مكناكم من إنجائها بخلق القوى والقدر وإدرار النعم، وجعلنا مكاناً يحصل التمكن فيه ﴿في الأرض﴾ أي كلها، ما منها من بقعة إلا وهي صالحة لا نتفاعهم بها ولو بالاعتبار ﴿وجعلنا لكم﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿فيها معايش﴾ أي جميع معيشة، وهي أشياء يحصل بها العيش، وهو تصرف أيام الحياة بما ينفع، والياء أصلية فلذا لا تهمز، وكذا ما ولي ألف جمعه حرف علة أصلي وليس قبل ألفه واو كأوائل ولا ياء كخيائر جمع أول وخير فإنه لا يهمز إلا شاذًا كمنائر ومصائب جمع منارة ومصيبة.
ولما كان حاصل ما مضى أنه سبحانه أوجدهم وقوّاهم وخلق لهم ما يديم قواهم، فأكلوا خيره وعبدوا غيره، أنتج قوله على وجه التاكيد: ﴿قليلاً ما تشكرون*﴾ أي لمن أسبغ عليكم نعمه ظاهرة
361
وباطنة بما تنجون به أنفسكم؛ وقال أبو حيان: إنه راجع للذين خوطبوا ب ﴿اتبعوا ما أنزل إليكم﴾ [الأعراف: ٣] وما بينهما أورد مورد الاعتبار والاتعاظ بذكر ما آل إليه أمرهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة - انتهى.
ولما ذكر سبحانه ما منحهم به من التمكين، ذكّرهم ما كانو عليه قبل هذه المكنة من العدم تذكيراً بالنعم في سياق دال على البعث الذي فرغ من تقريره، وعلى ما خص به أباهم آدم عليه السلام من التمكين في الجنة بالخلق والتصوير وإفاضة روح الحياة وروح العلم وأمر أهل سماواته بالسجود له والغضب على من عاداه وطرده عن محل كرامته ومعدن سعادته وإسكانه هو بذلك المحل الأعلى والموطن الأسنى مأذوناً له في كل ما فيه إلا شجرة واحدة، فلما خالف الأمر أزاله عنه وأخرجه منه؛ وفي ذلك تحذير لأهل المكنة من إزالة المنة في استدرار النعمة وإحلال النقمة فقال: ﴿ولقد خلقناكم﴾ أي بما لنا من صفات العظمة ﴿ثم صورناكم﴾ أي قدرنا خلقكم ثم تصويركم بأن جعلنا فيكم قابلية قريبة من ذلك بتخصيص كل جزء من المادة بمقداره المعين بتخمير طينة آدم عليه السلام على حالة تقبل ذلك كما يهيأ التراب بتخميره بإنزال المطر لأن يكون منه شجرة، وقد تكون تلك الشجرة مهيأة لقبول صورة الثمرة وقد لا تكون كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة
362
علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظماً فكسونا العظم لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر}
[المؤمنون: ١٢-١٤] وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح» وعنه أيضاً رضي الله عنه عند مسلم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك» الحديث. فظاهر هذا الحديث مخالف للفظ الذي قبله وللآية، فيحمل على أن معنى صورها: هيأها في مدة الأربعين الثانية لقبول الصورة تهيئة قريبة من الفعل، وسهل أولها بالتخمير على هيئة مخصوصة بخلاف ما قبل ذلك، فإنها كانت نطفة فكانت بعيدة عن قبول الصورة، ولذلك اختلفوا في احترامها وهل يباح إفسادها والتسبب في إخراجها، ومعنى «خلق» : قدر أي جعل لكل شيء من ذلك حداً لا يتجاوزه في الجملة، والدليل على هذا المجاز شكه في كونها ذكراً أو أنثى، ولو كان ذلك على ظاهره لما حصل شك في كونها ذكراً أو أنثى إذ آلة الذكر والأنثى
363
من جملة الصورة، وبهذا تلتئم هذه الاية مع قوله تعالى ﴿إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين﴾ [ص: ٧١] فهذا خلق بالفعل، والذي في هذه السورة بإيداعه القوة المقربة منه، والمراد من الآية التذكير بالنعم استعطافاً إلى المؤالفة وتفظيعاً بحال المخالفة، أي خسروا أنفسهم والحال أنا أنعمنا عليهم بنعمة التمكين بعد أن أنشأناهم على الصورة المذكورة بعد أن كانوا عدماً وأسجدنا ملائكتنا لأبيهم وطردنا من تكبر عليه طرداً لا طرد مثله، وأبعدناه عن محل قدسنا بعداً لا قرب معه، وأسكنا أباهم الجنة دار رحمتنا وقربنا، فقال تعال مترجماً عن ذلك: ﴿ثم قلنا﴾ أي على ما لنا من الاختصاص بالعظمة ﴿للملائكة﴾ أي الموجودين في ذلك الوقت من أهل السماوات والأرض كلهم، بما دلت عليه «ال» سواء قلنا: إنها للاستغراق أو الجنس ﴿اسجدوا لآدم﴾ أي بعد كونه رجلاً قائماً سوياً ذا روح كما هو معروف من التسمية؛ ثم سبب عن هذا الأمر قوله: ﴿فسجدوا﴾ أي كلهم بما دل عليه الاستثناء في قوله: ﴿إلا إبليس﴾ ولما كان معنى ذلك لإخراجه ممن سجد أنه لم يسجد، صرح به فقال: ﴿لم يكن من الساجدين*﴾ أي لآدم.
364
ولما كان مخالف الملك في محل العقاب، تشوف السامع إلى خبره فأجيب بقوله: ﴿قال﴾ أي لإبليس إنكاراً عليه توبيخاً له استخراجاً لكفره الذي كان يخفيه بما يبدي من جوابه ليعلم الخلق سبب طرده
364
﴿ما منعك﴾ ولما كانت هذه العبارة قد صرحت بعدم سجوده، فكان المعنى لا يلبس بإدخال «لا» في قوله: ﴿ألا تسجد﴾ أتى بها لتفيد التأكيد بالدلالة على اللوم على الامتناع من الفعل والإقدام على الترك، فيكون كأنه قيل: ما منعك من السجود وحملك على تركه ﴿إذ﴾ أي حين ﴿أمرتك﴾ أي حين حضر الوقت الذي يكون فيه أداء المأمور به ﴿قال﴾ أي إبليس ناسباً ربه سبحانه إلى الجور أو عدم العلم بالحق ﴿أنا خير منه﴾ أي فلا يليق لي السجود لمن هو دوني ولا أمري بذلك لأنه مناف للحكمة؛ ثم بين وجه الخيرية التي تصورها بسوء فهمه أو بما قاده إليه سوء طبعه بقوله: ﴿خلقتني من نار﴾ أي فهي أغلب أجزائي وهي مشرفة مضيئة عالية غالبة ﴿وخلقته من طين*﴾ أي هو أغلب أجزائه وهو كدر مظلم سافل مغلوب، وقد غلط غلطاً فاحشاً فإن الإيجاد خير من الإعدام بلا نزاع، والنار سبب الإعدام والمحق لما خالطته، والطين سبب النماء والتربية لما خالطه، هذا لو كان الأمر في الفضل باعتبار العناصر والمبادىء وليس كذلك، بل هو باعتبار الغايات.
ولما كان هذا أمراً ظاهراً، وكان مجرد التكبر على الله كفراً على أيّ وجه كان، أعرض عن جوابه بغير الطرد الذي معناه نزوله المنزلة الذي موضع ما طلب من علوها فاستأنف قوله ﴿قال﴾ مسبباً عن إبائه قوله: ﴿فاهبط منها﴾ مضمراً للدار التي كان فيها وهي
365
الجنة. فإنها لا تقبل عاصياً، وعبر بالهبوط الذي يلزم منه سقوط المنزلة دون الخروج، لأن مقصود هذه السورة الإنذار وهو أدل عليه، وسبب عن أمره بالهبوط الذي معناه النزول والحدور والانحطاط والنقصان والوقوع في شيء منه قوله: ﴿فما يكون﴾ أي يصح ويتوجه بوجه من الوجوه ﴿لك أن تتكبر﴾ أي تتعمد الكبر وهو الرفعة في الشرف والعظمة والتجبر، ولا مفهوم لقوله ﴿لك﴾ ولا لقوله ﴿فيها﴾ لوجود الصرائح بالمنع من الكبر مطلقاً ﴿إنه لا يحب المستكبرين﴾ [النحل: ٢٣]، ﴿كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر﴾ [غافر: ٣٥] ﴿قال الذين استكبروا إنا كل فيها﴾ [غافر: ٤٨]، وإنما قيد بذلك تهويلاً للأمر، فكأنه قيل: لا ينبغي التكبر إلا لنا، وكلما قرب الشخص من محل القدس الذب هو مكان المطيعين المتواضعين جل تحريم الكبر عليه «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل كبر» رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه، وسبب عن كونها لا تقبل الكبر قوله: ﴿فاخرج﴾ أي من الجنة دار الرضوان، فانتقى أن يكون الهبوط من موضع عال من الجنة إلى موضع منها أحط منه، ثم علل أمره بالهبوط والخروج بقوله مشيراً إلى كل من أظهر الاستكبار ألبس الصغار: ﴿إنك من الصاغرين*﴾ أي الذين هم أهل للطرد والبعد والحقارة والهوان.
366
ولما علم أن الحسد قد أبعده ونزل به عن ساحة الرضى وأقعده، تمادى فيه فسأل ما يتسبب به إلى إنزال المحسودين عن درجاتهم العاليه إلى دركته السافلة، ولم يسأل بشقاوته فيما يعليه من دركته السافلة إلى درجاتهم العالية، وذلك بأن ﴿قال﴾ أي إبليس، وهو استئناف؛ ولما كان السياق - ولاسيما الحكم بالصغار العاري عن تقييد - يأبى لأن يكون سبباً لسؤاله الانتظار، ذكره بصيغة الإحسان فقال ﴿أنظرني﴾ أي بالإمهال، أي اجعلني موجوداً بحيث أنظر وأتصرف في زمن ممتد ﴿إلى يوم يبعثون*﴾ أي من القبور، وهو يوم القيامة، وكان اللعين طلب بهذا أنه لا يموت، فإن ذلك الوقت ليس وقتاً للموت، إنما هو وقت إفاضة الحياة الأبدية في شقاوة أو سعادة، فأعلم سبحانه أنه حكم له بالانتظار، لكن لا على ما أراده ولا على أنه إجابة له، ولكن هكذا سبق في الأزل في حكمه في قديم علمه، وإليه يرشد التعبير بقوله: ﴿قال إنك من المنظرين*﴾ أي في الجملة، ومنعه من الحماية عن الموت بقوله كما ذكره في سورتين الحجر وص ﴿إلى يوم الوقت المعلوم﴾ [الحجر: ٣٨، ص: ٨١]، وهووقت النفخة الأولى التي يموت فيها الأحياء فيموت هو معهم، وكان ترك هذه الجملة في هذه السورة لأن هذه السورة للإنذار، وإبهام الأمر اشد في ذلك، وأجابة إلى الإنظار وهو يريد به الفساد، لأنه لا يعدو أمره فيه وتقديره به، ولأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل، ولتظهر حكمته تعالى في الثواب والعقاب.
367
ولما كان قد حكم عليه بالشقاء، قابل نعمة الإمهال وإطالة العمر بالتمادي في الكفر وأخبره عن نفسه بذلك بأن ﴿قال﴾ مسبباً عن إيقاعه في المعصية بسبب نوع الآدميين ﴿فبما أغويتني﴾ أي فبسبب إغوائك لي، وهو إيجاد الغي واعتقاد الباطل في قلبي من أجلهم والله ﴿لأقعدن لهم﴾ أي أفعل في قطعهم عن الخير فعل المتمكن المقبل بكليته المتأني الذي لا شغل له غير ما أقبل عليه في مدة إمهالك لي بقطعهم عنك بمنعهم من فعل ما أمرتهم به، وحملهم على فعل ما نهيتهم عنه، كما يقعد قاطع الطريق على السابلة للخطف ﴿صراطك﴾ أي في جميع صراطك، بما دل عليه نزع الخافض ﴿المستقيم*﴾ وهو الإسلام بجميع شعبه، ومن أسند الإغواء إلى غير الله بسبب اعتقاده أن ذلك مما ينزه الله عنه، فقد وقع في شر مما فر منه، وهو أنه جعل في الوجود فاعلين يخالف اختيار أحدهما اختيار الآخر.
368
ولما كان قد أقام نفسه في ذلك بغاية الجد، فهو يفعل فيه بالوسوسة بنفسه ومن أطاعه من شياطين الجن والإنس ما يفوت الحد ويعجز القوى، أشار إليه بحرف التراخي فقال مؤكداً: ﴿ثم لآتينهم﴾ أي إتياناً لا بد لي منه كائناً ابتداؤه ﴿من بين أيديهم﴾ أي مواجهة، فأحملهم على أن يفعلوا ما يعلمون أنه خطأ ﴿و﴾ كائناً ﴿من خلفهم﴾ أي مغافلة، فيعملون ما هو فاسد في غاية الفساد ولا شعور لهم بشيء
368
من فساده حين تعاطيه فأدلهم بذلك على تعاطي مثله وهم لا يشعرون ﴿وعن﴾ أي ومجاوزاً للجهة التي عن ﴿أيمانهم﴾ إليهم ﴿وعن﴾ أي ومجاوزاً لما عن ﴿شمائلهم﴾ أي مخايلة، فيفعلونه وهو مشتبه عليهم، وهذه هي الجهات التي يمكن الإتيان منها، ولعل فائدة «عن» المفهمة للمجاوزة وصل خطى القدام والخلف ليكون إتيانه مستوعباً لجميع الجهة المحيطة، وأفهمت الجهات الأربع قدحه وتلبيسه فيما يعلمونه حق علمه وما يعلمون شيئاً منه وما هو مشتبه عليهم اشتباهاً قليلاً أو كثيراً، وهم من ترك ذكره الأعلى أنه لا قدرة له على الإتيان منه لئلا يلتبس أمره بالملائكة، وقد ذكر ذلك في بعض الآثار كما ذكره في ترجمة ورقة بن نوفل رضي الله عنه.
ولما عزم اللعين على هذا عزماً صادقاً ورأى أسبابه ميسرة من الإنظار ونحوه، ظن أنه بما راى لهم من الشهوات والحظوظ يظفر بأكثر حاجته، فقال عاطفاً على تقديره: فلأغوينهم وليتبعنني: ﴿ولا تجد أكثرهم﴾ كما هي عادة الأكثر في الخبث ﴿شاكرين*﴾ فأريد به الشقاء فأغرق في الحسد، ولو أريد بالشقي الخير لاستبدل بالحسد الغبطة
369
فطلب أن يرتقي هو إلى درجاتهم العالية بالبكاء والندم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة خضوعاً لمقام الربويية وذلاً لعظيم شأنه.
ولما كان كأنه قيل: ماذا قال له؟ قيل: ﴿قال﴾ في جواب ما ذكر لنفسه في هذا السياق من القوة والاقتدار وأبان عنه من الكبر والافتخار ما دل على أنه من أهل الصغار، لا يقدر على شيء إلا بإقرار العزيز الجبار، مصرحاً بما أريد من الهبوط الذي ربما حمل على النزول من موضع من الجنة عال إلى مكان منها أحط منه ﴿اخرج منها﴾ أي الجنة ﴿مذءوماً﴾ أي محقوراً مخزياً بما تفعل، قال القطاع: ذأمت الرجل: خزيته، وقال ابن فارس: ذأمته، أي حقرته ﴿مدحوراً﴾ أي مبعداً مطروداً عن كل ما لا أريده.
ولما علم بعض حاله، تشوفت النفس إلى حال من تبعه، فقال مقسماً مؤكداً بما يحق له من القدرة التامة والعظمة الكاملة: ﴿لمن تبعك منهم﴾ أي بني آدم، وأجاب القسم بما أغنى عن جواب الشرط فقال: ﴿لأملأن جهنم منكم﴾ أي منك ومن قبيلك ومنهم ﴿أجمعين*﴾ أي لا يفوتني منكم أحد، فلم يزل من فعل ذلك منكم على أذى نفسه ولا أبالي أنا بشيء.
ولما أوجب له ما ذكر من الشقاوة تماديه في الحسد وكثرة كلامه
370
في محسوده، التفت إلى محسوده الذي لم يتكلم فيه كلمة واحدة، بل اشتغل بنفسه في البكاء على ذنبه، واكتفى بفعل ربه بما ينجيه من حبائل مكره التي نصبها بما ذكر، ليكون ذلك سبب سعادته، فقال عطفاً على ﴿اخرج منها﴾ :﴿ويا آدم اسكن﴾ ولما كان المراد بهذا الأمر هو نفسه لا التجوز به عن بعض من يلابسه، أكد ضميره لتصحيح العطف ورفع التجوز فقيل: ﴿أنت وزوجك الجنة﴾.
ولما كان السياق هنا للتعرف بأنه مكن لأبينا في الجنة أعظم من تمكينه لنا في الأرض بأن حباه فيها رغد العيش مقارناً لوجوده؛ ثم حسن في قوله: ﴿فكلا﴾ العطف بالفاء الدال على أن المأكول كان مع الإسكان، لم يتاخر عنه، ولا منافاة بينه وبين التعبير بالواو في البقرة، لأن مفهوم الفاء نوع داخل تحت مفهوم الواو، ولا منافاة بين النوع والجنس، وقوله: ﴿من حيث شئتما﴾ بمعنى رغداً أي واسعاً، فإنه يدل على إباحة الأكل من كل شيء فيها غير المنهي عنه، وأما آية البقرة فتدل على إباحة الأكل منها في أيّ مكان كان، وهذا السياق إلى آخره مشير إلى أن من خالف أمره تعالى ثل عرشه وهدم عزه وإن كان في غاية المكنة ونهاية القوة كما أخرج من أعظم له المكنة بإسجاد ملائكته وإسكان جنته وإباحة كل ما فيها غير شجرة واحده؛ أكد تحريمها بالنهي عن قربانها دون الاكتفاء بالنهي عن غشيانها فقال:
371
﴿ولا تقربا﴾ أي فضلاً عن أن تتناولا ﴿هذه الشجرة﴾ مشيراً إلى شجرة بعينها أو نوعها؛ ثم سبب عن القربان العصيان، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه فقال: ﴿فتكونا﴾ أي بسبب قربها ﴿من الظالمين*﴾ أي بالأكل منها الذي هو مقصود النهي فتكونا بذلك فاعلين فعل من يمشي في الظلام؛ ثم سبب عن ذلك بيان حال الحاسد مع المحسودين فيما سأل الإنظار بسببه، وأنه وقع على كثير من مراده واستغوى منه أمماً تجاوزوا الحد وقصر عنهم مدى العد؛ ثم بين أنه أقل من أن يكون له فعل، وأن الكل بيده سبحانه، هو الذي جعله آلة لمراده منه ومنهم، وأن من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون، فقال: ﴿فوسوس﴾ أي القى في خفاء وتزيين وتكرير واشتهاء ﴿لهما الشيطان﴾ أي بما مكنه الله منه من أنه يجري من الإنسان مجرى الدم ويلقى له في خفاء ما يميل به قلبه إلى ما يريد؛ ثم بين علة الوسوسة بقوله: ﴿ليبدي﴾ أي يظهر ﴿لهما ما روي﴾ أي ستر وغطي بأن جعل كأنه وراءهما لا يلتفتان إليه ﴿عنهما﴾ والبناء للمفعول إشارة إلى أن الستر بشيء لا كلفة عليهما فيه كما يأتي في قوله
﴿ينزع عنهما لباسهما﴾ [الأعراف: ٢٧] و ﴿من سوءاتهما﴾ أي المواضع التي يسوءهما انكشافها، وفي ذلك أن إظهار السوءة موجب للعبد من الجنة وأن بينهما منفية الجمع وكمال التباين.
ولما أخبر بالوسوسة وطوى مضمونها مفهماً أنه أمر كبير وخداع
372
طويل، عطف عليه قوله: ﴿وقال﴾ اي في وسوسته أيضاً، أي زين لهما ما حدث بسببه في خواطرهما هذا القول: ﴿ما نهاكما﴾ وذكرهما بوصف الإحسان تذكيراً بإكرامه لهما تجزئة لهما على ما يريد منهما فقال: ﴿ربكما﴾ أي المحسن إليكما بما تعرفانه من أنواع إحسانه ﴿عن﴾ أي ما جعل نهايتكما في الإباحة للجنة متجاوزة عن ﴿هذه الشجرة﴾ جمع بين الإشارة والاسم زيادة في الاعتناء بالتنصيص ﴿إلا أن﴾ أي كراهية أن ﴿تكونا ملكين﴾ أي في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وغير ذلك من خواصهم ﴿أو تكونا﴾ أي بما يصير لكما من الجبلة ﴿من الخالدين*﴾ أي الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلاً.
373
ولما أوصل إليهما هذا المعنى، أخبر أنه أكده تأكيداً عظيماً كما يؤكد الحالف ما يحلف عليه فقال: ﴿وقاسمهما﴾ أي أقسم لهما، لكن ذكر المفاعلة ليدل على أنه حصلت بينهما في ذلك مراوغات ومحاولات بذل فيها الجهد، وأكد لمعرفته أنهما طبعا على النفرة من المعصية - ما أقسم عليه أنواعاً من التأكيد في قوله: ﴿إني لكما﴾ فأفاد تقديم الجار المفهم للاختصاص أنه يقول: إني خصصتكما بجميع نصيحتي ﴿لمن الناصحين*﴾ وفيه تنبيه على الاحتراز من الحالف، وأن الأغلب أن كل حلاف كذاب، فإنه لا يحلف إلا عند ظنه أن سامعه لا يصدقه، ولا يظن ذلك إلا هو معتاد للكذب.
373
ولما أخبر ببعض وسوسته لهما، سبب عنها ترجمتها بأنها إهباط من أوج شرف إلى حضيض أذى وسرف فقال: ﴿فدلاَّهما﴾ أي أنزلهما عما كانا فيه من علو الطاعة مثل ما فعل بنفسه بالمعصية التي أوجبت له الهبوط من دار الكرامة ﴿بغرور﴾ أي بخداع وحيلة حتى نسى آدم عهد ربه، وقوله ﴿فلما ذاقا﴾ مشير إلى الإسراع في الجزاء بالفاء والذوق الذي هو مبدأ الأكل ﴿الشجرة﴾ أي وجدا طعمها ﴿بدت﴾ أي ظهرت ﴿لهما سوءاتهما﴾ أي عوراتهما اللاتي يسوءهما ظهورها، وتهافت عنهما لباسهما فأبصر كل واحد ما كان مستوراً عنه من عورة آلاخر، وذلك قصد الحسود فاستحييا عند ذلك ﴿وطفقا﴾ أي شرعا وأقبلا ﴿يخصفان عليهما﴾ أي يصلان بالخياطة ﴿من ورق الجنة﴾ ورقة الى أخرى ﴿وناداهما ربهما﴾ أي المحسن إليهما بأمرهما ونهيهما، ولم يفعلا شيئاً من ذلك إلا بمرأى منه، فقال منكراً عليهما ما فعلا ومعاتباً: يا عبديَّ ﴿ألم أنهكما﴾ أي أجعل لكما نهاية فيما أذن لكما فيه متجاوزة ﴿عن تلكما الشجرة﴾ أي التي كان حقها البعد منها، الموجبة للقربة من هذا الموضع الشريف إحساناً إليكما ﴿وأقل لكما إن الشيطان﴾ أي الذي تكبر عن السجود حسداً لك يا آدم ونفاسه عليك، فاحترق
374
بغضبي فطرد وأبعد عن رحمتي ﴿لكما﴾ أي لك ولزوجك ولكل من تفرغ منكما ونسب إليكما ﴿عدو مبين*﴾ ظاهر العداوة يأتيكم من كل موضع يمكنه الإتيان منه مجاهرة ومساترة ومماكرة فهو مع ظهور عداوته دقيق المكر بما أقدرته عليه من إقامة الأسباب، فإني أعطيته قوة على الكيد، وأعطيتكم قوة على الكيد وأعطيتكم قوة على الخلاص وقلت لكم: تغالبوا فإن غلبتموه فأنتم من حزبي، وإن غلبكم فأنتم من حزبه مع ما له إليكم من العداوة، فالآيه منبهة على أن من غوى فإنما هو تابع لأعدى أعدائه تارك لأولى أوليائه.
ولما كان هذا، تشوف السامع إلى جوابهما، فأجيب بقوله: ﴿قالا﴾ أي آدم وحواء - عليهما السلام وأزكى التحية والإكرام - قول الخواص بإسراعهما في التوبة ﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا والمنعم علينا ﴿ظلمنا أنفسنا﴾ أي ضررناها بأن أخرجناها من نور الطاعة إلى ظلام المعصية، فإن لم ترجع بنا وتتب علينا لنستمر عاصيين ﴿وإن لم تغفر لنا﴾ أي تمحو ما عملناه عيناً واثراً ﴿وترحمنا﴾ فتعلي درجاتنا ﴿لنكونن من الخاسرين*﴾ فأعربت الآية عن أنهما فزعا إلى الانتصاب بالاعتراف، وسيما ذنبهما - وإن كان إنما هو خلاف
375
الأولى لأنه بطريق النسيان كما في طه - ظلماً كما هي عادة الأكابر في استعظام الصغير منهم، ولم يجادلا كما فعل إبليس، وفي ذلك إشارة إلى أن المبادرة إلى الإقرار بالذنب من فعال الأشراف لكونه من معالي الأخلاق، وأنه لا مثيل له في اقتضاء العفو وإزالة الكدر وأن الجدال من فعال الأرذال ومن مساوي الأخلاق وموجبات الغضب المقتضى للطرد.
ولما تشوفت النفس إلى جواب العلي الكبير سبحانه، أجيبت بقوله ﴿قال اهبطوا﴾ أي إلى دار المجاهدة والمقارعة والمناكدة حال كونكم ﴿بعضكم لبعض عدو﴾ أي أنتما ومن ولدتماه أعداء إبليس ومن ولد، وبعض أولادكم أعداء لبعض، ولا خلاص إلا باتباع ما منحتكم من هدى العقل وما أنزلت إليكم من تأييده بالنقل، وفي ذلك تهديد صادع لمن له أدنى مسكة بالأشارة إلى قبح مغبة المخالفة ولو مع التوبة، وحث على دوام المراقبة خوفاً من سوء المعاقبة ﴿ولكم في الأرض﴾ أي جنسها ﴿مستقر﴾ أي موضع استقرار كالسهول وما شابهها ﴿ومتاع إلى حين*﴾ أي انقضاء آجالكم ثم انقضاء اجل الدنيا.
376
ولما علم بهذا أن للكون في الأرض آخراً، وكان من الفلاسفة
376
التناسخية وغيرهم ممن يقر بالوحدانية من يقول: إن النفوس مجردة عن الجسمية وعلائقها وإنه إذا هلك الجسد اتصلت بالعلويات إما بكوكب أو غيره أو انحطت في سلك الملائكة وبطل تعلقها بالبدن من كل وجه فلا تتصل به لا بتدبير ولا غيره ولا بالبعث - عند من قال منهم بالبعث، كان كأنه قيل: فماذا يكون بعد ذلك؟ فأجيب بقوله ﴿قال﴾ أي الله راداً عليهم ما يعتقدون من بطلان التعلق بالبدن معبراً بالخطاب بالضمير الذي يعبر عن هذا الهيكل المخصوص روحاً وجسداً ﴿فيها﴾ أي الأرض لا في غيرها ﴿تحيون﴾ أي أولاً وثانياً على ما أنتم عليه بظواهركم وبواطنكم أبداناً وأرواحاً ﴿وفيها﴾ أي كذلك، لا في غيرها كما أنتم لذلك مشاهدون ﴿تموتون﴾ أي من الحياة الأولى بجملتكم، فيكون للأرواح تعلق بالأبدان بوجه ما حتى يقعد الميت في القبر ويجيب سؤال الملكين عليهما السلام، وتلتذ الأجساد بلذتها وتتألم بتألمها، فأشير إلى الحشر مع تفصيل حال الكون في الأرض، وختمت القصة بما ابتدئت به من الإعلام بالبعث بقوله: ﴿ومنها﴾ أي لا من غيرها بإخبار الصادق ﴿تخرجون*﴾ أي روحاً وبدناً بعد موتكم فيها وعودكم إلى ما كنتم عليه أولاً تراباً، للجزاء وإظهار ثمرة الملك بإنصاف بعضكم من بعض والتحلي بصفة العدل فما كان بعضكم يفعل مع بعض من العسف والجور الذي لا يرضي أقل رؤسائكم أن يقر عليه عبيده، وعلم بهذا أن الدلالة على الحشر فذلكة
377
القصة، وهذا أبين من ذكره فيما مضى في قوله ﴿فلنسئلن الذين أرسل إليهم﴾ [الأعراف: ٦].
ولما بين فيما مضى أن موجب الإخراج من الجنة هو ما أوجب كشف السوءة من المخالفة وفرغ مما استتبعه حتى أخبره بأنه حكم بإسكاننا هذه الدار بعد تلك الدار، شرع يحذرنا من عدونا كما حذر أبانا عليه السلام، وبدأ بقوله بياناً لأنه أنعم علينا فيها بكل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا وإيذاناً بما في كشف العورة من الفضيحة والإبعاد عن كل خير وإشعاراً بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى ﴿يا بني آدم﴾.
ولما كان الكلام في كشف العورة، وأن آدم عليه السلام أعوزه الساتر حتى فزع إلى الورق، كان موضع أن يتوقع ما يكون في ذلك فقال مفتتحاً بحرف التوقع: ﴿قد أنزلنا﴾ أي بعظمتنا ﴿عليكم﴾ من آثار بركات السماء، إما ابتداء بخلقه وإما بإنزال أسبابه لمطر ونحوه ﴿لباساً﴾ أي لم يقدر عليه أبوكم في الجنة ﴿يواري سوءاتكم﴾ إرشاداً إلى دواء ذلك الداء وإعلاماً بأن نفس الكشف نقص لا يصلح لحضرات الكمال، وقال: ﴿وريشاً﴾ إشارة إلى أنه سبحانه زادنا على الساتر ما به
378
الزينة والجمال استعارة من ريش الطائر، محبباً فيما يبعد من الذنب ويقرب إلى حضرة الرب.
ولما ذكر اللباس الحسي، وقسمه على ساتر ومزين، أتبعه المعنوي فقال مشيراً - بقطعه في قراءة الجمهور عما قبله - إلى كمال تعظيمه حثاً عليه وندباً إليه: ﴿ولباس التقوى﴾ فعلم أن ساتر العورات حسي ومعنوي، فالحسي لباس الثياب، والمعنوي التحلي بما يبعث على المناب؛ ثم زاد في تعظيم المنوي بقوله: ﴿ذلك خير﴾ أي ولباس التقوى هو خير من لباس الثياب، ولكنه فصل باسم الإشارة المقترن بإداة البعد إيماء إلى علو رتبته وحسن عاقبته لكونه أهم اللباسين لأن نزعه يكون بكشف العورة الحسية والمعنوية، فلو تجمل الإنسان بأحسن الملابس وهو غير متق كان كله سوءات، ولوكان متقياً وليس عليه إلا خريقة تواري عورته كان في غاية الجمال والستر والكمال، بل ولو كان مكشوف العورة في بعض الأحوال كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ستر ما بين عوراتكم وأعين الجن أن يقول أحدكم إذا دخل الخلاء: بسم الله اللهم! إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» رواه الترمذي وابن ماجه عن علي رضى الله عنه، والذي يكاد يقطع به أن المعاصي سبب إحلال السوءة الذي منه ضعف البدن وقصر العمر حساً أو معنى بمحق البركة منه لما يفهمه ما تقدم في البقرة في بدء الخلق عن التوراة أن الله تعالى قال لآدم عليه السلام: كل من جميع أشجار
379
الفردوس، فأما شجرة علم الخير والشر فلا تأكل منها لأنك في اليوم الذي تأكل منها تموت موتاً تتهيأ للموت حساً، ويقضى عليك بالاشتغال بأسباب المعيشة فيقصر عمرك معنى بذهاب بركته - والله أعلم.
ولما كان في شرع اللباس تمييز الإنسان عن بقية الحيوان وتهيئة أسبابه التي لم يجدها آدم عليه السلام في الجنة من الفضل والنعمة والدلالة على عظمة المنعم ورحمته وقدرته واختياره ما هو معلوم، قال: ﴿ذلك﴾ أي إنزال اللباس ﴿من آيات الله﴾ أي الذي حاز صفات الكمال الدالة على فضله ورحمته لعباده، ولعل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ﴿لعلهم يذكرون*﴾ - لو على أدنى وجوه التذكر بما يشير إليه الإدغام - لئلا يقول المتعنت: إن الحث على التذكر خاص بالمخاطب ويدعي أنه المسلمون فقط، أي أنزلنا ذلك ليكون حالهم حال من يتذكر فيعرف أنه يستقبح منه ما يستقبح من غيره.
ولما كان المقصود من ذكر القصص لا سيما قصص الأنبياء الاعتبار بها، فكان بيان ما وقع بين آدم عليه السلام وبين الشيطان من شديد العدواة مقتضياً للتحذير من الشيطان، وكان المقام خطراً والتخلص عسراً، أشار إلى ذلك بالتأكيد وبيان ما سلط الشيطان به من المكايد الخفية والأسباب الدقيقة ليعلم الناجي أنه إنما نجا بمحض التوفيق ومجرد اللطف فيقبل على الشكر متبرئاً من الحول والقوة، فقال منادياً لهم بما يفهم الاستعطاف والتراؤف والتحنن والترفق والاستضعاف: ﴿يا بني آدم﴾
380
أي الذي خلقته بيدي وأسكنته جنتي ثم أنزلته إلى دار محبتي إرادة الإعلاء لكم إلى الذروة من عبادتي والإسفال إلى الحضيض من معصيتي ﴿لا يفتننكم﴾ أي لا يخالطنكم بما يميلكم عن الاعتدال ﴿الشيطان﴾ أي البعيد المحترق بالذنوب، يصدكم عما يكون سبباً لردكم إلى وطنكم بتزيين ما ينزع عنكم من لباس التقوى المفضي إلى هتك العورات الموجب لخزي الدنيا، فيمنعكم بذلك من دخول الجنة ويدخلكم النار ﴿كما أخرج أبويكم من الجنة﴾ بما فتنهما به بعد أن كانا سكناها وتمكنا فيها وتوطناها، وقد علمتم أن الدفع أسهل من الرفع فإياكم ثم إياكم! فالآية من الاحتباك: ذكر الفتنة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً، والإخراج ثانياً دليلاً على حذف ضده أو نظيره أولاً.
ولما كان قد بذل الجهد في إخراجهما، فسر الإخراج - مشيراً إلى ذلك - بإطالة الوسواس وإدامة المكر والخديعة بالتعبير بالفعل المضارع فقال في موضع الحال من ضمير «الشيطان» :﴿ينزع عنهما﴾ أي بالتسبيب بإدامة التزيين والأخذ من المأمن ﴿لباسهما﴾ أي الذي كان الله سبحانه قد سترهما به ما داما حافظين لأنفسهما من مواقعة ما نهيا عنه، ودل على منافاة الكشف للجنة بالتعليل بقوله: ﴿ليريهما سوءاتهما﴾ فإن ذلك مبدأ ترك الحياة و «الحياء والإيمان في قرن» - كما أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما، و «الحياء لا يأتي
381
إلا بخير» - كما رواه الشيخان عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.
ولما كان نهي الشيطان عن فتنتنا إنما هو في الحقيقة نهي لنا عن الافتتان به، فهو في قوة ليشتد حذركم من فتنته فإنه دقيق الكيد بعيد الغور بديع المخاتله؛ علل ذلك بقوله: ﴿إنه يراكم﴾ أي الشيطان ﴿هو وقبيله﴾ أي جنوده ﴿من حيث لا ترونهم﴾ عن مالك بن دينار أن عدواً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله.
ولما كان كأنه قيل: لم سلطوا علينا هذا التسليط العظيم الذي لا يكاد يسلم معه أحد، قال مخففاً لأمرهم موهياً في الحقيقة لكيدهم: ﴿إنا﴾ أي فعلنا ذلك لأنا بما لنا من العظمة ﴿جعلنا الشياطين﴾ أي المحترقين بالغضب البعيدين من الرحمة ﴿أولياء﴾ أي قرباء وقرناء ﴿للذين لا يؤمنون*﴾ أي يجددون الإيمان، لأن بينهم تناسباً في الطباع يوجب الاتباع، وأما أولياؤنا الذين منعناهم بقوتنا منه أو فتناهم يسيراً بهم، ثم خلصناهم بلطفنا منهم فليسوا لهم بأولياء، بل هم لهم أعداء وآيتهم أنهم يؤمنون، والمعنى أنا مكناهم من مخاتلتكم بسترهم عنكم وإظهاركم لهم، فسلطناهم بذلك على من حكمنا بأنه لا يؤمن بتزيينهم لهم وتسويلهم واستخفافهم بأن ينصروهم في بعض المواطن ويوصلوهم إلى شيء من المطالب، فعلنا ذلك ليتبين الرجل الكامل - الذي يستحق الدرجات العلى ويتردد إليه الملائكة بالسلام والجنى - من غير فخذوا حذركم فإن الأمر
382
خطر والخلاص عسر، وبعبارة أخرى: إنا سلكناكم طريقاً وجعلنا بجنبتيها أعداء يرونكم ولا ترونهم، وأقدرناهم على بعضكم، فمن سلك سواء السبيل نجا ومن شذ أسره العدو، ومن دنا من الحافات بمرافقة الشبهات قارب العدو ومن قاربه استغواه، فكلما دنا منه تمكن من أسره، وكل من تمكن من أسره بعد الخلاص فاحذروا، وعدم رؤيتنا لهم في الجملة لا يقتضي امتناع رؤيتهم على أنه قد صح تصورهم في الأجسام الكثيفة ورؤية بني آدم لهم في تلك الأجسام كالشيطان الذي رآه أبو هريره رضى الله عنه حين أمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظ الصدقة، وكذا أبي بن كعب رضي الله عنه، وحديث خالد بن الوليد رضي الله عنه في شيطان العزي معروف في السير، وكذا حديث سواد بن قارب رضى الله عنه في إرشاد رئيه من الجن له، وكذا خطر ابن مالك رضي الله عنه في مثل ذلك وغيرهما، وفي شرحي لنظمي للسيرة كثير من ذلك، وكذا حديث العفريت الذي تفلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشعلة من نار ليقطع عليه صلاته فأخزاه الله وأمكن منه رسول الله، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«لولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح مربوطاً بسارية المسجد يتلعب به ولدان أهل
383
المدينة» قال أبو حيان: إلا أن رؤيتهم في الصور نادرة كما أن الملائكة عليهم السلام تبدو في صور كحديث جبريل عليه السلام.
384
ولما جعل أمارتهم في ولاية الشيطان عدم الإيمان، عطف على ذلك أمارة أخرى فقال: ﴿وإذا فعلوا فاحشة﴾ أي أمراً بالغاً في القبح كالشرك وكشف العورة في الطواف ﴿قالوا﴾ معللين لارتكابهم إياها ﴿وجدنا عليها﴾ أي فاحشة ﴿آباءنا﴾ ولما كانت هذه العلة ظاهراً عارها بيناً عوارها، ضموا إليها افتراء ما يصلح للعلية، فقالوا معبرين بالاسم الأعظم غير محتشمين من جلاله وعظمته وكماله: ﴿والله أمرنا بها﴾.
ولما كانت العلة الأولى ملغاة، وكان العلم ببطلانها بديهياً، لأن من المعلوم أنهم لو وجدوهم على سفه في تحصيل المال ما تابعوهم؛ أعرض عنها إشارة إلى ذلك، وأمر بالجواب عن الثانية التي هي افتراء على الملك الأعلى مع ادعائهم أنهم أبعد الناس عن مطلق الكذب وأشدهم تحرياً بقوله: ﴿قل إن الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿لا يأمر بالفحشاء﴾ أي بشيء من هذا الجنس.
ولما كان الكذب قبيحاً في نفسه وهو عندهم أقبح القبيح مطلقاً، فكيف به على كبير منهم فكيف إذا كان على أعظم العظماء! قال منكراً عليهم موبخاً لهم مهدداً: ﴿أتقولون على الله﴾ أي الذي له جميع العظمة ﴿ما لا تعلمون*﴾ لأنكم لم تسمعوا ذلك عن الله بلا واسطة ولا نقل إليكم بطريق صحيح عن نبي من الأنبياء عليهم السلام، وفيه
384
تهديد شديد على الجهل والقول على الله بالظن.
لما كان تعليلهم بأمر الله مقتضياً لأنه إذا أمر بشيء أتبع، أمره أن يبلغهم أمره الذي جاء به دليل العقل مؤيداً بجازم النقل فقال: ﴿قل﴾ أي لهؤلاء الذين نابذوا الشرع والعرف ﴿أمر ربي﴾ المحسن إليّ بالتكليف بمحاسن الأعمال، التي تدعو إليها الهمم العوال ﴿بالقسط﴾ وهو الأمر الوسط بين ما فحش في الإفراط صاعداً عن الحد، وفي التفريط هابطاً منه؛ ولما كان التقدير: فأقسطوا اتباعاً لما أمر به، أو كان القسط مصدراً ينحل إلى: أن أقسطوا، عطف عليه ﴿وأقيموا وجوهكم﴾ مخلصين غير مرتكبين لشيء من الجور ﴿عند كل مسجد﴾ أي مكان ووقت وحال يصلح السجود فيه، ولا يتقيدن أحد بمكان ولا زمان بأن يقول وقد أدركته الصلاة: أذهب فأصلي في مسجدي ﴿وادعوه﴾ عند ذلك كله دعاء عبادة ﴿مخلصين له الدين*﴾ أي لا تشركوا به شيئاً.
ولما كان المعنى: فإن من لم يفعل ذلك عذبه بعد إعادته له بعد الموت، ترجمه مستدلاً عليه بقوله معللاً: ﴿كما بدأكم﴾ أي في النشأة الأولى فأنتم تبتدئون نعيدكم بعد الموت فأنتم ﴿تعودون*﴾ حال كونكم فريقين: ﴿فريقاً هدى﴾ أي خلق الهداية في قلوبهم فحق لهم ثواب الهداية ﴿وفريقاً﴾ أضل، ثم فسر أضل - لأنه واجب التقدير بالنصب - بقوله: ﴿حق﴾ أي ثبت ووجب ﴿عليهم الضلالة﴾ أي لأنه أضلهم فيحشرون على ما كانو عليه في الدنيا من الأديان، والأبدان، وقد تبين أن ههنا
385
احتباكين: أثبت في أولهما بدا دليلاً على حذف يعيد وذكر تعودون دليلاً على حذف تبتدئون، وأثبت في الثاني هدى دليلاً على حذف أضل وذكر حقوق الضلالة دليلاً على حذف حقوق الهدى.
ولما كرر سبحانه ذكر البعث كما تدعو إليه الحكمة في تقرير ما ينكره المخاطب تأنيساً له به وكسراً لشوكته وإيهاناً لقوته وقمعاً لسورته إلى أن ختم بما هو أدل عليه مما قبل من قوله ومنها تخرجون ﴿فلنسئلن الذين أرسل إليهم﴾ [الأعراف: ٦] علل ما ختم به هذا الدليل من حقوق الضلالة أي وجوبها أي وجوب وبالها عليهم بقوله: ﴿إنهم اتخذوا﴾ أي كلفوا أنفسهم ضد ما دعتهم إليه الفطرة الأولى بأن أخذوا ﴿الشياطين أولياء﴾ أي أقرباء وأنصاراً ﴿من دون الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا مثل له ﴿ويحسبون﴾ أي والحال أنهم يظنون بقلة عقولهم ﴿أنهم مهتدون*﴾ فأشار بذلك إلى أنهم استحقوا النكال لأنهم قنعوا في الأصول - التي يجب فيها الابتهال ألى القطع - بالظنون.
ولما أمر سبحانه بالقسط وبإقامة الوجه عند كل مسجد، أمرهم بما ينبغي عند تلك الإقامة من ستر العورة الذي تقدم الحث عليه وبيان فحش الهتك وسوء أثره معبراً عنه بلفظ الزينة ترغيباً فيه وإذناً في الزينة وبياناً لأنها ليس مما يتورع عنه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن الله يحب إذا بسط على عبد رزقه أن يرى أثر نعمته عليه» رواه أحمد والترمذي
386
وابن منيع عن أبي هريرة رضى الله عنه، وأتبع ذلك أعظم ما ينبغي لابن آدم أن يعتبر فيه القسط من المأكل والمشرب فقال مكرراً النداء استعطافاً وإظهاراً لعظيم الإشفاق وتذكيراً بقصة أبيهم آدم عليه السلام التي أخرجته من الجنة مع كونه صفي الله ليشتد الحذر: ﴿يا بني آدم﴾ أي الذي زيناه فغره الشيطان ثم وقيناه شره بما أنعمنا عليه به من حسن التوبة وعظيم الرغبة ﴿خذوا زينتكم﴾ أي التي تقدم التعبير عنها بالريش لستر العورة والتجمل عند الاجتماع للعبادة ﴿عند كل مسجد﴾ وأكد ذلك كونُهم كانوا قد شرعوا أن غير الحمس يطوفون عراة.
ولما امر بكسوة الظاهر بالثياب لن صحة الصلاة متوقفة عليها، أمر بكسوة الباطن بالطعام والشراب لتوقف القدرة عادة عليها فقال: ﴿وكلوا واشربوا﴾ وحسَّن ذلك أن بعضهم كان يتدين في الحج بالتضييق في ذلك.
ولما أمر بالملبس والمطعم، نهى عن الاعتداء فيهما فقال: ﴿ولا تسرفوا﴾ بوضع شيء من ذلك فيما لا يكون أحق مواضعه ولو بالزيادة على المعاء، ومن ذلك أن يتبع السنة في الشرب فيسير لأن العكر يرسب في الإناء فربما أذى من شربه، ولذلك نهى عن النفس في الإناء لأنه ربما أنتن فعافته النفس، وأما الطعام فليحسن إناءه والأصابع لنيل البركة وهو أنظف، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إنه لا يحب المسرفين*﴾
387
أي لا يكرمهم، ولا شك أن من لا يحبه لا يحصل له شيء من الخير فيحيط به كل شر، ومن جملة السرف الأكل في جميع البطن، والاقتصاد الاقتصار على الثلث كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبة فإن كان لا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس» و «وما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن» و «الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد» أخرجه البخاري عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال الأطباء، الأمعاء سبعة، فالمعنى حينئذ أن الكافر يأكل شعباً فيملأ الأمعاء السبعة، والمؤمن يأكل تقوتاً فيأكل في معى واحد، وذلك سبع بطنه، وإليه الإشارة بلقيمات، فإن لم يكن ففي معاءين وشيء وهوالثلث - والله أعلم - وسبب الاية أنهم كانوا يطرحون ثيابهم إذا أرادوا الطواف، يقولون: لا نطوف في ثياب إذ بتنا فيها، ونتعرى منها لنتعرى من الذنوب إلا الحمس وهم قريش ومن ولده، وكانوا لا يأكلون من الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً، فقال المسلمون: يارسول الله! فنحن أحق أن نفعل ذلك - فأنزلت.
388
ولما كان من المعلوم أن ما كانوا ألفوه واتخذوه ديناً يستعظمون تركه، لأن الشيطان يوسوس لهم بأنه توسع الدنيا، والتوسع
388
فيها مما ينبغي الزهد فيه كما دعا إليه كثير من الآيات، أكد سبحانه الإذن في ذلك بالإنكار على من حرمه، فقال منكراً عليهم إعلاماً بأن الزهد الممدوح ما كان مع صحة الاعتقاد في الحلال والحرام، وأما ما كان مع تبديل شيء من الدين بتحليل حرام أو عكسه فهو مذموم: ﴿قل﴾ منكراً موبخاً ﴿من حرم زينة الله﴾ أي الملك الذي لا أمر لأحد معه ﴿التي أخرج لعباده﴾ أي ليتمتعوا بها من الثياب والمعادن وغيرها.
ولما ذكر الملابس التي هي شرط في صحة العبادة على وجه عم غيرها من المراكب وغيرها، أتبعها المآكل والمشارب فقال: ﴿والطيبات﴾ أي من الحلال المستلذ ﴿من الرزق﴾ كالبحائر والسوائب ونحوها؛ ولما كان معنى الإنكار: لم يحرمها من يعتبر تحريمه بل أحلها، وكان ربما غلا في الدين غال تمسكاً بالآيات المنفرة عن الدينا المهونة لشأنها مطلقاً فضلاً عن زينة وطيبات الرزق، قال مستأنفاً لجواب من يقول: لمن؟ :﴿قل هي﴾ أي الزينة والطيبات ﴿للذين آمنوا﴾ وعبر بهذه العبارة ولم يقل: ولغيرهم، تنبيهاً على أنها لهم بالاصالة ﴿في الحياة الدنيا﴾ وأما الكفار فهم تابعون لهم في التمتع بها وإن كانت لهم أكثر، فهي غير خالصة لهم وهي للذين آمنوا ﴿خالصة﴾ أي لا يشاركهم فيها أحد، هذا على قراءة نافع بالرفع، والتقدير على قراءة غيره: حال كونها خالصة ﴿يوم القيامة﴾ وفي هذا تأكيد لما مضى من إحلالها بعد تأكيد ومحو الشكوك، وداعية للتأمل في الفصل بين المقامين لبيان أن الزهد المأمور به
389
إنما هو بالقلب بمعنى أنه لا يكون للدنيا عنده قدر ولا له إليها التفات ولا هي أكبر همه، وأما كونها ينتفع بها فيما أذن الله فيه وهي محقورة غير مهتم بها فذلك من المحاسن.
ولما كان هذا المعنى من دقائق المعاني ونفائس المباني، أتبعه تعالى قوله جواباً لمن يقول: إن هذا التفصيل فائق فهل يفصل غيره هكذا؟ ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا التفصيل البديع ﴿نفصل الآيات﴾ أي نبين أحكامها ونميز بعض المشبهات من بعض ﴿لقوم يعلمون*﴾ أي لهم ملكة وقابلية للعلم ليتوصلوا به إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح.
ولما بين أن ما حرموه ليس بحرام فتقرر ذلك تقرراً نزع من النفوس ما كانت ألفته من خلافه، ومحا من القلوب ما كانت أشربته من ضده؛ كان كأنه قيل: فماذا حرم الله الذي ليس التحريم إلا إليه؟ فأمره تعالى بأن يجيبهم عن ذلك ويزيدهم بأنه لم يحرم غيره فقال: ﴿قل إنما حرم ربي﴾ أي المحسن إليّ بجعل ديني أحسن الأديان ﴿الفواحش﴾ أي كل فرد منها وهي ما زاد قبحه؛ ولما كانت الفاحشة ما يتزايد قبحه فكان ربما ظن أن الإسرار بها غير مراد بالنهي قال: ﴿ما ظهر منها﴾ بين الناس ﴿وما بطن﴾.
ولما كان هذا خاصاً بما عظمت شناعته قال: ﴿والإثم﴾ أي
390
مطلق الذنب الذي يوجب الجزاء، فإن الإثم الذنب والجزاء؛ ولما كان البغي زائد القبح مخصوصاً بأنه من أسرع الذنوب عقوبة، خصة بالذكر فقال: ﴿والبغي﴾ وهو الاستعلاء على الغير ظلماً، ولكنه لما كان قد يطلق على مطلق الطلب، حقق معناه العرفي الشرعي فقال: ﴿بغير الحق﴾ أي الكامل الذي ليس فيه شائبة باطل، فمتى كان فيه شائة باطل كان بغياً، ولعله يخرج العلو بالحق بالانتصار من الباغي فإنه حق كامل الحقية، وتكون تسميته بغياً على طريق المشاكلة تنفيراً - بإدخاله تحت اسم البغي - من تعاطيه وندباً إلى العفو كما تقدم مثله في ﴿لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم﴾ [النساء: ١٤٨] ويمكن أن يكون تقييده تأكيداً لمنعه بأنه لا يتصور إلا موصوفاً بأنه بغير الحق كما قال تخصيصاً وتنصيصاً تنبيهاً على شدة الشناعة: ﴿وأن تشركوا بالله﴾ أي الذي اختص بصفات الكمال ﴿ما لم ينزل به سلطاناً﴾ فإنه لا يوجد ما يسميه أحد شريكاً إلا وهو مما لم ينزل به الله سلطاناً بل ولا حجة به في الواقع ولا برهان، ولعله إنما قيده بذلك إرشاداً إلى أن أصول الدين لا يجوز اعتمادها إلا بقاطع فكيف بأعظمها وهو التوحيد! ولذلك عقبه بقوله: ﴿وأن﴾ أي وحرم أن ﴿تقولوا على الله﴾ أي الذي لا أعظم منه ولا كفوء له و ﴿ما لا تعلمون*﴾ أي ما ليس لكم به علم بخصوصه ولا هو مستند إلى علم أعم من أن يكون من الأصول أو لا.
391
ولما تقدم أن الناس فريقان: مهتد وضال، وتكرر ذم الضال باجترائه على الله بفعل ما منعه منه وترك ما أمره به، وكانت العادة المستمرة للملوك أنهم لا يمهلون من تتكرر مخالفته لهم؛ كان كأنه قيل: فلم يهلك من يخالفه؟ فقيل وعظاً وتحذيراً: إنهم لا يضرون بذلك إلا أنفسهم، ولا يفعلون شيئاً منه إلا بإرادته، فسواء عندهم بقاؤهم وهلاكهم، إنما يستعجل من يخاف الفوت أو يخشى الضرر، ولهم أجل لا بد من استيفائه، وليس ذلك خاصاً بهم بل ﴿ولكل أمة أجل﴾ وهو عطف على ﴿فيها تحيون وفيها تموتون﴾ [الأعراف: ٢٥] ﴿فإذا جاء أجلهم﴾.
ولما كان نظرهم إلى الفسحة في الأجل، وكان قطع رجائهم من من جملة عذابهم، قدمه فقال: ﴿لا يستأخرون﴾ أي عن الأجل ﴿ساعة﴾ عبر بها والمراد أقل ما يمكن لأنها أقل الأوقات في الاستعمال في العرف، ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها لا على جزائها قوله: ﴿ولا يستقدمون*﴾ أي على الأجل المحتوم، لأن الذي ضربه لهم ما ضربه إلا وهو عالم بكل ما يكون من أمرهم، لم يتجدد له علم، لم يكن يتجدد شيء من أحوالهم، ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله: ﴿ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾ [الأعراف: ٢٤] وتكون الآية معلمة بأنهم سيتناسلون فيكثرون حتى يكونوا أمماً، ولا يتعرضون جملة بل يكون لكل أمة وقت.
392
ولما كان استشراف النفس إلى السؤال عما يكون بعد حين المستقر والمتاع أشد من استشرافها إلى هذا لكونه أخفى منه، فهو أبعد من خطوره في البال؛ قدم قوله: ﴿قال فيها تحيون﴾ [الأعراف: ٢٥] ولما كان ذكر الدواء لداء هتك السوءة أهم قدم ﴿أنزلنا عليكم لباساً﴾ [الأعراف: ٢٦] ثم ما بعده حتى كان الأنسب بهذه الاية هذا الموضع فنظمت فيه.
ولما تقدمت الإشارة إلى الحث على اتباع الرسل بآيات المقصد الأول من مقاصد هذه السورة كقوله تعالى ﴿كتاب أنزل إليك﴾ [الأعراف: ٢] و ﴿لتنذر﴾ [الأعراف: ٢] و ﴿اتبعوا ما أنزل إليكم﴾ [الأعراف: ٣] وقوله ﴿فلنسئلن الذين أرسل إليهم﴾ [الأعراف: ٦] وقوله ﴿قل أمر ربي بالقسط﴾ [الأعراف: ٢٩]، ﴿إنما حرم ربي الفواحش﴾ [الأعراف: ٣٣] والتحذير من الشياطين بقوله ﴿ولا تتبعوا من دونه أولياء﴾ [الأعراف: ٣] وبقوله ﴿لأقعدن لهم صراطك المستقيم﴾ [الأعراف: ١٦]، ﴿لا يفتننكم الشيطان﴾ [الأعراف: ٢٧] وغيره، فتحرر أنه لا سبيل إلى النجاة إلا بالرسل، وختم ذلك بالأحل حثاً على العمل في أيام المهلة؛ أتبع ذلك قوله حاثاً على التعلق بأسباب النجاة باتباع الدعاة الهداة قبل الفوت بحادث الموت ببيان الجزاء لمن احسن الاتباع في الدارين ﴿يا بني آدم﴾.
ولما كان له سبحانه أن يعذب من خالف داعي العقل من غير إرسال رسول، وكان إرسال الرسل جائزاً له وفضلاً منه سبحانه إذ
393
لا يوجب عليه، أشار إلى ذلك بحرف الشك فقال: ﴿إما﴾ هي إن، الشرطية وصلت بها ما تأكيداً ﴿يأتينكم رسل﴾ ولما كانت زيادة الخبرة بالرسول أقطع للعذر وأقوى في الحجة قال: ﴿منكم﴾ أي من نوعكم من عند ربكم.
ولما كان الأغلب على مقصد هذه السورة العلم كما تقدم في ﴿فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين﴾ [الأعراف: ٧] ويأتي في ﴿ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم﴾ [الأعراف: ٥٢] وغيرها، كان التعبير بالقص - الذي هو تتبع الأثر كما تقدم في الأنعام - أليق فقال: ﴿يقصون عليكم آياتي﴾ أي يتابعون ذكرها لكم على وجه مقطوع به، ويتبع بعضهم بها أثر بعض لا يتخالفون في أصل واحد من الأصول.
ولما كان لقاء الرسل حتماً والهجرة إليهم واجبة لأن العمل لا يقبل إلا بالاستناد إليهم مهما وجد إلى ذلك سبيل، ربط الجزاء بالفاء فقال: ﴿فمن اتقى﴾ أي خاف مقامي وخاف وعيدي بسبب التصدق بالرسل والتلقي عنهم ﴿وأصلح﴾ أي عمل صالحاً باقتفاء آثارهم ﴿فلا خوف﴾ أي غالب ﴿عليهم﴾ أي بسبب ذلك من شيء يتوقعونه ﴿ولا هم﴾ أي بضمائرهم ﴿يحزنون*﴾ أي يتجدد لهم في وقت ما حزن على شيء فاتهم، لأن الله يعطيهم ما يقر به أعينهم، وكأنه غاية في التعبير لأن إجلالهم لله تعالى وهيبتهم له يمكن أن يطلق عليهما خوف.
394
ولما ذكر المصدق، أتبعه المكذب فقال ﴿والذين كذبوا بآياتنا﴾ أي على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا؛ ولما كان التكذيب قد يكون عن شبهة أو نوع من العذر، نفى ذلك بقوله: ﴿واستكبروا عنها﴾ أي أوجدوا الكبر إيجاد من هو طالب له عظيم الرغبة فيه، متجاوزين عنها إلى أضداد ما دعت إليه.
ولما ذلك ليس سبباً حقيقياً للتعذيب، وإنما هو كاشف عمن ذرأه الله لجهنم لإقامة الحجة عليه، أعري عن الفاء قوله: ﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿أصحاب النار﴾ ولما كان صاحب الشيء هو الملازم له المعروف به، قال مصرحاً بذلك: ﴿هم﴾ أي خاصة ليخرج العاصي من غير تكذيب ولا استكبار ﴿فيها﴾ أي النار خاصة، وهي تصدق بكل طبقة من طبقاتها ﴿خالدون*﴾ فقد تبين أن إثبات الفاء أولاً للترغيب في الاتباع، وتركها ثانياً للترهيب من شكاسة الطباع، فالمقام في الموضعين خطر، ولعل من فوائده الإشارة إلى أنه إذا بعث رسول وجب على كل من سمع به أن يقصده لتحرير أمره، فإذا بان له صدقه تبعه، وإن تخلف عن ذلك كان مكذباً - الله الموفق.
ولما كان تكذيب الرسل تارة يكون بشرع شيء لم يشرعوه،
395
وتارة برد ما شرعوه قولاً وفعلاً، وأخبر أن المكذبين أهل النار، علل ذلك بقوله: ﴿فمن أظلم﴾ أي أشنع ظلماً ﴿ممن افترى﴾ أي تعمد ﴿على الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿كذباً﴾ أي كمن شرع في المطاعم والملابس غير ما شرع، أو ادعى أنه يوحي إليه فحكم بوجود ما لم يوجد ﴿أو كذب بآياته﴾ أي برد ما أخبر به الرسل فحكم بإنكار ما وجد.
ولما كان الجواب: لا أحد أظلم من هذا، بل هو أظلم الناس، وكان مما علم أن الظالم مستحق للعقوبة فكيف بالأظلم قال: ﴿أولئك﴾ أي البعداء من الحضرات الربانية ﴿ينالهم نصيبهم من الكتاب﴾ أي الذي كتب حين نفخ الروح أو من الآجال التي ضربها سبحانه لهم والأرزاق التي قسمها، تأكيداً لرد اعتراض من قال: إن كنا خالفنا فما له لا يهلكنا؟ ثم غَيَّي نيل النصيب بقوله: ﴿حتى إذا جاءتهم رسلنا﴾ أي الذين قسمنا لهم من عظمتنا ما شئنا حال كونهم ﴿يتوفونهم﴾ أي يقبضون أرواحهم كاملة من جميع أبدانهم ﴿قالوا أين ما كنتم﴾ عناداً كمن هو في جبلته ﴿تدعون﴾ أي دعاء عبادة ﴿من دون الله﴾ أي تزعمون أنهم واسطة لكم عند الملك الأعظم وتدعونهم حال كونكم معرضين عن الله، ادعوهم الآن ليمنعوكم من عذاب الهوان الذي نذيقكم ﴿قالوا ضلوا﴾ أي غابوا ﴿عنا﴾ فلا ناصر لنا.
396
ولما كان الإله لا يغيب فعلموا ضلالهم بغيبتهم عنهم، قال مترجماً عن ذلك: ﴿وشهدوا على أنفسهم﴾ أي بالغوا في الاعتراف ﴿أنهم كانوا كافرين*﴾ أي ساترين عناداً لما كشف لهم عنه نور العقل فلا مانع منه إلا حظوظ النفوس ولزوم البؤس.
397
ولما كان كأنه قيل: لقد اعترفوا، والاعتراف - كما قيل - إنصاف، فهل ينفعهم؟ قيل: هيهات! فات محله بفوات دار العمل لا جرم! ﴿قال﴾ أي الذي جعل الله إليه أمرهم ﴿ادخلوا﴾ كائنين ﴿في أمم﴾ أي في جملة جماعات وفرق أم بعضها بعضاً؛ ثم وصفهم دالاً بتاء التأنيث على ضعف عقولهم فقال: ﴿قد خلت﴾ ولما كان في الزمن الماضي من آمن، أدخل الجار فقال ﴿من قبلكم﴾ ولما كان الجن الأصل في الإغواء قدمهم فقال: ﴿من الجن والإنس﴾ ثم ذكر محل الدخول فقال: ﴿في النار﴾.
ولما جرت عادة الرفاق بأنهم يتكالمون وحين الاجتماع يتسالمون تشوف السامع إلى حالهم في ذلك فقال مجيباً له: ﴿كلما دخلت أمة﴾ أي منهم في النار ﴿لعنت أختها﴾ أي القريبة منها في الدين والملة التي قضيت آثارها واتبعت منارها، يلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى - وهكذا، واستمر ذلك منهم ﴿حتى إذا اداركوا﴾ اي تداركوا وتلاحقوا، يركب بعضهم بعضاً - بما يشير إليه الإدغام ﴿فيها جميعاً﴾ لم يبق منهم أمة ولا واحد من أمة ﴿قالت أخراهم﴾ أي في الزمن
397
والمنزلة، وهم الأتباع والسفل ﴿لأولاهم﴾ أي لأجلهم مخاطبين لله خطاب المخلصين ﴿ربنا﴾ أي الذي ما قطع إحسانه في الدنيا عنا على ما كان منا من مقابلة إحسانه بالإساءة ﴿هؤلاء﴾ أي الأولون ﴿أضلونا﴾ أي لكونهم أول من سن الضلال ﴿فآتهم﴾ أي أذقهم بسبب ذلك ﴿عذاباً ضعفاً﴾ أي يكون بقدر عذاب غيرهم مرتين لأنهم ضلوا وأضلوا لأنهم سنوا الضلال، «ومن سنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» ومنه «لا تقتل نفس ظلماً إلا على ابن آدم الأول كفل من دمها» لأنه أول من سن القتل، ثم أكدوا شدة العذاب بقولهم: ﴿من النار*﴾.
ولما كان كأنه قيل: لقد قالوا ما له وجه، فبم أجيبوا؟ قيل: ﴿قال﴾ أي جواباً لهم ﴿لكل﴾ أي من السابق واللاحق والمتبوع والتابع ﴿ضعف﴾ وإن لم يكن الضعفاء متساويين لأن المتبوع وإن كان سبباً لضلال التابع فالتابع أيضاً كان سبباً لتمادي المتبوع في ضلاله وشدة شكيمته فيه بتقويته بالاتباع وتأييده بالمناضله عنه والدفاع؛ ولما كانوا جاهلين باستحقاقهم الضعف لسبب هذه الدقيقة قال: ﴿ولكن لا تعلمون*﴾ أي بذلك.
ولما ذكر ملام الآخرين على الأولين، عطف عليه جواب الأولين فقال: ﴿وقالت أولاهم﴾ أي أولى الفرق والأمم ﴿لأخراهم﴾ مسببين
398
عن تأسيسهم لهم الضلال ودعائهم إليه ﴿فما كان لكم علينا﴾ أي بسبب انقيادكم لنا واتباعكم في الضلال ﴿من فضل﴾ أي لنحمل عنكم بسببه شيئاً من العذاب لأنه لم يعد علينا من ضلالكم نفع وقد شاركتمونا في الكفر ﴿فذوقوا﴾ أي بسبب ذلك ﴿العذاب﴾ في سجين ﴿بما﴾ اي بسبب ما ﴿كنتم تكسبون*﴾ لا بسبب اتباعكم لنا في الكفر.
399
ولما جرت العادة بأن أهل الشدائد يتوقعون الخلاص، أخبر أن هؤلاء ليسوا كذلك، لأنهم أنجاس فليسوا أهلاً لمواطن الأقداس، فقال مستأنفاً لجواب من كأنه قال: أما لهؤلاء خلاص؟ وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف: ﴿إن الذين كذبوا بآياتنا﴾ أي وهي المعروفة بالعظمة بالنسبة إلينا ﴿واستكبروا عنها﴾ أي وأوجدوا الكبر متجاوزين عن اتباعها ﴿لا تفتح لهم﴾ أي لصعود أعمالهم ولا دعائهم ولا أرواحهم ولا لنزول البركات عليهم ﴿أبواب السماء﴾ لأنها طاهرة عن الأرجاس الحسية والمعنوية فإذا صعدت أرواحهم الخبيثة بعد الموت مع ملائكة العذاب أغلقت الأبواب دونها ثم ألقيت من هناك إلى سجين ﴿ولا يدخلون الجنة﴾ أي التي هي أطهر المنازل وأشرفها ﴿حتى﴾ يكون ما لا يكون بأن ﴿يلج﴾ أي يدخل ويجوز ﴿الجمل﴾ على كبره ﴿في سم﴾ أي في خرق ﴿الخياط﴾ أي
399
الإبرة اي حتى يكون ما لا يكون، إذاً فهو تعليق على محال، فإن الجمل مثل في عظم الجرم عند العرب، وسم الإبرة مثل في ضيق المسلك، يقال: أضيق من خرق الإبرة، ومنه الماهر الخريت للدليل الذي يهتدي في المضايق المشبهة بأخراق الإبر؛ وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن الجمل فقال: زوج الناقة - استجهالاً للسائل وإشارة إلى طلب معنى آخر غير هذا الظاهر تكلف.
ولما كان هذا للمكذبين المستكبرين أخبر أنه لمطلق القاطعين أيضاً فقال: ﴿وكذلك﴾ أي ومثل ذلك الجزاء بهذا العذاب وهو أن دخولهم الجنة محال عادة ﴿نجزي المجرمين*﴾ أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل وإن كانوا أذناباً مقلدين للمستكبرين المكذبين؛ ثم فسر جزاء الكل فقال: ﴿لهم من جهنم مهاد﴾ أي فرش من تحتهم، جمع مهد، ولعله لم يذكره لأن المهاد كالصريخ فيه ﴿ومن فوقهم غواش﴾ أي أغطية - جمع غاشية - تغشيهم من جهنم؛ وصرح في هذا بالفوقية لأن الغاشية ربما كانت عن يمين أو شمال، أو كانت بمعنى مجرد الوصول والإدراك، ولعله إنما حذف الأول لأن الآية من الاحتباك، فذكر جهنم أولاً دليلاً على إرادتها ثانياً، وذكر الفوق ثانياً دليلاً على إرادة التحت أولاً.
