تفسير سورة البلد

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة البلد من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ
يَجُوز أَنْ تَكُون " لَا " زَائِدَة، كَمَا تَقَدَّمَ فِي " لَا أُقْسِم بِيَوْمِ الْقِيَامَة " [ الْقِيَامَة : ١ ] قَالَهُ الْأَخْفَش.
أَيْ أُقْسِم ; لِأَنَّهُ قَالَ :" بِهَذَا الْبَلَد " وَقَدْ أَقْسَمَ بِهِ فِي قَوْله :" وَهَذَا الْبَلَد الْأَمِين " [ التِّين : ٣ ] فَكَيْف يُجْحَد الْقَسَم بِهِ وَقَدْ أَقْسَمَ بِهِ.
قَالَ الشَّاعِر :
تَذَكَّرْت لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ وَكَادَ صَمِيمُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ
أَيْ يَتَقَطَّعُ، وَدَخَلَ حَرْف " لَا " صِلَة وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُد إِذْ أَمَرْتُكَ " [ الْأَعْرَاف : ١٢ ] بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي [ ص ] :" مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُد ".
[ ص : ٧٥ ].
وَقَرَأَ الْحَسَن وَالْأَعْمَش وَابْن كَثِير " لَأُقْسِم " مِنْ غَيْر أَلِف بَعْد اللَّام إِثْبَاتًا.
وَأَجَازَ الْأَخْفَش أَيْضًا أَنْ تَكُون بِمَعْنَى " أَلَا ".
وَقِيلَ : لَيْسَتْ بِنَفْيِ الْقَسَم، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَب : لَا وَاَللَّهِ لَا فَعَلْت كَذَا، وَلَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ كَذَا، وَلَا وَاَللَّه لَأَفْعَلَنَّ كَذَا.
وَقِيلَ : هِيَ نَفْي صَحِيح وَالْمَعْنَى : لَا أُقْسِم بِهَذَا الْبَلَد إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ، بَعْد خُرُوجك مِنْهُ.
حَكَاهُ مَكِّيّ.
وَرَوَاهُ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد قَالَ :" لَا " رَدّ عَلَيْهِمْ.
وَهَذَا اِخْتِيَار اِبْن الْعَرَبِيّ ; لِأَنَّهُ قَالَ : وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهَا رَدّ، فَهُوَ قَوْل لَيْسَ لَهُ رَدّ ; لِأَنَّهُ يَصِحّ بِهِ الْمَعْنَى، وَيَتَمَكَّن اللَّفْظ وَالْمُرَاد.
فَهُوَ رَدّ لِكَلَامِ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْث ثُمَّ اِبْتَدَأَ الْقَسَم.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : قَوْله " لَا " رَدّ لِمَا تَوَهَّمَ الْإِنْسَان الْمَذْكُور فِي هَذِهِ السُّورَة، الْمَغْرُور بِالدُّنْيَا.
أَيْ لَيْسَ الْأَمْر كَمَا يَحْسَبُهُ، مِنْ أَنَّهُ لَنْ يَقْدِر عَلَيْهِ أَحَد، ثُمَّ اِبْتَدَأَ الْقَسَم.
و " الْبَلَد " : هِيَ مَكَّة، أَجْمَعُوا عَلَيْهِ.
أَيْ أُقْسِمَ بِالْبَلَدِ الْحَرَام الَّذِي أَنْتَ فِيهِ، لِكَرَامَتِك عَلَيَّ وَحُبِّي لَك.
وَقَالَ الْوَاسِطِيّ أَيْ نَحْلِف لَك بِهَذَا الْبَلَد الَّذِي شَرَّفْته بِمَكَانِك فِيهِ حَيًّا، وَبَرَكَتك مَيِّتًا، يَعْنِي الْمَدِينَة.
وَالْأَوَّل أَصَحّ ; لِأَنَّ السُّورَة نَزَلَتْ بِمَكَّة بِاتِّفَاقٍ.
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ
يَعْنِي فِي الْمُسْتَقْبَل مِثْل قَوْله تَعَالَى :" إِنَّك مَيِّت وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ".
وَمِثْله وَاسِع فِي كَلَام الْعَرَب.
تَقُول لِمَنْ تَعِدُهُ الْإِكْرَام وَالْحِبَاء : أَنْتَ مُكْرَم مَحْبُوّ.
وَهُوَ فِي كَلَام اللَّه وَاسِع ; لِأَنَّ الْأَحْوَال الْمُسْتَقْبَلَة عِنْده كَالْحَاضِرَةِ الْمُشَاهَدَة وَكَفَاك دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّ تَفْسِيره بِالْحَالِ مُحَال : أَنَّ السُّورَة بِاتِّفَاقٍ مَكِّيَّةٌ قَبْلَ الْفَتْحِ.
فَرَوَى مَنْصُور عَنْ مُجَاهِد :" وَأَنْتَ حِلّ " قَالَ : مَا صَنَعْت فِيهِ مِنْ شَيْء فَأَنْتَ فِي حِلّ.
وَكَذَا قَالَ اِبْن عَبَّاس : أُحِلَّ لَهُ يَوْم دَخَلَ مَكَّة أَنْ يَقْتُل مَنْ شَاءَ، فَقَتَلَ اِبْن خَطَل وَمِقْيَس بْن صُبَابَة وَغَيْرهمَا.
وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاس أَنْ يَقْتُل بِهَا أَحَدًا بَعْد رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَوَى السُّدِّيّ قَالَ : أَنْتَ فِي حِلّ مِمَّنْ قَاتَلَك أَنْ تَقْتُلهُ.
وَرَوَى أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : أُحِلَّتْ لَهُ سَاعَة مِنْ نَهَار، ثُمَّ أُطْبِقَتْ وَحُرِّمَتْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَذَلِكَ يَوْم فَتْح مَكَّة.
وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ :[ إِنَّ اللَّه حَرَّمَ مَكَّة يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَهِيَ حَرَام إِلَى أَنْ تَقُوم السَّاعَة، فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ] الْحَدِيث.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة " الْمَائِدَة " اِبْن زَيْد : لَمْ يَكُنْ بِهَا أَحَد حَلَالًا غَيْر النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَقِيلَ : وَأَنْتَ مُقِيم فِيهِ وَهُوَ مَحِلّك.
وَقِيلَ : وَأَنْتَ فِيهِ مُحْسِن، وَأَنَا عَنْك فِيهِ رَاضٍ.
وَذَكَرَ أَهْل اللُّغَة أَنَّهُ يُقَال : رَجُل حِلّ وَحَلَال وَمُحِلّ، وَرَجُل حَرَام وَمُحِلّ، وَرَجُل حَرَام وَمُحْرِم.
