تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
.
لمؤلفه
أبو بكر الحداد اليمني
.
المتوفي سنة 800 هـ
ﰡ
﴿ حـمۤ * وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ ﴾؛ أقسمَ اللهُ بالقرآنِ، الْمُبين: الذي أبَانَ طريقَ الهدى من طريقِ الضَّلالةِ، وأبانَ ما يحتاجُ إليه من الشَّرائعِ، وجوابُ: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾؛ أي إنَّا أنزلناهُ على لُغةِ العرب ليكون أبلغَ في الحجَّة وأدعَى إلى القَبولِ، كي يَعْقِلَهُ العربُ من غيرِ متَرجِمٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾؛ أي إنَّهُ مذكورٌ مُثْبَتٌ في اللَّوحِ المحفوظِِ عندَنا، كما قالَ في آيةٍ أُخرى﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾[البروج: ٢١ - ٢٢]، وسُمي اللوحُ أُمَّ الكتاب؛ لأنه أصلُ كلِّ كتابٍ، وتُسمَّى الوالدةُ: أُمّاً؛ لأنَّها أصلُ الولدِ. وقولهُ تعالى ﴿ لَدَيْنَا ﴾ يريدُ الذي عندَنا نُخبرُ عن فضيلتهِ، ومَنْزِلتِه وشرفهِ أنْ كذبتُم به يا أهلَ مكَّة، فإنه عندَنا شريفٌ رفيع مُحكَمٌ من الباطلِ. ويقالُ: ذُو حِكمَةٍ لا يحتملُ الزيادةَ والنُّقصانَ، والتبديلَ والتغييرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ ﴾؛ قال الكلبيُّ: (يَقُولُ اللهُ لأَهْلِ مَكَّةَ: أَفَنَتْرُكُ عَنْكُمُ الْوَحْيَ صَفْحاً فَلاَ نَأْمُرُكُمْ وَلاَ نَنْهَاكُمْ وَلاَ نُرْسِلُ إلَيْكُمْ رَسُولاً؟ وَهَذا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الإنْكَارُ؛ أيْ لاَ نَفْعَلُ ذلِكَ). ومعنى الآيةِ: أفَنُمسِكُ عن إنزالِ القرآن ونُهمِلُكم فلا نُعرِّفُكم ما يجبُ عليكم من أجلِ أنَّكم أسرَفتُم في كُفرِكم، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ ﴾، والمعنى: لإنْ كُنتم، والكسرُ في (إنْ) على أنه جزاءٌ استغنى عن جوابهِ بما تَقدَّمَهُ، كما تقولُ: أنتَ ظالِمٌ إنْ فعلتَ كذا، ومثلهُ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ ﴾[المائدة: ٢] بالفتحِ والكسر، وقد تقدَّمَ. ومعنى الآيةِ: أفنَضرِبُ عنكم تَذكُّرنَا إيَّاكم الواجبَ ونتركُكم بلا أمرٍ ولا نَهيٍ مُعرِضين عنكم لَئِن أسرَفتُم. والصَّفْحُ في اللغة: هو الإعراضُ، يقالُ: صَفَحَ عن دِينه أي أعرضَ عنه، " صَفَحَ " فلانُ عنِّي بوجههِ؛ أي أعرَضَ، وهو في صِفات اللهِ بمعنى العَفْوِ، يقالُ: أصْفحَ عن دينه؛ أي أعرضَ عنه. والإضرابُ والضَّربُ في الكلامِ كلاهُما بمعنى الإعراضِ والعدُولِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي ٱلأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾؛ فيه تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبيانُ أنَّ دَأبَ كلَّ أُمة مع رسولِهم التكذيبُ والاستهزاء به، وإنَّ من سُنة اللهِ تعالى إهلاكُ المكَذِّبين، فحدِّث أيها الرسولُ قومَك كي لا يَسلِكوا طريقَ من قبلهم فينزلُ بهم من العذاب ما نزلَ بمَن قبلَهم.
قولهُ تعالى: ﴿ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً ﴾؛ أي أقوَى من قومِكَ، يعني الأوَّلين الذين هَلَكوا بتكذيبهم.
﴿ وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾؛ وسبقَ فيما أنزلنا إليكَ تشبيهٌ بتكذيبهم، فعاقبةُ هؤلاء أيضاً الإهلاكُ.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ﴾؛ معناهُ: ولئن سألتَ قومَكَ مَن خلقَ السَّماوات والأرضَ.