400
ولما كان بعضهم ربما لا تكون له أهلية قطع ولا وصل، قال عاماً لجميع أنواع الضلال: ﴿وكذلك﴾ أي ومثل ذلك الجزاء ﴿نجزي الظالمين*﴾ ليعرف أن المدار على الوصف، والمجرم: المذنب ومادته ترجع إلى القطع، والظالم: الواضع للشيء في غير موضعه كفعل من يمشي في الظلام، يجوز أن يكون نبه سبحانه بتغاير الأوصاف على تلازمها، فمن كان ظالماً لزمه الإجرام والتكذيب والاستكبار وبالعكس.
ولما أخبر عن أحوالهم ترهيباً، أتبعه الإخبار عن أحوال المؤمنين ترغيباً فقال ﴿والذين آمنوا﴾ في مقابلة ﴿الذين كذبوا﴾.
ولما قال: ﴿وعملوا﴾ أي تصديقاً لإيمانهم في مقابلة ﴿الذين استكبروا﴾ ﴿الصالحات﴾ وكان ذلك مظنة لتوهم أن عمل جميع الصالحات - لأنه جمع محلى بالألف واللام - شرط في دخول الجنة؛ خلل ذلك بجملة اعتراضية تدل على التخفيف فقال: ﴿لا نكلف نفساً إلا وسعها﴾ وترغيباً في اكتساب مالا يوصف من النعيم بما هو في الوسع ﴿أولئك﴾ أي العالو الرتبة ﴿أصحاب الجنة﴾ ولما كانت الصحبة تدل على الدوام، صرح به فقال: ﴿هم فيها خالدون﴾.
401
ولما كانت الدار لا تطيب إلا بحسن الجوار قال: ﴿ونزعنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ﴿ما﴾ كان في الدنيا ﴿في صدورهم من غل﴾ أي ضغينة وحقد وغش من بعضهم على بعض يغل، أي يدخل بلطف إلى صميم القلب، ومن الغلول، وهو الوصول بالحيلة إلى الذنوب الدقيقة، ويقال: غل في الشيء وتغلغل فيه - إذا دخل فيه بلطافة كالحب يدخل في صميم الفؤاد، حتى أن صاحب الدرجة السافلة لا يحسد صاحب العالية.
ولما كان حسن الجوار لا يلذ إلاّ بطيب القرار باحكام الدار، وكان الماء سبب العمارة وطيب المنازل، وكان الجاري منه أعم نفعاً وأشد استجلاباً للسرور قال تعالى ﴿تجري من﴾ وأشار إلى علوهم بقوله: ﴿تحتهم الأنهار﴾ فلما تمت لهم النعمة بالماء الذي به حياة كل حياة كل شيء فعرف أنه يكون عنه الرياض والأشجار وكل ما به حسن الدار، أخبر عن تعاطيهم الشكر لله ولرسوله المستجلب للزيادة بقوله: ﴿وقالوا الحمد﴾ أي الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿لله﴾ أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة لذاته لا لشيء آخر؛ ثم وصفوه بما يقتضي ذلك له لأوصافه أيضاً، فقالوا معلمين أنه لا سبب لهم في الوصول إلى النعيم غير النعيم غير فضله في الأولى
402
والأخرى: ﴿الذي هدانا﴾ أي بالبيان والتوفيق، وأوقعوا الهداية على ما وصلوا إليه إطلاقاً للمسبب على السبب ﴿لهذا﴾ أي للعمل الذي أوصلنا إليه ﴿وما﴾ أي والحال أنا ما ﴿كنا لنهتدي﴾ أصلاً لبناء جبلاتنا على خلاف ذلك ﴿لولا أن هدانا الله﴾ أي الذي له الأمر كله، وقراءة ابن عامر بغير واو على أن الجملة موضحة لما قلبها، والقراءتان دامغتان للقدرية.
ولما كان تصديقهم للرسل في الدنيا إيماناً بالغيب من باب علم اليقين، أخبروا في الآخرة بما وصلوا إليه من عين اليقين سروراً وتبججاً لا تعبداً، وثناء على الرسل ومن أرسلهم بقولهم مفتتحين بحرف التوقع لأنه محله: ﴿لقد جاءت رسل ربنا﴾ أي المحسن إلينا ﴿بالحق﴾ أي الثابت الذي يطابقه الواقع الذي لا زوال له.
ولما غبطوا أنفسهم وحقروها وأثبتوا الفضل لأهله، عطف على قولهم قوله مانّاً عليهم بقبول أعمالهم، ولما كان السار الإخبار عن الإيراث لا كونه من معين، بني للمفعول قوله: ﴿ونودوا﴾ أي إتماماً لنعيمهم ﴿أن﴾ هي المخففة من الثقيلة أو هي المفسرة ﴿تلكم الجنة﴾ العالية ﴿أورثتموها﴾ أي صارت إليكم من غير تعب ولا منازع ﴿بما﴾ أي بسبب ما ﴿كنتم تعملون*﴾ لأنه سبحانه جعله سبباً
403
ظاهرياً بكرمه، والسبب الحقيقي هو ما ذكروه هم من توفيقه.
ولما استقرت بهم الدار، ونودوا بدوام الاستقرار، أخبر سبحانه أنهم أقبلوا متبججين على أهل النار شامتين بهم في إحلالهم دار البوار تلذيذاً لأنفسهم بالنعيم وتكديراً على الأشقياء في قوله: ﴿ونادى أصحاب الجنة﴾ أي بعد دخول كل من الفريقين إلى داره ﴿أصحاب النار﴾ يخبرونهم بما أسبغ عليهم من النعم، ويقررونهم بما كانوا يتوعدونهم به من حلول النقم؛ ثم فسر ما وقع له النداء بقوله: ﴿أن﴾ أو هي مخففة من الثقيلة، وذكر حرف التوقع لأنه محله فقال: ﴿قد وجدنا﴾ أي بالعيان كما كنا واجدين له بالإيمان ﴿ما وعدنا ربنا﴾ أي المحسن إلينا في الدارين من الثواب ﴿حقاً﴾ أي وجدنا جميع ما وعدنا ربنا لنا ولغيرنا حقاً كما كنا نعتقد ﴿فهل وجدتم﴾ أي كذلك ﴿ما وعد﴾ وأثبت المفعول الأول تلذيذاً، وحذفه هنا احتقاراً للمخاطبين، وليشمل ما للفريقين فيكون وجد بمعنى العلم وبمعنى اللقى، وفي التعبير بالوعد دون الوعيد مع ذلك تهكم بهم ﴿ربكم﴾ أي الذي أحسن إليكم فقابلتم إحسانه بالكفران من العقاب ﴿حقاً﴾ لكونكم وجدتم ما توعدكم به ربكم حقاً ﴿قالوا نعم﴾ أي قد وجدنا ذلك
404
كله حقاً؛ قال سيبويه: نعم عِدَة، أي في جواب: أتعطيني كذا، وتصديق في مثل قد كان كذا، والآية من الاحتباك: أثبت المفعول الثاني أولاً دليلاً على حذف مثله ثانياً، وحذفه ثانياً دليلاً على إثبات مثله أولاً - والله أعلم.
ولما حبوا من النعم بما تقدم، وكان منه الجار الحسن، وكان العيش مع ذلك لا يهنأ إلا بإبعاد جار السوء، أخبروا ببعده وزيدوا سروراً بإهانته في قوله: ﴿فأذن﴾ أي بسبب ما أقر به أهل النار على انفسهم ﴿مؤذن بينهم﴾ أي بين الفريقين ﴿أن﴾ مخففه أو مفسرة في قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم، وشددها الباقون ونصبوا ﴿لعنة الله﴾ أي طرد الملك الأعظم وإبعاده على وجه الغضب ﴿على الظالمين*﴾ أي الذين كانوا مع البيان الواضح يضعون الأشياء في غير مواضعها كحال من لم ير نوراً أصلاً ﴿الذين يصدون﴾ أي لهم فعل الصد لمن أراد الإيمان ولمن آمن ولغيرهما بالإضلال بالإرغاب والإرهاب والمكر والخداع ﴿عن سبيل الله﴾ أي طريق دين الملك الذي لا كفوء له الواضح الواسع ﴿ويبغونها﴾ أي يطلبون لها ﴿عوجاً﴾ بإلقاء الشكوك والشيهات، وقد تقدم ما فيه في آل عمران ﴿وهم بالآخرة كافرون*﴾ أي ساترون ما ظهر لعقولهم من دلائلها؛ فمتى وجدت هذه الصفات الأربع حقت اللعنة ﴿وبينهما﴾ أي وحال الفريقين عند هذه المناداة أنه بينهما أو بين الدارين ﴿حجاب﴾ أي سور لئلا يجد أهل
405
النعيم في دارهم ما يكدر نعيمها ﴿وعلى الأعراف﴾ جمع عرف وهو كل عال مرتفع لأنه يكون أعرف مما انخفض، وهي المشرفات من ذلك الحجاب ﴿رجال﴾ استوت حسناتهم وسيئاتهم فوفقوا هنالك حتى يقضي الله فيهم ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته كما جاء مفسراً في مسند ابن أبي خثيمة من حديث جابر رضى الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿يعرفون كلاًّ﴾ أي من أصحاب الجنة وأصحاب النار قبل دخول كل منهم داره ﴿بسيماهم﴾ أي علامتهم ﴿ونادوا﴾ أي أصحاب الأعراف ﴿أصحاب الجنة﴾ أي بعد دخولهم إليها واستقرارهم فيها ﴿أن سلام عليكم﴾ أي سلامة وأمن من كل ضار.
ولما كان هذا السلام ربما أشعر أنه بعد دخول أهل الأعراف الجنة، فكأنه قيل أكان نداؤهم بعد مفارقتهم الأعراف ودخولها؟ فقيل لا، ﴿لم يدخلوها﴾ أي الجنة بعد ﴿وهم﴾ أي والحال أنهم ﴿يطمعون*﴾ في دخولها، وعبر بالطمع لأنه لا سبب للعباد إلى الله من أنفسهم وإن كانت لهم أعمال فضلاً عن هؤلاء الذين لا أعمال لهم.
406
ولما دل ما تقدم على أنهم مقبلون على الجنة وأهلها، قال مرغباً مرهباً: ﴿وإذا صرفت﴾ بناه للمفعول لأن المخيف لهم الصرف لا كونه من معين ﴿أبصارهم﴾ أي صرفها صارف من قبل الله بغير اختيار منهم ﴿تلقاء﴾ أي وجاه ﴿أصحاب النار﴾ أي بعد استقرارهم فيها فرأوا ما فيها من العذاب ﴿قالوا﴾ أي أصحاب الأعراف حال كونهم لم يدخلوها
406
وهم يخافون مستعيذين منها ﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا في الدنيا بكل إحسان وفي الآخرة بكونك لم تدخلنا إلى هذا الوقت إلى النار ﴿لا تجعلنا مع القوم الظالمين*﴾ بأن تدخلنا مدخلهم.
ولما تقدم كلامهم لأهل الجنة بالسلام، أخبر أنهم يكلمون أهل النار بالتوبيخ والملام فقال: ﴿ونادى﴾ وأظهر الفاعل لئلا يلبس بأهل الجنة فقال ﴿أصحاب الأعراف﴾ أي الحال صرف وجوهم إلى جهة أهل النار ﴿رجالاً﴾ أي من أهل النار ﴿يعرفونهم﴾ أي بأعيانهم، وأما معرفتهم إجمالاً فتقدم، وإنما قال هنا: ﴿بسيماهم﴾ لأن النار قد أكلتهم وغيرت معالمهم مع تغيرهم بالسمن وسواد الوجوه وعظم الجثث ونحوه ﴿قالوا﴾ نفياً أو استفهاماً توبيخاً وتقريعاً ﴿ما أغنى عنكم جمعكم﴾ أي للمال والرجال ﴿وما كنتم تستكبرون*﴾ أي تجددون بهما هذه الصفة وتوجدونها دائماً في الدنيا زاعمين أنه لا غالب لكم؛ ثم زادوا في توبيخهم وتقريعهم وتحزينهم وتأسيفهم والإنكار عليهم بقولهم مشيرين إلى ناس كانوا يستضعفونهم من أهل الجنة ويحقرونهم: ﴿أهؤلاء﴾ وكأنه يكشف لهم عنهم حتى يروهم زيادة في عذابهم ﴿الذين أقسمتم﴾ أي في الدنيا ﴿لا ينالهم الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿برحمة﴾ فكيف بكمال الرحمة.
ولما كان التصريح بأمرهم بدخول الجنة إنكاء لأهل النار لأنه أنفى
407
لما أقسموا عليه، قالوا: ﴿ادخلوا﴾ أي قال الله لهم أو قائل من قبله ادخلوا ﴿الجنة لا خوف عليكم﴾ أي من شيء يمكن توقع أذاه ﴿ولا أنتم تحزنون*﴾ أي يتجدد لكم حزن في وقت من الأوقات على شيء فات لما عندكم من الخيرات التي لا تدخل تحت الوصف.
ولما تقدم نداء أصحاب الجنة عندما حصل لهم السرور بدخولها لأصحاب النار بما يؤلم وينكي، وختم بهذه الرحمة التي تطمع المحروم فيما يسر ويزكي، أخبر أن أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة عندما حصل لهم من الغم بدخولها، لكن بما شأنه أن يرقق ويبكي، فقال ما يدل على أن عندهم كل ما نفي عن أهل الجنة في ختام الأية السالفة من الخوف والحزن: ﴿ونادى أصحاب النار﴾ أي بعد الاستقرار ﴿أصحاب الجنة﴾ بعد أن عرفهم إياهم وأمر الجنة فتزخزفت فكان ذلك زيادة في عذابهم؛ ثم فسر المنادى به فقال ﴿أن أفيضوا علينا من الماء﴾ أي لأنكم أعلى منا، فإذا أفضتموه وصل إلينا، وهذا من فرط ما هم فيه من البلاء، فإن بين النار والجنة أهوية لا قرار لها ولا يمكن وصول شيء من الدارين إلى الأخرى معها.
ولما كانت الإفاضة تتضمن الإنزال قالوا: ﴿أو﴾ أي أو أنزلوا علينا ﴿مما رزقكم الله﴾ أي الذي له الغنى المطلق، من أيّ شيء هان عليكم إنزاله ﴿قالوا﴾ أي أصحاب الجنة ﴿إن الله﴾ أي الذي حاز
408
جميع العظمة ﴿حرمهما﴾ أي منعهما بتلك الأهوية وغيرها من الموانع ﴿على الكافرين*﴾ أي الساترين لما دلهم عليه قويم العقل وصريح النقل ﴿الذين اتخذوا﴾ أي تكلفوا غير ما دلهم عليه العقل الفطري حين نبه بالعقل الشرعي بأن أخذوا ﴿دينهم﴾ بعد ما محقوا صورته وحقيقته كما يمحق الطين إذا اتخذته خزفاً فصار الدين ﴿لهواً﴾ أي اشتغالاً بما من شأنه أن يغفل وينسى عن كل ما ينفع من الأمور المعجبة للنفس من غير نظر في عاقبة، فجوزوا من جنس عملهم بأن لم ينظر لهم في إصلاح العاقبة.
ولما قدم ما هو أدعى إلى الاجتماع على الباطل الذي هو ضد مقصود السورة من الاجتماع على الجد وأدعى إلى الغفلة، وكان من شأن الغفلة عن الخير أن تجر إلى استجلاب الأفراح والانهماك في الهوى، حقق ذلك بقوله: ﴿ولعباً﴾ أي إقبالاً على ما يجلب السرور ويقطع الوقت الحاضربالغرور، ولذلك أتبعه قوله: ﴿وغرتهم﴾ أي في فعل ذلك ﴿الحياة الدنيا﴾ أي بما فيها من الأعراض الزائلة من تأميل طول العمر والبسط في الرزق ورغد العيش حتى صاروا بذلك محجوبين عن نظر معانيها وعما دعا إليه تعالى من الإعراض عنها فلم يحسبوا حساب ما وراءها. ولما كان تركهم من رحمته سبحانه مؤبداً، أسقط الجار ﴿فاليوم﴾ أي فتسبب عن ذلك أن في هذا اليوم ﴿ننساهم﴾
409
أي نتركهم ترك المنسي ﴿كما﴾ فعلوا هم بأنفسهم بأن ﴿نسوا﴾ أي تركوا ﴿لقاء يومهم هذا﴾ فلم يعدوا له عدته ﴿وما﴾ أي وكما ﴿كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿بآياتنا﴾ على ما لها من العظمة بنسبها إلينا ﴿يجحدون*﴾ أي ينكرون وهم يعرفون حقيقتها لأنها في غاية الظهور.
410
ولما ذكر نسيانهم وجحودهم، ذكر حالهم عند ذلك فقال: ﴿ولقد﴾ أي فعلوا ذلك والحال أنا وعزتنا قد ﴿جئناهم﴾ أي على عظمتنا بإتيان رسولنا إليهم عنا ﴿بكتاب﴾ ليس هو موضعاً للجحد أصلاً؛ ثم بين ذلك في سياق مرغب للمؤالف مرهب للمخالف فقال: ﴿فصلناه﴾ أي بينا معاينة لم ندع فيها لبساً، وجعلنا لآياته فواصل حال كون ذلك التفصيل ﴿على علم﴾ أي عظيم، فجاء معجزاً في نظمه ومعناه وسائر علمه ومغزاه، وحال كونه ﴿هدى﴾ أي بياناً ﴿ورحمة﴾ أي إكراماً، ثم خص المنتفعين به لأن من لا ينتفع بالشيء فهو كالمعدوم في حقه فقال: ﴿لقوم يؤمنون*﴾ أي فيهم قابلية ذلك، وفيه رجوع إلى وصف الكتاب الذي هو أحد مقاصد السورة على أبداع وجه في أحسن أسلوب.
ولما وصف الكتاب وذكر المنتفع به، تشوفت النفس إلى السؤال عن حال من لا يؤمن به وهم الجاحدون، فقال مشيراً إلى أن حالهم في وقوفهم عن المتابعه بعد العلم بصدقه بعجزهم عنه كحال من
410
ينتظر أن يأتي مضمون وعيده: ﴿هل ينظرون﴾ أي ينتظرون، ولكنه لما لم يكن لهم قصد في ذلك بغير ما يفهمه الحال، جرد الفعل ولإفادة أنه بتحقيق إتيانه في غاية القرب حتى كأنه مشاهد لهم ﴿إلا تأويله﴾ أي تصيير ما فيه من وعد ووعيد إلى مقاره وعواقب أمره التي أخبر أنه يصير إليها.
ولما كان كأنه قيل: ما يكون حالهم حينئذ؟ قال: التحسر والإذغان حيث لا ينفع، والتصديق والإيمان حين لا يقبل، وعبر عن ذلك بقوله: ﴿يوم يأتي تأويله﴾ أي بلوغ وعيده إلى مبلغه في الدنيا أو في الآخرة؛ ولما قدم اليوم اهتماماً به، أتبعه العامل فيه فقال: ﴿يقول الذين نسوه﴾ أي تركوه ترك المنسي، ويجوز أن يكون عد ذلك نسياناً لأنه ركز في الطباع أن كل ملك لا بد له من عرض جنده ومحاسبتهم، فلما أعرضوا عن ذلك فيما هو من جانب الله عده نسياناً منهم لما ركز في طباعهم.
ولما كان نسيانهم في بعض الزمان السابق، أدخل الجار فقال ﴿من قبل﴾ أي قبل كشف الغطاء محققين للتصديق ﴿قد جاءت﴾ أي فيما سبق من الدنيا ﴿رسل ربنا﴾ أي المحسن إلينا ﴿بالحق﴾ أي المطايق لهذا الواقع الذي نراه مما كانوا يتوعدوننا به، فما صدقوا حتى رأوا
411
فلم يؤمنوا بالغيب ولا أوقعوا الإيمان في دار العمل فلذا لم ينفعهم.
ولما وصفوه سبحانه بالإحسان لما كشف الحال عنه من حلمه وطول أناته، سببوا عن ذلك قولهم: ﴿فهل لنا من شفعاء﴾ أي في هذا اليوم، وكأنهم جمعوا الشفعاء لدخولهم في جملة الناس في الشفاعة العظمى لفصل القضاء؛ ثم سببوا عن ذلك تحقيق كونهم لهم أي بالخصوص فقالوا ﴿فيشفعوا لنا﴾ أي سواء كانوا من شركائنا الذين كنا نتوهم فيهم النفع أو من غيرهم ليغفر لنا ما قدمنا من الجرائم ﴿أو نرد﴾ أي إن لم يغفر لنا إلى الدنيا التي هي دار العمل، والمعنى أنه لا سبيل لنا إلى الخلاص إلا أحد هذين السببين؛ ثم سببوا عن جواب هذا الاستفهام الثاني قولهم: ﴿فنعمل﴾ أي في الدنيا ﴿غير الذي كنا﴾ أي بجبلاتنا من غير نظر عقلي ﴿نعمل﴾.
ولما كان من المعلوم عند من صدق القرآن وعلم مواقع ما فيه من الأخبار أنه لا يكون لهم شيء من ذلك، كانت نتيجته قوله: ﴿قد خسروا أنفسهم﴾ أي فلا احد أخسر منهم ﴿وضل﴾ أي غاب وبطل ﴿عنهم ما كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً، لا يمكنهم الرجوع عنه إلا عند عند رؤية البأس ﴿يفترون*﴾ أي يتعمدون في الدنيا من الكذب
412
في أمره لقصد العناد للرسل من ادعاء أن الأصنام تشفع لهم ومن غير ذلك من أكاذيبهم.
ولما كان مدار القرآن على تقرير الأصول الأربع: التوحيد والنبوة والمعاد والعلم، وطال الكلام في إخباره سبحانه عن أوامره ونواهيه وأفعاله بأوليائه وأعدائه الدالة على تمام القدرة والعلم، وختم بأن شركاءهم تغني عنهم، علل ذلك بأنه الرب لا غيره، في سياق دال على الوحدانية التي هي أعظم مقاصد السورة، كفيل بإظهار الحجج عليها، وعلى المقصد الثاني - وهو الإعادة التي فرغ من تقرير أحوالها بالإبداء الذي تقرر في العقول أنه أشد من الإعادة - بأدلة متكلفة بتمام القدرة والعلم فقال: ﴿إن ربكم﴾ أي المحسن إليكم بالإيجاد من العدم وتدبير المصالح هو ﴿الله﴾ أي الملك الذي لا كفوء له وحده لا صنم ولا غيره؛ ثم وصفه بما حقق ذلك فقال: ﴿الذي خلق السماوات والأرض﴾ أي على اتساعهما وعظمتهما.
ولما كان ربما قال الكفار: ما له إذا كان قادراً وأنت محق في رسالتك لا يعجل لنا الإتيان بتأويله، بين أن عادته الأناه وإن كان أمره وأخذه كلمح بالبصر إذا أراده، فقال: ﴿في ستة أيام﴾ أي في مقدارها؛ ولما كان تدبير هذا الخلق أمراً باهراً لا تسعه العقول، ولهذا كانت قريش تقول: كيف يسع الخلق إله واحد! أشار إلى
413
عظمته وعلو رتبته بأداة البعد فقال: ﴿ثم استوى على العرش﴾ أي أخذ في التدبير لما أوجده وأحدث خلقه أخذاً مستوفى مستقصى مستقلاً به لأن هذا شأن من يملك ملكاً ويأخذ في تدبيره وإظهار أنه لا منازع له في شيء منه وليكون خطاب الناس على ما ألفوه من ملوكهم لتستقر في عقولهم عظمته سبحانه، وركز في فطرهم الأولى من نفي التشبيه منه، ويقال: فلان جلس على سرير الملك، وإن لم يكن هناك سرير ولا جلوس، وكما يقال في ضد ذلك: فلان ثل عرشه، أي ذهب عزه وانتقض ملكه وفسد أمره، فيكون هذا كناية لا يلتفت فيه إلى أجراء التركيب، والألفاظ على ظواهرها كقولهم للطويل: طويل النجاد، وللكريم: عظيم الرماد.
ولما كان سبحانه لا يشغله شان عن شأن، ابتدأ من التدبير هو آية ذلك بمشاهدته في تغطية الأرض بظلامه في آن واحد، فقال دالاً على كمال قدرته المراد بالاستواء بأمر يشاهد كل يوم على كثرة منافعة التي جعل سبحانه بها انتظام هذا الوجود: ﴿يغشي﴾ أي استوى حال كونه يغشي ﴿الليل النهار﴾ وقال أبو حيان: وقرأ حميد بن قيس: يغشى الليل - بفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين وضم اللام، كذا قال عنه أبو عمرو الداني، وقال أبو الفتح بن جني عن حميد بنصب الليل ورفع
414
النهار، وقال ابن عطية: وأبو الفتح أثبت، وهذا الذي قاله - من أن أبا الفتح أثبت - كلام لا يصح، إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءة ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراءة فضلاً عن النجاة الذين ليسوا مقرئين ولا رووا القراءة عن أحد ولا روى عنهم القراءة أحد، هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النقل وعدم التجاسر ووفور الحظ من العربية، فقد رأيت له كتاباً في كلا وكتاباً في إدغام أبي عمرو الكبير دلاً على اطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أئمة النجاة ولا المقرئين إلى سائر تصانيفه، والذي نقله أبو عمرو الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى، لأن ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ ﴿اليّل﴾ في قراءتهم - وإن كان منصوباً- هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النقل أو التضعيف صيرة مفعولاً، ولا يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً من حيث المعنى، لأن المنصوبين تعدى إليهما الفعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى، فيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في: ملكت زيداً عمراً، إذ رتبة التقديم هي الموضحة أنه الفاعل من حيث المعنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى - انتهى.
415
ولما أخبر سبحانه أن الليل يغطي النهار، دل على أن النهار كذلك بقوله مبيناً لحال الليل ﴿يطلبه﴾ أي الليل يجر ويطلب النهار دائماً طلباً ﴿حثيثاً﴾ أي سريعاً جداً لتغطية الليل، وذلك لأن الشيء لا يكون مطلوباً إلا بعد وجوده، وإذا وجد النهار كان مغطياً لليل، لأنهما ضدان، وجود أحدهما ماح لوجود الآخر، وابتدأ سبحانه بذكر الليل لأن إغشاءه أول كائن بعد تكمل الخلق، وحركتهما بواسطة حركة العرش، ولذا ربطهما به، وهي أشد الحركات سرعة وأكملها شدة، وللشمس نوعان من الحركة: أحدهما بحسب ذاتها تتم بقطع الدرج كلها في جميع الفلك، وبسببه تحصل السنة، والثاني بحسب حركة الفلك الأعظم تتم في اليوم بليلته، والليل والهنار إنما يحصلان بسبب حركة السماء الأقصى الذي يقال له العرش لا بسبب حركة النيرين، وأجاز ابن جني أن يكون ﴿يطلبه﴾ حالاً من النهار في قراءة الجماعة وإن كان مفعولاً، أي حال كون النهار يطلب الليل حثيثاً ليغطيه، وأن يكون حالاً منهما معاً لأن كلاًّ منهما طالب للآخر، وبهذا ينتظم ما قاله في قراءة حميد، فإن كلاً منهما يكون غاشياً للآخر، قال في كتابه المحتسب في القراءات الشواذ: ووجه صحة القراءتين
416
والتقاء معنييهما أن الليل والنهار يتعاقبان، وكل واحد منهما وإن أزال صاحبه فإن صاحبه أيضاً مزيل له، وكل واحد منهما على هذا فاعل وإن كان مفعولاً ومفعول وإن كان فاعلاً، على أن الظاهر في الاستحثاث هنا إنما هو النهار لأنه بسفورة وشروقه أظهر أثراً في الاستحثاث من الليل.
ولما ذكر الملوين، أتبعهما آية كل فقال: ﴿والشمس والقمر والنجوم﴾ أي خلقها، أو يغشى كل قبيل منهما ما الآخر آيته خال كون الكل ﴿مسخرات﴾ أي للسير وغيره ﴿بأمره﴾ وهو إرداته وكلامه، تقودها الملائكة كما روي أن لله ملائكة يجرون الشمس والقمر.
ولما صح أن جميع ما نراه من الذوات خلقه، وما نعلمه من المعاني أمره، أنتج قطعاً قوله ﴿ألا له﴾ أي وحده، وقدم المسبب على السبب ترقية - كما هو مقتضى الحكم - من المحسوس إلى المعقول فقال: ﴿الخلق﴾ وهو ما كان من الإيجاد بتسبيب وتنمية وتطوير قال الرازي: فكل ما كان جسماً او جسمانياً كان مخصوصاً بمقدار معين فكان من عالم الخلق، فعالم الخلق بتسخيره، وعالم الأمر بتدبيره، واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره ﴿والأمر﴾ وهو ما كان من ذلك إخراجاً من العدم من غير تسبب كالروح، وما كان حفظاً وتدبيراً بالكلام
417
كالأديان وكل ما يلاحظ القيومية؛ وقال الرازي: كل ما كان بريئاً من الحجم والمقدار كان من عالم الأمر، وعد الملائكة من عالم الأمر، فأتنج ذلك قطعاً قوله على سبيل المدح الذي ينقطع دونه الأعناق ويتقاصر دون عليائه ذري الآفاق: ﴿تبارك﴾ أي ثبت ثبوتاً لا ثبوت في الحقيقة غيره اليمن والبركة وكثرة الآثار الفاضلة والنتائج الشريفة ﴿الله﴾ أي ذو الجلال والإكرام.
ولما دل على أنه يستحق هذا الثناء لذاته، دل على أنه يستحقه لصفاته فقال: ﴿رب العالمين*﴾ أي مبدع ذلك كله ومربيه خلقاً وتصريفاً بأمره، وفي الجزء السادس من فوائد المخلص عن سفيان بن عيينة أنه قال: ما يقول هذه الدوبية - يعني بشراً المريسي؟ قالوا: يا أبا محمد! يزعم أن القرآن مخلوق، فقال: كذب، قال الله عزّ وجلّ ﴿ألا له الخلق والأمر﴾ فالخلق خلق الله، والأمر القرآن - انتهى. وهذا الذي فسر به مما تحتمله الآية بأن يكون الأمر هو المراد بقوله ﴿بأمره﴾ وهو الإرادة والكلام مع احتمال ما قدمته.
418
ولما ذكر تعالى تفرده بالخلق والأمر المقتضي لتفرده بالعبادة للتوجيه إلى تحصيل المعارف النفسانية والعلوم الحقيقية، أمر بهذا المقتضى اللائق بتلك المعارف، وهو الدعاء الذي هو مخ العبادة فقال: ﴿ادعوا ربكم﴾ أي الدائم الإحسان إليكم دعاء عبادة وخضوع ﴿تضرعاً﴾ أي تذللاً
418
ظاهراً ﴿وخفية﴾ أي وتذللاً باطناً، وقد أثنى على عبده زكريا عليه السلام فقال: ﴿إذ نادى ربه نداء خفياً﴾ [مريم: ٣] أي اجمعوا إلى خضوع الظاهر خضوع الباطن، أي أخلصوا له العبادة، إنه يحب المخلصين لأن تفرده بأن يدعى هو اللائق بمقام عز الربوبية، والتذلل على هذه الصفة هو اللائق بمقام ذل العبودية، وهذا هو المقصود من الدعاء لا تحويل العلم الأزلي، وهو المقصود من جميع العبادات، فإن العبد لا يدعو إلا وقد استحضر من نفسه الذل والصعب والحاجة، ومن ربه العلم والقدرة والكفاية، وهذا هو المقصود من جميع العبادات، فلهذا كان الدعاء مخ العبادة، وقد جمع هذا الكلام على وجازته كل ما يراد تحقيقه وتحصيله من شرائط الدعاء بحيث إنه لا مزيد عليه، ومن فعل خلاف ذلك فقد تجاوز الحد، وإلى ذلك أوماً بتعليله بقوله: ﴿إنه لا يحب المعتدين*﴾ أي المجاوزين لما أمروا به في الدعاء وغيره، قالوا فالمعنى أن من ترك هذا لا يحبه الله، أي لا يثيبه البتة ولا يحسن إليه، فالآية من الاحتباك آخرها يدل على حذف ضده من صدرها، وصدرها يدل على أنه حذف قبل الآخر: ولا تتركوا الإخلاص تكونوا معتدين.
ولما كان ذلك من الوفاء بحق الربوبية والقيام بحق العبودية مقتضياًَ للصلاح أمر بإدامته بالنهي عن ضده في قوله: ﴿ولا تفسدوا﴾ أي لا تدفعوا فساداً ﴿في الأرض﴾ أي بالشرك والظلم، فهو منع من
419
إيقاع ماهية الإفساد في الوجود، وذلك يقتضي المنع من جميع أنواعه فيتناول الكليات الخمس التي اتفقت عليها الملل، وهي الأديان والأبدان والعقول والأنساب والأموال ﴿بعد إصلاحها﴾ والظاهر أن الإضافة بمعنى اللام وهي إضافة في المفعول، أي لا تدنسوها بفساد بعد أن أصلحها لكم خلقاً بما سوى فيها من المنافع المشار إليها بقوله ﴿يغشي الليل النهار﴾ [الأعراف: ٥٤]، الدال على الوحدانية الداعي إلى الحق إقامة للأبدان، وأمر بما أنزل من كتبه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام إقامة للأديان فجمع إلى الإيجاد الأول الإبقاء الأول.
ولما كان ذلك ربما اقتضى الاقتصار بكمال التذلل على مقام الخوف، نفى ذلك بقوله ﴿وادعوه خوفاً﴾ أي من عدله؛ ولما كان لا سبب للعباد من أنفسهم في الوصول إليه سبحانه، عبر بالطمع فقال: ﴿وطمعاً﴾ أي في فضله، فإن من جمع بين الخوف والرجاء كان في مقام الإحسان وكأنه مشاهد للرحمن، ما زجره زاجر الجلال بسياط سطوته إلا دعاه داعي الجمال إلى بساط رأفته، ومن حاز مقام الإحسان كان أهلاً للرحمة ﴿إن رحمت الله﴾ أي إكرام ذي الجلال والإكرام لمن يدعوه على هذه الصفة، وفخمها بالتذكير لإضافتها إلى غير مؤنث فيما قال سيبوية، فقال: ﴿قريب﴾ وكان الأصل منكم، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: ﴿من المحسنين*﴾.
420
ولما كان دوام الصلاح لا يكون إلا يكون بالغيث، وهو من أجلّ أنواع الرحمة، وهو لا يكون إلا بالسحاب، وهو لا يكون إلا بالريح، قال تعالى عاطفاً على ﴿إن ربكم الله﴾ تنبيهاً بعد تحقيق المبدإ على تحقيق المعاد: ﴿وهو﴾ أي لا غيره ﴿الذي يرسل﴾ أي بالتحريك ﴿الرياح﴾ هذا في قراءة الجماعة، وأنواعها خمس: جنوب وشمال وصبا ودبور ونكباء، وهي كل ريح انحرفت فوقعت بين ريحين، ووحد ابن كثير وحمزة والكسائي على إرادة الجنس ﴿بشرا﴾ بضمتين في قراءة أهل الحجاز والبصرة، أي منتشرة جمع نشور من النشر، وهو بسط ما كان مطوياً وتفريقه في كل وجه لا لذات الريح وإلا لدام ذلك منها ولا بقوة فلك أو نجم لأن نسبتهما إلى الهواء واحدة ﴿بين يدي﴾ أي قبل ﴿رحمته﴾ أي المطر، ولعله عبر فيه باليدين: اليمنى واليسرى، لدلالته - مع ما فيه من الفخامة - على انه تارة يكون رحمة وتارة يكون عذاباً كما كان على قوم نوح عليه السلام وإن كانت الرحمة فيه أغلب وهي ذات اليمين، وتارة تكون الرياح جامعة لها لحفظ الماء، وتارة مفرقة مبطلة لها، وتارة تكون مقومة للزروع والأشجار مكملة لها وهي اللواقح، وتارة تكون منمية لها أو مهلكة كما يكون في الخريف، وتارة تكون طبية وتارة مهلكة إما بشدة الحرارة والبرودة؛ ثم غيّ الإرسال بقوله ﴿حتى إذا أقلت سحاباً﴾ أي حملتها
421
لقلتها عندها لخفتها عليها ﴿ثقالاً﴾ أي بالماء؛ ولما دل على العظمة بالجمع وحقق الأمر بالوصف، أفرد اللفظ دلالة على غاية العظمة بسوقه مجتمعاً كأنه قطعة واحدة، لا يفترق جزء منه عن سائره إذ لو تفرق لاختل أمره، فقال: ﴿سقناه لبلد﴾ أي لأجله وإليه ﴿ميت﴾ أي بعدم النبات ﴿فأنزلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿به﴾ أي البلد، أو بسبب ذلك السحاب ﴿الماء﴾ أي هذا الجنس، وأشار إلى عظمة الإنبات بالنون فقال ﴿فأخرجنا به﴾ أي بالماء ﴿من كل الثمرات﴾ أي الحقيقية على الأشجار، والمجازية من النبات وحبوبه، ولما كان هذا - مع ما فيه من التذكير بالنعمة المقتضية لتوحيده بالدعوة - دليلاً ثانياً في غاية الدلالة على القدرة على البعث، قال تعالى: ﴿كذلك﴾ أي مثل ما أخرجنا هذا النبات من الأرض بعد أن لم يكن ﴿نخرج الموتى﴾ أي من الأرض بعد أن صاروا تراباً ﴿لعلكم تذكرون*﴾ أي قلنا هذا لتكون حالكم حال من يرجي تذكر هذه الآية المشاهدة القريبة المأخذ ولو على أدنى وجوه التذكر بما أشار إليه الإدغام، لأنه سبحانه كما قدر على إعادة النبات بجمع الماء له من جوف الأرض بعد أن كان تغيب في الأرض وصار تراباً، وأحيى الشجرة بعد أن كانت لا روح لها بإيداع الثمرة التي هي روحها، فهو
422
قادر على إعادة الأشباح وإيداعها الأرواح كما كانت أول مرة، لأنه لا فرق بين الإخراجين.
423
ولما كانت الموت موتين: حسياً ومعنوياً - كما أشير في الأنعام في آية ﴿إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله﴾ [الأنعام: ٣٦] ﴿أو من كان ميتاً فأحييناه﴾ [الأنعام: ١٢٢] كان كأنه قيل: لا فرق في ذلك عندما بين أموات الإيمان وأموات الأبدان، فكما أنا فاوتنا بين جواهر الأراضي بخلق بعضها جيداً وبعضها رديئاً كذلك فاوتنا بين عناصر الأناسي بجعل بعضها طيباً وبعضها خبيثاً، فالجيد العنصر يسهل إيمانه، والخبيث الأصل يعسر إذعانه وتبعد استقامته وإيقانه ﴿والبلد الطيب﴾ أي الذي طابت أرضه فكانت كريمة منبتة ﴿يخرج نباته﴾ أي إذا نزل عليه الماء خروجاً كثيراً حسناً سهلاً غزيراً ﴿بإذن﴾ أي بتمكين ﴿ربه﴾ أي المربي له بما هيأه له، والذي طاب في الجملة ولم يصل إلى الغاية يخرج له نبات دون ذلك، والخبيث لا يخرج له نبات أصلاً بمنع ربه له ﴿والذي خبث﴾ أي حصلت له خباثة في جبلته بكون أرضه سبخة أو نحوها مما لا يهيئه الله تعالى للإنبات ﴿لا يخرج﴾ أي نباته ﴿إلا﴾ أي حال كونه ﴿نكداً﴾ أي قليلاً ضعيف المنفعة، وهو -
423
مع كونه دالاً على أن ذلك ما كان على ما وصف مع استواء الأراضي في الأصل واستواء المياه ونسبتها إلى الأفلاك والنجوم إلا بالفاعل المختار - مثل ضربه سبحانه للمؤمن والكافر عند سماعهما للذكر من الكتاب والسنة، والآية من الاحتباك.
ولما استوت هذه الآيات على الذروة من بدائع الدلالات، كان السامع جديراً بأن يقول: هل تبين جميع هذه الآيات هذه البيان؟ فقيل: ﴿كذلك﴾ أي نعم، مثل هذا التصريف، وهو الترديد مع اختلاف الأنحاء لاختلاف الدلالات وإبرازها في قوالب الألفاظ الفائقة والمعاني الرائقة في النظوم المعجزة على وجوه لا تكاد تدخل تحت الحصر: ﴿نصرف الآيات﴾ أي كلها؛ ولما تم ذلك على هذا المنهاج الغريب والمنوال العجيب المذكر بالنعم في أسلوب دال على التفرد وتمام القدرة، كان أنسب الأشياء ختمه بقوله مخصصاً بها المنتفع لأنها بالنسبة إلى غيرهم كأنها لم توجد: ﴿لقوم يشكرون*﴾ أي يوجد منهم الشكر للنعم وجوداً مستمراً فلا يشركون بل ينتفعون بما أنعم عليهم به وحده في عبادته وحده، وينظرون بعقولهم أنه أقدرهم بنعمه على ما هم عاجزون عنه، فلا يسلبون عنه شيئاً من قدرته على بعث ولا غيره فإنهم يزعمون أنهم أهل معالي الأخلاق التي منها أنه ما جزاء الإحسان إلاّ الإحسان.
424
ولما طال تهديده سبحانه لمن أصر على إفساده، ولم يرجع عن غيّه وعناده بمثل مصارع الأولين ومهالك الماضين، ونوَّع في هذه الآيات محاسن الدلالات على التوحيد والمعاد بوجوه ظاهرة وبينات قاهرة وبراهين قاطعة وحجج ساطعة، ساق سبحانه تلك القصص دليلاً حسياً على أن في الناس الخبيث والطيب مع الكفالة في الدلالة على تمام القدرة والغيرة من الشرك على تلك الحضرة - بتفصيل أحوال من سلفت الإشارة إلى إهلاكهم وبيأن مصارعهم وأنه لم تغن عنهم قوتهم شيئاً ولا كثرتهم بقوله تعالى
﴿وكم من قرية أهلكناها﴾ [الأعراف: ٤] وقوله ﴿فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة﴾ [الأعراف: ٣٤] الآية تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقوية لصالحي أتباعه بالتنبيه على أن الإعراض عن الآيات ليس من خواص هذه الأمة بلف هي عادة الأمم السالفة، وعلى أن النعم خاصة بالشاكرين، ولذا كانت النقم مقصورة على الكافرين، فقال تعالى ﴿لقد أرسلنا﴾ أي بعظمتنا، وافتتحه بحرف التوقع لما للسامع الفطن من التشوف إلى ذكر ما تكرر من الإشارة إليه، ولأن اللام المجاب بها القسم المحذوف لا ينطقون بها غالباً إلا مقترنة بقد، لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تاكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة بمعنى التوقع الذي هو معنى «قد» عند استماع المخاطب كلمة القسم ﴿نوحاً﴾ يعني ابن لمك بم
425
متوشلخ بن خنوخ، وهو إدريس عليه السلام، وكان عند الإرسال ابن خمسين سنة.
ولما كان إرساله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل القبائل باختلاف اللغات قال: ﴿إلى قومه﴾ أي الذين كانوا ملء الأرض كما في حديث الشفاعة في الصحيحين وغيرهما عن أنس رضي الله عنه، ائتوا نوحاً أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض. وفيهم من القوة على القيام بما يريدون ما لا يخفي على من تأمل آثارهم وعرف أخبارهم، فإن كانت آثارهم فقد حصل المراد، وإن كانت لمن بعدهم علم - بحكم قياس الاستقرار - أنهم أقوى على مثلها وأعلى منها، ولسوق ذلك دليلاً على ما ذكر جاء مجرداً عن أدوات العطف، وهو مع ذلك كله منبه على أن جميع الرسل متطابقون على الدعوة إلى ما دل عليه برهان ﴿إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض﴾ [الأعراف: ٥٤] من التوحيد والصلاح إلى غير ذلك من بحور الدلائل والحجاج المتلاطمة الأمواج - والله الهادي إلى سبيل الرشاد، وكون نوح عليه السلام رسولاً إلى جميع أهل الأرض - لأنهم قومه لوحده لسانهم - لا يقدح في تخصيص نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعموم الرسالة، لأن معنى العموم إرساله إلى جميع الأقوام المختلفة باختلاف الألسن وإلى جميع من ينوس من الإنس والجن والملائكة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الصافات لهذا مزيد بيان.
ولما كان من المقاصد العظيمة الإعلام بأن الذي دعا إليه هذا
426
الرسول لم تزل الرسل - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام - تدعو إليه، وكان نوح أول رسول ذكرت رسالته عقب ذكر إرساله بذكر ما أرسل به بالفاء بقوله ﴿فقال يا قوم﴾ أي فتحبب إليهم بهذه الإضافة ﴿اعبدوا الله﴾ أي الذي له جميع العظمة من الخلق والأمر، فإنه مستحق لذلك وقد كلف عباده به.
ولما كان المقصود إفراده بذلك، علله بقوله مؤكداً له بإثبات الجار ﴿ما لكم﴾ وأغرق في النفي فقال: ﴿من إله غيره﴾ ثم قال معللاً أو مستأنفاً مخوفاً مؤكداً لأجل تكذيبهم: ﴿إني أخاف عليكم﴾ في الدنيا والآخرة، ولعلة قال هنا: ﴿عذاب يوم عظيم*﴾ وفي هود ﴿أليم﴾ [هود: ٢٦] وقال في المؤمنون ﴿أفلا تتقون﴾ [المؤمنون: ٢٣] لأن ترتيب السور الثلاث - وإن كان الصحيح أنه باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم - فلعله جاء على ترتيبها في النزول، لأنها مكيات، وعلى ترتيب مقال نوح عليه السلام لهم فألان لهم أولاً المقال من حيث إنه أوهم أن العظم الموصوف به ﴿اليوم﴾ لا بسبب العذاب بل الأمر آخر، فيصير العذاب مطلقاً يتناول أي عذاب كان ولو قل، فلما تمادى تكذيبهم بين لهم أن عظمه إنما هو من جهة إيلام العذاب الواقع فيه، فلما لجوا في عتوهم قال لهم قول القادر إذا هدد عند مخالفة غيره له:
427
ألا تفعل ما أقول لك؟ أي متى خالفت بعد هذا عاجلتك بالعقاب وأنت تعرف قدرتي.
ولما تم ذلك، وكان الحال مقتضياً - مع ما نصب من الأدلة الواضحة على الوحدانية - لأن يجيبوا بالتصديق، كان كأنه قيل: فبماذا كان جوابهم؟ فقال ﴿قال الملأ﴾ أي الأشراف الذين يملأ العيون مرآهم عظمة، وتتوجه العيون في المحافل إليهم، ولم يصفهم في هذه السورة بالكفر لأن ذلك أدخل في التسلية، لأنها أول سورة قص فيها مثل هذا في ترييب الكتاب، ولأن من آمن به مطلقاً كانوا في جنب من لم يؤمن في غاية القلة، فكيف عند تقييدهم بالشرف! وأكد ذمهم تسلية لهذا النبي الكريم بالتعريف بقربهم منه في النسب بقوله: ﴿من قومه﴾ وقابلوا رقته وأدبه بغلطة مؤكداً ما تضمنته من البهتان لأن حالهم مكذب لهم فقالوا: ﴿إنا لنراك﴾ أي كل واحد منا يعتقد اعتقاداً هو في الثقة به كالرؤية أنك ﴿في ضلال﴾ أي خطأ وذهاب عن الصواب، هو ظرف لك محيط بك ﴿مبين*﴾ أي ظاهر في نفسه حتى كأنه يظهر ذلك لغيره.
428
ولما قذفوه بضلال مقيد بالوضوح، نفى الضلال المطلق الذي هو الأعم، وبنفيه ينتفي كل أخصيّاته بل نفي أقل شيء من الضلال، فقال
428
تعالى مخبراً عنه ﴿قال ياقوم﴾ مجدداً لا ستعطافهم ﴿ليس بي ضلالة﴾ فنفى وحدة غير معينة، ولا يصدق ذلك إلا بنفي لكل فرد، فهو أنص من نفي المصدر، ولم يصف الملأ من قومه هنا بالذين كفروا ووصفهم بذلك في سورة هود، إما لأنها صفة ذم لم يقصد بها التقييد فلا يختل المعنى بإثباتها ولا نفيها، أو لأنهم أجابوه بذلك مرتين: إحداهما قبل أن يسلم أحد من أشرافهم، والثانية بعد أن أسلم بعضهم.
ولما نفى ما رموه به على هذا الوجه البليغ، أثبت له ضده بأشرف ما يكون من صفات الخلق، فقال مستدركاً - بعد نفي الضلال - إثبات ملزوم ضده: ﴿ولكني رسول﴾ أي إليكم بما أمرتكم به فأنا على أقوم طريق ﴿من رب العالمين*﴾ أي المحسن إليهم بإرسال الرسل لهدايتهم بإنقاذهم من الضلال، فرد الأمر عليهم بألطف إشارة؛ ثم استأنف الإخبار عن وظيفته بياناً لرسالته فقال: ﴿أبلغكم﴾ وكأن أبواب كفرهم كانت كثيرة فجمع باعتبارها أو باعتبار تعدد معجزاته أو تعدد نوبات الوحي في الأزمان المتطاولة والمعاني المختلفة، أو أنه جمع له ما أرسل به من قبله كإدريس جده وهو ثلاثون صحيفة وشيث وهو خمسون صحيفة عليهما السلام فقال: ﴿رسالات ربي﴾ أي المحسن إليّ من الأوامر والنواهي وجميع أنواع التكاليف من أحوال الآخرة وغيرها، لا أزيد فيها أنقص منها كما هو شأن كل رسول مطيع.
429
ولما كان الضلال من صفات الفعل، واكتفى بالجملة الفعلية الدالة على حدوث في قوله: ﴿وأنصح﴾ وقصر الفعل ودل على تخصيص النصح بهم ومحضه لهم فقال: ﴿لكم﴾ والنصيحة: الإرشاد إلى المصلحة مح خلوص النية من شوائب المكروه، ولما كان الضلال من الجهل قال: ﴿وأعلم من الله﴾ أي من صفات الذي له صفات الكمال وسائر شؤونه ﴿ما لا تعلمون*﴾ أي من عظيم أخذه لمن يعصيه وغير ذلك مما ليس لكم قابلية لعلمه بغير سفارتي فخذوه عني تصيروا علماء، ولا تتركوه بنسبتي إلى الضلال تزدادوا ضلالاً.
ولما كان الحامل لهم على هذا مجرد استبعاد أن يختص عنهم بفضيلة وهو منهم كما سيأتي في غير هذه السورة، أنكر ذلك عليهم بقولة: ﴿أو عجبتم﴾ أي أكذبتم وعجبتم ﴿أن جاءكم﴾ وضمن جاء معنى أنزل، فلذلك جعلت صلته «على» فقال: ﴿ذكر﴾ رسالة ﴿من ربكم﴾ أي المحسن إليكم بالإيجاد والتربية منزلاً ﴿على الرجل﴾ أي كامل في الرجولية وهو مع ذلك بحيث لا تتهمونه فإنه ﴿منكم﴾ لقولكم: ﴿ما سمعنا بهذا﴾ أي إرسال البشر ﴿في آبائنا الأولين﴾
[المؤمنون: ٢٤] ﴿لينذركم﴾ لتحذروا ما ينذركموه ﴿ولتتقوا﴾ أي تجعلوا بينكم وبين ما تحذرونه وقاية لعلكم تنجون ﴿ولعلكم ترحمون*﴾ أي وليكون حالكم إذا لقيتم الله حال من ترجى
430
رحمته بأن يرفعه الله في الدارين.
ولما نسبوه أولاً إلى الضلال وهو قد يكون خطأ عن ذهول ونحوه، فأقام لهم الدليل على أنه على الصواب، أخبر أنه لم يتسبب عن ذلك إلا تصريحهم بما لوحوا إليه أولاً بالضلال من التكذيب فقال: ﴿فكذبوه﴾ أي الملأ وتبعهم من دونهم؛ ولما تسبب عن تكذيبهم له تصديق الله لهم بإهلاكهم وإنجائه ومن آمن به، قال مقدماً لإنجائه اهتماماً به: ﴿فأنجيناه﴾ بما لنا من العظمة من أهل الأرض كلهم ومن عذابنا الذي أخذناهم به: ﴿والذين معه﴾ أي بصحبة الأعمال الدينية ﴿في الفلك﴾ وهو السفينة التي منّ الله على الناس بتعليمه عملها لتقيه من الطوفان فكانت آية ومنفعة عظيمة لمن أتى بعدهم ﴿وأغرقنا﴾ أي بالطوفان، وهو الماء الذي طبق ظهر الأرض فلم يبق منها موضعاً حتى أحاط به، وأظهر موضع الإضمار تعليقاً للفعل بالوصف إشارة إلى أن من فعل مع الرسول شيئاً فإنما فعله مع مرسله فهو يجازيه بما يستحقه فقال: ﴿الذين كذبوا بآياتنا﴾ أي وهي من الظهور في حد لا خفاء به لما لها من العظمة بالنسبة إلينا، وعدي هنا فعل النجاة بالهمزة وهي الأصل في التعدية، وقرنت ب ﴿الذين﴾ لأنه أخلص الموصولات واصرحها.
431
ولما أعيدت القصة في سورة يونس عليه السلام، كان الأليق بكلام البلغاء والأشبه بطرائق الفصحاء التفنن في العبارة، فعدي التضعيف مع ما فيه من الأبلغية بإفهام مزيد الاعتناء مناسبة لما تقدم من مزيد التفويض في قوله ﴿فأجمعوا أمركم وشركاءكم﴾ [يونس: ٧١]، وتلا ب ﴿من﴾ ضماً للفرع إلى الفرع فإن ﴿من﴾ مشترك بين الوصل والشرط، وهي أيضاً قد تطلق على ما لا يعقل، فناسب ذلك الحال، وزيد هناك في وصف الناجين ﴿وجعلناهم خلائف﴾ [يونس: ٧٣] نظراً إلى قوله تعالى في في أول السورة ﴿ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا﴾ [يونس: ١٣]، ثم قال: ﴿ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون﴾ [يونس: ١٤] فلوح لهم بالإهلاك إن ظلموا، ثم أشار لهم - في قصة نوح عليه السلام بكونه أعلمهم أن الخلائف هم الناجون الباقي ذكرهم وذريتهم - إلى أنه تفضل عليهم بالتوفيق إلى الإجابة ورحمهم بهذا النبي الكريم - عليه أفضل الصلاة والتسليم - فقضى أنهم غير مهلكين.
ولما افتتحت القصة بنسبتهم له إلى الضلال باطلاً، وهو ناشىء عن عمى البصيرة أو البصر، ناسب أن يقلب الأمر عليهم على وجه الحق فقال مؤكداً لإنكارهم ذلك ﴿إنهم كانوا﴾ أي لما جبلتهم من العوج
432
﴿قوماً عمين*﴾ أي مطبوعين في عمى القلب مع قوتهم يحاولون، ثابت لهم ذلك، بما أشار إليه فعل دون أن يقال فاعل، وختمت القصة في يونس بقوله
﴿فانظر كيف كان عاقبة المنذرين﴾ [يونس: ٧٣] لقوله أولها ﴿إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري﴾ [يونس: ٧١] أي إنذاري لأنه أعلم أنه كبر عليهم ولو كان تبشيراً لما عز عليهم.
ولما كان عاد بعدهم، ولم يكن هنا ما يقتضي تشويش الترتيب، اتبعهم بهم مقدماً المرسل إليه ليفيد تخصيص رسالته بهم وهم بعض أهل الأرض فقال: ﴿وإلى عاد﴾ خاصة أرسلنا ﴿أخاهم﴾ أي في النسب لأنهم عنه أفهم وبحاله في الثقة والأمانة أعرف؛ ولما عطفه على نوح عليهما السلام بعد تقديم المرسل إليهم، بينه بقوله: ﴿هوداً﴾ بخلاف قوم نوح فإنهم كانوا جميع أهل الأرض، لأن القبائل لم تكن فرقت الناس ولا الألسنة إذ كان لسان الكل واحداً، ولم تفرق الألسنة إلا بعد الصرح، ولهذا عم الغرق جميع أهل الأرض، فكان المعنى حينئذ لا يختلف في قصته بتقديم ولا تأخير، فناسب تقديم الرسالة أو المرسل لأنه أهم.
ولما وكانت قصة نوح عليه السلام أول قصص الأنبياء مع قومهم، ولم يكن للعرب عهد بمجاورات الأنبياء ومن يرسلون إليه، فأتى فيها
433
بالأصل «أرسلناه» فقال سياقاً واحداً إخباراً لمن هو فارغ الذهن من كل جزء من أجزائها؛ أتت قصة هود عليه السلام بعد علم السامعين بقصة نوح عليه السلام مما وقع من تبليغه لهم وردهم عليه، فلما ذكر إرساله تشوف السامع إلى انه هل قال لهم كما قال نوح وهل ردوا عليه كرد قومه أو كان الأمر بخلاف ذلك؟ فأجيب سؤال المتشوف بقوله: ﴿قال﴾ كقوله نوح عليه السلام سواء ﴿يا قوم﴾ مذكراً لهم بأنه أحدهم يهمه ما يهمهم ﴿اعبدوا الله﴾ أي لا ستحقاقه ذلك لذاته؛ ثم علل أو استأنف بقوله: ﴿ما لكم﴾ وأغرق في النفي فقال: ﴿من إله غيره﴾ ولما كانوا عارفين بما أصاب قوم نوح قال: ﴿أفلا تتقون*﴾ أي أفلا تجعلون بينكم وبين عذاب هذا الواحد الجبار وقاية.
ولما تشوف السامع إلى جوابهم بعد هذا الترغيب الممزوج بالترهيب، أجيب بقوله ﴿قال الملأ﴾ أي الأشراف الذين يملؤون العيون بهجة والصدور هيبة، ولما كانت عاد قليلاً بالنسبة إلى قوم نوح عليه السلام، وكان قد أسلم من أشرافهم من له غنى في الجملة، قيد بقوله: ﴿الذين كفروا﴾ أي ستروا ما من حقه الظهور من أدلة الوحدانية، ووصفوا تسلية لهذا النبي الكريم فيما يرى من جفاء قومه بأن مثل ذلك كان لإخوانه من الأنبياء بقوله ﴿من قومه﴾ وأكدوا ما واجهوه به من الجفاء لأنهم عالمون بأن حاله في علمه وحكمه يكذبهم بقولهم: ﴿إنا لنراك﴾ أي لنعلمك علماً متيقناً
434
حتى كأنه محسوس ﴿في سفاهة﴾ أي مظروفاً لخفة العقل، فهي محيطة بك من جميع الجوانب، لا خلاص لك منها، فلذا أدتك إلى قول لا حقيقة له، فالتنوين للتعظيم، فإن قيل: بل للتحقير، كأنهم توقفوا في وصفه بذلك كما توقفوا في الجزم بالكذب فقالوا: ﴿وإنا لنظنك من الكاذبين*﴾ أي المتعمدين للكذب، وذلك لأنه كان عندهم علم من الرسل وما يأتي مخالفهم من العذاب من قصة نوح عليه السلام ولم يكن العهد بعيداً، وأما قوم نوح فجزموا بالضلال وأكدوه بكونه مبيناً، لأنه لم يكن عندهم شعور بأحوال الرسل وعذاب الأمم قبل ذلك، ولهذا قالوا
﴿ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين﴾ [المؤمنون: ٢٤]، قيل: ليس كذلك، فقد ورد في جواب قوم نوح في سورة هود مثل هذا، وهو قوله ﴿بل نظنكم كاذبين﴾ [هود: ٢٧] ؛ فإن قيل: إنما كان هذا في ثاني الحال بعد أن نصب لهم الأدلة وأقام البراهين على صحة مدعاه وثارت حظوظ الأنفس بالجدال، فإنه يبعد أن يكون قومه أجابوه بذلك أول ما دعاهم، قيل: والأمر كذلك في قصة هود عليه السلام سواء فإنه لم يقل له ذلك إلا الكفار من قومه، فتقييدهم بالوصف يدل على أنه كان فيهم من اتبعه، بل وإن متبعه كان من أشرافهم هم بالظن، وتعبير في الكذب لإرادتهم أنه يكفي في
435
وصفه بالسفاهة التي زعموها إقدامه على ما يحتمل معه ظنهم لكذبه، أو يكون قوله غير الحق في زعمهم مردداً بين أن يكون قاله عن تعمد أو حمله عليه ما رموه به من السفه من غير تأمل. ولما قابلوا لينته لهم وشفقته عليهم بهذه الغلطة، أعرض عن ذلك وعاملهم من الحلم بضده ما سموه به بأن ﴿قال﴾ معلماً الأدب في مخاطبة السفهاء ﴿يا قوم﴾ مذكراً بما بينهم من النسب الداعي إلى الود والمناصحة والعطف والملاطفة ﴿ليس بي سفاهة﴾ فنفى أن يكون به شيء من خفة حلم، فانتقى أن يكون كاذباً لأن الداعي إلى الكذب الخفة والطيش فلم يحتج إلى تخصيصه بنفي.
ولما نفى السفاهة، أثبت ما يلزم منه ضدها بقوله: ﴿ولكني رسول﴾ وبين المرسل تعظيماً للأمر بقوله ﴿من رب العالمين*﴾ أي المحسن إليهم بعد نعمة الإيجاد والأرزاق بإرسال الرسل إليهم ليكسبوهم معالي الأخلاق التي بها انتظام نعمة الإبقاء ﴿أبلغكم﴾ وجمع الرسالة لما تقدم في قصة نوح عليه السلام فقال: ﴿رسالات ربي﴾ أي المحسن إليّ بتعليمي ما لم أكن أعلم وتأهيلي لما لم يكن في حسابي.
ولما كانوا قد رموه بالسفه الذي هو من غرائز النفس لأنه ضد الحلم والرزانة، عبر عن مضمون الجملة النافية له بما يقتضي الثبات فقال: ﴿وأنا لكم ناصح﴾ أي لم يزل النصح من صفتي، وليس هو تكسبته بل غريزة فيّ، وقد بلوتموني فيه قبل الرسالة وإظهار هذه المقالة
436
دهراً دهيراً وزماناً طويلاً؛ ولما قالوا إنهم يظنون كذبه، زادهم صفة الأمانة فقال: ﴿أمين*﴾.
437
ولما كان يعرف ما يعتقدونه من أمانته وعقله، وظن أنه ما حملهم على هذا إلا العجب من أن يطلع على ما لم يطلعوا عليه، أنكر عليهم ذلك ذاكراً لما ظنه حاملاً لهم ملوحاً بالعطف إلى التكذيب فقال: ﴿أو عجبتم﴾ أي أكذبتم وعجبتم ﴿أن جاءكم ذكر﴾ أي شرف وتذكير ﴿من ربكم﴾ أي الذي لم يقطع إحسانه عنكم قط، منزلاً ﴿على رجل منكم﴾ أي عزه عزكم وشرفه شرفكم فما فاتكم شيء ﴿لينذركم﴾ أي يحذركم ما لمن كان على ما أنتم عليه من وخامة العاقبة.
ولما كان التقدير: فاحذروا، عطف عليه تذكيرهم بالنعمة مشيراً به إلى التحذير من عظيم النقمة في قوله: ﴿واذكروا إذ﴾ أي حين ﴿جعلكم خلفاء﴾ أي فيما أنتم فيه من الأرض، ولما كان زمنهم متراخياً بعدهم، أتى بالجار فقال: ﴿من بعد قوم نوح﴾ أو يكون المحذوف ما اقتضاه الاستفهام في قوله ﴿أو عجبتم﴾ من طلب الجواب، أي أجيبوا واذكروا، أي ولا تبادروا بالجواب حتى تذكروا ما أنعم به عليكم، وفيه الإشارة إلى التحذير مما وقع لقوم نوح، أو يكون العطف على معنى الاستفهام الإنكاري في ﴿أفلا تتقون﴾، ﴿أو عجبتم﴾ أي اتقوا ولا تعجبوا واذكروا، أو يكون العطف - وهو أحسن على ﴿اعبدوا الله﴾ وقوله ﴿خلفاء﴾
437
قيل: إنه يقتضي أن يكونوا قاموا مقامهم، ومن المعلوم أن قوم نوح كانوا ملء الأرض، وأن عاداً إنما كانوا في قطعة منها يسيرة وهي الشجرة من ناحية اليمن، فقيل: إن ذلك لكون شداد بن عاد ملك جميع الأرض، فكأنه قيل: جعل جدكم خليفة في جميع الأرض، فلو حصل الشكر لتمت النعمة، فأطيعوا يزدكم من فضله، وقيل: إن قصة ثمود مثل ذلك، ولم يكن فيهم من ملك الأرض ولا أرض عاد، فأجيب بما طرد، وهو أن عاداً لما كانوا أقوى أهل الأرض أبداناً وأعظمهم أجساداً وأشدهم خلقاً أشهرهم قبيلة وذكراً، كان سائر الناس لهم تبعاً، وكذا ثمود فيما فيما أعطوه من القدرة على نحت الجبال ونحوها بيوتاً، وعندي أن السؤال من أصله لا يريد فإن بين قولنا: فلان خليفة فلان، وفلان خليفة من بعد فلان - من الفرق ما لا يخفي، فالمخلوف في الثاني لم يذكر، فكأنه قيل: جعلكم خلفاء لمن كان قبلكم في هذه الأرض التي أنتم بها، وخص قوم نوح وعاد بالذكر تذكيراً بما حل بهم من العذاب، ولهذا بعينه خص الله هذه الأمم التي وردت في القرآن بالذكر، وإلا فقد كانت الأمم كثيرة العد زائدة على الحد عظيمة الانتشار في جميع الأقطار، ومعلوم
438
أن الله تعالى لم يترك واحدة منها بغير رسول ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً﴾
[الإسراء: ١٥] وفي قصة هود في سورة الأحقاف ﴿وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه﴾ [الأحقاف: ٢١] ؛ وله سر آخر وهو أن هذه الأمم كان عند العرب كثير من أخبارهم ففصلت لهم أحوالهم، وطوي عنهم من لم يكن عندهم شعور بهم فلم يذكروا إلا إجمالاً لئلا يسارعوا إلى التكذيب بما ينزل فيهم من غير دليل شهودي يقام عليهم.
ولما ذكرهم بمطلق الإبقاء بعد ذلك الإغراق العام، أتبعه التذكير بالزيادة فقال: ﴿وزادكم﴾ أي على من قبلكم أو على من هو موجود في الأرض في زمانكم ﴿في الخلق﴾ أي الخاص بكم ﴿بسطة﴾ أي في الحس بطول الأبدان والمعنى بقوة الأركان، قيل: كان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعاً، وقيل: أكثر.
ولما عظمت النعمة، كرر عليهم التذكير فقال مسبباً عن ذلك ﴿فاذكروا آلاء الله﴾ أي نعم الذي استجمع صفات العظمة التي أنعم عليكم بها من الاستخلاف والقوة وغيرهما، واذكروا أنه لا نعمة عندكم لغيره أصلاً، فصار مستحقاً لأن تخصوه بالعبادة ﴿لعلكم تفلحون*﴾ أي ليكون حالكم حال من يرجي فلاحه وهو ظفره بجميع مراده، لأن الذكر موجب للشكر الموجب للزيادة.
439
ولما كان هذا منه موجباً ولا بد لكل سامع منصف من المبادرة إلى الإذعان لهذه الحجة القطعية، وهي استحقاقه للافراد بالعبادة للتفرد بالإنعام، ازداد تشوف المخاطب إلى جوابهم، فأجيب بقوله: ﴿قالوا﴾ منكرين عليه معتمدين على محض التقليد ﴿أجئتنا﴾ أي من عند من ادعيت أنك رسوله ﴿لنعبد الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿وحده﴾ ولما كان هذا منهم في غاية العجب المستحق للإنكار، أتبعوه ماهو كالعلة لإنكارهم عليه ما دعاهم إليه فقالوا: ﴿ونذر﴾ أي نترك على غير صفة حسنة ﴿ما كان يعبد آباؤنا﴾ أي مواظبين على عبادته بما دلوا عليه ب «كان» وصيغة المضارع - مع الإشارة بها إلى تصوير آبائهم في حالهم ذلك - ليحسن في زعمهم إنكار مخالفتهم لهم.
ولما كان معنى هذا الإنكار أنا لا نعطيك، وكان قد لوح لهم بالتذكر بقوم نوح وقوله ﴿أفلا تتقون﴾ إلى الأخذ إن أصروا، سببوا عن ذلك قولهم: ﴿فأتنا﴾ أي عاجلاً ﴿بما تعدنا﴾ أي من العذاب بما لوح إليه إيماؤهم إلى التكذيب بقولهم: ﴿إن كنت من الصادقين*﴾ وتسميتهم للانذار بالعذاب وعداً من باب الاستهزاء.
ولما كانوا قد بالغوا في السفه في هذا القول، وكان قد علم من محاورته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم الحلم عنهم، اشتد التطلع إلى ما يكون من جوابه لهذا والتوقع له، فشفى غليل هذا التشوف بقوله:
440
﴿قال قد وقع﴾ أي حق ووجب وقرب أن يقع ﴿عليكم من ربكم﴾ أي الذي غربكم به تواتر إحسانه عليكم وطول إملائه لكم ﴿رجس﴾ أي عذاب شديد الاضطراب في تتبع أقصاكم وأدناكم موجب لشدة اضطرابكم ﴿وغضب﴾ أي شدة في ذلك العذاب لا تفلتون منها.