وَقَالَ قَتَادَة : أَنْتَ حِلّ بِهِ : لَسْت بِآثِمٍ.
وَقِيلَ : هُوَ ثَنَاء عَلَى النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ إِنَّك غَيْر مُرْتَكِب فِي هَذَا الْبَلَد مَا يَحْرُم عَلَيْك اِرْتِكَابه، مَعْرِفَة مِنْك بِحَقِّ هَذَا الْبَيْت لَا كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ الْكُفْر بِاَللَّهِ فِيهِ.
أَيْ أُقْسِم بِهَذَا الْبَيْت الْمُعَظَّم الَّذِي قَدْ عَرَفْت حُرْمَته، فَأَنْتَ مُقِيم فِيهِ مُعَظِّم لَهُ، غَيْر مُرْتَكِب فِيهِ مَا يَحْرُم عَلَيْك.
وَقَالَ شُرَحْبِيل بْن سَعْد :" وَأَنْتَ حِلّ بِهَذَا الْبَلَد " أَيْ حَلَال أَيْ هُمْ يُحَرِّمُونَ مَكَّة أَنْ يَقْتُلُوا بِهَا صَيْدًا أَوْ يَعْضُدُوا بِهَا شَجَرَة، ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا يَسْتَحِلُّونَ إِخْرَاجَك وَقَتْلَك.
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ
قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالْحَسَن وَأَبُو صَالِح :" وَوَالِد " آدَم : عَلَيْهِ السَّلَام.
" وَمَا وَلَدَ " أَيْ وَمَا نُسِلَ مِنْ وَلَده.
أَقْسَمَ بِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ أَعْجَبُ مَا خَلَقَ اللَّه تَعَالَى عَلَى وَجْه الْأَرْض لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْبَيَان وَالنُّطْق وَالتَّدْبِير، وَفِيهِمْ الْأَنْبِيَاء وَالدُّعَاة إِلَى اللَّه تَعَالَى.
وَقِيلَ : هُوَ إِقْسَام بِآدَم وَالصَّالِحِينَ مِنْ ذُرِّيَّته، وَأَمَّا غَيْر الصَّالِحِينَ فَكَأَنَّهُمْ بَهَائِم.
وَقِيلَ : الْوَالِد إِبْرَاهِيم.
وَمَا وَلَد : ذُرِّيَّته قَالَ أَبُو عِمْرَان الْجَوْنِيّ.
ثُمَّ يَحْتَمِل أَنَّهُ يُرِيد جَمِيع ذُرِّيَّته.
وَيَحْتَمِل أَنَّهُ يُرِيد الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّته.
قَالَ الْفَرَّاء : وَصَلَحَتْ " مَا " لِلنَّاسِ كَقَوْلِهِ :" مَا طَابَ لَكُمْ " [ النِّسَاء : ٣ ] وَكَقَوْلِهِ :" وَمَا خَلَقَ الذَّكَر وَالْأُنْثَى " [ اللَّيْل : ٣ ] وَهُوَ الْخَالِق لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَقِيلَ :" مَا " مَعَ مَا بَعْدهَا فِي مَوْضِع الْمَصْدَر أَيْ وَوَالِد وَوِلَادَته كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ".
وَقَالَ عِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر :" وَوَالِد " يَعْنِي الَّذِي يُولَد لَهُ، " وَمَا وَلَدَ " يَعْنِي الْعَاقِر الَّذِي لَا يُولَد لَهُ وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
و " مَا " عَلَى هَذَا نَفْي.
وَهُوَ بَعِيد وَلَا يَصِحّ إِلَّا بِإِضْمَارِ الْمَوْصُول أَيْ وَوَالِد وَاَلَّذِي مَا وَلَدَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوز عِنْد الْبَصْرِيِّينَ.
وَقِيلَ : هُوَ عُمُوم فِي كُلّ وَالِد وَكُلّ مَوْلُود قَالَهُ عَطِيَّة الْعَوْفِيّ.
وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا.
وَهُوَ اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَيَحْتَمِل أَنَّ الْوَالِد النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَقَدُّمِ ذِكْره، وَمَا وَلَدَ أُمَّته : لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :[ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِد أُعَلِّمُكُمْ ].
فَأَقْسَمَ بِهِ وَبِأُمَّتِهِ بَعْد أَنْ أَقْسَمَ بِبَلَدِهِ مُبَالَغَة فِي تَشْرِيفه عَلَيْهِ السَّلَام.
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ
إِلَى هُنَا اِنْتَهَى الْقَسَم وَهَذَا جَوَابه.
وَلِلَّهِ أَنْ يُقْسِم بِمَا يَشَاء مِنْ مَخْلُوقَاته لِتَعْظِيمِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْإِنْسَان هُنَا اِبْن آدَم.
" فِي كَبَد " أَيْ فِي شِدَّة وَعَنَاء مِنْ مُكَابَدَة الدُّنْيَا.
وَأَصْل الْكَبَد الشِّدَّة.
وَمِنْهُ تَكَبَّدَ اللَّبَن : غَلُظَ وَخَثَرَ وَاشْتَدَّ.
وَمِنْهُ الْكَبِد ; لِأَنَّهُ دَم تَغَلَّظَ وَاشْتَدَّ.
وَيُقَال : كَابَدْت هَذَا الْأَمْر : قَاسَيْت شِدَّته : قَالَ لَبِيد :
يَا عَيْن هَلَّا بَكَيْت أَرْبَدَ إِذْ قُمْنَا وَقَامَ الْخُصُومُ فِي كَبَد
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن :" فِي كَبَد " أَيْ فِي شِدَّة وَنَصَب.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : فِي شِدَّة مِنْ حَمَلَهُ وَوِلَادَته وَرَضَاعه وَنَبْت أَسْنَانه، وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَحْوَاله.
وَرَوَى عِكْرِمَة عَنْهُ قَالَ : مُنْتَصِبًا فِي بَطْن أُمّه.
وَالْكَبَد : الِاسْتِوَاء وَالِاسْتِقَامَة.
فَهَذَا اِمْتِنَان عَلَيْهِ فِي الْخِلْقَة.
وَلَمْ يَخْلُق اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ دَابَّة فِي بَطْن أُمّهَا إِلَّا مُنْكَبَّةً عَلَى وَجْهِهَا إِلَّا اِبْن آدَم، فَإِنَّهُ مُنْتَصِبٌ اِنْتِصَابًا وَهُوَ قَوْل النَّخَعِيّ وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا.
اِبْن كَيْسَان : مُنْتَصِبًا رَأْسه فِي بَطْن أُمّه فَإِذَا أَذِنَ اللَّه أَنْ يَخْرُج مِنْ بَطْن أُمّه قَلَبَ رَأْسَهُ إِلَى رِجْلَيْ أُمّه.
