ﰡ
حتمية عذاب الكفار وجزاء بعضهم في الدنيا
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ١ الى ١٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤)هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)
الإعراب:
وَالْفَجْرِ، وَلَيالٍ عَشْرٍ... هذا قسم، وجوابه: إما قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أو محذوف مقدر تقديره: لتبعثن. والأولى أن يكون جواب القسم محذوفا وهو ليعذبن، كما ذكر في الكشاف (٣/ ٣٣٥) أي وربّ هذه الأشياء ليعذبن الكفار، وقد دلّ عليه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ.. إلى قوله: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ.
كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ إِرَمَ: مجرور على البدل، أو عطف البيان، ولا يجوز أن يكون وصفا أو نعتا لأنه ليس مشتقا. وإِرَمَ: ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، ودليل التأنيث وصفها بقوله: ذاتِ الْعِمادِ.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ استفهام تقريري، لتفخيم شأن الأمور المقسم بها.
الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ بينهما طباق.
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ استعارة، شبّه العذاب الشديد النازل بهم بالسوط المؤلم، واستعمل الصبّ للإنزال.
وَلَيالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ سجع رصين غير متكلف، وكذا قوله:
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ.
المفردات اللغوية:
وَالْفَجْرِ قسم بالوقت الذي ينبلج فيه نور الصبح كل يوم لتبديد حجب الظلام، وظهور النور وما يتبعه من الاستعداد والذهاب لقضاء الحوائج وتحقيق المنافع وطلب الرزق، وهو مثل القسم في قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير ٨١/ ١٨] وقوله: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [المدثر ٧٤/ ٣٤].
وَلَيالٍ عَشْرٍ عشر ذي الحجة، وتنكيرها للتعظيم. وَالشَّفْعِ الزوج. وَالْوَتْرِ الفرد من تلك الليالي، والمراد: والأشياء كلها شفعها ووترها، وكلمة «الوتر» : بفتح الواو وكسرها. يَسْرِ أي يسري بمعنى إذا يمضي، كقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر ٧٤/ ٣٣].
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي هل في ذلك القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لكل ذي عقل؟ كأنه يقول: إن هذا لقسم عظيم عند ذوي العقول، فمن كان عاقلا أدرك أن ما أقسم اللَّه به من هذه الأشياء فيها دلالة على توحيده وقدرته. وجواب القسم محذوف، أي لتعذبن أيها الكفار.
والحجر: العقل، سمي بذلك لأنه يمنع من الوقوع فيما لا ينبغي.
أَلَمْ تَرَ ألم تعلم يا محمد. بِعادٍ هي قبيلة عربية بائدة، من أولاد عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، قوم هود عليه السلام، سموا باسم أبيهم كما سمي بنو هاشم باسمه، وتلقب عاد بإرم أيضا.
إِرَمَ عطف بيان لعاد على تقدير مضاف، أي سبط إرم، وإِرَمَ: هي عاد الأولى. ذاتِ الْعِمادِ ذات البناء الرفيع، سكان الخيام العالية، وهذا كناية عن الغنى والبسطة، وكانت منازلهم بالرمال في الأحقاف بلاد الرمال بين عمان وحضرموت جنوب جزيرة العرب. لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ في بطشهم وقوتهم.
طَغَوْا تجبروا في البلاد وتجاوزوا الحد في الظلم، صفة للمذكورين: عاد وثمود وفرعون.
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ بالقتل والتعذيب والمنكرات. فَصَبَّ أفرغ وألقى وأنزل بهم العقوبة متتابعة. سَوْطَ عَذابٍ أي نوع عذاب ينزل بهم، وأصل السوط: الجلد الذي يضفر ليضرب به. لَبِالْمِرْصادِ أي يرصد أعمال العباد فلا يفوته شيء منها، ليجازيهم عليها. وأصل المرصاد:
مكان الرصّد أو الراصد، والرصّد: من يرصد الأمور، أي يترقبها ليعرف ما فيها من خير أو ضرر، ويطلق أيضا على الحارس، ويطلق على الواحد والجمع والمؤنث، والترصد: الترقب.
التفسير والبيان:
وَالْفَجْرِ، وَلَيالٍ عَشْرٍ أي قسما من اللَّه بالفجر، أي الصبح الذي يظهر فيه الضوء، وينبلج النور لأنه وقت انفجار الظلمة عن الليل، كل يوم، وما يترتب عليه من اليقظة والاستعداد لجلب المنافع وتحقيق المصالح بالانتشار في الأرض وطلب الرزق من الإنسان والحيوان، كما في قوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير ٨١/ ١٨]، وقوله: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [المدثر ٧٤/ ٣٤].