ولما أخبرهم بذلك، بين لهم أن سببه كلامهم هذا في سياق الإنكار فقال: ﴿أتجادلونني﴾ ولما كانت آلهتهم تلك التي يجادلون فيها لا تزيد على السماء لكونها خالية من كل معنى، قال: ﴿في أسماء﴾ ثم بين أنه لم يسمها آلهة من يعبد به فقال: ﴿سميتموها انتم وآباؤكم﴾ ولما كان لله تعالى أن يفعل ما يشاء وأن يأمر بالخضوع لمن يشاء، قال نافياً التنزيل فإنه يلزم من نفي الإنزال: ﴿ما نزل الله﴾ أي الذي ليس الأمر إلا له ﴿بها﴾ أي بتعبدكم لها أو بتسميتكم إياها، وأغرق في النفي فقال: ﴿من سلطان﴾ ولعله أتى بصيغة التنزيل لأن التفعيل يأتي بمعنى الفعل المجدد وبمعنى الفعل بالتدريج فقصد - لأنه في سياق المجادلة وفي سورة مقصودها إنذار من أعرض عما دعا إليه هذا الكتاب النازل بالتدريج - النفي بكل اعتبار، سواء كان تجديداً أو تدريجاً وإشارة إلى أنه لو نزل عليهم في الأمر بعبادتها شيء واحد لتوقفوا فيه لعدم فهمهم لمعناه حتى يكرر عليهم الأمر فيه مرة بعد أخرى، فيعلموا أن ذلك أمر حتم لا بد منه كما فعله بنو إسرائيل في الأمر بذبح البقرة لأجل القتيل لأجل أنهم لم يعقلوا
441
معناه، دل ذلك قطعاً على أن الأمر لهم بعبادتها إنما هو ظلام الهوى لأنه عمى محض من شأن الإنسان ركوبه بلا دليل أصلاً.
ولما أخبرهم بوقوع العذاب وسببه، بين لهم أن الوقوع ليس على ظاهرة في الإنجاز، وإنما معناه الوجوب الذي لا بد من فقال: ﴿فانتظروا﴾ ثم استأنف الإخبار عن حاله بقوله: ﴿إني﴾ وأشار بقوله: ﴿معكم﴾ إلى أنه لا يفارقهم لخشيته منهم ولا غيرها ﴿من المنتظرين*﴾.
442
ولما كان هذا ينبغي أن يكون سبباً للتصديق الذي هو سبب الرحمة، بين أنه إنما سبب لهم العذاب، وله ولمن تبعه النجاة، فبدأ بالمؤمنين اهتماماً بشأنهم بقوله: ﴿فأنجيناه﴾ أي بما لنا من العظمة إنجاء وحيّاً سريعاً سللناهم به من ذلك العذاب كسل الشعرة من العجين ﴿والذين معه﴾ أي في الطاعة، وأشار إلى أنه لا يجب على الله شيء بقوله: ﴿برحمة﴾ أي بإكرام وحياطة ﴿منا﴾ أي لا بعمل ولا غيره.
ولما قدم الإنجاء اهتماماً به، أتبعه حالهم فقال معلماً بأن أخذه على غير أخذ الملوك الذين يعجزون عن الاستقصاء في الطلب، فتفوتهم أواخر العساكر وشذاب الجنود والأتباع ﴿وقطعنا﴾ دابرهم أي آخرهم، هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تصريحاً بالمقصود وبياناً لعلة أخذهم فقال: ﴿دابر﴾ أي آخر، أي استأصلنا وجعلنا ذلك الاستئصال معجزة لهود عليه السلام ﴿الذين كذبوا بآياتنا﴾ أي ولم يراقبوا عظمتها بالنسبة
442
إلينا وقوله: ﴿وما كانوا﴾ أي خلقاً وجبلة ﴿مؤمنين*﴾ عطف على صلة ﴿الذين﴾ وهي ﴿كذبوا بآياتنا﴾ وهي جارية مجرى التعليل لأخذهم مؤذنة بأنه لا يحصل منهم صلاح كما ختم قصة نوح بقول ﴿إنهم كانوا قوماً عمين﴾ [الأعراف: ٦٤] تعليلاً لإغراقهم، أي أنا قطعنا دابرهم وهم مستحقون لذلك، لأنهم غير قابلين للايمان لما فيهم من شدة العناد ولزوم الإلحاد، فالمعنى: وما كان الإيمان من صفتهم، أي ما آمنوا في الماضي ولا يؤمنون في الآتي، فيخرج منه من آمن وكان قد كذب قبل إيمانه ومن لم يؤمن في حال دعائه لهم وفي علم الله أنه سيؤمن، ويزيده حسناً أنهم لما افتتحوا كلامهم بأن نسبوه إلى السفاهة كاذبين؛ ناسب ختم القصة بأن يقلب الأمر عليهم فيوصفوا بمثل ذلك صدقاً بكلام يبين أن اتصافهم به هو الموجب لما فعل بهم، لأن الإيمان لا يصدر إلا عن كمال الثبات والرزانة وترك الهوى وقمع رعونات النفس والانقياد لواضح الأدلة وظاهر البراهين، فمن تركه مع ذلك فهو في غاية الطيش والخفة وعدم العقل، وأيضاً فوصفهم بالتكذيب بالفعل الماضي لا يفهم دوامهم على تكذيبهم، فقال سبحانه ذلك لنفي احتمال أنهم آمنوا بعد التكذيب وأن أخذهم إنما كان لمطلق صدور التكذيب منهم، وأنهم لم يبادروا إلى الإيمان قبل التكذيب، ويحتمل أن تكون الجملة حالاً، والمعنى على كل تقدير: قطعنا دابرهم في حال تكذيبهم وعدم إيمانهم.
ولما أتم سبحانه ما أراد من قصة عاد، أتبعهم ثمود فقال
443
﴿وإلى ثمود﴾ أي خاصة، منع من الصرف لأن المراد به القبيلة، وهو مشتق من الثمد وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، أرسلنا ﴿أخاهم صالحاً﴾ ثم استأنف الإخبار عن قوله - كما مضى في هود عليه السلام فقال: ﴿قال يا قوم﴾ مستعطفاً لهم بالتذكير بالقرابة وعاطف النسابة ﴿اعبدوا الله﴾ أي الذي لا كمال إلا له ﴿ما لكم﴾ وأكد النفي بقوله: ﴿من إله غيره﴾.
ولما دل على صدقه في ذلك أنهم دعوا أوثانهم فلم تجبهم، ودعا هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه سبحانه فأخرج لهم الناقة، علل صحة ما دعا إليه بقوله: ﴿قد جاءتكم بينة﴾ أي آية ظاهرة جداً على صدقي في ادعاء رسالتي وصحة ما أمرتكم به، وزادهم رغبة بقوله: ﴿من ربكم﴾ أي الذي لم يزل محسناً إليكم؛ ثم استأنف بيانها بقوله: ﴿هذه﴾ مشيراً إليها بعد تكوينها تحقيقاً لها وتعظيماً لشأنها وشأنه في عظيم خلقها وسرعة تكوينها لأجله.
ولما أشار إليها، سماها فقال: ﴿ناقة الله﴾ شرفها بالإضافة إلى الاسم الأعظم، ودل على تخصيصها بهم بقوله: ﴿لكم﴾ حال كونها ﴿آية﴾ أي لمن شاهدها ولمن سمع بها وصح عنده أمرها؛ ثم سبب عن ذلك قوله: ﴿فذروها﴾ أي اتركوها ولو على أدنى وجوه الترك ﴿تأكل﴾ أي من النبات و ﴿في أرض الله﴾ أي مما أنبت الله الذي له كل شيء
444
وهي ناقته كما أن الأرض كلها مطلقاً أرضه والنبات رزقه، ولذلك أظهر لئلا يختص أكلها بأرض دون أخرى.
ولما أمرهم بتركها لذلك، أكد المر بنهيهم عن أذاها فقال: ﴿ولا تمسوها بسوء﴾ فضلاً عما بعد المس ﴿فيأخذكم﴾ أي أخذ قهر بسبب ذلك المس وعقبه ﴿عذاب أليم*﴾ أي مؤلم.
ولما أمرهم ونهاهم، ذكر لهم ترغيباً مشيراً إلى ترهيب فقال: ﴿واذكروا﴾ أي نعمة الله عليكم ﴿إذ جعلكم خلفاء﴾ أي فيما أنتم فيه ﴿من بعد عاد﴾ أي إهلاكهم ﴿وبوأكم في الأرض﴾ أي جعل لكم في جنسها مساكن تبوءون أي ترجعون إليها وقت راحتكم، سهل عليكم من عملها في أي أرض أردتم ما لم يسهله على غيركم، ولهذا فسر المراد بقوله: ﴿تتخذون﴾ أي بما لكم من الصنائع ﴿من سهولها قصوراً﴾ أي أبنية بالطين واللبن والآجر واسعة عالية حسنة يقصر أمل الآمل ونظر الناظر عليها مما فيها من المرافق والمحاسن ﴿وتنحتون الجبال﴾ أي أيّ جبل أرتم تقدرونها ﴿بيوتاً﴾.
ولما ذكرهم بهذه النعم مرغباً مرهباً، كرر ذلك إشارة وعبارة فقال مسبباً عما ذكرهم به: ﴿فاذكروا﴾ أي ذكر إذعان ورغبة ورهبة ﴿آلاء﴾ أي نعم ﴿الله﴾ أي الذي له صفات الكمال فلا حاجة
445
به إلى أحد، فإحسانه هو الإحسان في الحقيقة ﴿ولا تعثوا في الأرض﴾ من العثي وهو الفساد، وهو مقلوب عن العيث - قاله ابن القطاع، وحينئذ يكون قوله: ﴿مفسدين*﴾ بمعنى معتمدين للفساد.
446
ولما حصل الالتفات إلى جوابهم، قيل: ﴿قال الملأ﴾ أي الأشراف، وبينه بقول: ﴿الذين استكبروا﴾ أي أوقعوا الكبر واتصفوا به فصار لهم خلقاً فلم يؤمنوا؛ ونبه على التأسية بقوله: ﴿من قومه﴾ ولما قال: ﴿للذين استضعفوا﴾ كان ربما فهم أنهم آمنوا كلهم، فنفى ذلك بقوله مبدلاً منه: ﴿لمن آمن منهم﴾ أي المستضعفين، فهو أوقع في النفس وأروع للجنان من البيان في أول وهلة مع الإشارة إلى أن أتباع الحق هم الضعفاء، وأنه لم يؤمن إلا بعضهم، ففيه إيماء إلى أن الضعف أجلّ النعم لملازمته لطرح النفس المؤدي إلى الإذعان للحق، وبناؤه للمفعول دليل على أنهم في غاية الضعف بحيث يستضعفهم كل أحد ﴿أتعلمون﴾ أي بدؤوهم بالإنكار صداً لهم عن الإيمان ﴿أن صالحاً﴾ سموه باسمه جفاء وغلطة وإرهاباً للمسؤولين ليجيبوهم بما يرضيهم ﴿مرسل من ربه﴾ وكأنهم قالوه ليعلموا حالهم فيبنوا عليه ما يفعلونه، لأن المستكبيرين لا يتم لهم كبرهم إلا بطاعة المستضعفين.
ولما عملوا ذلك منهم، أعملوهم بالمنابذة اعتماداً على الكبير المتعال
446
الذي يضمحل كل كبر عنده ولا يعد لأحد أمر مع أمره بأن ﴿قالوا﴾ منبهين لهم على غلظتهم وغلطهم في توسمهم في حالهم معبرين بما دل على العلم بذلك والإذعان له ﴿إنا بما أرسل به﴾ وبني للمفعول إشارة إلى تعميم التصديق وإلى أن كونه من عند الله أمر مقطوع به لا يحتاج إلى تعيين ﴿مؤمنون*﴾ أي غريقون في الإيمان به، ولذلك ﴿قال الذين استكبروا﴾ أي في جوابهم معبرين بما يدل على المخالفة لهم والمعاندة ﴿إنا بالذي﴾ ووضعوا موضع «أرسل به» - رداً لما جعلوه معلوماً وأخذوه مسلماً ﴿آمنتم به﴾ أي كائناً ما كان ﴿كافرون*﴾ ثم سبب عن قولهم قوله ﴿فعقروا الناقة﴾ أي التي جعلها الله لهم آية، وعبر بالعقر دون النحر لشموله كل سبب لقتلها لأن ابن إسحاق ذكر أنه اجتمع لها ناس منهم فرماها أحدهم بسهم وضرب آخر قوائمها بالسيف ونحرها آخر فأطلق اسم السبب على المسبب، ولكن قوله تعالى: ﴿فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر﴾ [القمر: ٢٩] وقوله ﴿إذا انبعث أشقاها﴾ [الشمس: ٩١] وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه» قالوا: هو قدار بن سالف، جعلت له امرأة من قومه ابنتها إن عقرها، ففعل فكان أشقى الأولين، وأشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه،
447
جعلت له قطام امرأة من بني عجل جميلة نفسها إن قتله، فالمناسبة بينهما أن كلاًّ منهما ألقى نفسه في المعصية العظمى لأجل شهوة فرجه في زواج امرأة، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أشقى الأولين عاقر الناقة»
يدل على أن عاقرها رجل واحد، وحينئذ يكون المراد به قطع القوائم، فحيث جمع أراد الحقيقة والمجاز معاً، وحيث أفراد أراد الحقيقة فقط، فالتعبير به لأنه الأصل والسبب الأعظم في ذبح الإبل؛ قال البغوي: قال الأزهري: العقر هو قطع عرقوب البعير، ثم جعل النحر عقراً لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره - انتهى. وكأن هذا إشارة إلى أن المراد بالعقر في كلامه النحر، ولا ريب في أن أصل العقر في اللغة القطع، ومادته تدور على ذلك، عقر النخلة. إذا قطع رأسها فيبست، والفرس: ضرب قوائمها بالسيف وأكثر ما يستعمل العقر في الفساد، وأما النحر فيستعمل غالباً في الانتفاع بالمنحور لحماً وجلداً وغيرهما، فلعل التعبير به دون النحر إشارة إلى أنهم لم يقصدوا بنحرها إلا إهلاكها عتواً على الله وعناداً وفعلاً للسوء مخالفة لنهي صالح عليه السلام، ولا يشكل ذلك بما ورد من أنهم اقتسموا لحمها، لأنه لم يدع أن العقر يلزمه عدم الانتفاع بالمنحور، وعلى التنزل فهم لم يريدوا بذلك الانتفاع باللحم، وإنما قصدوا- حيث لم يمكنهم المشاركة جميعاً في العقر - ان يشتركوا
448
فيما نشأ عنه تعريضاً برضاهم به ومشاركتهم فيه بما يمكنهم ﴿وعتوا﴾ أي تجاوزوا الحد في الغلطة والتكبر ﴿عن أمر﴾ أي امتثال أمر ﴿ربهم﴾ أي المحسن إليهم الذي أتاهم على لسان رسوله من تركها ﴿وقالوا﴾ زيادة في العتو ﴿يا صالح ائتنا﴾.
ولما نزلوا وعيدهم له - حيث لم يؤمنوا به - منزلة الوعد والبشارة، قالوا: ﴿بما تعدنا﴾ استخفافاً منهم ومبالغة في التكذيب، كأنهم يقولون: نحن على القطع بأنك لا تقدر أن تأتينا بشيء من ذلك، وإن كنت صادقاً فافعل ولا تؤخره رفقاً بنا وشفقة علينا، فإنا لا نتأذى بذلك، بل نتلذذ من يلقى الوعد الحسن، وحاصله التهكم منهم به والإشارة إلى عدم قدرته؛ وأكدوا ذلك بقولهم بأداة الشك: ﴿إن كنت من المرسلين*﴾ أي الذين سمعنا أخبارهم فيما مضى؛ ثم سبب عن عتوهم قوله: ﴿فأخذتهم الرجفة﴾ أي التي كانت عنها أو منها الصيحة، أخذ من هو في القبضة على غاية من الصغار والحقارة، ولعل توحيد الدار هنا مع الرجفة في قصة صالح وشعيب عليهما السلام في قوله تعالى: ﴿فأصبحوا في دارهم﴾ أي مساكنهم، وجمعها في القصتين مع الصيحة، في سورة هود عليه السلام للإشارة إلى عظم الزلزلة والصيحة في الموضعين، وذلك لأن الزلزلة إذا كانت في شيء واحد كانت أمكن، فتكون في المقصود من النكال أعظم، والصيحة من شأنها الانتشار، فإذا عمت الأماكن المتنائية والديار المتباعدة فأهلكت أهلها ومزقت
449
جماعتها وفرقت شملها، كانت من القوة المفرطة والشدة البالغة بحيث تنزعج من تأمل وصفها النفوس وتجب له القلوب، وحاصله أنه حيث عبر بالرجفة وحد الدار إشارة إلى شدة العذاب بعظم الاضطراب، وحيث عبر بالصيحة جمع إيماء إلى عموم الموت بشدة الصوت، ولا مخالفة لأن عذابهم كان بكل منها، ولعل إحداهما كانت سبباً للأخرى، ولعل المراد بالرجفة اضطراب القلوب اضطراباً قطعهاً، أو أن الدار رجفت فرجفت القلوب وهو أقرب، وخصت الأعراف بما ذكر فيها، لأن مقصودها إنذار المعرضين، والرجفة أعظم قرعاً لعدم الإلف لها - والله اعلم ﴿جاثمين*﴾ أي باركين على ركبهم لازمين أماكنهم لا حراك بأحد منهم، ولم يبق منهم في تلك الساعة أحد إلا رجل واحد كان في الحرم، فلما خرج منه أصابه ما أصاب قومه وهو أبو رغال، ومسافة الحرم عن أرضهم تزيد على مسيرة عشرة أيام، ومن الآيات العظيمة أن ذلك الذي خلع قلوبهم وأزال أرواحهم لم يؤثر في صالح عليه السلام والمستضعفين معه شيئاً، وذلك مثل الريح التي زلزلت الأحزاب، وأنالتهم أشد العذاب، ورمتهم بالحجارة والتراب حتى هزمتهم وما نال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه منها كبير أذى، وكفها الله عن
450
حذيفة، وكذا البرد الذي كان ذلك زمانه لما أرسله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليتعرف له أخبارهم.
ولما أصابهم ذلك، سبب لهم الهجرة عن ديارهم ديار السوء والغضب واللعنة فقال تعالى إعلاماً لنا بذلك: ﴿فتولى﴾ أي كلف نفسه الإعراض ﴿عنهم وقال﴾ أي لما أدركه من أحوال البشر من الرقة على فوات إيمانهم وهم أصله وعشيرته ﴿يا قوم﴾ أي الذين يعز عليّ ما يؤذيهم ﴿لقد أبلغتكم﴾ ولعله وحد قوله: ﴿رسالة ربي﴾ لكون آيته واحدة ﴿ونصحت﴾ وقصر الفعل وعداه باللام فقال: ﴿لكم﴾ دلالة على أنه خاص بهم، روي أنه خرج عنهم في مائة وعشرة من المسلمين وهويبكي، وكان قومه ألفاً وخمسمائه دار، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم.
ولما كان التقدير: ففعلت معكم ما هو مقتض لأن تحبوني لأجله، عطف عليه قوله: ﴿ولكن﴾ لم تحبوني، هكذا كان الأصل ولكنه عبر بما يفهم أن هذا كان دأبهم وخلقاً لهم مع كل ناصح فقال: ﴿لا تحبون﴾ أي حاكياً لحالهم الماضية ﴿الناصحين﴾ أي كل من فعل فعلي من النصح التام.
451
ولما أتم سبحانه ما وفى بمقصد هذه السورة في هذا السياق من قصتهم، أتبعه من بعده ممن تعرفه العرب كما فعل فيما قبل فقال:
451
﴿ولوطاً إذ قال﴾ ولما كانت رسالته إلى مدن شتى، وكأنهم كانوا قبائل شتى، قيل: كانوا خمسة وهي المؤتفكات، وقيل: كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة الشريفة، قال: ﴿لقومه﴾ وقد جوزوا أن يكون العامل فيه ﴿أرسلنا﴾ و ﴿اذكر﴾ ولا يلزم من تقدير ﴿أرسلنا﴾ أن يكون إرساله في وقت تفوهه لهم بهذا القول غير سابق عليه، لأنه كما أن ذلك الزمن - المنطبق على أول قوله وآخره - وقت له فكذلك اليوم - الذي وقع فيه هذا القول - وقت له، بل وذلك الشهر وتلك السنة وذلك القرن، فإن من شأن العرب تسمية الأيام المشتركة في الفعل الواحد يوماً، قالوا: يوم القادسية، وهو أربعة أيام إن اعتبرنا مدة القتال فقط، وعدة شهور إن اعتبرنا بالاجتماع له، وكذا يوم صفين، وقال تعالى في قصة بدر ﴿وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم﴾ إلى أن قال: ﴿إذ تستغيثون ربكم﴾ إلى أن قال: ﴿إذ يغشيكم النعاس أمنة منه﴾ ﴿إذ يوحي ربك إلى الملائكة﴾ [الأنفال: ٧] وكلها إبدال من قوله: ﴿وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين﴾ ولا ريب في أن زمان الكل يكن متحداً إلا بتأويل جميع الأيام المتعلقة بالوقعة من سير وقتال وغير ذلك - والله أعلم، وعبر في قصة نوح عليه السلام ب ﴿أرسلنا نوحاً إلى قومه﴾ [الأعراف: ٥٩] ثم نسق من بعده عليه فقيل: ﴿وإلى عاد أخاهم هوداً﴾ [الأعراف: ٦٥] ﴿وإلى ثمود أخاهم صالحاً﴾ [الأعراف: ٧٣] ﴿وإلى مدين أخاهم شعيباً﴾ [الأعراف: ٨٥] وعدل عن هذا الأسلوب في قصة لوط فلم يقل:
452
وإلى أهل أدوماً أخاهم لوطاً، أو إلى أهل سدوم لوطاً أو وأرسلنا لوطاً إلى قومه ونحو ذلك كما سيأتي في قصة موسىعليه السلام، لأن من أعظم المقاصد بسياق هذه القصص تسلية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في مخالفة قومه لهوعدم استجابتهم وشدة أذاهم وإنذار قومه أن يحل بهم ما حل بهذه الأمم من العذاب، وقصص من عدا قوم لوط مشابهة لقصة قريش في الشرك بالله والأذى لعباده المؤمنين، وأما قصة قوم لوط فزائدة عن ذلك بأمر فظيع عظيم الشناعة شديد العار والفحش فعدل عن ذلك النسق تنبيهاً عليه تهويلاً للامر وتبشيعاً له، ليكون في التسلية أشد، وفي استدعاء الحمد والشكر أتم، وحينئذ يترجح أن يكون العامل ﴿اذكر﴾ لا ﴿أرسلنا﴾ أي واذكر لوطاً وما حصل عليه من قومه زيادة على شركهم من رؤيته فيهم هذا الأمر الذي لم يبق للشناعة موضعاً، فالقصة في الحقيقة تسلية وتذكير بنعمة معافاة العرب من مثل هذا الحال وإنذار لهم سوء المآل مع ما شاركت فيه أخواتها من الدلالة على سوء جبلة هؤلاء القوم وشرارة جوهرهم المقتضي لتفردهم عن أهل الأرض بذلك الأمر الفاحش، والدليل على أنه أشنع الشنع بعد الشرك - مع ما جعل الله تعالى في كل طبع سليم من النفرة عنه - اختصاصه بمشاركته للشرك في أنه لم يحل في ملة من الملل في وقت من الأوقات ولا مع
453
وصف من الأوصاف، وبقية المحرمات ليست كذلك، فأما قتل النفوس فقد حل في القصاص والجهاد وغير ذلك، والوطء في القبل لم يحرم إلا بقيد كونه زنى، ولولا الوصف لحل، وأكل المال الأصل فيه الحل، وما حرم إلا بقيد كونه بالباطل - وكذا غير ذلك؛ قال أبو حيان: ولما كان هذا الفعل معهوداً قبحه ومركوزاً في العقول فحشه، أتى معرفاً - أي في قوله بعد إنكاره عليهم وتقريعه وتوبيخه لهم: ﴿أتأتون الفاحشة﴾ أي أتفعلون السيئة المتمادية في القبح وإن كان بينكم وبينها مسافة بعيدة - أو تكون «أل» فيه للجنس على سبيل المبالغة، كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش ولبعد العرب عن ذلك البعد التام، وذلك بخلاف الزنى فإنه قال فيه
﴿ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة﴾ [الإسراء: ٣٢].
ولما كان غير مستبعد على صفاقة وجوههم ووقاحتهم أن يقولوا: لم تكون فعلتنا منكراً موبخاً عليها؟ قال: ﴿ما سبقكم بها﴾ وأغرق في النفي بقوله: ﴿من أحد﴾ وعظم ذلك بتعميمه في قوله: ﴿من العالمين*﴾ فقد اخترعتم شيئاً لا يكون مثل فحشه لتذكروا به أسوأ ذكر، كما
454
أن ذوي الهمم العوال والفضل والكمال يستنبطون من المحاسن والمنافع ما يبقى لهم ذكره وينفعهم أجره، وفي ذلك أعظم إشارة إلى تقبيح البدع والتشنيع على فاعليها، لأن العقول لا تستقل بمعرفة المحاسن.
ولما أبهم الفاحشة ليحصل التشوف إلى معرفتها، عينها في استفهام آخر كالأول في إنكاره وتوبيخه ليكون أدل على تناهي الزجر عنها فقال: ﴿إنكم لتأتون الرجال﴾ أي تغشونهم غشيان النساء؛ ولما أبقى للتشوف مجالاً، عين بقوله: ﴿شهوة﴾ أي مشتهين، أو لأجل الشهوة، لا حامل لكم على ذلك إلا الشهوة كالبهائم التي لا داعي لها من جهة العقل وصرح بقوله: ﴿من دون النساء﴾ فلما لم يدع لبساً، وكان هذا ربما أوهم إقامة عذر لهم في عدم وجدان النساء أو عدم كفايتهن لهم، أضرب عنه بقوله: ﴿بل أنتم قوم﴾.
ولما كان مقصود هذه السورة الإنذار كان الأليق به الإسراف الذي هو غاية الجهل المذكور في سورة النمل فقال ﴿مسرفون*﴾ أي لم يحملكم على ذلك ضرورة لشهوة تدعونها، بل اعتياد المجاوزة للحدود، ولم يسم قوم لوط في سورة من السور كما سميت عاد وثمود وغيرهم صوناً للكلام عن تسميتهم، وأما قوم نوح فإنما لم يسموا لعدم تفرق القبائل إذ ذاك، فكانوا لذلك جميع أهل الأرض ولذا عمهم الغرق - والله أعلم.
ولما كان كأنه قيل: هذا التقريع يوجب غاية الاستحياء، بل إنه
455
يذهب كل من سمعه منهم إلى مكان لا يعرف فيه ستراً لحاله، فيا ليت شعري ما كان حالهم عنده! فقيل: كان كأنهم أجابوه بوقاحة عظيمة وفجور زائد على الحد، فما كان جوابهم إلا أذى لوط عليه السلام وآله بما استحقوا منهم به شديد الإنذار الذي هو مقصود السورة، عطف عليه قوله: ﴿وما كان جواب قومه﴾ أي الذين هم أهل قوة شديدة وعزم عظيم وقدرة على القيام بما يحاولونه ﴿إلا أن قالوا﴾.
ولما كان المقصود بيان أنهم أسرعوا إجابته بما ينكيه أضمر ما لا يشكل بالإضمار، أو أنه لما كان السياق لبيان الخبيث بين أنه لا أخبث من هؤلاء الذين بلغ من رذالتهم أنهم عدوا الطاهرين المتطهرين مما يصان اللسان عن ذكره فقال تعالى مشيراً إلى ذلك في حكاية قولهم: ﴿أخرجوهم﴾ أي المحدث عنهم، وهم لوط ومن انضم إليه ﴿من قريتكم﴾ والمراد ببيان الإسراع في هذا تسلية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رد قومه لكلامه لئلا يكون في صدره حرج من إنذارهم، ثم عللوا إخراجهم بقولهم: ﴿إنهم أناس﴾ أي ضعفاء ﴿يتطهرون*﴾ وكأنهم قصدوا بالتفعل نسبتهم إلى محبة هذا الفعل القبيح، وأن تركهم له إنما هو تصنع وتكليف لنفوسهم بردها عما هي مائلة إليه، وإقبال على الطهر من غير وجهة وإظهار له رياء بما أشار إليه إظهار تاء
456
التفعيل، وفيه مع ذلك حرف من السخرية، وحصر جوابهم في هذا المعنى المؤدي بهذا اللفظ لا ينافي آية العنكبوت القائلة ﴿فما كان جواب قومه إلا قالوا ائتنا بعذاب الله﴾ [العنكبوت: ٢٩]، لأن إطلاق الجواب على هذا يجوز، والمعنى: فما كان قولهم في جوابه إلا إتيانهم بما لا يصلح جواباً، وذلك مضمون هذا القول وغيره مما لا يتعلق بالجواب، أو أن هذا الجواب لما كان - لما فيه من التكذيب والإيذان بالإصرار والإغلاظ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستلزماً للعذب، كانوا كأنهم نطقوا به فقالوا ﴿ائتنا بعذاب الله﴾، جعل نطقهم بالسبب نطقاً بالمسبب، أو أنهم استعملوا لكل مقام مقالاً، ويؤيده أن المعنى لما اتحد هنا وفي النمل حصر الجواب في هذا، أي فما كان جوابهم لهذا القول إلا هذا؛ ولما زادهم في العنكبوت في التقريع فقال: ﴿أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر﴾ [العنكبوت: ٢٩] أتوه بأبلغ من هذا تكذيباً واستهزاء فقالوا ﴿ائتنا بعذاب الله﴾ - الآية.
ولما تسبب عن عنادهم إهلاكهم وإنجاؤه، وكان الإعلام بإنجائه - مع كونه يفهم إهلاكهم - أهم، قال: ﴿فأنجيناه وأهله﴾ أي من أطاعه ﴿إلا امرأته﴾ ولما كان كأنه قيل: ما لها؟ قال: ﴿كانت من الغابرين*﴾ أي الباقين الذين لحقتهم بالعذاب العبرة والتذكير إشارة إلى أنها أصابها مثل عذاب الرجال سواء، لم تنقص عنهم لأنها كانت كافرة مثلهم.
457
ولما أفهم هذا إهلاكهم، بينه دالاً على نوعه بقوله: ﴿وأمطرنا﴾ أي حجارة الكبريت بعد أن قلعت مدائنهم ورفعت وقلبت حتى رجم بها مسافروهم وشذابهم لأنه عذاب الاستئصال عمن لا يعجزه شيء؛ وأوضحه بقصره الفعل وتعديته بحرف الاستعلاء فقال: ﴿عليهم﴾ وأكد كونه من السماء لا من سطح أو جبل ونحوه بقوله: ﴿مطراً﴾ وأشار إلى عظمه مزيلاً للبس أصلاً بما سبب عنه من قوله: ﴿فانظر كيف كان عاقبة﴾ أي آخر أمر ﴿المجرمين -*﴾ وأظهر موضع الإضمار تعليقاً للحكم بوصف القطع لما حقه الوصل بوصل ما حقه القطع من فاحش المعصية دليلاً على أن الرجم جزاء من فعل هذا الفعل بشرطه، لأن الحكم يدور مع العلة، وسياتي في سورة هود عليه السلام سياق قصتهم من التوراة بعد أن مضى في البقرة عند ﴿إذ قال له ربه أسلم﴾ [البقرة: ١٣١] أوائل أمرهم، وهذا كما سومت الحجارة لقريش - لما أجمعوا أن يرجعوا بعد توجههم عن غزوة أحد من الطريق - ليفزعوا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه على زعمهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «والذي نفسي بيده! لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب» ولكنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان رسول رحمة لم يقض الله برجوعهم فمضوا حتى أسلم بعد ذلك كثير منهم، وكما أمطر الله الحجارة على أصحاب الفيل سنة مولده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حماية لبلده ببركته.
458
ولما انقضت هذه القصة العجيبة في القصص، أعاد النسق الأول فقال ﴿وإلى مدين﴾ أي أرسلنا، وهي بلد، وقيل قبيلة من أولاد مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام ﴿أخاهم﴾ أي من النسب، وبينه بقوله: ﴿شعيباً﴾ وهوموصوف بأنه خطيب الأنبياء عليهم السلام لحسن مراجعة قومه؛ ثم استأنف قوله على ذلك النسق: ﴿قال يا قوم﴾ دالاً على النصيحة والشفقة بالتذكير بالقرابة، وبدأ بالأصل المعتبر في جميع الشرائع المأثورة عن الأنبياء عليهم السلام فقال: ﴿اعبدوا الله﴾ أي الذي يستحق العبادة لذاته بما له من السماء الحسنى والصفات العلى.
ولما كان المراد إفراد بالعبادة لأنه لا يقبل الشرك لأنه غني، علل ذلك بقوله: ﴿ما لكم﴾ وأغرق في النفي بقوله: ﴿من إله غيره﴾ ثم استأنف التذكير بما دل على صحة دعواه في نفسها وصدقه في دعوى الرسالة بقوله: ﴿قد جاءتكم﴾ أي على يدي ﴿بينة﴾ ولما كنا عالمين من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضى الله عنه «ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» أن هذه البينة معجزة، مثلها كاف في صحة الدعوى ولم تدع ضرورة إلى ذكرها لنا، لم تعن؛ ثم زادهم ترغيباً بقوله: ﴿من ربكم﴾ أي الذي لم تروا إحساناً إلا منه.
ولما كان إتيانه بالبينات سبباً لوجوب امتثال أمره، قال مسبباً عنه: ﴿فأوفوا الكيل﴾ أي والمكيال والوزن ﴿والميزان﴾ أي ابذلوا ما
459
تعطون بهما وافياً، فالآية من الاحتباك، وكان المحكي عنه هنا من أوائل قوله لهم فترك التأكيد الرافع لمجاز المقاربة بذكر القسط.
ولما كان الأمر بالوفاء يتضمن النهي عن البخس، صريح به على وجه يعم غيره فقال: ﴿ولا تبخسوا﴾ أي تنقصوا وتفسدوا كما أفسد البخسة ﴿الناس أشياءهم﴾ أي شيئاً من البخس في كيل ولا وزن ولا غيرهما، والناس - قال في القاموس - يكون من الإنس ومن الجن جمع إنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه «أل»، وقال أبو عبد الله القزاز: الناس أصله عند البصريين أناس، ثم أدخلوا الألف واللام على ذلك وحذفوا الهمزة وبقي الناس، وكان أصله فعال من: أنست به، فكأنه قيل: أناس - يعني على القلب، قال: لأنه يؤنس إليهم - انتهى. إذا علم هذا علم أن نهيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بخس الجمع الذين فيهم قوة المدافعة نهى عن بخس الواحد من باب الأخرى لأن الشرائع إنما جاءت بتقوية الضعيف على حقه.
ولما نهى عن الفساد بالبخس، عم كل فساد فقال: ﴿ولا تفسدوا﴾ أي توقعوا الفساد ﴿في الأرض﴾ بوضع شيء من حق الحق أو الخلق في غير موضعه؛ ولما نهاهم عن هذه الرذائل، ذكر بنعمة الله تاكيداً للنهي بما في ذلك من التخويف وحثاً على التخلق بوصف السيد فقال: ﴿بعد إصلاحها﴾ أي إصلاح الله لها بنعمة الإيجاد الأول بخلقها وخلق منافعها وما فيها على هذا النظام البديع المحكم ثم بنعمة الإبقاء الأول
460
بإنزال الكتب وإرسال الرسل ونصب الشرائع التي بها يحصل النفع وتتم النعمة بإصلاح أمر المعاش والمعاد بتعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله، ويجمع ذلك كله التنزه عن الإساءة.
ولما تقدم إليهم بالأمر والنهي، أشار إلى عظمة ما تضمنه ذلك حثاً لهم على امتثاله فقال: ﴿ذلكم﴾ أي الأمر العظيم العالي الرتبه مما ذكر في هذه القصة ﴿خير لكم﴾ ولما كان الكافر ناقص المدارك كامل المهالك، أشارإلى ذلك بقوله: ﴿إن كنتم مؤمنين*﴾ أي فلا تفسدوا أو فأنتم تعرفون صحة ما قلته، وإذ عرفتم صحته عملتم به، وإذا عملتم به أفلحتم كل الفلاح، ويجوز- وهو أحسن - أن يكون التقدير: فهو خير لكم، لأن المؤمن يثاب على فعله لبنائه له على أساس الإيمان، والكافر أعماله فاسده فلا يكون فعله لهذه الأشياء خيراً له من جهة إسعادة في الآخرة لأنه لا ثواب له.
461
ولما كان للتعميم بعد التخصيص والتفصيل بعد الإجمال من الموقع في النفوس ما لا يخفى، وكان النهي عن الإفساد بالصد عن سبيل الله هو المقصود بالذات لأنه ينهى عن كل فساد، خصه بالذكر إشارة إلى أنه زبدة المراد بعد التعميم فقال: ﴿ولا تقعدوا﴾ أي تفعلوا فعل المترصد المقبل بكليته ﴿بكل صراط﴾ أي طريق من طرق الدنيا والدين من الحلال والحرام والأوامر والنواهي والمحكم والمتشابه والأمثال
461
﴿توعدون﴾ أي تتهددون من يسلكه بكل شر إن لم يوافقكم على ما تريدون.
ولما كان طريق الدين أهم، خصه بالذكر فقال: ﴿وتصدون﴾ أي توقعون الصد على سبيل الاستمرار ﴿عن سبيل الله﴾ أي طريق من له الأمر كله؛ ولما ذكر الصدود عنه، ذكر المصدود فقال: ﴿من آمن به﴾ آي بالله فسلك سبيله التي لا أقوم منها؛ ولما كانوا لا يقنعون بمطلق الصد بالتهديد ونحوه، بل يبدون للمصدود شبهاً توهمه أنه على ضلال، قال عاطفاً: ﴿وتبغونها عوجاً﴾ أي وتطلبون السبيل حال كونها ذات عوج، أي تطلبون اعوجاجها بإلقاء الشبهات والشكوك كما تقول: أريد فلاناً ملكاً، أي أريد ملكه، وقد تقدم في آل عمران أن نصبه على الحال أرجح، وأن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح «ابغني أحجاراً أستنفض بها» يرجح نصبه على المفعولية - والله اعلم.
ولما كانت أفعالهم نقص الناس إما في الأموال بالبخس وإما في الإيمان والنصرة بالصد، ذكرهم أن الله تعالى فعل معهم ضد ذلك من التكثير بعد القلة في سياق منذر باجتثاثهم عن وجه الأرض وخصهم فضلاً عن تقليلهم ونقصهم، فقال عطفاً على قوله ﴿اعبدوا الله﴾ وما بعده من الأوامر والنواهي: ﴿واذكروا إذ﴾ أي حين ﴿كنتم قليلاً﴾ أي في العدد والمدد ﴿فكثركم﴾ أي كثر عددكم وأموالكم وكل شيء ينسب إليكم، فلا تقابلوا النعمة بضدها، فإن ذكر النعمة مرغب في الشكر.
462
ولما رغبهم بالتذكير بالنعمة، حذرهم بالتذكير بأهل النقمة فقال: ﴿وانظروا كيف كان عاقبة﴾ أي آخر أمر ﴿المفسدين*﴾ أي في عموم الإهلاك بأنواع العذاب لتحذروا من أن يصيبكم مثل ما أصابهم كما صرح به في سورة هود لكون الحال هناك مقتضياً للبسط كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ولما حذرهم وخامة الفساد الذي نهاهم عنه، وعلق انتهاءهم عنه بوصف الإيمان، رجع إلى قسم ما شرط به الانتهاء عن الإفساد فقال: ﴿وإن كان طائفة منكم﴾ أي جماعة فيهم كثرة بحيث يتحلقون بمن يريدون ﴿آمنوا بالذي أرسلت به﴾ وبناه للمفعول إشارة إلى أن الفاعل معروف بما تقدم من السياق، وأنه صار بحيث لا يتطرق إليه شك لما نصب من الدلالات ﴿وطائفة﴾ أي منكم ﴿لم يؤمنوا﴾ أي بالذي أرسلني به من أيدني بما عملتم من البينات، وحذرهم سطوته بقوله: ﴿فاصبروا﴾ أي أيها الفريقان ﴿حتى يحكم الله﴾ أي الذي له جميع العظمة ﴿بيننا﴾ أي بين فريقنا بإعزاز المصلح وإهلاك المفسد كما أجرى بذلك عادته ﴿وهو﴾ أي الحال أنه ﴿خير الحاكمين*﴾ لأنه يفصل النزاع على أتم وجه وأحكمه.
463
ولما انتهى كلامه عليه السلام على هذا الوجه البديع، أخبر سبحانه بما أفهم أن قومه لم يجدوا جواباً عنه أصلاً لأنهم انتقلوا إلى الدفاع بالفعل، وهو أمارة الانقطاع، فقال مستأنفاً: ﴿قال الملأ﴾ أي الأشراف ﴿الذين استكبروا﴾ أي أوجدوا الكبر إيجاد من هو طالب له بغاية الرغبة، وخصهم ليحصل تمام التسلية بقوله: ﴿من قومه لنخرجنك﴾ وبين غلظتهم وحفاءهم بقولهم: ﴿يا شعيب﴾ من غير استعطاف ولا إجلال ﴿والذين آمنوا﴾ ويجوز أن يتعلق قوله: ﴿معك﴾ ب «آمنوا» وب «نخرج» ﴿من قريتنا﴾ أي من المكان الجامع لنا لمفارقتكم إيانا ﴿أو لتعودن﴾ أي إلا أن تعودوا، أي ليكونن آخر الأمرين: إما الإخراج وإما العود ﴿في ملتنا﴾ أي بالسكوت عنا كما كنتم، ولم يريدوا منه العود إلى الكفر لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان محفوظاً قبل النبوة كإخوانه من الأنبياء عليهم السلام، بل كانوا يعدون سكوته عليه السلام - قبل إرساله إليهم من دعائهم وسب آلهتهم وعيب دينهم - كوناً في ملتهم، ومرادهم الآن رجوعه عليه السلام إلى تلك الحالة
1
والقناعة ممن اتبعه بذلك، فيكون مرادهم بالعود حقيقة في الجميع.
ولما كان من الإخراج والرد مستعظماً، أخبر تعالى أنه أنكره بقوله: ﴿قال أولو﴾ أي أتخرجوننا أو تعيدوننا لو كنا راضين للإخراج والعود ولو ﴿كنا كارهين*﴾.
ولما كان العرب أبعد الناس من مطلق الكذب وأشدهم له تحامياً ومنه نفرة فكيف بالكذب على الأكابر فكيف به على الملوك فيكف به على ملك الملوك! علق الكذب على الله تعالى بالعود إلى ملتهم بقوله مستأنفاً الإخبار لمن تشوف إلى علم ما كان منه بعد هذا الكلام اللين وتوقع غيره: ﴿قد افترينا﴾ أي تعمدنا الآن بما نقوله لكم، أي من أن الله حرم الكفر والإقرار عليه ﴿على الله﴾ أي الذي له جميع العظمة ﴿كذباً﴾ ويجوز أن يكون تنوينه للتعظيم، ويجوز أن يكون للتحقير، ولكل وجه يدعو إليه المقام لا يخفى ﴿إن عدنا﴾ أي ساعة من الدهر ﴿في ملتكم﴾ أي بسكوتنا أو بسكوتي وكفر من كان ممن تبعني كافراً ﴿بعد إذ نجانا الله﴾ أي الملك الأعلى خارقاً للعادة بما كنا جديرين بالانغماس فيه متابعة للآباء والأجداد والعشيرة بما له من القدرة والعظمة ﴿منها﴾ أي إن فعلنا ذلك فقد ارتكبنا أقبح القبائح على بصيرة منا بذلك، فهو تعليق على محال عادة، وهو من وادي قول الأشتر النخعي:
2
بقّيت وفري وانحرفت عن العلى ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشنَّ على ابن هند غارة لم تخل يوماً من نهاب نفوس
غير أن المعلق في البيت تقديري، وفي الآية تحقيقي، لأنهم أخبروهم أن الله تعالى نهى عن الكفر وأمرهم بإنذار كل كافر، فمتى تركوا ذلك لزمهم الكذب حتماً ﴿وما يكون لنا﴾ أي ما يصح وما يتفق ﴿أن نعود فيها﴾ أي ملكتم.
ولما كان الله سبحانه أن يفعل ما يشاء لا واجب عليه ولا قبيح منه، أشار إلى ذلك بقوله: ﴿إلا أن يشاء الله﴾ فذكر اسم الذات إشارة إلى أن له جميع الحمد لذاته؛ ثم ذكر صفه الإحسان عياذاً من أن يراد بهم الهوان فقال: ﴿ربنا﴾ أي خرق العادة فله ذلك، فهو من باب التذكر للمخاوف والإشراف على إمكان سوء العواقب للصدق في التضرع إلى الله تعالى والالتجاء إليه والاستعاذة من مكره، ولذلك أتى باسم الجلالة الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى وصفة الربوبية الملتمس بذكرها فعل ما يفعل لمربي الشفيق، فكأنه قال: إن عودنا في ملتكم غير ممكن عادة، والمحال عادة لا يقدر عليه إلا بقدر من الله، بل ولا توجه الهمم إليه، والله تعالى أكرام من أن يعود فيما وهبه لنا من هذا الأمر الجليل،
3
وينزع عنا هذا اللباس الجميل، وهو صريح في أن الكفر يكون بمشيئة الله، بل ولا يكون إلا بمشيئته، وقوله: ﴿وسع ربنا﴾ أي المحسن إلينا ﴿كل شيء علماً﴾ زيادة في حث أمته على الالتجاء والتبري من الحول والقوة، أي لا علم لنا بخواتم العمال والعلم لله فهو التام العلم الكامل القدرة، فهذه الجملة كالتعليل للتعليق بالمشيئة قطعاً - لما عساه أن يحدث من طمع المخاطبين في عودهم، كأنه قيل: وإنما علقنا العود بالمشيئة لنقص علومنا، فربما كان في سعة علمه قسم ثالث، وهو أن نكون في القرية على ديننا وتكونون أنتم أو لا، أو توافقوننا على ما نحن عليه، وهكذا ينبغي للمربوب، ولا ينبغي الجزم بأمر يستقبل إلا الله ربنا لإحاطة علمه، والآية تدل على انه كان في الأزل عالماً بكل شيء من الكليات والجزئيات لأن «وسع» ماض، وقد تقدم في الأنعام أن قول الخليل عليه السلام وهذا وآية الكهف من مخبر واحد - والله أعلم.
ولما كان المراد من هذا ما ذكر، كان مزعجاً للقلوب مقلقاً للنفوس مزعزعاً للخواطر مزلزلاً للأفكار بتأمل هذه الأخطار المشفية على غاية الخسار، فكأن المؤمنين قالوا: ما العمل وأين المفر؟ فقال: ﴿على الله﴾ أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه، وحده لا على غيره ﴿توكلنا﴾ أي فوضنا جميع أمورنا إليه، وهو أكرم من أن يختار لنا غير الأرشد
4
وقد تبرأنا من حولنا وقوتنا واعتصمنا بحوله وقوته، وجعلنا جميع أمورنا كلها محمولة على قدرته كما يحمل الوكيل أمر موكله عنه ويريحه من همه وقلقه منه.
ولما جرت العادة بأن الموكل يخبر الوكيل بما يريد ليفعله، أتبع ذلك الدعاء بالحكم بما يقتضيه ظاهر الحال من نصر المحقّ وخذل المبطل فقال: ﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا ﴿افتح﴾ أي احكم ﴿بيننا﴾ ولما كان يريد استعطافهم لإسعادهم قال: ﴿وبين قومنا﴾ وفيه إشارة إلى ميله إلى الدعاء بهدايتهم، وأدب بعدم التصريح بما لم يؤذن له فيه ﴿بالحق﴾ أي بالأمر الفيصل من معاملة كل من المحقّ والمبطل بما يستحقه شرعاً وعرفاً بحيث يكون لكل فريق باب يصل به إلى غاية أمره وهذا مقام الإنصاف، فقد علم من إشارة قوله العناية بقومه، ومن عبارته الإنصاف من نفسه، ولو أراد ترجيح نفسه ومتبعيه لدعا لهم أن يعاملوا بالفضل وأن يعامل ضدهم بالعدل، والآية معلمة بأن له تعالى أن يفعل ما يريد من خذلان الظالم ونصر المظلوم وتعذيب العاصي وإثابة الطائع وعكس ذلك،
﴿لا يسئل عما يفعل﴾ [الأنبياء: ٢٣] لأنه التام المِلك العظيم المُلك الشامل القدرة الحكيم الخبير، ويجوز أن يكون المراد: لا نعود إلى ما كنا عليه من السكوت عن دعائكم إلى الله ونهيكم عن أفعال الضلال لأنا أمرنا بإنذاركم إلا أن يشاء الله سكوتنا بامر يحدثه إلينا في ذلك
5
لمصلحة اقتضاها علمه وقصرت عنها علومنا، فإذا أراد ذلك وأمرنا به فعلنا، فله الخلق والأمر.
ولما اشار الدعاء لقومه، أشار - بالعطف على غير معطوف عليه ظاهر - إلى أن التقدير: فأنت خير الراحمين: ﴿وأنت خير الفاتحين*﴾ أي على من سدت عليه الأبواب ولم يجد مخلصاً.
6
ولما انقضى جواب الفصل المبني على إبطال الفضل وإظهار العدل، ذكر سبحانه قولهم بعده عاطفاً له على ما مضى من قولهم أو قوله، كان الأصل أن يقال: وقالوا، ولكنه أظهر الوصف بالشرف إشارة إلى أنه الذي حملهم على نتيجة الاستكبار وهي الكفر، ثم لم يرضوا به حتى أضافوا إليه تكفير غيرهم فقال: ﴿وقال الملأ﴾ أي الأكابر ﴿الذين﴾ يملؤون العيون مرأى والقلوب مهابة، فحلمهم التكبر على أنهم ﴿كفروا﴾.
ولما كان من المستبعد أن يكون أقاربه يتنكبون عما أتاهم به من الخير لحسد أو اتهام أو غيرها، فكان ربما ظن أن هؤلاء الذين يعاملونه بهذه الغلطة أجانب عنه، قال: ﴿من قومه﴾ بياناً لأن الفضل بيد الله فقد يؤتيه البغيض البعيد ويمنعه الحبيب القريب ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ [القصص: ٥٦]، ووطؤوا للقسم بقولهم: ﴿لئن اتبعتم﴾ أي أيها الأتباع ممن لم يؤمن بعد ﴿شعيباً﴾ أو تركتم ما أنتم عليه مما أورثه لكم
6
آباؤكم؛ واجاب القسم بما سد عن جواب الشرط بقوله: ﴿إنكم إذاً﴾ أي وقت اتباعه ﴿لخاسرون*﴾ أي لأنكم استبدلتم بدين الآباء غيره وحرمتم فوائد البخس والتطفيف وقط السبل.
ولما كمل إثمهم بالضلال والإضلال، استحقوا الأخذ فقال: ﴿فأخذتهم﴾ أي فتسبب عن أقوالهم هذه وأفعالهم أنه أخذتهم ﴿الرجفة﴾ أي الزلزلة العظيمة في القلوب أو الديار التي كانت سبباً للصيحة أو مسببة عنها ﴿فأصبحوا في دارهم﴾ أي مساكنهم، وتقدم سر توحيدها ﴿جاثمين*﴾ أي باركين على الركب أو لازمين أمكنتهم لا حراك بهم، وهذا دون ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت الملائكة بحنين، فكان الكفار يسمعون في أجوافهم مثل وقع الحصاة في الطست، ودون ما كان يجد مخالفه من الرعب من مسيرة شهر من ورائه وشهر من أمامه، ولكونه كان نبي الرحمة ما اقتضى ذلك الهلاك بل النجاة.
ولما أخبر سبحانه بهلاكهم وما سببه من أقوالهم وأفعالهم، وكان للتخليص من العظمة في القلوب بتصوير المخلص للأذهان ما لا يخفى، لخص ذلك ذاكراً لأنه حل بهم بالخصوص - ما نسبوا إلى المؤمنين من الخسارة فقال: ﴿الذين كذبوا شعيباً﴾ أي نسبوه إلى الكذب فيما قاله عنا وأيدناه فيه بالبينات ﴿كأن﴾ أي هم المخصصون بالهلاك
7
حتى كأنهم ﴿لم يغنوا﴾ أي ينزلوا ويقيموا، وبطل مقامهم لاهين بالأفراح والغناء والاستغناء من المغاني وهي المنازل والاستغناء ﴿فيها﴾ أي الدار بسبب تكذيبهم.
ولما كان تكذيب الصادقين لا سيما الرسل في غاية الشناعة، كرره إشارة إلى ذلك وإعلاماً بأنه سبب لهم أعظم من هلاك الأشباح ضد ما سبب التصديق للمؤمنين فقال: ﴿الذين كذبوا شعيباً﴾ أي تكذيبه سبباً لهلاكهم ﴿كانوا﴾ أي بسبب التكذيب أيضاً ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿الخاسرين*﴾ أي خسروا أرواحهم كما خسروا أشباحهم فهم لما سوى ذلك أخسر، وأما الذين اتبعوه فما نالهم شيء من الخسار، وفي هذا الاستئناف والابتداء والتكرير مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لآرائهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم.
ولما صارت تلك الدار محل الغضب، سبب ذلك أن هاجر عنها كما كانت عادة من قبله من الأنبياء عليهم السلام، فقال: ﴿فتولىعنهم﴾ بعد نزول العذاب وقبله عند رؤية مخايله ذاهباً إلى مكان غيره، يعبد ربه فيه ﴿وقال﴾ متأسفاً على ما فاته من هدايتهم ﴿يا قوم﴾ أي يا عشيرتي وأقرب الناس إليّ ﴿لقد أبلغتكم﴾ ولعله جمع لأجل كثرة ما أتاهم به من المعجزات فقال: ﴿رسالات ربي﴾ أي المحسن إليّ بإنجائي ومن تبعني من عذابكم لتوفيقه لنا إلى ما يرضيه ﴿ونصحت﴾ أي وأوقعت النصح
8
﴿لكم﴾ أي خاصة.
ولما كان هذا مفهماً لما طبع البشر من الأسف أهله وعشيرته، سبب عنه منكراً على نفسه قوله: ﴿فكيف آسى﴾ أي أحزن حزناً شديداً ﴿على قوم كافرين*﴾ أي عريقين في الكفر، فعرف أنه أسف عليهم من أجل قربهم وفوات الإيمان لهم غير آسف عليهم من أجل كفرهم، وتخصيص تكرير هذه القصص الخمس على هذا الترتيب في كثير من سور القرآن- دون قصة إبراهيم عليه السلام وهو أعظمهم - لانتظامهم في أنهم أقرت أعينهم بأن رأوا مصارع من خالفهم، وأما إبراهيم عليه السلام فإنه وقع النص في قوله ﴿إني ذاهب إلى ربي سيهدين﴾ [الصافات: ٩٩] بأنه خرج من بين قومه قبل عذابهم ولم يسلك به سبيلهم في إقرار عينه بإهلاك من كذبه بحضرته، وهو أفضلهم لأن الكائن في قصته أعظم في الأفضلية، وهو طبق ما اتفق لولده أفضل البشر نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانظر إلى قوله تعالى ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم﴾ [الأنفال: ٣٣] تعرف ما في هذا المقام من الإكرام، وأن الأمر كما قيل: لعين تجازى ألف عين وتكرم.
ولما قدم سبحانه إجمال الإنذار بما اشتركت فيه الأمم من الإهلاك بقوله تعالى: ﴿وكم من قرية أهلكناها﴾ [الأعراف: ٤] الآية، ثم أتبعه - بعد تقديم ما يحتاج إليه على النظم الذي سبق التنبيه عليه - تفصيل ما انفردت به كل أمه من العذاب الحاث على سبيل الصواب، أتبع ذلك إجمالاً آخر أبسط من الأول على نمط غريب دال على عادته المستمرة وسنته المستقرة في شرح
9
حال هؤلاء الأمم الذين ذكرهم وغيرهم، لئلا يظن أن غيرهم كان حاله غير حالهم، فبين أن الكل على نهج واحد وأن السبب في استئصالهم واحد، وهو التكذيب والاستكبار على الحق، ليكون الإجمال كالضوابط والقواعد الكلية لتنطبق على الجزيئات. وذلك الاستبصار بما يكون من نافع أو ضار وعدم الاغترار بأحوال المستدرجين الأشرار متكفل بالتسلية لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتأسية، متقدم على قصة موسى وهارون عليهما السلام لطولها وتعجيلاً بما في ذلك من مصارع الإنذار بقوله تعالى: ﴿وما﴾ أي أرسلنا فلاناً فكان كذا وفلاناً فكان كذا، وما ﴿أرسلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿في قرية﴾ أي من قرى أولئك وغيرهم ﴿من نبيٍّ﴾ أي من الأنبياء الذين تقدموك ﴿إلا﴾ كان ما نخبر به من ترهيبهم من سطواتنا وهو أنا ﴿أخذنا﴾ أي بعظمتنا ﴿أهلها﴾ أي أخذ قهر وسطوة، أي لأجل استكبارهم عن الحق ﴿بالبأساء﴾ أي قهر الرجال ﴿والضراء﴾ أي المرض والفقر ﴿لعلهم يضرعون*﴾ أي ليكون حالهم عند المساءة حال من يرجى تضرعه وتذلله وتخضعه لمن لا يكشف ذلك عنه غيره ولو كان التضرع في أدنى المراتب - على ما أشار إليه الإدغام، لأن ذلك كاف في
10
الإنقاذ من عذاب الإنذار الذي هذه سورته بخلاف ما مضى في الأنعام.
ولما لم يتضرعوا صادقين من قلوبهم معترفين بالحق لأهله كما يحق له، استدراجهم بإدرار النعم، فقال مشيراً إلى طول مدة الابتلاء واستبعادهم لكشف ذلك البلاء: ﴿ثم بدلنا﴾ ومظهر العظمة يؤيد الاحتمال الثاني ﴿مكان﴾ أي جعلنا ﴿السيئة﴾ أي النقمة ﴿الحسنة﴾ أي النعمة، وبين أنه مد النعمة بقوله: ﴿حتى عفوا﴾ أي بدل كثروا وكثرت نعمهم فلم يشكروا ﴿وقالوا﴾ مسندين الأمر إلى غير أهله ﴿قد مس آباءنا الضراء﴾ أي الشدة ﴿والسراء﴾ أي الرخاء والنعمة، معتقدين أن هذه عادة الدهر لا فعل الفاعل المختار.
ولما لم يعتبروا ويعلموا أن ذلك ممن يحب أن لا يعدل عن بابه ولا يغفل عن جنابه، وظنوا أن ذلك دأب الدهر وفعل الزمان، واستمروا على فسادهم في حال الشدة والرخاء، سبب عنه قوله: ﴿فأخذناهم﴾ أي بعظمتنا أشد الأخذ وأفظعه في الظاهر والباطن ﴿بغتة﴾ أي فجأة حتى لا ينفعهم التوبة، وأكد معنى البغت تحقيقاً لأمره بقوله: ﴿وهم لا يشعرون*﴾ فحق من سمع هذا أن يبادر إلى الرجوع عن كل مخالفة فيها خوفاً من الأخذ بغتة.
ولما بين تعالى ما كان قولهم مسبباً له من الأخذ بغتة، بين ما كان يكون ضد قولهم مسبباً له من البركات لو وقع بقوله: ﴿ولو أن أهل القرى﴾ أي هذه التي قصصنا أخبارها ﴿آمنوا﴾ أي بما أتاهم به رسلهم
11
﴿واتقوا﴾ أي خافوا أمر الله وجعلوا بينهم وبين سخطه وقاية من طاعاته فاستمروا على إيمانهم ﴿لفتحنا عليهم بركات﴾ أي خيرات ثابته لا يقدر أحد على إزالتها ﴿من السماء﴾ أي بالمطر الذي يكون كأفواه القرب وما شابهه ﴿والأرض﴾ بالنبت الغليظ وما قاربه، وقراءة ابن عامر بالتشديد يدل على كثرة تلك البركات، وأصل البركة الموظبة على الخير.
ولما كان الكلام بما أفهمته ﴿لو﴾ في قوة أنهم يؤمنوا عبر بقوله: ﴿ولكن كذبوا﴾ أي كان التكذيب ديدنهم وشأنهم، فلذلك لم يصدقوا رسلنا في شيء، ولما كان التكذيب موضع الجلافة والجمود الذي هو سبب لعدم النظر في الدليل، سبب عنه العذاب فقال: ﴿فأخذناهم﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿بما﴾ أي بسبب ما ﴿كانوا يكسبون*﴾ أي بجبلاتهم الخبيثة من الأعمال المناسبة لها.
12
ولما كانوا قد ضلوا ضلالاً بعيداً في غلطهم في جعلهم السراء والضراء سبباً للأمن من مكر الله، قال منكراً عليهم أمنهم عاطفاً له على ﴿كذبوا﴾ لأنه سبب الغلط وهو سبب الأمن فقال: ﴿أفأمن أهل القرى﴾ أي كذبوا ناسين أفعالنا المرهبة بالمضارّ والمرغبة بالمسارّ فأمنوا ﴿أن يأتيهم بأسنا﴾ أي الناشىء عما لنا من العظمة التي لا ينساها إلا خاسر ﴿بياتاً﴾ أي ليلاً وهم قد أخذوا الراحة في بيوتهم، ولما كان النوم شيئاً واحداً يغمر الحواس فيقتضي الاستقرار، عبر بالاسم الدالّ على الثبات فقال: ﴿وهم نائمون*﴾ أي على غاية الغفلة عنه.
12
ولما كان ربما قال جاهل: لو جاءهم وهم إيقاظ لأمكن أن يدافعوا! قال: ﴿أو أمن أهل القرى﴾ أي مجتمعين أو منفردين فأنه لا فرق عندنا في ذلك ﴿أن يأتيهم بأسنا ضحى﴾ أي وقت راحتهم واجتماع قواهم ونشاطهم؛ ولما كانت اليقظة موجبة للحركة، عبر بالمضارع في قوله: ﴿وهم يلعبون*﴾ أي يتجدد لعبهم شيئاً فشيئاً في ذلك الوقت، وفيه تقريع لهم بنسبتهم إلى أنهم صبيان العقول، لا التفات لهم إلى غير اللعب.
ولما كان ضلالهم - الذي نسبوا فيه الأمر إلى غير أهله - أشنع ضلال لتضمنه التعطيل وما يجر إليه من الأباطيل، كرر الإنكار عليهم على وجه أشد من الأول فقال مسبباً الإنكار عما أثبت هذا الكلام من العظمة التي لا يتمارى فيها ذو لب: ﴿أفأمنوا مكر الله﴾ أي فعله الذي يشبه المكر بأخذ الإنسان من حيث لا يشعر بالاستدراج بما يريد من النعم والنقم؛ وسبب عن ذلك قوله: ﴿فلا يأمن مكر الله﴾ أي الذي لا أعظم منه فلا يرد له أمر ﴿إلا القوم الخاسرون*﴾ أي الذين كانت قواهم سبباً لعراقتهم في الأفعال الضارة والخصال المهلكة.
ولما بان بما مضى حال الكفار مجملاً ومفصلاً، وكان المقصود من ذلك عبرة السامعين، وكان أخذهم بالبأساء والضراء مع إبقاء مهجهم وحفظ أرواحهم وأفهامهم بعد إهلاك من قبلهم في بعض ما لحقهم من ذلك وإيراثهم الأرض من بعدهم حالاً يكونون بها في حيز من يرجى
13
منه الخوف المقتضي للتضرع والعلم قطعاً بأن الفاعل لذلك هو الله، وأنه لو شاء لأهلكهم بالذنوب أو غطى أفهامهم بحيث يصيرون كالبهائم لا يسمعون إلا دعاء ونداء، فسماعهم حيث لا فهم كلا سماع، فجعلوا ذلك سبباً للأمن؛ أنكر عليهم ذلك بقوله ﴿أفأمن﴾ إلى آخره؛ ثم أنكر عليهم عدم الاستدلال على القدرة فقال عاطفاً على ﴿أفأمن﴾ :﴿أولم يهد﴾ أي يبين أخذنا الأمم الماضية بالبأساء والضراء ثم إهلاكهم إذا لم يتعظوا ﴿للذين يرثون الأرض﴾ وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف وإشارة إلى بلادتهم لعدم البحث عن الأخبار ليعلموا منها ما يضر وما ينفع فلا يكونوا كالبهائم، فإنهم لو تأملوا أحوالهم وأحوال من ورثوا أرضهم وأحوال الأرض لكفاهم ذلك في الهداية إلى سواء السبيل.
ولما كان إرثهم غير مستغرق للزمان، أتى بالجارّ فقال: ﴿من بعد أهلها﴾ ثم ذكر مفعول ﴿يهد﴾ بقوله: ﴿أن﴾ أي إنا ﴿لو نشاء﴾ أي في أيّ وقت أردنا ﴿أصبناهم بذنوبهم﴾ أي إصابة نمحقهم بها كما فعلنا بمن ورثوا أرضهم؛ ولما كان هذا تخويفاً للموجودين بعد المهلكين، ومنهم قريش وسائر العرب الذين يخاطبون بهذا القرآن، فكأن المخوف به لم يقع بعد، عطف على أصبنا قوله: ﴿ونطبع على قلوبهم﴾ أي بإزالة عقولهم حتى يكونوا كالبهائم، ولذلك سبب عنه قوله:
14
﴿فهم لا يسمعون*﴾ أي سماع فهم، وعبر عن الإصابة بالماضي إشارة إلى سرعة الإهلاك مع كونه شيئاً واحداً غير متجزىء، وعن الطبع بالمضارع إيماء إلى التجدد بحيث لا يمر زمن إلا كانوا فيه في طبع جديد.
15
ولما انقضى ذلك على هذا الوجه الأعظم والنظم الأبلغ الأحكم، وكانت هذه القرى بحيث تعرفها العرب ويرونها، أشار إليهم حثّاً على الاعتبار بهم، ولما كان أهلها جديرين بالبعد عنهم والهرب منهم، عبر عنهم بأداة البعد فقال: ﴿تلك القرى﴾ أي محالّ القبائل الخمس، ويجوز أن يكون البعد لعظمة ما حصل لأهلها من العذاب، ويؤيده قوله مبيناً لحالها: ﴿نقص عليك﴾.
ولما كان العاقل من يكفيه أدنى شيء، هوّل الأمر بأن أخبارها تفوت الحصر، وأن ما قص منها يكفي المعتبر، فقال: ﴿من أنبائها﴾ أي أخبارها العظيمة الهائلة المطابقة للواقع شيئاً بعد شيء كما يفعل من يتتبع الأثر، وأنث الضمير لأن لرؤية القرى أنفسها مدخلاً في معرفة أخبار أهلها.
ولما كان المقام مقام العجب من التكذيب بعد ذلك البيان، كان ربما تخيل متخيل أنهم لم يؤتوا بالبيان الشافي، فشهد الله تعالى للرسل عليهم السلام تصديقاً لمن قال مهم: قد جاءتكم بينة، بقوله: ﴿ولقد﴾ أي والحال أنه قد ﴿جاءتهم﴾ أي أهل القرى لأنهم المقصودون بالذات ﴿رسلهم﴾ أي الذين أرسلناهم إليهم ﴿بالبينات فما﴾ أي فلم يتسبب عن
15
ذلك بسبب طبعنا على قلوبهم إلا أنهم ما ﴿كانوا﴾ موفقين ﴿ليؤمنوا﴾ أي عند مجيئها، وقد أكد منافاة حالهم الإيمان باللام والكون أتم تأكيد ﴿بما﴾ أي بالذي ﴿كذبوا﴾ أي به، وحذفها أدل على الزجر من مطلق التكذيب وأوفق لمقصود السورة.
ولما كان تكذبيهم غير مستغرق للزمان الماضي، أدخل الجارّ فقال: ﴿من قبل﴾ أي قبل مجيء الرسل إليهم أو بتكذيبهم الواقع منهم للرسل فيما أتوا به عن الله من قبل الأخذ بغتة، أو من قبل مجيء الرسل بالآيات، فإنهم أول ما جاؤوهم فاجؤوهم بالتكذيب، فجوزوا على تكذيب الحق من غير نظر في دليل بالطبع على قلوبهم فأتوهم. بالمعجزات فأصروا على ذلك التكذيب ووقفوا لذلك الطبع مع حظوظهم، ومنعتهم شماختهم وشدة شكائمهم عن الإيمان لئلا يقال: إنهم خافوا أولا فيما وقع منهم من التكذيب فكانوا فيه على غير بصيرة، أو إنهم خافوا ثانياً ما قرعتهم به الرسل من الوعيد، فدخلوا جبناً فيما يعلمون بطلانه، فكان تزيين هذا لهم طبعاً على قلوبهم، فكأنه قيل: إن هذا العجب هل يقع في مثل ذلك أحد؟ فقيل: نعم، مثل ما طبعنا على قلوبهم حتى صارت مع الفهم لا تنتفع، فكأنها لا تفهم فكأنها لا تسمع ﴿كذلك يطبع الله﴾ أي الجامع لصفات الكبر ونعوت الجلال بما يجعل من الرين بما له
16
من العظمة ﴿على قلوب الكافرين*﴾ أي كل من يغطي ما أعطاه الله من نور العقل بما تدعوه إليه نفسه من الهوى عريقاً في الاتصاف بذلك فيترك آيات الله.