وَقَالَ الْحَسَن : يُكَابِد مَصَائِب الدُّنْيَا وَشَدَائِد الْآخِرَة.
وَعَنْهُ أَيْضًا : يُكَابِد الشُّكْر عَلَى السَّرَّاء وَيُكَابِد الصَّبْر عَلَى الضَّرَّاء ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدهمَا.
وَرَوَاهُ اِبْن عُمَر.
وَقَالَ يَمَان : لَمْ يَخْلُق اللَّه خَلْقًا يُكَابِد مَا يُكَابِد اِبْن آدَم وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَضْعَف الْخَلْق.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَوَّل مَا يُكَابِد قَطْع سُرَّتِهِ، ثُمَّ إِذَا قُمِطَ قِمَاطًا، وَشَدَّ رِبَاطًا، يُكَابِد الضِّيق وَالتَّعَب، ثُمَّ يُكَابِد الِارْتِضَاع، وَلَوْ فَاتَهُ لَضَاعَ، ثُمَّ يُكَابِد نَبْت أَسْنَانِهِ، وَتَحَرُّك لِسَانه، ثُمَّ يُكَابِد الْفِطَام، الَّذِي هُوَ أَشَدّ مِنْ اللِّطَام، ثُمَّ يُكَابِد الْخِتَان، وَالْأَوْجَاع وَالْأَحْزَان، ثُمَّ يُكَابِد الْمُعَلِّمَ وَصَوْلَتَهُ، وَالْمُؤَدِّبَ وَسِيَاسَتَهُ، وَالْأُسْتَاذَ وَهَيْبَتَهُ، ثُمَّ يُكَابِدُ شُغْل التَّزْوِيج وَالتَّعْجِيل فِيهِ، ثُمَّ يُكَابِد شُغْل الْأَوْلَاد، وَالْخَدَم وَالْأَجْنَاد، ثُمَّ يُكَابِد شُغْل الدُّور، وَبِنَاء الْقُصُور، ثُمَّ الْكِبَر وَالْهَرَم، وَضَعْف الرُّكْبَة وَالْقَدَم، فِي مَصَائِبَ يَكْثُر تَعْدَادهَا، وَنَوَائِبَ يَطُولُ إِيرَادهَا، مِنْ صُدَاع الرَّأْس، وَوَجَع الْأَضْرَاس، وَرَمَد الْعَيْن، وَغَمّ الدَّيْن، وَوَجَع السِّنّ، وَأَلَم الْأُذُن.
وَيُكَابِد مِحَنًا فِي الْمَال وَالنَّفْس، مِثْل الضَّرْب وَالْحَبْس، وَلَا يَمْضِي عَلَيْهِ يَوْم إِلَّا يُقَاسِي فِيهِ شِدَّة، وَلَا يُكَابِد إِلَّا مَشَقَّة، ثُمَّ الْمَوْت بَعْد ذَلِكَ كُلّه، ثُمَّ مُسَاءَلَة الْمَلَك، وَضَغْطَة الْقَبْر وَظُلْمَته ثُمَّ الْبَعْث وَالْعَرْض عَلَى اللَّه، إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ بِهِ الْقَرَار، إِمَّا فِي الْجَنَّة وَإِمَّا فِي النَّار قَالَ اللَّه تَعَالَى :" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان فِي كَبَد "، فَلَوْ كَانَ الْأَمْر إِلَيْهِ لَمَّا اِخْتَارَ هَذِهِ الشَّدَائِد.
وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ لَهُ خَالِقًا دَبَّرَهُ، وَقَضَى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَحْوَال فَلْيَمْتَثِلْ أَمْره.
وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْإِنْسَان هُنَا آدَم.
وَقَوْله :" فِي كَبَد " أَيْ فِي وَسَط السَّمَاء.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : إِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي رَجُل مِنْ بَنِي جُمَح كَانَ يُقَال لَهُ أَبُو الْأَشَدَّيْنِ، وَكَانَ يَأْخُذ الْأَدِيم الْعُكَاظِيّ فَيَجْعَلهُ تَحْت قَدَمَيْهِ، فَيَقُول : مَنْ أَزَالَنِي عَنْهُ فَلَهُ كَذَا.
فَيَجْذِبُهُ عَشْرَة حَتَّى يَتَمَزَّق وَلَا تَزُول قَدَمَاهُ وَكَانَ مِنْ أَعْدَاء النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ نَزَلَ " أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِر عَلَيْهِ أَحَد " [ الْبَلَد : ٥ ] يَعْنِي : لِقُوَّتِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس.
" فِي كَبَد " أَيْ شَدِيدًا، يَعْنِي شَدِيد الْخَلْق وَكَانَ مِنْ أَشَدّ رِجَال قُرَيْش.
وَكَذَلِكَ رُكَانَة اِبْن هِشَام بْن عَبْد الْمُطَّلِب، وَكَانَ مَثَلًا فِي الْبَأْس وَالشِّدَّة.
وَقِيلَ :" فِي كَبَد " أَيْ جَرِيء الْقَلْب، غَلِيظ الْكَبِد، مَعَ ضَعْف خِلْقَته، وَمُهَانَة مَادَّته.
اِبْن عَطَاء : فِي ظُلْمَة وَجَهْل.
التِّرْمِذِيّ : مُضَيِّعًا مَا يَعْنِيه، مُشْتَغِلًا بِمَا لَا يَعْنِيه.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
أَيْ أَيَظُنُّ اِبْن آدَم أَنْ لَنْ يُعَاقِبَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ
يَقُولُ أَهْلَكْتُ
أَيْ أَنْفَقْت.
مَالًا لُبَدًا
أَيْ كَثِيرًا مُجْتَمِعًا.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر " مَالًا لُبَّدًا " بِتَشْدِيدِ الْبَاء مَفْتُوحَة، عَلَى جَمْع لَا بُدّ مِثْل رَاكِع وَرُكَّع، وَسَاجِد وَسُجَّد، وَشَاهِد وَشُهَّد، وَنَحْوه.
وَقَرَأَ مُجَاهِد وَحُمَيْد بِضَمِّ الْبَاء وَاللَّام مُخَفَّفًا، جَمْع لُبُود.
الْبَاقُونَ بِضَمِّ اللَّام وَكَسْرهَا وَفَتْح الْبَاء مُخَفَّفًا، جَمْع لُبْدَة وَلِبْدَة، وَهُوَ مَا تَلَبَّدَ يُرِيد الْكَثْرَة.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْجِنّ " الْقَوْل فِيهِ.
