تفسير سورة سبأ

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يخبر تعالى عن نفسه الكريمة أن له الحمد المطلق في الدنيا والآخرة، لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة، المالك لجميع ذلك، الحاكم في جميع ذلك، ولهذا قال تعالى :﴿ الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ أي الجميع ملكه وعبيده وتحت تصرفه وقهره، كما قال تعالى :﴿ وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى ﴾ [ الليل : ١٣ ]، ثم قال تعالى :﴿ وَلَهُ الحمد فِي الآخرة ﴾ فهو المعبود أبداً، المحمود على طول المدى، وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الحكيم ﴾ أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، ﴿ الخبير ﴾ الذي لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عنه شيء، وقال الزهري : خبير بخلقه حكيم بأمره، ولهذا قال عزَّ وجلَّ :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ أي يعلم عدد القطر النازل في أجزاء الأرض، والحب المبذور والكامن فيها، ويعلم ما يخرج من ذلك عدده وكيفيته وصفاته ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء ﴾ أي من قطر ورزق، ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ أي من الأعمال الصالحة وغير ذلك، ﴿ وَهُوَ الرحيم الغفور ﴾ أي الرحيم بعباده فلا يعاجل عصاتهم بالعقوبة ﴿ الغفور ﴾ عن ذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.
هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن، مما أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد، لما أنكره من أنكره من أهل الكفّر والعناد، فإحداهن في سورة يونس، وهي قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [ يونس : ٥٣ ]، والثانية هذه :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾، والثالثة في سورة التغابن وهي قوله تعالى :﴿ زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾ [ التغابن : ٧ ]، فقال تعالى :﴿ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾، ثم وصفه بما يؤكد ذلك ويقرره فقال :﴿ عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ قال مجاهد وقتادة :﴿ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ ﴾ لا يغيب عنه، أي الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء، فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة فإنه بكل شيء عليم. ثم بيَّن حكمته في إعادة الأبدان وقيام الساعة بقوله تعالى :﴿ لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * والذين سَعَوْا في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾ أي سعوا في الصد عن سبيل الله تعالى وتكذيب رسله ﴿ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ أي لينعم السعداء من المؤمنين ويعذب الأشقياء من الكافرين، كما قال الله عزَّ وجلَّ :﴿ لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون ﴾ [ الحشر : ٢٠ ]. وقال تعالى :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار ﴾ [ ص : ٢٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحق ﴾ هذه حكمة أخرى معطوفة على التي قبلها، وهي أن المؤمنين إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار رأوه حينئذ عين اليقين، ويقولون يومئذ ﴿ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ]، ﴿ ويهدي إلى صِرَاطِ العزيز الحميد ﴾ العزيز هو المنيع الجناب الذي لا يغالب ولا يمانع، بل قد قهر كل شيء وغلبه، الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، وهو المحمود في ذلك كله جلَّ وعلا.
هذا إخبار من الله عزَّ وجلَّ عن استبعاد الكفرة الملحدين قيام الساعة، واستهزائهم بالرسول ﷺ في إخباره بذلك، ﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ أي تفرقت أجسادكم في الأرض وذهبت فيها كل مذهب وتمزقت كل ممزق، ﴿ إِنَّكُمْ ﴾ أي بعد هذا الحال ﴿ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ أي تعودون أحياء ترزقون بعد ذلك؟ ﴿ أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾ ؟ قال الله عزَّ وجلَّ راداً عليهم :﴿ بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة فِي العذاب والضلال البعيد ﴾ أي ليس الأمر كما زعموا، بل محمد ﷺ هو الصادق البار الراشد الذي جاء بالحق، وهم الكذبة الجهلة الأغبياء، ﴿ فِي العذاب ﴾ أي الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله تعالى، ﴿ والضلال البعيد ﴾ من الحق في الدنيا، ثم قال تعالى منبهاً لهم على قدرته في خلق السماوات والأرض، ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السمآء والأرض ﴾، أي حيثما توجهوا وذهبوا، فالسماء مطلة عليهم والأرض تحتهم، كما قال عزَّ وجلَّ :﴿ والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * والأرض فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون ﴾ [ الذاريات : ٤٧-٤٨ ] قال قتادة : إنك إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك أو من بين يديك أو من خلفك رأيت السماء والأرض، وقوله تعالى :﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء ﴾ أي لو شئنا لفعلنا بهم ذلك بظلمهم وقدرتنا عليهم، ولكن نؤخر ذلك لحملنا وعفونا، ثم قال :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾، قال قتادة :﴿ مُّنِيبٍ ﴾ تائب، وعنه : المنيب المقبل إلى الله تعالى، أي إن في النظر إلى خلق السماوات والأرض، لدلالة لكل عبد فطن لبيب رجَّاع إلى الله، على قدرة الله تعالى على بعث الأجساد ووقوع المعاد، لأن من قدر على خلق هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها، وهذه الأرضين في انخفاضها، وأطوالها وأعراضها إنه لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام، كما قال تعالى :﴿ أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى ﴾ [ يس : ٨١ ]، وقال تعالى :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ غافر : ٥٧ ].
يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود ﷺ مما آتاه من الفضل المبين وجمع له بين النبوة والملك المتمكن، والجنود ذوي العدد والعدد، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات، الصم الشامخات، وتقف له الطيور السارحات، والغاديات والرائحات، وتجاوبه بأنواع اللغات، وفي الصحيح « أن رسول الله ﷺ سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقرأ من الليل، فوقف فاستمع لقراءته، ثم قال ﷺ » لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود « » ومعنى قوله تعالى :﴿ أَوِّبِي ﴾ أي سبحي، والتأويب في اللغة الترجيع، فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها، وقوله تعالى :﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الحديد ﴾ قال الحسن البصري وقتادة : كان لا يحتاج أن يدخله ناراً ولا يضربه بمطرقة، بل كان يفتله بيده مثل الخيوط، ولهذا قال تعالى :﴿ أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ ﴾ وهي الدروع، قال قتادة : وهو أول من عملها من الخلق، وإنما كانت قبل ذلك صفائح، وقال ابن شوذب : كان داود عليه السلام يرفع في كل يوم درعاً فيبيعها بستة آلاف درهم، ألفين له ولأهله وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحواري، ﴿ وَقَدِّرْ فِي السرد ﴾ هذا إرشاد من الله تعالى لنبيه داود عليه السلام في تعليمه صنعة الدروع، قال مجاهد :﴿ وَقَدِّرْ فِي السرد ﴾ لا تدق المسمار فيقلق في الحلقة، ولا تغلظه فيقصمها واجعله بقدر، وقال الحكم بن عيينة : لا تغلظه فيقصم ولا تدقه فيقلق، وقال ابن عباس : السرد حلق الحديد : وقال بعضهم : يقال درع مسرودة إذا كانت مسمورة الحلق، واستشهد بقول الشاعر :
وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبغ
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر عن وهب بن منبه أن داود عليه السلام كان يخرج متنكراً، فيسأل الركبان عنه وعن سيرته، فلا يسأل أحداً إلا أثنى عليه خيراً في عبادته وسيرته وعدله عليه السلام. قال وهب : حتى بعث الله تعالى ملكاً في صورة رجل فلقيه داود ﷺ، فسأله كما كان يسأل غيره، فقال : هو خير الناس لنفسه ولأمته، مإلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملاً، قال : ما هي؟ قال : يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين يعني بيت المال، فعند ذلك نصب داود عليه السلام إلى ربه عزَّ وجلَّ في الدعاء أن يعلمه عملاً بيده يستغني به ويغني به عياله فألان الله عزَّ وجلَّ له الحديد وعلمه صنعة الدروع فعمل الدروع وهو أول من عملها، فقال الله تعالى :﴿ أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد ﴾ يعني مسامير الحلق، قال : وكان يعمل الدرع فإذا ارتفع من عمله درع باعها فتصدق بثلثها واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله، وأمسك الثلث يتصدق به يوماً بيوم إلى أن يعمل غيرها، وقال : إن الله تعالى أعطى داود شيئاً لم يعطه غيره من حسن الصوت، إنه كان إذا قرأ الزبور تجتمع الوحوش إليه حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته عليه السلام، وكان شديد الاجتهاد، وكان إذا افتتح الزبور بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير، وكان قد أعطي سبعين مزماراً في حلقه، وقوله تعالى :﴿ واعملوا صَالِحاً ﴾ أي في الذي أعطاكم الله تعالى من النعم ﴿ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ أي مراقب لكم بصير بأعمالكم وأقوالكم لا يخفى عليّ من ذلك شيء.
لما ذكر تعالى ما أنعم به على ( داود ) عطف بذكر ما أعطى ابنه ( سليمان ) عليهما الصلاة والسلام، من تسخير الريح له تحمل بساطه غدوها شهر ورواحها شهر، قال الحسن البصري : كان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بأصطخر يتغدى بها، ويذهب رائحاً من إصطخر فيبيت بكابل، وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع، وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع، وقوله تعالى :﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد : القطر النحاس، قال قتادة : وكانت باليمن فكل ما يصنع الناس مما أخرج الله تعالى لسليمان عليه السلام، قال السدي : وإنما أسيلت له ثلاثة أيام، وقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ أي وسخرنا له الجن يعملون بين يديه ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ أي بقدره وتسخيره لهم بمشيئته، ما يشاء من البنايات وغير ذلك ﴿ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ﴾ أي ومن يعدل ويخرج منهم الطاعة ﴿ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير ﴾ وهو الحرق، وقوله تعالى :﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ ﴾ أما المحاريب فهي البناء الحسن وهو أشرف شيء في المسكن وصدره، وقال مجاهد : المحاريب بنيان دون القصور، وقال الضحاك : هي المساجد، وقال قتادة : هي القصور والمساجد، وقال ابن زيد : هي المساكن، وأما التماثيل، فقال الضحاك والسدي : التماثيل الصور، قال مجاهد : وكانت من نحاس وقال قتادة : من طين وزجاج. وقوله تعالى :﴿ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ﴾ الجواب جمع جابية وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء، قال الأعشى :
تروح على آل الملحق جفنة كجابية الشيخ العراقي تفهق
وقال ابن عباس ﴿ كالجواب ﴾ كالحياض، والقدور الراسيات أي الثابتات في أماكنها لا تتحرك ولا تتحول عن أماكنها لعظمها، وقال عكرمة : أثافيها منها، وقوله تعالى :﴿ اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً ﴾ أي وقلنا لهم اعملوا شكراً على ما أنعم به عليكم في الدين والدنيا، قال السلمي : الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تعمله لله عزَّ وجلَّ شكر، وأفضل الشكر الحمد. وقال القرظي : الشكر تقوى الله تعالى والعمل الصالح، وهذا يقال لمن هو متلبس بالفعل، وقد كان آل داود عليهم السلام كذلك قائمين بشكر الله تعالى قولاً وعملاً، قال ابن أبي حاتم عن ثابت البناني قال : كان داود عليه السلام قد جزأ على أهله وولده ونسائه الصلاة، فكان لا تأتي عليهم ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي فغمرتهم هذه الآية ﴿ اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور ﴾. وفي « الصحيحين » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« إن أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى » وقد روي عن جابر رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« قالت أم سليمان بن داود عليهم السلام لسيلمان : يا بني لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيراً يوم القيامة » وقال فضيل في قوله تعالى :﴿ اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً ﴾ قال : داود يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة منك؟ قال :« الآن شكرتني حين علمت أن النعمة مني »، وقوله تعالى :﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور ﴾ إخبار عن الواقع.