ولما كان نقض العهد أفظع شيء ولا سيما عند العرب، قال عاطفاً على «فما كانوا» :﴿وما وجدنا﴾ أي في عالم الشهادة ﴿لأكثرهم﴾ أي الناس، وأكد الاستغراق فقال: ﴿من عهد﴾ طبق ما كان عندنا في عالم الغيب، وهذا إما إشارة إلى الميثاق يوم ﴿ألست بربكم﴾ إن كان ذلك على حقيقته، أو إلى ما يفعلون حال الشدائد من الإقلاع عن المعاصي والمعاهدة على الشكر
﴿لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين﴾ [يونس: ٢٢] أو إلى إقامة الحجج بإفاضة العقول ونصب الأدلة، فصار بنصبها وإيضاحها للعقول كأنه أخذ العهد على من عقل أنه يبذل الجهد في التأمل ولا يتجاوز ما أبداه له صحيح النظر ﴿وإن﴾ أي وإنا ﴿وجدنا﴾ أي علمنا في عالم الشهادة ﴿أكثرهم لفاسقين*﴾ أي خارجين عن دائرة العهد مارقين مما أوقفهم عند الحد عريقين في ذلك طبق ما كنا نعلمه منهم في عالم الغيب، وما أبرزناه في عالم الشهادة إلا لنقيم عليهم به الحجة على ما يتعارفونه بينهم في مجاري عاداتهم ومدارك عقولهم.
ولما انقضى بيان هذا الإجمال الخالع لقلوب الرجال، أتبعه الكشف
17
عما كان بعد قصة شعيب عليه السلام من قصة صهره موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، وهي كالدليل على آيات الإجمال كما كانت القصص الماضية كالدليل على ما في أول السورة من الإجمال، فإن قصة فرعون مشتملة على الأخذ بالبأساء والضراء، ثم الإنعام بالرخاء والسراء، ثم الأخذ بغتة بسبب شدة الوقوف مع الضلال بعد الكشف الشافي والبيان لما على قلوبهم من الطبع وما قادت إليه الحظوظ من الفسق، وكأنه فصلها عن القصص الماضية تنويهاً بذكرها وتنبيهاً على عليّ قدرها، لأن معجزات صاحبها من معجزات من كان قبله، وجهل من عالجهم كان أعظم وأفحش من جهل تلك الأمم، ولذلك عطفها بأداة البعد مع قرب زمنها من التي قبلها إشارة إلى بعد رتبتها بما فيها من العجائب وما اشتملت عليه من الرغائب والغرائب، ولذلك مد لها الميدان وأطلق في سياقها للجواد العنان فقال: ﴿ثم بعثنا﴾ أي على عظمتنا ﴿من بعدهم﴾ أي الرسل المذكورين والأمم المهلكين ﴿موسى بآياتنا﴾ أي التي يحق لها العظمة بإضافتها إلينا فثبت بها النبوة ﴿إلى فرعون﴾ هو علم جنس لملوك مصر ككسرى لملوك فارس وقيصر لملوك الروم، وكان اسم فرعون موسى عليه السلام قابوس، وقيل: الوليد بن مصعب ابن الريان ﴿وملئه﴾ أي عظماء قومه، وخصمهم
18
لأنهم إذا أذعنوا أذعن من دونهم، فكأنهم المقصودون والإرسال إليهم إرسال إلى الكل.
ولما سببت لهم الظلم الظلم قال: ﴿فظلموا﴾ أي وقعوا في مثل الظلام حتى وضعوا الأشياء في غير مواضعها فوضعوا الإنكار موضع الإقرار ﴿بها﴾ أي بسبب رؤيتها خوفاً على رئاستهم ومملكتهم الفانية أن تخرج من أيديهم؛ ولما كان ذلك من أعجب العجب، وهو أن سبب العدل يكون سبب الظلم، وكان هذا الظلم أعظم الفساد، سبب عنه قوله معجباً: ﴿فانظر﴾ أي بعين البصيرة ﴿كيف كان عاقبة﴾ أي آخر أمر ﴿المفسدين*﴾ فلخص في هذه الآية على وجازتها جميع قصتهم على طولها، وقدم ذكر الآيات اهتماماً بها ولأنها الدليل على صحة دعوى البعث.
19
ولما كان التقدير عطفاً على ﴿فظلموا بها﴾ : ووضعها موسى مواضعها، عبر عنه بقوله: ﴿وقال موسى يا فرعون﴾ خاطبه بما يعجبه امتثالاً لأمر الله تعالى له أن يلين في خطابه، وذلك لأن فرعون لقب مدح لمن ملك مصر.
ولما أتاهم عليه السلام وهم عارفون بأمانته وصدقه وعظم مكانته ومكارم أخلاقه وشريف عنصره وعظيم مخبره، وفرعون أعظمهم معرفة به لأنه ربي في حجره، كان هذا حالاً مقتضياً لأن يلقي إليهم الكلام غير مؤكد، لكن لما كان الإرسال من الله أمراً عظيماً جداً، وكان المقصود
19
به تخلية سبيل بني إسرائيل، وكان فرعون ضنيناً بذلك، أكده بعض التأكيد فقال: ﴿إني رسول﴾ ثم بين مرسله بقوله: ﴿من رب العالمين*﴾ أي المحسن إليهم أجمعين - وأنتم منهم - بإيجادهم وتربيتهم، فهو تنبيه لمن سمعه على أن فرعون مربوب مقهور.
ولما خلفه مما يدعيه من الربوبية دالاً على تسويته ببقية العالمين: ناطقهم وصامتهم، وكان لذلك بعيداً من الإذعان لهذا الكلام، أتبعه قوله على وجه التأكيد مستأنفاً بيان ما يلزم للرسول: ﴿حقيق﴾ أي بالغ في الحقية، وهي الثبات الذي لا يمكن زواله ﴿على أن لا أقول على الله﴾ أي الذي له جميع الكمال، ولا عظمة لسواه ولا جلال ﴿إلا الحق﴾ أي الثابت الذي لا تمكن المماراة فيه اصلاً لما يصدقه من المعجزات، وحاصل العبارة ومآلها: حق على قولي الذي أطلقه على الله أن لا يكون إلا الحق أي غير الحق، ولذلك عبر بالاسم الأعظم الجامع لجميع الصفات، وقراءة نافع بتشديد ياء الإضافة في ﴿على﴾ بمعنى هذا سواء، لأن من حق عليه شيء حق على كلامه.
ولما كان الحال إذ ذاك يقتضي توقع إقامة موسى عليه السلام البينة على صحة رسالته كان كأنه قيل: ما دليل صدقك؟ فقال مفتتحاً بحرف التوقع والتحقيق: ﴿قد جئتكم﴾ أي كلكم، لا أخص أحداً منكم ﴿ببينة﴾
20
دليلاً على رسالتي وقولي الحق ﴿من ربكم﴾ أي المحسن إليكم بكل نعمة ترونها لديكم من خلقكم وزرقكم وكف الأمم عن انتزاع هذا الملك منكم وإهلاككم، وتلك البينة هي المعجزة، فكرر البيان في هذا الكلام على أن فرعون ليس كما يدّعي لأنه مربوب، لا فرق بينة وبين بقية العالمين في ذلك.
ولما كان من المعلوم أن مثله في تمام عقله وشرف خلائقه لا يدّعي في تلك المجامع إلا حقاً مع ما نبه عليه من البيان على تفرد الله بالإلهية كما تفرد بالإحسان، كان كأنه أظهر البينة التي أقلها كفهم عن إهلاكهم. فأتبع ذلك طلب النتيجة إعلاماً بغاية ما يريد منهم بقوله مسبباً عن مجرد هذا الإخبار الذي كان قد أوقع مضمونه: ﴿فأرسل﴾ أي يا فرعون ﴿معي بني إسرائيل*﴾ أي فسبب إقامتي الدليل على صحة ما قلته أن أمُر بما جئت له - وهو إرسالهم معي - أمر من صار له سلطان بإقامة البينة لنذهب كلنا إلى بيت المقدس موطن آبائنا التي أقسم الله لهم أن يورثها أبناءهم، وفي جعل ذلك نتيجة الإرسال إليه تنبيه على أن رسالته مقصورة على قومه، فكأنه قيل: فماذا قال فرعون في جواب هذا الأمر الواضح؟ فقيل: ﴿قال﴾ معرضاً عنه معمياً له خوفاً من غائلته عند من يعرف موسى عليه السلام حق المعرفة معبراً بأداة الشك إيقافاً لهم: ﴿إن كنت جئت بآية﴾ أي علامة على صحة رسالتك ﴿فأت بها﴾ فأوهم
21
أنه لم يفهم إلا أن المراد أنه سيقيمها من غير أن يكون في كلامه السابق دلالة على صدقه، وأكد الإبهام والشك بقوله: ﴿إن كنت﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿من الصادقين*﴾ أي في عداد أهل الصدق العريقين فيه لتصح دعواك عندي وتثبت.
ولما ساق هذا الطلب مساقاً دالاً على أنه شاك في أمره، أخبر تعالى أنه فاجأه بإظهار الآية دالاًّ على ذلك بالفاء المسببة المعقبة من غير مهلة فقال عن فعل موسى عليه السلام: ﴿فألقى عصاه﴾ وعن فعله هو سبحانه ﴿فإذا هي﴾ أي العصا ﴿ثعبان مبين*﴾ أي ظاهر في كبره وسرعة حركته بحيث إنه لشدة ظهوره كأنه ينادي الناس فيظهر لهم أمره، وهو موضح لصدق من تسبب عن فعله في جميع مقالته؛ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان ثعباناً أشعر فاغراً فاه، بين لحييه ثمانون ذراعاً، وضع لحيه الأسفل في الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون فوثب من سريره هارباً وأحدث، وحمل على الناس فانهزموا وصاحوا فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً، قتل بعضهم بعضاً، وصاح فرعون: يا موسى خذه وأنا أومن بك فأخذه فعاد عصاً. ثم قال: هل معك آية أخرى؟ قال: نعم ﴿ونزع يده﴾
22
أي أخرجها من جيبه بعد أن أراه إياها محترقة أدماً كما كانت وهو عنده ﴿فإذا هي بيضاء﴾ ونبه على ثبات بياضها وزيادة إعجابه بقوله: ﴿للناظرين*﴾ قال أبو حيان: أي للنظارة، وفي ذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها لأنه لا يعرض العجب لهم إلا إذا كان بياضها خارجاً عن العادة، وقال ابن عباس: صارت نوراً ساطعاً يضيء ما بين السماء والأرض، له لمعان مثل لمعان البرق فخروا على وجوههم، وما أعجب أمر هذين الخارقين العظيمين: أحدهما في نفسه وذلك اليد البيضاء، والآخر في غير نفسه وهى العصا التي يمسكها بيده، وجمع بذينك تبديل الذوات من الخشبية إلى الحيوانية، وتبديل الأعراض من السمرة إلى البياض الساطع، فكانا دالين على جواز الأمرين - انتهى.
ولما أتى بالبيان وأقام واضح البرهان، اقتضى الحال السؤال عما أبرزوه من المقال في جوابه فقال: ﴿قال الملأ﴾ أي الأكابر ﴿من قوم فرعون﴾ ما تلقفوه من فرعون واحداً بعد واحد، يلقيه أكبرهم إلى أصغرهم ﴿إن هذا لساحر﴾ أي فهذا الذي رأيتموه أيها الناس من تخييله ما لا حقيقة له، فلا تبادروا إلى متابعته.
ولما كان ذلك خارجاً عما ألفوه السحرة قالوا: ﴿عليم*﴾
23
أي بما هم فيه، بالغ في علمه إلى حد عظيم، فذلك جاء ما رأيتم منه فوق العادة، فكأن فرعون قال ذلك أبتداء - كما في سورة الشورى - فتلقفوه منه وبادروا إلى قوله، يقوله بعضكم لبعض إعلاماً بأنهم على غاية الطواعية له خوفاً على رئاستهم تحقيقاً لقوله تعالى ﴿فاستخف قومه فأطاعوه﴾ [الزخرف: ٥٤] واختير هنا إسناده إليهم، لأن السياق للاستدلال على فسق الأكثر، وأما هناك فالسياق لأنه إن أراد سبحانه انزل آية خضعوا لها كما خضع فرعون عند رؤية ما رأى من موسى عليه السلام حتى رضي لنفسه بأن يخاطب عبيده - على ما يزعم - بما يقتضي أن يكون لهم عليه أمر، فلذا كان إسناد القول إليه أحسن، لأن النصرة في مقارعة الرأس أظهر، وخضوع عنقه أضخم وأكبر.
24
ولما خيلوهم حتى أوقفوهم عما فهموا عنهم من المبادرة إلى المتابعة بادعاء أنه ساحر؛ نفروهم من ذلك وخوفوهم بأنه يريد أن يحكم فيهم قومه الذين كانوا عبيداً لهم ويزيحوهم من ديارهم التي هي لأشباحهم مثل أشباحهم لأرواحهم بقوله: ﴿يريد أن يخرجكم﴾ أي أيها القبط ﴿من أرضكم﴾ أي هذه التي أثلها لكم آباؤكم وبها قوامكم؛ ولما كان السياق لبيان فسقهم، أسقط قولهم في الموضع الآخر ﴿بسحره﴾ إفهاماً لعجلتهم في إبرام الأمر في ضره إشارة إلى تغاليهم في الفسق بعلمهم
24
أنه محق وليس بساحر.
ولما كان المقصود بهذا الكلام استعطاف المخاطبين، استعطفوهم بعد أن أوقفوهم، ثم خوفوهم بما سببوا عن الخطاب السابق من قولهم: ﴿فماذا تأمرون*﴾ أي تقولون في هذه المشورة أيها السادة ليمتثل.
ولما كان كأنه قيل: فعلى أيّ شيء استقر رأيهم؟ فقيل: على تاخير الأمر إلى حشر السحرة للمعارضة، أخبر تعالى، دلالة على أن أصل قول الملأ منه، أنهم أقبلوا عليه مخاطبين له ملفتين من أبلغهم عنه تعظيماً له مسندين الأمر إليه بقوله: ﴿قالوا﴾ أي الملأ لفرعون بعدما استقر في أذهانهم ما نصبوه إليه من الإرادة ﴿أرجه﴾ أي موسى عليه السلام ﴿وأخاه﴾ أي أخرهما تنفيساً لنا من هذا الخناق إلى وقت ما حتى ننظر في أمرهما ﴿وأرسل في المدائن﴾ أي من ملك مصر ﴿حاشرين*﴾ يحشرون لك السحرة ويجمعونهم من كل فج عميق، والحشر: الجمع بكره ﴿يأتوك بكل﴾ ولما كانت دلالة السياق على رغب فرعون أقل مما في الشعراء لما اقتضاه الحال في كل منهما، قرأ الجمهور: ﴿ساحر عليم*﴾ أي بالغ العلم في السحر، وفي قراءة حمزه والكسائي ﴿سحار﴾ زيادة مبالغة أيضاً لما
25
رأوا من قلق فرعون في الجملة، وهذا يدل على أن السحرة كانوا في ذلك الزمان عندهم في غاية الكثرة، ويدل على أن في طبع الناس المعارضة، فمهما أمكنت بطلت دعوى النبوة، وإذا تعذرت صحت الدعوى.
ولما كان التقدير: فأخر أمرهما وأرسل كما قالوا، فجمعوا من وجدوه منهم، عطف عليه قوله: ﴿وجاء السحرة فرعون﴾ ولما تشوف السامع إلى خبرهم، قال مجيباً له استئنافاً: ﴿قالوا﴾ أي لفرعون عندما حضروا بين يديه متوثقين لنفع أنفسهم مفهمين له أنهم غالبون، لا مانع لهم من ذلك إلا عدم إنصافهم، سائقين للكلام في قراءة الجماعة مساق الاستفهام أدباً معه في طلب الإكرام: ﴿إن لنا لأجراً﴾ وأكدوا طلباً لإخراج الوعد على حال التكذيب ﴿إن كنا نحن﴾ أي خاصة ﴿الغالبين*﴾ ومن أخبر أراد الاستفهام وهم نافع وابن كثير وحفص عن عاصم ﴿قال﴾ أي فرعون ﴿نعم﴾ أي لكم أجر مؤكد الخبر به، وزاد بيان التأكيد بما زادهم به رغبة في قوله: ﴿وإنكم﴾ أي زيادة على ذلك ﴿لمن المقربين*﴾ أي عندي في الحضرة.
ولما فرغوا من محاورته، تشوف السامع إلى قولهم لموسى عليه السلام، فاستأنف قوله جواباً: ﴿قالوا﴾ بادئين باسمه ﴿يا موسى﴾ مخيرين له أدباً معه كما هي عادة عقلاء الأخصام قبل وقوع الخصام في سياق مفهم أن قصدهم الإلقاء أولاً، وذلك قولهم: ﴿إما أن تلقي﴾ أي أنت أولاً
26
ما تريد أن تلقيه للمغالبة في إظهار صحة دعواك ﴿وإما أن نكون نحن﴾ أي خاصة ﴿الملقين*﴾ أي لما معنا أولاً.
ولما فهم موسى عليه السلام مرادهم مما عبر هذا النظم عن حقيقة معناه من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر وإقحام الفصل، وكان واثقاً من الله تعالى بما وعده به جارياً مع مراده، لا فرق بين أن يتقدم أو يتأخر؛ أجابهم إلى سؤالهم. وهو أوقع في ازدراء شأنهم، فاستأنف سبحانه الخبر عنه بقوله: ﴿قال ألقوا﴾ أي أنتم أيها السحرة ما تريدون إلقاءه، وهو أمر تعجيز.
ولما أذن لهم بادروا إلى ذلك كما أفهمه العطف بالفاء في قوله: ﴿فلما ألقوا﴾ أي ما أعدوه للسحر ﴿سحروا أعين الناس﴾ أي عن صحة إدراكها حتى خيلوا إليها ما لا على بعض، وبعثوا جماعة ينادون: أيها الناس احذروا ﴿واسترهبوهم﴾ أي وأوجدوا رهبتهم إيجاد راغب فيها طالب لها غاية الطلب.
ولما قيل ذلك، كان ربما ظن أنهم خافوا مما لا يخاف من مثله، فقال تعالى مبيناً أنهم معذورون في خوفهم: ﴿وجاءو بسحر عظيم*﴾ قال صاحب كتاب الزينة: والسحر على وجوه كثيرة، منه الأخذ بالعين،
27
ومنه ما يفرق به بين المرء وزوجه، ومنه غير ذلك، وأصله مأخوذ من التعلل بالباطل وقلب الأمر عن وجهه كما ذكرنا من لغة العرب.
ولما تناهى الأمر واشتد التشوف إلى ما صنغ موسى عليه السلام، قال معلماً عنه عطفاً على ﴿وجاءو﴾ :﴿وأوحينا﴾ أي مظهرين لعظمتنا على رؤوس الأشهاد بما لا يقدر أحد أن يضاهيه ﴿إلى موسى أن ألق عصاك﴾ أي فألقاها ﴿فإذا هي﴾ من حين إلقائه لها ﴿تلقف﴾ أي تلتقم التقاماً حقيقياً شديداً سريعاً جداً بما دل عليه حذف التاء، ودل على كثرة ما صنعوا بقوله: ﴿ما يأفكون*﴾ أي يجددون حين إلقائهم في تزويره وقلبه عن وجهه، فابتلعت ما كان ملء الوادي من العصيّ والحبال، ثم أخذها موسى عليه السلام فإذا هي كما كانت لم يزد شيء من مقدارها على ما كانت عليه، وفي هذا السياق المعلم بتثبت موسى السلام بعد عظيم ما رأى من سحرهم إلى الإيحاء إليه بيان لأدبه عليه السلام في ذلك المقام الضنك وسكونه تحت المقاربة مع مرسله سبحانه إلى بروز أوامره الشريفة.
28
ولما علم أن ما صنعوه إنما هم خيال، وما صنعه موسى عليه السلام أثبت من الجبال، سبب معقباً قوله: ﴿فوقع الحق﴾ أي الذي لا شيء أثبت منه، فالواقع يطابقه لأن باطن الأمر مطابق لما ظهر منه من ابتلاعها
28
لأمتعتهم فالإخبار عنه صدق، وفيه تنبيه على أن فعلهم إنما هو خيال بالنسبة إلى ظاهر الأمر، وأما في الباطن والواقع فلا حقيقة له، فالإخبار عن تحرك ما ألقوه كذب.
ولما أخبر عن ثبات الحق، أتبعه زوال الباطل فقال: ﴿وبطل﴾ بحيث عدم أصلاً ورأساً ﴿ما كانوا يعملون*﴾ فدل بكان والمضارع على أنهم - مع بطلان ما عملوا - نسوا علمهم بحيث إنه أسند عليهم باب العمل بعد أن كان لهم به ملكة كملكة ما هو كالجبلة - والله أعلم؛ ثم سبب عن هذا قوله: ﴿فغلبوا هنالك﴾ أي عند هذا الأمر العظيم العالي الرتبه ﴿وانقلبوا﴾ أي جزاء على قلبهم لتلك الحقائق عن وجوهها حال كونهم ﴿صاغرين*﴾ أي بعد أن كانوا - عند أنفسهم ومن يقول بقولهم وهوالأغلب - عالين، ولا ذل ولا صغار أعظم في حق المبطل من ظهور بطلان قوله على وجه لا يكون فيه حيلة.
ولما كان الأدب وذل النفس لا يأتي إلا بخير، لأنه اللائق بالعبيد، قاد كثيراً منهم إلى السعادة الأبدية، فلذلك قال: ﴿وألقي السحرة﴾ أي ألقاهم ملقى الخوف من الله والشوق إلى الخضوع بين يديه والذل لديه حين عرفوا أن ما فعله موسى عليه السلام أمر سماوي، صدق الله تعالى به موسى عليه السلام في أنه رسوله، ولم يتأخروا بعد ذلك أصلاً حتى كأنهم خروا من غير اختيار ﴿ساجدين*﴾ شكراً لله تعالى وانسلاخاً عن الكفر ودليلاً على أقصى غايات الخضوع، فعل الله ذلك بهم حتى
29
تبهر به فرعون وملأه وتحير عقولهم.
ولما كانوا بمعرض التشوف العظيم إلى معرفة قولهم بعد فعلهم، أخبر عن ذلك سبحانه بقوله: ﴿قالوا﴾ أي حال إلقائهم للسجود ﴿آمنّا﴾ أي كلنا ﴿برب العالمين*﴾ أي الذي خلق فرعون ومن قبله وما يعيشون به؛ ثم خصوا من هداهم الله على أيديهما تصريحاً بالمراد وتشريفاً لهما فقالوا: ﴿رب موسى﴾ ثم أزالوا الشبهة بحذافيرها - لأن فرعون ربما ادعى بتربية موسى عليه السلام أنه المراد - بقولهم: ﴿وهارون*﴾ وفي الآية دليل على أن ظهور الآية موجب للإيمان عند من ظهرت له، ولو أن الرسول غير مرسل إليه.
ولما صرحوا بالذي آمنوا به تصريحاً منع فرعون أن يدلس معه بما يخيل به على قومه، شرع في تهديدهم على وجه يمكر فيه بقومه ويلبس عليهم إيقافاً لهم عن المبادرة إلى الإيمان - كما بادر السحرة - إلى وقت ما، فاستأنف الخبر عنه سبحانه بقوله مصرحاً باسمه غير مضمر له كما في في غير هذه السورة لأن مقصود السورة الإنذار، وهو أحسن الناس بالمناداة عليه في ذلك المقام، وقصته مسوفة لبيان فسق الأكثر، وهو أفسق أهل ذلك العصر: ﴿قال فرعون﴾ منكراً عليهم موبخاً لهم بقوله: ﴿آمنتم﴾ أي صدقتم ﴿به﴾ أي بموسى تصديقاً آمنه من رجوعكم
30
عنه، ومن أخبر أراد الاستفهام، وأوهم فرعون من فهم عنهم من القبط إرادة الإيمان لأجل ما رأوا من دلائل صدق موسى عليه السلام واقتداء بالسحرة بقوله: ﴿قبل أن آذن لكم﴾ ليوقفهم من خطر المخالفة له بما رجاهم فيه من إذنه، فلما ظن أنهم وقفوا خيلهم بما يذهب عنهم ذلك الخاطر أصلاً ورأساً بقوله مؤكداً نفياً لما على قوله من لواتح الكذب: ﴿إن هذا لمكر﴾ أي عظيم جداً، وطول الكلام تبييناً لما أرادوا وتنسية لخاطر الإيمان فقال: ﴿مكرتموه في المدينة﴾ أي على ميعاد بينكم وبين موسى، وحيلة احتلتموها قبل اجتماعكم، وليس إيمانكم لأن صدقه ظهر لكم؛ ثم علل بما يتعلق به فكرهم وتشوش قلوبهم فقال: ﴿لتخرجوا﴾ أي أنتم وموسى عليه السلام ﴿منها أهلها﴾ وتسكنوها أنتم وبنو إسرائيل.
ولما استتب له ما أراد من دقيق المكر، شرع في تهديدهم بما يمنع غيرهم وربما ردهم، فقال مسبباً عن ذلك: ﴿فسوف تعلمون*﴾ أي بوعد لا خلف فيه ما أفعل بكم من عذاب لا يحتمل، ثم فسر ما أجمل من هذا الوعيد بقوله: ﴿لأقطعن أيديكم﴾ أي اليمنى مثلاً ﴿وأرجلكم﴾ أي اليسرى، ولذلك فسره بقوله: ﴿من خلاف﴾ أي يخالف الطرف -
31
الذي تقطع منه اليد - الطرف الذي تقطع منه الرجل.
ولما كان مقصود هذه السورة الإنذار، فذكر فيها ما وقع لموسى عليه السلام والسحرة على وجه يهول ذكر ما كان من أمر فرعون على وجه يقرب من ذلك، فعبر بحرف التراخي لأن فيه - مع الإطناب الذييكون شاغلاً لأصحابه عما أدهشهم مما رأوه - تعظيماً لأمر الصلب. فيكون أرهب للسحرة ولمن تزلزل بهم من قومه فقال: ﴿ثم لأصلبنكم﴾ أي أعلقنكم ممدودة أيديكم لتصيروا على هيئة الصليب، أو حتى يتقاطر صليبكم وهو الدهن الذي فيكم ﴿أجمعين*﴾ أي لا أترك منكم أحداً لأجعلكم نكالاً لغيركم.
32
ولما كان حالاً يشوق النفوس إلى جوابهم، استأنفه بقوله: ﴿قالوا﴾ أي أجمعون، لم يرتع منهم إنسان ولا تزلزل عما منحه الله به من رتبة الإيمان ﴿إنا إلى ربنا﴾ أي الذي ما زال يحسن إلينا بنعمه الظاهرة والباطنة حتى جعل آخر ذلك أعظم النعم، لا إلى غيره ﴿منقلبون*﴾ أي بالموت انقلاباً ثابتاً لا انفكاك لنا عنه إن صلبتنا أو تركتنا، لا طمع لنا في البقاء في الدنيا، فنحن لا نبالي - بعد علمنا بأنا على حالة السعداء - بالموت على أيّ حالة كان، أو المراد أنا ننقلب إذا قتلتنا إلى من يحسن إلينا بما منه الانتقام منك، ولذلك اتبعوه بقولهم: ﴿وما تنقم﴾ أي تنكر ﴿منا﴾ أي فعلك ذلك بنا وتعيب علينا ﴿إلا أن آمنا﴾
32
أي إلا ما هو أصل المفاخر كلها وهو الإيمان ﴿بآيات ربنا﴾ أي التي عظمت بكونها صادرة عنه ولم يزل محسناً إلينا فوجب علينا شكره ﴿لما﴾ أي حين ﴿جاءتنا﴾ لم نتأخر عن معرفة الصدق المصدَّق، وهذا يوجب الإكرام لا الانتقام؛ ثم آذنوه بأنهم مقدمون على كل ما عساه أن يفعل به فقالوا: ﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا القادر على خلاصنا ﴿أفرغ﴾ أي صب صباً غامراً ﴿علينا﴾ أي فيما تهددنا به هذا الذي قويته علينا ﴿صبراً﴾ أي كثيراً تغمرنا به كما يغمر الماء من يفرغ عليه حتى لا يروعنا ما يخوفنا به ﴿وتوفنا﴾ أي اقبض أرواحنا وافية حال كوننا ﴿مسلمين*﴾ أي عريقين في الانقياد بالظاهر والباطن بدلائل الحق، والظاهر أن الله تعالى أجابهم فيما سألوه تلويحاً بذكر الرب فلم يقدره عليهم لقوله تعالى ﴿أنتما ومن اتبعكما الغالبون﴾ [القصص: ٣٥] ولم يات في خبر يعتمد أنه قتلهم، وسيأتي في آخر الحديد، عن تاريخ ابن عبد الحكم ما هو صريح في خلاصهم.
ولما قنع فرعون في ذلك الوقت الذي بهرت قومه تلك المعجزة الظاهرة بالانفصال على هذا الوجه الذي لم يدع فيه حيلة إلا خيل بها، وخلص موسى عليه السلام بقومه متمكناً منهم بعض التمكن، وكان السياق
33
لبيان أن أكثر الخلق فاسق، أخبر تعالى بما قال قوم فرعون بعدما رأوا من المعجز القاهر دليلاً على ذلك، فقال عاطفاً على ﴿وألقي السحرة ساجدين﴾ وما بعده، أو على قول فرعون: ﴿وقال الملأ﴾ أي الأشراف ﴿من قوم فرعون﴾ أي ظانين أن فرعون متمكن مما يريد بموسى عليه السلام من الأذى منكرين لما وصل إليه الحال من أمر موسى عليه السلام حين فعل ما فعل وآمن به السحرة، وما عمل فرعون شيئاً، لا قتله ولا حبسه، لأنه كان لا يقدرعلى ذلك ولا يعترف به لقومه ﴿أتذر موسى وقومه﴾.
ولما كان ما كان في أول مجلس من إيمان السحرة جديراً بأن يجر إليه أمثاله، سموه فساداً وجعلوه مقصوداً لفرعون إحماء له واستغضاباً فقالوا: ﴿ليفسدوا﴾ أي يوقعوا الفساد وهو تغيير الدين ﴿في الأرض﴾ أي التي هي الأرض كلها، وهي أرضنا هذه، أو الأرض كلها، لكون مثل هذا الفعل جديراً برد أهل الأرض كلهم عن عقائدهم ﴿ويذرك وآلهتك﴾ قيل: كان أمر قومه أن يعبدوا الأصنام تقرباً إليه، وقال الإمام: الأقرب أنه كان دهرياً منكراً لوجود الصانع، وكان يقول: مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب، وأنه المخدوم في العالم للخلق أو لتلك الطائفة والمربي لهم؛ ثم قال: وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال: إنه كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب ويعبدها على ما هو دين عبدة الكواكب انتهى.
ولذلك قال: ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ [النازعات: ٢٤]، - هكذا قيل،
34
وهو ظاهر عبارة التوارة الآتية في آية القمل، ولكن إرادته غير ملائمة لهذه المعادلة، بل الظاهر أنه كان سمى أمراءة آلهة، وسمى لكل أمير قوماً يتألهونه أي يطيعونه، فإنه نقل عنهم أنهم كانوا يسمون الحاكم بل والكبير إلهاً كما سيأتي عن عبارة التوارة، فحيث وقعت الموازنة بين موسى عليه السلام وقومه وبين فرعون وقومه، عبر بالآلهة تعظيماً لجانبه بالإشارة إلى أنه إله أي حاكم معبود، ليس وراءه منتهى وملؤه كلهم آلهة أي حكام دونه، وموسى عليه السلام ليس بإله ولا في قومه إله بل هم محكوم عليهم فهم ضعفاء فكيف يتركون! وحيث نفي الإلهية عن غيره فبالنظر إلى خطابه للملأ ﴿ما علمت لكم من إله غيري﴾ [القصص: ٣٨] وحيث حشر الرعية ناداهم بقوله ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ [النازعات: ٢٤] وكأن ذلك كان يطلق على الحاكم مجازاً، فجعلوه حقيقة وصاروا يفعلون ما يختص به الآلهة من التحليل والتحريم كما قال تعالى ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله﴾ [التوبة: ٣١] فكفروا بادعاء الربوبية بمعنى العبودية، ونفي المعبود الحق بدليل آية ﴿ما عملت﴾، والحاصل أنهم عيروه بالرضى بأن يكون رئيساً على القبط وموسى عليه السلام رئيساً على بني إسرائيل فيكونوا بهذه المتاركة
35
أكفاء للقبط.
ولما أعجزه الله سبحانه أن يفعل أكثر مما كان يعمل قبل مجيء موسى عليه السلام لما يراد به من الاستدراج إلى الهلاك، أخبر عنه سبحانه بما يفهم ذلك فقال مستأنفاً: ﴿قال﴾ أي فرعون ﴿سنقتل﴾ أي تقتيلاً كثيراً ﴿أبناءهم﴾ أي كما كنا نفعل ﴿ونستحيي نساءهم﴾ أي نبقيهم أحياء إذلالاً لهم وأمناً من غائلتهم في المستقبل ﴿وإنا فوقهم﴾ أي الآن ﴿قاهرون*﴾ ولا أثر لغلبة موسى لنا في هذه المناظر لئلا تتوهم العامة أنه المولود الذي تحدث المنجمون والكهنة بذهاب ملكهم على يده فيثبطهم ذلك عن الطاعة، موهماً بهذا أن تركه لأذى موسى عليه السلام لعدم التفاته؟ إليه، لايعجزه شيء عنه.
ولما كان هذا أمراً يزيد من قلق بني إسرائيل لما شموا من رائحة الفرج، استأنف سبحانه الخبر عما ثبتهم به موسى عليه السلام قائلاً: ﴿قال موسى لقومه﴾ أي بني إسرائيل الذين فيهم قوة وقيام فيما يريدون من الأمور لو اجتمعت قلوبهم ﴿استعينوا﴾ أي ألصقوا طلب العون ﴿بالله﴾ الذي لا أعظم منه بما يرضيه من العبادة ﴿واصبروا﴾ ثم علل ذلك بأنه فعال لما يريد، ولا اعتراض عليه ولا مفر من حكمه فقال:
36
﴿إن الأرض﴾ أي كلها مصر وغيرها ﴿لله﴾ أي الذي لا أمر لأحد معه، كرره تذكيراً بالعظمة وتصريحاً وتبركاً؛ ثم استأنف قوله: ﴿يورثها من يشاء من عباده﴾.
ولما أخبر أن نسبة الكل إليه واحدة، أخبر بما يرفع بعضهم على بعض فقال: ﴿والعاقبة﴾ أي والحال أن آخر الأمر وإن حصل بلاء ﴿للمتقين*﴾ أي الذين يقون أنفسهم سخط الله بعمل ما يرضيه فلا عبرة بما ترون في العاجل فإنه قد يكون استدراجاً.
37
ولما تشوف السامع إلى ما كان من جوابهم، أشار تعالى أن قلقهم كان وصل إلى حد لا صبر معه بقوله مستأنفاً: ﴿قالوا﴾ ولما كان الموجع هو الأذى، لا كونه من معين، بنوا للمفعول قولهم: ﴿أوذينا﴾ أي بالقتل والاستعباد.
ولما كان أذاهم غير مستغرق للزمان، أثبتوا الجارّ فقالوا: ﴿من قبل أن تأتينا﴾ أي كما تعلم ﴿ومن بعد ما جئتنا﴾ أي فما الذي أفادنا مجيئك ﴿قال﴾ مسلياً لهم وداعياً ومرجياً بما رمز إليه من قبل ﴿عسى ربكم﴾ أي الذي أحسن إلى آبائكم بما تعرفون وإليكم بإرسالي إليكم ﴿أن يهلك عدوكم﴾ فلا يهولنكم ما ترون ﴿ويستخلفكم﴾ أي ويوجد خلافتكم لهم متمكنين، لا يحكم عليكم غيركم ﴿في الأرض﴾ أي جنسها إن كنتم متقين؛ ثم سبب عن الاستخلاف قوله مذكراً لهم محذراً من
37
سطواته سبحانه: ﴿فينظر﴾ أي وأنتم خلفاء متمكنون ﴿كيف تعملون*﴾ أي يعاملكم معاملة المختبر وهو في الأزل أعلم بما تعملون منكم بعد إيقاعكم للأعمال، ولكنه يفعل ذلك لتقوم الحجة عليكم على مجاري عاداتكم.
ولما رجاهم موسى عليه السلام بذلك، أخبر سبحانه أنه فعل ما أخبرهم به، فذكر مقدماته فقال: ﴿ولقد﴾ أي قال لهم ما قال والحال أنا وعزتنا قد ﴿أخذنا﴾ أي قهرنا ﴿آل فرعون﴾ ولينّا عريكتهم وسهلنا شكيمتهم ﴿بالسنين﴾ أي بالقحط والجوع، فإن السنة يطلق بالغلبة على ذلك كما تطلق على العام؛ ولما كانت السنة تطلق على نقص الحبوب، صرح بالثمار فقال، ﴿ونقص من الثمرات﴾ أي بالعاهات إن كان الماء كثيراً، أو السنة للبادية والنقص للحاضرة ﴿لعلهم يذكرون*﴾ أي ليكون حالهم حال من يرجو ناظره أن يتذكر في نفسه ولو بأدنى وجوه التذكر - بما أشار إليه الإدغام، فإن الضر يزيل الشماخة التي هي مظنة الوقوف مع الحظوظ ويوجب للإنسان الرقة فيقول: هذا إنما حصل لي بسبب تكذيبي لهذا الرسول وعبادتي من لا يكشف السوء عن نفسه ولا غيره.
ولما لم يتذكروا ولا لانوا، سبب عن أخذهم قوله معرفاً بغباوتهم
38
معبراً في الخير بأداة التحقيق إشارة إلى أنه أغلب من الشر، حثاً على الشكر: ﴿فإذا﴾ أي فما تسبب عن ذلك إلا أنهم كانوا إذا ﴿جاءتهم الحسنة﴾ أي الحالة الكاملة التي يحبونها من الخصب وغيره، وعرفها بعد تحقيقها إشارة إلى إكمالها ﴿قالوا لنا هذه﴾ أي نحن حقيقون بها، ودل على أن الخير أكثر من غيره بقوله بأداة الشك مع التنكير: ﴿وإن تصبهم سيئة﴾ أي حالة يكرهونها.
ولما كانت افصابة بالسيئات تخصهم ولا يلحق بني إسرائيل منها شيء، فكان إظهارهم للتطير بهم ظاهراً في ردهم عليهم وتكذيبهم فيه، أشار سبحانه بإدغام التاء إلى أنهم كانوا إنما يدسونه إلى من يمكنهم اختداعه من الجهلة والأغبياء على وجه الحلية والخفاء، بخلاف ما في يس فقال: ﴿يطيروا﴾ أي يتشاءموا ﴿بموسى ومن معه﴾ أي بأن يقولوا: ما حصل لنا هذا السوء إلا بشؤمهم، وهو تفعل من الطير، وهو تعمد قصد الطير لأن يطير للتفاؤل به خير أو شر، وأصله أن العرب كانوا إذا مر الطائر من ميامنهم إلى جهة مياسرهم قالوا: بارح، أي مشؤوم، من البرح وهو الشدة، فإذا طار من جهة اليسار إلى جهة اليمين عدوه مباركاً، قالوا: من لي بالسانح بعد البارح، أي بالمبارك بعد المشؤوم، وعرف أن المراد هنا التشاؤم لاقترانه بالسيئة.
ولما كذبوا في الموضعين، قال مستأنفاً على وجه التأكيد:
39
﴿ألا إنما طائرهم﴾ أي قدرهم الذي سبق في الأزل من الخير والشر فلا يزداد ولا ينقص ﴿عند الله﴾ أي الملك الذي لا أمر لغيره وقد قدر كل شيء، فلا يقدر على المجيء به غيره أصلاً ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون*﴾ أي لا علم لهم أصلاً فهم لا يهتدون إلى ما ينفعهم ويظنون أن للعباد مدخلاً في ذلك، فلذلك تراهم يضيفون الأشياء إلى أسباب يتوهمونها.
ولما كان هذا الذي قالوه يدل على سوء المزاج وجلافة الطباع بما لا يقبل العلاج، أتبعه ما هو شر منه، وهو أنهم جزموا بأنه كلما أتاهم شيء في المستقبل قابلوه بالكفر فقال: ﴿وقالوا مهما﴾ هي مركبة من «ما» مرتين: الأولى الشرطية والثانية تأكيد. قلبت ألف الأولى هاء استثقالاً، قيل: مه هي الصوت الذي يكون للكف وما الشرطية، أي كف عنك ما أنت فيه. ثم استأنفوا «ما» ﴿تأتنا به﴾ أي في أيّ وقت وعلى أيّ حالة كان؛ ثم بينوا المأتي به بقولهم: ﴿من آية﴾ أي علامة على صدقك، وهذا على زعمه، ولذلك عللوه بقولهم: ﴿لتسحرنا﴾ أي لتخيل على عقولنا ﴿بها﴾ وتلفتنا عما نحن عليه إلى ما تريد فنحن نسميها سحراً وأنت تسميها آية؛ ثم أجابوا الشرط بقولهم: ﴿فما نحن﴾ أي كلنا ﴿لك﴾ أي خاصة ﴿بمؤمنين*﴾ أي من أن نكذبك.
40
ولما بارزوا بهذه العظمية، استحقوا النكال فسبب عن ذلك قوله:
40
﴿فأرسلنا عليهم﴾ أي عذاباً لهم - لما يفهمه حرف الاستعلاء ﴿الطوفان﴾ أي الرعد والبرق والنار مع المطر والبرد الكُبار الذي يقتل البقر فما دونها، والظلمة والريح الشديدة التي عمت أرضهم وطافت بها؛ ولما كان ذلك ربما أخصبت به الأرض، أخبر أنه أرسل ما يفسد ذلك فقال: ﴿والجراد﴾.
ولما كان الجراد ربما طار وقد أبقى شيئاً، أخبر بما يستمر لأزقاً في الأرض حتى لا يدع بها شيئاً فقال: ﴿والقمل﴾ قال في القاموس: القمل كالسكر: صغار الذر والدبى الذي لا أجنحة له - وهو أصغر الجراد أو شيء صغير بجناح أحمر، وشيء يشبه الحلم خبيث الرائحة أو دواب صغار كالقردان يعني القراد. وقال البخاري في بني إسرائيل من صحيحه: القمل: الحمنان يشبه صغار الحلم.
ولما ربما كان عندهم شيء مخزوناً لم يصل إليه ذلك، أخبر بما يسقط نفسه في الأكل فيفسده أو ينقصه فقال: ﴿والضفادع﴾ فإنها عمت جميع أماكنهم، وكانت تتساقط في أطعمتهم، وربما وثبت إلى أفواههم حين يفتحونها للأكل.
ولم تم ما يضر بالماكل، أتبعه ما أفسد المشرب فقال: ﴿والدم﴾ فإن مياههم انقلبت كلها دماً منتناً، وعم الدم الشجر والحجارة وجميع
41
الأرض في حق القبط، وأما بنو إسرائيل فسالمون من جميع ذلك.
ولما ذكر تعالى هذه الآيات العظيمة، نبه على عظمتها بذكر حالها فقال: ﴿آيات﴾ أي علامات على صدقه عظميات ﴿مفصلات﴾ أي يتبع بعضها بعضاً، وبين كل واحدة وأختها حين يختبرون فيه مع أن مغايرة كل واحدة لأختها في غاية الظهور، وكذا العلم بأنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره.
ولما كانت حقيقة بان يتسبب عنها الإيمان عند سلامة القلب، سبب عنها قوله: ﴿فاستكبروا﴾ مبيناً أن الذي منعهم من الإيمان مرض القلب بالكبر والطغيان ﴿وكانوا قوماً مجرمين*﴾ أي في جبلتهم قطع ما ينبغي وصله مع قوتهم على ما يحاولونه.
ولما كان هذا في الحقيقة نقضاً لما أخذه الله على العباد بعهد العقل، أتبعه نقضاً حقيقياً، فقال مبيناً لحالهم عند كل آية، ولعله عبر بما يشملها ولم ينص على التكرار لأن ذلك كاف فيما ذكر من النقض والفسق: ﴿ولما وقع عليهم الرجز﴾ يعني العذاب المفصل الموجب للاضطراب ﴿قالوا يا موسى ادع لنا ربك﴾ أي المحسن إليك، ولم يسمحوا كبراً وشماخة أن يعرفوا به ليقولوا: ربنا ﴿بما عهد عندك﴾ أي من النبوة التي منها هذا البر الذي تراه يصنعه بك؛ ثم أكدوا العهد بقولهم استئنافاً
42
أو تعليلاً: ﴿لئن كشفت عنا الرجز﴾ أي العذاب الذي اضطربت قلوبنا وجميع أحولنا له ﴿لنؤمنن لك﴾ أي لنجعلنك آمناً من التكذيب بإيقاع التصديق، ويكون ذلك خالصاً لأجلك وخاصاً بك ﴿ولنرسلن معك﴾ أي في صحبتك، لا نجس أحداً منكم عن الآخر ﴿بني إسرائيل*﴾ أي كما سألت؛ ودل على قرب الإجابة بالفاء في قوله: ﴿فلما كشفنا﴾ أي بعظمتنا ﴿عنهم الرجز﴾ كرره تصريحاً وتهويلاً، ومددنا الكشف ﴿إلى أجل﴾ أي حد من الزمان ﴿هم بالغوه﴾ أي في علمنا ﴿إذا هم﴾ أي بضمائرهم التي تجري ظواهرهم على حسبها ﴿ينكثون*﴾.
ولما أخبر أنهم فاجؤوا النكث وكرروه، سبب عنه قوله: ﴿فانتقمنا منهم﴾ أي انتقاماً ليس كذلك الذي كنا نؤذيهم به، بل انتقام إهلاك عبرة لوصولهم بعد كشف جميع الشبه إلى مخص العناد؛ ثم فسره بقوله: ﴿فأغرقناهم﴾ بما لنا من العظمة ﴿في اليم﴾ أي في البحر الذي يقصد لمنافعة ﴿بأنهم﴾ أي بسبب أنهم ﴿كذبوا بآياتنا﴾ أي على ما لها من العظمة بما عرف من صحة نسبتها إلينا، ودل سبحانه على أنهم كذبوا بغير شبهة عرضت لهم بل عناداً بقوله: ﴿وكانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿عنها غافلين*﴾ أي يكون حالهم بعدها كحالهم قبلها، فكأنها لم تأتهم أصلاً فاستحقوا الأخذ لوقوع العلم بأن الآيات لا تفيدهم.
ولما أخبر عن إهلاكهم، عطف عليه ما صنع ببني إسرائيل فقال:
43
﴿وأورثنا﴾ أي بعد إهلاكهم بما لنا من العظمة ﴿القوم﴾ ولما اشار بهذه العبارة - التي معناها أنه كانت فيهم قوة وكثرة وشدة عزم على ما يحاولونه ويقومون به - إلى أنه هو الذي أذلهم لا فرعون، أتبعه ما يدل عليه فقال: ﴿الذين كانوا يستضعفون﴾ أي يطلب ضعفهم ويوجد بالشوكة واجتماع الكلمة بحاكم قد تمكنت عظمته في القلوب التي الوهم غالب عليها، وهم بنو إسرائيل ﴿مشارق الأرض﴾ أي الكاملة لبركاتها ﴿ومغاربها﴾ أي أرض الشام من الفرات إلى بحر سوف: الموضع الذي خرجوا منه من البحر وغرق فيه فرعون وآله - كما مضى نقله في المائدة عن التوارة، يعني حكمنا بإيراثهم ذلك وأنجزناه لأبناء الذين خرجوا من مصر بعد إهلاكهم في التيه؛ ثم وصفها تغبطاً بها بقوله: ﴿التي باركنا فيها﴾ أي في أرضها بالمياه والأشجار والثمار والخصب، وفي أرزاقها بالكثرة والطيب، وفي رجالها بالعلم والنبوة وفي طباعهم بالاستقامة، وفي عزائمهم بالنجدة والشجاعة والمكارم، وفي جميع أحوالهم بأنه لا يبغيهم ظالم إلا عوجل بالنقمة ﴿وتمت﴾ أي وجدت صحتها لوجود مضمونها في عالم الشهادة وظهوره من ستور الغيب ﴿كلمت ربك﴾ أي المحسن إليك بإنزال هذه الأنباء على هذه الوجوه المفيدة مع إعجازها لغاية العلم والحكمة ﴿الحسنى﴾ مستعلية ﴿على بني إسرائيل*﴾
44
أي التي هي أحسن الكلام وهي وعده سبحانه لهم بالخلاص من العبودية وإيراثهم مساكن آبائهم كما كانوا يسمعون من أسلافهم، وإذا استعلت عليهم منعت أعداءهم من الوصول إليهم ﴿بما صبروا﴾ أي بسبب صبرهم على الاستعباد وذبح الأولاد وما حصل بعد ذلك من طويل الأنكاد ﴿ودمرنا﴾ أي أهلكنا إهلاكاً عظمياً جعل يدمره كالرماد، لا خير فيه أصلاً ﴿ما كان يصنع﴾ أي صنعاً بغاية الإقبال عليه حتى كأنهم خلقوا لهم ﴿فرعون وقومه﴾ أي من الصنائع الهائلة المعجبة لكل من يراها أو يسمع بها مع أنهم قد مرنوا عليها فصارت أسهل شيء عندهم ﴿وما كانوا﴾ أي بما هو كالجبلة والطبع ﴿يعرشون*﴾ أي من الجنان والقصور العالية الأركان، وكفى بهذه الآية حاثة على الصبر وضامنة على كل حائز للأجر بالتفريج عن المظلوم ونصره وإهلاك الظلوم وقهره.
شرح ما يحتاج إلى شرحه هنا من التوراة الموجودة الان بين أظهر اليهود، قال مترجماً في الأصحاح الثالث من السفر الثاني ما نصه: وقال الرب لموسى في مدين: انطلق راجعاً إلى مصر لأن الرجال الذين كانوا يطلبون نفسك قد هلكوا جميعاً، فانطلق موسى بامرأته وبينه وحملهم
45
على حماره وأخذ بيده عصا الرب، وقال الرب الموسى: انظر كل آية أجريتها على يدك فاصنعها أمام فرعون وأنا أقسي قلبه فلا يرسل الشعب وقل لفرعون: هكذا يقول الرب: ابني بكري إسرائيل، أرسل ليعبدني، فإن أبيت أن ترسل ابني فإني أقتل ابنك بكري، فلما صار موسى في الطريق في المبيت لقيه ملاك الرب فأخذت صفورا حجراً من حجارة المروة فحشت غرلة ابنها وأخذت برجليه - وفي نسخة السبعين: ووقعت عند رجليه - وقالت: إن اليوم عرس الدم - تعني الختان، فقال الرب لهارون: اخرج فتلق أخاك في القفر، فخرج فلقيه في جبل الله في حوريب فعانقه وقبله، فأخبر موسى هارون بجميع قول الرب الذي أرسله فيه وما أمره من الآيات، وانطلق موسى وهارون، فجمع أشياخ بني إسرائيل، فقص عليهم جميع ما قال الرب لموسى، وحرج جرائح وآيات قدام الشعب - وفي نسخة السبعين: فجمعا مشايخ بني إسرائيل وتكلم هارون بجميع الكلام الذي كلم الله به موسى وعمل الآيات قدام الشعب - فآمن الشعب وسمعوا أن الرب قد ذكر بني إسرائيل وأبصر إلى خضوعهم، وجثا الشعب وسجدوا للرب، ومن بعد هذه الآيات والخطوب دخل موسى وهارون
46
وقالا لفرعون: هكذا يقول الله رب إسرائيل: أرسل شعبي يحجون إلى القفر - وفي نسخة السبعين: ليعبدوني في البرية - عوض: يحجون إلى القفر، فقال فرعون: ومن هو الرب حتى أطيعه؟ لا أعرف الرب ولا أرسل بني إسرائيل، وقالا له: الرب إله العبرانيين اعتلن لنا، فننطلق مسيرة ثلاثة أيام القفر ونذبح الذبائح لله ربنا لكيلا ينزل بنا الحزن والوباء - وفي نسخة السبعين: لئلا يفاجئنا موت أو قتل - قال فرعون: ما بالكما تبطلان الشعب من أعمالهم؟ فأمر فرعون ولاة الشعب وكتبتهم وقال لهم: لا تعودوا أن تعطوا الشعب تبناً لضرب اللبن كما كنتم تعطونهم، بل هم ينطلقون فيجمعون لأنفسهم التبن، وخذوهم بحساب اللبن على ما كنتم تأخذونهم به أمس وأول من أمس - ونسخة السبعين: في كل يوم لا تنقصوهم شيئاً من عملهم لأنهم بطروا لذلك يصيحون فيقولون: ننطلق فنذبح للرب إلهنا - فليشتد العمل على الرجال - ونسخة السبعين - فليتضاعف عمل هؤلاء القوم - حتى يهتموا به ولا يهتموا بكلام الباطل، فخرج ولاة الشعب وكتبتهم يما قال فرعون،
47
فتقرق الشعب في جميع أرض مصر في جميع التبن، وجعل ولاتهم يلحون عليهم ويقولون: ارفعوا إلينا العمل كما كنتم ترفعون من قبل حيث كنتم تعطون التبن، فزادت كتبة بني إسرائيل وعوقبوا من الذين ولوهم عليهم وقالوا: لم لم ترفعوا إلينا حساب اللبن كما كنتم ترفعون، فأتى كتبة بني إسرائيل فشكوا إلى فرعون وقالوا: ما بال عبيدك يصنع بهم هذا الصنيع؟ فقال فرعون: أنتم قوم بطرون، تقولون: ننطلق لنذبح لربنا، فسار - أي الكتبة - في بني إسرائيل وقالوا لهم: لا تنقصوا من لبنكم شيئاً، بل ارفعوا إلينا كما كنتم ترفعون كل يوم، فلقوا موسى وهارون وهما واقفان أمامهم - وفي نسخة السبعين: وهما يجيئان نحوهم إذ خرجوا من بين يدي فرعون - فقالوا لهما: الله يحكم بيننا وبينكما لأنكما حرضتما علينا فرعون وعبيده حتى ضيق علينا بأن يضع السلاح فينا فيقتلنا، فرجع موسى إلى الرب وقال: يارب! لم أسأت بشعبك وأضررت به؟ لأني ساعة أن أتيت فرعون فذكرت اسمك أساء بهذا الشعب وشق عليهم وأنت تخلص شعبك، فقال الرب لموسى: الآن ترى ما أصنع بفرعون لأنه سيرسلهم - وفي نسخة السبعين: وسوف ترى ما أصنع
48
بفرعون وكيف يرسلهم بيد منيعة وبذراع عظيمة يخرجهم من أرض مصر! أنا الرب الذي اعتلنت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وسميت بإله المواعيد ولم أعلمهم اسم الرب - وفي نسخة السبعين: واسمي الرب فلم أظهره لهم - وأثبت عهدي أيضاً ووعدتهم أن أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم التي سكنوها؛ وقد سمعت ضجيج بني إسرائيل من تعبد أهل مصر، وأنجيكم من أعمالهم واخلصكم بيد منيعة وذراع عالية وبأحكام عظيمة، وأختصكم لي شعباً وأكون لكم إلهاً، وتعرفون أني أنا الرب إلهكم الذي أخرجكم من تعبد المصريين وأقبل بكم إلى الأرض التي رفعت يدي لأعطيها آباءكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأجعلها لكم ميرثاً إلى الدهر، أنا الرب! فقال موسى لبني إسرائيل هذه الأقاويل فلم يسمعوا من موسى ولم يطيعوه من شدة حزنهم واستيقاد نفوسهم من الكد الشديد، وكلم الرب موسى وقال له: انطلق إلى فرعون ملك مصر وقل له فيرسل بني إسرائيل - من أرض مصر، فقال موسى للرب: إن بني إسرائيل لا يسمعوني ولا يطيعوني، وأنا أرتّ المنطق ثقيل اللسان فكيف يطيعني فرعون ويسمع مني! فقال الرب لموسى: انظر، إني قد جعلتك إلهاً لفرعون، وهارون أخوك يكون نبياً عليك، أنت تقضي
49
جميع ما آمرك به، وهارون أخوك يقول لفرعون - وفي نسخة السبعين: وهارون أخوك يكون لك نبياً وأنت تتكلم بجميع ما آمرك به وهارون أخوك يكلم فرعون - ليرسل بني إسرائيل من أرضه وأنا أقسي قلب فرعون فأكثر آياتي وعجائبي بأرض مصر، فلا يطيعكما فرعون ولا يسمع منكما فأمد يدي على مصر وأخرج جميع جنودي وشعبي بني إسرائيل من أرض مصر بالأحكام العظام، فيعرف أهل مصر أني أنا الرب، فصنع موسى وهارون كما أمرهما الرب وانتهيا إلى أمره، وكان قد أتى على موسى ثمانون سنة، وكان ابن ثلاث وثمانين سنة إذ كلما فرعون، فقال الرب لموسى وهارون، إن قال لكما فرعون: أظهرا لي آية وجريحة، قل لهارون: خذ عصاك وألقها بين يدي فرعون فتكون تنيناً عظيماً، فأتى موسى وهارون إلى فرعون فصنعا كما أمرهما الرب، فألقى عصاه - وفي نسخة السبعين: فألقى هارون عصاه - بين يدي فرعون وأمام أمرائه- وفي نسخة السبعين: وعبيده - فصارت تنيناً عظيماً، فدعا فرعون بالحكماء والسحرة، فصنع سحرة مصر أيضاً بسحرهم كذلك، فألقى كل امرىء منهم عصاه فصارت تنيناً فابتلعت عصا هارون عصيهم، فقسا قلب فرعون وأبى أن يرسلهم كما قال الرب، وقال الرب لموسى: إن قلب فرعون قد قسا وأبى أن يرسل الشعب، انطلق إلى فرعون بالغداة، هو ذا يخرج ليغتسل على شاطىء البحر، وخذ العصا التي تحولت في يدك ثعباناً
50
وقل: وإن الرب إله العبرانيين أرسلني إليك، يقول لك: أرسل شعبي حتى يعبدني في البرية لأنك حتى الآن لا تسمع ولا تطيع، هكذا يقول الرب: بهذا تعلم أني أنا الرب، هأنذا أضرب ماء النهر بعصاي فيصير دماً، وتموت الحيتان التي في النهر وينتن - وفي نسخة السبعين: ولا يقدر أهل مصر أن يشربوا الماء من هذا النهر - وقال الرب لموسى: مر هارون أن يأخذ عصاه، وارفع يدك على ماء المصريين على أنهارهم وعلى غدرانهم وعلى آجامهم وعلى دواليب مياههم - وفي نسخة السبعين: وقال الرب لموسى: قل لهارون: خذ عصاك ومد يدك على ماء مصر وعلى أنهارها وآجامها ونقارها وعلى كل مائها المستنقع - فيتحول دماً، فيصير الدم في جميع أهل مصر في الأرض والخسب والحجارة، فصنع موسى وهارون كما أمرهما الرب، فرفع هارون العصا التي في يده فضرب بها ماء النهر وفرعون وعبيده ينظرون، فتحول ماء النهر فصار دماً، وماتت الحيتان التي بالنهر، ففسد ماء النهر وأنتن، ولم يقدر أهل مصر على شرب الماء من الدم، فصار الدم في جميع أرض مصر وقسا قلب فرعون فلم يطعهما كالذي قال الرب، فانصرف فرعون فدخل منزله ولم يفكر في شيء من ذلك وتهاون به، وكملت سبعة أيام من بعد ما ضرب الرب النهر، وقال الرب لموسى: انطلق إلى فرعون وقل له: هكذا يقول
51
الرب: أرسل شعبي حتى يعبدوني، فإن أبيت أن ترسله فإني أضرب جميع حدودك بالضفادع فتدب الضفادع فتصعد فتدخل إلى بيتك وقيطونك وفي مبيتك وعلى مضجعك وأسرتك في بيوت عبيدك وشعبك ومخادعك وبيوت طعامك، وتدب الضفادع عليك وعلى جميع شعبك، وقال الرب لموسى: قل لهارون أخيك أن مد يدك بعصاك على الأنهار وعلى الدواليب وعلى الآجام فأصعد الضفادع على أرض مصر، فرفع هارون يده على مياه المصريين فأصعد الضفادع فغشيت أرض مصر، فدعا فرعون موسى وهارون وقال لهما: صليا بين يدي الرب فتنصرف الضفادع عني وعن شعبي حتى أرسل الشعب فيذبحوا بين يدي الرب، فقال موسى لفرعون: سل وقتاً أصلي عليك فيه وعلى عبيدك وشعبك فتنصرف الضفادع عنك وعن بيتك - وفي نسخة السبعين: عنك وعن قومك وعن بيوتك - فقال له غداً فقال له موسى: سيكون كما سألت فتعلم أنه لا إله غير إلهنا، فيصرف الضفادع عنك وعن بيتك - وفي نسخة السبعين: بيوتك وعن عبيدك وعن شعبك ما خلا الضفادع التي في النهر - فخرج موسى وهارون من بين يدي فرعون، فصلى موسى بين يدي الرب فاستجاب الرب لموسى، فماتت الضفادع في الدور والبيوت والرياض
52
فجمعوها أنابير أنابير فأصلّت الأرض وأجنت - وفي نسخة السبعين: فجمعوها صبباً صبباً فأنتنت الأض - فرأى فرعون الفرج والراحة وجفا قلبه فلم يطعهما كالذي قال الرب، فقال الرب لموسى: مر هارون فيرفع عصاه ليضرب ثرى الأرض فيكون القمل في جميع أرض مصر، ففعل ذلك فدب القمل في الناس والبهائم وصار جميع ثرى الأرض قملاً في جميع أرض مصر، فصنع مثل ذلك السحرة بسحرهم فلم يقدروا أن يصرفوا القمل في الناس والبهائم، فقالت السحرة لفرعون: إن هذا فعل رب العالمين، فقسا قلب فرعون ولم يطعهما كما قال الرب، فقال الرب لموسى: أدلج باكراً وقف بين يدي فرعون، وهو ذا يخرج يغتسل - وفي نسخة السبعين: فإنه يخرج إلى الماء - فقل له: هكذا يقول الرب: أرسل شعبي فيعبدوني، فإن أنت أبيت فهأنذا مرسل - وفي نسخة السبعين: فإني مرسل - عليك وعلى شعبك وعلى أهل بيتك هوام وحشرة من كل جنس فتمتلىء - وفي نسخة: ذباب الكلب فتمتلىء - بيوت المصريين من الهوام والحشرة مثل ثرى الأرض التي هم عليها، وأميز في ذلك اليوم أرض جاسان التي يسكنها شعبي، فلا يكون فيها من الهوام والحشرة شيء لتعلم أني أنا الرب، وأميز بين شعبي وشعبك، وتكون هذه الآية غداً،
53
وفعل الرب كذلك وأنزل الهوام على بيت - وفي نسخة: بيوت - فرعون وعبيده وعلى جميع أرض مصر، ففسدت الأرض بالهوام، فدعا فرعون موسى وهارون وقال لهما: انطلقوا فاذبحوا الذبائح لله ربكم في هذه الأرض، فقال موسى: لا يحسن بنا أن نفعل ذلك لأنا إنما نذبح للرب إلهنا من نجاسة المصريين وبدعهم، فإن نحن ذبحنا أمام آلهة المصريين رجمونا، بل ننطلق مسيرة ثلاثة أيام في القفر فنذبح هنالك للرب إلهنا على ما يأمرنا ويقول لنا، فقال فرعون: أنا أرسلكم فتذبحوا الذبائح للرب إلهكم في البرية، ولكن لا تنطلقوا فتتوانوا، بل صلوا عليّ أيضاً - وفي نسخة السبعين: ولكن لاتبعدوا وصلوا عليّ أيضاً إلى ربكم - فقال موسى لفرعون: هأنذا أخرج من بين يديك فأصلي بين يدي الرب، فيصرف الهوام والحشرة عن فرعون وعن عبيده وعن شعبه غداً، ولكن لا يعود فرعون أن يكذب في قوله ويأبى أن يرسل الشعب ليذبحوا الذبائح، فخرج موسى من بين يدي فرعون وصلى بين يدي الرب، فقبل الرب صلاة موسى وصرف الهوام فلم يوجد منها ولا واحد، فقسا قلب فرعون بعد هذا أيضاً ولم يرسل الشعب، فقال الرب لموسى: انطلق إلى فرعون وقل له: هكذا يقول الرب إله العبرانيين: أرسل شعبي حتى يعبدوني، فإن أبيت أن ترسله - وفي نسخة السبعين: وتمسكت به، فإن
54
يد الرب تضرب ماشيتك التي في القفر من الخيول والحمير والبقر والغنم، فيقع فيها الوباء العظيم الصعب الشديد، ويميز الرب بين دواب بني إسرائيل وبين بهائم أهل مصر، فلا يموت من بهائم آل إسرائيل ولا واحد، ووقت الرب وقتاً ليكمل فيه هذا القول على الأرض، فأكمل الرب هذا الأمر من غد ذلك اليوم، فماتت جميع بهائم المصريين ولم يمت من دواب بني إسرائيل ولا واحد، وأرسل فرعون فإذا أنه لم يمت من دواب بني إسرائيل ولا دابة، فقسا قلب فرعون بعد هذا أيضاً فأبى أن يرسل الشعب، فقال الرب لموسى وهارون: خذا في حقيبتكما من رماد الأتون فيذره موسى إزاء السماء نحو فرعون، فيكون العجاج في أرض مصر، فيضرب الناس والبهائم جميعاً قروح ناتية رخوة في أرض مصر كلها، فأخذا رماد الأخدود ووقفا بين يدي فرعون فذره موسى نحو السماء أمام فرعون فظهرت قروح ناتية رخوة، فاستعلت في الناس والبهائم، فلم يقدر السحرة على الوقوف بين يدي موسى من كثرة القروح التي ظهرت في السحرة وفي جميع أهل مصر، فقسى الرب قلب فرعون فلم يسمع لهما ولم يطعهما كالذي قال الرب لموسى، فقال الرب لموسى: أدلج باكراً وقف بين يدي فرعون وقل له: هكذا يقول الرب إله العبرانيين:
55
أرسل شعبي فيعبدوني وإلا فأنا مرسل في هذا الوقت ضربتي على قلبك وعلى عبيدك وعلى شعبك لتعلم أنه لا إله غيري على الأرض كلها، لأني مجمع من الآن أن أمد يدي فأضربك وشعبك بالوباء، وتبيد عن جديد الأرض، وإنما بغيتك بهذا الأمر لأظهر لك عزي وقدري ولينادي باسمي في الأرض كلها، وأنت حتى الآن تتمسك بالشعب وتأبى أن ترسله، وغداً في هذا الوقت أهبط البرد العظيم الشديد ما لم يكن - وفي نسخة السبعين: الذي لم يكن مثله - بمصر منذ اليوم الذي أسست فيه قواعدها إلى يوم الناس هذا، والآن أرسل فأدخل جميع دوابك وكل مالك في الحقل لأن كل بهيمة أو إنسان يلقى في الحقل ولا يدخل البيت يهبط عليهم البرد فيموتون، وكل من خاف كلمة الله من عبيد فرعون نقل عبيده وبهائمه إلى البيوت، والذي لم يفكر في كلمة الله وتهاون بها ترك دوابه وعبيده في الحقل، وقال الرب لموسى: ارفع يدك إلى السماء يهبط البرد على جميع أرض مصر على الناس والبهائم وجميع الحقول - وفي نسخة السبعين: على الناس والدواب وجميع نبات الصحراء - فرفع موسى عصاه نحو السماء فأرجفهم الرب بالرعد والبرد، وجعلت النار تضطرم على الأرض، فأهبط الرب البرد وكان البرد يهبط والنار تضطرم في البرد، وكان شديداًعظيماً، ولم يكن مثله في جميع أرض مصر منذ اليوم الذي سكنها بنو البشر، فضرب البرد جميع أرض مصر لكل من
56
كان في الحقل من الناس والبهائم، وأهلك الرب جميع عشب الحقل وحطم جميع أشجار الغياض، فأما أرض جاسان التي كانت آل إسرائيل يسكنونها فلم يهبط عليها البرد، فأرسل فرعون فدعا موسى وهارون فقال لهما: قد خطئت في هذه المرة أيضاً، والرب بار وأنا وشعبي منافقون - وفي نسخة السبعين: إني قد أخطأت والرب بار وأنا وشعبي فجار- فصليا بين يدي الرب فإنه ذو إمهال وأناة فيصرف عنا الرجفة والرعد والبرد فأرسلكم فلا تعودوا أن تتأخروا - وفي نسخة السبعين: وأنا أرسلكم ولا أعود أن أوخركم - فقال موسى لفرعون: إذا ما خرجت من القرية أبسط يدي للرب فيصرف عنكم صوت الرعد والرجفة، ولا يعود البرد يهبط أيضاً لكي تعلم أن الأرض وما عليها لله.
