قال المهايمي سميت به لاشتمالها على تفاصيل دعوته وأدعيته وهي مكية وآيها ثمان وعشرون.
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة نوحقال المهايمي: سميت به لاشتمالها على تفاصيل دعوته وأدعيته. وهي مكية.
وآيها ثمان وعشرون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة نوح (٧١) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤)إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني عذاب الطوفان قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي يعفو عنها. ومِنْ إما مزيدة، أو تبعيضيه. وهو ما وعدهم العقوبة عليها. وأما ما لم يعدهم العقوبة عليها، فقد تقدم عفوه لهم عنها. أو هو ما سبق، فإن الإسلام يجبّ ما قبله وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو أقصى ما قدره بشرط الإيمان. أي فلا يعاجلكم بعذاب غرق أو نحوه. إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي الذي كتبه على من كذب وتولى إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي من أهل العلم والنظر لأنبتم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة نوح (٧١) : الآيات ٥ الى ١٤]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها
قال الشهاب: وهو أظهر.
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً أي تارات، ترابا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم أجنّة، وهكذا طورا بعد طور. أي ومقتضى علم ذلك شدة الرهبة من بطشه وأخذه، لعظيم قدرته. هذا في أنفسكم. وهكذا يستدل على باهر عظمته، وقاهر قدرته من آياته الكونية. كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة نوح (٧١) : الآيات ١٥ الى ٢٠]
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ
أي يزيل ظلمه الليل، وينير وجه الأرض. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أي أنشأكم منها. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً أي للحساب والجزاء. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً أي تستقرون عليها وتمتهدونها. لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً أي طرقا مختلفة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة نوح (٧١) : الآيات ٢١ الى ٢٥]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (٢٥)
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي أي خالفوا أمري وردّوا عليّ ما دعوتهم إليه من الهدى والرشاد، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً أي رؤساءهم المتبوعين، أهل المال والجاه، المعرضين عن الحق، الذين غرتهم أموالهم وأولادهم، فهلكوا بسببهما، وخسروا سعادة الدارين.
وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً أي متناهيا كبره، فإن (الكبّار) أكبر من (الكبير).
وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قال قتادة: كانت آلهة تعبدها قوم نوح، ثم عبدتها العرب بعد ذلك.
قال: فكان (ود) لكلب بدومة الجندل، وكانت (سواع) لهزيل، وكان (يغوث) لبني غطيف من مراد بالجرف، وكان (يعوق) لهمذان، وكان (نسر) لذي الكلاع من حمير.
وقال (في رواية) : والله ما عدا- أي كلّ منها- خشبة أو طينة أو حجرا.
وقال ابن جرير: كان خبرهم- فيما بلغنا- من محمد بن قيس قال: كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم. فصورهم.
فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم.
وروى البخاري «١» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال. صارت الأوثان التي
أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا. فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، وتنسّخ العلم، عبدت.
تنبيهات:
الأول- قال الرازي: في انتقالها عن قوم نوح إلى العرب. إشكال، لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان، فكيف بقيت تلك الأصنام، وكيف انتقلت إلى العرب. ولا يمكن أن يقال إن نوحا عليه السلام وضعها في السفينة وأمسكها، لأنه عليه السلام إنما جاء لنفيها وكسرها، فكيف يمكن أن يقال إنه وضعها في السفينة سعيا منه في حفظها؟ انتهى كلامه.
ونحن نقول: إن جوابه بديهي، وهو أن انتقالها إلى العرب بواسطة نقل أحوال قوم نوح وأبنائهم وعوائدهم، على ألسنة الرحل والسّمار، لأن سيرة القرن المتقدم في العصر المتأخر، وسنة الخالف أن يؤرخ السالف. وجلي أن النفس أميل إلى الجهل منها إلى العلم، لا سيما إذ زين له المنكر بصفة تميل إليها، فتكون ألصق به. وهكذا كان بعد انقراض العلم وحملته، أن حدث ما حدث من عبادتها، كما أشارت إليه رواية ابن عباس عند البخاري: حتى إذا هلك أولئك، وتنسّخ العلم، عبدت. وعجيب من الرازيّ أن لا يجد مخرجا من سؤاله، وهو على طرف الثّمام.