وقيل: المراد: القسم بصلاة الفجر.
وقسما بالليالي العشر من ذي الحجة ذات الفضيلة
ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعا: «ما من أيام العمل الصالح أحبّ إلى اللَّه فيهنّ من هذه الأيام- يعني عشر ذي الحجة- قالوا: ولا الجهاد في سبيل اللَّه؟ قال:
ولا الجهاد في سبيل اللَّه، إلا رجلا خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء».
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ أي والزوج والفرد من كل الأشياء، ومنها هذه الليالي، أي بما حوته من زوج وفرد.
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ وقسما بالليل إذا جاء وأقبل ثم ذهب وأدبر، كقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر ٧٤/ ٣٣]، وقوله: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، [التكوير ٨١/ ١٧] أي أقبل ظلامه، أو أدبر، فكما في إقبال الصبح من عظيم النفع، في الظلام نفع أيضا، حيث تهدأ النفوس، وتستريح من عناء العمل، ثم في ذهابه نفع أيضا حيث يستعان بالراحة التي ارتاحها الجسم للعمل في النهار، ومجابهة المتاعب والأعمال.
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي أليس في القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لكل ذي عقل أو لبّ؟ والحجر: العقل، فمن كان ذا عقل ولبّ، علم أن ما أقسم اللَّه به من هذه الأشياء حقيق بأن يقسم به.
ثم ذكر اللَّه تعالى بعض قصص الأمم السالفة للمثل والعبرة، فقال:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ أي ألم تعلم أيها الإنسان المخاطب، كيف أهلك اللَّه قبيلة عاد الأولى، وهم ولد عاد بن حوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، وتلقب أيضا بإرم، فإرم: اسم آخر لعاد الأولى، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النجم ٥٣/ ٥٠]، ويقال لمن بعدهم عاد الأخرى. ومساكنهم الأحقاف بلاد الرمال بين عمان وحضرموت، ونبيهم هود عليه السلام.
وقد كانوا أهل عمد وخيام عالية في الربيع، ثم يرجعون إلى منازلهم إذا هاج النبت، وكانوا طوال القامة، ذوي أجسام قوية شديدة، وأشد الناس في زمانهم خلقة، وأقواهم بطشا، ولم يوجد في البلاد كلها مدينة محكمة البنيان ذات
وجواب القسم المبدوء به في أول السورة محذوف تقديره: لتعذبن يا كفار أهل مكة وأمثالكم، وقد دلّ على الجواب هذه الآية: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ؟ وما بعدها.
وضمير لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها على الصواب عائد على القبيلة، أي لم يخلق مثل عاد تلك القبيلة في البلاد، يعني في زمانهم، وليس على العماد لارتفاعها كما قال ابن زيد لأنه لو كان المراد ذلك لقال: التي لم يعمل مثلها في البلاد، وإنما قال: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ «١».
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ أي وقبيلة ثمود قوم صالح عليه السلام الذين قطعوا الصخر ونحتوه، وبنوا بالأحجار بيوتا يسكنون فيها، وقصورا وأبنية عظيمة، في الحجر ما بين الشام والحجاز، أو وادي القرى، كما جاء في قوله تعالى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ [الشعراء ٢٦/ ١٤٩]، وقوله سبحانه: وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ [الحجر ١٥/ ٨٢].
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ أي وحاكم مصر في عهد موسى عليه السلام، الذي هو صاحب المباني العظيمة، ومنها الأهرام التي بناها الفراعنة لتكون قبورا
والتعبير بالأوتاد عن الأبنية يشير إلى هياكلهم العظيمة التي لها شكل الأوتاد المقلوبة، فهي عريضة القاعدة، ثم تصير رفيعة دقيقة في رأسها.
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ أي هؤلاء الذين سبق ذكرهم وهم عاد وثمود وفرعون الذين تجاوزوا في بلادهم الحدّ في الظلم والجور، وتمردوا وعتوا، واغتروا بقوتهم، وأكثروا الفساد فيها بالكفر والمعاصي وظلم العباد.
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ أي فأنزل اللَّه تعالى على تلك الطوائف نوعا من العذاب الشديد، مشبها ما أوقعه بهم بالسوط المؤلم الذي يستعمل في تطبيق العقوبات. وقد ذكر نوع عقوباتهم تفصيلا في سورة الحاقة [الآيات: ٥- ١٠].