يذكر تعالى كيفية موت سليمان عليه السلام، وكيف عمّى الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة، فإنه مكث متوكئاً على عصاه وهي منسأته مدة طويلة نحواً من سنة، فلما أكلتها دابة الأرض وهي ( الأرضة ) ضعفت وسقط إلى الأرض وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة، وتبينت الجن والإنس أيضاً أن الجن لا يعملون الغيب كما كانوا يتوهمون ويهمون الناس ذلك.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال سليمان عليه السلام لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني، فأتاه فقال : يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت لك سويعة، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير، وليس له باب، فقام يصلي فاتكأ على عصاه، قال : فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكىء على عصاه، ولم يصنع ذلك فراراً من ملك الموت، قال : والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي. قال : فبعث الله عزَّ وجلَّ دابة الأرض، قال : والدابة تأكل العيدان يقال لها : القادح، فدخلت فيها فأكلتها، حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر ميتاً فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا، قال : فذلك قوله تعالى :﴿ مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ﴾ قال أصبغ : بلغني أنها قامت سنة تأكل منها قبل أن يخر، وذكر غير واحد من السلف نحواً من هذا، والله أعلم.
كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها، وكانوا في نعمة وعبطة في بلادهم وعيشهم، واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم، وبعث الله وتبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده وعبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى، ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السي والتفرق في البلاد أيدي سبأ شذر مذر، كما سيأتي قريباً، روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن وعلة قال : سمعت ابن عباس يقول :« إن رجلاً سأل رسول الله ﷺ عن سبأ ما هو أرجل أم امرأة أم أرض؟ قال ﷺ :» بل هو رجل ولد له عشرة، فسكن اليمن منهم ستة، والشام منهم أربعة، فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير، وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان « »، قال علماء النسب : اسم سبأ ( عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ) وإنما سمي سبأ، لأنه أول من سبأ في العرب، ومعنى قوله ﷺ : كان رجلاً من العرب « يعني من سلالة الخليل عليه السلام، وفي » صحيح البخاري « » أن رسول الله ﷺ من ينفر من أسلم ينتضلون فقال :« ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً »، فأسلم قبيلة من ( الأنصار ) والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ، نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد حين بعث الله عزَّ وجلَّ عليهم سيل العرم، ونزلت طائفة منهم بالشام، وإنما قيل لهم غسان بماء نزلوا عليه قريب من المشلل، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
إما سألت فإنا معشر نجب الأزد نسبتنا والماء غسان
ومعنى قوله ﷺ :« ولد له عشرة » أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن، لا أنهم ولدوا من صلبه، بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة والأقل والأكثر كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب، ومعنى قوله تعالى ﷺ :« فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة » أي بعدما أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم، منهم من أقام ببلادهم، ومنهم من نزح عنها إلى غيرها، وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين، وتجتمع إليه أيضاً سيول أمطارهم وأوديتهم، فعمد ملوكهم الأقادم، فبنوا بينهما سداً عظيماً محكماً، حتى ارتفع الماء، وحكم على حافات ذينك الجبلين، فغرسوا الأشجار، واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن، كما ذكر غير واحد من السلف، أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل وهو الذي تخترف فيه الثمار فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه، من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف، لكثرته ونضجه واستوائه، وكان هذا السد بمأرب.
2070
ويذكر أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث ولا شيء من الهوام، وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج، وعناية الله بهم ليوحدوه وبعبدوه، كما قال تبارك وتعالى :﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ﴾ ثم فسرها بقوله عزَّ وجلَّ ﴿ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ﴾ أي من ناحيتي الجبلين والبلدة بين ذلك، ﴿ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ أي غفور لكم إن استمررتم على التوحيد، وقوله تعالى :﴿ فَأَعْرَضُواْ ﴾ أي عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم، وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله كما قال الهدهد لسليمان ﷺ :﴿ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [ النمل : ٢٢-٢٤ ] قال السدي : أرسل الله عزَّ وجلَّ إليهم اثني عشر ألف نبي والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم ﴾ المراد بالعرم المياه، وقيل : الوادي، وقيل : الماء الغزير، وذكر غير واحد منهم ابن عباس وقتادة والضحاك : أن الله عزَّ وجلَّ لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم بعث على السد دابة من الأرض، يقال لها الجرذ، نقبته، وانساب الماء في أسفل الوادي، وخرب ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك، ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال، فيبست وتحطمت، وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة، كما قال الله تبارك وتعالى :﴿ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد : هو الأراك وأكلة البربر ﴿ وَأَثْلٍ ﴾ هو الطرفاء، وقال غيره : هو شجر يشبه الطرفاء، وقيل : هو السمر والله أعلم، وقوله :﴿ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ لما كان أجود هذه الأشجار المبدل بها هو السدر، قال :﴿ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه، بعد الثمار النضيجة والمناظر الحسنة والظلال العميقة والأنهار الجارية، تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسدر ذي الشوك الكثير والثمر القليل، وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل، ولهذا قال تعالى :﴿ ذلك جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور ﴾ أي عاقبناهم بكفرهم، قال مجاهد : ولا يعاقب إلا الكفور. وقال الحسن البصري : صدق الله العظيم لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور، وقال ابن أبي جاتم عن ابن خيرة وكان من أصحاب علي رضي الله عنه قال : جزاء المعصية الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والتعسر في اللذة، قيل : وما التعسر في اللذة؟ قال : لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها.