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ
" أَيَحْسَبُ " أَيْ أَيَظُنُّ.
" أَنْ لَمْ يَرَهُ " أَيْ أَنْ لَمْ يُعَايِنْهُ " أَحَد " بَلْ عَلِمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ مِنْهُ، فَكَانَ كَاذِبًا فِي قَوْله : أَهْلَكْت وَلَمْ يَكُنْ أَنْفَقَهُ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ : يُوقَف الْعَبْد، فَيُقَال مَاذَا عَمِلْت فِي الْمَال الَّذِي رَزَقْتُك ؟ فَيَقُول : أَنْفَقْته وَزَكَّيْته.
فَيُقَال : كَأَنَّك إِنَّمَا فَعَلْت ذَلِكَ لِيُقَالَ سَخِيّ، فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ.
ثُمَّ يُؤْمَر بِهِ إِلَى النَّار.
وَعَنْ سَعِيد عَنْ قَتَادَة : إِنَّك مَسْئُول عَنْ مَالِك مِنْ أَيْنَ جَمَعْت ؟ وَكَيْف أَنْفَقْت ؟ وَعَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ أَبُو الْأَشَدَّيْنِ يَقُول : أَنْفَقْت فِي عَدَاوَة مُحَمَّد مَالًا كَثِيرًا وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَاذِب.
وَقَالَ مُقَاتِل : نَزَلَتْ فِي الْحَارِث بْن عَامِر بْن نَوْفَل، أَذْنَبَ فَاسْتَفْتَى النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْفُر.
فَقَالَ : لَقَدْ ذَهَبَ مَالِي فِي الْكَفَّارَات وَالنَّفَقَات، مُنْذُ دَخَلْت فِي دِين مُحَمَّد.
وَهَذَا الْقَوْل مِنْهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون اِسْتِطَالَة بِمَا أَنْفَقَ، فَيَكُون طُغْيَانًا مِنْهُ، أَوْ أَسَفًا عَلَيْهِ، فَيَكُون نَدَمًا مِنْهُ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأ " أَيَحْسُبُ " بِضَمِّ السِّين فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
وَقَالَ الْحَسَن : يَقُول أَتْلَفْت مَالًا كَثِيرًا، فَمَنْ يُحَاسِبُنِي بِهِ، دَعْنِي أَحْسِبهُ.
أَلَمْ يَعْلَم أَنَّ اللَّه قَادِر عَلَى مُحَاسَبَته، وَأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَرَى صَنِيعَهُ.
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ
ثُمَّ عَدَّدَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ فَقَالَ :" أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ " يُبْصِر بِهِمَا.
وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ
" وَلِسَانًا " يَنْطِق بِهِ.
" وَشَفَتَيْنِ " يَسْتُر بِهِمَا ثَغْره.
وَالْمَعْنَى : نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَقْدِر عَلَى أَنْ نَبْعَثَهُ وَنُحْصِيَ عَلَيْهِ مَا عَمِلَهُ.
وَقَالَ أَبُو حَازِم : قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :( إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : يَا اِبْن آدَم، إِنْ نَازَعَك لِسَانك فِيمَا حَرَّمْت عَلَيْك، فَقَدْ أَعَنْتُك عَلَيْهِ بِطَبَقَيْنِ، فَأَطْبِقْ وَإِنْ نَازَعَك بَصَرك فِيمَا حَرَّمْت عَلَيْك، فَقَدْ أَعَنْتُك عَلَيْهِ بِطَبَقَيْنِ، فَأَطْبِقْ وَإِنَّ نَازَعَك فَرْجُك إِلَى مَا حَرَّمْت عَلَيْك، فَقَدْ أَعَنْتُك عَلَيْهِ بِطَبَقَيْنِ، فَأَطْبِقْ ).
وَالشَّفَة : أَصْلهَا شَفَهَة، حُذِفَتْ مِنْهَا الْهَاء، وَتَصْغِيرهَا : شُفَيْهَة، وَالْجَمْع : شِفَاه.
وَيُقَال : شَفَهَات وَشَفَوات، وَالْهَاء أَقْيَس، وَالْوَاو أَعَمُّ، تَشْبِيهًا بِالسَّنَوَاتِ.
وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : يُقَال هَذِهِ شَفَة فِي الْوَصْل وَشَفَه، بِالتَّاءِ وَالْهَاء.
وَقَالَ قَتَادَة : نِعَم اللَّه ظَاهِرَة، يُقَرِّرُك بِهَا حَتَّى تَشْكُر.
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ
يَعْنِي الطَّرِيقَيْنِ : طَرِيق الْخَيْر وَطَرِيق الشَّرّ.
أَيْ بَيَّنَّاهُمَا لَهُ بِمَا أَرْسَلْنَاهُ مِنْ الرُّسُل.
وَالنَّجْد.
الطَّرِيق فِي اِرْتِفَاع.
وَهَذَا قَوْل اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَغَيْرهمَا.
وَرَوَى قَتَادَة قَالَ : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُول :( يَا أَيّهَا النَّاس، إِنَّمَا هُمَا النَّجْدَانِ : نَجْد الْخَيْر، وَنَجْد الشَّرّ، فَلِمَ تَجْعَل نَجْد الشَّرّ أَحَبَّ إِلَيْك مِنْ نَجْد الْخَيْر ).
وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : النَّجْدَانِ : الثَّدْيَانِ.
وَهُوَ قَوْل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالضَّحَّاك، وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَلِيّ - رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ; لِأَنَّهُمَا كَالطَّرِيقَيْنِ لِحَيَاةِ الْوَلَد وَرِزْقه.
فَالنَّجْد : الْعُلُوّ، وَجَمْعه نُجُود وَمِنْهُ سُمِّيَتْ " نَجْد "، لِارْتِفَاعِهَا عَنْ اِنْخِفَاض تِهَامَة.
فَالنَّجْدَانِ : الطَّرِيقَانِ الْعَالِيَانِ.
قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس :
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ
أَيْ فَهَلَّا أَنْفَقَ مَاله الَّذِي يَزْعُم أَنَّهُ أَنْفَقَهُ فِي عَدَاوَة مُحَمَّد، هَلَّا أَنْفَقَهُ لِاقْتِحَامِ الْعَقَبَة فَيَأْمَن وَالِاقْتِحَام : الرَّمْي بِالنَّفْسِ فِي شَيْء مِنْ غَيْر رَوِيَّة يُقَال مِنْهُ : قَحَمَ فِي الْأَمْر قُحُومًا : أَيْ رَمَى بِنَفْسِهِ فِيهِ مِنْ غَيْر رَوِيَّة.
وَقَحَمَ الْفَرَس فَارِسَهُ.