ثم ذكر اللَّه تعالى سبب العذاب وهو الجريمة، فقال:
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي إن اللَّه يرصد عمل كل إنسان، فلا يفوته شيء، حتى يجازيه عليه بالخير خيرا، وبالشر شرّا، ولا يهمل منه شيئا قلّ أو كثر، صغر أو كبر. والمرصاد: المكان الذي يرقب فيه الرصد.
والغرض من تكرار هذه القصص في مواضع مختلفة من القرآن الكريم هو التذكير بها، والعظة والعبرة منها، إما بالاستدلال على قدرته تعالى، وإما ببيان قهره العباد، وإما بإنذارهم وتخويفهم، ليدركوا أن ما جرى على شخص أو قوم، يجري على النظير والمثيل.
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- حتمية عذاب الكفار، فقد أقسم اللَّه تعالى بالفجر أي الصبح أو بصلاة الفجر، وبالليالي العشر من ذي الحجة، وبالشفع والوتر أي الزوج والفرد من الأشياء كلها لأن الموجودات لا تخلو من هذين القسمين، فتكون كقوله:
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ [الحاقة ٦٩/ ٣٨- ٣٩]، وبالليل إذا يسري أي يمضي كقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر ٧٤/ ٣٣] والمراد عموم الليل كله، أقسم اللَّه بهذه الأشياء على أنه ليعذبن الكفار.
وإقسام اللَّه تعالى بهذه الأمور ينبئ عن شرفها، وأن فيها فوائد دينية ودنيوية، مثل كونها دلائل باهرة على التوحيد، أو توجب الحثّ على الشكر «١». قال القرطبي: قد يقسم اللَّه تعالى بأسمائه وصفاته لعلمه، ويقسم بأفعاله لقدرته كما قال تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الليل ٩٢/ ٣] ويقسم بمفعولاته، لعجائب صنعه كما قال: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشمس ٩١/ ١]، وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس ٩١/ ٥]، وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ [الطارق ٨٦/ ١] «٢».
٢- أكّد اللَّه تعالى ما أقسم به وأقسم عليه بقوله: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي بل في ذلك مقنع لذي لبّ وعقل، فالمراد بالاستفهام تقرير أن هذه المذكورات لشرفها وعظم شأنها يحق أن يؤكد بمثلها المقسم عليه، وهو تعذيب الكفار، كمن ذكر حجة باهرة، ثم قال: هل فيما ذكرته حجة؟ يريد أنه
(٢) تفسير القرطبي: ٢٠/ ٤١
٣- ذكر اللَّه تعالى للعبرة، ولتسلية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قصة ثلاث فرق على سبيل الإجمال لأنهم أعلام في القوة والشدة والتجبر، وهم عاد الأولى أو إرم ذات الأبنية المرفوعة على العمد، ومعنى إرم: القديمة، والتي لم يخلق مثل تلك القبيلة في زمنها في البلاد، قوة وشدة، وعظم أجساد، وطول قامة.
وثمود قوم صالح عليه السلام الذين قطعوا الصخر ونحتوه، وبنوا به البيوت العظيمة بوادي القرى، قال المفسرون: أول من نحت الجبال والصور والرخام:
ثمود، فبنوا من المدائن ألفا وسبع مائة مدينة كلها من الحجارة، ومن الدور والمنازل ألفي ألف وسبع مائة ألف، كلها من الحجارة.
وفرعون حاكم مصر ذو الأوتاد أي صاحب الأبنية الشاهقة، أو الجنود الكثيرة أو الأوتاد الأربعة لتعذيب الناس.
٤- هؤلاء الطوائف الثلاث: عاد وثمود وفرعون طغوا في البلاد، أي تجاوزوا الحدّ في الظلم والعدوان، وتمرّدوا وعتوا، فأكثروا فيها الفساد، أي الجور والأذى، فعاقبهم اللَّه عقابا شديدا، وصبّ عليهم سوط عذاب، أي أفرغ عليهم وألقى نوعا من العذاب الشديد عليهم لأن الجزاء من جنس العمل.
وفيه إشارة إلى أن عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة كالسوط بالنسبة إلى القتل مثلا، ثم أشار إلى عذاب الآخرة أو إليه مع عذاب الدنيا بقوله:
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي يمهل ولكنه لا يهمل، ويرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه به.
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ١٥ الى ٢٠]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠)
الإعراب:
فَأَمَّا الْإِنْسانُ.. فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ الْإِنْسانُ: مبتدأ، وجملة فَيَقُولُ..