الثاني- قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : حكى الواقدي قال: كان (ود) على صورة رجل، و (سواع) على صورة امرأة و (يغوث) على صورة أسد، و (يعوق) على صورة فرس، و (نسر) على صورة طائر. وهذا شاذ، والمشهور أنهم كانوا على صورة البشر، وهو مقتضى ما تقدم من الآثار في سبب عبادتها. انتهى.
الثالث- قال ابن القيّم في (إغاثة اللهفان) أول ما كاد به الشيطان عبّاد الأصنام، من جهة العكوف على القبور، وتصاوير أهلها، ليتذكروهم بها، كما قص الله سبحانه قصصهم في كتابه فقال: وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ.. الآية.
ثم قال: وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة، تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم: فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم
وقال «٢» : اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
، وأمر بتسوية القبور، وطمس التماثيل، فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله، إما جهلا، وإما عنادا لأهل التوحيد، ولم يضرهم ذلك شيئا.... إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
وقوله تعالى: وَقَدْ أَضَلُّوا أي: الرؤساء كَثِيراً، أي خلقا كثيرا، أو الأصنام كقوله تعالى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: ٣٦]. وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا أي خذلانا واستدراجا. وإنما دعا ذلك ليأسه من إيمانهم.
قال أبو السعود: ووضع الظاهر موضع ضميرهم، للتسجيل عليهم بالظلم المفرط، وتعليل الدعاء عليهم به مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من أجلها أُغْرِقُوا أي بالطوفان فَأُدْخِلُوا ناراً أي أذيقوا به عذاب النار فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً.
قال الزمخشري: تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله، وأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكم بهم، كأنه قال فلم يجدوا لهم من دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله، كقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الأنبياء: ٤٣].
وقال الرازي: لما ثبت أنه تعالى هو القادر على كل المقدورات، بطل القول بالوسائط.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة نوح (٧١) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨)
وأخرجه في: الجنائز، ٧١- باب بناء المسجد على القبر، حديث رقم ٢٨١، عن عائشة أيضا،
(٢) أخرجه مسلم في صحيحه في: الجنائز، حديث رقم ٩٢ عن فضالة بن عبيد، و ٩٣، عن علي بن أبي طالب.
قال ابن جرير: يعني ب (الديّار) من يدور في الأرض فيذهب ويجيء فيها، وهو (فيعال) من الدوران، ديوارا اجتمعت الياء والواو، فسبقت الياء الواو وهي ساكنة، وأدغمت الواو فيها، وصيرتا ياء مشددة. والعرب تقول: ما بها ديّار ولا عريب ولا دويّ ولا صافر ولا نافخ ضرمة.
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ عن طريق الحق. وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً قال أبو السعود: أي إلا من سيفجر ويكفر. فوصفهم بما يصيرون إليه، وكأنه اعتذار مما عسى يرد عليه، من أن الدعاء بالاستئصال، مع احتمال أن يكون من أخلافهم من يؤمن، منكر، وإنما قاله لاستحكام علمه بما يكون منهم ومن أعقابهم، بعد ما جربهم، واستقرأ أحوالهم قريبا من ألف سنة.
وقال بعضهم: ملّ نوح عليه السلام من دعوة قومه وضجر، واستولى عليه الغضب، ودعا ربه لتدمير قومه وقهرهم، وحكم بظاهر الحال أن المحجوب الذي غلب عليه الكفر لا يلد إلا مثله، فإن النطفة التي تنشأ من النفس الخبيثة المحجوبة، وتتربى بهيئاتها المظلمة، لا تقبل إلا نفسا مثلها، كالبذر الذي لا ينبت إلا من صنفه وسنخه. انتهى.
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ قال ابن جرير: أي رب اعف عني، واستر عليّ ذنوبي وعلى والديّ، وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً قال ابن جرير: أي ولمن دخل مسجدي ومصلاي، مصليا مؤمنا بواجب فرضك عليه. وقيل: بيتي منزلي. وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي هلاكا وخسارا.