وأنا أعلم أنك وعبيدك إلى الآن لم ترهبوا الله ولم تخافوا عقابه، وقد هلك الكتان والشعير - وفي نسخة السبعين: وضرب البرد الشعير والكتان - لأن الشعير كان قد بدأ أن يسبل، والكتان قد بدأ أن يبزر، فأما زرع الحنطة والكثيب فلم يهلك لأنه كان متأخراً، فلما جاء موسى من القرية من بين يدي فرعون بسط - وفي نسخة السبعين: فأما زرع الحنطة والذرة فإنه لم يضرهما لأنهما كانا لقسا، وخرج موسى من عند فرعون خارج المدينة فبسط - يديه بين يدي الله نحو السماء فصرف عنهم الرعد والبرد، وانقطع المطر عن
57
الأرض، فرأى فرعون أن القطر والبرد والرعد قد انقطع وسكن فعاد وخطأ وقسا قلب فرعون وعبيده - وفي نسخة السبعين: وقسا قلبه وقلب عبيده وجفا - ولم يرسل بني إسرائيل كرسالة الرب - وفي نسخة السبعين: على ما تكلم به الرب على يد موسى - فقال الرب لموسى: انطلق إلى فرعون لأني أنا الذي أقسي قلبه وقلوب عبيده، فأظهر هذه الآيات لتجر بنيك وبني بنيك بما صنعت بأهل مصر من الآيات الكثيرة التي أظهرت، فيعلموا أني أنا الرب، فأتى موسى وهارون إلى فرعون وقالا له: هكذا يقول الرب إله العبرانيين: حتى متى تأبى أن تخافني وترهبني! أرسل شعبي ليعبدوني، فإن أبيت أن ترسل شعبي فهأنذا محدر على جميع تخومك الجراد - وفي نسخة السبعين: فإني أجلب عليك غداً هذا الوقت جراداً عظيماً على جميع حدودك - فيغطي عين الأرض فلا يقدر إنسان على النظر إلى الأرض، فمهما أبقى لكم البرد أكله، ويأكل جميع الشجر التي تنبت لكم في الحقل، ويمتلىء منه بيوتك وبيوت عبيدك وبيوت جميع المصريين ما لم ير مثله آباؤك وأجدادك من اليوم الذي أسست الأرض إلى يوم الناس هذا، ورجعا من بين يدي فرعون فقالفرعون لعبيده: حتى متى يكون لنا هذه العثرة! يرسل القوم فيعبدون - وفي نسخة السبعين: فقال عبيد فرعون لفرعون: حتى متى يكون
58
لنا هذا البلاء! أرسل القوم فيعبدوا - الرب إلههم أما تعلم - وفي نسخة السبعين: أو ما عملت - أن مصر قد خربت، فردوا موسى وهارون إلى فرعون فقال لهم: انطلقوا فاعبدوا بين يدي الرب إلهكم، ولكم من منكم ينطلق؟ فقال له موسى: إنا ننطلق بشباننا وشيوخنا وبنينا وبناتنا وبغنمنا وبقرنا، لأنه عيد لنا للرب، فقال لهما: ليكن كما قلتما، والله يصحبكما إذا ما أرسلتكم وحشمكم، لعله أن يعرض لكم في الطريق آفة، ولكن ليس هكذا، انطلقوا الآن معاشر الرجال! اعبدوا بين يدي الرب لأنكم إنما تطلبون بذلك الراحة، فأخرجوهما من بين يدي فرعون، فقال الرب لموسى: ارفع يدك على أرض مصر فيأتي الجراد فيصعد على أرض مصر فيأكل عشب الحقل وجميع ما نجا من البرد، فرفع موسى عصاه على ارض مصر، فأهبَّ الرب على الأرض ريح السموم جميع ذلك اليوم - وفي نسخة السبعين: والرب جلب ريحاً قبلية على الأرض نهار ذلك اليوم - وتلك الليلة، فلما كان بالغداة احتملت ريح السموم الجراد، فصعد الجراد - وفي نسخة السبعين أخذت الريح القبلية الجراد وأصعدته - على جميع أرض مصر، فسقط على جميع تخوم أرض المصريين، وكان منيعاً عظيماً جداً، ولم يكن مثل ذلك الجراد فيما خلا ولا يكون مثله فيما بعده، فغطى جميع عين الأرض فأظلمت الأرض، وأكل جميع عشب الحقل وجميع الشجر التي نجت من البرد، ولم يبق في الشجر غصن ولا ورق ولا في
59
الحقل عشب في جميع أرض مصر، فاستعجل فرعون ودعا موسى وهارون وقال لهما: قد خطئت بين يدي الله إلهكما، والآن اعفوا عن ذنبي وجهلي هذه المرة، وصليا بين يدي الرب إلهكم فيصرف عني هذه الآفة والموت، فخرج موسى من بين يدي فرعون وصلى بين يدي الرب، فعاد الرب بريح السموم عاصفاً فاحتملت الجراد فقذفت به في بحر سوف - وفي نسخة السبعين: فغير الرب تلك الريح بريح من البحر شديدة فأخذت الجراد وألقته في البحر الأحمر - ولم يبق في جميع تخوم المصريين شيء من الجراد، فقسى الرب قلب فرعون فلم يرسل بني إسرائيل، فقال الرب لموسى: ارفع يدك إلى السماء فليكن الدجى والحنادس على جميع أرض مصر فتذلهم الظلمة، فرفع موسى يده إلى السماء فكانت الظلمة والدجى - وفي نسخة السبعين: فصارت ظلمة وزوبعة - على جميع أرض مصر، ولم ير المرء منهم صاحبه ثلاثة أيام، فأما جميع بني إسرائيل فكان لهم الضياء والنور في مساكنهم، فدعا فرعون موسى فقال له: انطلقوا فاعبدوا بين يدي الرب إلهكم، فأما بقركم وغنمكم فدعوها هاهنا، وأما حاشيتكم فانطلقوا بها معكم، فقال موسى لفرعون: وأنت أيضاً تعطينا من الذبائح فنذبح لله ربنا، وبهائمنا أيضاً تنطلق بها معنا، ولا يبقى منها هاهنا ظلف على الأرض لأنا إنما نأخذ من مالنا لنذبح بين يدي الرب إلهنا، ولسنا نعلم بماذا نعبد الله إذا بلغنا هناك، فقسى الرب قلب فرعون وأبى أن يرسلهم،
60
فقال فرعون لموسى: اخرج من بين يدي واحذر أن تتراءى لي أيضاً لأن اليوم الذي تتراءى لي بين يديّ تموت فيه، قال له موسى: ما أحسن قولك! لست بعائد أن أرى وجهك، قال الرب لموسى: إني أعود أيضاً فانزل بفرعون والمصريبن ضربة واحدة، وعند ذلك أرسلكم من هاهنا، فإذا أرسلتكم فاخرجوا كلكم، وأمر الشعب وقال لهم: ليستعر المرء منكم من صاحبه والمرأة من جارتها حلي ذهب وفضة - وفي نسخة السبعين: آنية الفضة وآنية الذهب - والكسوة، وجعل الرب للشعب في قلوب المصريين محبة ورحمة، وموسى كانت له هيبة وكرامة عظيمة في جميع أرض مصر - وفي نسخة السبعين: عند المصريين وعند فرعون وعند جميع عبيده - فقال موسى: هكذا يقول الرب: إني خارج نصف الليل فأجوز في أرض مصر فأتوفى جميع أبكار مصر بكر فرعون الجالس على منبره إلى بكر الأمة التي في بيت الرجل، وتموت جميع أبكار البهائم فتسمع الولولة العظيمة والصراخ والأنين الفظيع ما لم يسمع مثله أيضاً- وفي نسخة السبعين: ولا يعود أيضاً أن يكون مثلها- فأما آل إسرائيل فلا يصاب منهم ولا الناس ولا البهائم ولا الكلب بلسانه- وفي نسخة السبعين: ولا يعوي من جميع بني إسرائيل كلب بلسانه - ليعلموا أن الرب ميز بين المصريين وآل إسرائيل، فهبط جميع عبيدك هؤلاء فيسجدون لي ويقولون: اخرج أنت وجميع الشعب معك، وعند
61
ذلك أخرج، فخرج موسى من بين يدي فرعون بغضب شديد، فقال الرب لموسى: إن فرعون لا يطيعكما، ذلك أني مكثر آياتي وعجائبي بأرض مصر، وإن موسى وهارون جرحا هذه الجرائح وأظهرا هذه الآيات كلها بين يدي فرعون، فقسى الرب - وفي نسخة السبعين: وأقسى الرب - قلب فرعون فلم يرسل بني إسرائيل عن أرضه، وقال الرب لموسى وهارون بأرض مصر: هذا الشهر- أي نيسان - يكون لكم رأس الشهور، ويكون هذا أول شهور السنة، قل لجميع جماعة بني إسرائيل في عشر من هذا الشهر فليأخذ الرجل منهم حملاً- وفي نسخة السبعين: خروفاً - لبيته وحملاً لآل أبيه، وإن كان آل البيت قليلاً لا يحتاجون إلى حمل فليشرك هو وجاره القريب إلى بيته على عدة الناس، وعدوا كل امرىء منهم على قدر أكله من الحمل، حملاً بلا عيب فيه ذكراً بيناً، يكون الحمل حويلاً من الخراف والجدي وتأخذونه، ويكون محفوظاً لكم حتى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر، ويذبحه كل جماعة من كنيسة بني إسرائيل أصيلاً، ويأخذون من دمه ويضعونه على القائمين والعتبة من البيت الذي تأكلون فيه، أي علامة - للملائكة الذين يؤمرون بقتل أبكار المصريين، وتأكلون اللحم في هذه الليلة مشوياً بفطير، ولا تأكلوا منه نيئاً ولا مطبوخاً بالماء،
62
ولاتبقوا منه شيئاً لغد، ولا تكسروا منه عظماً، وما فضل منه إلى غد فأحرقوه بالنار، وكلوه وأنتم قيام وقد شددتم أو ساطكم ونعالكم في أرجلكم وعصيكم في أيديكم وكلوه بعجلة، فإنه فصح للرب، وأنا فإني أعبر في أرض مصر في هذه الليلة وأضرب كل بكر بأرض مصر من الناس والبهائم، وأعمل نقمة من جميع آلهة المصريين، أنا الرب! ويكون لكم هذا اليوم ذكراً وتعيدونه عيداً للرب لدهوركم إلى الأبد وتعيدونه سبعة أيام، وتأكلون فطيراً وتعزلون الخمير من بيوتكم من أول يوم، وكل من يأكل خميراً فإن تلك النفس تبيد من إسرائيل من اليوم الأول إلى اليوم السابع، وكل عمل يعمل فلا تعملوه فيها، واحفظوا هذه الوصية، ففي هذا اليوم خرج عسكركم من مصر، فاجعلوا هذا اليوم لدهوركم سنة، فإذا بدأ اليوم الرابع عشر من الشهر الأول من العشيّ كلوا فطيراً إلى يوم إحدى وعشرين من الشهر إلى العشاء، ولا يوجد خمير في بيوتكم سبعة أيام، وكل من يأكل مخمراً فإن تلك النفس تبيد من جماعة بني إسرائيل من الملة والذمة ومن سكان الأرض، ما كان خميراً فلا تأكلوه وكلوا فطيراً في جميع مساكنكم، فدعا موسى جميع أشياخ بني إسرائيل وقال لهم: عجلوا فخذوا غنماً لقبائلكم واذبحوا الفصح
63
وخذوا حزمة من ريحان الأدبان واغمسوها بدم الحمل ورشوا على معاقم أبوابكم ومعاضدها - وفي نسخة السبعين: على العتبة وكلا القائمين - من الدم الذي في الإناء، ولا يخرج أحد منكم من باب بيته إلى غدوة - وفي نسخة السبعين: إلى الصباح - فتحفظون هذه السنة والوصية أنتم وبنوكم إلى الأبد، وإذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الرب كما وعدكم فاحفظوا هذا العمل، وإذا سأل بنوكم فقالوا لكم: ما هذا الفعل؟ فقولوا لهم: هذه ذبيحة فصح الرب إذ أفصح على بيوت بني إسرائيل بمصر إذ قتل المصريين وخلص بيوتنا، فركع الشعب كله ساجداً لله وانطلق بنو إسرائيل فصنعوا كما أمر الله موسى وهارون، وفي بيوت بني إسرائيل فلما كان عند نصف الليل قتل الرب أبكار أرض مصر- وفي نسخة السبعين: كل بكر بأرض مصر - من بكر فرعون الجالس على منبره - وفي نسخة السبعين: على كرسيه - وحتى بكر السبي المحبوس في السجن وجميع أبكار البهائم فوثب فرعون في تلك الليلة هو وجميع عبيده وكل أرض مصر - وفي نسخة السبعين: وجميع المصريين - وكانت ولولة عظيمة في جميع أرض مصر لأنه لم يوجد بيت لم يكن فيه ميت، فدعا فرعون بوسى وهارون في تلك الليلة وقال لهما: انهضا فاخرجا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل أيضاً وانطلقوا فاعبدوا بين يدي الرب كقولكما، وسوقوا غنمكم
64
وبقركم أيضاً كما قلتما، وانطلقوا وصلوا عليّ أيضاً وادعوا لي، فألح المصريون على الشعب ليخرجوهم عن الأرض مسرعين لأنهم قالوا: إنا جميعاً سنموت، فحمل الشعب عجينهم قبل أن يختمر، والبارد من فطيرهم مشدوداً في عمائمهم ملقى أعناقهم، وصنع بنو إسرائيل كما أمرهم موسى، واستعاروا من المصريين حلي ذهب وفضة وكسوة - وفي نسخة السبعين: آنية الفضة والذهب والكسوة - وجعل الرب للشعب في أعين المصريين محبة ورحمة فأعاروهم، فحربوا المصريين، وظعن بنو إسرائيل من رعمسيس - وعلى حاشية نسخة السبعين أنها عين شمس - يطلبون ساخوت ستمائة ألف رجل سوى الحشم والعيال، وصعد معهم من الغرباء أيضاً من كل خلط ومن البقر والغنم والماشية كثيراً جداً، فاختبزوا العجين الذي أخرجوه معهم من مصر رغفاً - وفي نسخة السبعين: فرانيّ - فطيراً لم يختبزوه - وفي نسخة السبعين: لم يختمر- وذلك لأن المصريين أخرجوهم فلم يقدروا أن يلبثوا، ولم يتزودوا زاداً للطريق أيضاً، وكان مسكن بني إسرائيل في أرض مصر أربعمائة وثلاثين سنة، في هذا اليوم خرج جميع جنود الرب من أرض مصر- وفي نسخة السبعين: ليلاً - كان الرب وقت في سابق علمه حفظ تلك الليلة التي خرجوا فيها من مصر، وكانت هذه الليلة محفوظة معروفة لدى الرب لهلاك أبكار مصر ولإخراج جميع بني إسرائيل ليكون ذكر ذلك في جميع أحقابهم وخلوفهم، وقال الرب لموسى وهارون: هذه
65
سنة الفصح، لا يأكل منه غريب، وكل عبد لرجل اشتراه إذا ختنه عند ذلك فأطعمه الفصح، والأجير والساكن فلا يأكل منه، في بيت واحد فليؤكل - وفي نسخة السبعين: وكل عبد لرجل اشتراه فليختتن ثم يأكل منه، الملجىء والأجير لا يأكلان منه، وليؤكل في بيت واحد - ولا تخرجوا من اللحم خارجاً من البيت شيئاً ولا تكسروا فيه عظماً، وإذا سكن معكم غريب فختن كل ذكر في بيته عند ذلك فليقترب - وفي نسخة السبعين، وليختن منهم كل ذكر ثم يدنون - من بعد ذلك إلى أكل الفصح، وليكن عند ذلك بمنزلة أهل الأرض، ولا يأكل منه أغرل، ولتكن سنة واحدة لأهل الأرض والغرباء الذين يسكنون معكم، وصنع جميع بني إسرائيل كما أمر موسى وهارون، وفي هذا اليوم أخرج الرب بني إسرائيل من أرض مصر وجميع جنودهم، وقال الرب لموسى: طهر لي كل ذكر ذكر ويفتح كل رحم من بني إسرائيل من الناس والبهائم يكونون لي، فقال موسى للشعب: اذكروا هذا اليوم الذي خرجتم فيه من مصر من العبودية والرق، لأن الرب أخرجكم من هاهنا بيد منيعة - إلى آخر ما مضى في سورة البقرة؛ ثم ذكر في الخامس علة الفصح فقال: احفظوا شهر البهار فاعملوا فصحاً لله ربكم لأنه إنما أخرجكم من أرض مصر في
66
شهر البهار ليلاً، فاذبحوا فصحاً لله ربكم من البقر والغنم في الموضع الذي يختار الله ربكم، فلأ تأكلوا فيه خميراً بل كلوا فطيراً سبعة أيام خبزاً يدل على التواضع لأنه إنما خرجتم من أرض مصر بعجلة لتذكروا اليوم الذي أخرجتم فيه من مصر كل أيام حياتكم، ولا يرى الخمير في حدودكم سبعة أيام، ولا يحل لكم أن تأكلوا الفصح في قرية من القرى التى يعطيكم الله ربكم، ولكن في الموضع الذي يختار الله ربكم أن يصير فيه اسمه ففيه اذبحوا الفصح، ويذبح عند غروب الشمس في الوقت الذي خرجتم من أرض مصر، ثم قال: وأحصوا سبعة سوابيع من بعد عيد الفصح، ثم اعملوا عيد السوابيع وائتوا بخواص غلاتكم للرب، كما بارك لكم الله ربكم في الموضع الذي يختار الرب أن تصيروا اسمه فيه واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر، فاحفظوا هذه السنن كلها واعملوا بها، واعملوا عيد المظال سبعة أيام إذا ما دخلتم بيادركم وخزنتم معاصركم ليبارك الله ربكم في جميع غلاتكم وفي كل عمل أيديكم، وتكونوا فرحين، ويروى ذكركم أمام الله ربكم في الموضع الذي يختار ثلاث مرات في السنة: عيد الفطر وعيد السوابيع وعيد المظال - انتهى.
وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا إضافة - الابن في قوله:
67
ابني بكري، وهو مؤوّل بأنه يكرمه إكرام الولد، وإطلاق الإله على غير الله سبحانه مراد به الحاكم، ولا يجوز هذا الإطلاق عندنا.
68
ولما انقضى ما أراهم سبحانه من الأفعال الهائلة التي استخلصهم بها من ذلك الجبار، شرع يذكر ما قابلوه به من الجهل به سبحانه وما قابلهم به من الحلم، ثم ما أحل بهم بعد طول المهلة من ضرب الذلة والمسخ بصورة القردة، فقال عاطفاً على قوله ﴿فأغرقناهم في اليم﴾ أو قوله ﴿ثم بعثنا من بعدهم موسى﴾ :﴿وجاوزنا﴾ أي قطعنا بما لنا من العظمة - وساقه على طريق المفاعلة تعظيماً له، روي أن جوازهم كان يوم عاشوراء، وأن موسى عليه السلام صامه شكراً لله تعالى على إنجائهم وإهلاك عدوهم ﴿ببني إسرائيل﴾ بعد الآيات التي شاهدوها ﴿البحر﴾ وإنما جعلته معطوفاً على أول القصة لأن هذه القصص كلها بيان لأن في الناس السيىء الجوهر الذي لايغنيه الآيات كما مضى عند قوله: ﴿والبلد الطيب﴾ [الأعراف: ٥٨] وبيان قوله ﴿أخذنا أهلها بالبأساء والضراء﴾ [الأعراف: ٩٤] إلى آخرها، ويدل على ذلك - مع ما ابتدئت به القصص - ختمها بقوله ﴿ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا﴾ [الأعراف: ١٧٦] وقوله: ﴿ولقد ذرأنا لجهنم﴾ [الأعراف: ١٧٩] وحسن موقعها بعد قوله: ﴿وتمت كلمت ربك الحسنى﴾ [الأعراف: ١٣٧]
68
لأنه لما قيل ﴿بما صبروا﴾ تشوفت النفس إلى فعلهم حال الرخاء هل شكروا؟ فبين أن كثيراً منهم كفروا تصديقاً لقوله ﴿وما وجدنا لأكثرهم من عهد﴾ [الأعراف: ١٠٢] وما شاكله، وما أحسن تعقيب ذلك - بقوله: ﴿فأتوا﴾ أي مروا- بفاء التعقيب ﴿على قوم﴾ أي ذوي قوة، قيل: كانوا من لخم ﴿يعكفون﴾ أي يدورون ويتحلقون ملازمين مواظبين ﴿على أصنام لهم﴾ أي لا قوة فيها ولا نفع، فهم في عكوفهم عليها مثل في الغباوة، وقيل: إنها كانت تماثيل بقر، وكان ذلك أول أمر العجل.
ولما أخبر سبحانه بذلك، علم السامع أنهم بين أمرين: إما شكر وإما كفر، فتشوف إلى ما كان منهم، فأجاب سبحانه سؤاله بقوله: ﴿قالوا﴾ أي لم يلبث ذكرهم لما أراهم سبحانه من عظمته وشكرهم لما أفاض عليهم من نعمته إلا ريثما أمنوا من عدوهم بمجاوزتهم البحر وإغراقهم فيه حتى طلبوا إلهاً غيره بقولهم: ﴿يا موسى﴾ سموه كما ترى باسمه جفاء وغلظة اعتماداً على ما عمهم من بره وحلمه غير متأدبين بما بهرهم من جلالة حظه من الله وقسمه ﴿اجعل لنا إلهاً﴾ أي شيئاً نراه ونطوف به تقيداً بالوهم ﴿كما لهم آلهة﴾ وهذا منهم قول من لا يعد الإله - الذي فعل معهم هذه الأفاعيل - شيئاً، ولا يستحضره بوجه.
69
ولما كان هذا منهم عظيماً، استأنف جواب من تشوف إلى قول موسى عليه السلام لهم ما هم بقوله: ﴿قال إنكم قوم﴾ أي ذوو قيام في شهوات النفوس، وقال: ﴿تجهلون*﴾ مضارعاً إشعاراً بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة، لا ينتقلون عنه في ماض ولا مستقبل، واعلم أنه لا تكرير في هذه القصص فإن كل سياق منها لأمر لم يسبق مثله فالمقصود من قصة موسى عليه السلام وفرعون - عليه اللعنة والملام - هذا الاستدلال الوجودي على قوله
﴿وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين﴾ [الأعراف: ١٠٢] ومن هنا تعلم أن سياق قصة بني إسرائيل بعد الخلاص من عدوهم لبيان إسراعهم في الكفر ونقضهم للعهود، واستمر سبحانه في هذا الاستدلال إلى آخر السورة، وما أنسب ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم﴾ [الأعراف: ١٧٢] الآية، لقوله ﴿وما وجدنا لأكثرهم من عهد﴾ [الأعراف: ١٠٢] وذكر في أول التي تليها تنازعهم في الأنفال تحذيراً لهم من أن يكونوا من الأكثر المذمومين في هذه، هذا بخلاف المقصود من سياق قصص بني إسراءيل في البقرة فإنه هناك للاستجلاب للإيمان بالتذكير بالنعم، لأن ذلك في سياق خطابة سبحانه لجميع الناس بقوله: ﴿اعبدوا ربكم الذي خلقكم﴾ [البقرة: ٢١] ﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم﴾ [البقرة: ٢٨] وما شاكله من الاستعطاف بتعداد النعم ودفع النقم - والله أعلم.
70
ولما استفيد من كلامه لهم غاية الإنكار عليهم، علل هذا الإنكار بقوله: ﴿إن هؤلاء﴾ أي القوم ﴿متبر ما هم فيه﴾ أي مكسر مفتت مهلك على وجه المبالغة، وإذا فسد الظرف فسد المظروف، وإليه الإشارة بجعل «هؤلاء» اسماً لإن، وإيلائه خبر الجمله الواقعه خبراً مقدماً على مبتدئه.
ولما كان الشيء قد يهلك في الدنيا أو في الاخرة - وهو حق، أعملهم بأن هذا الهلاك إنما هو الهلاك عند الله أعلم من كونه في الدنيا أو في الآخرة لبطلان ما هم فيه، فقال معبراً بالاسمية إشارة إلى أنه الآن كذلك، وإن رئي بخلافه: ﴿وباطل﴾ أي مضمحل زائل ﴿ما كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿يعملون*﴾ أي مواظبين عليه من الأصنام والعكوف وجميع أعمالهم لأجله، لا وزن لشيء منها أصلاً ولا اعتبار، وفيه إشارة إلى أن العبادة لا تنبغي إلا للباقي الذي لا يجوز عليه التغير، فإذا كان كذلك كان العمل له أيضاً ثابتاً باقياً لا يجوز عليه البطلان، وفي تعقيبها لتدمير آل فرعون إشارة إلى موجب ذلك، وأن كل من كان على مثل حالهم من عبادة غير الله كانت عاقبته الدمار.
ولما كان هذا استدلالاً على أن مثل هذه الأصنام التي مروا عليها لا تصلح لأن تعبد، كان ذلك غير كاف لهم لما - تقرر من جهلهلم، فربما ظنوا أن غيرها مما سوى الله تجوز عبادته، فكأنه قيل: هذا لا يكفي جواباً لمثل هؤلاء فهل قال لهم غير ذلك؟ فقيل: نعم! ﴿قال﴾ منكراً معجباً
71
﴿أغير الله﴾ أي الذي له جميع العظمة، فهو المستحق للعبادة ﴿أبغيكم﴾ أي أطلب لكم ﴿إلهاً﴾ فأنكر أن يتأله غيره، وحصر الأمر فيه ثم بينه بقوله: ﴿وهو﴾ أي والحال أنه هو وحده ﴿فضلكم﴾ دون غيركم ممن هو في زمانكم أو قبله ﴿على العالمين*﴾ أي لو لم يكن لوجوب اختصاصهم له بالعبادة سبب سوى اختصاصه لهم بالتفصيل على سائر عباده الذين بلغهم علمهم ممن هو أقوى منهم حالاً وأكثر عدداً وأموالاً لكان كافياً.
ولما أثبت أن الإلهية لا تصلح لغيره، وأن غيره لم يكن يقدر على تفضيلهم، وكان المقام للعظمة، وكان كأنه قيل إيذاناً بغلظ أكبادهم وقله فطنتهم وسوء مقابلتهم للمنعم: اذكروا ذلك، أي تفضيله لكم باصطفاء آبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وما تقدم له عندهم وعند أولادهم من النعم لا سيما يوسف عليه السلام الذي حكمه في جميع الأرض التي استذلكم أهلها؛ عطف عليه إشارة إليه قوله التفاتاً إلى مظهر العظمة تذكيراً بعظمة مدخوله: ﴿وإذ﴾ أي واذكروا إذ ﴿أنجيناكم﴾ أي على ما نحن عليه من العظمة التي أنتم لها عارفون، ولها في - كل وقت في تلك الآيات مشاهدون ﴿من آل فرعون﴾ وما أفضنا عليكم بعد الإنجاء من النعم الجسام وأريناكم من الآيات العظام تعرفوا أنا فضلناكم
72
على جميع الأنام، ثم استأنف بيان ما أنجاهم منه بقوله: ﴿يسومونكم﴾ أي ينزلون بكم دائماً ﴿سوء العذاب﴾.
ولما كان السياق - كما مضى - لبيان إسراعهم في الكفر وشدة علوتهم في قوتهم وجلافتهم، وكان مقصود السورة إنذار المعرضين وتحذيرهم من القوارع التي أحلها بالماضين، بين سوء العذاب عادلاً في بيانه عن التذبيح - لأنه لا يكون عند الانذباح، وهو في الأصل لمطلق الشق - إلى التعبير بالقتل لأنه أدل على الإماتة وأهز، لأنه قد يكون على هيئة شديدة بشعة كالتقطيع والنخس والخبط وغير ذلك مع أنه لا بد فيه من تفويت ذلك فقال: ﴿يقتلون﴾ أي تقتيلاً كثيراً - ﴿أبناءكم﴾ ودل على حقيقة القتل بقوله: ﴿ويستحيون﴾.
ولما كان المعنى أنهم لا يعرضون للإناث صغاراً ولا كباراً، وكان إنكار ما يكون إبقاء النساء بلا رجال لما يخشى من الضياع والعار، وكان مظنة العار أكبر - عبر عنهن بقولة: ﴿نساءكم﴾ وتنبيهاً على أن قتل الأبناء إنما هو للخوف من صيرورتهم رجالاً لئلا يسلبهم واحد منهم أعلمهم به كهانهم ملكهم؛ وأشار إلى شدة ذلك بقوله: ﴿وفي ذلكم﴾ أي الأمر الصعب المهول ﴿بلاء﴾ أي اختبار لكم ولهم ﴿من ربكم﴾ أي المحسن إليكم في حالي الشدة والرخاء، فأنه أخفى عنهم الذي قصدوا القتل لأجله، وأنقذكم به بعد أن رباه عند الذي هو مجتهد في ذبحه ﴿عظيم﴾.
73
ولما ذكرهم بنعمة إنجاء الأبدان، أتبعها التذكير بأكبر منها إذ كانت لحفظ الأديان وصيانة جوهرة الإيمان بما نصب لهم من الشرع في التوراة، فقال معجباً من حالهم إذ كان في الإنعام عليهم بنصب الشرع الهادي لهم من الضلال واختصاص نبيهم بمزيد القرب بالمناجاة، وهم في اتخاذ إله سواه، لا نفع فيه أصلاً، ولا يرضى قلب أو عقل أن يعبده، عاطفاً له على ما سبق تعجيبه به منهم في قوله: ﴿وجاوزنا ببني إسرائيل﴾ [الأعراف: ١٣٨] ﴿وواعدنا﴾ أي على ما لنا من باهر العظمة ﴿موسى ثلاثين﴾ أي مناجاة ثلاثين ﴿ليلة﴾ أي عقبها ﴿وأتممناها﴾ أي المواعدة ﴿بعشر﴾ أي ليال، وذلك لأنه لما مضت ثلاثون ليلة، وهو شهر ذي العقدة فيما قيل، وكان موسى عليه السلام قد صامها ليلها ونهارها، أدرك من فمه خلوفاً فاستاك، فأعلمه الله أنه قد أفسد ريح فمه، وأمره بصيام عشرة أيام أخرى وهي عشر ذي الحجة ليرجع ما أزاله من ذلك، وذلك لأن موسى عليه السلام كان وعد بني إسرائيل - وهو بمصر - أنه إذا أهلك سبحانه عدوهم، أتاهم بكتاب من عنده فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما أهلك الله عدوهم سأل موسى عليه السلام الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوماً ثم أمره بالعشر.
ولما كان من الممكن أن يكون الثلاثون هي النهاية، وتكون مفصلة إلى عشرين ثم عشر، أزال هذا الاحتمال - بقوله: ﴿فتم ميقات ربه﴾
74
أي الذي قدره في الأزل لأن يناجيه بعده - بالفاء ﴿أربعين﴾ ولما كانت العشر غير صريحة في الليالي، قال: ﴿ليلة﴾ فانتفى أن تكون ساعات مثلاً، وعبر بالميقات لأنه ما قدر فيه عمل من الأعمال، وأما الوقت فزمان الشيء سواء كان مقدراً أم لا، وعبر بالرب إشارة إلى اللطف به والعطف عليه والرحمة له، والميقات هو الأربعون - قاله الفارسي في الحجة، وقدر انتصاب أربعين ب «معدوداً هذا العدد» كما تقول: تم القوم عشرين، أي معدودين هذا العدد وأجمل سبحانه الأربعين في البقرة لأن المراد بذلك السياق تذكيرهم بالنعم الجسام والمتّ إليهم بالإحسان والإكرام، ليكون ذلك أدعى إلى رجوعهم إلى الإيمان وأمكن في نزوعهم عن الكفران بدليل ما سبق قصتهم من قوله: ﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم﴾ [البقرة: ٢١] ﴿كيف تكفرون بالله﴾ [البقرة: ٢٨] وما اكتنفها أولاً وآخراً من قوله: ﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم﴾ [البقرة: ٤٠] الآيتين المبدوء بها والمختوم بها، وفصل هنا الأربعين إلى ثلاثين وعشر، لأن المراد بهذا السياق - كما تقدم - بيان كفرهم ومرودهم على خزيهم ومكرهم وأنه لم ينفعهم سؤال المعجزات، ولا أغنى عنهم شيئاً تواتر النعم والآيات، كما كان ذلك في قصص الأمم الخالية والقرون الماضية ممن ذكر في هذه الصورة استدلالاً - كما تقدم - على أن المفسد أكثر
75
من المصلح - إلى غير ذلك مما أجمل في قوله تعالى:
﴿وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها﴾ [الأعراف: ٩٤] إلى آخره، وتسلية لهذا النبي الكريم وترهيباً لقومه لما وقع لهم من العقاب الأليم، والفصل بين الساقين يدق إلا عن أولي البصائر - والله أعلم، فيكون المراد بتفصيل الأربعين هنا بيان أن إبطاء موسى عليه السلام عما علموه من المعياد إنما كان لعشرة أيام، فارتكبوا فيها هذه الجريمة التي هي أعظم الجرائم، وأشار تعالى إلى عظيم جرأتهم وعراقتهم في السفه بقوله عاطفاً على ﴿واعدنا﴾ :﴿وقال موسى﴾ أي لما واعدناه ﴿لأخيه﴾ ثم بينه تصريحاً باسمه فقال: ﴿هارون اخلفني﴾ أي كن خليفتي فيهم تفعل ما كنت أفعل، وأكد الارتسام بما يجده له بقوله: ﴿في قومي﴾ وأشار إلى حثه على الاجتهاد بقوله: ﴿وأصلح﴾ أي كن على ما أنت عليه من إيقاع الإصلاح.
ولما كان عالماً بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبرأ من السوء غير أن عنده ليناً قال: ﴿ولا تتبع﴾ أي تكلف نفسك غير ما طبعت عليه بأن تتبع ﴿سبيل المفسدين*﴾ أي استصلاحاً لهم وخوفاً من تنفيرهم، فاختلفوا عن الطريق كما تفرس فيهم موسى عليه السلام ولم يذكروا عاقبة فلا هم خافوا بطش من بطش بمن كان يسومهم سوء العذاب، ولا هم سمعوا لأخيه في الصلاح، ولا هم انتظروا عشرة أيام، فلا أخف منهم أحلاماً ولا أشد على المعاصي إقداماً.
76
ولما ذكر سبحانه مواعدته واحتياطه في إصلاح قومه، شرح أمره حال المواعدة وحالهم بعد غيبته فقال: ﴿ولما جاء موسى لميقاتنا﴾ أي عند أول الوقت الذي قدرناه للمناجاة؛ ولما كان مقام الجلال مهولاً لا يستطاع وعي الكلام معه، التفت إلى مقام الإكرام فقال: ﴿وكلمه﴾ أي من غير واسطه ﴿ربه﴾ أي المحسن إليه بأنواع الإحسان المتفضل على قومه بأنواع الامتنان، والذي سمعه موسى عليه السلام عند أهل السنة من الأشاعرة هو الصفة الأزلية من غير صوت ولا حرف، ولا بعد في ذلك كما لا بعد رؤية ذاته سبحانه وهي ليست بجسم ولا عرض لا جوهر، وليس كمثله شيء، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سبحانه كلمه في جميع الميقات وكتب له الألواح، وقيل: إنما كلمه في أول الأربعين، والأول أولى.
ولما كلمه بصفة الربوبية الناظر إلى العطف واللطف، وكانت الرؤية جائزة، اشتاق إلى الرؤية شوقاً لم يتمالك معه لما استحلاه من لذاذة الخطاب فسألها لعمله أنها جائزة ﴿قال﴾ مسقطاً الأداة كعادة أهل القرب - ﴿رب أرني﴾ أي ذاتك الأقداس بأن ترفع عني الحجاب فتجعلني متمكناً من النظر، وهو معنى قول الحبر ابن عباس: أعطني وحقق أنها رؤية العين بقوله في جواب الأمر - ﴿أنظر﴾ أي أصوب تحديق العين وأشار إلى عظمته سبحانه وعلو شأنه
77
علو العظمة لا المسافة - بالتعدية بحرف النهاية بعد أن أشار بحذف أداة النداء إلى غاية القرب بالإحسان - فقال: ﴿إليك﴾ أي فأراك.
ولما كان سبحانه قد قضى أنه عليه السلام لا يراه في الدنيا ﴿قال﴾ نافياً المقصود، وهو الرؤية لا مقدمتها، وهو النظر الذي هو التحديق بالعين ﴿لن تراني﴾ ودل سبحانه بهذه العبارة على جواز رؤيته حيث لو يقل: لن أرى، أو لن يراني أحد؛ ثم زاد ذلك بياناً بتعليقه بممكن فقال: ﴿ولكن انظر إلى الجبل﴾ إشارة جبل بعهده، وهو أعظم جبل هناك، وزاد في الإشارة إلى الرؤية بالتعبير بأداة الشك وإتباعها بأمر ممكن فقال -: ﴿فإن استقر مكانه﴾ أي وجد قراره وجوداً تاماً، وأشار إلى بعد الرؤية أيضاً وجلالة المطلوب منها بقوله: ﴿فسوف تراني﴾ أي بوعد لا خلف فيه ﴿فلما تجلى ربه﴾ أي المحسن إليه بكل عطاء ومنع وبين بتعبيره باللام أنه تجلى قربه وخصوصيته، ولو عبر بعلى مثلاً لكان أمر آخر فقال -: ﴿للجبل﴾ أي بأن كشف للجبل عما شاء من حجب عظمته ﴿جعله دكاً﴾ أي مدكوكاً، والدك والدق أخوان ﴿وخر﴾ أي وقع ﴿موسى صعقاً﴾ أي مغشياً عليه مع صوت هائل، فعلم أن معنى الاستدراك أنك لن تثبت لرؤيتي في هذه الدار ولا تعرف ذلك الآن، ولكنك تعرفه بمثال أريكه وهو الجبل، فإن الفاني - كما نقل عن الإمام مالك - لا ينبغي له أن يرى
78
الباقي - ﴿فلما أفاق﴾ أي من غشيته ﴿قال سبحانك﴾ أي تنزيهاً لك عن أن أطلب منك ما لم تأذن فيه ﴿تبت إليك﴾ أي من ذلك ﴿وأنا أول المؤمنين*﴾ أي مبادر غاية المبادرة إلى الإيمان بكل ما أخبرت به كل ما تضمنته هذه الآيات، فتعبيره بالإيمان في غاية المناسبة لعدم الرؤية لأن شرط الإيمان أن يكون بالغيب، فقد ورد في نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيتان: إحداهما يمكن أن تشير إلى الرؤية بالتعبير بالمسلمين دون المؤمنين في قوله ﴿وأنا أول المسلمين﴾ [المائدة: ١٦٣] والثانية تومي إلى عدمها وهي ﴿آمن الرسول﴾ [البقرة: ٢٨٥] إلى قوله: ﴿كل آمن بالله﴾ [البقرة: ٢٨٥]- والله أعلم -، وكل هذا تبكيت على قومه وتبكيت لهم في عبادتهم العجل وردع لهم عن ذلك، وتنبيه لهم على أن الإلهية مقرونة بالعظمة والكبر بعيدة جداً عن ذوي الأجسام لما يعلم سبحانه من أنهم سيكررون عبادة الأصنام، فأثبت للإله الحق الكلام والتردي عن الرؤية بحجاب الكبر والعظمة واندكاك الجبل عند تجليه ونصب الشرع الهادي إلى أقوم سبيل تعريضاً بالعجل، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى: ﴿ألم يروا أنه لا يكلمهم﴾ الآية.
ولما منعه الرؤية بعد طلبه إياها، وقابل ذلك بمحاسن الأفعال والأقوال، تشوف السامع إلى ما قوبل به من الإكرام، فاستأنف سبحانه الإخبار بما منحه به تسلية له عما منعه وأمراً بشكره بقوله: ﴿قال يا موسى﴾
79
مذكراً له نعمه في سياق دال على عظيم قدرها وإيجاب شكرها مسقطاً عنه مظهر العظمة تأنيساً له ورفقاً به - ﴿إني اصطفيتك﴾ أي اخترتك اختياراً بالغاً كما يختار ما يصفى من الشيء عن كل دنس ﴿على الناس﴾ أي الذين في زمانك ﴿رسالاتي﴾ أي الآيات المستكثرة التي أظهرتها وأظهرها على يديك من أسفار التوارة وغيرها ﴿وبكلامي﴾ أي من غير واسطة وكأنه أعاد حرف الجر للتنبيه على ذلك، كما اصطفى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الناس عامة في كل زمان برسالته العامة وبكلامه المعجز وبتكليمه من غير واسطة في السماء التي قدست دائماً ونزهت عن التدنيس بمعصية.
ولما كان ذلك مقتضياً لغاية الإقبال والنشاط، سبب عنه قوله: ﴿فخذ ما آتيتك﴾ آي مخصصاً لك به ﴿وكن من الشاكرين*﴾ أي العريقين في صفة الشكر المجبولين عليها.
80
ولما انقضى ما أنسه سبحانه به لفت الكلام - في الإخبار لنا عن عظيم ما آتاه - لي مظهر العظمة، فقال مفصلاً لتلك الرسالة ومبيناً بعض ما كان من الكلام ﴿وكتبنا﴾ أي بعظمتنا ﴿له في الألواح﴾ عرفها لعظمتها تنبيهاً على أنها لجلالة ما اختصت به كأنها المختصة بهذا الاسم، وأعظم من هذا جعل قلب النبي الأمي لوحاً قابلاً لما يلقى إليه جامعاً لعلوم الأولين والآخرين ﴿من كل شيء﴾ أي يحتاجه بنو إسرائيل، وذلك هو العشر الآيات التي نسبتها إلى التوارة نسبة الفاتحة إلى القران، ففيها
80
أصوال الدين وأصول الأحكام والتذكير بالنعم والأمر بالزهد والورع ولزوم محاسن الأعمال والبعد عن مساويها، ولذا قال مبدلاً: ﴿موعظة وتفصيلاً﴾ أي على وجازتها بما كانت سبباً ﴿لكل شيء﴾ أي لأنها - مع كونها أمهات وجوامع - مفصلة ترجع إليها بحور العلم وتنشق منها ينابيعها.
ولما كان هذا هكذا، تسبب عنه حتماً قوله تعالى التفاتاً إلى خطاب موسى عليه السلام بخطاب التأنيس إشارة إلى أن التزام التكاليف صعب: ﴿فخذها﴾ أي الألواح ﴿بقوة﴾ أي بجد وعزيمة في العلم والعمل ﴿وأمر قومك﴾ أي الأقوياء على محاولة ما يراد ﴿يأخذوا بأحسنها﴾ كأنه سبحانه أطلق لموسى عليه السلام الأخذ بكل ما فيها لما عنده من الملكة الحاجزة له عن شيء من المجاوزة، ولذلك قال له ﴿بقوة﴾ وقيدهم بالأحسن ليكون الحسن جداً مانعاً لهم من الوصول إلى القبيح، وذلك كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر.
ولما كان كأنه قيل: وهل يترك الأحسن أحد؟ فقيل: نعم، الفاسق يتركه، بل ويتجاوز الحسن إلى القبيح، بل وإلى أقبح القبيح، ومن تركه أهلكته وإن جل آله وعظمت جنوده وأمواله، قال كالتعليل لذلك: ﴿سأوريكم دار الفاسقين*﴾ أي الذين يخرجون عن أوامري إلى ما أنهاهم عنه فأنصركم عليهم وأمكنكم بفسقهم من رقابهم وأموالهم من
81
الكنعانيين والحاثانيين وغيرهم من سكان الأراضي المقدسه لتعلموا أن من أغصبني وترك أمري أمكنت منه، وإنما ذكر الدار لئلا تغرهم منعتها إذا استقروا بها فيظنوا أن لا غالب لهم فيها بوعورة أرضها وشهوق جبالها وإحكام أسوارها، وإذا تأملت ما سيأتي في شرح هذه الآيات من التوراة لاح لك هذا المعنى، وكذا ما ذكر من التوراة عند قوله في المائدة ﴿قل هو أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله﴾ [المائدة: ٦٠] وفي هذه الجملة المختصرة بشارة يإتمام الوعد بنصرتهم عليهم بطاعتهم ونذارة على تقدير معصيتهم، فكأنه قيل: إن أخذوا بالأحسن أريتهم دار الفاسقين، وأتممت عليهم النعمة ما دامو على الشكر، وإن لم يأخذوا أهلكتهم كما أهلك الفاسقين من بين أيديهم، فحذرهم لئلا يفعلوا أفعالهم إذا استقرت بهم الدار، وزالت عنهم الأكدار، ويؤيد كون المراد القدس لا مصر قراءة من قرأ: سأورثكم - من الإرث، لأنها هي المقصودة بإخراجهم من مصر وبعث موسى عليه السلام، ولا ينفي ذلك احتمال مصر أيضاً - والله أعلم.
ولما انقضى ذلك، كان كأنه قيل: وكيف يختار عاقل ذلك؟ فكيف بمن رأى الآيات وشاهد المعجزات؟ فقال: ﴿سأصرف عن آياتي﴾ أي المسموعة والمرئية على عظمتها بما أشارت إليه الإضافة بالصرف عن فهمها واتباعها والقدرة على الطعن فيها بما يؤثر في إبطالها
82
﴿الذين يتكبرون﴾ أي يطلبون الكبر بما ليس لهم ويعملون قواهم فيه ﴿في الأرض﴾ أي جنسها الذي أمرت بالتواضع فيه.
ولما كان من رفعه الله بصفة فاضلة فوضع نفسه موضعها ولم يهنها نظراً لما أنعم الله به عليه ومنحه إياه ربما سمى ذلك كبراً، وربما سمى طلبه لتلك الأخلاق التي توجب رفعته تكبراً، وليس كذلك وإن وافقه في الصورة، لمفارقته له في المعنى فإنه صيانة النفس عن الذل، وهو إنزال النفس دون منزلتها صنعة لا تواضعاً، والكبر رد الحق واحتقار الناس، ففي التقييد هنا إشارة خفية لإثبات العزة بالحق والوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الصنعة وقوفاً على شرط العزم المنصوب على متن نار الكبر؛ قال الإمام السهروردي: ولا يؤيد في ذلك ويثبت عليه إلا أقدام العلماء الراسخين - قال تعالى احترازاً عنه ومدخلاً كل كبر خلا عن الحق الكامل: ﴿بغير الحق﴾ أي إنما يختار غير الأحسن من يختاره بقضائي الذي لا يرد وأمري العالي على أمر كل ذي جد فأزين لمن علمت خباثة عنصره ورداءة جوهره ما أريد حتى يرتكبوا كل قبيحة ويتركوا كل مليحة، فينصرفون عن الآيات ويعمون عن الدلالات الواضحات.
ولما أخبر بتكبرهم في الحال، عطف عليه فعلهم في المآل فقال: ﴿وإن يروا كل آية﴾ أي مرئية أو مسموعة ﴿لا يؤمنوا بها﴾ أي لتكبرهم
83
عن الحق ﴿وإن يروا سبيل﴾ أي طريق ﴿الرشد﴾ أي الصلاح والصواب الذي هو أهل للسلوك ﴿لا يتخذوه سبيلاً﴾ أي فلا يسلكونه بقصد منهم ونظر وتعمد، بل إن سلكوه فعن غير قصد ﴿وإن يروا سبيل الغي﴾ أي الضلال ﴿يتخذوه سبيلاً﴾ أي بغاية الشهوة والتعمد والاعتمال لسلوكه.
ولما كان هذا محل عجب، أجاب من يسأل عنه بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الصرف العظيم الذي زاد عن مطلق الصرف بالعمى عن الإيمان واتخاذ الرشاد ﴿بأنهم﴾ أي بسبب أنهم ﴿كذبوا بآياتنا﴾ أي على ما لها من العظمة ﴿وكانوا عنها﴾ أي خاصة جبلة وطبعاً ﴿غافلين*﴾ أي كان دأبهم وديدنهم معاملتهم لها بالإعراض عنها حتى كأنها مغفول عنها فهم لذلك يصرون على ما يقع منهم.
ولما ذكر أحوال المتكبرين الذين أداهم كبرهم إلى التكذيب في الدنيا، ذكر أحوالهم في الآخرة فقال: ﴿والذين﴾ أي كذبوا بها والحال أن الذين ﴿كذبوا بآياتنا﴾ أي فلم يعتبروا عظمتها ﴿ولقاء الآخرة﴾ أي ولقائهم إياها أو لقائهم ما وعدوا به فيها، اللازم من التكذيب بالآيات الحامل التصديق بها على معالي الأخلاق ﴿حبطت﴾ أي فسدت فسقطت ﴿أعمالهم﴾ والآية من الاحتباك: إثبات الغفلة أولاً يدل على إرادتها ثانياً، واللقاء ثانياً يدل على إرادته أولاً.
84
ولما كان كأنه قيل: لم بطلت؟ قيل: ﴿هل يجزون إلا ما﴾ أي جزاء ما ﴿كانوا يعملون﴾ أي بإبطال أعمالهم وإن عملوا كل حسن سوى الإيمان بسبب أنهم أبطلوا الآيات والآخرة بتكذيبهم بها، أي عدوها باطلة، والجزاء من جنس العمل، والحاصل أنهم لما عموا عن الآيات لأنهم لم ينظروا فيها ولا انقادوا مع ما دلت عقولهم عليه من أمرها، بل سدوا باب الفكر فيها؛ زادهم الله عمى فختم على مداركهم، فصارت لاينتفع بها فصاروا لا يعون، وهذه الآيات أعظم زاجر عن التكبر، فإنها بينت أنه يوجب الكفر والإصرار عليه والوهن في جميع الأمور، ولما كان ذلك كله مما يتعجب الموفق من ارتكابه، أعقبه تعالى مبيناً ومصوراً ومحققاً لوقوعه ومقرراً قوله عطفاً على ﴿فأتوا على قوم يعكفون﴾ [الأعراف: ١٣٨] مبيناً لإسراعهم في الكفر: ﴿واتخذ﴾ أي بغاية الرغبة ﴿قوم موسى﴾ أي باتخاذ السامري ورضاهم، ولم يعتبروا شيئاً مما أتاهم به من تلك الآيات التي لم ير مثلها ﴿من بعده﴾ أي بعد إبطائه عنهم بالعشرة الأيام التي أتممنا بها الأربعين ﴿من حليهم﴾ أي التي كانت معهم من مالهم ومما استعاروه من القبط ﴿عجلاً﴾ ولما كان العجل اسماً لولد البقر، بين أنه إنما يشبه صورته فقط، فقال مبدلاً منه: ﴿جسداً﴾.
ولما كان الإخبار بأنه جسد مفهماً لأنه خال مما يشبه الناشىء
85
عن الروح، قال ﴿له خوار﴾ أي صوت كصوت البقر، والمعنى أنه لا أضل ولا أعمى من قوم كان معهم حلي أخذوه ممن كانوا يستعبدونهم ويؤذونهم وهم مع ذلك أكفر الكفرة فكان جديراً بالبغض لكونه من آثار الظالمين الأعداء فاعتقدوا انه بالصوغ صار إلهاً وبالغوا في حبه والعبودية له وهو جسد يرونه ويلمسونه، ونبيهم الذي هداهم الله به واصطفاه لكلامه يسأل رؤية الله فلا يصل إليها.
ولما لم يكن في الكلام نص باتخاذه إلهاً، دل على ذلك بالإنكار عليهم في قوله: ﴿ألم يروا﴾ أي الذين اتخذوا إلهاً ﴿أنه لا يكلمهم﴾ أي كما كلم الله موسى عليه السلام ﴿ولا يهديهم سبيلاً﴾ كما هداهم الله تعالى إلى سبيل النجاة، منها سلوكهم في البحر الذي كان سبباً لإهلاك عدوهم كما كان سبباً لنجاتهم؛ قال أبو حيان: سلب عنه هذين الوصفين دون باقي أوصاف الإلهية لأن انتقاء التكليم يستلزم انتفاء العلم، وانتفاء الهداية إلى سبيل يستلزم انتفاء القدرة، وانتفاء هذين الوصفين يستلزم انتفاء باقي الأوصاف.
ولما كان هذا أمراً عظيماً جداً مستبعد الوقوع ولا سيما من قوم نبيهم بينهم ولا سيما وقد أراهم من النعم والآيات ما ملأت أنواره الآفاق، كان جديراً بالتأكيد فقال تعالى: ﴿اتخذوه﴾ أي بغاية الجد والنشاط والشهوة ﴿وكانوا﴾ أي جلبة وطبعاً مع ما أثبت لهم من الأنوار
86
﴿ظالمين*﴾ أي حالهم حال من يمشي في الظلام، أو أن المقصود أن الظلم وصف لهم لازم، فلا بدع إذا فعلوا أمثال ذلك.
87
ولما كان هذا في سياق ﴿ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين﴾ فأنتج أن من كذب على هذه الصفة أهلك، فانتظر السامع الإخبار بتعجيل هلاكهم، أخبر بأنه منعهم من ذلك وحرسهم المبادرة بالتوبة، ولما اشتد من تشوف السامع إليه، قدمه على سببه وهو رجوع موسى عليه السلام إليهم وإنكاره عليهم، ولأن السياق في ذكر إسراعهم في الفسق لم يذكر قبول توبتهم كما في البقرة؛ ولما كان من المعلوم أنهم تبين لهم عن قرب سوء مرتكبهم لكون نبيهم فيهم، عبر بما أفهم أن التقدير: فسقط في إيديهم، وعطف عليه قوله سائقاً مساق ما هو معروف: ﴿ولما سقط﴾ أي سقطت أسنانهم ﴿في أيديهم﴾ بعضها ندماً سقوطاً كأنه بغير اختيار لما غلب فيه من الوجد والأسف الذي أزال تأملهم ولذلك بناه للمفعول ﴿ورأوا أنهم قد ضلوا﴾ أي عن الطريق الواضح ﴿قالوا﴾ توبة ورجوعاً إلى الله كما قال أبوهم آدم عليه السلام ﴿لئن لم يرحمنا ربنا﴾ أي الذي لم يقطع قط إحسانه عنا فكيف غضبه ويديم إحسانه ﴿ويغفر لنا﴾ أي يمحو ذنوبنا عيناً وأثراً لئلا ينتقم منا في المستقبل ﴿لنكونن من الخاسرين*﴾ أي فينتقم من بذنوبنا.
ولما أخبر بالسبب في تأخير الانتقام عنهم مع مساواتهم لمن أوقعت
87
بهم النقمة في موجب الانتقام، أخبر سبحانه بحال موسى عليه السلام معهم عند رجوعه إليهم من الغضب لله والتبكيت لمن خالفه مع ما اشتمل عليه من الرحمة والتواضع فقال: ﴿ولما رجع موسى﴾ أي من المناجاة ﴿إلى قومه غضبان﴾ أي في حال رجوعه لما أخبره الله تعالى عنهم من عبادة العجل ﴿أسفاً﴾ أي شديد الغضب والحزن ﴿قال بئسما﴾ أي خلافة خلافتكم التي ﴿خلفتموني﴾ أي قمتم مقامي وفعلتم مقامي وفعلتم خلفي.
ولما كان هذا ربما أوهم أنهم فعلوه من روائه وهو حاضر في طرف العسكر، قال: ﴿من بعدي﴾ أي حيث عبدتم غير الله أيها العبدة، وحيث لم تكفوهم أيها الموحدون بعد ذهابي إلى الجبل للمواعدة الإلهية وبعد ما سمعتم مني من التوحيد لله تعالى وإفراده عن خلقه بالعبادة ونفي الشركاء عنه، وقد رأيتم حين كففتكم وزجرتكم عن عبادة غيره حين قلتم ﴿اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة﴾ ومن حق الخلفاء أن يسيروا سيرة المستخلف ولا يخالفوه في شيء.
ولما كان قد أمرهم ان لا يحدثوا حدثاً حتى يعود إليهم، أنكر عليهم عدم انتظاره فقال: ﴿أعجلتم﴾ قال الصغاني في المجمع: سبقتم، وقال غيره: عجل عن الأمر - إذا تركه غير تام، ويضمن معنى سبق، فالمعنى:
88
سابقين ﴿أمر ربكم﴾ أي ميعاد الذي ما زال محسناً إليكم، أي فعلتم هذا قبل بلوغ أمر الموعد الذي زاد فيه ربي وهو العشرة الأيام برجوعي إليكم إلى حده، فظننتم أني مت فغيرتم كما غيرت الأمم بعد موت أنبيائها، قال الإمام أبو عبد القزاز أيضاً: عجلتم: سبقتم، ومنه تقول: عجلت فلاناً سبقته، وأسنده ابن التياني إلى الأصمعي ﴿وألقى الألواح﴾ أي التي فيها التوراة غضباً لله وإرهاباً لقومه، ودل هذا على أن الغضب بلغ منه حداً لم يتمالك معه، وذلك في الله تعالى ﴿وأخذ برأس أخيه﴾ أي بشعره ﴿يجره إليه﴾ أي بناء على أنه قصر وإعلاماً لهم بأن الغضب من هذا الفعل قد بلغ منه مبلغاً يجل عن الوصف، لأنه اجتثاث للدين من أصله.
ولما كان هارون عليه السلام غير مقصر في نهيهم، أخذ في إعلام موسى عليه السلام بذلك مخصصاً الأم وإن كان شقيقه - تذكيراً له بالرحم الموجبه للعطف والرقة ولا سيما وهي مؤمنه وقد قاست فيه المخاوف، فاستأنف سبحانه الإخبار عن ذلك بقوله: ﴿قال ابن أم﴾ وحذف أداة النداء وياء الإضافة لما يقتضيه الحال من الإيجاز، وفتح الجمهور الميم تشبيهاً له بخمسة عشر وعلى حذف الألف المبدلة من ياء الإضافة، وكسر الميم ابن عامر وحمزه والكسائي وأبو بكر عن عاصم بتقدير حذف ياء الإضافة تخفيفاً ﴿إن القوم﴾ أي عبدة العجل الذين
89
يعرف قيامهم في الأمور التي يريدونها ﴿استضعفوني﴾ أي عدوني ضعيفاً وأوجدوا ضعفي بإرهابهم لي ﴿وكادوا يقتلونني﴾ أي قاربوا ذلك لإنكاري ما فعلوه فسقط عني الوجوب.
ولما تسبب عن ذلك إطلاقه، خاف أن يمنعه الغضب من ثبات ذلك في ذهنه وتقرره في قلبه فقال: ﴿فلا تشمت بي الأعداء﴾ أي لا تسرهم بما تفعل بي فأكون ملوماً منهم ومنك؛ ولما استعطفه بالتذكير بالشماتة التي هي شماتة به أيضاً، أتبعه ضرراً يخصه فقال: ﴿ولا تجعلني﴾ أي بمؤاخذتك لي ﴿مع القوم الظالمين*﴾ أي فتقطعن بعدّك لي معهم وجعلي في زمرتهم عمن أحبه من الصالحين، وتصلني بمن أبغضه من الفاسدين الذين فعلوا فعل من هو في الظلام، فوضعوا العبادة في غير موضعها من غير شبهة ولا لبس أصلاً.
ولما تبين له ما هو اللائق بمنصب أخيه الشريف من أنه لم يقصر في دعائهم إلى الله ولا ونى في نهيهم عن الضلال، ورأى أن ما ظهر من الغضب مرهب لقومه وازع لهم عما ارتكبوا، دعاء له ولنفسه مع الاعتراف بالعجز وأنه لا يسع أحداً إلا العفو، وساق سبحانه ذلك مساق الجواب لسؤال بقوله: ﴿قال رب﴾ أي أيها المحسن إليَّ ﴿اغفر لي﴾ أي ما حملني عليه الغضب لك من إيقاعي بأخي ﴿ولأخي﴾ أي في كونه لما يبلغ ما كنت أريده منه من جهادهم.
ولما دعا بمحو التقصير، أتبعه الإكرام فقال: ﴿وأدخلنا﴾ أي
90
أنا وأخي وكل من انتظم معنا ﴿في رحمتك﴾ لتكون غامرة لنا محيطة بنا؛ ولما كان التقدير: فأنت خير الغافرين، عطف عليه ﴿وأنت أرحم الراحمين*﴾ أي لأنك تنعم بما لا يحصره الجد ولا يحصيه العد من غير نفع يصل إليك ولا أذى يلحقك بفعل ذلك ولا تركه.
91
ولما كان له ولأخيه وهما معصومان من الذنوب، طوى ما يتعلق بالمغفرة وذكر متعلق الرحمة بخلاف ما يأتي في السؤال له وللسبعين من قومه فإنه عكس فيه ذلك؛ ولما صحت براءة الخليفة، وأشير إلى أنه مع ذلك فقير إلى المغفرة، التفتت النفس إلى حال المفسدين فقال مخبراً عن ذلك: ﴿إن الذين اتخذوا العجل﴾ أي رغبوا رغبة تامه في أخذهم إلهاً مع المخالفة لما ركز في الفطرة الأولى ودعاهم إليه الكليم عليه السلام ﴿سينالهم﴾ أي بوعد لا خلف فيه ﴿غضب﴾ أي عقوبة فيها طرد أو إبعاد، ولعله ما أمروا به من قتل أنفسهم، واشار إلى انه فيه رفق بهم وحسن تربية لتوبة من يبقى منهم بقوله: ﴿من ربهم﴾ أي الذي لا محسن إليهم غيره، يلحقهم في الدنيا ويتبعهم في الآخرة ﴿وذلة في الحياة الدنيا﴾ أي جزاء لهم على افترائهم وكذلك من رضي فعلهم ولا سيما إن كان من أولادهم كقريظة والنضير وأهل خيبر ﴿وكذلك﴾ أي ومثل جزائهم ﴿نجزي المفترين*﴾ أي المعتمدين للكذب، وهذا نص في أن كل مفتر ذليل، كما هو المشاهد - وإن أظهر الجراءة بعضهم.
91
ولما ذكر المصرين علىلمعصية، عطف عليه التائبين ترغباً في مثل حالهم فقال: ﴿والذين عملوا السيئات﴾ عبر بالعمل إشارة إلى بالعفو وإن أقدموا عليها على علم، وجمع إعلاماً بأنه لا يتعاظمه ذنب وإن عظم وكثر وإن طال زمانه، ولذلك عطف بأداة البعد فقال: ﴿ثم تابوا﴾ وحقق الأمر ونفى المجاز بقوله: ﴿من بعدها﴾ ثم ذكر الأساس الذي لا يقبل عمل لم يبن عليه على وجه يفهم أنه لا فرق بين أن يكون في السيئات ردة أو لا فقال: ﴿وآمنوا﴾ ثم أجاب المبتدأ بقوله: ﴿إن ربك﴾ أي المحسن إليك بقبول توبة التائبين لما سيرك من ذلك لأنك بهم رؤوف رحيم ﴿من بعدها﴾ أي التوبة ﴿لغفور﴾ أي محاء لذنوب التائبين عيناً وأثراً وإن عظمت وكثرت ﴿رحيم*﴾ أي فاعل بهم فعل الرحيم من البر والإكرام واللطف والإنعام، وكأن المصرين هم الذين قتلوا لما أمرهم موسى عليه السلام بقتل أنفسهم، فلما أهلك المصرّ وتاب الباقي، وصحت براءة أخية وبقاؤه على رتبته من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاجتهاد في أمر الله، زال موجب الغضب فأخبر سبحانه عما يعقبه فقال: ﴿ولما سكت﴾ أي كف، شبه الغضب بمتكلم كان يحث موسى عليه السلام ويغريه على ما يوجبه ويقتضيه، فلما شفى غيظه سكن وقطع كلامه فخلفه ضده وهوالرضى ﴿عن موسى الغضب﴾ وهو غليان القلب بما يتأذى به النفس ﴿أخذ الألواح﴾ أي التي جاء
92
بها من عند الله بعدما ألقاها ﴿وفي﴾ أي والحال أنه في ﴿نسختها﴾ أي الأمر المكتوب فيها، فعلة بمعنى مفعولة، وعن ابن عباس أنه لما ألقاها صام - مثل ما كان صام للمناجاة - أربعين يوماً أخرى، فردت عليه في لوحين مكان ما تكسر.
﴿هدى﴾ أي شيء موضح للمقاصد ﴿ورحمة﴾ أي سبب للإكرام ﴿للذين هم لربهم﴾ أي لا لغيره ﴿يرهبون*﴾ أي هم أهل لأن يخافوا خوفاً عظيماً مقطعاً للقلوب موجباً للهرب ويستمرون على ذلك.
شرح ما في هذه الآيات من عند قوله ﴿سأوريكم دار الفاسقين﴾ من البدائع من التوراة - قال المترجم في السفر الخامس منها بعد أن بكتهم ببعض ما فعلوه مما أوجب لهم الغضب والعقوبة بالتيه وحثهم على لزوم أمر الله لينصرهم: وأما الوصايا التي آمركم بها اليوم فاحفظوها واعملوا بها لتحيوا وتكثروا وترثوا الأرض التي أقسم الله لآبائكم فتذكروا كل الطريق الذي سيركم الله ربكم فيه، ودبركم منذ أربعين سنة في البرية ليواضعكم ويجربكم وليعلم ما في قلوبكم هل تحفظون وصاياه أم لا، فواضعكم وأجاعكم وأطعمكم منّاً لم تعرفوه أنتم ولا آباؤكم ليبين لكم أنه ليس إنما يعيش الإنسان بالخبز فقط، بل إنما يعيش بما يخرج من فم الله، ولم تبل ثيابكم ولم تجف أقدامكم منذ أربعين سنة، احفظوا وصايا الله ربكم وسيروا في
93
طرقة واتقوه، لأن الله ربكم هو الذي يدخلكم إلى الأرض المخصبة، أرض كثيرة الأدوية والينابيع والعيون التي تجري في الصحارى والجبال، أرض الحنطة والشعير، فيها الكروم والتين والرمان والزيتون والدهن والعسل، أرض لاتحتاجون فيها ولا تأكلون خبزكم بالفقر، ولا يعوزكم فيها شيء، أرض حجارتها حديد تستخرجون النحاس من جبالها، فاحتفظوا، لا تنسوا الله ربكم، واحفظوا وصاياه وشرائعه التي آمركم بها اليوم، لا تبطروا، فإذا أكلتم وشبعتم وبنيتم بيوتاً وسكنتموها وكثر غنمكم وبقركم وكثرت أموالكم فتعظم قلوبكم وتنسوا الله ربكم الذي أخرجكم من أرض مصر وأنقذكم من العبودية ودبركم في البرية المرهوبة العظيمة حيث الحيات الحردات والعقارب وفي مواضع العطش وحيث لم يكن لكم ماء، أخرج لكم من ماء الظران، وأطعمكم منّاً لم يعرفه آبائكم ليواضعكم ويجربكم ويحسن إليكم آخر ذلك، وانظروا، لا تقولوا في قلوبكم إنا إنما استفدنا هذه الأموال بقوتنا وعزة قلوبنا، ولكن اذكروا الله ربكم الذي قواكم أن تستفيدوا هذه الأموال ليثبت العهد الذي أقسم لآبائكم، وإن أنتم نسيتم الله ربكم وتبعتم آلهة أخرى وعبدتموها وسجدتم لها أشهدت عليكم اليوم فأعلمتكم أنكم تهلكون هلاك سوء، كما أهلكت الشعوب التي أباد الرب بين أيديكم كذلك تهلكون، اسمعوا يا بني إسرائيل!