خبر المبتدأ، وأتى بالفاء لأن في «أما» معنى الشرط بالإنعام. والظرف المتوسط: إِذا مَا ابْتَلاهُ... في تقدير التأخير، كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل: ربي أكرمني وقت ابتلائه.
وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ إما أن يكون طَعامِ بمعنى إطعام، فيكون اسما أقيم مقام المصدر، مثل: سلمت عليه سلاما، أي تسليما، وكلمته كلاما، أي تكليما، وإقامة الاسم مقام المصدر كثيرة في كلام العرب، وإما أن يكون التقدير فيه: ولا تحضون على إطعام طعام المسكين، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
البلاغة:
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ... وقوله: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ.. بينهما مقابلة، قابل بين أَكْرَمَنِ وأَهانَنِ، وبين توسعة الرزق وتضييقه.
كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ فيه التفات من ضمير الغائب إلى الخطاب زيادة في التوبيخ والعتاب. والأصل أن يقال: كلا بل لا يكرمون.
المفردات اللغوية:
فَأَمَّا الْإِنْسانُ متصل بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ قال البيضاوي: كأنه قيل:
إنه لبالمرصاد في الآخرة، فلا يريد إلا السعي لها، فأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها. إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ اختبره بالغنى واليسر. فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ بالجاه والمال. فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ فضّلني بما أعطاني، وصيّرني مكرما، يتمتع بالنعيم.
ولذلك ذمّه على قوليه السابقين وردعه بقوله: كَلَّا كلمة للردع والزجر، أي ليس الإكرام بالغنى، والإهانة بالفقر، وإنما هو بالطاعة والمعصية، والكفار لا يتنبهون لذلك.
لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ لا يحسنون إليهم مع غناهم. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ لا يحثون أنفسهم أو غيرهم على إطعام المسكين، وقراءة حفص: تُكْرِمُونَ، وتَحَاضُّونَ.
لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ لا يحسنون إليهم مع غناهم. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ لا يحثون أنفسهم أو غيرهم على إطعام المسكين، وقراءة حفص: تُكْرِمُونَ، وتَحَاضُّونَ. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ الميراث. أَكْلًا لَمًّا شديدا ذا لم، أي جمع بين الحلال والحرام، فإنهم لا يورثون النساء والصبيان، ويأكلون أنصباءهم. وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا حبّا كثيرا.
المناسبة:
بعد أن بيّن اللَّه تعالى أنه بمرصد من أعمال بني آدم، يراقبهم ويجازيهم، عقّبه بتوبيخ الإنسان على قلة اهتمامه بأمر الآخرة، وفرط تماديه في إصلاح المعاش الدنيوي، كأنه قيل: إن اللَّه يؤثر الآخرة ويرغّب فيها، وأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها وشهواتها، فإذا صار في راحة قال: ربي أكرمني ورفعني، وإن فقد الراحة قال: ربي أهانني وأذلني.
وبعد بيان خطأ الإنسان في تصوره واعتقاده هذا، زجر الناس عن تقصيرهم وارتكابهم المنكرات، ونبّه لما هو شرّ من ذلك، وهو أنه يكرمهم بكثرة المال، ثم لا يؤدون حق اللَّه فيه، فلا يحسنون إلى اليتامى والمساكين، ويتناهبون الميراث دون إعطاء النساء والصبيان حقوقهم، ويحصرون على جمع المال حرصا شديدا.
التفسير والبيان:
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ، فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ، فَيَقُولُ: رَبِّي أَكْرَمَنِ أي إن الإنسان مخطئ في تفكيره أنه إذا امتحنه ربّه واختبره بالنعم، فأكرمه
والمراد بالإنسان الجنس، وليس الكافر فقط، ويوجد هذا في كثير من أهل الإسلام «١».
والمقصود من الآية أن اللَّه ينكر على الإنسان ويوبخه في اعتقاده أنه إذا وسع اللَّه عليه في الرزق ليختبره فيه، كان ذلك إكراما من اللَّه له، وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٥٥- ٥٦].
ونظيره أيضا قوله تعالى في صفة الكفار: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم ٣٠/ ٧]، وقوله أيضا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ [الحج ٢٢/ ١٠].
والخلاصة: أن الغنى والثروة أو الجاه والسلطة ليس دليلا على رضا اللَّه عن العبد لأن ذلك لا قيمة له عند اللَّه تعالى.
ثم ذكر الجانب الآخر وهو أن الفقر والتقتير ليس دليلا على سخط اللَّه على العبد، فقال: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ، فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، فَيَقُولُ: رَبِّي أَهانَنِ أي وأما إذا ما اختبره وامتحنه بالفقر والتقتير، وضيّق عليه رزقه ولم يوسعه له، فيقول: ربي أهانني وأذلني. وهذا خطأ أيضا فلا يصح أن يعتقد أن ذلك إهانة له وإذلال لنفسه.