تَقْحِيمًا عَلَى وَجْهِهِ : إِذَا رَمَاهُ.
وَتَقْحِيم النَّفْس فِي الشَّيْء : إِدْخَالُهَا فِيهِ مِنْ غَيْر رَوِيَّة.
وَالْقُحْمَة بِالضَّمِّ الْمُهْلِكَة، وَالسَّنَة الشَّدِيدَة.
يُقَال : أَصَابَتْ الْأَعْرَاب الْقُحْمَة : إِذَا أَصَابَهُمْ قَحْط، فَدَخَلُوا الرِّيف.
وَالْقُحَم : صِعَاب الطَّرِيق.
وَقَالَ الْفَرَّاء وَالزَّجَّاج : وَذُكِرَ " لَا " مَرَّة وَاحِدَة، وَالْعَرَب لَا تَكَاد تُفْرِد " لَا " مَعَ الْفِعْل الْمَاضِي فِي مِثْل هَذَا الْمَوْضِع، حَتَّى يُعِيدُوهَا فِي كَلَام آخَر كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَلَا صَدَقَ وَلَا صَلَّى " [ الْقِيَامَة : ٣١ ] " وَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ".
وَإِنَّمَا أَفْرَدُوهَا لِدَلَالَةِ آخِر الْكَلَام عَلَى مَعْنَاهُ فَيَجُوز أَنْ يَكُون قَوْله :" ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا " [ الْبَلَد : ١٧ ] قَائِمًا مَقَام التَّكْرِير كَأَنَّهُ قَالَ : فَلَا اِقْتَحَمَ الْعَقَبَة وَلَا آمَنَ.
وَقِيلَ : هُوَ جَارٍ مَجْرَى الدُّعَاء كَقَوْلِهِ : لَا نَجَا وَلَا سَلِمَ.
وَقَالَ : مَعْنَى " فَلَا اِقْتَحَمَ الْعَقَبَة " أَيْ فَلَمْ يَقْتَحِم الْعَقَبَة، كَقَوْلِ زُهَيْر :
فَرِيقَانِ مِنْهُمْ جَازِعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ وَآخَرُ مِنْهُمْ قَاطِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ
وَكَانَ طَوَى كَشْحًا عَلَى مُسْتَكِنَّةٍ فَلَا هُوَ أَبَدَاهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمِ
أَيْ فَلَمْ يُبِدْهَا وَلَمْ يَتَقَدَّم.
وَكَذَا قَالَ الْمُبَرِّد وَأَبُو عَلِيّ :" لَا " : بِمَعْنَى لَمْ.
وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ مُجَاهِد.
أَيْ فَلَمْ يَقْتَحِمْ الْعَقَبَة فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَحْتَاج إِلَى التَّكْرِير.
ثُمَّ فَسَّرَ الْعَقَبَة وَرُكُوبهَا فَقَالَ " فَكّ رَقَبَة " وَكَذَا وَكَذَا فَبَيَّنَ وُجُوهًا مِنْ الْقُرَب الْمَالِيَّة.
وَقَالَ اِبْن زَيْد وَجَمَاعَة مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : مَعْنَى الْكَلَام الِاسْتِفْهَام الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَار تَقْدِيره : أَفَلَا اِقْتَحَمَ الْعَقَبَة أَوْ هَلَّا اِقْتَحَمَ الْعَقَبَة.
يَقُول : هَلَّا أَنْفَقَ مَاله فِي فَكّ الرِّقَاب، وَإِطْعَام السَّغْبَان، لِيُجَاوِز بِهِ الْعَقَبَة، فَيَكُون خَيْرًا لَهُ مِنْ إِنْفَاقه فِي عَدَاوَة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قِيلَ : اِقْتِحَام الْعَقَبَة هَاهُنَا ضَرْب مَثَلٍ، أَيْ هَلْ تَحَمَّلَ عِظَامَ الْأُمُور فِي إِنْفَاق مَاله فِي طَاعَة رَبّه، وَالْإِيمَان بِهِ.
وَهَذَا إِنَّمَا يَلِيق بِقَوْلِ مَنْ حَمَلَ " فَلَا اِقْتَحَمَ الْعَقَبَة " عَلَى الدُّعَاء أَيْ فَلَا نَجَا وَلَا سَلِمَ مَنْ لَمْ يُنْفِق مَاله فِي كَذَا وَكَذَا.
وَقِيلَ : شَبَّهَ عِظَم الذُّنُوب وَثِقَلهَا وَشِدَّتهَا بِعَقَبَةٍ، فَإِذَا أَعْتَقَ رَقَبَة وَعَمِلَ صَالِحًا، كَانَ مَثَله كَمِثْلِ مَنْ اِقْتَحَمَ الْعَقَبَة، وَهِيَ الذُّنُوب الَّتِي تَضُرّهُ وَتُؤْذِيهِ وَتُثْقِلُهُ.
قَالَ اِبْن عُمَر : هَذِهِ الْعَقَبَة جَبَل فِي جَهَنَّم.
وَعَنْ أَبِي رَجَاء قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّ الْعَقَبَة مِصْعَدهَا سَبْعَة آلَاف سَنَة، وَمَهْبِطهَا سَبْعَة آلَاف سَنَة.
وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة : هِيَ عَقَبَة شَدِيدَة فِي النَّار دُون الْجِسْر، فَاقْتَحِمُوهَا بِطَاعَةِ اللَّه.
وَقَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَالْكَلْبِيّ : هِيَ الصِّرَاط يُضْرَب عَلَى جَهَنَّم كَحَدِّ السَّيْف، مَسِيرَة ثَلَاثَة آلَاف سَنَة، سَهْلًا وَصُعُودًا وَهُبُوطًا.
وَاقْتِحَامُهُ عَلَى الْمُؤْمِن كَمَا بَيْنَ صَلَاة الْعَصْر إِلَى الْعِشَاء.
وَقِيلَ : اِقْتِحَامه عَلَيْهِ قَدْر مَا يُصَلِّي صَلَاة الْمَكْتُوبَة.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ وَرَاءَنَا عَقَبَةً، أَنْجَى النَّاس مِنْهَا أَخَفُّهُمْ حِمْلًا.
وَقِيلَ : النَّار نَفْسهَا هِيَ الْعَقَبَة.
فَرَوَى أَبُو رَجَاء عَنْ الْحَسَن قَالَ : بَلَغَنَا أَنَّهُ مَا مِنْ مُسْلِم يُعْتِق رَقَبَة إِلَّا كَانَتْ فِدَاءَهُ مِنْ النَّار.
وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَة أَعْتَقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِكُلِّ عُضْو مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، عَنْ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :[ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَة أَعْتَقَ اللَّه بِكُلِّ عُضْو مِنْهَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنْ النَّار، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ ].
وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَغَيْره مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :[ أَيُّمَا اِمْرِئٍ مُسْلِم أَعْتَقَ اِمْرَأً مُسْلِمًا، كَانَ فِكَاكَهُ مِنْ النَّار، يُجْزِي كُلّ عُضْو مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ، وَأَيّمَا اِمْرَأَة مُسْلِمَة أَعْتَقَتْ اِمْرَأَة مُسْلِمَة، كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنْ النَّار، يُجْزِي كُلّ عُضْو مِنْهَا عُضْوًا مِنْهَا ].
قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح غَرِيب.
وَقِيلَ : الْعَقَبَة خَلَاصه مِنْ هَوْل الْعَرْض.
وَقَالَ قَتَادَة وَكَعْب : هِيَ نَار دُون الْجِسْر.
وَقَالَ الْحَسَن : هِيَ وَاَللَّه عَقَبَة شَدِيدَة : مُجَاهَدَة الْإِنْسَان نَفْسه وَهَوَاهُ وَعَدُوّهُ الشَّيْطَان.
وَأَنْشَدَ بَعْضهمْ :
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ
فِيهِ حَذْف، أَيْ وَمَا أَدْرَاك مَا اِقْتِحَام الْعَقَبَة.
وَهَذَا تَعْظِيم لِالْتِزَامِ أَمْر الدِّين وَقَالَ سُفْيَان اِبْن عُيَيْنَة : كُلّ شَيْء قَالَ فِيهِ " وَمَا أَدْرَاك " ؟ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ، وَكُلّ شَيْء قَالَ فِيهِ " وَمَا يُدْرِيك " ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْبِر بِهِ.
وَالْخِطَاب لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُعْلِمَهُ اِقْتِحَام الْعَقَبَة.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَحَمَلَ الْعَقَبَة عَلَى عَقَبَة جَهَنَّم بَعِيد إِذْ أَحَد فِي الدُّنْيَا لَمْ يَقْتَحِم عَقَبَة جَهَنَّم إِلَّا أَنْ يُحْمَل عَلَى أَنَّ الْمُرَاد فَهَلَّا صَيَّرَ نَفْسه بِحَيْثُ يُمْكِنهُ اِقْتِحَام عَقَبَة جَهَنَّم غَدًا.
وَاخْتَارَ الْبُخَارِيّ قَوْل مُجَاهِد : إِنَّهُ لَمْ يَقْتَحِم الْعَقَبَة فِي الدُّنْيَا.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَإِنَّمَا اِخْتَارَ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّهُ قَالَ بَعْد ذَلِكَ فِي الْآيَة الثَّانِيَة :" وَمَا أَدْرَاك مَا الْعَقَبَة " ؟ ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَة الثَّالِثَة :" فَكّ رَقَبَة "، وَفِي الْآيَة الرَّابِعَة " أَوْ إِطْعَام فِي يَوْم ذِي مَسْغَبَة "، ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَة الْخَامِسَة :" يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَة "، ثُمَّ قَالَ فِي الْآيَة السَّادِسَة :" أَوْ مِسْكَيْنَا ذَا مَتْرَبَة " فَهَذِهِ الْأَعْمَال إِنَّمَا تَكُون فِي الدُّنْيَا.
الْمَعْنَى : فَلَمْ يَأْتِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يُسَهِّل عَلَيْهِ سُلُوك الْعَقَبَة فِي الْآخِرَة.
فَكُّ رَقَبَةٍ
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل :
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :" فَكّ رَقَبَة " فَكّهَا : خَلَاصهَا مِنْ الْأَسْر.
وَقِيلَ : مِنْ الرِّقّ.
وَفِي الْحَدِيث :[ وَفَكّ الرَّقَبَة أَنْ تُعِين فِي ثَمَنهَا ].
مِنْ حَدِيث الْبَرَاء، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة " التَّوْبَة ".
وَالْفَكّ : هُوَ حَلّ الْقَيْد وَالرِّقّ قَيْد.
وَسُمِّيَ الْمَرْقُوق رَقَبَة ; لِأَنَّهُ بِالرِّقِّ كَالْأَسِيرِ الْمَرْبُوط فِي رَقَبَته.
وَسُمِّيَ عُنُقهَا فَكًّا كَفَكِّ الْأَسِير مِنْ الْأَسْر.
قَالَ حَسَّان :
إِنِّي بُلِيت بِأَرْبَعٍ يَرْمِينَنِي بِالنَّبْلِ قَدْ نَصَبُوا عَلَيَّ شِرَاكَا
إِبْلِيس وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى مِنْ أَيْنَ أَرْجُو بَيْنَهُنَّ فِكَاكَا
يَا رَبّ سَاعِدْنِي بِعَفْوٍ إِنَّنِي أَصْبَحْت لَا أَرْجُو لَهُنَّ سِوَاكَا
كَمْ مِنْ أَسِير فَكَكْنَاهُ بِلَا ثَمَن وَجَزّ نَاصِيَة كُنَّا مَوَالِيهَا
وَرَوَى عُقْبَة بْن عَامِر الْجُهَنِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :[ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَة مُؤْمِنَة كَانَتْ فِدَاءَهُ مِنْ النَّار ] قَالَ الْمَاوَرْدِيّ : وَيَحْتَمِل ثَانِيًا أَنَّهُ أَرَادَ فَكَّ رَقَبَته وَخَلَاص نَفْسه، بِاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي، وَفِعْل الطَّاعَات وَلَا يَمْتَنِع الْخَبَر مِنْ هَذَا التَّأْوِيل، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ.
الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى :" رَقَبَة " قَالَ أَصْبَغ : الرَّقَبَة الْكَافِرَة ذَات الثَّمَن أَفْضَل فِي الْعِتْق مِنْ الرَّقَبَة الْمُؤْمِنَة الْقَلِيلَة الثَّمَن لِقَوْلِ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ أَيّ الرِّقَاب أَفْضَل ؟ قَالَ :[ أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسهَا عِنْد أَهْلهَا ].
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالْمُرَاد فِي هَذَا الْحَدِيث : مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِدَلِيلِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :[ مَنْ أَعْتَقَ اِمْرَأً مُسْلِمًا ] وَ [ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَة مُؤْمِنَة ].
وَمَا ذَكَرَهُ أَصْبَغ وَهْلَة وَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَى تَنْقِيص الْمَال، وَالنَّظَر إِلَى تَجْرِيد الْمُعْتَق لِلْعِبَادَةِ، وَتَفْرِيغه لِلتَّوْحِيدِ، أَوْلَى.