94
بل أنتم تجوزون اليوم نهر الأردن وتنطلقون لتمتلكوا الشعوب التي هي أقوى وأعظم منكم وتظفروا بالقرى الكبار المشيدة إلى السماء وبشعب كبير عظيم بني الجبابرة، وقد علمتم وسمعتم أنه ما يقدر إنسان أن يقوم بين يدي الجبابرة، وتعلمون يومكم هذا أن الله ربكم يجوز أمامكم وهو نار محرقة، وهو يهلكهم ويهزمهم أمامكم، ولا تقولوا في قلوبكم إنه إنما أدخلنا الرب ليرث هذه الأرض من أجل برنا، لأنه إنما يهلك الرب هذه الشعوب من أجل خطاياهم، وليثبت الأقوال التي وعد بها آباءكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاعلموا أنه ليس من أجل بركم يورثكم الله هذه الأرض المخصبة، لأنكم صلاب الرقاب، اذكروا ولا تنسوا أنكم أسخطتم الله ربكم في البرية منذ يوم خرجتم من أرض مصر حتى انتهيتم إلى هذه البلاد، ولم تزالوا مسخطين لله ربكم ونحوريت أيضاً أغضبتم الرب، وغضب الرب عليكم وأراد هلاككم حيث صعدت إلى الجبل وأخذت لوحي العهد الذي عاهدكم الرب، ومكثت في الجبل أربعين يوماً بلياليها لم أذق خبزاً ولم أشرب ماء، وأعطاني الرب لوحين من حجارة مكتوب عليهما بأصبع الله، وكانت كل الآيات التي كلمكم الرب بها من الجبل يوم الجمعة ومن بعد الأربعين، وأعطاني
95
لوحي العهد، قال لي الرب: قم فانزل من هاهنا سريعاً، لأن شعبك الذي أخرجته من أرض مصر قد فسدوا ومالوا عن الطريق الذي أمرتهم عاجلاً، وعملوا لهم إلهاً مسبوكاً، وقال لي الرب: رأيت هذا الشعب فإذا هو شعب قاسي القلب، فدعني الآن حتى أهلكهم وأبيد أسماءهم من تحت السماء وأصيرك مدبراً لشعب أعظم وأعز منهم، وأقبلت فنزلت من الجبل والجبل يشتعل ناراً ولوحا العهد بيدي، ورأيت أنكم أذنبتم أمام الله ربكم سريعاً، وعمدت إلى لوحي الحجارة فرميت بهما من يدي وكسرتهما قدامكم، وصليت أمام الرب كما صليت أولاً أربعين يوماً بلياليها، لم أذق طعاماً ولم أشرب شراباً من أجل جميع الخطايا التي ارتكبتم وما عملتم من الشر بين يدي الرب وأغضبتموه: لأني فرقت وخفت غضب الله وزجره أنه أراد إهلاككم، واستجاب الله لي في ذلك الزمان، وأما عجل خطاياكم الذي عملتموه فأخذته وأحرقته بالنار وسحقته وطحنته جداً حتى صار مثل التراب وطرحت ترابه في الوادي الذي ينزل في الجبل، وبالحريق والبلايا وبقبور أصحاب الشهوة، أغضبتم الرب، وإذ أرسلكم ربكم من رقام الحي وقال لكم: اصعدوا ورثوا الأرض التي أعطيكم، اجتنبتم
96
قول الرب وأغضبتموه ولم تؤمنوا به ولم تسمعوا قوله، ولم تزالوا لله مسخطين منذ يوم عرفتكم، وصليت أمام الرب أربعين يوماً بلياليها، لأن الرب أمر بهلاككم، وقلت في صلاتي، يارب! لا تهلك شعبك وميراثك الذي خلصته بعظمتك وأخرجتهم من أرض مصر بيد عزيزة، ولكن اذكر عبيدك إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا تنظر إلى معصية هذا الشعب وإثمه وخطاياه، لئلا يقول سكان تلك الأرض التي أخرجتهم منها: إن الرب لم يقو أن يدخلهم الأرض التي قال لهم، وإنما أخرجهم من عندنا لبغضه لهم ليضلهم في البرية، وهو شعبك وميراثك الذي أخرجتهم بقوتك العظيمة وذراعك العزيزة، فقال لي الرب في ذلك الزمان أن أنقر لوحين من حجارة مثل اللوحين الأولين واصعد إلى الجبل إليّ واعمل تابوتاً من خشب الشمشاد - وفي نسخة: السنط - ونقرت اللوحين من الحجارة مثل اللوحين الأولين وصعدت إلى الجبل واللوحان في يدي، وكتب على اللوحين الكتاب الأول، وهي العشر الآيات التي كلمكم الرب بها من الجبل من النار يوم الجماعة، ودفعها الرب إليّ فأقبلت نازلاً من الجبل ووضعت اللوحين في التابوت الذي عملت وتركتهما فيه كما فيه أمر الرب، وارتحل بنو إسرائيل من ثروات بني يعقان وموسار، وتوفي هارون هناك، وصار أليعازر ابنه حبراً مكانه، وارتحلوا من هناك إلى جدجد، ومن جدجد إلى يطبت أرض مسايل الماء، في ذلك الزمان أفرز الرب سبط لاوي ليحملوا تابوت عهد الرب، وأن
97
يقوموا أمام الرب ويخدموه وأن يبركوا باسم الرب إلى اليوم، ولذلك ليس لبني لاوي حصة مع بني إسرائيل في ميراثهم، لأن ميراثهم لله ربهم كما قال لهم، وأنا قمت بين يدي الرب في الجبل مثل الأيام الأولى أربعين يوماً بلياليها، واستجاب لي الرب في ذلك الزمان أيضاً، ولم يخذلكم الله ربكم ولم يفسدكم، وقال لي الرب: قم فارتحل وسر أمام الشعب ليدخلوا ويرثوا الأرض التي أقسمت لآبائهم أن أعطيهم، والآن يابني إسرائيل ما الذي يطلب الله ربكم منكم! ما يطلب الآن إلا أن تتقوا الله ربكم من كل قلوبكم وتسيروا في طرقه وتحبوه، وأن تعبدوا الله ربكم من كل قلوبكم وأنفسكم، وأن تحفظوا وصايا الله ربكم التي آمركم بها اليوم ليحسن إليكم لأن السماء وسماء السماء هما لله ربكم والأرض وجميع ما فيها، وبآبائكم وحدهم سر الرب وأحبهم وانتخب نسلهم من بعدهم وفضلهم على جميع الشعوب كاليوم، اختتنوا غلفة قلوبكم، ولا تقسوا رقابكم أيضاً، لأن الله ربكم هو إله الآلهة ورب الأرباب، إله عظيم جبار مرهوب لا يحابي ولا يرتشي، ينصف للأيتام والأرامل، ويحب الذي يقبل إليه برزقه طعاماً وكسوة، فأحبوا الذين يقبلون إليه واذكروا أنكم كنتم سكاناً بأرض مصر، فاتقوا الله ربكم واتبعوه واعبدوه
98
وأقسموا باسمه، لأنه إلهكم ومريحكم، وهو الذي أكمل لديكم العجائب التي رأت أعينكم، واعلموا أنه إنما أنزل آبائكم إلى مصر سبعين رجلاً، والآن فقد كثركم الله ربكم مثل نجوم السماء، أحبوا الله ربكم واحفظوا سننه وأحكامه كل الأيام، واعلموا يومكم هذا أنه ليس لبنيكم الذين لم يعاينوا ولم يعلموا ما رب الرب وعظمته ويده المنيعة وذراعه العظيمة وآياته وأعماله التي عمل بمصر وبفرعون ملك مصر وكل أرضه وما صنع بأجناد ملك مصر وما فعل بالخيل والمراكب وفرسانها الذين قلب عليهم ماء بحر سوف حيث خرجوا في طلبكم وأهلكهم الرب إلى اليوم وجميع ما صنع بكم في البرية حيث انتهيتم إلى هذه البلاد وما صنع بداثان وأبيرم ابني أليب بن روبيل اللذين فتحت الأرض فاها وابتلعتهما وبيتهما، وخيامهم وكل شيء هو لهم إذ كانوا قياماً على أرجلهم بين يدي جميع بني إسرائيل، ولكن قد رأت أعينكم جميع أعمال الله العظيمة التي عمل، فاحفظوا جميع الوصايا التي أمركم الله بها اليوم لتدخلوا الأرض التي تجوزون إليها لترثوها وتطول أعماركم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم ويرثها نسلهم - وستأتي تتمته إن شاء الله تعالى عند
{ولقد بوأنا بني إسرائيل
99
مبوأ صدق} [يونس: ٩٣]، وفيه من المتشابه قوله: فم الله، وإصبع الله، والأول - لكونه لا يجوز إطلاقه في شرعنا - مؤوّل بالكلام، والثاني بالقدرة.
100
ولما فرغ سبحانه من ذكر الوعد بالميقات المقصود به سعي الكليم عليه السلام فيما يهديهم إلى صراط الله، وذكر سعيهم فيما أضلهم عن الطريق باتخاذهم العجل، وكان ختام ذلك ما بدا من موسى عليه السلام من الشفقة على أخيه ثم على الكافة بأخذ الألواح عند الفراغ مما يجب من الغضب لله، رد الكلام على ذكر شيء فعله في الميقات مرادٍ به عصمتُهم في صراط الله بنقلهم - بمشاركته في سماعهم لكلام الله - من علم اليقين إلى عين اليقين بل حق اليقين شفقة عليهم ورحمة لهم، ليكون إخبارهم عما رأوا مؤيداً لما يخبر به، فيكون ذلك سبباً لحفظهم من مثل ما وقعوا فيه من عبادة العجل، ومع ذلك وقع منهم العصيان بطلب ما لا ينبغي لهم من الرؤية على وجه التعنت، فقال: ﴿واختار﴾ أي اجتهد في أخذ الخيار ﴿موسى قومه﴾ ثم أبدل منهم قوله: ﴿سبعين رجلاً﴾ إشارة إلى أن من عداهم عدم، لا يطلق عليهم اسم القوم في المعنى الذي أراده، وهو نحو ما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما «الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة» ثم ذكر علة الاختيار فقال: ﴿لميقاتنا﴾ أي فما أختار إلا من رأى أنه يصلح لما نريد من عظمتنا في الوقت الذي حددناه له، ودنا بهم من الحضرة
100
الخطابية في الجبل هو وهارون عليهما السلام، واستخلف على بني إسرائيل يوشع بن نون عليه السلام، كل ذلك عن أمر الله له، وفي هذا الكلام عطف على قوله ﴿وواعدنا موسى ثلاثين ليلة﴾ [الأعراف: ١٤٢] فيكون الميقات هو الأول وهو ظلاهر التوارة كما مر بيانه في البقرة، ويجوز أن يكون عطفاً على قوله ﴿واتخذ قوم موسى﴾ [الأعراف: ١٤٨] أو على قوله ﴿أخذ الألواح﴾ [الأعراف: ١٥٤] وحينئذ يكون هذا الميقات غير الميقات الأول، ويؤيده ما نقل من أن هارون عليه السلام كان معهم، وكأنهم لما سمعوا كلام الله طلب بعضهم الرؤية جاعليها شرطاً لإيمانهم فقالوا: ﴿لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾ [البقرة: ٥٥] كما فعل النقباء الاثنا عشر حين أرسلهم لجس أحوال الجبارين فنقص أكثرهم، فأخذتهم الرجفة فماتوا، فخشي موسى عليه السلام أن يتهمه بنو إسرائيل في موتهم كنفس واحدة ﴿فلما أخذتهم﴾ أي أخذ قهر وغلبة ﴿الرجفة﴾ أي التي سببتها الصاعقة التي تقدمت في البقرة، فزلزلت قلوبهم فأماتتهم، وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن هؤلاء غير السبعين الذين قالوا ﴿أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة﴾ [النساء: ١٥٣] وأن أولئك كانوا قبل هؤلاء، فالظاهر أن سبب الرجفة ما رأوا عند سماع الكلام من جلال الله وعظيم هيبته من الغمام الذي تغشى الجبل والقتار والبروق وأصوات القرون وغير ذلك بحيث كادت الرجفة - وهي رعدة - تفرق أوصالهم بعضها من بعض ﴿قال﴾ أي موسى تملقاً لربه سبحانه
101
﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ ﴿لو شئت أهلكتهم﴾ أي أمتّهم.
ولما لم يكن إهلاكهم مستغرقاً للماضي، أدخل الجارفقال: ﴿من قبل وإياي﴾ أي قدرتك عليّ وعليهم قبل أن نقترب من هذه الحضرة المقدسة ونحن بحضرة قومنا كقدرتك علينا حين تشرفنا بها، وقد أسبلت علينا ذيل عفوك وأسبغت علينا نعمتك ونحن في غيرالحضرة فلم تهلكنا، فإنعامك علينا ونحن في حضرة القدس وبساط القرب والأنس أولى.
ثم لما كان الحال مقتضياً لأن يقال: ألم تر إلى ما اجترؤوا عليه، وكان كأنه قال: إنما قال ذلك قوم منهم سفهاء، دل على ذلك بقوله استعطافاً: ﴿أتهلكنا﴾ وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رجفتهم كانت بسبب أنهم لم ينهوا عن عبادة العجل مع أنهم لم يرضوا بذلك. وكأن موسى عليه السلام عبر بهذه العبارة المقتضية لإهلاك الجميع لأنه جوز أنه كما أهلك هؤلاء يهلك غيرهم لتقصير آخر بسبب ذلك كعدم الجهاد مثلاً حتى يعمهم الهلاك ﴿بما فعل السفهاء منا﴾ فكأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضي أنه إن لم يشملهم العفو أن يخص العفو بمن لم يذنب بالفعل ويعفو عمن قصر بالسكوت، وعلى تقدير كون الميقات غير الأول يجوز أن يكون بعد اتخاذهم العجل كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما، فيكون موسى عليه السلام خاف أن يكون إهلاكهم فتنة لبني إسرائيل وسبباً لكفرهم كما كان إبطاؤه عنهم بزيادة عشرة أيام
102
الثلاثين في الميقات الأول سبباً لاتخاذهم العجل، ويجوز حينئذ أن يراد بفعل السفهاء اتخاذ العجل، ويؤيده التعبير بالفعل دون القول وقد تقدم نقله عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ولما كان قوله هذا ربما أفهم رضاه بهلاك المذنبين، قال معرضاً بالسؤال في العفو عن الجميع: ﴿إن هي﴾ أي الفتنة التي أوقعها السفهاء ﴿إلا فتنتك﴾ أي ابتلاؤك واختبارك ﴿تضل بها من تشاء﴾ أي تظهر في عالم الشهادة من ضلاله ما كان معلوماً لك في عالم الغيب ﴿وتهدي من تشاء﴾ أي تظهر ما في علمك من ذلك.
ولما أثبت أن الكل بيده، استأنف سؤاله في أن يفعل لهم الأصلح فقال: ﴿أنت﴾ أي وحدك ﴿ولينا﴾ أي نعتقد أنه لا يقدر على عمل مصالحنا غيرك، وأنت لا نفع لك في شيء من الأمرين ولا ضر، بل الكل بالنسبة إليك على حد سواء، ونحن على بصيرة من أن افعالك لا تعلل بالأغراض، وعفوك عنا ينفعنا وانتقامك منا يضرنا، ونحن في حضرتك قد انقطعنا إليك وحططنا رحال افتقارنا لديك.
ولما اثبت أنه الفعال لما يشاء وأنه لا ولي لهم غيره، وكان من شأن الولي جلب النفع ودفع الضر، سبب عن كونه الولي وحده قوله بادئاً بدفع الضرر: ﴿فاغفر لنا﴾ أي امح ذنوبنا ﴿وارحمنا﴾ أي ارفعنا؛ ولما كان التقدير: فأنت خير الراحمين، عطف عليه قوله: ﴿وأنت خير الغافرين*﴾
103
أي لأن غيرك يتجاوز عن الذنب للثناء أو الثواب أو دفعاً للصفة الخسيسة وهي صفة الحقد ونحوه، وأنت منزه عن ذلك، وكأنه أحسن العفو عنهم فقال عاطفاً على سؤاله فيه: ﴿واكتب لنا﴾ أي في مدة إحيائك لنا ﴿في هذه الدنيا﴾ أي الحاضرة والدنية ﴿حسنة﴾ أي عيشة راضية طيبة ﴿وفي﴾ الحياة ﴿الآخرة﴾ أي كذلك؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿إنا هدنا﴾ أي تبنا ﴿إليك﴾ أي عما لا يليق بجنابك كما أمرتنا أن نخبر ما عساه يقع منا بالمبادرة إلى التوبة، فبدأ بذكر عزة الربوبية وثنى بذلة العبودية وهما أقوى أسباب السعادة، وهذا تلقين لهم وتعليم وتحذير من مثل ما وقعوا فيه وحث على التسليم، وكأنه لما كان ذنبهم الجهر بما لا يليق به سبحانه من طلب الرؤية، عبر بهذا اللفظ أو ما يدل على معناه تنبيهاً لهم على أن اسمهم يدل على التوبة والرجوع إلى الحق والصيرورة إلى الصلاح واللين والضعف في الصوت والاستكانة في الكلام والسكوت عما لا يليق، وأن يهودا الذي أخذ اسمه من ذلك إنما سموا به ونسبوا إليه تفاؤلاً لهم ليتبادروا إلى التوبة.
ولما كان في كلامه عليه السلام إنكار إهلاك الطائع بذنب العاصي وإن كان ذلك إنما كان على سبيل الاستعطاف منه والتملق مع العلم بأنه عدل منه تعالى وله أن يفعل ما يشاء بدليل قوله ﴿ولو شئت أهلكتهم من قبل وإياي﴾ [الأعراف: ١٥٥] استأنف سبحانه الإخبار عن الجواب عن كلامه على وجه منبه للجماهير على أن له التصرف المطلق بقوله:
104
﴿قال عذابي﴾ أي انتقامي الذي يزيل كل عذوبه عمن وقع به ﴿أصيب به﴾ أي في الدنيا والآخرة ﴿من أشاء﴾ أي أذنب أو لم يذنب ﴿ورحمتي﴾ أي إنعامي وإكرامي.
ولما كان الإيجاد من الرحمة فإنه خير من العدم فهو إكرام في الجملة، قال: ﴿وسعت كل شيء﴾ أي هذا شأنها وصفتها في نفس الأمر وإن بلغ في القبائح ما عساه أن يبلغ، وهذا معنى حديث أبي هريرة في الصحيح «إن رحمتي سبقت - وفي رواية: غلبت - غضبي» سواء قلنا: إن السبق بمعنى الغلبة، أو قلنا إنه على بابه، إما الأول فلأن تعلق الرحمة أكثر، لأن كل ما تعلق به الغضب تعلقت به الرحمة بإيجاد وإفاضة الرزق عليه، ولا عكس كالحيونات العجم والجمادات وأهل السعادة من المؤمنين والملائكة والحور وغيرهم من جنود الله التي لا تحصى. ولما أعلم أن رحمته واسعة وقدرته شاملة، وكان ذلك موسعاً للطمع، سبب عن ذلك قوله ذاكراً شرط إتمام تلك الرحمة ترهيباً لمن يتوانى عن تحصيل ذلك الشرط: ﴿فسأكتبها﴾ أي أخص بدوامها بوعد لا خلف فيه لأجل تمكني بتمام القدرة مما أريد مبتوتاً أمرها بالكتابة ﴿للذين يتقون﴾ أي يوجد لهم هذا الوصف الحامل على كل خير ولا يخلّ بوسعها أن أمنع دوامها بعد الإيجاد من غيرهم، فإن الكل لو دخلوا فيها دائماً ما ضاقت بهم، فهي في نفسها واسعة ولكني أفعل ما أشاء.
105
ولما ذكر نظرهم إلى الخالق بالانتهاء عما نهى عنه والائتمار بما أمر به، أتبعه النظر إلى الخلائق فقال: ﴿ويؤتون الزكاة﴾ ولعله خصها لأن فرضها كان في هذا الميقات كما تقدم في البقرة ولأنها أمانة فيما بين الخلق والخالق كما أن صفات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي كتبها لهم وشرط قبول أعمالهم باتباعه كذلك؛ ثم عمم بذكر ثمرة التقوى فقال مخرجاً لمن يوجد منه ذانك الوصفان في الجملة على غير جهة العموم: ﴿والذين هم بآياتنا﴾ أي كلها ﴿يؤمنون﴾ أي يصدقون بالقلب ويقرون باللسان ويعملون تصديقاً لذلك بالأكارن، فلا يكفرون ببعض ويؤمنون ببعض.
106
ولما كان اليهود ربما ادعوا ذلك مكابرة، وأضح غاية الإيضاح بقوله: ﴿الذين يتبعون﴾ أي بغاية جهدهم ﴿الرسول﴾ ولما كان هذا الوصف وحده غير مبين للمراد ولا صريح في الرسالة عن الله ولا في كونه من البشر، قال: ﴿النبي﴾ أي الذي يأتيه الوحي من الله فبدأ بالأشراف وثنى بما خصه برسالة الله وكونه من الآدميين لا من الملائكة.
ولما لم يتم المراد، قال مبيناً لأعظم المعجزات، وهي أن علمه بغير معلم من البشر: ﴿الأمي﴾ أي الذي هو مع ذلك العلم المحيط على صفة الأم، وأمة العرب لا يكتب ولا يقرأ ولا يخالط العلماء العلماء للتعليم منهم بل لتعليمهم، فانطبق الوصف على الموصوف مع التنويه
106
بجلالة الأوصاف والتشويق إلى الموصوف، ولم يعطف لئلا يوهم تعداد الموصوف - والمعنى أني لا أغفر لأحد من بني إسرائيل ولا من غيرهم إلا إن اتبع محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الاتباع تارة يكون بالقوة فقط لمن تقدم موته على زمانه، وتارة يخرج منة القوة إلى الفعل ممن لحق زمانه دعوته، فمن علم الله منه أنه لا يتبعه إذا أدركه لا يغفر له ولو عمل جميع الطاعات غير ذلك، وعرفه لهم بجميع خواصه حتى لا يتطرق إليه عند مجيئه ولا ريب يتعلل في أمره بعلة، ولذلك أتبعه بقوله: ﴿الذي يجدونه﴾ أي علماء بني إسرائيل؛ ولما اشتد تشوف بذكر الوجدان، قال: ﴿مكتوباً﴾ ثم قرب الأمر بقوله: ﴿عندهم﴾ ثم بين أنه مما لا يدخله شك بقوله: ﴿في التوراة والإنجيل﴾ أي اللذين يعلمون أنهما من عند الله بصفته البينة كما تقدم بيانه عما عللوا عن تبديله منهما في البقرة ﴿وإذا ابتلى إبراهيم ربه﴾ [البقرة: ١٢٤] وفي آل عمران عند ﴿إن الله اصطفى آدم ونوحاً﴾ [آل عمران: ٣٣] وفي النساء عند ﴿ما قتلوه يقيناً﴾ [النساء: ١٥٧] وفي التوارة أيضاً من ذلك في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس: وإذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الله ربكم فلا تعملوا مثل أعمال تلك الشعوب ولا يوجد فيكم من يطلب تعليم العرافين، ثم قال: لأن هذه الشعوب التي ترثونها كانت تطيع العرافين والمنجمين، فأما أنتم فليس هكذا يعطيكم الله ربكم، يل يقيم لكم نبياً من إخوتكم مثلي،
107
فأطيعوا ذلك النبي كما طلبتم إلى الله ربكم في حوريب يوم الجماعة وقلتم: لا تسمع صوت الله ربنا ولا تعاين هذه النار العظيمة لئلا نموت، فقال الرب: ما أحسن ما تكلموا، إني سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك، أجعل كلامي في فيه ويقول لهم ما آمره به، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه - انتهى.
هكذا رأيته مترجماً في بعض نسخ التوارة، ثم رأيت السموأل بن يحيى المغربي ترجمه في كتابه الذي ذكر فيه سبب إسلامه وكان من أكابر علمائهم بل العلماء فقال: نبياً أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك، بع فليؤمنوا - انتهى.
وهو يعني أن يكون هذا النبي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه من بني إسماعيل أخي إسحاق وقد أتى بشريعة مستقله لا تعلق لها بشريعة قبلها ولا توقف لها عليها، وذلك أن في العبارة كلمتين: مثل وإخوة، وحقيقة الأخ ابن أحد الأبوين، وهو لا يتأتى في أحد من أنبيائهم، فأقرب المجاز إلى حقيقته الحمل على أخي الأب، وهو إسماعيل عليه السلام، والشائع في الاستعمال في نحو ذلك على تقدير إرادة أحد منهم أن يقال: من أنفسهم، لا من إخوتهم، وحقيقة المثل المشارك في أخص الصفات،
108
وأخص صفات موسى عليه السلام الرسالة والكتاب بشريعة مستقلة، ولم يأت منهم بعده من هو بهذه الصفة، لأن عيسى عليه السلام لم ينسخ من شريعة موسى عليه السلام إلا بعض الأحكام، وعلى تقدير دعوى ذلك فيه لكونه نسخ في الجملة وتسليم ذلك لا يتأتى قصده بهذا النص لوجهين: أحدهما أنه ليس من رجالهم إلا بواسطة أمه، فحق العبارة فيه: من بني أخواتهم - جمع أخت، وإذا أريد آباء أمه كان المجاز فيهم أبعد من المجاز في بني إسماعيل لما تقدم، ولا ينتقل إلى الأبعد إلا بقرينة تصرف عن الأقرب - والله أعلم. وقال السمؤال بن يحيى أحد أحبارهم في سبب إسلامه: إن اليهود يقولون: إن هذه البشارة نزلت في حق سموأل أحد أنبيائهم الذين بعد موسى لأنه كان مثل موسى عليه السلام في أنه من سبط لاوي، وقال: إنه رأى سموأل عليه السلام في المنام وأنه دفع إليه كتاباً فوجد فيه هذه البشارة فقال له: هنيئاً لك يا نبي الله ما خصك الله به! فنظر مغضباً وقال: أوإياي أراد الله بهذا يا ذكي! ما أفادتك إذن البراهين الهندسية، فقلت: يا نبي الله! فمن أراد الله بهذا؟ قال: الذي أراد في قوله: هوفيع ميهار فاران، وتفسيره إشارة إلى نبوة وعد بنزولها على جبال فاران، فعرفت أنه يعني المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه المبعوث من جبال فاران وهي جبال مكة، ثم قال: أو ما علمت ان الله لم يبعثني بنسخ شيء من التوارة، وإنما بعثني أذكرهم بها وأحيي شرائعها
109
وأخلصهم من أهل فلسطين، قلت: بلى يانبي الله! قال: فأي حاجة بهم إلى أن يوصيهم ربهم باتباع من لم ينسخ دينهم ولم يغير شريعتهم، أرأيتهم احتاجوا إلى أن يوصيهم بقبول نبوة دانيال أو يرميا أو حزقيل؟ قلت: لا لعمري! فأخذ الكتاب من يدي وانصرف مغضباً فارتعبت لغضبه وازدجرت لموعظته واستيقظت مذعوراً. وقال في كتابه غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود: إن الله يطلق الإخوة على غير بني إسرائيل كما قال في بني العيص بن إسحاق عليه السلام في الجزء الأول من السفر الخامس ما تفسيره: أنتم عابرون في تخم إخوتكم بني العيص فإذا كانوا بنو العيص إخوة لبني إسرائيل لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق، فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم عليهم السلام، قال: وفي الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة في ذكر البشارة لإبراهيم عليه السلام ما تفسيره: وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك، ها قد باركت فيه وأثمره وأكثره جداً جداً وقال: إن جداً جداً بلسان العبراني مفسر «بماد ماد» وهاتان الكلمتان إذا عددنا حروفها بحساب الجمل كان اثنتين وتسعين، وذلك عدد حساب حروف اسم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعني فتعين أن يكون مراداً بها لأنها في البشارة بتكثير إسماعيل عليه السلام، وليس في
110
أولاده من كثره الله به وعدد اسمه هذا العدد غير محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: وإنما جعل ذلك في هذا الموضع ملغزاً، لأنه لو صرح به لبدلته اليهود أو أسقطته من التوراة كما عملوا في غيره - انتهى.
وفي آخرة فصول التوراة: دعا موسى عبد الله لبني إسرائيل قبل وفاته قال: أتى ربنا من سيناء وشرق لنا من جبل ساعير وظهر لنا من جبل - وفي نسخة: جبال فاران، معه ربوات الأطهار على يمينه، أعطاهم وحببهم إلى الشعوب وبارك على جميع أطهاره - وهم يتبعون آثارك ويتناقلون كلماتك. وفي نسخة بدل: معه ربوات الأطهار - إلى آخره: وأتى من ربوات القدس بشريعة نوره من يمينه لهم، واصطفى أيضاً شعباً فجميع خواصه في طاعتك وهم يقفون آثارك وسيتناقلون كلماتك انتهى. فالذي ظهر من جبال فاران هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم معترفون أنها مكة، ومعه ربوات، أي جماعات الأطهار، وأمته حببت إلى الشعوب، لأن كلاًّ من فريقي أهل الكتاب يقدمهم على الفريق الآخر، ولم يقبل أحد جميع كلام موسى عليه السلام ويتبع جميع آثاره في بشارته ممن يأتي بعد غيرهم - هذا وأما الإنجيل فالبشائر فيه أكثر وقد تقدم كثير منها، وهي تكاد أن تكون صريحة في سورة النساء في قصة رفعه عليه السلام،
111
ومما فيه أيضاً ما في إنجيل متى وغيره وأغلب السياق له: كثيراً أولون يصيرون آخرين وآخرون يصيرون أولين، يشبه ملكوت السماوات إنساناً رب بيت حرج بالغداة يستأجر فعلة الكرمه فشارط الأكرة على دينار واحد في اليوم وأرسلهم إلى كرمه، ثم خرج في ثالث ساعة فأبصر آخرين قياماً في السوق بطالين، فقال لهم: امضوا أنتم إلى كرمي وأنا أعطيكم ما تستحقون، فمضوا، وخرج أيضاً في الساعة السادسة والتاسعة فصنع كذلك، وخرج في الحادية عشرة فوجد آخرين قياماً، فقال لهم: ما قيامكم كل النهار بطالين؟ فقالوا له: لم يستأجرنا أحد، فقال لهم: امضوا أنتم بسرعة إلى الكرم وأنا أعطيكم ما تستحقون، فلما كان المساء قال رب الكرم لوكيله: ادع الفعلة وأعطهم الأخرة وابدأ بهم من الآخرين إلى الأولين، فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة فأخذوا دينار كل واحد، فجاء الأولون فظنوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا دينار كل واحد، لما أخذوا تعمقوا على رب البيت وقالوا إن هؤلاء الآخرين عملوا ساعة واحدة، جعلتهم أسوتنا ونحن حملنا ثقل النهار وحرّه! فقال لواحد منهم: ياصاحب! ما ظلمتك، ألست بدينار شارطتك، خذ شيئك وامض، أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك، أو ما لي أن أفعل ما أردت بمالي؟ وأن عينك شريرة، كذلك يكون الآخرون أولين، والأولون آخرين، ما أكثر المدعوين وأقل المنتخبين،
112
وقال: ودخل إلى الهيكل فجاء إليه رؤساء النكهة وشيوخ الشعب وقالوا له وهو يعلم: بأيّ سلطان تفعل هذا؟ ومن اعطاك هذا السلطان؟ أجاب يسوع وقال لهم: أنا أسألكم عن كلمة واحدة، فإن أنتم قلتم لي قلت لكم بأي سلطان أفعل هذا، معمودية يوحنا من أين هي؟ من السماء أو من الناس؟ ففكروا في نفوسهم قائلين: إن قلنا: من السماء قال لنا: لماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا: من الناس، خفنا من الجمع، وقال لوقا: وإن قلنا من الناس فإن جميع الشعب يرجمنا لأنهم قد تيقنوا أن يوحنا نبي؛ وقال متى: لأن يوحنا كان عندهم مثل نبي؛ وقال مرقس: لأن جميعهم كان يقول: إن يوحنا نبي؛ قال متى: فقالوا: لا نعلم، فقال: ولا أنا أيضاً أعلمكم بأي سلطان أفعل هذا.
قال مرقس: وبدأ يكلمهم بأمثال قائلاً؛ قال متى: ماذا تظنون بإنسان كان له ابنان فجاء إلى الأول فقال له: يابني! اذهب اليوم واعمل في الكرم، فأجاب وقال: ما أريد - وبعد ذلك ندم ومضى، جاء الى الثاني وقال له مثل هذا فأجاب وقال: نعم يارب! أنا امضي - ولم يمض، من منهما فعل إرادة الأب؟ فقالوا له: الأول، فقال لهم يسوع: الحق أقوال لكم! إن العشارين والزنا يسبقونكم إلى ملكوت الله، جاءكم يوحنا بطريق العدل فلم تؤمنوا به، والعشارون والزناة آمنوا به، فأما أنتم فرأيتم ذلك ولم تندموا أخيراً لتؤمنوا به. اسمعوا مثلاً آخر: إنسان رب بيت غرس كرماً وأحاط
113
به سياجاً وحفر فيه معصرة وبنى فيه برجاً ودفعه إلى فعلة وسافر - قال لوقا: زماناً كثيراً - فلما قرب زمان الثمار أرسل عبيده إلى الفعلة ليأخذوا ثمرته، فأخذ الفعلة عبيده، ضربوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً، فأرسل أيضاً عبيداً آخرين أكثر من الأولين فصنعوا بهم كذلك، وفي الآخرة أرسل إليهم ابنه وقال: لعلهم يستحيون من ابني، فلما رأى الفعلة الابن قالوا: هذا هو الوارث تعالوا نقلته ونأخذ ميراثه، فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه، فإذا جاء رب البيت ماذا يفعل بهؤلائك الفعلة؟ قالوا له: يهلكهم ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين ليعطوه ثمرته في حينه، قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب أن الحجر الذي رذله البناؤون صار رأس الزاوية، هذا كان من قبل الرب وهو عجب في أعيننا، من هذا أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمم يصنعون ثمرتها، ومن سقط على هذا الحجر ترضض، ومن سقط عليه طحنه.
فلما سمع رؤساء الكهنة والفريسيين امثاله علموا انه يقول من أجلهم، فهموا أن يمسكوه وخافوا من الجموع لأنه كان عندهم مثل نبي. وقال أيضاً: يشبه ملكوت السماء رجلاً صنع عرساً لابنه، فأرسل عبيده ليدعوا المدعوين إلى العرس، فلم يريدوا أن ياتوا، ثم أرسل عبيداً آخرين وقال: قولوا المدعوين: إن طعامي معد، وعجولي المعلوفة قد ذبحت وكل شيء معد، فتعالوا إلى العرس، فتكاسلوا
114
وذهبوا فمنهم إلى حقله ومنهم إلى تجارته والبقية أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم، فلما بلغ الملك غضب وأرسل جنده وأهلك هؤلائك القتلة وأحرق مدينتهم؛ حينئذ قال لعبيده: أما العرس فمستعد، والمدعوون فغير مستحقين، اذهبوا إلى مسالك الطريق وكل من وجدتموه ادعوه إلى العرس، فخرج أولئك العبيد إلى الطرق فجمعوا كل من وجدوا أشراراً وصالحين، فامتلأ العرس من المتكئين، فلما دخل الملك لينظر إلى المتكئين رأى هناك رجلاً ليس عليه ثياث العرس فقال: يا هذا! كيف دخلت هاهنا وليس عليك ثياب العرس؟ فسكت، حينئذ قال الملك للخدام: شدوا يديه ورجليه وأخرجوه إلى الظلمة البرانية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، ما أكثر المدعوين وأقل المنتخبين. وعبارة لوقا عن ذلك: إنسان صنع وليمه عظيمة ودعا كثيراً فأرسل عبده يقول للمدعوين يأتون فهو ذا كل شيء معد، فبدؤوا بأجمعهم يستعفون، فالأول قال: قد اشتريت كرماً والضرورة تدعوني إلى الخروج ونظره، فأسألك أن تعفيني فما أجيء، وقال آخر: قد اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماض أجربها، أسألك أن تعفيني فما أجيء، وقال آخر: قد تزوجت امرأة، لأجل ذلك ماأقدر أجي، فأتى العبد وأخبره سيده، فحينئذ غضب رب البيت وقال لعبده: اخرج
115
مسرعاً إلى الطريق وشوارع المدينة وادع المساكين والعور والعميان والمقعدين، اخرج الى الطريق والسياجات وألح عليهم حتى يدخلوا ويمتلىء بيتي ولا أجد من هؤلائك يذوق لي عشاء. وقال يوحنا: الحق أقول لكم! إن من لا يدخل من الباب إلى حظيرة الخراف، بل يتسور من موضع آخر فإن ذلك لص، الذي يدخل من الباب هو راعي الخراف، والبواب يفتح له، والخراف تسمع له، وكباشه تتبعه لأنها تعرف صوته، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف، فأما الآخر الذي ليس براع وليست الخراف له، فإذا راى الذئب قد أقبل يدع الخراف ويهرب، فيأتي الذئب ويخطف ويبدد الخراف، وإنما يهرب الأجير لأنه مستأجر وليس يشفق على الخراف، أنا الراعي الصالح، ولي كباش أخر ليست من هذا القطيع، فينبغي لي أن آتي بهم أيضاً، فتكون الرعية واحدة، فوقع أيضاً بين اليهود خلف من أجل هذا القول وقال كثير منهم: إن به شيطاناً قد جن، فما استماعكم منه! وقال آخرون: إن هذا ليس كلام مجنون.
وفي أوائل السيرة الهشامية: قال ابن إسحاق:
116
وقد كان فيما بلغني عما كان وضع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل من صفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما أثبت يحنس الحواري لهم حين نسخ لهم الإنجيل أنه قال: من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لمن يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بطروا وظنوا أنهم يعزوني وأيضاً للرب، ولكن لابد من أن تتم الكلمة التي في الناموس أنهم أبغضوني مجاناً - أي باطلاً، فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القدس، هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القدس، هذا الذي من عند الرب خرج، فهو شهيد علي وأنتم أيضاً لأنكم قديماً كنتم معي، هذا قلت لكم لكيما لا تشكوا. فالمنحمنا بالسريانية محمد، وهو بالرومية البارقليطس - انتهى.
ولما دل سبحانه عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأوصافه في نفسه وفي الكتب الإلهيه، دل عليه بشريعته فقال: ﴿يأمرهم بالمعروف﴾ أي بكل ما يعرفونه من التوراة والإنجيل وما يعرفونه فيهما أنه ينسخ شرعهم ويأتي من عند الله بهذا المذكور ﴿وينهاهم عن المنكر﴾ أي عن كل ما ينكرونه فيهما، فثبتت بذلك رسالته، فأنه لكونه أمياً لا يعرف المعروف والمنكر فيهما إلا وهو صادق عن علام الغيوب، ثم شرع
117
بعد ثبوت رسالته يبين لهم ما في رسالته من المنة عليهم بالتخفيف عنهم بإباحة ما كانوا قد حملوا ثقل تحريمه، فكانوا لا يزالون يعصون الله بانتهاك حرماته والإعراض عن تبعاته فقال: ﴿ويحل لهم الطيبات﴾ أي التي كانت حرمت عليهم عقوبة لهم كالشحوم ﴿ويحرم عليهم﴾ وعبر بصيغة الجموع إشارة إلى أن الخبيث أكثر من الطيب في كل مائي الأصل فقال: ﴿الخبائث﴾ أي كل ما يستخبثه الطبع السليم أو يؤدي إلى الخبث كالخمر المؤدية إلى الإسكار والرشى المؤدية إلى النار بعد قبيح العار ﴿ويضع عنهم إصرهم﴾ أي ثقلهم الذي كان حمل عليهم فجعلهم لثقلة كالمحبوس الممنوع من الحركة ﴿والأغلال التي كانت عليهم﴾ أي جميع ما حملوه من الأثقال التي هي لثقلها وكراهة النفوس لها كالغل الذي يجمع اليد إلى العنق فيذهب القوة ﴿فالذين آمنوا به﴾ أي أوجدوا بسببه الأمان من التكذيب بشيء من آيات الله ﴿وعزروه﴾ أي منعوه من كل من يريده بسوء وقووا يده تقوية عظيمة على كل من يكيده: قال في القاموس: والتعزير: ضرب دون الحد أو هو أشد الضرب، والتفخيم والتعظيم ضد، والإعانة كالعزر والتقوية والنصر- انتهى.
وقال عبد الحق: العزر: المنع، تقول: عزرت فلاناً عن كذا، أي منعته - انتهى. فالمادة كلها تدور على هذا المعنى والضرب واضح فيه التعظيم وما في معناه منع من يكيده ﴿ونصروه﴾ أي أيدوه
118
وقمعوا مخالفة ﴿واتبعوا النور﴾ أي الوحي من القرآن والسنة ﴿الذي أنزل معه﴾ أي مصاحباً إنزاله إرساله، سمي نوراً لأنه يجعل المقتدي به ببيان طريق الحق كالماشي في ضوء النهار ﴿أولئك هم﴾ أي خاصة ﴿المفلحون*﴾ أي الفائزون بكل مأمول.
ولما تراسلت الآي وطال المدى في أقاصيص موسى عليه السلام وبيان مناقبه العظام ومآثره الجسام، كان ذلك ربما أوقع في بعض النفوس أنه أعلى المرسلين منصباً وأعظمهم رتبة، فساق سبحانه هذه الآيات هذا السياق على هذا الوجه الذي بين أن أعلاهم مراتب وأزكاهم مناقب الذي خص برحمته من يؤمن به من خلقه قوة أو فعلاً، وجعل سبحانه ذلك في أثناء قصة بني إسرائيل اهتماماً به وتعجيلاً له مع ما سيذكر مما يظهر أفضليته ويوضح أكمليته بقصته مع قومه في مبدإ أمره وأوسطه ومنتهاه في سورتي الأنفال وبراءة بكمالها.
ذكر شيء من الآصار التي كانت عليهم وخففت عنهم لو دخلوا في الإسلام ببركته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير ما أسلفته في آخر البقرة عند قوله تعالى ﴿ولا تحمل علينا إصراً﴾ [البقرة: ٢٨٦] وفي المائدة عند قوله تعالى ﴿وليحكم أهل الإنجيل﴾ [المائدة: ٤٧] قال في السفر الثاني من التوراة: وقال الرب لموسى: اعمد فخذ طيباً - إلى أن قال: وليكن معجوناً طيباً للقدس ودقه واسحقه وبخر منه قدام تابوت الشهادة في قبة الزمان
119
لأواعدك إلى هناك، ويكون عندكم طهراً مخصوصاً، وأيما رجل اتخذ مثله ليتبخر به فليهلك ذلك الرجل من شعبه؛ وقال في الثالث: ثم كلم الرب موسى قال له؛ كلم هارون وبنيه وجماعة بني إسرائيل وقل لهم؛ هذا ما أمرني به الرب ان أخبركم، أي رجل من بني إسرائيل يذبح في محلة بني إسرائيل أو يذبح خارجاً من العسكر ولا يجيء بقربانه إلى باب قبة الزمان ليقربه يعاقب ذلك الرجل عقوبة من قتل قتيلاً؛ وكلم الرب موسى وقال له: كلم هارون وقل له: من كان عيب من نسلك - أي من الأحبار - في جميع الأحقاب لا يدنو من مقدسي، لا يقرب قربانا ً مثل الرجل الأعراج والأعمى والأفطس والأصمع الأذن أو رجل مسكور اليد أو رجل قيصر أو منحن أو رجل قد أشتر حاجباه أو أجهر العين أو من في عينه بياض أو أبرص أو أحدب أو رجل له خصية واحدة، أي رجل كان فيه عيب من نسل هارون الكاهن لا يدنو من المذبح ليقرب قربان الرب لأن فيه عيباً؛ وقال في السفر الرابع وهو من الحجج على أن التوراة لم تنزل جملة: وكلم الرب موسى في برية سيناء في السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر في الشهر الأول وقال: تعمل بنو إسرائيل الفصح في وقته في أربعة عشر يوماً من هذا الشهر - إلى أن قال: وعملوا الفصح، والقوم الذين تنجسوا بأنفس الناس لم يقدروا أن يعملوا الفصح فقالوا: قد تنجسنا بأنفس الناس، أي مسسنا ميتاً، فهل يحرم علينا عمل الفصح؟ فقال لهم موسى:
120
قوموا في مواضعكم حتى تسمعوا ما يأمر الرب فيكم، وكلم الرب موسى وقال له: قل لهم: الرجل إذا تنجس منكم لميت أو كان في مكان بعيد يعمل فصحاً للرب في أربعة عشر يوماً من الشهر الثاني، ومن كان زكياً ولم يكن مسافراً ولم يعمل الفصح في وقته تهلك تلك النفس من بين بني إسرائيل، وقال قبل ذلك: وكلم الرب موسى وقال له: مر بني إسرائيل أن يخرجوا من عسكرهم كل من به برص أو سلس وكل من كان نجساً بنفسه ذكراً كان أو أنثى، يخرجونهم خارج العسكر، ولا تنجسوا عساكركم لأني نازل بينكم؛ ثم ذكر: الرجل إذا غار على امرأته واتهمها، إنه يأتي الكاهن فيقيمها ويلقنها لعناً، فإذا قالته كتبه وأخذ ماء مقدساً في وعاء فخار ووضع فيه من الترب الذي أسفل المذبح وسقاه لها، فإن كانت خانت انتفخ بطنها وفسد فخذاها وتصير لعنة في شعبها، وإن كانت لم تخن تطهرت وولت ذكراً، ثم أمرهم بذبح بقرة وإحراقها حتى تصير رماداً، ويغسل الحبر الذي ذبحها ثيابه ويديه، فكل من يقترب إلى ميت أو ميتة يكون نجساً سبعة أيام، وينضح عليه من ذلك الماء في اليوم الثالث واليوم السابع ويتطهر، وإن لم يرش عليه كذلك فلا يتطهر، وكل من دنا من إنسان ميت ولا ينضح عليه من ذلك الماء فقد نجس جناب الرب، فلتهملك تلك النفس لأنه لم ينضح عليه من ماء الرش شيء، فلذلك يكون نجساً ولا يفارقه نجاسته، وهذه
121
سنة الإنسان إذا مات في قبة الزمان، فكل من كان هناك في القبة وكل من يدخلها يكون نجساً سبعة أيام، وكل وعاء يكون مكشوفاً غير مغطى نجساً، وكل من دنا من قتيل أو يمس عظم إنسان أو يدخل القبر يكون نجساً سبعة أيام ويؤخذ للمنتخس من رماد البقرة ويصيب في وعاء ماء عذب وينضح منه - على كيفية ذكرها - ليكون زكياً، ومن تنجس ولم يرش عليه من ذلك الماء تهلك نفسه من جماعتها، ومن دنا من ماء الرش يكون نجساً إلى الليل، ومن اقترب إلى ذلك الذي تنجس يكون نجساً إلى الليل - ثم قال: ثم كلم الرب موسى وقال له: مر بني إسرائيل وقل لهم: قرابتي يكون محفوظة في أوقاتها - ثم ذكر له كثيراً من أمر القرابين، ثم ذكر من أوقاتها يوم السبت ورؤوس الشهور، ثم قال: وفي أربع عشرة ليلة من الشهر الأول هو فصح الرب، ويوم خمسة عشر اتخذوه عيداً، وكلوا الفطير سبعة أيام، وصيّروا أول يوم من السبعة مميزاً مطهراً لا تعملوا فيه عملاً، واليوم السابع يكون مميزاً مطهراً لا تعملوا فيه عملاً وأول يوم من الشهر السابع يكون مختصاً مطهراً، لا تعملوا فيه عملاً
122
مما يعمل، بل صيروه يوماً يهتف فيه بالقرون، وقربوا ذبائح كاملة - ثم وصفها وكذا غيره من الأيام ثم قال: وكذلك فافعلوا في أول الشهر أبداً، وفي عشر من الشهر السابع اجعلوه يوماً مختصاً، مطهراًَ لا تعملوا فيه عملاً، ولكن قربوا، ويوم خمسة عشر من هذا الشهر السابع، ويكون مدعواً، لا تعملوا فيه عملاً، بل اتخذوه عيداً للرب سبعة أيام؛ ثم قال: حتى إذا كان اليوم الثامن فاحتفلوا بأجمعكم، ولا تعملوا شيئاً مما يعمل، وقربوا قرابين كاملة - وأطال في ذلك جداً على كيفيات حفظها فضلاً عن العلم بها في غاية المشقة؛ ثم قال قربوا للرب في أيام أعيادكم غير نذوركم وغير خواصكم التي تختصون للرب؛ ثم قال مخاطباً للمجاهدين في مدين: وأما أنتم فانزلوا خارجاً من العسكر سبعة أيام، كل من قتل نفساً أو مس قتيلاً ينضح عليه من ماء التطهير في الثالث والسابع - وأمرهم بأشياء من الآصار ثم قال: وتطهروا بالماء في اليوم السابع، ثم بعد ذلك تدخلون العسكر؛ ثم قال في الخامس: هذه السنن والأحكام التي يجب عليكم أن تعملوها وتحفظوها في الأرض التي يعطيكم الله ربكم ميراثاً كل أيام حياتكم، خربوا كل البلدان التي ترثونها، والآلهة التي عبدها أهلها فيها على الجبال
123
الرفيعة والآكام وتحت كل شجرة كبيرة تظل، واستأصلوا مذابحهم وكسروا أنصابهم، وأحرقوا أصنامهم المصنوعة وأوثانهم المنحوته، ولا تصنعوا أنتم مثل ما صنع أولئك في عبادتكم الله ربكم، ولكن المواضع التي يختار الله ربكم أن تصيِّروا اسمه فيها من جميع قبائلكم، وافحصوا عن محلته، وانطلقوا بجمعكم بقرابينكم الكاملة، كلوا هناك أمام الله ربكم أنتم وأهاليكم، ولا تعملوا كما يعمل هاهنا اليوم أي قبل الوصول إلى أرض الميراث؛ ثم قال: انظروا لا تقربوا قرابينكم في المواضع التي تريدون، لكن في المواضع الذي يختار الرب، في حد سبط من أسباطكم؛ ثم قال: وإذا بنيت بيتاً جديداً فحجر على البيت لئلا يقع إنسان من فوقه فليلزمك دمه، ولا تزرعن في حرثك خلطاً لئلا تفسد غلة زرعك وكرمك، لا تحرث بالثور والحمار جميعاً، ولا تنسج ثوباً من قطن وصوف جميعاً، اعمل خيوطاً في أربعة أطراف ردائك الذي تلبس؛ ثم قال: وإن وجد رجل فتاة عذراء لم تملك، فيظفر بها ويضاجعها ويوجد، يدفع إلى أبيها خمسين مثقالاً من فضة، وتصير امرأته لأنه فضحها، ولا يقدر أن يطلقها حتى يموت.
ولا يدخل
124
ولد الزنا إلى بيت الرب، ولا يدخل نسله من بعده إلى عشرة أحقاب، ولا يدخل عماني ولا مؤابيّ إلى بيت الرب، ولا يدخل نسلهما من بعدهما إلى عشرة أحقاب، لأنهم لم يضيفوكم ولم يعشوكم بالخبز والماء حيث خرجتم من أرض مصر، ولأنهم اكتروا بلعام بن بعور من فتورام من بين النهرين - وهي حران - ليلعنكم، ولم يحب الرب أن يسمع قول بلعام بن بعور، وقلب الله لعنه إلى الدعاء، لأن الله ربكم أحبكم، فلا تريدوا لهم الخير أيام حياتكم، لا تدفعوا الأدومي عنكم لأنه أخوكم، ولا تبعدوا المصري أيضاً لأنكم كنتم سكاناً بأرض مصر، وإن كان في معسكركم رجل أصابته جنابة، يخرج خارج العسكر، ولا يجلس بين أصحابه في العسكر، وإذا كان العشيّ فليستحم بالماء، وإذا غابت الشمس وأمسى يدخل العسكر، وليكن لكم موضع معروف خارج العسكر تخرجون إليه إلى الخلاء، ويكون على سلاحكم وتد من حديد، فإذا جلستم للخلاء احفروا موضعاً للخلاء وغطوا رجيعكم، لأن الله ربكم معكم في العسكر لينقذكم ويدفع عنكم أعداءكم، فليكن عسكركم مطهراً
125
مزكياً لئلا يرى فيكم أمراً قبيحاً، فيرتفع عنكم ولا يصحبكم؛ ثم قال: وإن سكن أخوان جميعاً ومات أحدهما ولم يخلف ولداً، لا تتزوج امرأته من رجل غريب، ولكن يتزوج بها وارثه ويقيم زرعاً، وأول ولد تلد ينسب إلى أخيه الذي مات، ويقال إنه ابن ذلك الذي مات ولم يخلف ولداً، لئلا يبيد اسمه من بني إسرائيل، وإن لم يعجب الرجل أن يتزوج امرأة أخيه، ترتفع امرأة أخيه إلى المشيخة فيدعونه، فإن ثبت على قوله تتقدم إليه المرأة بين يدي المشيخة وتخلع خفيه من قدميه وتبصق في وجهه وتقول: كذلك يصنع بالرجل الذي لا يحب أن يبني بيتاً لأخيه، ويدعى اسمه بين بني إسرائيل: صاحب خلع الخفين، وإن شاجر الرجل صاحبه فدنت امرأة أحدهما لتخلص زوجها من الذي يقاتله، فتمد يدها إلى مذاكير الرجل، يقطع يدها ولا يشفق عليها ولا يترحم - انتهى. وكل هذه الآصار على النصارى أيضاً ما لم يرد في الإنجيل نسخها.
126
ولما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم حثاً على الإيمان به وإيجاباً له على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف تقدم زمانه أو تأخر؛ أمره سبحانه أن
126
يصرح بما تقدم التلويح إليه، ويصرّح بما أخذ ميثاق الرسل عليه تحقيقاً لعموم رسالته وشمول دعوته فقال: ﴿قل﴾ وأتى بأداة البعد لأنه محلها ﴿يا أيها الناس﴾ وقد مضى في الأنعام أن اشتقاقهم من النوس، وأن الإمام السبكي قال: إن ذلك يقتضي دخول الجن والكملائكة فيهم. وتقدم عند ﴿ولا تبخسوا الناس أشياءهم﴾ في هذه السورة ما ينفع هنا ﴿إني رسول الله﴾ أي الذي له جميع الملك ﴿إليكم جميعاً﴾ أي لا فرق بين أدركني ومن تأخر عني أو تقدم عليّ في أن الكل يشترط عليهم الإيمان بي والاتباع لي؛ وهذا المراد بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه حين رفع إليه الذراع فنهش منها فقال: «أنا سيد الناس يوم القيامة» وللدرامي في أوائل مسنده عن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وانا أول شافع وأول مشفع ولا فخر» وللترمذي في المناقب عن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال؛ «أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا مستشفعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر» وقال: حديث حسن غريب، وله في المناقب أيضاً عن أبي
127
بن كعب رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر» وقال: حسن صحيح غريب؛ وللترمذي والدارمي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ألا! وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامه تحته آدم فمن دونه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامه ولا فخر، وانا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر» وللترمذي وقال: حسن - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامه ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي» الفخر: ادعاء العظمة والكبر والشرف، أي لا أقوله تبجحاً، ولكن شكراً وتحديثاً بالنعمة؛ وما اجتمع بهم في مجمع إلا كان إمامهم قبل موته وبعده، اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس فصلى بهم إماماً، ثم اجتمع بهم في السماء فصلى بجميع أهل السماء إماماً، وأما يوم الجمع الأكبر والكرب الأعظم فيحيل الكل عليه ويؤمنون بالرسالة، وما أحال بعض الكابر على بعض إلا علماً منهم بأن الختام يكون به.
ليكون أظهر للاعتراف بأمانته والانقياد لطاعته، لأن المحيل على المحيل
128
على الشيء محيل على ذلك الشيء، ولو أحال أحد ممن قبل عيسى عليه السلام لطرقه احتمال، والحاصل أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يظهر في ذلك الموقف رسالته بالفعل إلى الخلق كافة، فيظهر سر هذه الآية ﴿الذين يتبعون الرسول﴾ والله الموفق.
ولما دل بالإضافة إلى اسم الذات الدال على جميع الصفات على عموم دعوته وشمول رسالته حتى للجن والملائكة، أيد ذلك بقوله: ﴿الذي له﴾ أي وحده ﴿ملك السماوات والأرض﴾ أي فلا بدع أن يرسله إلى جميع من فيهما، بل وما فيهما.
ولما كان مما بالغه في الدنيا أنه ربما في مملكة الملك من يناظره أو يقرب منه من ولي عهد أو نحوه، فربما رد بعض أمره في صورة نصح أو غيره؛ نفى ذلك بقوله مبيناً تمام ملكه: ﴿لا إله إلا هو﴾ أي فالكل منقادون لأمره خاضعون له، لأنه لا موجود بالفعل ولا بالإمكان من يصلح للإلهية سواه؛ ثم علل ذلك بقوله ﴿يحيي ويميت﴾ أي له هاتان الصفتان مختصاً بهما، ومن كان كذلك كان منفرداً بما ذكر، وإذا راجعت ما يأتي إن شاء الله تعالى في أول الفرقان مع ما مضى في أوائل الأنعام، لم يبق عندك شك في دخول الملائكة عليهم السلام في عموم الدعوة.
ولما تقرر أنه لا منازع له، تسبب عن ذلك توجيه الأمر بالانقياد
129
لرسوله فقال: ﴿فآمنوا بالله﴾ أي لما ثبت له من العظمة والإحاطة بأوصاف الكمال وبكل شيء فإن الإيمان به أساس لا ينبني شيء من الذين إلا عليه.
ولما كان أقرب الفروع الأصلية إليه الرسالة قال: ﴿ورسوله﴾ أي لأنه رسوله؛ ثم وصفه بما دل على قربه فقال: ﴿النبي﴾ أي الذي يخبره بما يريد من الأمور العظيمة غيباً وشهادة، ويعليه عن كل مخلوق بإخباره بإرساله؛ ولما كان علوه على كل عالم - مع أنه ثم يتعلم من آدمي - أدل شيء على صدقه قال: ﴿الأمي﴾ أي الذي هو - مع كونه لا يحسن كتابة ولا قراءة، بل هو على الفطرة الأولى السليمة التي لم يخالطها هوى، ولا دنسها حظ ولا شهوة - بحيث يؤم ويقصد للاقتداء به، لما حوى من علوم الدنيا والآخرة والتخلق باوصاف الكمال.
ولما أشارة بهذه الصفة إلى أن سبب الإيمان الخلاص من الهوى بالكون على الفطره الأولى، قال منبهاً على وجوب الإيمان به، لكونه أول فاعل لما يدعو إليه: ﴿الذي يؤمن بالله﴾ أي لأجل ما يقتضية ذاته سبحانه من التعبد له لما له من العظمة، فكلما تجدد له علم من علوم الذات بحسب ترقيه في رتب الكمال من رتبة كاملة إلى أكمل منها إلى ما لا نهاية له، جدد له إيماناً بحسبه، لا تعتريه غفلة ولا يخالطه سهو
130
ولا شائبة فتور ﴿وكلماته﴾ كذلك أيضاً، كلما تجدد له علم بصفة منها جدد لها إيماناً، ومنها المعجزات التي جرت على يديه، كل واحدة منها كلمة لأن ظهوره بالكلمة، كما سمى عيسى عليه السلام كلمة لذلك.
ولما تقرر أنه امتثل ما أمر به، فثبتت بذلك رسالته، استحق أن يكون قدوة فقال: ﴿واتبعوه﴾ أي في كل ما يقول ويفعل مما ينهى عنه أو يأمر به أو يأذن فيه ﴿لعلكم تهتدون*﴾ أي ليكون حالكم حال من يرجى له حصول ما سأل في الفاتحة من الاهتداء، أي خلق الهداية في القلب مع دوامه.
ولما كثر عد مثالب إسرائيل، وختم بتخصيص المتبع لهذا النبي الكريم بالهداية والرحمة المسببة عنها، وكان فيهم المستقيم على ما شرعه له ربه، المتمسك بما لزمه أهل طاعته وحزبه، سواء كان من صفات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو غيرها، مع الإذعان لذلك كله؛ نبه عليه عائداً إلى تتميم أخبارهم، ثم ما وقع في أيام موسى عليه السلام وبعدها من شرارهم، تعزية لهذا النبي الكريم وتسلية، وتطييباً لنفسه الزكية وتأسية، وهو مع ما بعده من أدله ﴿سأصرف عن آياتي﴾ [الأعراف: ١٤٦] فقال تعالى عاطفاً على ﴿واتخذ قوم موسى من بعده﴾ [الأعراف: ١٤٨] ﴿ومن قوم موسى أمة﴾ أي قوم يستحقون أن يؤموا لأنهم لا يتكبرون في الأرض بغير الحق، بل
131
﴿يهدون﴾ أي يوقعون الهداية وهي البيان ﴿بالحق وبه﴾ أي خاصه ﴿يعدلون*﴾ أي يجعلون القضايا المختلفة المتنازع فيها معادلة ليقع الرضى بها، لا يقع منهم جور في شيء منها، ومنهم الذين اتبعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كعبد الله بن سلام ومخيريق رضي الله عنهما.
132
ولما مدحهم، شرع يذكرهم شيئاً مما أسبغ عليهم من النعم لأجل هؤلاء المهتدين من التكثير بعد القلة والإعزاز بعد الذلة بجعلهم ممن يؤم استعطافاً لغيرهم، ويذكر بعض عقوباتهم ترهيباً فقال: ﴿وقطعناهم﴾ أي فرقنا بينهم بالأشخاص بعد أن كانوا ماء واحداً من شخص واحد، وهو إسرائيل عليه السلام؛ وصرح بالكثرة بعد أن لوح بها بالتقطيع بقوله: ﴿اثنتي عشرة﴾ وميزه - موضع المفرد الذي هو مميز العشرة - بالجمع للإشارة إلى أن كل سبط يشتمل لكثرته على عدة قبائل بقوله: ﴿أسباطاً﴾ والسبط - بالكسر: ولد الولد، والقبيلة من اليهود، وهذه المادة تدور على الكثرة والبسط؛ وبين عظمتهم وكثرة انتشارهم وتشعبهم بقوله: ﴿أمماً﴾ أي هم أهل لأن يقصدهم الناس لما لهم من الكثرة والقوة والدين، أو أن كل أمة منهم تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى من غيرهم ديناً.
132
ولما وصفهم بهذه الكثرة، وكان ذلك مجرى لذكر الإنعام عليهم بالكفاية في الأكل والشرب، ذكر نعمة خارقة للعادة في الماء، وبدأ به لأنه الأصل في الحياة، وهي من نوع تقسيمهم من نفس واحدة مشيرة إلى ظلمهم وإسراعهم في المروق فقال: ﴿وأوحينا إلى موسى إذ﴾ أي حين ﴿استسقاه قومه﴾ أي طلبوا منه برية لا ماء بها أن يسقيهم، وذلك في التيه، والتعبير بالقوم إشارة إلى تبكيتهم بكونهم أهل قوة ولم يتأسوا بموسى عليه السلام في الصبر إلى أن يأتي الله الذي أمرهم بهذا المسير بالفرج، بل طلبوا منه ذلك على الوجه المذكور في البقرة من إظهار القلق والدمدمة ﴿أن اضرب بعصاك﴾ أي التي جعلناها لك آية وضربت بها البحر فانفلق ﴿الحجر﴾ أي أيّ حجر أردته من هذا الجنس؛ وبين سبحانه سرعة امتثال موسى عليه السلام وسرعة التأثير عن ضربه بحذف: فضربه، وقوله مشيراً إليه: ﴿فانبجست﴾ أي فانشقت وظهرت ونبعت، وذلك كاف في تعنيفهم وذمهم على كفرهم بعد المن به، وهذا السياق الذي هو لبيان إسراعهم في المروق هو لا ينافي أن يكون على وجه الانفجار، ويكون التعنيف حينئذ أشد ﴿منه اثنتا عشرة عيناً﴾ على عدد الأسباط، وأشار إلى شدة تمايزها بقوله؛ ﴿قد علم كل أناس﴾ أي من الأسباط ﴿مشربهم﴾ ولما لم يتقدم للأكل ذكر ولا كان هذا سياق الامتنان، لم يذكر ما أتم هذه الاية به في البقرة.
133
ولما ذكر تبريد الأكباد بالماء، أتبعه تبريدها بالظل فقال: ﴿وظللنا﴾ أي في التيه ﴿عليهم الغمام﴾ أي لئلا يتأذوا بالشمس؛ ولما أتم تبريد الأكباد، أتبعه غذاء الأجساد فقال: ﴿وأنزلنا عليهم المن﴾ أي خبراً ﴿والسلوى﴾ أي إداماً؛ وقال السمؤال بن يحيى: وهو طائر صغير يشبه السماني، وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية، يموت إذا سمع صوت الرعد كما أن الخطاف يقتله البرد، فيلهمه الله عز وجل أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون بها مطر ولا رعد إلى انفصال أوان المطر والرعد، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض.
ولما ذكر عظمته في ذلك، ذكر نتيجته فقال: ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ أي بصفة العظمة القاهرة لما نريد مما لم تعالجوه نوع معالجة، ودل على أنهم قابلوا هذا الإحسان بالطغيان والظلم والعدوان بقوله عطفاً على ما تقديره: فعدلوا عن الطبيات المأذون فيها، وأكلوا الخبائث التي حرمناها عليهم بالاصطياد يوم السبت - كما يأتي - وفعلوا غير ذلك من المحرمات، فظلملوا أنفسهم بذلك: ﴿وما ظلمونا﴾ أي بشيء مما قابلوا فيه الإحسان بالكفران ﴿ولكن كانوا﴾ أي دائماً جبلة وطبعاً ﴿أنفسهم﴾ أي خاصة ﴿يظلمون*﴾ وهو - مع كونه من أدلة ﴿سأصرف عن آياتي﴾ الآية - دليل على صحة وصف هذا الرسول بالنبي، فإن من علم هذه الدقائق من أخبارهم مع كونه أمياً ولم يخالط أحداً من أحبارهم،
134
كان صادقاً عن علام الغيوب من غير مؤيد وكذا ما بعده.
ولما ذكر ما حباهم في القفار، أتبعه إنعامه عليهم عند الوصول إلى الدار فقال: ﴿وإذ﴾ أي اذكر لهم هذا ليصدقوك أو يصيروا في غاية الظلم كأصحاب السبت فيتوقعوا مثل عذابهم، واذكر لهم ما لم تكن حاضره ولا أخذته عنهم، وهو وقت إذ، وعدل عن الإكرام بالخطاب ونو العظمة، لأن السياق للأسراع في الكفر فقال: ﴿قيل لهم اسكنوا﴾ أي ادخلوا مطمئنين على وجه الإقامة، ولا يسمى ساكناً إلا بعد التوطن بخلاف الدخول، فإنه يكون بمجرد الولوج في الشيء على أيّ وجه كان ﴿هذه القرية﴾. فهو دليل آخر على الأمرين: الصرف والصدق؛ وعبر هنا بالمجهول في ﴿قيل﴾ إعراضاً عن تلذيذهم بالخطاب إيذاناً بأن هذا السياق للغضب عليهم بتساقطهم في الكفر وإعراضهم عن الشكر، من أيّ قائل كان وبأيّ صيغة ورد القول وعلى أيّ حالة كان، وإظهاراً للعظمة حيث كانت، أدنى إشارة منه كافية في سكناهم في البلاد واستقرارهم فيها قاهرين لأهلها الذين ملؤوا قلوبهم هيبة حتى قالوا ﴿إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها﴾ [المائدة: ٢٤].
ولما خلت نعمة الأكل في هذا السياق عما دعا إليه سياق البقرة
135
من التعقيب وهو الاستعطاف، ذكرت بالواو الدالة على مطلق الجمع، وهي لا تنافي تلك، فقال: ﴿وكلوا منها﴾ أي القرية ﴿حيث شئتم﴾ وأسقط الرغد لذلك، وقدم ﴿وقولوا حطة﴾ ليكون أول قارع للسمع مما أمروا به من العبادة مشعراً بعظيم ما تحملوه من الآثام، إيذاناً بما سيقت له هذه القصص في هذه السورة المقام.
ولما أمروا بالحطة قولاً، أمروا أن يشفعوها بفعل، لتحط عنهم ذنوبهم، ولا ينافي التقديم هنا التأخير في البقرة، لأن الواو لا ترتب، فقال: ﴿وادخلوا الباب﴾ أي باب بيت المقدس حال كونكم ﴿سجداً نغفر لكم﴾ ولما كان السياق هنا لبيان إسراعهم في الكفر، ناسب ذلك جمع الكثرة في قوله: ﴿خطاياكم﴾ في قراءة أبي عمرو، وأما قراءة ابن عامر ﴿خطيتكم﴾ بالإفراد وقراءة غيرهما ﴿خطياتكم﴾ جمع قلة فللإشارة إلى أنها قليل في جنب عفوة تعالى، وكذا بناء ﴿نغفر﴾ للمجهول تأنيثاً وتذكيراً، كل ذلك ترجيه لهم واستعطافاً إلى التوبة، ولذلك ساق سبحانه ما بعده مساق السؤال لمن كأنه قال: هذا الرجاء قد حصل، فهل مع مع المغفرة من كرامة؟ فقال: ﴿سنزيد﴾ أي بوعد لا خلف فيه عن قريب، وهو لا ينافي إثبات الواو في البقرة ﴿المحسنين*﴾ أي العريقين في هذا الوصف،
136
وللسياق الذي وصفت قيد قوله: ﴿فبدل الذين ظلموا﴾ بقوله: ﴿منهم﴾ لئلا يتوهم أنهم من الدخلاء فيهم ﴿قولاً غير الذي﴾.
ولما كان من المعلوم أن القائل من له إلزامهم، بناه للمجهول فقال: ﴿قيل لهم﴾ وقال: ﴿فأرسلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿عليهم﴾ بالإضمار تهويلاً لاحتمال العموم بالعذاب ﴿رجزاً من السماء﴾ ولفظُ الظلم - في قوله: ﴿بما كانوا يظلمون*﴾ بما يقتضيه من أنهم لا ينفكون عن الكون في الظلام إما مطلقاً وإما مع تجديد فعل فعل من هو فيه - أهول من لفظ الفسق المقتضي لتجديد الخروج مما ينبغي الاستقرار فيه، كما أن لفظ الإرسال المعدي ب ﴿على﴾ كذلك بالنسبة إلى لفظ الإنزال.