2071
يذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهني الرغيد، والبلاد الرخية، والأماكن الآمنة والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث إن مشافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماء وثمراً، ويقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم، ولهذا قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ قال وهب بن منبه : هي قرى بصنعاء، وقال مجاهد والحسن : هي قرى الشام، يعنون أنهم كانوا يسيرون من اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة، وقال ابن عباس : القرى التي باركنا فيها بيت المقدس، وعنه : هي قرى عربية بين المدينة والشام ﴿ قُرًى ظَاهِرَةً ﴾ أي بينة واضحة يعرفها المسافرون، يقيلون في واحدة ويبيتون في أخرى، ولهذا قال تعالى :﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير ﴾ أي جعلنا بحسب ما يحتاج المسافرون إليه، ﴿ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ﴾ أي الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلاً ونهاراً، ﴿ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وظلموا أَنفُسَهُمْ ﴾ وذلك أنهم بطروا هذه النعمة، وأحبوا مفاوز ومهاومة، يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في المخاوف، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض ﴿ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴾ [ البقرة : ٦١ ] مع أنهم كانوا في عيش رغيد، من مَن وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة، قال تعالى :﴿ وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ [ النحل : ١١٢ ]، وقال تعالى في حق هؤلاء ﴿ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وظلموا أَنفُسَهُمْ ﴾ أي بكفرهم، ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ أي جعلناهم حديثاً للناس، وسمراً يتحدثون به من خبرهم، وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا، ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا : تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ، وتفرقوا شذر ومذر، قال الشعبي : أما غسان فلحقوا بعمان فمزقهم الله كل ممزق بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد لفحقوا بعمان فمزقهم الله كل ممزق.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ أي إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة وتحويل العافية عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام، لعبرة لكل عبد صبار على المصائب، شكور على النعم، روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر، يؤجر المؤمن في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى امرأته »، وهذا الحديث له شاهد في « الصحيحين » من حديث أبي هريرة رضي الله عنه :« عجباً للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له؛ وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن »، قال قتادة :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ كان مطرف يقول : نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر.
لما ذكر تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى والشيطان، أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى وخالف الرشاد والهدى فقال :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾، قال ابن عباس : هذه الآية كقوله تعالى أخباراً عن إبليس ﴿ أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٦٢ ]، وقال ﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٧ ] والآيات في هذا كثيرة، وقال الحسن البصري : لما أهبط الله آدم ﷺ من الجنة ومعه حواء، هبط إبليس فرحاً بما أصاب منهما، وقال : إذا أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف، وكان ذلك ظناً من إبليس، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين ﴾، فقال عند ذلك إبليس : لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح، أعده وأمنيه وأخدعه، فقال الله تعالى :« وعزتي وجلالي لا أحجب عنه التوبة ما لم يغرغر بالموت، ولا يدعوني إلا أجبته، ولا يسألني إلى أعطيته، ولا يستغفرني إلا غفرت له » وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ قال ابن عباس : أي من حجة، وقال الحسن البصري : والله ما ضربهم بعصا ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غروراً وأماني، دعاهم إليها فأجابوه، وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ﴾ أي إما سلطناه عليه ليظهر أمر من هو مؤمن بالآخرة والحساب والجزاء، فيحسن عبادة ربه عزَّ وجلَّ في الدنيا ممن هو منها في شك، وقوله تعالى :﴿ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ ﴾ أي ومع حفظه ضل من ضل من أتباع إبليس، ويحفظه وكلاءته سلم من سلم من المؤمنين أتباع الرسل.