وضيق الرزق ليس دليلا على عدم الاستحقاق، بدليل ما نراه من فقر بعض الأنبياء وأكابر المؤمنين والصلحاء والعلماء.
والكرامة عند اللَّه للطائع الموفق لعمل الآخرة، والإهانة والخذلان عند اللَّه للعاصي غير الموفق للطاعة وعمل أهل الجنة، وليست سعة الدنيا كرامة ورفعة، ولا ضيقها إهانة ومذلة، وإنما الغنى اختبار للغني هل يشكر، والفقر اختبار له هل يصبر «١».
ونظرا للخطأ في الحالين ردع اللَّه الإنسان بقوله:
كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي ردع وزجر للإنسان القائل في الحالتين السابقتين ما قال، فليس الأمر كما زعم، فإن اللَّه تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة اللَّه في كل من الحالين، فإذا كان غنيا، شكر اللَّه على نعمته، وإذا كان فقيرا صبر.
وبعد أن ذمّهم على قبح الأقوال، ذمّهم على قبح الأفعال الذي هو شرّ من سابقه، وهو أنه يكرمهم بكثرة المال، ثم لا يؤدون حق اللَّه فيه، فأنتم أيها الأغنياء الموسرون لا تكرمون اليتيم ولا تحسنون إليه، ولا تحضون أنفسكم أو غيركم على إطعام المساكين، ولا يحث بعضكم بعضا على صلة الفقراء، ولا تأمرون بعضكم بعضا بالإحسان إلى المحتاجين.
وفي قوله: بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ أمر بإكرام الأيتام، كما
جاء في
وروى أبو داود عن سهل بن سعيد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة»
وقرن بين أصبعيه: الوسطى والتي تلي الإبهام. قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر أمية بن خلف، وكان يدفعه عن حقه، فنزلت.
فترك إكرام اليتيم: ترك برّه، ودفعه عن حقه الثابت له في الميراث، وأخذ ماله منه.
وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي وإنكم تأكلون الميراث أكلا شديدا، وجمعا من أي جهة حصل، من حلال أو حرام.
وتحبون المال حبّا كثيرا فاحشا، والجمّ: الكثير، قال بعضهم:
إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا | وأيّ عبد لك لا ألّما |
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- يخطئ الإنسان في فهم حال الغنى والفقر، فليس الغنى وبسط الرزق دليلا على الإكرام والتفضيل والاصطفاء، كما أن الفقر ليس دليلا على الإهانة والإذلال.
فالكرامة عند اللَّه والهوان ليس بكثرة الحظ في الدنيا وقلته، وإنما الكرامة
واللَّه لا يريد من عبده إلا الطاعة والسعي للعاقبة الآخرة، وأما الإنسان فلا يريد ذلك، ولا يهمه إلا الدنيا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها.
٢- أكّد تعالى المعنى السابق بكلمة كَلَّا للرد على سوء فهم الإنسان، وزجرا وردعا له عن اعتقاده وتصوره السابق، فليس الأمر كما يظنّ، بأن الغنى لفضله، والفقر لهوانه، وإنما الغنى والفقر من تقدير اللَّه وقضائه، وعلى العبد أن يحمد اللَّه عزّ وجلّ على الفقر والغنى.
جاء في الحديث: «يقول اللَّه عزّ وجلّ:
كلا، إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنت بقلتها، إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأهين من أهنت من أهنت بمعصيتي» «١».
٣- أخبر اللَّه تعالى عما كان الناس يصنعونه من ترك برّ اليتيم ومنعه من الميراث، وأكل ماله إسرافا وبدارا أن يكبروا، وأنهم لا يأمرون أهليهم بإطعام مسكين يجيئهم، وأكلهم ميراث اليتامى والنساء والصبيان أكلا شديدا وجمعا شاملا، ومحبتهم المال حبّا جمّا، كثيرا، فقد كان أهل الشرك لا يورّثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم مع ميراثهم، وتراثهم مع تراثهم، وكانوا يجمعون المال دون تفرقة بين الحلال والحرام.
وهذا ما يشيع الآن كثيرا في العالم، بل بين المسلمين أنفسهم.
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ٢١ الى ٣٠]
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥)
وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)
الإعراب:
إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا جواب إِذا قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ.