ولما فرغ من هتك أستارهم فيما عملوه أيام موسى عليه السلام وما يليها، أتبعه خزياً آخر أشد مما قبله، كان بعد ذلك بمدة لا يعلمه أحد إلا من جهتهم أو من الله، وإذا انتفى الأول ثبت الثاني، فقال: ﴿وسئلهم﴾ أي بني إسرائيل مبكتاً لهم ومقرراً ﴿عن القرية﴾ أي البلد الجامع ﴿التي كانت حاضرة البحر﴾ أي على شاطئه وهي أيلة، ولعله عبر بالسؤال، ولم يقل: وإذ تعدو القرية التي - إلى آخره، ونحو ذلك، لأن كراهتهم للإطلاع على هذه الفضيحة أشد مما مضى، وهي دليل على الصرف والصدق. ولما كان السؤال عن خبر أهل القرية قال
137
مبدلاً بدل اشتمال من القرية ﴿إذ﴾ أي حين ﴿يعدون﴾ أي يجوزون الحد الذي أمرهم الله به ﴿في السبت إذ﴾ أي العدو حين ﴿تأتيهم﴾ وزاد في التبكيت بالإشارة إلى المسارعة في الكفر بالإضافة في قوله: ﴿حيتانهم﴾ إيماء إلى أنها مخلوقة لهم، فلو صبروا نالوها وهم مطيعون، كما في حديث جابر رضي الله عنه رفعه «بين العبد وبين رزقه حجاب، فإن صبر خرج إليه، وإلا هتك الحجاب ولم ينل إلا ما قدر له» ﴿يوم سبتهم﴾ أي الذي يعظمونه بترك الاشتغال فيه بشيء غير العبادة ﴿شرعاً﴾ أي قريبة مشرفة لهم ظاهرة على وجه الماء بكثرة، جمع شارعة وشارع أي دان ﴿ويوم لا يسبتون﴾ أي لا يكون سبت، ولعله عبربهذا إشارة إلى أنهم لو عظموا الأحد على أنه سبت جاءتهم فيه، وهو من: سبتت اليهود - إذا عظمت سبتها ﴿لا تأتيهم﴾ أي ابتلاء من الله لهم، ولو أنهم صبروا أزال الله هذه العادة فأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
ولما كان هذا بلاء عظيماً، قال مجيباً لسؤال من كأنه قال لشدة ما بهره من هذا الأمر: هل وقع مثل هذا؟ مشيراً إلى أنه وقع، ولم يكتف به، بل وقع لهم أمثاله لإظهار ما في عالم الغيب منهم إلى عالم الشهادة: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا البلاء العظيم ﴿نبلوهم﴾ أي نجدد اختبارهم كل قليل ﴿بما﴾ أي سبب ما ﴿كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿يفسقون*﴾ أي يجددون في علمنا من الفسق، وهو الخروج مما هو
138
أهل للتوطن من الطاعات.
139
ولما أخبر أن الفسق ديدنهم، أكده بقوله عطفاً على ﴿إذ يعدون﴾ [الأعراف: ١٦٣] ﴿وإذ﴾ أي واسألهم عن خبرهم حين ﴿قالت أمة منهم﴾ أي جماعة ممن يعتبر ويقصد من الواعظين الصالحين الذين وعظوا حتى أيسوا لأمة أخرى منهم لا يقلعون عن الوعظ تخويفاً للموعوظين بما يتجاوزون به ﴿لم تعظون قوماً﴾ أي معتمدين على قوتهم ﴿الله﴾ أي الذي له الملك كله ﴿مهلكهم﴾ أي لا محالة لأنهم لا ينتهون عن الفساد ولا يتعظون بالمواعظ ﴿أو معذبهم عذاباً شديداً﴾ أي بعظيم ما يرتكبونه وتماديهم فيه ﴿قالوا﴾ أي الأمة الأخرى من الواعظين: وعظنا ﴿معذرة إلى ربكم﴾ أي المحسن إليكم بالحفظ عما وقعوا فيه من الذنب والإقبال على الوعظ حتى إذا سئلنا عن أمرنا في عصيانهم نقول: فعلنا في أمرهم جهدنا، هذا إن لم يرجعوا ﴿ولعلهم يتقون*﴾ أي وليكون حالهم حال من يرجى خوفه لله فيرجع عن غيه.
ولما تراجعوا بهذا الكلام ليكون زاجراً للعاصين فلم يرجعوا، أخبر أنه صدق ظنهم بإيقاع الأمرين معاً: العذاب الشديد والإهلاك فقال: ﴿فلما نسوا ما ذكروا به﴾ أي فعلوا في إعراضهم عنه فعل الناسي وتركوه ترك المنسيّ، وهو أن الله لا يهملهم كما أن الإنسان لا يمكن أن يهمل
139
أحداً تحت يده، ليفعل ما يشاء من غير اعتراض ﴿أنجينا﴾ أي بعظمتنا ﴿الذين ينهون﴾ أي استمروا على النهي ﴿عن السوء﴾ أي الحرام ﴿وأخذنا﴾ أي أخذ غلبة وقهر ﴿الذين ظلموا﴾ أي بالعدو في السبت ﴿بعذاب بئيس*﴾ أي شديد جداً ﴿بما كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿يفسقون*﴾ أي بسبب استمرارهم على تجديد الفسق.
ولما ذكر ما هددهم بهمن العذاب الشديد، أتبعه الهلاك فقال: ﴿فلما عتوا﴾ أي تكبروا جلافة ويبساً عن الانتهاء ﴿عن ما نهوا عنه﴾ أي بعد الأخذ بالعذاب الشديد، وتجاوزوا إلى الاجتراء على جميع المعاصي عناداً وتكبراً بغاية الوقاحة وعدم المبالاة، كان مواقعتهم لذلك الذنب وإمهالهم مع الوعظ أكسبتهم ذلك وغلظت أكبادهم عن الخوف بزاجر العذاب، من عتا يعتو عتواً - إذا أقبل على الآثام، فهو عات، قال عبد الحق في كتابة الواعي: وقيل إذا أقدم على كل أموره، ومنه هذه الآية، وقيل: العاتي هو المبالغ في ركوب المعاصي، وقيل: المتمرد الذي لا ينفع فيه الوعظ والتنبيه، ومنه قوله سبحانه ﴿فعتوا عن أمر ربهم﴾ [الذاريات: ٤٤] أي جاوزوا المقدار والحد في الكفر - انتهى. وحقيقته: جاوزوا الأمر إلى النهي، أو جاوزوا الائتمار بأمره، والمادة ترجع إلى الغلظ والشدة والصلابة ﴿قلنا لهم﴾ أي بما لنا من القدرة العظيمة ﴿كونوا قردة﴾ أي في صورة القردة حال كونكم ﴿خاسئين*﴾ أي صاغرين مطرودين
140
بعدين عن الرحمة كما يبعد الكلب. ولما تبين بما مضى من جرأتهم على المعاصي وإسراعهم فيها استحقاقهم لدوام الخزي والصغار، أخبر أنه فعل بهم ذلك على وجه موجب للقطع بأنهم مرتبكون في الضلال، مرتكبون سيىء الأعمال، ما دام عليهم ذلك النكال، فقال: ﴿وإذ﴾ وهو عطف على ﴿وسئلهم﴾ أي واذكر لهم حين ﴿تأذن﴾ أي أعلم إعلاماً عظيماً جهراً معتنى به ﴿ربك﴾ أي المربي لك والممهد لأدلة شريعتك والناصر لك على من خالفك.
ولما كان ما قيل جارياً مجرى القسم، تلقى بلامه، فكان كأنه قيل: تاذن مقسماً بعزته وعظمته وعلمه وقدرته: ﴿ليبعثن﴾ أي من مكان بعيد، وأفهم أنه بعث عذاب بأداة الاستعلاء المفهمة لأن المعنى: ليسلطن ﴿عليهم﴾ أي اليهود، ومد زمان التسليط فقال: ﴿إلى يوم القيامة﴾ الذي هو الفيصل الأعظم ﴿من يسومهم﴾ أي ينزل بهم دائماً ﴿سوء العذاب﴾ بالإذلال والاستصغار وضرب الجزية والاحتقار، وكذا فعل سبحانه فقد سلط عليهم الأمم ومزقهم في الأرض كل ممزق من حين أنكروا رسالة المسيح عليه السلام، كما أتاهم به الوعد الصادق في التوارة، وترجمة ذلك موجودة بين أيديهم الآن في قوله في آخر السفر الأول: لا يزول القضيب من آل يهودا، لا يعدم سبط يهودا ملكاً مسلطاً واتخاذه نبياً مرسلاً ختى يأتي الذي له الملك - وفي نسخة:
141
الكل - وإياه تنتظر الشعوب، يربط بالحلبة جحشه؛ وقال السمؤال في أوائل كتابه غاية المقصود: نقول لهم: فليس في التوارة التي في أيديكم ما تفسيره: لا يزول الملك من آل يهودا والراسم بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح فلا يقدرون على جحده، فنقول لهم: إذاً علمتم أنكم كنتم أصحاب دولة وملك إلى ظهور المسيح ثم انقضى ملككم - انتهى. ومن أيام رسالة المسيح سلط الله عليهم الأمم ومزقهم في الأرض، فكانوا مرة تحت حكم البابليين، وأخرى تحت أيدي المجوس، وكرة تحت قهر الروم من بني العيص، وأخرى في أسر غيرهم إلى أن أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضرب عليهم الجزية هو وأمته من بعده.
ولما كان السياق للعذاب وموجباته، علل ذلك مؤكداً بقوله: ﴿إن ربك﴾ أي المحسن إليك بإذلال أعدائك الذين هم أشد الأمم لك ولمن آمن بك عداوة ﴿لسريع العقاب﴾ أي يعذب عقب الذنب بالانتقام باطناً بالنكته السوداء في القلب، وظاهراً - إن أراد - بما يريد، وهذا بخلاف ما في الأنعام فإنه في سياق الإنعام بجعلهم خلائف.
ولما رهب، رغب بقوله: ﴿وإنه لغفور﴾ أي محاء للذنوب عيناً وأثراً لمن تاب وآمن ﴿رحيم*﴾ أي مكرم منعم بالتوفيق لما يرضاه ثم بما يكون سبباً له من الإعلاء في الدينا والآخرة.
142
ذكر شيء مما هددوا به التوارة على العصيان والبغي والعدوان غير ما تقدم في المائدة عند ﴿من لعنه الله وغضب عليه﴾ [المائدة: ٦٠] وغيرها من الايات - قال في السفر الخامس: وإن لم تحفظ وتعمل بجميع الوصايا والسنن التي كتبت في هذا الكتاب وتتق الله ربك وتهب اسمه المحمود المرهوب، يخصك الرب بضربات موجعة ويبتليك بها، ويبتلي نسلك من بعدك وتدوم عليك، ويبقى من نسلك عدد قليل من بعد كثرتهم التي كانت قد صارت مثل نجوم السماء، وتجلون عن الأرض التي تدخلونها لترثوها، ويفرقكم الرب بين الشعوب، وتعبدون هنالك الآلهة الأخرى التي عملت من الحجارة والخشب، ولا تسكنون أيضاً بين تلك الشعوب، ولكن يصير الله قلوبكم هناك فزعة مرتجفة بالغداة تقولون: متى نمسي؟ وبالعشيّ تقولون: متى نصبح؟ وذلك من فزع قلوبكم وخوفكم وقلة حيلتكم، ويردكم الله إلى ارض مصر في الوف في الطريق الذي قال الرب: لا تعودوا أن تروه، وتباعون هناك عبيداً وإماء، ولا يكون من يشتريكم - هذه أقوال العهد التي أمر الله بها موسى أن يعاهد بني إسرائيل في أرض مؤاب سوى العهد الذي عاهدهم بحوريب؛ ثم دعا موسى جميع بني إسرائيل وقال لهم: قد رأيتم ما صنع الله بأرض مصر بفرعون
143
وجميع عبيده وكل شعبه والبلايا العظيمه التي رأت أعينكم والآيات والأعاجيب التي شهدتموها، ولم يعطكم الرب قلوباً تفهم وتعلم، ولا أعيناً تبصر ولا آذاناً تسمع إلى يومنا هذا، ودبركم في البرية أربعين سنة، لم تبل ثيابكم عليكم ولم تخلق خفافكم أيضاً ولم تأكلوا خبزاً، لتعلموا أني أنا الله ربكم، وأنا الذي أتيت بكم إلى هذه البلاد، فاحفظوا وصايا هذه التوارة واعملوا بها وأتموا جميع الأعمال في طاعة الله وأكملوها، لأنكم قد عرفتم جميعاً أن كنا سكاناً بأرض مصر وجزنا بين الشعوب، ورأيتم نجاستهم وأصنامهم، لعل فيكم اليوم رجلاً أو امرأة أو قبيلة أو سبطاً يميل قلبه عن عبادة الله ربنا ويطلب عبادة آلهة تلك الشعوب، فيسمع هذا العهد فيقول: يكون لي السلام فاتبع مسرة قلبي، هذا لا يريد الرب أن يغفر له، ولكن هناك يشتد غضب الرب وزجره عليه وينزل به كل اللعن الذي في هذا الكتاب، ويستأصل الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب من جميع أسباط بني إسرائيل للشر والبلايا ويقول الحقب الآخر بنوكم الذين يقومون من بعدكم والغرباء، وينظرون إلى ضربات تلك الأرض والأوجاع أنزل الله بها ويقول الشعب: لماذا صنع الرب هكذا؟ ولماذا اشتد غصبة على هذا الشعب العظيم؟ ويقولون: لأنهم تركوا عهد الله إله آبائهم، فاشتد غضب الرب على هذه الأمة وأمر أن ينزل بها كل اللعن الذي كتب في هذا
144
الكتاب، ويجليهم الرب عن بلادهم بغضب وزجر شديد ويبعدهم إلى أرض غريبة كما ترى اليوم، فأما الخفايا والسرائر فهي لله ربنا، والأمور الظاهرة المكشوفة هي لنا.
ولما أخبر سبحانه بالتأذن، كان كأنه قيل: فأسرعنا في عقابهم بذنوبهم وبعثنا عليهم من سامهم سوء العذاب بالقتل والسبي، فعطف عليه قوله: ﴿وقطعناهم﴾ أي بسبب ما حصل لهم من السبي المترتب على العذاب بما لنا من العظمة تقطيعاً كثيراً بأن أكثرناًُ تفريقهم ﴿في الأرض﴾ حال كونهم ﴿أمماً﴾ يتبع بعضهم بعضاً، فصار في كل بلدة قليل منهم ليست لهم شوكة ولا يدفعون عن أنفسهم ظلماً.
ولما كان كأنه قيل: فهل أطبقوا بعد هذا العذاب على الخير؟ قيل: لا، بل فرقتهم الأديان نحو فرقة الأبدان ﴿منهم الصالحون﴾ أي الذين ثبتوا على دينهم إلى أن جاء الناسخ له فتبعوه امتثالاً لدعوة كتابهم ﴿ومنهم دون ذلك﴾ أي بالفسق تارة وبالكفر أخرى ﴿وبلوناهم﴾ أي عاملناهم معاملة المبتلى ليظهر للناس ما نحن به منهم عالمون ﴿بالحسنات﴾ أي النعم ﴿والسيئات﴾ أي النقم ﴿لعلهم يرجعون*﴾ أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن غيه رغبة أو رهبة.
ولما كان العذاب الذي وقع التأذن بسببه ممتداً إلى يوم القيامه،
145
تسبب عنه قوله: ﴿فخلف﴾ أي نشأ، ولما كانوا غير مستغرقين لزمان البعد، أتى بالجار فقال: ﴿من بعدهم خلف﴾ أي قوم هم أسوأ حالاً منهم ﴿ورثوا الكتاب﴾ أي الذي هو نعمة، وهو التوراة، فكان لهم نقمة لشهادته عليهم بقبح أفعالهم، لأنه بقي في أيديهم بعد أسلافهم يقرؤونه ولا يعملون بما فيه؛ قال ابن فارس: والخلف ما جاء من بعد، أي سواء كان محركاً أو ساكناً، وقال أبو عبيد الهروي في الغريبين: ويقال: ؛ خلف سوء - أي بالسكون - وخلَف صدق، وقال الزبيدي في مختصر العين: والخلف: خلف السوء بعد أبيه، والخلَف: الصالح، وقال ابن القطاع في الأفعال: وخَلَفَ خَلَفُ سوء: صاروا بعد قوم صالحين، وخَلَف سوء، قال الأخفش: هما سواء، أي بالسكون، منهم من يسكن ومنهم من يحرك فيهما جميعاً، ومنهم من يقول: خلف صدق - أي بالتحريك - وخلف سوء - أي بالسكون - يريد بذلك الفرق بينهما، وكل إذا أضاف، يعني فإذا لم يضف كان السكون - للفساد، والتحريك للصلاح؛ وقال في القاموس: خلف نقيض قدام، والقرن بعد القرن، ومنه: هؤلاء خلف سوء، والرديء من القول، وبالتحريك الولد الصالح، فإذا كان فاسداً أسكنت اللام، وربما استعمل كل منهما مكان الآخر، يقال: هو خلف صدق من أبيه - إذا قام مقامه،
146
أو الخلف بالسكون وبالتحريك سواء، الليث: خلف للاشرار خاصة، وبالتحريك ضده. والمادة ترجع إلى الخلف الذي هو نقيض قدام، كما بنيت ذلك في فن المضطرب من حاشيتي على شرح ألفية العراقي.
ولما كان المظنون بمن يرث الكتاب الخير، فكان كأنه قيل: ما فعلوه من الخير فيما ورثوه؟ قال مستأنفاً: ﴿يأخذون﴾ أو يجددون الأخذ دائماً، وحقر ما أخذوه بالإعلام بأنه مما يعرض ولا يثبت بل هو زائل فقال: ﴿عرض﴾ وزاده حقارة بإشارة الحاضر فقال ﴿هذا﴾ وصرح بالمراد بقوله: ﴿الأدنى﴾ أي من الوجودين، وهو الدنيا ﴿ويقولون﴾ أي دائماً من غير توبة.
ولما كان النافع الغفران من غير نظر إلى معين، بنوا للمفعول قولهم: ﴿سيغفر لنا﴾ أي من غير شك، فأقدموا على السوء وقطعوا بوقوع ما يبعد وقوعه في المستقبل حكماً على من يحكم ولا يحكم عليه، وصرح بما افهمه ذلك من إصرارهم معجباً منهم في جزمهم بالمغفرة مع ذلك بقوله: ﴿وإن﴾ أي والحال أنه إن ﴿يأتهم عرض مثله﴾ أي في الدناءة والخسة - والحرمة كالرشى ﴿يأخذوه﴾.
ولما كان هذا عظيماً، أنكر عليهم مشدداً - للنكير بقوله
147
مستأنفاً: ﴿ألم يؤخذ عليهم﴾ بناه للمفعول إشارة إلى أن العهد يجب الوفاء به على كل حال، ثم عظمه بقوله: ﴿ميثاق الكتاب﴾ أي الميثاق المؤكد في التوارة ﴿أن لا يقولوا﴾ أي قولاً من الأقوال وإن قل ﴿على الله﴾ أي الذي له الكمال العظمة ﴿إلا الحق﴾ أي المعلوم ثباته، وليس من المعلوم ثباته إثبات المغفرة على القطع بغير توبة، بل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب.
ولما كان ربما وقع في الوهم أنه أخذ على أسلافهم ولم يعلم هؤلاء به، نفى ذلك بقوله: ﴿ودرسوا ما فيه﴾ أي ما في ذلك الميثاق بتكرير القراءة للحفظ ﴿والدار الأخرة﴾ أي فعلوا ما تقدم من مجانبة التقوى والحال أن الآخرة ﴿خير﴾ أي مما يأخذون ﴿للذين يتقون﴾ أي وهم يعلمون ذلك بإخبار كتابهم، ولذلك أنكر عليهم بقولة: ﴿أفلا تعقلون*﴾ أي حين أخذوا ما يشقيهم ويفنى بدلاً مما يسعدهم ويبقى، وعلى قراءة نافع وابن عامر وحفص بالخطاب يكون المراد الإعلام بتناهي الغضب.
148
ولما بين ما للمفسدين من كونهم قالوا على الله غير الحق فلا يغفر لهم، بين ما للصالحين المذكورين في قوله ﴿ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون﴾ [الأعراف: ١٥٩] فقال عاطفاً على تقديره: أولئك حبطت أعمالهم فيما
148
درسوا من الكتاب، ولا يغفر لهم ما أتوا من الفساد: ﴿والذين يمسكون﴾ أي يمسكون إمساكاً شديداً يتجدد على كل وجه الا ستمرار، وهو إشارة إلى إن التمسك بالسنة في غاية الصعوبة لا سيما عند ظهور الفساد ﴿بالكتاب﴾ أي فلا يقولون على الله إلا الحق، ومن جملة تمسيكهم المتجدد انتقالهم عن ذلك الكتاب عند إتيان الناسخ لأنه ناطق بذلك - والله الموفق.
ولما كان من تمسيكهم بالكتاب عند نزول هذا الكلام انتقالهم عن دينهم إلى الإسلام كما وقع الأمر به في المواضع التي تقدم بيانها، عبر عن إقامة الصلاة المعهودة لهم بلفظ الماضي دون المضارع لئلا يجعلوه حجة في الثبات على دينهم. فيفيد ضد المراد فقال: ﴿وأقاموا الصلاة﴾ وخصها إشارة إلى أن الأولين توكوها كما صرح به في آية مريم، وتنويهاً بشأنها بياناً لأنها من أعظم شعائر الدين، ولما كان التقدير إخباراً عن المبتدإ: سنؤتيهم أجورهم لإصلاحهم، وضع موضعه للتعميم قوله: ﴿إنا لا نضيع﴾ أي بوجه من الوجوه ﴿أجر المصلحين*﴾.
ولما ذكر الكتاب أنه رهبهم من مخالفته ورغبهم في مؤالفته، وكان عذاب الآخرة مستقبلاً وغائباً، وكان ما هذا شأنه يؤثر في الجامدين، أمره أن يذكرهم بترهيب دنيوي مضى إيقاعه بهم، ليأخذوا مواثيق الكتاب لغاية الجد مع أنه لا يعلمه إلا علماؤهم، فيكون
149
علم الأمي له من أعلام نبوته الظاهرة فقال: ﴿وإذ﴾ أي اذكر لهم هذا، فإن لمن يتعظوا اذكر لهم إذ ﴿نتقنا﴾ أي قلعنا ورفعنا، وأتى بنون العظمة لزيادة الترهيب ﴿الجبل﴾ عرفه لمعرفتهم به، وعبر لدلالة لفظه على الصعوبة والشدة دون الطور - كما في البقرة - لأن السياق لبيان نكدهم بإسراعهم في المعاصي الدالة على غلظ القلب.
ولما كان مستغرقاً لجميع الجهة الموازية لعساكرهم، حذف الجار فقال: ﴿فوقهم﴾ ثم بين أنه كان أكبر منهم بقوله: ﴿كأنه ظلة﴾ أي سقف، وحقق أنه صار عليهم موازياً لهم من جهة الفوق كالسقف بقوله: ﴿وظنوا﴾ هو على حقيقته ﴿أنه واقع﴾ ولما كان ما تقدم قد حقق العلو، لم يحتج إلى حرف الاستعلاء، فقال مشيراً إلى السرعة واللصوق: ﴿بهم﴾ أي إن لم يأخذوا عهود التوارة، قالوا: ولما رأوا ذلك خر كل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر، وصار ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فزعاً من سقوطه، وهي سنة لهم في سجودهم إلى الآن، يقولون: هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة.
ولما كان كأنه قيل: فقالوا: أخذنا يارب عهودك، قال مشيراً إلى عظمته ليشتد إقبالهم عليه إشارة إلى أنه علة رفع الجبل: ﴿خذوا ما آتيناكم﴾ أي بعظمتنا، فهو جدير بالإقبال عليه وإن يعتقد فيه الكمال، وأكد ذلك بقوله: ﴿بقوة﴾ أي عزم عظيم على احتمال
150
مشاقه؛ ولما كان الأخذ للشيء بقوة ربما نسيه في وقت، قال: ﴿واذكروا ما فيه﴾ أي من الأوامر والنواهي وغيرهما - فلا تنسوه ﴿لعلكم تتقون*﴾ أي ليكون حالكم حال من يرجى تقواه، فدل سبحانه بهذا على تأكيد المواثيق عليهم في أخذ جميع ما في الكتاب الذي من جملته ألا تقولوا على الله إلا الحق ولا تكتموا شيئاً منه، قالوا: ولما قرأ موسى عليه السلام الألواح وفيها كتاب الله لم يبق على الأرض شجر ولا جبل ولا حجر إلا اهتز، فلذلك لا ترى يهودياً يسمع التوارة إلا اهتز وأنقض رأسه.
ولما ذكر أنه ألزمهم أحكام الكتاب على هذه الهيئة القاهرة الملجئة القاسرة التي هي من أعظم المواثيق عند أهل الأخذ وأنه أكد عليهم المواثيق في كثير من فصول الكتاب، وكان ذلك كله خاصاً بهم؛ أمره أن يذكر لهم أنه ركب لهم في عموم هذا النوع الآدمي من العقول ونصب من الأدلة الموضحة للأمر إيضاح المشهود للشاهد ما لو عذب تاركه والمتهاون به لكان تعذيبه جارياً على المناهج ملائماً للعقول، ولكنه لسبق رحمته وغلبة رأفته لم يؤاخذ بذلك حتى ضم إليه الرسل، وأنزل معهم الكتب، وأكثر فيها من المواثيق، وزاد في الكشف والبيان، وإلى ذلك الإشارة باسم الرب، فكأن من عنده علم أشد ملامة من الجاهل، فقال: ﴿وإذ﴾ أي واذكر لهم إذ ﴿أخذ﴾ أي خلق بقوله وقدرته ﴿ربك﴾ أي المحسن
151
إليك بالتمهيد لرسالتك كما يؤخذ القمل بالمشط من الرأس.
ولما كان السياق لأخذ المواثيق والأخذ بقوة، ذكر أخذ الذرية من أقوى نوعي الآدمي، وهم الذكور فقال: ﴿من بني آدم﴾ وذكر أنه جعلها من أمتن الأعضاء فقال: ﴿من ظهورهم﴾ كل واحد من ظهر أبيه ﴿ذريتهم﴾ إشارة إلى أنه أكد عليهم المواثيق وشددها لهم وأمرهم - بالقوة في أمرها، أعطاهم من القوة في التركيب والمزاج ما يكونون به مطيعين لذلك، فهو تكليف بما في الوسع، وجعل لهم عقولاً عند من قال: هو على حقيقته كنملة سليمان عليه الصلاة والسلام ﴿وأشهدهم على أنفسهم﴾ أي أوضح لهم من البراهين من الإنعام بالعقول مع خلق السماوات والأرض وما فيهما على هذا المنوال الشاهد له بالوحدانية وتمام العلم والقدرة، ومن إرسال الرسل المؤيدين بالمعجزات ما كانوا كالشهود بأنه لا رب غيره؛ وقد ذكر معنى هذا الإمام حجة الإسلام الغزالي في الكلام على العقل من باب العلم من الإحياء فإنه قال معنى هذه الآية: والمراد إقرار نفوسهم، لا إقرار الألسنة، فإنهم انقسموا في إقرار الألسنة حيث
152
وجدت الألسنة والأشخاص؛ ثم ذكر أن النفوس فطرت على معرفة الأشياء على ما هي عليه لقرب الاستعداد للإدراك.
ولما تبين أنه فرد لا شريك له فلا راد لأمره، وأنه رب فلا أرأف منه ولا أرحم، كان ذلك أدعى إلى طاعته خوفاً من سطوته ورجاء لرحمته، فكانوا بذلك بمنزلة من سئل عن الحق فأقر به، فلذلك قال: ﴿ألست بربكم﴾ أي المحسن إليكم بالخلق والتربية بالرزق وغيره ﴿قالوا بلى شهدنا﴾ أي كان علمنا بذلك علماً شهودياً، وذلك لأنهم وصلوا بعد البيان إلى حد لا يكون فيه الجواب إلا ذلك فكأنهم قالوه؛ فهو - والله أعلم - من وادي قوله تعالى ﴿ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً﴾ [الرعد: ١٥]- الآية و ﴿لله يسجد ما في السماوات والأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون﴾ [النحل: ٤٩].
ولما كان كأنه قيل: لم فعل ذلك؟ قيل: دلالة على أن المتقدم إنما هو على طريق التمثيل يجعل تمكينهم من الاستدلال كالإشهاد، فعله كراهة ﴿أن تقولوا يوم القيامة﴾ أي إن لم ينصب لهم الأدلة ﴿إنا كنا عن هذا﴾ أي وحدانيتك وربوبيتك ﴿غافلين*﴾ أي لعدم الأدلة فلذلك أشركنا ﴿أو تقولوا﴾ أي لو لم نرسل إليهم الرسل ﴿إنما أشرك آباؤنا من قبل﴾ أي من قبل أن نوجد
153
﴿وكنا ذرية من بعدهم﴾ فلم نعرف لنا مربياً غيرهم فكنا لهم تبعاً فشغلنا اتباعهم عن النظر ولم يأتنا رسول منبه، فيتسبب عن ذلك إنكارهم في قولهم: ﴿أفتهلكنا بما فعل المبطلون*﴾ أي من آبائنا؛ قال أبو حيان: والمعنى أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان: إحدهما «كنا غافلين» والأخرى «كنا تبعاً لأسلافنا» فكيف والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلنا - انتهى. ومما يؤيد معنى التمثيل حديث أنس في الصحيح «يقول الله لأهون أهل النار عذاباً: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم، قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك شيئاً، فأبيت إلا الشرك» وذلك لأن التصريح بالآباء ينافي كون الإقرار على حقيقته، والأخذ وهو في الصلب إنما هو بنصب الأدلة وتقرير الحق على وجه مهيىء للاستدلال بتركيب العقل على القانون الموصل إلى المقصود عند التخلي من الحظوظ والشوائب، وهذا الذي وقع تأويل الآية به لا يعارضه حديث الاستنطاق في عالم الذر على تقدير صحته، فإنه روي من طرق كثيرة جداً ذكرتها في كتابي سر الروح، منها في الموطأ ومسند أحمد وإسحاق بن راهويه ومحمد بن نصر المروزي وأبي يعلى الموصلي ومستدرك الحاكم وكتاب المائتين لأبي عثمان
154
الصابوني عن صحابة وتابعين مرفوعاً وموقوفاً - منهم عمر وأبيّ بن كعب وأبو هريرة وحكيم بن حزام وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عمرو وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وأبي العالية رحمهم الله، وإنما كان لا يعارضه لأن في بعض طرقه عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه سبحانه قال بعد أن استنطقهم:
«فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، فلا تشركوا بي شيئاً، فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، فقالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك» فالاستنطاق في الحديث على بابه، عبرة لأبينا آدم عليه السلام ومن حضر ذلك من الخلق، وإيقافاً لهم على بديع قدرته وعظيم علمه، وإشهاد ما أشهد من المخلوقات بمعنى أنه نصب فيها من الأدلة ما يكون إقامة الحجة به عليهم بالنقض إن أشركوا كشهادة الشاهد الذي لا يرد، وليس في شيء من الروايات ما ينافي هذا؛ والحاصل أنه أخذ علينا عهدان: أحدهما حالي تهدى إليه العقول، وهو نصب الأدلة، والآخر مقالي أخبرت به الرسل، كل ذلك للإعلام بمزيد الاعتناء بهذا النوع البشري لما له من الشرف الكريم ويراد به من
155
الأمر العظيم - والله الموفق.
156
ولما كان كأنه قيل تبيهاً على جلالة هذه الآيات: انظر كيف فصلنا هذه الآيات هذه التفاصيل الفائقة وأبرزناها في هذه الأساليب الرائقة، قال: ﴿وكذلك﴾ أي ومثل ذلك التفصيل البديع الجليل الرفيع ﴿نفصل الآيات﴾ أي كلها لئلا يواقعوا ما لا يليق بجانبنا جهلاً لعدم الدليل ﴿ولعلهم يرجعون*﴾ أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن الضلال إلى ما تدعو إليه الهداة من الكمال عن قرب إن حصلت غفلة فواقعوه، وذلك من أدلة ﴿والذي خبث لا يخرج إلا نكداً﴾ [الأعراف: ٥٨] و ﴿ما وجدنا لأكثرهم من عهد﴾ [الأعراف: ١٠٢] و ﴿سأصرف عن آياتي﴾ [الأعراف: ١٤٦].
ولما ذكر لهم ما أخذ عليهم في كتابهم من الميثاق الخاص الذي انسلخوا منه، واتبعه الميثاق العام الذي قطع بع الأعذار، أتبعهما بيان ما يعرفونه من حال من انسلخ من الآيات، فأسقطه الله من ديوان السعداء، فأمره صلىلله عليه وسلم أن يتلو عليهم، لأنه - مع الوفاء بتبكيتهم - من أدلة نبوته الموجبة عليهم اتباعه، فذكره ما وقع له في نبذ العهد والانسلاخ من الميثاق بعد أن كان قد أعطى الآيات وأفرغ عليه من الروح فقال: ﴿واتل﴾ أي اقرأ شيئاً بعد شيء ﴿عليهم﴾ أي اليهود وسائر الكفار الخلق كلهم ﴿نبأ الذي﴾ وعظم ما أعطاه بمظهر العظمة ولفظ الإيتاء بعد ما عظم خبره بلفظ الإنباء فقال: ﴿آتيناه﴾.
156
ولما كان تعالى قد أعطاه من إجابة الدعاء وصحة الرؤيا وغير ذلك مما شاء سبحانه أمراً عظيماً بحيث دله تعالى دلالة لا شك فيها، وكانت الآيات كلها متساوية الأقدام في الدلالة وإن كان بعضها أقوى من بعض، قال تعالى: ﴿آياتنا﴾ وهو بلعام من غير شك للسباق واللحاق، وقيل: وهو رجل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين فرشاه فتبع دينه فافتتن به الناس، وقيل: هو أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «آمن شعره وكفر قلبه» قاله عبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب وزيد ابن أسلم، وقيل: هو أبو عامر الراهب الذي سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفاسق، وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنكروه.
ولما كان الذي جرأهم على عظمته سبحانه ما أنعم عليهم به من إعطاء الكتاب ظناً منهم أنه لا يشقيهم بعد ذلك، رهبهم ببيان أن الذي سبب له هذا الشقاء هو إيتاء الآيات فقال: ﴿فانسلخ منها﴾ أي فارقها بالكيلة كما تنسلخ الحية من قشرها، وذلك بسبب أنه لما كان مجاب الدعوة سأله ملك زمانه الدعاء على موسى وقومه فامتنع فلم يزل يرغبه حتى خالف أمر الله اتباعاً لهوى نفسه، فتمكن من الشيطان وأشار عليه أن يرسل إليهم النساء مزينات ويأمرهن أن لا يمتنعن من أحد، فأشقاه الله، وهذا معنى ﴿فأتبعه الشيطان﴾ أي فأدركه مكره فصار قريناً له
157
﴿فكان﴾ أي فتسبب عن إدراك الشيطان له أن كان ﴿من الغاوين*﴾ أي الضالين الراكبين هوى نفوسهم، وعبر في هذه القصة بقوله: ﴿اتل﴾ دون
﴿وأسألهم عن﴾ [الأعراف: ١٦٣] نحو ما مضى في القرية، لأن هذا الخبر مما يحبون ذكره لأن سلخه من الآيات كان لأجلهم، فهو شرف لهم، فلو سألهم عنه لبادروا إلى الإخبار به ولم يتلعثموه فلا تكون تلاوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك لما أنزل في شأنه واقعاً موقع ما لو أخبرهم به قبل، ولعل المقصود الأعظم من هذه الآية والتي قبلها الاستدلال على كذب دعواهم في قولهم ﴿سيغفر لنا﴾ [الأعراف: ١٦٩] بما هم قائلون به، فيكون من باب الإلزام، وكأنه قيل: أنتم قائلون بأن من أشرك لا يغفر له لتركه ما نصب له من الأدلة حتى إنكم لتقولون ﴿ليس علينا في الأميين سبيل﴾ [آل عمران: ٧٥] لذلك، فما لكم توسعون المغفرة لكم في ترك ما أخذ عليكم به الميثاق الخاص وقد ضيقتموها على غيركم في ترك ما أخذ عليهم به الميثاق العام؟ ما ذلك إلا مجرد هوى، فإن قلتم: الأمر في أصل التوحيد أعظم فلا يقاس عليه، قيل لكم؛ أليس المعبود قد حرم الجميع؟ وعلى التنزل فمن المسطور في كتابكم أمر بلعام وأنه ضل، وقد كان أعظم من أحباركم، فإنا آتيناه الآيات من غير واسطة رسول، وكان سبب هلاكه - كما تعلمون - وخروجه من ربقة الدين وإحلاله دمه مشورته على ملك زمانه بأن يرسل
158
النساء إلى عسكر بني إسرائيل متزينات غير ممتنعات ممن أرادهن، وذلك من الفروع التي هي أخف من باب الأموال، فقد بحتم كذبكم في قولكم ﴿سيغفر لنا﴾ وأنكم لم تتبعوا فيه إلا الهوى كما تبعه بلعام فانظروا ما فعل به.
ولما كان هذا السياق موهماً لمن لم يرسخ قدمه في الإيمان أن الشيطان له تأثير مستقل في الإغواء، نفى ذلك غيره على هذا المقام في مظهر العظمة فقال: ﴿ولو شئنا﴾ أي أن نرفعه بها على ما لنا من العظمة التي من دنا ساحتها بغير إذن محق ﴿لرفعناه﴾ أي في المنزلة رفعة دائمة ﴿بها﴾ أي الآيات حتى لا يزال عاملاً بها.
ولما علق الأمر بالمشيئة تنبيهاً على أنها هي السبب الحقيقي وإن ما لم يشأه سبحانه لا يكون، وكان التقدير: ولكنا لم نشأ ذلك وشئنا له الكفر فأخلدناه - إلى آخره، عبر عنه تعليماً للأدب في إسناد الخير إلى الله والشر إلى غيره وإن كان الكل خلقه حفظاً - لعقول الضعفاء من إيهام نقص أو إدخال لبس بقوله مسنداً نقصه إليه: ﴿ولكنه أخلد﴾ أي فعل فعل من أوقع الخلد - وهو الدوام - وأوجده ﴿إلى الأرض﴾ أي رمى بنفسه إلى الدنيا رمياً، تهالكاً على ما فيها من الملاذ الحيوانية والشهوات النفسانية ﴿واتبع﴾ أي اتباعاً شديداً
159
﴿هواه﴾ فأعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات مقدماً لداعي نفسه على داعي روحه، لأن القلب الذي هو نتيجتهما في عالم الأمر له وجهان: وجه إلى الروح العلوي الروحاني الذي هو الأب، وله الذكورة المناسبة للعلو؛ ووجه إلى النفس التي هي الروح الحيواني التي هي الأم ولها المناسبة للأرض بالأنوثة وبأن أصلها من التراب الذي له الرسوب بوضع الجبلة فالتقدير: فحط نفسه حطّاً عظيماً، لأنا لم نشأ رفعه بما أعطيناه من الآيات، وإنما جعلناه وبالاً عليه، فلا يغتر أحد بما أوتي من المعارف، وما حاز من المفاخر واللطائف، فإن العبرة بالخواتيم، ولنا بعد ذلك أن نفعل ما نشاء.
ولما كان هذا حاله، تسبب عنه أن قال تعالى: ﴿فمثله﴾ أي مع ما أوتي من العلم في اتباعه لمجرد هواه من غير دليل بعد الأمر بمخالفة الهوى ﴿كمثل الكلب﴾ أي في حال دوام اللهث.
ولما كان كأنه قيل: مثله في أيّ أحواله؟ قال: في كونه ﴿إن تحمل عليه﴾ أي لتضربه ﴿يلهث أو تتركه يلهث﴾ فإن أوجب لك الحمل عليه ظن أن لهثه لما حاول من ذلك التعب ردك عنه لهثه في الدعة، فتعلم حينئذ أنه ليس له سبب إلا اتباع الهوى، فتابع الهوى مثل الكلب كما بين، ومثال هذا المنسلخ الجاهل الذي لا يتصور أن يتبع غير الهوى، لأنه يتبع الهوى مع إيتاء الآيات فبعد الانسلاخ منها أولى، فقد وضح تشبيه مثله بمثل الكلب، لا تشبيه مثله بالكلب؛ وهذه القصة تدل على
160
أن من كانت نعم الله في حقه أكثر، كان بعده عن الله إذا أعرض عنه أعظم وأكبر.
ولما تقرر المثلان، وكان كل منهما منطبقاً على حالة كل مكذب، كانت النتيجة قوله: ﴿ذلك﴾ أي كل من المثلين ﴿مثل القوم﴾ أي الأقوياء ما يحاولونه ﴿الذين كذبوا بآياتنا﴾ أي في أن تركهم لها إنما هو بمجرد الهوى، لأن لها من الظهور والعظمة بنسبتها إلينا ما لا يخفي على من له أدنى بصيرة ﴿فاقصص القصص﴾ أي فأخبر الإخبار العظيم الذي تتبعت به مواقع الوقائع وآثار الأعيان حتى لم تدع في شيء منها لبساً على كل من يسمع لك من اليهود وغيرهم، وهو مصدر قص الشيء - إذا تبع أثره واستقصى في ذلك ﴿لعلهم يتفكرون*﴾ أي ليكون حالهم حال من يرجى تفكره في هذه الآيات، فيعلمون أنه لا يأتي بمثلها من غير معلم من الناس إلا نبي فيردهم ذلك إلى الصواب حذراً من مثل حال هذا.
ولما ظهر بهذا أن مثل الكلب الذي اكتسب من ممثوله من السوء والقذارة ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى مثل المكذبين بالآيات، أنتج ذلك قوله تأكيداً لذمهم وزجرهم: ﴿ساء مثلاً القوم﴾ أي مثل القوم ﴿الذين كذبوا بآياتنا﴾ أي فلو لم يكن عليهم درك في فعلهم أن لا تنزل هذا المثل عليهم لكان أعظم زاجراً له أدنى مروءة، لأنهم نزلوا عما
161
لمن يتبعها من العظمة إلى ما ظهر بهذا المثل من الخسة، فكيف وهم يضرون أنفسهم بذلك ولا يضرون إلا إياها، وذلك معنى قوله: ﴿وأنفسهم﴾ أي خاصة ﴿كانوا يظلمون*﴾ أي كان ذلك في طبعهم جبلة لهم، لا يقدر غير الله على تغييره.
ولما كان ذلك محل عجب ممن يميل عن المنهج بعد إيضاحه هذا الإيضاح الشافي، قال جواباً لمن كأنه قال: فما لهم لا يؤمنون؟ مفصلاً لقوله ﴿ولو شئنا لرفعناه بها﴾ [الأعراف: ١٧٦] :﴿من يهد الله﴾ أي يخلق الهداية في قلبه الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه ﴿فهو المهتدي﴾ أي لا غيره.
ولما كان في سياق الاستدلال على أن أكثر الخلق هالك بالفسق ونقض العهد، وحد ﴿المهتدي﴾ [الأعراف: ١٧٧] نظراً إلى لفظ ﴿من﴾ وجمع الضال نظراً إلى معناها فقال: ﴿ومن يضلل فأولئك هم﴾ أي البعداء البغضاء خاصة لا غيرهم ﴿الخاسرون*﴾ إذ لا فعل لغيره أصلاً، والآية من فذلكة ما مضى، وما أحسن ختمها بالخسران في وعظ من ترك الآخرة بإقباله على أرباح الدنيا وأعرضها الفانية، ثم تعقيبها بذرء جهنم الذين لا أخسر منهم.
ذكر قصة بلعام من التوراة - قال في السفر الرابع منها بعد أن ساق قتالهم لسيحون ملك الأمورانيين: وفرق المؤابيون من الشعب
162
فرقاً شديداً لأنهم رأوه شعباً عظيماً، فاضطرب المؤابيون ورجفت قلوبهم خوفاً من بني إسرائيل، وقال ملك مؤاب لأشياخ مدين: اعلموا أن هذا الجمع يرتعي حرثنا، ولا يدع أحداً إلا أهلكه، ويرتعي كل من حولنا كما يرتعي الثور عشب الأرض، وكان ملك المؤابيين في ذلك الزمان بالاق بن صفور، فأرسل رسلاً إلى بلعام بن بعور العراف المعبر للأحلام الذي كان ينزل على شاطىء النهر قريباً من أرض بني عمون ليدعوه إليه فيستعين به: أخبرك أنه قد خرج شعب من أرض مصر، فغشى وجه الأرض كلها، وقد نزلوا جبالنا، فأطلب إليك أن تأتي وتلعن هذا الشعب لأنه أقوى وأعز منا، لعلنا نقدر أن نحاربه ونهلكه عن جديد الأرض، لأني عارف أن الذي تباركه هو مبارك، والذي تلعنه هو ملعون، وانطلق أشياخ مؤاب وأشياخ مدين ومعهم هدايا وجوائز، فأتوا بلعام فقالوا له قول بالاق، فقال لهم: بيتوا هاهنا ليلتكم هذه فأخبركم بما يقول الرب، فأقام أشراف مؤاب عند بلعام، فأتى ملك الله بلعام وقال له: من القوم الذين أتوك؟ قال بلعام للملاك: بالاق بن صفور ملك مؤاب أرسل إلي وقال: قد خرج شعب من أرض مصر فملأ وجه الأرض، فأقبل إلينا حتى تلعنه، لعلي أقدر أن أجاهده وأهلكه، وقال الملاك لبلعام: لا تنطلق مع القوم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك، فقال بلعام بكرة لعظماء
163
بالاق: انطلقوا إلى صاحبكم، لأن الرب لم يحب أن يدعني أنطلق معكم، ونهض عظماء مؤاب فأتوا بالاق وقالوا له: لم يهو بلعام إتيانك معنا، فعاد بالاق أيضاً فأرسل رسلاً أعظم وأكرم من الأولين، فأتوا بلعام وقالوا له: هكذا يقول بالاق بن صفور: لا تمتنع أن تأتيني لأني سأعظمك وأكرمك جداً، وما قلت لي من شيء فعلت، وأقبل إلينا لتلعن لي - هذا الشعب، فرد بلعام على رسل بالاق قائلاً: لو أن بالاق أعطاني ملء بيته ذهباً وفضة لم أقدر أن أتعدى قول ربي وإلهي، ولا أحيد عن قول صغير ولا كبير من أقواله، فعرجوا أنتم أيضاً عندنا ليلتكم هذه حتى أنظر ما يخبروني ملاك الله من أمركم، فنزل وحي الله على بلعام ليلاً، وقال له: إن كان هؤلاء القوم إنما أتوك ليدعوك فقم فانطلق معهم، ولكن إياك أن تعمل إلا ما أقول فنهض بلعام بكرة وأسرج أتانه وانطلق مع عظماء مؤاب، فقال ملاك الرب في الطريق ليكون له لدداً، فرأت الأتان ملاك الله قائماً في الطريق مخترطاً سيفه ممسكه في يده، فحادت عن الطريق وسارت في الحرث، فضربها بلعام ليردها إلى الطريق، فقام ملاك الرب في طريق ضيق بين كرمين فرأت الأتانة ملك الرب فزحمت الحائط وضغطت رجل بلعام في
164
الحائط، فعاد يضربها أيضاً، ثم عاد ملاك الرب وقام في موضع ضيق حيث ليس لها موضع تحيد منه يمنة ولا يسره، فبصرت بملاك الرب وربضت تحت بلعام، فاشتد غضب بلعام وضرب الأتان بالعصا، وفتح الرب فم الأتان وقالت لبلعام: ما الذي صنعت بك حتى ضربتني ثلاث مرات؟ قال بلعام: لأنك زريت بي، ولو أنه كان في يدي سيف كنت قد قتلتك الآن، فقالت: ألست أتانتك التي تركبني منذ صباك إلى اليوم؟ هل صنعت مثل هذا الصنع قط؟ قال لها: لا وجلّى الرب عن بصر بلعام فرأى ملك الله قائماً في الطريق مخترطاً سيفه ممسكه بيده، فجثا وخر على وجهه ساجداً، فقال له ملاك الرب: ما بالك ضربت أتانك ثلاث مرات أنا الذي خرجت لأكون لك لداداً، لأنك أخذت في طريق خلافاً لأمري، فلما رأتني الأتان حادت عني ثلاث مرات، ولو أنها لم تحد عني كنت قتلتك وأبقيت عليها، قال بلعام لملاك الرب: أسأت وأجرمت، لم أعلم أنك قائم بإزائي في الطريق، فالآن إن كان انطلاقي مما تكرهه رجعت، قال ملاك الرب لبلعام: انطلق مع القوم وإياك أن تفعل شيئاً إلا ما أقول لك! فانطلق بلعام، فسمع بالاق فخرج ليتلقاه وقال بالاق: لم تأتني؟ قال: قد أتيتك الآن، لعلك تظن أني أقدر أن أقول شيئاً إلا القول الذي
165
يجريه الله على لساني به أنطق، فلما كان الغد عمد بالاق إلى بلعام وأصعده إلى بيت بعل الصنم، فرأى من هناك أقاصي منازل شعب إسرائيل، وقال بلعام لبالاق: ابني لي هاهنا سبعة مذابح، وهيىء لي سبعة ثيران وسبعة كباش، وفعل بالاق كما قال له بلعام، ورفع بالاق الكباش والثيران على المذبح قرباناً، وقال بلعام لبالاق: قم هاهنا عند قرابينك حتى أنطلق أنا، لعل الرب يوحي إليّ ما أهواه، وأنا مظهر لك ما يوحي به، فانطلق فظهر الله وألهمه قولاً وقال له: انطلق إلى بالاق وقل له هذا القول، فأتاه وهو قائم عند قرابينه وجميع قواد مؤاب معه، ورفع بلعام صوته بأمثاله وقال: ساقني بالاق ملك المؤابيين من أرام التي في المشرق، وقال لي: أقبل حتى تلعن يعقوب وتهلك آل إسرائيل، فكيف ألعنه ولم يلعنه الله، وكيف أهلكه والرب لا يريد هلاكه، رأيته من رؤوس الجبال، ونظرت إليه من فوق الآكام وإذا هو شعب وحده لا يعد مع الشعوب، ومن يقدر يحصي جميع عدد يعقوب، أو من يقدر يحصي عدد ربع بني إسرائيل، تموت نفسي موتاً ويكون آخري إلى آخرهم، قال بالاق لبلعام: دعوتك لتلعن أعدائي
166
فإذا أنت تباركهم وتدعوا لهم، فرد بلعام قائلاً: الذي يلهمني الرب ويجري على لساني إياه أحفظ، وبه أنطق: قال له بالاق: مر معي إلى موضع آخر لنراهم من هناك، وإنما أسوقك لترى آخرهم ولا تراهم أجمعين، وانطلق به إلى حقل الربية وأقامه على رأس الأكمة، وابتنى هناك سبعى مذابح، وقرب عليها الثيران والكباش، قال بلعام: قف هاهنا عند قرابينك حتى أنطلق أنا الآن، فانظر ما الذي يقال؟ وتجلى الرب على بلعام وأجرى على فيه قولاً وقال له: انطلق إلى بالاق فأخبره بهذا القول، فأتاه وهو قائم عند قرابينه ومعه أشراف مؤاب، فرفع بلعام صوته بأمثاله وقال؛ انهض بالاق واسمع قولي وأصغ لشهادتي يا ابن صفور! اعلم أن الله ليس مثل الرجل يحلف ويكذب؛ إذا قال الرب قولاً فعله، وكلامه دائم إلى الأبد، ساقني لأعود وأبرك، ولا أرد البركة ولا أخالف ما أمرت به، لست أرى في آل يعقوب إثماً ولا غدراً عند بني إسرائيل ولا ظلماً، لأن الله ربه معه الله الذي أخرجهم من مصر بعزة وعظمة قوية، ولست أرى في آل يعقوب طيرة، ولا حساب نجوم أو عراف بين بني إسرائيل، كيف أقول والشعب قائم مثل الضرغام لا يربض حتى يفترس فريسته ويشرب دم القتل، فقال بالاق لبلعام: أطلب أن لا تلعنه ولا تدعوا له، فرد بلعام على بالاق قائلاً: ألست قلت لك: إني إنما أنطق بما يقول لي الرب، فقال
167
بالاق: انطلق بنا إلى موضع آخر، لعل الله يرضى بغير هذا فتلعنه لي هناك، فأصعده إلى رأس فغور الذي بإزاء إستيمون، فأمره بمثل ما تقدم من الذبح والقربان، فرأى بلعام أن الرب يحب أن يدعو لبني إسرائيل، ولم ينطلق كما كان ينطلق في كل وقت ليطلب الوحي، ولكن أقبل بوجهه إلى البرية ومد بصره، فرأى بني إسرائيل نزولاً قبائل قبائل فحل عليه روح الله، ورفع صوته بأمثاله وقال: قل يا بلعام بن بعور، قل أيها الرجل الذي أجلى عن بصره، قل أيها الذي سمع قول الله ورأى رؤيا الله وهو ملقى وعيناه مفتوحتان، ما أحسن منزلك يا يعقوب ومنازلك يا إسرائيل! وخيمك كالأدوية الجارية، ومثل الفراديس التي على شاطىء النهر، ومثل الجنى الذي ركزه الله، ومثل شجر الأرز على شاطى النهر يخرج رجل من بينه وذريته أكثر من الماء الكثير، ويعظم على الملك، وذلك بقوة الله الذي أخرجهم من أرض مصر بغير توقف رثماً، يأكل خيرات الشعوب أعدائه ويكسر عظامهم ويقطع ظهوهم، رتع وربض كالأسد ومثل شبل الليث، ومن يقدر أن يبعثه، يبارك مباركوك ويلعن لاعنوك، فاشتد غضب بالاق على بلعام وصفق بيديه متلهفاً وقال: دعوتك للعن أعدائي، فماذا أنت تباركهم وتدعو لهم ثلاث مرات، انصرف الآن إلى بلادك، قد كنت
168
عزمت على إكرامك وإجازتك فإذا الرب قد أحرمك ذلك، فرد بلعام على بالاق قائلاً: قد كنت قلت لرسلك الذين أرسلتهم إليّ أنه لو وهب لي بالاق ملء بيته من ذهب وفضة لم أقدر أتعدى عن قول الرب، ولكن إنما انطق ما يلهمني الرب، فأنا أنطلق الآن إلى أرضي، فأسمع ما أشير عليك وأخبرك ما يصنع هذا الشعب بشعبك آخر الأيام، ثم رفع صوته بأمثاله وقال: قل يا بلعام بن بعور قل أيها الرجل المجلى عن بصره! قل أيها الذي سمع قول الله وعلم علم العلي ورأى رؤيا الله إذ هو ملقى وعيناه مفتوحتان! فإني رأيته وإذا ليس ظهوره الآن وإن كان متدانفاً، ونظرت في أمره وإذا ليس بقريب، يشرق نجم من آل يعقوب، ويقوم رئيس من بني إسرائيل، ويهلك جبابرة من مؤاب ويبيد جميع بني شيث، وتثير أدوم ميراثه، وساعير وراثة أعدائه يصير له، ويستفيد بنو إسرائيل قوة بقوته - ونحو ذلك من الكلام الذي فيه ما يكون سبباً لا نسلاخه من الآيات، لكن ذكر المفسرون أنه أشار عليه باختلاط نساء بلاده ببني إسرائيل متزينات غير ممتنعات ممن أرادهن منهم ليزنوا بهن فيحل بهم الرجز، فوقع بهم ذلك، وهو الصواب لأنه ستأتي الإشارة إليه في التوارة عند فتح مدين بقوله: لماذا أبقيتم على الإثاث وهن كن عثرة لبني إسرائيل عن قول بلعام ومشورته -
169
وسيأتي ذلك قريباً، وما فيه من ذكر الوحي فهو محمول على المنام أو غير ذلك مما يليق؛ ثم قال: وقام بلعام ورجع منصرفاً إلى بلاده وبالاق أيضاً رجع إلى بيته، وسكن بنو إسرائيل شاطيم، وبدأ الشعب أن يسفح مع بنات مؤاب، ودعون الشعب إلى ذبائح آلهتهم، وأكل الشعب - من ذبائحهم وسجدوا لآلهتهم، وكمل بنو إسرائيل لعبادة بعليون الصنم، فاشتد غضب الله على بني إسرائيل، فقال الرب لموسى اعمد إلى جميع بني إسرائيل فافضحهم، فقال موسى: يقتل كل رجل منكم كل من أخطأ وسجد لبعليون، وإذا رجل من بني إسرائيل قد أتى بجرأة أمام إخوته من غير أن يستحي، فدخل على امرأة مدينية وموسى وبنو إسرائيل يبكون في باب قبة الآمد، فرآه فنحاس بن اليعازر بن هارون الحبر فنهض من الجماعة غضباً لله وأخذ بيده رمحاً ودخل إلى بيت الذي كانا فيه فطعنهما بالرمح فقتلهما، فكف الموت الفاشي عن بني إسرائيل، وكان عدد الذين ماتوا في الموت البغتة أربعة وعشرين ألفاً، وكلم الرب موسى وقال له: فنحاس صرف غضبي عن بين إسرائيل وغار غيرة لله بينهم وطهر بني إسرائيل، وكان اسم القتيل الذي قتل مع المدينية زمري ابن سلو، وكان رئيساً في قبيلة شمعون،
170
وكانت المرأة المدينية كزبى بنت صور، وكان أبوها - من رؤساء أهل مدين، وقال بعض المفسرين: أنه خرج رافعاً الحربة إلى السماء، قد اعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاس من كل ذبيحة القبة والذراع واللحي والبكر من كل أموالهم وأنفسهم لأنه كان بكراً لعيزار بن هارون.
ثم كلم الرب موسى وقال له: ضيق على أهل مدين وأهلكهم كما ضيقوا عليكم ولحسوكم، ثم قال: ثم كلم الرب موسى وقال له: إني لمنتقم من المدينيين ما صنعوا بين بني إسرائيل، ثم تقتص إلى شعبك، ثم قال موسى للشعب: يتسلح منكم قوم للحرب لينتقموا للرب من المدينيين، وليكونوا اثنى عشر ألفاً، فانتخب موسى من بني إسرائيل ألفاً من كل سبط، اثنى عشر أبطالاً متسلحين وأرسلهم، وصير قائدهم فنحاس بن اليعازر الحبر ومعه أوعية القدس وقرون ينفخ بها، وتقووا على مدين كما أمر الرب موسى وقتلوا كل ذكر فيها وقتلو ملوك مدين مع القتلى، وقتل بلعام بن بعور معهم في الحرب، وسبى بنو إسرائيل نساء مدين وانتهبوا مواشيهم وسلبوا جميع دوابهم وأموالهم وأخربوا جميع قرى مساكنهم وأتو بما انتهبوه إلى موسى، وخرج
171
موسى وجميع عظماء الجماعة فتلقوهم خارج العسكر، وغضب موسى على رؤساء الأحبار ورؤساء الألوف والمئين الذي أتوه من الحرب فقال لهم: لماذا أبقيتم على الإناث وهن كن عثرة لبني إسرائيل عن قول بلعام ومشورته، وفتنوا وغدروا وتمردوا على الرب في أمر فغور - وفي نسخة السبعين: فإن هؤلاء كن شيئاً لبني إسرائيل لقوم بلعام أن يتباعدوا ويتهاونوا بكلمة الرب من أجل فغور - فواقعت السخطة جماعة الرب - وفي النسخة الأخرى: وتسلط الموت على جماعة الرب - بغتة، فاقتلوا الآن جميع الذكورة من الصبيان، وكل امرأة أدركت وعقلت وعرفت الرجال فاقتلوها، وأبقوا على جميع النساء اللواتي لم يعرفن الرجال وأما أنتم فانزلوا خارجاً عن العسكر سبعة أيام - إلى آخر ما مضى قريباً في الآصار.
172
ولما انقضت هذه القصص فأسفرت عن أن أكثر الخلق هالك، صرح بذلك فقال مقسماً لأنه لا يكاد يصدق أن الإنسان يكون - أضل من البهائم، عاطفاً على ما تقديره: هؤلاء الذين قصصنا عليكم أخباركم ذرأناهم لجهنم: ﴿ولقد﴾ وعزتنا وجلالنا ﴿ذرأنا﴾ أي خلقنا بعظمتنا وأنشأنا وبثثنا ونشرنا ﴿لجهنم كثيراً﴾ أي وألجأناهم
172
إليها ولم يجعل بينهم وبينها حائلاً.
ولما كانوا يعظمون الجن ويخافونهم ويضلون بهم، بدأ بهم فقال: ﴿من الجن﴾ أي بنصبهم أنفسهم آلهة بإضلالهم الإنس في تزيين عبادتهم غير الله، فهم في الحقيقة المعبودون لا الحجارة، ونحوها ﴿والإنس﴾ أي بعبادتهم لمن لا يصلح، وعلم أن الآية صالحة لأن تكون معطوفة على الجملة التي قبلها فهي من فذلكة ما تقدم.
ولما كان كأنه قيل: ما لهم رضوا لأنفسهم بطريق جهنم؟ قيل: ﴿لهم﴾ ولما كان السياق للتفكر، بدأ بالقلوب فقال: ﴿قلوب لا يفقهون بها﴾ أي الفقه الذي كلفوا به، وهو النظر في أدلة التوحيد وثبوت النبوة وما تفرغ عن ذلك، وهو الفقه المسعد، عد غيره عدماً لأنه لم ينفعهم النفع المقصود في الحقيقة، وما أحسن التعبير بالفقه في السياق إقامه الأدلة التي منها إرسال الرسل وإنزال الكتب.
ولما كان البصر أعم من السمع، لأنه ينتفع به الصغير الذي لا يفهم القول، وكذا كل من في حكمه، قدمه فقال: ﴿ولهم أعين﴾ ولما لم يترتب عليهما الإبصار النافع في الآخرة الباقية، نفى إبصارهم وإن كانوا أحدّ الناس إبصاراً فقال: ﴿لا يبصرون بها﴾ أي الآيات المرئية إبصار تفكر واعتبار ﴿ولهم آذان﴾ ولما لم يترتب على سمعها ما ينفعهم، نفاه على نحو ما مضى فقال: ﴿لا يسمعون بها﴾ أي الآيات المسموعة وما
173
يدل عليها سماع ادكار وافتكار، ولما سلبت عنهم هذه المعاني كانت النتيجة: ﴿أولئك﴾ أي البعداء من المعاني الإنسانية ﴿كالأنعام﴾ أي في عدم الفقه، ولما كانوا قد زادوا على ذلك تفقد نفع السمع والبصر قال: ﴿بل هم أضل﴾ لأنهم إما معاند وإما جاهل بما يضره وينفعه، والأنعام تهرب إذا سمعت صوتاً منكراً فرأت بعينها أنه يترتب عليه ضرها، وتنتظر ما ينفعها من الماء والمرعى فتقصده، والأنعام لا قدرة لها على ما يترتب على هذه المدارك من الفقه. وهؤلاء مع قدرتهم على ذلك أهملوه فنزلوا عن رتبتها درجة كما أن من طلب الكمال وسعى له سعيه مع نزاع الشهوات علا عن درجة الملائكة بما قاسى من الجهاد.
ولما تشاركوا الأنعام بهذه في الغفلة وزادوا عليها، أنتج ذلك قطعاً على طريق الحصر: ﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿الغافلون*﴾ لا الأنعام، فإنها - وإن كانت غافلة عما يراد بها - غير خالدة في العذاب، فلم تشاركهم في العمى والصمم عما ينفعها ولا في الغفلة عن الخسارة الدائمة، فقد أشارت الآية إلى تفضيل الإنسان على الملك كما اقتضته سورة الزيتون، لأنه جعل في خلقه وسطاً بين الملك الذي هو عقل صرف والحيوان الذي هو شهوة مجردة، فإن غلب عقله كان أعلى بما عالجه من جهاد الشهوات فكان في
﴿أحسن تقويم﴾ [التين: ٥] وإن غلبت شهوته كان اسفل من الحيوان بما أضاع من عقله فكان ﴿أسفل سافلين﴾ [التين: ٥].
174
ولما أنتج هذا أن لهم الأسماء السوأى ولمعبوداتهم أسوأ منها، عطف عليه دفعاً لوهم من يتوهم بالحكم بالضلال والذرء لجهنم ما لا يليق، وتنبيهاً على أن الموجب لدخول جهنم الغفلة عن ذكر الله ودعائه - قوله: ﴿ولله﴾ أي الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال وحده ﴿الأسماء﴾ ولما كان الاسم إذا لحظت فيه المناسبة كان بمعنى الصفة، أنث في قوله ﴿الحسنى﴾ أي كلها باتصافه دون غيره بصفات الكمال التي كل واحدة منها أحسن شيء وأجمله وتنزهه عن شوائب النقص وسمات الحدث، فكل أفعاله حكمة وإنما كان مختصاً بذلك لأن الأشياء غيره ممكنه لتغيرها، وكل ممكن محتاج وأدنى ما يحتاج إلى مرجح يرجح وجوده، وبذلك نعلم وجود المرجح ونعلم أن ترجيحه على سبيل الصحة والاختيار لا الوجوب، وإلا لدام العالم بدوامه، وبذلك ثبتت قدرته، وتكون أفعاله محمكه ثبت علمه فثبتت حياته وسمعه وبصره وكلامه وإرادته ووحدانيته، وإلا لوقع التنازع فوقع الخلل، فالعلم بصفاته العلى ليس في درجة واحدة بل مترتباً، وعلم بهذا أن الكمال له لذاته، وأما غيره فكماله به وهو بذاته غرق في بحر الفناء واقع في حضيض النقصان ﴿فادعوه﴾ أي فصفوه وسموه واسألوه ﴿بها﴾ لتنجوا من جهنم وتنالوا كل ما تحمد عاقبته، فإن القلب إذا غفل عن ذكر الله أقبل على الدنيا وشهواتها فوقع في نار الحرص وزمهرير الحرمان ولا يزال
175
في رغبة إلى رغبة حتى لا يبقى له مخلص، وإذا أقبل على الذكر تخلص عن نيران الآفات واستشعر بمعرفة الله حتى تخلص من رق الشهوات فيصير حراً فيسعد بجميع المرادات، وكثرة الأسماء لا تقدح في التوحيد بل تدل على عظيم المسمى ﴿وذروا﴾ أي اتركوا على حالة ذرية ﴿الذين يلحدون﴾ أي يميلون عما حد لهم بزيادة فيشبهوا أو نقص فيعطوا ﴿في أسمائه﴾ أي فيطلقونها على غيره بأن يسموه إلهاً، فيلزمهم أن يطلقوا عليه جميع أوصاف الإله. فقد ألحدوا في البعض بالفعل وفي الباقي باللزوم، أو بأن يسموه بما لم يأذن فيه، وما لم يأذن فيه تارة يكون مأذوناً فيه في الجملة كالضار فلا يجوز ذكره إلا مع النافع، وتارة لا، مثل إطلاق الأب عليه والجسم، وكذا كل ما أوهم نقصاً، فلم يكن أحسن، ولورود إطلاق بعض اشتقاقاته عليه مثل علم لا يجوز أن يقال لأجله: معلم، وكذا لحبهم لا يجوز لأجله أن يقال: ياخالق الديدان والقردة مثلاً، وكذا لا يجوز أن يذكر اسم لا يعرف الذاكر معناه ولو كان الناس يفهمون منه مدحاً كما يقول البعض البدو: يا أبيض الوجه! يا أبا المكارم! فإن ذلك كله إلحاد، وهذا الفعل يستعمل مجرداً فيقال: لحد في كذا وألحد فيه - بمعنى واحد، وهو العدول عن
176
الحق والإدخال فيه ما ليس منه - نقله أبو حيان عن ابن السكيت؛ وقال الإمام أبو القاسم علي بن جعفر بن القطاع في كتاب الأفعال: لحد الميت لحداً وألحده: شق له القبر، وإلى الشيء وعنه وفي الدين: مال، وقرئ بهما كذلك.
ولما كان كأنه قيل: فما يفعل بمن ألحد؟ وكان المرهب إيقاع الجزاء، لا كونه من معين، قال بانياً للمفعول: ﴿سيجزون﴾ أي في الدنيا والآخرة بوعد لا خلف فيه ﴿ما كانوا﴾ أي بجبلاتهم ﴿يعملون*﴾ أي فيفعل بهم من أنواع الإهانة والعقوبة ما يوجب وصفهم بأقبح الأوصاف ضد ما كانوا يسمعونه في الدنيا ممن يدانيهم.
ولما أخبر تعالى عن ذرء جهنم من القبلتين، تشوف السامع إلى معرفة حال الباقين منهما، فقال مصرحاً بالخبر عنهم عاطفاً على ﴿ولقد ذرأنا﴾ [الأعراف: ١٧٩] مشيراً بمن التبعيضية إلى قتلهم تصديقاً لقوله ﴿وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين﴾ [الأعراف: ١٠٢] ﴿وممن خلقنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿أمة﴾ أي جماعة عرفت من هو أهل لأن يؤم ويهتدى به فقصدته فاقتبست من أنواره فصارت هي أهلاً لأن تقصد ويؤتم بها.