بين تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا نظير له ولا شريك، بل المستقبل بالأمر وحده من غير مشارك ولا منازع ولا معارض، فقال :﴿ قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ الله ﴾ أي من الآلهة التي عبدت من دونه، ﴿ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض ﴾، كما قال تعالى :﴿ والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾ [ فاطر : ١٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ ﴾ أي لا يملكون شيئاً استقالالاً ولا على سبيل الشركة ﴿ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ ﴾ أي وليس لله من هذه الأنداد من معين يستظهر به في الأمور، بل الخلق كلهم فقراء إليه عبيد لديه، قال قتادة في قوله عزَّ وجلَّ ﴿ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ ﴾ من عون يعينه بشيء، ثم قال تعالى :﴿ وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ أي لعظمته وجلاله وكبريائه، لا يجترىء أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء، إلا بعد إذنه له في الشفاعة، كما قال عزَّ وجلَّ :﴿ مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] وقال جلَّ وعلا :﴿ وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى ﴾ [ النجم : ٢٦ ]، وقال تعالى :﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ] ولهذا ثبت في « الصحيحين » من غير وجه عن رسول الله ﷺ وهو سيد ولد آدم، وأكبر شفيع عند الله تعالى، « أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم، قال :» فأسجد لله تعالى فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ويفتح عليَّ بمحامد لا أحصيها الآن، ثم يقال يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع « » الحديث بتمامه. وقوله تعالى :﴿ حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق ﴾، وهذا أيضاً مقام رفيع في العظمة، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السماوات كلامه أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي، قال ابن مسعود ﴿ فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ أي زال الفزع منها، وقال ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة في قوله عزَّ وجلَّ :﴿ حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق ﴾ يقول : خلي عن قلوبهم، فإذا كان كذلك سأل بعضهم بعضاً : ماذا قال ربكم. فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا، ولهذا قال تعالى :﴿ قَالُواْ الحق ﴾ أي أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان ﴿ وَهُوَ العلي الكبير ﴾.
وقال آخرون : بل معنى قوله تعالى :﴿ حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ يعني المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة، إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا، قالوا : ماذا قال ربكم؟ فقيل لهم : الحق، وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا، قال مجاهد ﴿ حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ كشف عنها الغطاء يوم القيامة، وقال الحسن :﴿ حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ يعني ما فيها من الشك والتكذيب، وقال ابن أسلم ﴿ حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ يعني ما فيها من الشك قال فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم ﴿ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق وَهُوَ العلي الكبير ﴾ قال : وهذا في بني آدم هذا عند الموت أقروا حين لا ينفعهم الإقرار، وقد اختار ابن جرير القول الأول أن الضمير عائد على ( الملائكة ) وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه لصحة الأحاديث فيه الآثار، قال البخاري عند تفسير هذه الآية الكريمة في « صحيحه » عن سفيان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن نبي الله ﷺ قال :
2074
« إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا : مذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال : الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ووصف سفيان بيده فحرفها ونشر بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا، فيصدّق بتلك الكلمة التي سمت من السماء ». وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« إذا أراد الله تبارك وتعالى أو يوحي بأمره تكلم بالوحي، فإذا تكلم أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه ( جبريل ) ﷺ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، فيمضي به جبريل ﷺ على الملائكة، كلما مر بسماء سماء يسأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل، فيقول عليه السلام : قال الحق وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض ».
2075
يقول تعالى مقرراً تفرده بالخلق والرزق، وانفراده بالإلهية أيضاً، فكما كانوا يعترفون بأنهم لا يرزقهم من السماء والأرض إلا الله، فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي و احد من الفريقين مبطل، والآخر محق، لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال، بل واحد منا مصيب، ونحن قد أقمنا البرهان على التوحيد فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله تعالى، ولهذا قال :﴿ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ قال قتادة قد قال ذلك أصحاب محمد ﷺ للمشركين، والله ما نحن وإياكم على أمر واحد، إنَّ أحد الفريقين لمهتد. وقال عكرمة : معناها إنا نحن لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين، وقوله تعالى :﴿ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ معناه التبري منهم أي لستم منا و لا نحن منكم، بل ندعوكم إلى الله تعالى وإلى توحيده وإفراده العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم، وإن كذبتم فنحن برآء منكم وأنتم برآء منا كما قال تعالى :﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ يونس : ٤١ ]، وقوله تعالى :﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ﴾ أي يوم القيامة يجمع بين الخلائق في صعيد واحد ﴿ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق ﴾ أي يحكم بيننا بالعدل، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيراً فيخر وإن شراً فشر، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية، كما قال تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ﴾ [ الروم : ١٤ ]، ولهذا قال عزَّ وجلَّ :﴿ وَهُوَ الفتاح العليم ﴾ أي الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور، وقوله تبارك وتعالى :﴿ قُلْ أَرُونِيَ الذين أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ ﴾ أي أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أنداداً وصيرتموها له عدلاً، ﴿ كَلاَّ ﴾ أي ليس له نظير ولا نديد ولا شريك ولا عديل، ولهذا قال تعالى :﴿ بَلْ هُوَ الله ﴾ أي الواحد الأحد الذي لا شريك له، ﴿ العزيز الحكيم ﴾ أي ذو العزة الذي قد قهر بها كل شيء، وغلبت كل شيء، ﴿ الحكيم ﴾ في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، تبارك وتعالى وتقدس عما يقولون علواً كبيراً.