﴿ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ ﴾، وهذا إخبارٌ عن غايةِ جَهلِهم إذ أقَرُّوا بأنَّ الله خلقَ السماوات والأرض، ثم عَبَدُوا معه غيرَهُ وأنكَرُوا قدرته على البعثِ، فهُم يُقرُّون بالله ويُشركون به غيرَهُ، كما قالَ تعالى في آيةٍ أخرى﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾[يوسف: ١٠٦] وتَمَّ الكلامُ والإخبار عنهم. ثُم ابتدأ قوله عَزَّ وَجَلَّ فقال: ﴿ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً ﴾؛ هذا ابتداءُ كلامٍ من اللهِ تعالى على معنى: نَعَمْ خلَقَهُنَّ العزيزُ العليم الذي جعلَ لكم الأرضَ مِهَاداً يمكنُكم القرارُ عليها.
﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً ﴾؛ أي طُرقاً.
﴿ لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾؛ في الطريقِ من بلدٍ إلى بلد، وتَهتدون بوحدانيَّة اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ ﴾؛ يعني المطرَ بمقدارٍ معلوم يعلمهُ خازنُ المطرِ ليس كما أنزلَ على قومِ نوح بغير قَدَرٍ حتى أهلكَهم، بل هو بقَدرٍ يكون مَعاشاً لكم ولأنعامِكم، وقولهُ تعالى: ﴿ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾؛ أي فأَحيَينا بذلك المطرِ بَلداً ميتاً بإخراجِ الأشجار والزرعِ.
﴿ كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾؛ من القُبور يومَ النشور للحساب والجزاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ﴾؛ معناهُ والذي خلقَ الأصنافَ كُلَّها والألوانَ كُلَّها، ويقالُ: الذكورُ والإناث كلِّها، وجعل لكم من الفُلكِ والأنعامِ ما تركبون عليها في البَرِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ﴾؛ الكنايةُ تعود إلى لفظ (مَا) أي لتَستَوُوا على ظُهور ما تركبون.
﴿ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ﴾؛ يعني النعمةَ بتسخيرِ ذلك المركَب في البَرِّ والبحرِ، قال مقاتلُ والكلبي: (وَهُوَ أنْ تَقُولَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي رَزَقَنِي هَذا وَحَمَلَنِي عَلَيْهِ).
﴿ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا ﴾؛ المركَبَ وذلَّلَهُ لنا، وسهَّلَ رُكوبَهُ، ولولاَ تسخيرهُ لنا.
﴿ وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾؛ أي مُطِيقين ضابطين، يريدُ: لا طاقةَ لنا بالإبلَ ولا بالفلكِ ولا بالبحر، لولاَ أنَّ اللهَ تعالى سخَّرَ لنا ذلك. قال قتادةُ: (قَدْ عَلَّمَكُمُ اللهُ كَيْفَ تَقُولُونَ إذا رَكِبْتُمْ). وعن ابنِ مسعودٍ أنَّهُ قالَ: (إذا رَكِبَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ فَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ، رَدَفَهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ لَهُ: تَغَنَّ، فَإنْ لَمْ يُحْسِنْ قَالَ لَهُ: تَمَنَّ). وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:" " أنَّهُ كَانَ إذا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارجاً فِي سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاَثاً سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإنَّا إلَى رَبنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذا الْبرَّ وَالتَّقْوَى، وَالْعَمَلَ بمَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا وَأطْوِعْنَا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَب، وَسُوءِ الْمُنْظَرِ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ ". وَإذا رَجَعَ قَالَ: " آيبُونَ تَائِبُونَ لِرَبنَا حَامِدُونَ " ".