ولما أفهم لفظ الأمه هذا صرح به في قوله: ﴿يهدون بالحق﴾ أي الثابت الذي يطابقه الواقع ﴿وبه﴾ أي الحق خاصة ﴿يعدلون*﴾
177
أي يجعلون الأمور متعادلة، لا زيادة في شيء منها على ما ينبغي ولا نقص، لأنا وفقناهم فكشفنا عن بصائرهم حجاب الغفلة التي ألزمناها أولئك، قال أكثر المفسرين: هم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورواه بعضهم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبهم الأمر بعد تعيين قوم موسى عليه السلام تعظيماً لهم.
ولما بين حال الهادين المهديين، وكان أصل السياق الضالين المضلين، أتبعه بقية الحديث عنهم على وجه ملوح بأن علة الهداية التوفيق، فقال عاطفاً على تقديره: فنحن نعلي أمرهم ونطيب ذكرهم: ﴿والذين كذبوا﴾ أي نسبوا الرسل إلى الكذب بسبب إتيانهم ﴿بآياتنا﴾ على ما يشاهد من عظمتها ﴿سنستدرجهم﴾ أي نستنزلهم ونستدنيهم بوعد لا خلف فيه إلى ما نريد بهم من الشر العظيم درجة درجة بسبب أنهم كلما أحدثوا جريمة أسبغنا عليهم نعمة، وإذا عملوا طاعة قصرنا عنهم في الإنعام، أو ضربناهم بسوط الانتقام، فيظنون أن المعاصي سبب النعم فينسلخون من الدين، ولذلك قال: ﴿من حيث لا يعلمون﴾ أي فيرتكبون ما يتعجب من مداناته فضلاً عن مباشرته ومعاناته من له أدنى بصيرة حتى يكمل ما نريد منهم من المعاصي، وهو من أدلة ﴿سأصرف عن آياتي﴾ وأتى في الاستدراج بأداة العظمة وفي الإملاء بضمير الواحد فقال ﴿وأملي لهم﴾ أي أمهلهم
178
بوعد جازم زماناً طويلاً وأمد لهم وهم يعصون حتى يظنون أن الله يحبهم حتى يزيدوا في ذلك لأنهم لا يفعلون شيئاً إلا بمرادي ولا يفوتوني ولم يأت بهما على نهج واحد، لأن الاستدراج يكون بواسطة وبغيرها، فكأنه قال: سأستدرجهم بنفسي من غير واسطة تارة وبمن أتيح لهم النعم على يده من عبيدي وجنودي أخرى، وأما الإملاء وهو تطويل الأجل - فلا يتصور أن يكون إلا من الله تعالى.
ولما كان هذا موجباً لهم - ولابد - الإصرار على المعاصي حتى يصلوا إلى ما حكم عليهم به من النار، قال مستأنفاً ﴿إن كيدي﴾ أي فعلي الذي ظاهرة رفعة وباطنه ضيعة - ظاهره إحسان وباطنه خذلان ﴿متين*﴾ أي شديد قوي لا يمكن أحداً قطعه، قال الإمام بعد تأويل للمعتزله حملهم عليه إيجابهم رعاية الأصلح: وأنا شديد التعجب من المعتزله، يرون القرآن كالبحر الذي لاساحل له مملوءاً من هذه الآيات، والدلائل العقلية القاهرة مطابقة لها، ثم يكتفون في تأويلها - أي عن أنه تعالى يريد الشر - بهذه الوجوه الضعيفة إلا أن علمي بما أراد الله كائن، مزيل هذا التعجب.
ولما كان السياق من أول السورة لإنذارهم، وكان لا بد في صحة الإنذار من تصحيح الرسالة، وختم بأمر الاستدراج، وكانوا قد واقعوا من المعاصي ما لا يجترىء عليه إلا مطموس البصيرة، وكان عندهم أن
179
من قال: إنهم على حال سيىء، - مع ما هم فيه من النعم الظاهر - مجنون، وكان التقدير دلالة على صحة الاستدراج؛ ألم يروا أنهم يقدمون على ما لا يرضاه لنفسه عاقل من عبادتهم للحجر وشماختهم عن أكمل البشر ووصفه بالجنون ووصفهم أفضل الكلام بالسحر والكذب إلى غير ذلك مما يغضب من ليس النفع والضر إلا بيده، وهو مع ذلك يوالي عليهم النعم، ويدفع عنهم النقم، هل ذلك إلا استدراج؛ قال منكراً عليهم عطفاً على ما أرشد السياق والعطف على غير معطوف عليه إلى تقديره: ﴿أولم يتفكروا﴾ أي يعملوا أفكارهم ويمعنوا في ترتيب المقدمات ليعلموا أنه لا يتوجه لهم طعن يورث شبهة بوجه من الوجوه، وبين المراد من هذا التفكر وعينه بقوله: ﴿ما بصاحبهم﴾ أي الذي طالت خبرتهم لأنه أمتنهم عقلاً وأفضلهم شمائل ولم يقل: ما برسولي ونحوه، لئلا يقول متعنتهم مالا يخفى، وأعرق في النفي فقال: ﴿من جنة﴾ أي حالة من حالات الجنون.
ولما نفى أن يكون به شيء مما نسبوه إليه وافتزوه عليه فثبتت رسالته، حصر أمره في النذارة لأنها النافعة لهم مع أن المقام لها في هذه السورة فقال: ﴿إن﴾ أي ما ﴿هو إلا نذير﴾ أي بالغ في نذارته ﴿مبين*﴾ أي موضح للطريق إيضاحاً لا يصل إلى غيره، ومن أدلة ذلك عجز الخلق عن معارضة شيء مما يأتي به من أنه أحسن الناس
180
خَلقاً وأعلاهم خُلقاً وأفضلهم عشرة وأرضاهم طريقة وأعدلهم سيرة وأطهرهم سريرة وأشرفهم عملاً وأحكمهم علماً وأرصنهم رأياً وأعظمهم عقلاً وأشدهم أمانة وأظهرهم نبلاً.
181
ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعاً على تقرير أدلة التوحيد، وكان المقصود من الإنذار الرجوع عن الإلحاد، قال منكراً عليهم عدم النظر في دلائل التوحيد الراد عن كل حال سيىء: ﴿أولم﴾ ولما كان الأمر واضحاً قال: ﴿ينظروا﴾ أي نظر تأمل واعتبار، ودل على أنه بالبصيرة لا البصر بالصلة، فقال إشارة إلى كل ذرة فيها دلائل جمة ﴿في ملكوت﴾ وعظم الأمر بقوله: ﴿السماوات والأرض﴾ أي ملكهما البالغ من حد العظمة أمراً باهراً بظاهره الذي يعرفونه وباطنه الذي يلوح لهم ولا يدركونه.
ولما كانت أدلة التوحيد تفوت الحصر، ففي كل ذرة برهان قاهر ودليل ساطع باهر، قال؛ ﴿وما﴾ أي وفيما ﴿خلق الله﴾ أي على ما له من الجلال والجمال ﴿من شيء﴾ أي غيرهما، ليعلموا أنه لا يقدر على شيء من ذلك فضلاً عن ذلك غيره، ويتحققوا أن كتابه سبحانه مباين لجميع مخلوقاته فيعلموا أنه صفته سبحانه وكلامه، فلا يلحدوا في أسمائه فلا يسموا بشيء منها غيره لما ظهر لهم من تمام
181
قدرته وتمام عجز غيره عن كل شيء ومن شمول علمه وتناهي جهل غيره بكل شيء إلى غير ذلك حتى يعلموا بعضامة هذا الكون أنه سبحانه عظيم، وبقهره لك شيء أنه قهار شديد، وبعجزه كل شيء عن كل شيء من أمره أنه عزيز، وبإسباغه النعمة أنه رحيم كريم إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العلى التي تنطق الأشياء بها بألسنة الأحوال وتتحدث بها صدور الكائنات وإن لم يكن لها مقال، ويشرحها كلام التدبير بما له من الكمال ﴿وأن عسى﴾ أي وينظروا في الإشفاق والخوف من أنه ممكن وخليق وجدير ﴿أن يكون قد اقترب﴾ أي دنا دنوّاً عظيماً ﴿أجلهم﴾ أي الذي لا شك عندهم في كونه بموته من موتات هذه الأمم التي أسلفنا أخبارهم كنفس واحدة أو بالتدريج فيبادروا بالإيمان به خشية انخرام الأجل للنجاة من أعظم الوجل، فإن كل عاقل إذا جوز خطراً ينبغي له أن ينظر في عاقبته ويجتهد في الخلاص منه.
ولما كان قد تقدم في أول السورة النهي عن التحرج من الإنذار بهذا الكتاب، وبان بهذه الآيات أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتصف بالإنذار به حق الاتصاف، وبان أن القرآن مباين لجميع المخلوقات، فثبت أنه كلام الله؛ تسبب عن ذلك الإنكار على من يتوقف عن الإيمان به،
182
والتخويف من إحلال أجله قبل ذلك فيقع فيما لا يمكنه تداركه، وذلك في أسلوب دال على أن الإيمان بعد هذا البيان مما لا يسوغ التوقف فيه إلا لانتظار كلام آخر فقال: ﴿فبأي حديث﴾ أي كلام يتجدد له في كل واقعة بيان المخلص منها ﴿بعده﴾ أي بعد هذه الرتبة العظيمة ﴿يؤمنون*﴾ فقد دلت هذه الآية على أن للإيمان طريقين: أحدهما سمعي، والآخر عقلي، قال الحرالي في كتاب له في أصول الفقه: الحكم إنما يتلقى من خطاب الله البالغ على ألسنة رسله، وقد اتضح واشتهر أن السمع من طرق تفهم خطاب الله الذي تبلغه الرسل، وكذلك أيضاً قد تحقق لقوم من أولي الألباب أن الرؤية وسائر الحواس طريق من طرق تفهم خطاب الله أيضاً، يعي منه اللب العقلي معنى الإرسال في كتابه المخلوق كما يعي العقل معنى الإرسال من مفهوم كلامه المنطوق، وقوم ممن فهم من مرئي كتاب الله المشهود إرسالاً ولقن أحكاماً يسمون الحنيفيين كقس ابن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل، وقد شهد لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن كل واحد منهم «يبعث أمه واحدة» لاهتدائه من نفسه من غير رسالة هاد خارج عنه، بل من رسول موجدته وإحساسه للعالم، ولأنه إنما أخذ بكلية حكم الإيمان ووجوب المناصفة مع الخلق من شهود خلق الله، وصار مع ذلك يترقب تأكيد ما يحصل له عقلاً من مسموع خطاب الله، وعلى نحو هذه الحال - وأتم هي - حال
183
الأنبياء والصديقين قبل مورد الوحي على النبي وقبل سماع صديقه وارد وحيه، وهؤلاء هم - الذين لا يتوقفون عن الإيمان بالنبي عند ابتداء دعوته، وكما أن النبي لا يلزم ويحكم بل يبلغ عن الله فكذلك نظر العقل لا يلزم ولا يحكم بل يبلغ عن الله فيكون الحكم الذي هو تصرف الحق في أفعال الخلق بهذا على ضربين، شرعي أي مأخوذ من الإرسال الشرعي، وعقلي أي مأخوذ من الإرسال العقلي، وحاصل ذلك أن العالم المشهود مبين عن أمر الله، وكل مبين مبلغ، فالعلم مبلغ أي بما يفهمه الفاهم من كلامه عن الله، فإن النحاة قالوا - كما ذكره ابن عصفور في شرح الإيضاح لأبي علي وكذا غيره: إن الكلام في الإصطلاح لا يقع الإ على اللفظ المركب وجوداً أو تقديراً المفيد بالوضع، قال: واحترزوا باللفظ عما يقال له كلام لغة وليس بلفظ كالخط والإشارة وما في النفس وما يفهم من حال الشيء، وقال الحرالي: نحو حال الخجل والغضبان، وبالفعل نحو الإشارة باليد والعقد بالأنامل وبآثار الفعل كالصنائع والأعمال، وباللفظ الذي يلفظ به القلب إلى ظاهر اللسان، وبآثار رقوم يحاذي بها حذو مفهوم اللفظ وهو الخط - انتهى.
ولما كان ذلك كله من أعجب العجب، كانت فذلكته قطعاً تعليلاً لما قبله من إعراضهم عما لا ينبغي الإعراض عنه دليلاً على أن الأمر ليس إلا بيد منزله سبحانه قوله: ﴿من يضلل الله﴾ أي الذي له جميع العظمة ﴿فلا هادي﴾ أصلاً ﴿له﴾ بوجه من الوجوه؛ ولما دل بالإفراد
184
على أن كل فرد في قبضته، وكان التقدير: بل يستمر على ضلاله، وعطف عليه بضمير الجمع دلالة علىأن جمعهم لا يغني من الله شيئاً فقال: ﴿ويذرهم﴾ أي يتركهم على حالة قبيحة، وعبر بالظرف إشارة إلى إحاطة حكمه بهم فقال: ﴿في طغيانهم﴾ أي تجاوزهم للحدود حال كونهم ﴿يعمهون﴾ أي يتحيرون ويترددون في الضلال لا يعرفونه طريقاً ولا يفهمون حجة.
ولما بين التوحيد والنبوة والقضاء والقدر، أتبعه المعاد لتكمل المطالب الأربعة التي هي أمهات مطالب القرآن، مبيناً ما اشتمل عليه هذا الكلام من تبلدهم في العمه وتلددهم في إشراك الشبه بقوله: ﴿يسئلونك﴾ أي مكررين لذلك ﴿عن الساعة﴾ أي عن وقتها سؤال استهزاء ﴿أيان مرساها﴾ أي أيّ وقت ثبات ثقلها واستقراره، والمرسى يكون مصدراً وزماناً ومكاناً، من رست السفينة - إذا ثبتت بالحديدة المتشعبة، وإنما كان هذا بياناً لعمههم فإنهم وقعوا بذلك في الضلال من وجهين: السؤال عما غيره لهم أهم، وجعله على طريق الاستهزاء مع ما قام عليه من الأدلة، وسيكرره في هذه السورة، وكان اللائق بهم أن يجعلوا بدل السؤال عنها اتقاءها بالأعمال الصالحة.
ولما كان السؤال عن الساعة عاماً ثم خاصاً بالسؤال عن وقتها، جاء الجواب عموماً عنها بقوله: ﴿قل إنما علمها﴾ أي علم وقت إرسائها وغيره
185
﴿عند ربي﴾ أي المحسن إليّ بإقامتها لينعم على تبعني وينتقم ممن تركني، لم يطلع على ذلك أحداً من خلقه، ولا يقيمها إلا في أحسن الأوقات وأنفعها لي، وإخفاؤها أنفع للخلق لأنه أعظم لشأنها وأهيب، فيكون أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية وأقرب إلى التوبة، ثم خصصت من حيث الوقت بقوله مشيراً إلى أن لها أشرطاً تتقدمها: ﴿لا يجليها﴾ أي يبينها غاية البيان ﴿لوقتها إلا هو﴾.
ولما كان قد أشار إلى ثقل الساعة بالإرساء، وكان الشيء إذا جهل من بعض الوجوه أشكل وإذا أشكل ثقل، قال: ﴿ثقلت﴾ أي الساعة فغاصت إلى حيث لم يتغلغل إليها علم العباد فأهمهم كلهم عليّ شأنها، ولذلك عبر بالظرف فقال: ﴿في السماوات والأرض﴾ أي نسبة أهلهما إلى خفائها والخوف منها على حد سواء لأن مالكها قادر على ما يشاء، وله أن يفعل ما يشاء - ثم قرر خفاءها على الكل فقال: ﴿لا تأتيكم﴾ أي في حالة من الحالات ﴿إلا بغتة﴾ أي على حين غفلة.
ولما كانوا قد ألحفوا في سؤاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها، وكانت صفة الربوبية المذكورة في الجملة الأولى ربما حملت على سؤاله طمعاً في تعرفها من المحسن إليه، قطع الأطماع بقوله مؤكداً للمعنى: ﴿يسئلونك﴾ أي عن الساعة مطلقاً في وقت وقوعها وما يحصل من أمورها ويحدث من شدائدها، أي ويلحفون في سؤالك كلما أخبرتهم أنه لا يعلمها إلا الله
186
﴿كأنك حفيٌّ﴾ أي عالم بأمرها مستقص مبالغ في السؤال ﴿عنها قل﴾ أي قطعاً لسؤالهم ﴿إنما علمها عند الله﴾ أي الذي له جميع العزة والعظمة والكبرياء فلا يستطاع علم شيء مما عنده إلا بإذنه، ولم يأذن في علمها لأحد من الخلق ﴿ولكن أكثر الناس﴾ أي الذين غلبت عليهم صفة الاضطراب ﴿لا يعلمون﴾ أي ليسوا من أهل العلم فهم بالسؤال عنها يستهزئون، ولو كانوا من أهله ما كذبوك، فوقعوا ما لا يعنيهم من السؤال عنها وغيره من أنواع التعنت، وتركوا ما ينجيهم ويغنيهم من المبادرة إلى الإيمان بهذا القرآن خوف انخرام الآجال وهم يهيمون في أدوية الضلال.
ولما كان علم الغيب ملزوماً لجلب الخير ودفع الضير، وكانت الساعة أدق علم الغيب، أمره بنفي هذا اللازم فينتفي الأعم فينتفي بانتفائه الأخص، وقدم النفع لأنه أهم إلى النفس، وليس في السياق ما يوجب تأخيره بخلاف ما في سورة يونس عليه السلام، فقال آمراً بإظهار ذل العبودية: ﴿قل لا أملك﴾ أي في وقت من الأوقات أصلاً ﴿لنفسي نفعاً﴾ أي شيئاً من جلب النفع قليلاً ولا كثيراً ﴿ولا ضراً﴾ كذلك، فإن قدرتي قاصرة وعلمي قليل، وكل من كان عبداً كان كذلك.
ولما كان من المعلوم بل المشاهد أن كل حيوان يضر وينفع، أعلم أن ذلك إنما هو بالله فقال: ﴿إلا ما شاء الله﴾ أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد سواه أن يقدرني عليه.
187
ولما بين لهم بهذا أن سؤالهم عن الساعة وغيرها من المغيبات جهل منهم، لأن حاله واضح في أنه لا يعلم من ذلك إلا ما علمه الله الذي اختص بعلم الغيب، دل عليه بقوله: ﴿ولو كنت﴾ أي من ذاتي ﴿أعلم الغيب﴾ أي جنسه ﴿لا ستكثرت﴾ أي أوجدت لنفسي كثيراً ﴿من الخير﴾ باستجلاب المنافع بنصب أسبابها.
ولما كان الضر لا يحتمل منه شيء قال: ﴿وما مسني السوء﴾ أي هذه الجنس بإقامة الموانع له عني لأن لازم إحاطة العلم شمول القدرة كما سيقرر إن شاء الله تعالى في سورة طه، ولما بين أن علم الغيب رتبة الإله، ختم الآيه ببيان رتبته، فقال قالباً ما أدعوه فيه من الجنون لما بان بقوله: «يا بني عبد مناف! اتقوا الله، يا بني فلان يا بني فلان» وكذا ما لزم عن إلزامهم له بعلم الساعة من أنه يكون إلهاً: ﴿إن أنا إلا﴾ ولما كانت السورة للإنذار، قدمه فقال: ﴿نذير﴾ أي مطلقاً للكافر ليرجع عن كفره، والمؤمن ليثبت على إيمانه ﴿وبشير لقوم يؤمنون*﴾ أي خاصة، أو الصفتان لهم خاصة بالنظر إلى النفع، وأما ما لا نفع فيه فعدم.
188
ولما ذكر سبحانه الساعة هنا كما ذكرها أول السورة بما لم يذكره
188
هناك من تهكمهم واستهزائهم، وختم هنا بحصر العلم والقدرة في الله الموجب لتفرده بالإلهية، وكان الذي جرهم إلى ذلك الاستهزاء إشراكهم، ذكر ما ذكر قبلها أول السورة من ابتداء الخلق على وجه الحصر المستلزم لتمام القدرة الموجب لنفي الشريك واعتقاد القدرة على الساعة وغيرها والصدق في كل ما وقع الإخبار به من أمرها وغيره الموجب للاستقامة في قبول بشارته ونذارته والإقبال بالكلية على الخالق، فقال مقرراً للتوحيد مؤكداً لأمره: ﴿هو﴾ أي وحده ﴿الذي خلقكم﴾ أي ولم تكونوا شيئاً ﴿من نفس واحدة﴾ أي خلقها ابتداء من تراب وهي آدم عليه السلام - كما مر بيانه، ومن قدر على اختراع حي من شيء ليس له أصل في الحياة، كان على إعادته حياً من ذلك الشيء بعد أن صار له أصل في الحياة أقدر.
ولما كان آدم عليه السلام بعد صيرورته لحماً ودماً أقرب إلى السببية لخلق ذات لحم ودم منه، قال معبراً بالواو لأنه كاف في نفي الشرك الذي السياق للتحذير منه بخلاف الزمر فإنه للقهر، وتأخير المسببات عن الأسباب مدة أدل عليه لأنه خلاف الأصل، ﴿وجعل﴾ لأن الجعل - كما قال الحرالي - إظهار أمر عن سبب وتصيير ﴿منها﴾ أي لا من غيرها ﴿زوجها﴾ أي حواء من لحمها ودمها وعظمها.
ولما كان المراد بالنفس آدم عليه السلام وكان الزوج يقال على الذكر
189
والأنثى، استخدم ضميره في المذكر ذاكراً علة الجعل بقوله: ﴿ليسكن﴾ أي آدم هو المراد بالنفس هنا، ولما كان الزوج هنا هو المرأة أنث الضمير فقال: ﴿إليها﴾ وتنقلكم من ذلك السكون منه إليها - لأن النفس إلى الجنس أميل وعليه أقبل، ولا سيما إن كان بعضاً، ألا ترى إلى محبة الوالد لولده والقريب لقريبه، وإنما منع سبحانه من نكاح الأصل والفرع لما في ذلك من الضرار وغيره من الحكم الكبار، فيغشاها عند ما يسكن إليها فيحصل الحبل والولادة فتتفرع النفوس من تلك النفس.
ولما كان السكون هنا كناية عن الجماع، أعاده بلفظ أقرب منه - فقال مؤذناً بقرب غشيانها بعد جعلها، أو ناسقاً له على ما تقديره: فسكن إليها فمالت نفسه إليها فلم يتمالك أن غشيها ﴿فلما تغشّاها﴾ أي غشيها آدم عليه السلام المعبر عنه بالنفس بهمة عظيمة ﴿حملت حملاً خفيفاً﴾ أي لأنه نطفة ﴿فمرت به﴾ أي فعالجت به أعمالها وقامت وقعدت، لم يعقها عن شيء من ذلك، إعلاماً بأن أمرها فيه كان على عادة النساء التي نعرفها ﴿فلما أثقلت﴾ أي صارت ثقيلة بكبره وتحركه في بطنها ﴿دعوا الله﴾ أي آدم وحواء عليهما السلام.
ولما ذكر الاسم الأعظم استحضاراً لأن المدعو هو الذي له جميع الكمال، فهو قادر على ما دعوا به لأنه قادر على كل ما يريد، ذكر صفة الإحسان رجاء القبول والامتنان فقال: ﴿ربهما﴾ أي الذي أحسن إليهما،
190
مقسمين ﴿لئن آتيتنا صالحاً﴾ أي ولداً لا عيب فيه ﴿لنكونن من الشاكرين*﴾ أي نحن وأولادنا على نعمتك علينا، وذلك أنهما جوزا أن يكون غير سوى لقدرة الله على كل ما يريد، لأنه الفاعل المختار لا الطبيعة ولا غيرها، وأشار بالفاء إلى قرب الولادة من الدعاء فقال: ﴿فلما آتاهما﴾ أي أبويكم آدم وحواء ﴿صالحاً﴾ أي جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدناً وقوة وعقلاً، فكثروا في الأرض وانتشروا في نواحيها ذكوراً وإناثاً ﴿جعلا﴾ أي النوعان من أولادهما الذكور والإناث، لأن «صالحاً» صفة لولد وهو للجنس فيشمل الذكر والأنثى والقليل والكثير، فكأنه قيل: فلما آتاهما أولاداً صالحي الخلقة من الذكور والإناث جعل النوعان ﴿له شركاء﴾ أي بعضهم أصناماً وبعضهم ناراً وبعضهم شمساً وبعضهم غير ذلك، هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة نافع وأبي بكر عن عاصم بكسر الشين وإسكان الراء والتنوين التقدير: ذوي شرك ﴿فيما آتاهما﴾ أي من القوى بالعبادة والرزق بالنذور ونحوها.
ولما لم يضر المشركون بالإشراك إلا أنفسهم، سبب عن ذلك قوله: ﴿فتعالى الله﴾ أي بما له من صفات الكمال التي ليست لغيره تعالياً كثيراً، والدليل على إرادة النوعين قوله: ﴿عما يشركون*﴾ بالجمع،
191
وكذا ما بعده من عيب عبادة الأصنام.
ولما ذكر علوه سبحانه، شرع يذكر من أوصافه عبارة وإشارة ما يدل على ذلك، ويقيم الأدلة على عدم صلاحية ما أشركوا به للشركة بعجزها، بأنها من جملة خلقه ولا تصرف لها تستحق به وجهاً من التعظيم، فقال منكراً على عبادها دالاًّ على أن المراد الشرك الحقيقي، لاما ذكر من قصة إبليس في تسببه في التسمية بعبد الحارث ونحوه: ﴿أيشركون﴾ أي المشركون وأولادهما في العبادة ﴿ما لا يخلق﴾ أي من الأصنام والطبائع والكواكب وغيرها ﴿شيئاً﴾ أي يوجده من العدم كما يفعل الله الذي أشركوها به.
ولما كان يلزم أن يكون ما لا يخلق شيئاً مخلوقاً لأنه لا يتكون عاجزاً بغير قادر أوجده، صرح به في قوله مجرياً للأوثان مجرى أولي العلم لتنزيلهم منزلتهم في الاعتقاد والعبادة: ﴿وهم﴾ ولما كان المصنوع لا يكون صانعاً، اكتفى بالبناء للمفعول فقال: ﴿يخلقون*﴾ أي متجدداً خلق أعراضهم وذواتهم وأمثالهم ﴿ولا يستطيعون لهم﴾ أي للمشركين الذين يعبدونها ﴿نصراً﴾ وهو المعونة على العدو، ولعله عبر بصيغة العاقل إشارة إلى أنهم لو كانوا يعقلون، وكانوا بهذه الصفات الخسيسة ما أهلوهم لأن يكونوا أحبابهم فضلاً عن أن يجعلوهم أربابهم.
192
ولما كان من لا ينصر غيره قد ينصر نفسه، نفي ذلك بقوله: ﴿ولا أنفسهم ينصرون*﴾ أي في وقت من الأوقات عند يصيبهم بسوء، بل عبدتهم يدافعون عنهم.
ولما تبين من هذا الاستفهام الإنكاري المعجب من حالهم في ضلالهم في أسلوب الغيبة أن من أشركوه ليس فيه نوع قابلية لما أهلوه، فإن المعبود يجب أن يكون قادراً، ومن كان عاجزاً نوع عجز كان مربوباً، وكان للتنبيه بالخطاب ما ليس له بالغيبة؛ أتبع ذلك في إسلوبه تعجيباً آخر منهم أشد من الأول، وذلك أن معبوداتهم التي أشركوا بها كما أنها لا تفعل شيئاً من تلقاء أنفسها، لا تفعله عند دعاء الداعي ولا تهتدي إليه فقال تعالى ﴿وإن تدعوهم﴾ أي وإن تدعوا أيها المشركون أصنامكم دعاء مستمراً متجدداً ﴿إلى الهدى﴾ أي إلى الذي يدل الداعي إليه قطعاً، على أن المتخلف عنه سيىء المزاح، محتاج إلى العلاج، لكونه تخلف عما لا يتخلف عنه من له نوع صلاح لكونه أشرف الأشياء، فالمتخلف عنه راض لنفسه بالدون ﴿لا يتبعوكم﴾ أي في ذلك الهدى الذي دعوتموهم إليه ولم بالغتم في الاستتباع، ولعله عبر بصيغة الافتعال إشارة إلى أنها لا يتصور منها قصد التبع فضلاً عن إيجاده، ثم بين أن ذلك ليس بأمر عارض، بل هو مستمر دائم بقوله مستأنفاً تأكيداً للمعنى: ﴿سواء عليكم﴾.
193
ولما كان السواء لا يكون إلا بين أمرين، تشوف السامع إليهما فقال؛ ﴿أدعوتموهم﴾ أي وجد منكم ذلك الدعاء الذي أشير إلى استمراره، وعبر بالاسمية إشارة إلى أنهم لا يدعونهم في وقت الشدائد، بل يدعون الله فقال: ﴿أم أنتم صامتون*﴾ أي عن ذلك على الدوام على عادتكم في الإعراض عن دعائهم في أوقات الملمات، فالذين يدعون معتقديهم في وقت الضرورات أقبح حالاً في ذلك من المشركين ويجوز أن تكون الآية من الاحتباك، فيكون نظمها: أدعوتموهم مرة أو أنتم داعوهم دائماً أم صَمَتُّمْ عن دعائهم في وقت ما أم أنتم صامتون دائماً عن دعائهم، حاكم في كل هذه الأجوبة سواء في عدم الإجابة، لا اختلاف فيه بوجه، دل بالفعل أولاً على حذف مثله ثانياً، وبالاسم ثانياً على حذف مثله أولاً.
ولما كان اتباع من يدعي أنه أعقل الناس وأبعدهم عن النقائص وأعرقهم في معالي الأخلاق وأرفعهم عن سفسافها لمن هذا سبيله أخزى الخزي وأقبح العار، وكانوا مع العلم بهذا الذي وصفت به - معبوداتهم يفعلون في الإشراك بهم وفي خوفهم ورجائهم ما هو عين الجهل؛ كرر تبكيتهم باتباعهم في أسلوب آخر أوضح مما قبله في تبيين النقائص والتنبيه على المعايب ملجىء إلى الاعتراف أو التصريح بالعناد أو الجنون فقال مؤكداً: ﴿إن الذين تدعون﴾ أي أيها المشركون دعاء
194
عبادة ملازمين لذلك، أو أنه أطلق الدعاء على العبادة إشارة إلى أنه لا تصح عبادة من ليس فيه قابيلة أن يدعى، والحاصل أن الدعاء يلازم المعبود.
ولما كان دعاؤهم لهم إنما هو على سبيل الإشراك، قال مشيراً إلى سفول رتبتهم بإثبات الجار: ﴿من دون الله﴾ أي الذي له صفات الكمال والعظمه والجلال ﴿عباد أمثالكم﴾ أي في العجز عن كل شيء لا سيما عما وقع به التحدي من معارضة القرآن وغيرها، وأنتم تزيدون عليها بالحياة والعقل، والمعبود لا يصح أن يكون مثل العابد فكيف إذا كان دونه؛ ولما كانوا لا يسلمون أنهم أمثالهم، سبب عن ذلك أمرهم بدعائهم لبيان دعوى المثلية بل الدونية فقال: ﴿فادعوهم﴾ أي إلى شيء من الأشياء.
ولما كان الإله الحق يجيب وليه عند التحدي من غير تخلف، أشار إلى ذلك بالربط بالفاء فقال: ﴿فليستجيبوا لكم﴾ أي يوجدوا لكم إجابة بينة في الإتيان بسورة تماثل شيئاً من القرآن وفي شيء من المنافع.
ولما كان المقام محتاجاً إلى مزيد توبيخ وإلهاب، قدم منه ما رأيت، ثم زاد في الإلهاب فقال: ﴿إن كنتم﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿صادقين*﴾ أي في دعوى أنهم آلهة، فإن رتبة الإله تقتضي ذلك، وقرأ سعيد بن جبير ﴿إن﴾ خفيفة و {عباداً أمثالكم بنصب الدال واللام،
195
واتفق المفسرون على تخريجها على أن «إن» هي النافية أعملت عما «ما» الحجازية، فرفعت الاسم ونصبت الخبر، وإعمالها هذا العمل فيه خلاف، أجازه الكسائي وأكثر الكوفيين، ومن البصريين ابن السراج والفارسي وابن جني، ومنع منه الفراء وأكثر البصريين، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد، والصيحح أن إعمالها لغة ثبت ذلك في النظم والنثر - ذكر ذلك كله أبو حيان وذكر أنه أشبع الكلام فيه في شرح التسهيل، واعترض على هذا التخريج بأنه يلزم منه منافاتها للقراءة المشهورة، وإنما يسلم له ذلك لو توارد النفي والإثبات على شيء واحد، وليس الأمر هنا كذلك، فالإثبات لمماثلتها لهم في مطلق العجز، والنفي لمساواتها لهم فيه لزيادتهم عنها بالبطش ونحوه، أو يكون الأمر - كما قال الزمخشري - أن الإثبات على سبيل التنزل والنفي على الحقيقة.
ولما أثبت عجزهم وأنهم أمثالهم، دل عليه وعلى أنهم دونهم بأسلوب إنكار وتعجيب مفصلاً لبعض ما نفاه عنهم - فقال مقدماً الأرجل لأن أول ما يخشى من الشيء انتقاله: ﴿ألهم أرجل﴾ ولما كانت لهم جوارح مصنوعة، بين المراد بقوله: ﴿يمشون بها﴾.
ولما كان المخشيّ بعد الانتقال مدّ اليد، قال: ﴿أم لهم أيد﴾ أي موصوفة بأنهم ﴿يبطشون بها﴾ أي نوعاً من البطش؛ ولما كان المخوف بعد البطش باليد البصر خوفاً من الدلالة قال: ﴿أم لهم أعين﴾
196
أي منعوتة بأنهم ﴿يبصرون بها﴾ أي ضرباً من الإبصار؛ ولما كان الإنسان ربما خاف مما يقصد ضره فتغيب عنه فلا يصل إليه بعد ذلك إلا بالسمع قال خاتماً: ﴿أم لهم آذان﴾ أي مقول فيها أنهم ﴿يسمعون بها﴾ أي شيئاً من السمع.
ولما سواها بهم ونفى عنهم ما تقدم، لزم نقصانها عنهم وأنه في الحقيقة مسلوب عنهم لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا العدم، والقدرة فيما يقدرون عليه إنما هي بيد الصانع لهم أشركهم معها، وقال دالاًّ على ذلك مستأنفاً: ﴿قل﴾ أي لهولاءالمشركين ﴿ادعوا شركاءكم﴾ أي هذه التي تقدمت ومهما شئتم غيرها، واستعينوا بها في عداوتي.
ولما كان هذا تحدياً عظيماً يحق لفاعله التمدح به، نبه عليه بآداة التراخي فقال: ﴿ثم كيدون﴾ أي جميعاً أنتم وهم وأنتم أكثر من حصى البطحاء ورمل الفضاء وأنا وحدي، ولما كان المعنى: وعجلوا، عطف بفاء السبب قوله: ﴿فلا تنظرون*﴾ أي تمهلون لحظة فما فوقها لئلا تعتلوا في الإنظار بعلة، وعلل عدم المبالاة بكيدهم بقوله دالاًّ على اتصاف معبوده بما نفاه عن شركائهم من الإحاطة بمنافع الدارين فيما يتعلق بالأديان والأبدان، وقدم الدين إشارة إلى أنه الأهم فقال مؤكداً في مقابلة إنكارهم: ﴿إن وليّي﴾ أي ناصري ومتولي جميع أموري ﴿الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال ﴿الذي نزل﴾ أي بحسب التديج
197
متكفلاً بفصل الوقائع ﴿الكتاب﴾ أي الجامع لعلوم الأولين والآخرين وأمر المعاش والمعاد وأحوال الدارين وكل ما فيه صلاح من أحوال القلوب وغيرها الذي عجزتم بأجمعكم ومن دعيتم شركته عن معارضة شيء منه.
ولما تكفل هذا التنزيل بجميع الصفات، وهي الحياة التامة المستلزمه للإرادة والقدرة والعلم والسمع والبصر والكلام، وكان عجزهم عن المعارضة للكتاب دليلاً شهودياً قولياً على كذبهم، أتبع ذلك دليلاً آخر شهودياً فعلياً فقال: ﴿وهو﴾ أي وحده ﴿يتولى﴾ أي يلي ولاية تامه ﴿الصالحين*﴾ أي كلهم بنصرهم على كل مناو وكفايتهم لكل مهم وقد علمتم ما قدمه في هذه السورة من وقائعه بمن كذب أنبياءه واستهزأ برسله وأنه أنجى كل من والاه، وأهلك جميع من عاداه كمن عدوهم آلهة، وهو وما بعده وما قبله متلفت إلى قوله تعالى ﴿اتبعوا ما أنزل إليكم ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء﴾ [الأعراف: ٣] بالشرح، وهو دال على أنه الذي فعل ما تقدم لأجل أوليائه بدليل أنه أعجزهم عن معارضة شيء من كتابه، وعن الوصول إلى جميع ما يريدون من أوليائه وأحبابه.
198
ولما صور بهذا جلاله، وقرر عظمته وكماله، باتصافه بجميع الصفات العلى التي منها القدرة التي تكفهم عنه؛ كرر التنفير عن أندادهم في أسلوب آخر تأكيداً للمعنى السابق بزيادة بالغة في العجز وهو تصويب
198
النظر من غير إبصار، مع أن الأول للتقريع، وهذا الفرق بين من يعبد بحق ومن يعبد بباطل ليرجعوا عن غيهم وعنادهم، فقال مبيناً أنهم ليسوا في شيء من صفاته مصرحاً بنفي النصرة التي أثبتها له عنهم مع المواجهة بالخطاب الذي هو أفظع في الجواب: ﴿والذين تدعون﴾ أي تديمون دعاءهم ﴿من دونه﴾ - فإنهم يدعونه سبحانه في بعض الأوقات - أوتدعونهم تاركين له ﴿لا يستطيعون نصركم﴾ أي بوجه من وجوه النصرة بدليل عجزكم عني وأنا وحدي وأنتم أهل الأرض ﴿ولا أنفسهم ينصرون*﴾ بدليل أن الكلب يبول عليهم فلا يمنعونه.
ولما كان دعاء الجماعة أقرب إلى السماع من دعاء الواحد، نسق على ما قبله قوله: ﴿وإن تدعوهم﴾ أي يا من هم أضل منهم وأعجز ﴿إلى الهدى﴾ أي إلى الذي هو أشرف الخلال ليهتدوا في نصر أنفسهم أو غير ذلك ﴿لا يسمعوا﴾ أي شيئاً من ذلك الدعاء ولا غيره؛ ولما كان حالهم في البصر بالنسبة إلى كل أحد على حد سواء، قال مفرداً للمخاطب: ﴿وتراهم﴾ أي أيها الناظر إليهم ﴿ينظرون إليك﴾ أي كأنهم ينظرون لما صنعوا لهم من الأعين ﴿وهم لا يبصرون*﴾ أي نوعاً من الإبصار، وما أشبه مضمون هذه الآيات بما في سفر أنبياء بني إسرائيل في نبوة أشعياً: هكذا يقول الرب ملك إسرائيل ومخلصه: أنا الأول وأنا الآخر، وليس إله غيري. ومن مثلي يدعي ويظهر قوته ويخبر بما كان
199
منذ بسطت الدنيا إلى الأبد، والآيات القديمة تظهر للشعوب، فلا يفزعون ولا يخافون، ألم أسمعكم منذ أول الدهر وأظهرها لكم وأبين لكم الأمور وأنتم شهدائي أن ليس إله غيري، وليس عزيز منيع إلا وأنا أعز منه، لأن جميع الصناع الذين يعملون الأصنام إنما عملهم باطل وليس في أعمالهم منفعة، وأن الصناع الذين يعملونها هم يشهدون عليها أنها لا تبصر ولا تسمع ولا تعلم، لذلك يخزي جميع صناع الأوثان المسبوكة لأن جميع ما صنعوا لا عقل له، فيجمعون كلهم ويخزون ويفتضحون لأن النجار نحت بحديده وهيأ صنماً بمنقاره وسدده بقوة ساعده وجاع وعطش في عمله. والنجار اختار خشبة وقدرها وألصق بعضها ببعض بالغراء وركبها وعملها كشبه الإنسان، أقام من الخشب الذي قطع من الغيضة كشبه رجل الذي نبت من شرب المطر ليصير للناس للوقود فعملوه لهم إلهاً وعبدوه وسجدوا له، الذي ينصفه خبزوا لهم خبزاً وشووا لهم لحماً على جمرة وأكلوا وشربوا واصطلوا وقالوا: قد حمينا لأنا قد أوقدنا ناراً واصطلينا، والذي بقي منه اتخذوه إلهاً منحوتاً وسجدوا له وصلوا وقالوا: نجّنا لأنك إلهنا.
ولم يخطر على بالهم فكر أن يقولوا: إنا قد أوقدنا نصفه بالنار، وخبزنا خبزنا وشوينا على جمره اللحم وأكلنا، ولم يعلموا أن باقيه عمل منه صنم وسجدوا له، لأن قلوبهم متمرغة في رماده، وضلت عقولهم فلا يقدرون ينجون أنفسهم ولا يقولون: إن أيادينا عملت الباطل
200
واتخذت الكذب، ثم قال: أليس أنا الرب منذ أول، وليس إله غيري ولا مخلص سواي، ادنوا إليّ يا جميع الذين في أقطار الأرض لتنجوا لأني أنا الرب وليس إله غيري، حلفت بيميني وأخرجت كلمة صدق ولست أرجع عنها لأنه لي تنحني كل ركبة، وبي يحلف كل إنسان ويقول: إنما البر بالرب، وإليه تدنو الأعزاء ويخزى جميع المبغضين، وبي يمتدح ويتبرر، بمن شبهتموني؟ وإلى من نسبتموني؟ بالضالين الذين أخرجوا الذهب من أكياسهم ووزنوا الفضة بالميزان واكتروا الصناع حتى عملوا لهم آلهة يسجدون لها ويحملونها على أكتافهم ويمشون بها ثم يصلون لها ويدعونها لا تجيبهم ولا تخلصهم من شدائدهم ثم يحملونها أيضاً ويردونها إلى مواضعها، اذكروا هذه الأشياء واعقلوا أيها الأثمة واخطروها على قلوبكم وتذكروا الأيام التي كانت من الابتداء، إني أنا الله الخالق وليس إله غيري ولا مثلي، فأنا أظهر العتيدات وأخبر بالذي يكون قبل أن يكون، وأثبت رأيي وأكمل إراداتي وهواي، وأدعو من في المشارق فيأتون أسرع من الطير، وأتاني الرجل الذي قد عمل مسرتي من الأرض البعيدة، لأني أنا إذا تكلمت بشيء فعلته. أنا خلقت وأنا أخلق؛ وفي الزبور في المزمور الثالث عشر بعد المائه: إلهنا في الأرض، كل ما يشاء يصنع، أوثان الأمم ذهب وفضة عمل أيدي
201
البشر، لها أفواه ولا تتكلم، لها أعين ولا تنظر، لها آذان ولا تسمع، وآناف ولا تشم، وأيد ولا تلمس، وأرجل ولا تمشي، ولا صوت بحناجرها ولا روح في أفواهها، فليكن صانعوها مثلها وجميع من يتوكل عليها - انتهى.
ولما كان محصل أمرهم الإعراض عما أتاهم بالتكذيب والإقبال على ما لم يأتهم بالطلب والتعنت كالسؤال عن الساعة، والأمر بالمنكر من الشرك وما يلزم منه من مساوي الأخلاق، والنهي عن المعروف الذي هو التوحيد وما يتبعه من محاسن الشرع، وذلك هو الجهل، وختم ذلك بالإخبار بأنه سبحانه أصلح له الدين بالكتاب، والدنيا بالحفظ من كل ما ينتاب، وكان حالهم ربما كان موئساً من فلاحهم، مفتراً عن دعائهم إلى صلاحهم، كان الداعي لهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه قال: فما أصنع في أمرهم؟ فأجابه بالتحذير من مثل حالهم والأمر بضد قالهم وفعالهم والإبلاغ في الرفق بهم فقال: ﴿خذ العفو﴾ أي ما أتاك من الله والناس بلا جهد ومشقه، وهذا المادة تدور على السهولة، وتارة تكون من الكثرة وتارة من القلة، فعفا المال، أي كثر، فصار يسهل إخراجه ويسمح به لزيادته عن الحاجة، وعفا المنزل، أي درس، فسهل أمره حتى صار لا يلتفت إليه.
202
ولما أمره بذلك في نفسه، أمره به في غيره فقال: ؛ ﴿وأمر بالعرف﴾ أي بكل ما عرفه الشرع وأجازه، فإنه من العفو سهولة وشرفاً، وقد تضمن ذلك النهي عن المنكر فأغنى بذلك عن ذكره لأن السياق للمساهلة؛ ولما أمره بالفعل في نفسه وغيره، أتبعه الترك فقال: ﴿وأعرض عن الجاهلين*﴾ أي فلان تكافئهم بخفتهم وسفههم ولا تمارهم فإن ذلك أسهل من غيره، وذلك بعد فضيحتهم بالدعاء، وذلك - لأن محط حالهم اتباع الهوى فيدعوهم إلى تكلف ضد هذه الخصال، وفيه إشارة إلى النهي عن أن يذهب نفسه عليهم حسرات مبالغة في الشفقة عليهم، وعن جعفر الصادق أنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.
ولما كان الشيطان بعداوته لبني آدم مجتهداً في التنفير من هذه المحاسن والترغيب في أضدادها، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نزع منه حظ الشيطان بطرح تلك العلقة السوداء من قبله إذ شق جبرائيل عليه السلام صدره وغسل قلبه وقال: هذا حظ الشيطان منك؛ شرع لأمته ما يعصمهم منه عند نزغه مخاطباً له بذلك ليكون أدعى لهم إلى القبول وأجدر باشتداد الخوف المقتضي للفرار المثمر للنجاة، لأنهم إذا علموا
203
قصد الشيطان لمن نزع منه حظه وعصم من كل محنة علموا أنه لهم أشد قصداً وأعظم كيداً وصداً، فقال مؤكداً بأنواع التأكيد إشارة إلى شدة قصد الشيطان للفتنة وإفراطه في ذلك، ليبالغ في الحذر منه وإن كان قصده بذلك في محل الإنكار لعلمه بالعصمة - لذلك عبر بأداة الشك إشارة إلى ضعف كيده للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن الله تعالى أعانه على قرينه فأسلم: ﴿وإما﴾ أي إن، وأكدت ب ﴿ما﴾ إثباتاً للمعنى ونفياً لضده ﴿ينزغنك﴾ أي ينخسنك نخساً عظيماً ﴿من الشيطان نزغ﴾ أي نخس بوسوسته من شأنه أن يزعج فيسوق إلى خلاف ما تقدم من المحاسن في نحو غضب من جهل الجاهل وسفه السفيه أو إفراط في بعض أوجه كما تساق الدابة بما تنخس به، فيفسر ويجعل النخس ناخساً إشارة إلى شدته ﴿فاستعذ﴾ أي فأوجد أو اطلب العوذ وهو الاعتصام ﴿بالله﴾ أي الذي له جميع العز والعظمة والقدرة والقهر لا نقطاعك عن الإخوان والأنصار إليه فلا ولي لك ولا ناصر إلا هو، فإنه إذا أراد إعاذتك ذكرك من عزيز نعمه وشديد نقمه ما يريد عن الفساد رغباً ورهباً، والآية ناظرة إلى قوله تعالى أولها ﴿لأقعدن لهم صراطك المستقيم﴾ [الأعراف: ١٦].
ولما أبطل تعالى أن يكون لشركائهم سمع أو علم، صار إثبات ذلك
204
له كافياً في اختصاصه به من غير حاجة إلى الحصر المتضمن لنفيه عن غيره لتقدمه صريحاً بخلاف ما في فصلت، فقال معللاً: ﴿إنه سميع﴾ أي بالغ السمع فهو يسمع استعاذتك فيجيبك إن شاء ﴿عليم*﴾ شامل العلم بما تريد ويريد منك عدوك، فلا يعجزه شيء، وختم بصفة العلم في الموضعين لأن الوسوسة من باب ما يعلم، وختمها في سورة المؤمن بالبصير المشتق من البصر والبصيرة، لأن المستعاذ منه أمر الناس ومنه ما يبصر.
ولما كان لا يحصل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا شيء خفيف جداً كما نبه عليه بالنزغ، وهو ليس بمحقق كما نبهت عليه أداة الشك، وكان لا يستعيذ بالله إلا المتقون فكان كأنه قيل: افعل ذلك عند أول نزغه لتكون من المتقين، علله بقوله: ﴿إن الذين اتقوا﴾ أي حصل لهم هذا الوصف، وحقق أذاه لهم بأداة التحقيق - بخلاف ما مضى عند إفراد الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ﴿إذا مسهم طائف﴾ أي طواف على أنه مصدر، ويجوز أن يكون تخفيف طيّف كميت وهو بمعنى قراءة طائف على أنه فاعل كميت ومائت، ويجوز أن يكون مصدراً أيضاً، وهو إشارة إلى أن الشيطان دائر حولهم لا يفارقهم، فتارة يؤثر فيهم طوافه فيكون قد مسهم مساً هو أكبر من النزغ لكونه أطاف بهم من جميع الجوانب، وتارة لا يؤثر ﴿من الشيطان﴾ أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة ﴿تذكروا﴾ أي كلفوا أنفسهم ذكر الله بجميع ما ينفعهم في ذلك إقداماً وإحجاماً.
205
ولما كانوا بإسراع التذكر كأنهم لم يمسهم شيء من أمره، أشاره إلى ذلك بالجملة الاسمية مؤكداً لسرعة البصر بإذا الفجائية: ﴿فإذا هم﴾ أي بنور ضمائرهم ﴿مبصرون *﴾ أي ثابت إبصارهم فلا يتابعون الشيطان، فإن المتقي من يشتهي فينتهي، ويبصر فيقصر، وفي ذلك تنبيه على أن من تمادى مع الشيطان عمي لأنه ظالم، والظالم هو من يكون كأنه في الظلام.
206
ولما وصف المتقون الذين هم العلماء ملوحاً إلى نصح وليهم لهم، وعرف من حالهم أنهم أعداء الشيطان، وعرف أن أضدادهم أولياؤه؛ أتبعه وصف الجاهلين وغش أوليائهم لهم والكل غير متقين، فقال: ﴿وإخوانهم﴾ أي وإخوان الجاهلين من شياطين الأنس والجن ﴿يمدونهم﴾ أي يمدون الجاهلين، من المد وهو الإمهال والإطالة على قراءة الجماعة، وهو بمعنى قراءة أهل المدينة بالضم من الإمداد، وقال الواحدي: إن هذا أكثر ما يأتي فيما يحمد كأمددناهم بفاكهة، فهو من استعمال الشيء في ضده نحو ﴿فبشرهم بعذاب﴾، وكأنه يشير إلى أن الشيطان أكثر ما يأتي الإنسان في صورة الناصح الشفيق، والأوجه أن يكون الإخوان الجاهلين لأنهم في مقابلة ﴿الذين اتقوا﴾ ويكون الضمير للشيطان المراد به الجنس، أي وإخوان الشياطين - وهم الجاهلون الذين لا يتقون - يمدهم أولياؤهم من الشياطين ﴿في الغي﴾ وهو ضد
206
الرشاد، وأشار إلى مزيد اعتنائهم بالإغواء ومثابرتهم على الإضلال والإغراء بأداة التراخي فقال: ﴿ثم لا يقصرون*﴾ أي لا يتركون إغواءهم ولو لحظة لجهلهم وشرهم.
ولما تقرر ما شرعه من التعفف وعدم التنطع والتكلف، وكان قد أخبر أن من عمههم تكلفهم السؤال عن الساعة، والشياطين لا يفترون عن إغوائهم، أخبره عن مطلق تكلفهم تعجباً منهم وإشهاداً لتماديهم مع إغواء شياطينهم، وأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يجيبهم به فقال عاطفاً على ﴿يمدونهم﴾ :﴿وإذا لم تأتهم بآية﴾ أي على حسب اقتراحهم ﴿قالوا لولا﴾ أي هلا ﴿اجتبيتها﴾ والجبي: الجمع، والإجباء تركه، والاجتباء: الجد في الجمع، ويلزم منه الاصطفاء والاختبار، فمعنى اجتبيتها اجتلبتها، أي تكلفت من عند نفسك الإتيان بها مختاره.
ولما كان المقام داعياً إلى السؤال في تعليم الجواب، أسعف ذلك بقوله: ﴿قل﴾ أي إذا قالوا ذلك ﴿إنما أتبع﴾ أي أتعمد وأتكلف اتباع ﴿ما يوحي إليّ﴾ أي يأتيني به الملك ﴿من ربي﴾ أي المحسن إليّ بتعليمي ما ينفعني، لا أني آتي بشيء من عند نفسي ولا أقترح على ربي.
ولما حصر حاله في اتباع الوحي كان كأنه قيل: ما هذا الذي
207
يوحي إليك؟ فقال - ويجوز أن يكون تعليلاً لاتباعه لأنه كاف في إثبات نبوته مغنٍ عن الآيات المقترحه قاهر في وجوب اتباعه -: ﴿هذا﴾ مشيراً إلى ما يوحى إليه تنبيهاً على أنه يجب أن يكون مستحضراً في سائر الأذهان، حاضراً بين عيني كل إنسان ﴿بصائر﴾ أي أشياء هي - على حسب ما طلبتم - مجتباة، بل هي خيار الخيار، يكون بها نور القلب فيصير للعيون أيضاً بصر يقربه مما يحث الكتاب على نظره من الآيات المرئيات إلى علوم لم تكن لها قبل ذلك، وهي حجج بينة قاهرة على تصديقي وقبول كل ما جئت به، وسماه بذلك لأنه سبب لبصر العقول بدلائل التوحيد والنبوة والمعاد وجميع الشريعة أصولاً وفروعاً، فهو تسمية للسبب باسم المسبب، وعليّ مدحها بقولة: ﴿من ربكم﴾ أي الذي لم يقطع إحسانه عنكم أصلاً، فهو جدير بأن يتلقي ما أتى منه بكل جميل.
ولما كانت البصائر جمعاً، وكانت العادة جارية بأن مفردات الجمع تكون متفاوتة، أكدها بما يشير إلى أنها خارقة للعادة في أنها على حد سواء في أعلى طبقات الهداية فقال: ﴿وهدى﴾ أي بيان؛ ولما كان البيان قد لا يكون على وجه الإكرام، قال: ﴿ورحمة﴾ أي إكرام.
208
ولما كان من لا ينتفع بالشيء يصح أن ينفي عن الشيء النافع النفع بالنسبة إليه، قال: ﴿لقوم يؤمنون*﴾ أي يوجدون هذه الحقيقة ويستمرون على تجديدها في كل وقت، وأما غيرهم فقد يكون عليهم عذاباً.
ولما عظم الله شأن القرآن، فكان التقدير: فآمنوا به تفلحوا، عطف عليه قوله: ﴿وإذا قرىء القرآن﴾ أي وهو هذا الذي يوحى إليّ، فتأدبوا وتواضعوا لأنه صفة ربكم ﴿فاستمعوا له﴾ أي ألقوا إليه أسماعكم مجتهدين في عدم شاغل يشغلكم عن السمع.
ولما كان بعض الفهماء يسمع وهو يتكلم، أشار إلى أن هذا الكتاب أعلى قدراً من أن يناله من يشتغل عنه بأدنى شغل فقال: ﴿وأنصتوا﴾ أي للتأمل والتدبر لتنجلي قلوبكم فتعلموا حقيقته فتعلموا بما فيه ولا يكون في صدوركم حرج منه؛ ولما كان ظاهر الآية وجوب الإنصات لكل قارىء على كل أحد، رغب فيه تعظيماً لشأنه فقال: ﴿لعلكم ترحمون*﴾ أي لتكونوا على رجاء من أن يكرمكم ربكم ويفعل بكم كل ما يفعله الراحم مع المرحوم.
ولما تقدم الأمر بالذكر عند نزغ الشيطان، ومر إلى أن أمر بالاستماع لأعظم الذكر، وكان التالي ربما بالغ في الجهر ليكثر سامعه، وربما أسر لئلا يوجب على غيره الإصغاء، علمهم أدب القراءة،
209
وأطلق ذلك في كل حال لأنه ربما فهم فاهم الاقتصار على ذكر في حالة النزغ، ورقي الخطاب منهم إلى إمامهم ليكون أدعى لقبولهم مع الإشارة إلى أنه لا يكاد يقوم بهذا الأمر حق قيامه غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ﴿واذكر﴾ أي بكل ذكر من القرآن وغيره - ﴿ربك﴾ أي الذي بلغ الغاية في الإحسان إليك ﴿في نفسك﴾ أي ذكراً يكون راسخاً فيك مظروفاً لك لفهمك لمعانيه وتخلقك بما فيه، وليكن سراً لأن ذلك أقرب إلى الإخلاص وأعون على التفكر، وكونه سراً دال على أشرف الأحوال، وهو المراقبة مع تحقق القرب، فإذا كان كذلك أثمر قوله: ﴿تضرعاً﴾ أي حال كونك ذا تضرع بالظاهر ﴿وخيفة﴾ أي لتدعو المخافة إلى تذلل قبلك لتجمع بين تضرع السر والعلن، وبهذا يكمل ذل العبودية لعز الربوبية.
ولما أمر بالسر، قال مقابلاً له: ﴿ودون الجهر﴾ أي لأنه أدخل في الإخلاص، ومن المعلوم أنه فوق السر، وإلا لم تفد الجملة شيئاً، ولما كان الجهر قد يكون في الأفعال، أكده بقوله: ﴿من القول﴾ أي فإن ذلك يشعر بالتذلل والخضوع من غير صياح كما يناجي الملوك ويستجلب منهم الرغائب، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصحابة وقد جهروا بالدعاء فوق المقدار
«إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً» فإن
210
المقصود حصول الذكر اللساني ليعين الذكر القلبي، والمقصود حاصل بإسماع النفس فإنه يتأثر الخيال فيتقوى الذكر القلبي، ولا تزال الأنوار تتزايد فينعكس تراجع بعضها إلى بعض حتى يزداد الترقي من ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار مدبر النور والظلام.
ولما أمر بالذكر مكيفاً بكيفيته اللائقة به، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمداومة عليه ذاكراً أحسن الأوقات له وأحقها به، لكونها لما فيها من الشغل - أدل على إيثارة لمزيد المحبة والتعظيم فقال: ﴿بالغدو﴾ أي أوقات البكر، ولعله أفرده على جعله مصدر غداً، لأنه ما ثم إلا صلاة الصبح، وجمع ما بعده للعصرين والمغرب فقال: ﴿والآصال﴾ أي أوقات العشاء، وقيل: الغدو وجمع غدوة، فيراد حينئذ مع الصبح الضحى، وآخر كل نهار متصل بأول ليلة اليوم الثاني فسمي آخر اليوم أصيلاً لأنه يتصل بما هو أصل اليوم الثاني، وخص هذين الوقتين وإن كان المراد الدوام بتسمية كل من اليوم والليل باسم جزئه، ليذكر بالغدو الانتشار من الموت، وبالأصيل السكون بالموت والرجوع إلى حال العدم فيستحضر بذلك جلال الله عز وجل فيكون ذلك حاوياً على تعظيمه حق تعظيمه.
ولما كان ربما أوهم هذا الخصوص بهذين الوقتين وإن ظاهراً في
211
الدوام، قال مصرحاً: ﴿ولا تكن من الغافلين*﴾ أي في وقت غيرهما، بل كن ذاكره في كل وقت على كل حال؛ ثم علل الأمر بالمراقبة الدالة على أعظم الخضوع بأنها وظيفة المقربين فقال: ﴿إن الذين﴾ وزاد ترغيباً في ذلك بقوله: ﴿عند ربك﴾ أي المحسن إليك بتقريبك من جنابه وجعلك أكرم أحبابه، وهم الملائكة الكرام أولو العصمة، والقرب دنو مكانة لا مكان ﴿لا يستكبرون﴾ أي لا يوجدون ولا يطلبون الكبر ﴿عن عبادته﴾ أي الخضوع له والتلبس بانحاء التذلل مع مزيد قربهم وغاية طهارتهم وحبهم ﴿ويسبحونه﴾ أي ينزهونه عن كل مالا يليق مع خلوصهم عن دواعي الشهوات والحظوظ.
ولما كان هذا يرجع إلى المعارف، وقدمه دلالة على أنه الأصل في العبادة أعمال القلوب، أردفه بقوله: ﴿وله﴾ أي وحده ﴿يسجدون﴾ أي يخضعون بإثباتهم له كل كمال، وبالمباشرة لمحاسن الأعمال، وقد تضمنت الآية الإخبار عن الملائكة الأبرار بثلاثة أخبار: عدم الاستكبار الذي هو أجل أنواع العبادة إذ هو الحامل على الطاعة كما أن ضده حامل على المعصية، والتسبيح الذي هو التنزيه عن كل مالا يليق، وتخصيصه بالسجود، ولما كانت العبادة ناشئة عن انتفاء الاستكبار، وكانت على قسمين: قلبية وجسمانية، أشار إلى القلبية بالتنزيه، وإلى الجسمانية بالسجود، وهو الحال الذي يكون العبد به عند ربه كالملائكة قرباً وزلفى «
212
أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» نبه عليه أبو حيان على أن العبادتين مرجعهما القلب، وإحداهما مدلول عليها بالقول والأخرى بالفعل، وقد رجع آخر السورة في الأمر باتباع القرآن إلى أولها أحسن رجوع، ولوصف المقربين بعدم الاستكبار والمواظبة على وظائف الخضوع إلى وصف إبليس بعصيان أمر الله في السجود لآدم عليه السلام على طريق الاستكبار أيّ التفات، بل شرع في رد المقطع على المطلع حين أتم قصص الأنبياء، فقوله
﴿ولقد ذرأنا﴾ [الأعراف: ١٧٩] هو قوله ﴿والذي خبث لا يخرج إلا نكداً﴾ [الأعراف: ٥٨] يتضح لك ذلك إذا راجعت ما قدمته في المراد منها ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾ [الأعراف: ١٨٠] هو - ﴿ادعوا ربكم تضرعاً وخفية﴾ و ﴿ممن خلقنا أمة يهدون بالحق﴾ [الأعراف: ١٨٠]- هو ﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة﴾ [الأعراف: ٤٢] ﴿والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها﴾ [الأعراف: ٣٦] ﴿وإن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم﴾ [الأعراف: ١٨٥] هو ﴿إذا جاء أجلهم لا يستأخرون﴾ [الأعراف: ٣٤] و ﴿يسئلونك عن الساعة﴾ [النازعات: ٤٢] هو ﴿كما بدأكم تعودون﴾ [الأعراف: ٢٩] و ﴿لكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾ [الأعراف: ٢٤] و ﴿هو الذي خلقكم من نفس واحدة﴾ [الأعراف: ١٨٩] ﴿لقد خلقناكم ثم صورناكم﴾ [الأعراف: ١١] ﴿إنما أتبع ما يوحى إليّ من ربي﴾ [الأعراف: ٢٠٣]- إلى آخرها بعد التنفير من الأنداد - هو كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه - إلى قوله: ﴿ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون﴾ [ٍالأعراف: ٣] فسبحان من هذا كلامه، وتعالى حجابه وعز مرامه، وعلى من أنزل عليه صلاته وسلامه، وتحيته وإكرامه.
213
وتسمى الجهاد (بسم الله) أي الذي له جميع الحول والقوة والطول (الرحمن) الذي أحاط دائرة العقل بشموس الأدلة من كل منقول (الرحيم) الذي منّ على من شاء من الأتباع؛ ومقصد هذه السورة تبرؤ العباد من الحول والقوة، وحثهم على التسليم لأمر الله المثمر لاجتماع الكلمة المثمر لنصر الدين وإذلال المفسدين المنتج لكل خير، والجامع لذلك كله أنه لما ثبت بالسور الماضية وجوب اتباع أمر الإله والاجتماع عليه لما ثبت من تفرده واقتداره، كان مقصود هذه إيجاب اتباع الداعي إليه بغاية الإذغان والتسليم والرضى والتبرؤ من كل حول وقوة إلى من انعم بذلك ولو شاء سلبه وأدل ما فيها على هذا قصة الأنفال التي اختلفوا في امرها وتنازعوا قسمها فمنعهم الله منها وكف عنهم حظوظ الأنفس وألزمهم الإخبات والتواضع، وأعطاها نبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لأنه الذي هزمهم بما رمى من الخصبات التي خرق الله فيها العادة بأن بثها في أعين جميعهم وبما أرسل من جنوده، فكأن الأمر له وحده، يمنحه من يشاء، ثم لما صار له النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)،
214
رده فيهم منة منه عليهم وإحساناً إليهم، واسمها الجهاد كذلك لأن الكفار دائماً أضعاف المسلمين، وما جاهد قوم من أهل الإسلام قط إلا أكثر منهم، وتجب مصابرة الضعف، فلو كان النظر إلى غير قوته سبحانه ماأطيق ذلك، ولهذه المقاصد سنت قراءتها في الجهاد لتنشيط المؤمنين للجلاد، وإن كثرت من الأعادي الجموع والأعداد، وتوالت إليهم زمر الأمداد من سائر العباد، كما ذكره الحافظ أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي المغربي في فتوح البلاد من كتابه الاكتفاء في سيرة المصطفى وأصحابه الثلاثة الخلفاء، وكذا شيخةالخطيب أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن حبيش في كتابه الذي جمعه في الفتوح، قالا وقعه اليرموك من فتوح الشام عن حديث سيف بن عمر وهذا لفظ ابن سالم: قال: وكان القارئ يوم ذاك المقداد، قالوا: ومن السنة التي سن رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بعد بدر أن نقرأ سورة الجهاد عند اللقاء، وهي سورة الأنفال، ولم يزل الناس بعد على ذلك؛ قالا في وقعه القادسية من فتوح فارس واللفظ لابن سالم أيضاً قالوا: ولما صلى سعد - يعني ابن أبي وقاص - رضي الله عنه الظهر أمر غلاماً كان عمر رضي الله عنه ألزمه إياه وكان من القراء يقرأ سورة الجهاد، وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها فقرأها على الكتبية التي تليه، وقرئت في كل كتيبة، فهشت قلوب الناس وعرفوا السكينة مع قراءتها، قال مصعب بن سعيد: وكانت قراءتها سنة يقرأها رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عند الزخرف ويستقرئها، فعمل
215
الناس بذلك - انتهى.
ومناسبتها للأعراف انه لما ذكر تعالى - كما تقدم - قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم في تلك، ناسب أن يذكر قصة هذا النبي الكريم صلى عليه وسلم مع قومه، وتقدم أنه لما أطنب سبحانه في قصة موسى عليه السلام كان ذلك ربما أوهم تفضيله على الجميع، فأتى بقصة المخاطب بهذا القرىن في سورتين كاملتين، الأنفال في أول أمره وأثانه، وبراءة في ختام أمره وانتهائه، وفرق بين القصتين، وذلك أن قوم مةوسى عليه السلام كانوا في سوء العذاب، وكانوا يعلمون عن اسلافهم أن الله سيذكرهم وينجيهم من أيدي القبط، فلما أتاهم موسى عليه السلام وبين لهم الآيات التي أمره الله بها لم يشكوا في انه الموعود به من رحمة الله لهم، وإتيانه نفع لهم عاجل مع ما فيه من النفع الآجل، فأطبقوا على أتباعه، وكانوا أكثر من ستمائة الف مقاتل، ومع ذلك فقد كانوا يخالفون عليه في كل قليل، ولا يجدون قلوباً يواجهون بها القبط في الإباء عن امتثال أوامرهم، وأما محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فاتى قومه ولا حس عندهم من نبوة ولا علم لهم بها، ولم يكونوا تحت ذل أحد، بل كانوا ملوك العرب، فعندهم أنه جاء يسلبهم عزهم ويصيرهم له تبعاً فخالفوا اشد المخالفة ولم يدعوا كيداً حتى باشروه في رده عما جاء به، ومع ذلك فنصره الله عليهم ولم يزل يؤيده حتى دخل الناس هم وغيرهم في دين الله افواجاً، واظهر دينه على الدين كله كماوعده سبحانه، ثم أيد أمره من بعده ولم يزل اتباعه ظاهرين ولا يزالون إلى يوم الدين،
216
فبين القصتين فرقان لأولى الإبصار والإتقان، وأما مناسبة أولها لآخر تلك فقد تبين أن آخر الأعراف آخر قصة موسى عليه السلام المختتمة بقصة بلعام وأن ما بعد ذلك إنما هو تتمات لما تقدم لا بد منها وتتمات للتتمات حتى كان آخر ذلك مدح من أهلهم لعنديته سبحانه بالإذعان وتمام الخضوع، فلما أضيفوا إلى تلك الحضرة العالية، اقتضى ذلك سؤالاً عن حال الذين عند المخاطب (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فأجيب
217
Icon