يقول تعالى لعبده ورسوله محمد ﷺ تسليماً ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾ أي إلى جميع الخلائق من المكلفين كقوله تبارك وتعالى :﴿ قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ]، ﴿ بَشِيراً وَنَذِير ﴾ أي تبشر من أطاعك بالجنة، وتنذر من عصاك بالنار، ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، كقوله عزَّ وجلَّ :﴿ وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ]، ﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله ﴾ [ الأنعام : ١١٦ ]، قال محمد بن كعب : يعني إلى الناس عامة، وقال قتادة : أرسل الله تعالى محمداً إلى العرب والعجم، فأكرمهم على الله تبارك وتعالى أطوعهم لله عزَّ وجلَّ، وقال ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول : إن الله تعالى فضل محمداً ﷺ على أهل السماء وعلى الأنبياء، قالوا : يا ابن عباس فيم فضله على الأنبياء؟ قال رضي الله عنه إن الله تعالى قال :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٤ ] وقال للنبي ﷺ :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ ﴾ فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس، وهذا كما ثبت في « الصحيحين »، قال رسول الله ﷺ :« أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى خاصة وبعثت إلى الناس عامة »، وفي الصحيح أيضاً أن رسول الله ﷺ قال :« بعثت إلى الأسود والأحمر » قال مجاهد : يعني الجن والإنس، وقال غيره يعني العرب والعجم، والكل صحيح، ثم قال عزَّ وجلَّ مخبراً عن الكفار في استبعادهم قيام الساعة :﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ وهذه الآية، كقوله عزَّ وجلَّ :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ﴾ [ الشورى : ١٨ ] الآية، ثم قال تعالى :﴿ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ ﴾ أي لكم ميعاد مؤجل، لا يزاد ولا ينقص، فإذا جاء فلا يؤخر ساعة ولا يقدم، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ ﴾ [ نوح : ٤ ]، وقال عزَّ وجلَّ :﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٤-١٠٥ ].
يخبر تعالى عن تمادي الكفار في طغيانهم وعنادهم، وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن الكريم، وبما أخبر به من أمر المعاد، ولهذا قال تعالى :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ قال الله عزَّ وجلَّ متهدداً لهم ومتوعداً ومخبراً عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجهم، ﴿ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا ﴾ وهم الأتباع ﴿ لِلَّذِينَ استكبروا ﴾ منهم وهم قادتهم وسادتهم :﴿ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ أي لولا أنتم تصدونا لكنا اتبعنا الرسل، وآمنا بما جاءونا به، فقال لهم القادة والسادة وهم الذين استكبروا ﴿ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ ﴾، أي نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان، وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختياركم لذلك، ولهذا قالوا :﴿ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ اليل والنهار ﴾ أي بل كنتم تمكرون بنا ليلاً ونهاراً، وتغرّونا وتخبرونا أنا على هدلى وأنا على شيء، فإذا جميع ذلك باطل وكذب مبين، قال قتادة وابن زيد ﴿ بَلْ مَكْرُ اليل والنهار ﴾ يقول : بل مكركم بالليل والنهار، ﴿ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ﴾ أي نظراء وآلهة معه وتقيموا لنا شبهاً وأشياء تضلونا بها، ﴿ وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب ﴾ أي الجميع من السادة والأتباع كل ندم على ما سلف منه، ﴿ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب ﴾ وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم، ﴿ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي إنما نجازيكم بأعمالكم، كلٌ بحسبه للقادة عذاب بحسبهم، وللأتباع بحسبهم، ﴿ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] قال ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« إن جهنم لما سيق إليها أهلها تلقاهم لهبها، ثم لفحتهم لفحة فلم يبق لحم إلا سقط على العرقوب ».
يقول تعالى مسلياً لنبيه ﷺ، وآمراً له بالتأسي بمن قبله من الرسل، ومخبراً له بأنه ما بعث نبياً في قرية إلا كذبه مترفوها واتبعه ضعفاءهم، كما قال قوم نوح :﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء : ١١١ ]، وقال الكبراء من قوم صالح :﴿ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٧٥-٧٦ ]، وقال تعالى :﴿ وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ]، وقال جلَّ وعلا :﴿ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾ [ الإسراء : ١٦ ]، وقال جلَّ وعلا هاهنا :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ ﴾ أي نبي أو رسول ﴿ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ ﴾ وهم أولوا النعمة والحشمة والثروة والرياسة، قال قتادة : هم جبابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر ﴿ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ أي لا نؤمن به ولا نتبعه، عن أبي رزين قال :« كان رجلان شريكان خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الآخر، فلما بعث النبي ﷺ كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل، فكتب إليه إنه لم يتبعه أحد من قريش إنما اتبعه أراذل الناس ومساكينهم، قال : فترك تجارته ثم أتى صاحبه، فقال؛ دلني عليه، وكان يقرأ الكتب أو بعض الكتب، قال : فأتى النبي ﷺ فقال : إلامَ تدعو؟ قال :» أدعوا إلى كذا وكذا « قال أشهد أنك رسول الله، قال ﷺ :» وما علمك بذلك «؟ قال : إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه أراذل الناس ومساكينهم »، قال : فنزلت هذه الآية :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾، وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل قال فيها : وسألتك أضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم، فزعمت بن ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل. وقال تبارك وتعالى إخباراً عن المتفرقين المكذبين :﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ أي افتخروا بكثرة الأموال والأولاد، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله تعالى لهم واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ثم يعذبهم في الآخرة، وهيهات لهم ذلك، قال الله تعالى :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥-٥٦ ]، وقال تبارك وتعالى :﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ التوبة : ٥٥ ]، ولهذا قال عزَّ وجلَّ هاهنا :﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ أي يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب، فيفقر من يشاء ويغني من يشاء، وله الحكمة التامة البالغة، والحجة القاطعة الدامغة ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى ﴾ أي ليست هذه دليلاً على محبتنا لكم ولا اعتنائنا بكم، ولهذا قال الله تعالى :﴿ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ أي إنما يقربكم عندنا زلفى الإيمانُ والعمل الصالح ﴿ فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ ﴾ أي تضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ﴿ وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ ﴾ أي في منازل الجنة العالية ﴿ آمِنُونَ ﴾ من كل بأس وخوف وأذى، ومن كل شر يحذر منه.