قولهُ تعالى: ﴿ وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾؛ فيه بيانٌ أنه كما يَذكرُ نعمةَ اللهِ عليه في الدُّنيا، فعلَيهِ أنْ يذكُرَ مصيرَهُ إلى الآخرةِ. وينبغِي للعاقلِ إذا ركِبَ دابَّةً أو سفينةً أن يتذكَّرَ آخرَ مركَبهِ وهي الجنازةُ، وإذا لَبسَ أن يتذكَّرَ آخرَ مَلبَسهِ وهو الكفَنُ، وإذا اغتسلَ أن يتذكَّرَ آخرَ عهدهِ بالغُسلِ، وإذا نامَ أن يذكَّرَ الحالَ التي يوضَعُ فيها على جَنبهِ في اللَّحدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ﴾؛ أي جَعل الكفارُ للهِ تعالى من عبادهِ جُزءاً؛ لأنَّهم قالوا: الملائكةُ بنات اللهِ، فوصَفُوا عبادَ اللهِ بأنَّهم جزءٌ من اللهِ، وقد تقدَّمَ أن الذين قالوا هذا القولَ حيٌّ من خزاعةَ، ومعنى الجعلُ ها هنا الحكمُ بالشيءِ، والوصفُ والتسمية كما جعلَ فلانٌ زيداً مِن أعلمِ الناس؛ أي وصفَهُ بذلك، ويقالُ: إن الْجُزْءَ في كلامِ العرب عبارةٌ عن الأُنثى كما قال الشاعرُ: إنْ أجْزَأتْ حُرَّةٌ يَوْماً فَلاَ عَجَبٌ قَدْ تُجْزِئُ الْحُرَّةُ الْمِذْكَارُ أحْيَانَاأرادَ بـ (أجْزَأتْ): ولَدَت أُنثى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ﴾؛ أرادَ بالإنسانِ الكافرَ، وقولهُ تعالى ﴿ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ﴾ أي لَجَحُودٌ لنِعَمِ اللهِ.
﴿ مُّبِينٌ ﴾ ظاهرُ الكُفرَانِ. ثُم أنكرَ عليهم هذا فقالَ تعالى: ﴿ أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِٱلْبَنِينَ ﴾؛ هذا استفهامُ توبيخٍ وإنكار، يقولوا: أتَّخَذ ربُّكم لنفسهِ البنات وأصفاكم بالبنينِ وأخلَصَكم بهم. والمعنى: كيف اختارَ لنفسهِ أهونَ قِسْمَي الولدِ، واختارَ لكم أعلَى القِسمَين، والحكمةُ لا توجبُ أن يختارَ الحكيمُ الأدوَنَ لنفسهِ والأعلَى لغيرهِ. ثم وصَفَ كراهتَهم بالبناتِ، فقالَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً ﴾؛ أي وإذا أُخبر أحدُهم بما وصفَ للرحمنِ من إضافةِ البنت إليه صارَ وجههُ مُسْوَدّاً متغَيِّراً يُعرَفُ فيه الحزنُ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾؛ أي يتردَّدُ حُزنهُ في جَوفهِ. وقد تقدم تفسيرهُ في سورة النحلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ ﴾؛ زيادةٌ في الإنكار عليهم والْمَذمَّةِ لَهم، كأنَّهُ قالَ: أوَيَختارُ لنفسهِ مع استغنائهِ عن الخلقِ كلِّهم (مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) أي مَن رُبيَ في حِلية الذهب والفضَّة.
﴿ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴾، وهو في الكلامِ غيرُ ثابتِ الحجَّة. قال المبرَّدُ: (تَقْدِيرُ الآيَةِ: أوَتَجْعَلُُونَ لَهُ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ، يَعْنِي الْبنْتَ نَبَتَتْ). (وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبينٍ)؛ أي وهو عندَ الْمُخَاصَمَة غيرُ مُبينِ الحجَّة، قال قتادةُ: (قَلَّ مَا تَكَلَّمَتِ امْرَأةٌ بحُجَّتِهَا إلاَّ تَكَلَّمَتْ بحُجَّتِهَا عَلَيْهَا) لِضَعْفِ رَأيهَا وَنُقْصَانِ عَقْلِهَا. ويستدَلُّ من هذه الآيةِ على ثُبوتِ الترخُّصِ للنساءِ في التزَيُّن بحِلية الذهب والفضَّة،" كما قالَ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أخَذ الذهَبَ بإحْدَى يَدَيْهِ، وَالْحَرِيرَ بالأُخْرَى وَقَالَ: " هَذانِ مُحَرَّمَانِ عَلَى ذُكُور أُمَّتِي، حِلٌّ لإنَاثِهِمْ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً ﴾؛ معناهُ: ووَصَفُوا الملائكةَ الذين هم عبادُ الرحمنِ أنَّهم بناتُ اللهِ، وقرئ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ) وكلٌّ صوابٌ، وقد جاءَ القرآنُ بالأمرَين معاً، وذلك قولهُ﴿ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ﴾[الأنبياء: ٢٦] وقولهُ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ﴾[الأعراف: ٢٠٦]، وفي قولهِ تعالى (عَبْدُ الرَّحْمَنِ) دلالةٌ على رفعِ المنْزِلة والقُربَةِ من الكرامةِ. وقولهُ تعالى: ﴿ أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ ﴾؛ معناهُ: أحَضَرُوا عندَ خَلقِهم فعَلمُوا ذلك، والشهادةُ ها هنا من الحضور، ووبَّخَهم اللهُ على ما قالوا ما لَم يُشاهِدُوهُ. وقرأ نافعُ: (أشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ) بهمزة الاستفهامِ وتخفيف الهمزةِ الثانية على معنى أحَضَرُوا وعَايَنُوا خَلقَهُم حتى عَلِموا أنَّهم أناثٌ، وهكذا كقوله﴿ أَمْ خَلَقْنَا ٱلْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴾[الصافات: ١٥٠].