ودَكًّا دَكًّا: منصوب على المصدر المؤكد، وكرر للتأكيد.
صَفًّا صَفًّا منصوب على المصدر، في موضع الحال، أي مصطفين أو ذوي صفوف كثيرة.
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ بِجَهَنَّمَ: في موضع رفع نائب فاعل.
ويَوْمَئِذٍ الأول: ظرف متعلق ب جِيءَ، ويَوْمَئِذٍ الثاني: إما بدل من يَوْمَئِذٍ الأول، أو يتعلق ب يَتَذَكَّرُ.
لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ قرئ يُعَذِّبُ ويُوثِقُ بكسر الذال وفتحها، وبكسر الثاء وفتحها، فمن قرأ بكسر الذال والثاء، كان تقديره: لا يعذّب أحد أحدا عذابا مثل عذابه، ولا يوثق أحد أحدا وثاقا مثل وثاقه، والهاء تعود على اللَّه تعالى، وإن لم يذكر، لدلالة الحال عليه. وعَذابَهُ ووَثاقَهُ: منصوبان على المصدر، والمصدر مضاف إلى الفاعل، وأَحَدٌ فاعل مرفوع.
ومن قرأ بفتحهما كان تقديره: لا يعذّب أحد مثل عذابه، ولا يوثق أحد مثل وثاقه، والهاء تعود على الإنسان، لتقدم ذكره، والمصدر مضاف إلى المفعول، وأَحَدٌ: نائب فاعل.
راضِيَةً مَرْضِيَّةً حالان.
يَتَذَكَّرُ والذِّكْرى بينهما جناس اشتقاق، وكذا بين لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ وبين وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ.
فَادْخُلِي فِي عِبادِي الإضافة إلى اللَّه للتشريف.
المفردات اللغوية:
كَلَّا ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم: وهو التقصير في أداء الحقوق. إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا زلزلت حتى يتهدم كل بناء عليها وينعدم، دكّا بعد دكّ حتى صارت الجبال والتلال هباء منبثا، وأرضا مستوية. والدّكّ: الهدم والتسوية للشيء المرتفع، قال المبرد: الدكّ:
حطّ المرتفع بالبسط، واندك سنام البعير: إذا انفرش في ظهره، ومنه الدكان لاستوائه في الانفراش. وجواب إِذا هو قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ....
وَجاءَ رَبُّكَ أمر ربّك وظهرت آيات قدرته وآثار قهره. وَالْمَلَكُ الملائكة.
صَفًّا صَفًّا مصطفين أو ذوي صفوف كثيرة بحسب منازلهم ومراتبهم. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ كشفت للناظرين بعد الغيبة، مثل قوله تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [النازعات ٧٩/ ٣٦]. يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ يتذكر معاصيه، أو يتعظ لأنه يعلم قبحها، فيندم عليها. وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي ومن أين له فائدة التذكر، وقد فات الأوان؟ وهو استفهام بمعنى النفي، أي لا ينفعه تذكره ذلك، واستدل به على عدم قبول التوبة في الآخرة. يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي يقول مع ذكره: يا ليتني قدمت لحياتي هذه الخير والإيمان، أو وقت حياتي في الدنيا، ويا: للتنبيه.
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ أي لا يتولى أحد عذاب اللَّه ووثاقه يوم القيامة سواه، إذ الأمر كله له، ولا يعذّب أحد مثل تعذيبه، ولا يوثق مثل إيثاقه، والوثاق: الشدّ والربط بالسلاسل والأغلال. وضمير عَذابَهُ ووَثاقَهُ للكافر.
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ أي يقال لها عند الموت ما يأتي. الْمُطْمَئِنَّةُ المستقرة الثابتة المتيقنة بالحق، الآمنة وهي المؤمنة التي اطمأنت بذكر اللَّه. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ ارجعي إلى ثوابه وتكريمه، وأمره وإرادته. راضِيَةً بالثواب. مَرْضِيَّةً عند اللَّه بعملك، أي جامعة بين الوصفين. فَادْخُلِي فِي عِبادِي في جملة أو في زمرة عبادي الصالحين المقرّبين المكرّمين.
وَادْخُلِي جَنَّتِي معهم.
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ..: أخرج ابن أبي حاتم عن بريدة في قوله:
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ قال: نزلت في حمزة.
وأخرج أيضا عن ابن عباس: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من يشتري بئر رومة، يستعذب بها، غفر اللَّه له، فاشتراها عثمان، فقال: هل لك أن تجعلها سقاية للناس؟ قال: نعم، فأنزل اللَّه في عثمان: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ....