2079
عن علي رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« » إن في الجنة لغرفاً ترى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها « فقال أعرابي : لمن هي؟ قال ﷺ :» لمن طيّب الكلام، وأطعم الطعام، وآدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام « » ﴿ والذين يَسْعَوْنَ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾ أي يسعون في الصد عن سبيل الله واتباع رسله والتصديق بآياته، ﴿ أولئك فِي العذاب مُحْضَرُونَ ﴾ أي جميعهم مجزيون بأعمالهم فيها بحسبهم، وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ﴾ اي بحسب ما له في ذلك من الحكمة، يبسط على هذا من المال كثيراً، ويضيّ على هذا ويقتر عليه رزقه جداً، وله في ذلك من الحكمة ما لا يدركه غيره، كما قال تعالى :﴿ انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٢١ ] أي كما هم متفاوتون في الدنيا هذا فقير مدقع وهذا غني موسع عليه، فكذلك هم في الآخرة، هذا في الغرفات في أعلى الدرجات، وهذا في الغمرات في أسفل الدركات، وأطيب الناس في الدنيا، كما قال ﷺ :« قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه »، وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبذل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما ثبت في الحديث :« يقول الله تعالى أنفق أُنفق عليك »، وقال رسول الله ﷺ :« أنفق بلالاً، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً »، وعن حديفة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض بعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق »، ثم تلا هذه الآية ﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين ﴾، وفي الحديث :« شرار الناس يبايعون كل مضطر، ألا إن بيع المضطرين حرام، ألا إن بيع المضطرين حرام، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، إن كان عندك معروف فعد به على أخيك، وإلا فلا تزده هلاكاً إلى هلاكه »، وقال مجاهد : لا يتأولن أحدكم هذه الآية ﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه فإن الرزق مقسوم.
2080
يخبر تعالى أنه يقرّع المشركين يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فيسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم ليقربوهم إلى الله زلفى، فيقول للملائكة ﴿ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾ أي أنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم، كما قال تعالى في سورة الفرقان ﴿ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل ﴾ [ الفرقان : ١٧ ]، وكما يقول لعيسى ﷺ :﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ [ المائدة : ١١٦ ]، وهكذا تقول الملائكة :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ أي تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله ﴿ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ ﴾ أي نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء، ﴿ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن ﴾ يعنون الشياطين لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم ﴿ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴾، كما قال تبارك وتعالى :﴿ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً * لَّعَنَهُ الله ﴾ [ النساء : ١١٧-١١٨ ]، قال الله عزَّ وجلَّ :﴿ فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً ﴾ أي لا يقع لكم نفع ممن كتم ترجون نفعه اليوم، من الأنداد والأوثان التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكربكم، اليوم لا يملكون لكم نفعاً ولا ضراً، ﴿ وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ وهم المشركون ﴿ ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً.
يخبر تعالى عن الكفار أنهم يستحقون العقوبة والأليم من العذاب، لأنهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته بينات، يسمعوننها غضة طرية من لسان رسوله ﷺ ﴿ قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ ﴾ يعنون أن دين آبائهم هو الحق، وأن ما جاءهم به الرسول عندهم باطل، ﴿ وَقَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى ﴾ يعنون القرآن، ﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾، قال الله تعالى :﴿ وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ ﴾ أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن، وما أرسل إليهم نبياً قبل محمد ﷺ، وقد كانوا يودون ذلك ويقولون : لو جاءنا نذير، أو أنزل علينا كتاب، لكنا أهدى من غيرنا، فلما منَّ الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه، ثم قال تعالى :﴿ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ ﴾ أي من الأمم ﴿ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ ﴾، قال ابن عباس : أي من القوة في الدنيا، كما قال تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً ﴾ [ غافر : ٨٢ ] أي وما دفع ذلك عنهم عذاب الله ولا رده، بل دمر الله عليهم لما كذبوا رسله، ولهذا قال :﴿ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ أي فكيف كان عقابي ونكالي وانتصاري لرسلي.
يقول تبارك وتعالى : قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون :﴿ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ﴾ أي إنما آمركم بواحدة، وهي ﴿ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ ﴾ أي تقوموا قياماً خالصاً لله عزَّ وجلَّ من غير هوى ولا عصبية فيسأل بعضكم بعضاً : هل بمحمد من جنون؟ فينصح بعضكم بعضاً، ﴿ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ ﴾ أي ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد ﷺ، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه ويتفكر في ذلك، ولهذا قال تعالى :﴿ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾، قال البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :« صعد النبي ﷺ الصفا ذات يوم فقال :» يا صباحاه « فاجتمعت إليه قريش فقالوا : مالك؟ فقال :» أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما تصدقوني « قالوا : بلى؟ قال ﷺ :» فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد «، فقال أبو لهب : تباً لك ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ » [ المسد : ١ ]، وقد تقدم عند قوله تعالى :﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين ﴾ [ الشعراء : ٢١٤ ]. وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال :« خرج إلينا رسول الله ﷺ يوماً فنادى ثلاث مرات فقال :» أيها الناس تدرون ما مثلي ومثلكم «؟ قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم، قال ﷺ :» إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدواً يأتيهم، فبعثوا رجلاً يتراءى لهم، فينما هو كذلك أبصر العدو، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه فأهوى بثوبه : أيها الناس أوتيتم، أيها الناس أوتيتم « ثلاث مرات ».