الثَّالِثَة : الْعِتْق وَالصَّدَقَة مِنْ أَفْضَل الْأَعْمَال.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَة : أَنَّ الْعِتْق أَفْضَل مِنْ الصَّدَقَة.
وَعِنْد صَاحِبَيْهِ الصَّدَقَة أَفْضَل.
وَالْآيَة أَدَلُّ عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَة لِتَقْدِيمِ الْعِتْق عَلَى الصَّدَقَة.
وَعَنْ الشَّعْبِيّ فِي رَجُل عِنْده فَضْل نَفَقَة : أَيَضَعُهُ فِي ذِي قَرَابَة أَوْ يُعْتِق رَقَبَة ؟ قَالَ : الرَّقَبَة أَفْضَل ; لِأَنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :[ مَنْ فَكَّ رَقَبَة فَكَّ اللَّه بِكُلِّ عُضْو مِنْهَا عُضْوًا مِنْ النَّار ].
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ
أَيْ مَجَاعَة.
وَالسَّغَب : الْجُوع.
وَالسَّاغِب الْجَائِع.
وَقَرَأَ الْحَسَن " أَوْ إِطْعَام فِي يَوْم ذَا مَسْغَبَة " بِالْأَلِفِ فِي " ذَا " - وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَة :
فَلَوْ كُنْت جَارًا يَا اِبْن قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ لَمَا بِتَّ شَبْعَانًا وَجَارُك سَاغِبًا
وَإِطْعَام الطَّعَام فَضِيلَة، وَهُوَ مَعَ السَّغَب الَّذِي هُوَ الْجُوع أَفْضَل.
وَقَالَ النَّخَعِيّ فِي قَوْله تَعَالَى :" أَوْ إِطْعَام فِي يَوْم ذِي مَسْغَبَة " قَالَ : فِي يَوْم عَزِيز فِيهِ الطَّعَام.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ :[ مِنْ مُوجِبَات الرَّحْمَة إِطْعَام الْمُسْلِم السَّغْبَان ].
يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ
أَيْ قَرَابَة.
يُقَال : فُلَان ذُو قَرَابَتِي وَذُو مَقْرَبَتِي.
يُعْلِمك أَنَّ الصَّدَقَة عَلَى الْقَرَابَة أَفْضَل مِنْهَا عَلَى غَيْر الْقَرَابَة، كَمَا أَنَّ الصَّدَقَة عَلَى الْيَتِيم الَّذِي لَا كَافِل لَهُ أَفْضَل مِنْ الصَّدَقَة عَلَى الْيَتِيم الَّذِي يَجِد مَنْ يَكْفُلهُ.
وَأَهْل اللُّغَة يَقُولُونَ : سُمِّيَ يَتِيمًا لِضَعْفِهِ.
يُقَال : يَتِمَ الرَّجُل يُتْمًا : إِذَا ضَعُفَ.
وَذَكَرُوا أَنَّ الْيَتِيم فِي النَّاس مِنْ قِبَل الْأَب.
وَفِي الْبَهَائِم مِنْ قِبَل الْأُمَّهَات.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى، وَقَالَ بَعْض أَهْل اللُّغَة : الْيَتِيم الَّذِي يَمُوت أَبَوَاهُ.
وَقَالَ قَيْس بْن الْمُلَوَّح :
أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ
أَيْ لَا شَيْء لَهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ لَصِقَ بِالتُّرَابِ مِنْ الْفَقْر، لَيْسَ لَهُ مَأْوًى إِلَّا التُّرَاب.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ الْمَطْرُوح عَلَى الطَّرِيق، الَّذِي لَا بَيْت لَهُ.
مُجَاهِد : هُوَ الَّذِي لَا يَقِيهِ مِنْ التُّرَاب لِبَاس وَلَا غَيْره.
وَقَالَ قَتَادَة : إِنَّهُ ذُو الْعِيَال.
عِكْرِمَة : الْمَدْيُون.
أَبُو سِنَان : ذُو الزَّمَانَة.
اِبْن جُبَيْر : الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَحَد.
وَرَوَى عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : ذُو الْمَتْرَبَة الْبَعِيد التُّرْبَة يَعْنِي الْغَرِيب الْبَعِيد عَنْ وَطَنه.
وَقَالَ أَبُو حَامِد الْخَارْزَنْجِيّ : الْمَتْرَبَة هُنَا : مِنْ التَّرَيُّب وَهِيَ شِدَّة الْحَال.
يُقَال تَرِبَ : إِذَا اِفْتَقَرَ.
قَالَ الْهُذَلِيّ :
إِلَى اللَّهِ أَشْكُو فَقْدَ لَيْلَى كَمَا شَكَا إِلَى اللَّهِ فَقْدَ الْوَالِدَيْنِ يَتِيمُ
وَكُنَّا إِذَا مَا الضَّيْف حَلَّ بِأَرْضِنَا سَفَكْنَا دِمَاءَ الْبُدْنِ فِي تُرْبَةِ الْحَالِ
وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَالْكِسَائِيّ :" فَكَّ " بِفَتْحِ الْكَاف، عَلَى الْفِعْل الْمَاضِي.
" رَقَبَةً " نَصَبًا لِكَوْنِهَا مَفْعُولًا " أَوْ أَطْعَمَ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة و نَصْب الْمِيم، مِنْ غَيْر أَلِف، عَلَى الْفِعْل الْمَاضِي أَيْضًا لِقَوْلِهِ :" ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا " فَهَذَا أَشْكَلَ ب " فَكّ أَوْ إِطْعَام ".
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ :" فَكّ " رَفْعًا، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَر فَكَكْت.
" رَقَبَة " خَفْض بِالْإِضَافَةِ.
" أَوْ إِطْعَام " بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَأَلِف وَرَفْع الْمِيم وَتَنْوِينِهَا عَلَى الْمَصْدَر أَيْضًا.
وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم ; لِأَنَّهُ تَفْسِير لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَمَا أَدْرَاك مَا الْعَقَبَة " ؟ ثُمَّ أَخْبَرَهُ فَقَالَ :" فَكّ رَقَبَة أَوْ إِطْعَام ".
الْمَعْنَى : اِقْتِحَام الْعَقَبَة : فَكّ رَقَبَة أَوْ إِطْعَام.
وَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ فَهُوَ مَحْمُول عَلَى الْمَعْنَى أَيْ وَلَا فَكَّ رَقَبَةً، وَلَا أَطْعَمَ فِي يَوْم ذَا مَسْغَبَة فَكَيْف يُجَاوِز الْعَقَبَة.
وَقَرَأَ الْحَسَن وَأَبُو رَجَاء :" ذَا مَسْغَبَة " بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول " إِطْعَام " أَيْ يُطْعِمُونَ ذَا مَسْغَبَة و " يَتِيمًا " بَدَل مِنْهُ.