المناسبة:
بعد أن أنكر اللَّه على الناس تصورهم عن الغنى والفقر، وأفعالهم المنكرة، بالحرص على الدنيا، وإيثارها على الآخرة، وترك المواساة منها، وجمعها دون تفرقة بين حلال أو حرام، ردعهم عن ذلك، وأخبر عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة، وأبان أنهم يندمون حين لا ينفع الندم: يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي فإن الآخرة دار جزاء لا دار عمل، ثم ذكر تحسر المقصر في طاعة اللَّه يوم القيامة: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى.
وبعد بيان حال هذا الإنسان الحريص على الدنيا، ذكر اللَّه تعالى حال المؤمن المخلص المترفع عنها، المتسامي بطبعه إلى مراتب الكمال، فيكون جزاؤه دخول الجنان في زمرة الصالحين المقربين من عباد اللَّه تعالى.
التفسير والبيان:
كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي زجرا وردعا لأقوالكم وأفعالكم هذه، ولا ينبغي أن يكون هكذا عملكم في الحرص على الدنيا، وترك المواساة
وسيأتي يوم القيامة وما يقع فيه من الأهوال الرهيبة، وتظهر فيه أوصاف ثلاثة، فتدكّ الأرض دكّا بعد دكّ، أي تكسر وتدق، وتتزلزل وتتحرك تحركا بعد تحريك، وتهدّ جبالها حتى تستوي مع سطح الأرض، فتسوّى الأرض والجبال، ويقوم الناس من قبورهم. وقوله: دَكًّا دَكًّا يدل على تكرار الدكّ حتى صارت الجبال هباء منبثا.
وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا أي وجاء اللَّه سبحانه وتعالى لفصل القضاء بين عباده، وتصدر أوامره وأحكامه بالجزاء والحساب، وتظهر آيات قدرته وآثار قهره، ويقف الملائكة مصطفين صفوفا للحراسة والحفظ والهيبة.
وهذه هي الصفة الثانية من صفات ذلك اليوم.
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ أي وكشفت للناظرين بعد غيبتها وتحجبها عنهم، كما قال تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [الشعراء ٢٦/ ٩١]، وقال أيضا: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى [النازعات ٧٩/ ٣٦]. وهذه هي الصفة الثالثة من صفات ذلك اليوم.
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى، يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي في ذلك اليوم يندم الإنسان على ما قدّم في الدنيا من الكفر والمعاصي، وعلى ما عمل من أعمال السوء، وكيف تنفعه الذكرى؟ أي لا تنفعه، فقد فات الأوان، وإنما كانت تنفعه الذكرى لو تذكر الحق قبل حضور الموت.
ويقول مبينا تذكره: يا ليتني قدمت الخير والعمل الصالح لحياتي الأخروية الدائمة الباقية، فهي الحياة الأخيرة لأهل النار ولأهل الجنة جميعا. ويصح جعل اللام بمعنى الوقت، أي وقت حياتي في الدنيا.
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ هذا جواب الشرط السابق في إِذا دُكَّتِ.. أي فيومئذ لا يتولى أحد تعذيب العصاة وحسابهم وجزاءهم ووثاقهم، ولا يعذب أحد مثل عذاب اللَّه، ولا يوثق أحد الكافر بالسلاسل والأغلال كوثاق اللَّه.
وفي هذا ترغيب بالعمل الصالح والإيمان، وترهيب من الكفر والعصيان.
ثم ذكر حال الإنسان المترفع عن أطماعه وملذاته وشهواته في الدنيا وبشارة الأبرار، فقال: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي أي يقول اللَّه للمؤمن، بذاته أو على لسان ملك: يا أيتها النفس الموقنة بالإيمان والحق وتوحيد اللَّه، التي لا يخالجها شك في صدق عقيدتها، وقد رضيت بقضاء اللَّه وقدره، ووقفت عند حدود الشرع، فتجيء يوم القيامة مطمئنة بذكر اللَّه، ثابتة لا تتزعزع، آمنة مؤمنة غير خائفة، ارجعي إلى ثواب ربك الذي أعطاك. وإلى محل كرامته الذي منحك إياه، راضية بهذا الثواب عما عملت في الدنيا، وبما حكم اللَّه، ومرضية عند اللَّه، كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرَضُوا عَنْهُ [البيّنة ٩٨/ ٨] وهذه هي صفة أرباب النفوس الكاملة.