يقول تعالى آمراً رسوله ﷺ أن يقول للمشركين :﴿ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ﴾، أي لا أريد منكم جعلاً ولا عطاء على أداء رسالة الله عزَّ وجلَّ إليكم، ونصحي إياكم وأمركم بعبادة الله ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله ﴾، أي إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله ﴿ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ أي عالم بجميع الأمور بما أنا عليه من إخباري عنه بإرساله إياي إليكم وما أنتم عليه، وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب ﴾، كقوله تعالى :﴿ يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ غافر : ١٥ ] أي يرسل الملك إلى من يشاء من عباده من أهل الأرض، وهو علام الغيوب، فلا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض، وقوله تبارك وتعالى :﴿ قُلْ جَآءَ الحق وَمَا يُبْدِىءُ الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ أي جاء الحق من الله والشرع العظيم، وذهب الباطل واضمحل، كقوله تعالى :﴿ بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [ الأنبياء : ١٨ ]، ولهذا « لما دخل رسول الله ﷺ المسجد الحرام يوم الفتح، ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة، جعل يطعن الصنم منها ويقرأ :﴿ وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً ﴾ [ الإسراء : ٨١ ]، ﴿ قُلْ جَآءَ الحق وَمَا يُبْدِىءُ الباطل وَمَا يُعِيدُ ﴾ » وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أي لم يبق للباطل مقالة ولا رياسة ولا كلمة، وزعم قتادة والسدي أن المراد بالباطل هاهنا إبليس أي أنه لا يخلق أحداً ولا يعيده ولا يقدر على ذلك، وهذا وإن كان حقاً، ولكن ليس هو المراد هاهنا والله أعلم، وقوله تبارك وتعالى :﴿ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ﴾ أي الخير كله من عند الله وفيما أنزل الله عزَّ وجلَّ، من الوحي والحق المبين، فيه الهدى والبيان والرشاد، ومن ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه، وقوله تعالى :﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾ أي سميع لأقوال عباده ﴿ قَرِيبٌ ﴾ يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وقد روي في « الصحيحين » :« إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً مجيباً ».
يقول تبارك وتعالى : ولو ترى يا محمد إذا فزع هؤلاء المكذبون يوم القيامة ﴿ فَلاَ فَوْتَ ﴾ أي فلا مفر لهم ولا وزر لهم ولا ملجأ ﴿ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ أي لم يمكنوا أن يمعنوا في الهرب، بل أخذوا من أول وهلة، قال الحسن البصري : حين خرجوا من قبورهم، وقال مجاهد وقتادة : من تحت أقدامهم، وعن ابن عباس والضحاك : يعني عذابهم في الدنيا، وقال عبد الرحمن بن زيد : يعني قتلهم يوم بدر، والصحيح أن المراد بذلك يوم القيامة وهو الطامة العظمى، وإن كان ما ذكر متصلاً بذلك؛ ﴿ وقالوا آمَنَّا بِهِ ﴾ أي يوم القيامة يقولون آمنا بالله ورسله كما قال تعالى :﴿ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة : ١٢ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ وأنى لَهُمُ التناوش مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ أي وكيف لهم تعاطي الإيمان، وقد بعدوا عن محل قبوله منهم، وصاروا إلى الدار الآخرة، وهي ( دار الجزاء ) لا دار الابتلاء؟ فلو كانوا آمنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم، ولكن بعد مصيرهم إلى الدار الآخرة لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان، قال مجاهد :﴿ وأنى لَهُمُ التناوش ﴾ قال : التناول لذلك، وقال الزهري : التناوش تناولهم الإيمان وهم في الآخرة، وقد انقطعت عنهم الدنيا، وقال الحسن البصري : أما إنهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال، تعاطوا الإيمان من مكان بعيد، وقال ابن عباس : طلبوا الرجعة إلى الدنيا والتوبة مما هم فيه وليس بحين رجعة ولا توبة.
وقوله تعالى :﴿ وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ﴾ أي كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة، وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل، ﴿ وَيَقْذِفُونَ بالغيب مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ يعني بالظن، كما قال تعالى :﴿ رَجْماً بالغيب ﴾ [ الكهف : ٢٢ ] فتارة يقولون شاعر، وتارة يقولون كاهن، وتارة يقولون ساحر، وتارة يقولون مجنون، إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة، ويكذبون بالبعث والنشور والمعاد، ويقولون ﴿ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ﴾ [ الجاثية : ٣٢ ] قال قتادة ومجاهد : يرجمون بالظن، لا بعث ولا جنة ولا نار، وقوله تعالى :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ قال الحسن البصري والضحاك وغيرهما : يعني الإيمان، وقال السدي :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ وهي التوبة، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله، وقال مجاهد :﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ من هذه الدنيا من مال وزهرة وأهل، والصحيح أنه لا منافاة بين القولين فإنه قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا وبين ما طلبوه في الآخرة فمنعوا منه. وقوله تعالى :﴿ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ﴾ أي كما جرى للأمم الماضية المكذبة بالرسل لما جاءهم بأس الله، تمنوا أن لو آمنوا فلم يقبل منهم ﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون ﴾ [ غافر : ٨٥ ]، وقوله تبارك وتعالى :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ ﴾ أي كانوا في الدنيا في شك وريبة فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب، قال قتادة : إياكم والشك والريبة، فإن من مات على شك بعث عليه، ومن مات على يقين بعث عليه.
Icon