الْبَاقُونَ " ذِي مَسْغَبَة " فَهُوَ صِفَة لِ " يَوْم ".
وَيَجُوز أَنْ يَكُون قِرَاءَة النَّصْب صِفَة لِمَوْضِعِ الْجَارّ وَالْمَجْرُور ; لِأَنَّ قَوْله :" فِي يَوْم " ظَرْف مَنْصُوب الْمَوْضِع، فَيَكُون وَصْفًا لَهُ عَلَى الْمَعْنَى دُون اللَّفْظ.
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
يَعْنِي : أَنَّهُ لَا يَقْتَحِم الْعَقَبَة مِنْ فَكّ رَقَبَة، أَوْ أَطْعَمَ فِي يَوْم ذَا مَسْغَبَة، حَتِّي يَكُون مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ صَدَقُوا، فَإِنَّ شَرْط قَبُول الطَّاعَات الْإِيمَان بِاَللَّهِ.
فَالْإِيمَان بِاَللَّهِ بَعْد الْإِنْفَاق لَا يَنْفَع، بَلْ يَجِب أَنْ تَكُون الطَّاعَة مَصْحُوبَة بِالْإِيمَانِ، قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ :" وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَل مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ".
[ التَّوْبَة : ٥٤ ].
وَقَالَتْ عَائِشَة : يَا رَسُول اللَّه، إِنَّ اِبْن جُدْعَان كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة يَصِل الرَّحِم، وَيُطْعِم الطَّعَام، وَيَفُكّ الْعَانِي، وَيُعْتِق الرِّقَاب، وَيَحْمِل عَلَى إِبِلِهِ لِلَّهِ، فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئًا ؟ قَالَ :[ لَا، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبّ اِغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين ].
وَقِيلَ :" ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا " أَيْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاء وَهُوَ مُؤْمِن، ثُمَّ بَقِيَ عَلَى إِيمَانه حَتَّى الْوَفَاة نَظِيره قَوْله تَعَالَى :" وَإِنِّي لَغَفَّار لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اِهْتَدَى " [ طه : ٨٢ ].
وَقِيلَ : الْمَعْنَى ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ هَذَا نَافِع لَهُمْ عِنْد اللَّه تَعَالَى.
وَقِيلَ : أَتَى بِهَذِهِ الْقُرَب لِوَجْهِ اللَّه، ثُمَّ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ حَكِيم بْن حِزَام بَعْدَمَا أَسْلَمَ، يَا رَسُول اللَّه، إِنَّا كُنَّا نَتَحَنَّثُ بِأَعْمَالٍ فِي الْجَاهِلِيَّة، فَهَلْ لَنَا مِنْهَا شَيْء ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :[ أَسْلَمْت عَلَى مَا أَسْلَفْت مِنْ الْخَيْر ].
وَقِيلَ : إِنَّ " ثُمَّ " بِمَعْنَى الْوَاو أَيْ وَكَانَ هَذَا الْمُعْتِق الرَّقَبَةِ، وَالْمُطْعِم فِي الْمَسْغَبَة، مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا.
وَتَوَاصَوْا
أَيْ أَوْصَى بَعْضهمْ بَعْضًا.
بِالصَّبْرِ
أَيْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَة اللَّه، وَعَنْ مَعَاصِيهِ وَعَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْبَلَاء وَالْمَصَائِب.
وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ
بِالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْق فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَحِمُوا الْيَتِيم وَالْمِسْكِين.
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ
أَيْ الَّذِينَ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ قَالَهُ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ وَغَيْره.
وَقَالَ يَحْيَى بْن سَلَّام : لِأَنَّهُمْ مَيَامِين عَلَى أَنْفُسهمْ.
اِبْن زَيْد : لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا مِنْ شِقّ آدَم الْأَيْمَن.
وَقِيلَ : لِأَنَّ مَنْزِلَتهمْ عَنْ الْيَمِين قَالَهُ مَيْمُون بْن مِهْرَان.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا
أَيْ كَفَرُوا بِالْقُرْآنِ.
هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ
أَيْ يَأْخُذُونَ كُتُبهمْ بِشَمَائِلِهِمْ قَالَهُ مُحَمَّد بْن كَعْب.
يَحْيَى بْن سَلَّام : لِأَنَّهُمْ مَشَائِيم عَلَى أَنْفُسهمْ.
اِبْن زَيْد : لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا مِنْ شِقّ آدَم الْأَيْسَر.
مَيْمُون : لِأَنَّ مَنْزِلَتَهُمْ عَنْ الْيَسَار.
قُلْت : وَيَجْمَع هَذِهِ الْأَقْوَال أَنْ يُقَال : إِنَّ أَصْحَاب الْمَيْمَنَة أَصْحَاب الْجَنَّة، وَأَصْحَاب الْمَشْأَمَة أَصْحَاب النَّار قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَأَصْحَاب الْيَمِين مَا أَصْحَاب الْيَمِين، فِي سِدْر مَخْضُود "، وَقَالَ :" وَأَصْحَاب الشِّمَال مَا أَصْحَاب الشِّمَال.
فِي سَمُوم وَحَمِيم " [ الْوَاقِعَة :
٤١ - ٤٢ ].
وَمَا كَانَ مِثْله.
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ
وَمَعْنَى " مُؤْصَدَة " أَيْ مُطْبَقَة مُغْلَقَة.
قَالَ :
تَحِنّ إِلَى جِبَالِ مَكَّةَ نَاقَتِي وَمِنْ دُونِهَا أَبْوَابُ صَنْعَاءَ مُؤْصَدَهْ
وَقِيلَ : مُبْهَمَة، لَا يُدْرَى مَا دَاخِلهَا.
وَأَهْل اللُّغَة يَقُولُونَ : أَوْصَدْت الْبَاب وَآصَدْتُهُ أَيْ أَغْلَقْته.
فَمَنْ قَالَ أَوْصَدْت، فَالِاسْم الْوِصَاد، وَمِنْ قَالَ آصَدْتُهُ، فَالِاسْم الْإِصَاد.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحَفْص وَحَمْزَة وَيَعْقُوب وَالشَّيْزَرِيّ عَنْ الْكِسَائِيّ " مُؤْصَدَة " بِالْهَمْزِ هُنَا، وَفِي " الْهَمْزَة ".
الْبَاقُونَ بِلَا هَمْز.
وَهُمَا لُغَتَانِ.
وَعَنْ أَبِي بَكْر بْن عَيَّاش قَالَ : لَنَا إِمَامٌ يَهْمِزُ " مُؤْصَدَة "
Icon