فادخلي في زمرة عبادي الصالحين، وكوني في جملتهم، وادخلي معهم جنتي، فتلك هي الكرامة لا كرامة سواها، جعلنا اللَّه من أهلها، والظاهر العموم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت به الآية.
دلت الآيات على ما يأتي:
١- زجر اللَّه الناس وردعهم عن انكبابهم على الدنيا، وجمعهم لها، فإن من يفعل ذلك يندم يوم تدكّ الأرض ولا ينفع الندم.
٢- وصف اللَّه يوم القيامة بصفات ثلاث هي:
الأولى- دكّ الأرض، أي زلزلتها وتحريكها بشدة تحريكا بعد تحريك، ومرة بعد مرة.
الثانية- مجيء أمر اللَّه وقضائه وآياته العظيمة واصطفاف الملائكة صفوفا، كقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة ٢/ ٢١٠].
الثالثة- بروز جهنم وانكشافها وظهورها للناس بعد احتجابها عنهم.
٣- في يوم القيامة يتعظ الكافر ويتوب، كما يتعظ من حرصه على الدنيا دون الآخرة، ولكن من أين له الاتعاظ والتوبة والمنفعة، وقد فرط فيها في الدنيا. ويقول نادما متأسفا: يا ليتني قدمت في الدنيا عملا صالحا لحياتي الأخيرة التي لا موت فيها.
٤- لا يعذّب أحد كعذاب اللَّه، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال أحد كوثاق اللَّه، وهذه كناية ترجع إلى اللَّه تعالى، في حق المجرمين من الخلائق، تعني أن السلطان المطلق في الحساب والجزاء للَّه، ولا يخرج أحد عن قبضة اللَّه وسلطانه.
٥- أما النفس الزكية المطمئنة بالإيمان والعمل الصالح وبوعد اللَّه دون خوف ولا فزع، فيقال لها: ارجعي إلى رضوان ربّك وجنته، راضية بما أعطاك اللَّه من النعم، مرضية عند اللَّه بما قدمت من عمل. وهذا الخطاب والنداء يكون عند الموت أو الاحتضار، كما ذكر المفسرون، وتتمة المقالة: فادخلي في زمرة عباد اللَّه الصالحين، وادخلي جنتي دار الأبرار المقربين.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البلدمكيّة، وهي عشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة البلد لأن اللَّه تعالى أقسم في فاتحتها بالبلد الحرام (مكة) الذي شرفه اللَّه بالبيت العتيق، وجعله قبلة المسلمين، تعظيما لشأنه.
مناسبتها لما قبلها:
ترتبط السورة بما قبلها من وجهين:
١- ذم اللَّه تعالى في السورة السابقة (الفجر) من أحب المال، وأكل التراث، ولم يحض على طعام المسكين، وذكر في هذه السورة الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة (إعتاق العبيد) والإطعام في يوم المسغبة (المجاعة).
٢- ختم اللَّه تعالى السورة المتقدمة ببيان حال النفس المطمئنة في الآخرة، وذكر هنا طريق الاطمئنان، وحذّر من ضده وهو الكفر بآيات اللَّه ومخالفة أوامر الرحمن.
ما اشتملت عليه السورة:
محور هذه السورة المكية الحديث عن سعادة الإنسان وشقاوته، ومنهجه في اختيار أحد الطريقين. بدأت بالقسم بالبلد الحرام- مكة أم القرى، التي يأمن
[الآيات ١- ٤].
وأردفت ذلك بالإخبار عن خلق ذميم في الإنسان وهو اغتراره بقوته، مما حدا بكفار مكة الذين اغتروا بقوتهم أن يعاندوا الحق، ويكذبوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وينفقوا أموالهم في المفاسد والشرور، وهو شأن المفتونين المغرورين بمالهم وغناهم: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ..
[الآيات ٥- ٧].
ثم ذكّرت الإنسان بما أنعم اللَّه عليه من العينين واللسان والشفتين وبيان طريق الخير والشر له، واختياره أحد السبيلين بعقله وإرادته: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ.. [الآيات ٨- ١٠].
ثم أبانت للإنسان ما يعترضه من الأهوال والمصاعب يوم القيامة وطريق اجتيازها بالإيمان والعمل الصالح وإنفاق المال في جهات البر والخير، ليكون من الأبرار السعداء أهل اليمين: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ... [الآيات ١١- ١٨].
وقابلت ذلك بتوضيح منهج الأشقياء الفجار أهل الشمال، وهو الكفر بآيات اللَّه، فيتميز المؤمنون عن الكفار، ويتبين مآل الفريقين إما إلى الجنة أو إلى النار: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا.. [١٩- ٢٠].