قال ابنُ عبَّاس: (يُرِيدُ: أحَضَرُواْ وَعَايَنُواْ خَلْقَهُمْ؟)، قال الكلبيُّ:" لَمَّا قَالُواْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ سَأَلَهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَقًَالَ: " مَا يُدْرِيكُمْ أنَّهُمْ إنَاثٌ؟ " قَالُواْ: سَمِعْنَا مِنْ آبَائِنَا وَنَحْنُ نَشْهَدُ أنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُواْ أنَّهُمْ إنَاثٌ "فقالَ اللهُ: ﴿ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾؛ عنها في الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾؛ يعني بني مَلِيح من خُزاعة، كانوا يعبُدون الملائكةَ.
﴿ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾ أي ما عبَدُوا الملائكةَ، وإنما عبَدناهم بمشيئةِ الله تعالى. وإنما كانوا يقُولون هذا القولَ إبلاغاً لعُذرهم عند سَفَلَتِهم، يقول اللهُ تعالى: ﴿ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ﴾؛ بقولِهم إنَّ الملائكةَ بناتُ الله وإنَّهم كَذبُوا في ذلك، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾؛ أي ما هُم إلا يكذبون فيما قالوا، ولم يتعرَّضْ لقولِهم ﴿ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾ بشيءٍ؛ لأن هذا القولَ حقٌّ، وإنْ كان من الكفار، وهذا كقولهِ:﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ﴾[النحل: ٣٥] أي ولو جعلتَ قولَهُ ﴿ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ﴾ ردّاً لقولِهم ﴿ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾ كان المعنى: أنَّهم قالوا: إنَّ الله قدَّرَنا على عبادتِهم فلم يُعاقِبْنا لأنه رَضِيَ ذلك، وهذا كذبٌ منهم؛ لأنَّ اللهَ تعالى وإنْ قدَّرَ كُفرَ الكافرِ لا يرضاهُ، وتقديرُ الكفرِ من الكافرِ لا يكون رضًى من اللهِ له.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ ﴾؛ أي هل أعطَيناهم كِتَاباً من قبلِ القرآن بأن يعبُدوا غيرَ اللهِ.
﴿ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ﴾؛ أي آخِذُونَ بمَا فيه. ثم أعلمَ اللهُ أنَّهم اتَّبعُوا آباءَهم في الضَّلالةِ فقالَ تعالى: ﴿ بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ ﴾؛ أي على سُنَّةٍ وملَّةٍ ودينٍ. ومَن قرأ (عَلَى إمَّةٍ) بكسر الهمزةِ فمعناهُ: على طريقةٍ؛ أي ليس لَهم حُجَّةٌ إلاَّ هذا القول.
﴿ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ﴾؛ أي ليس لهم حُجَّة إلاَّ تقليدُ آبائِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ ﴾ أي مُلوكُها وأغنياؤُها ورؤساؤها: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾؛ بهم. فقالَ اللهُ تعالى لنبيِّهِ صلى الله عليه وسلم: ﴿ قَٰلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ ﴾؛ معناهُ: أتَّتبعون دينَ آبائكم وتكفُرون مِثلَهم، ولو جئتُكم بأرشدِ مما وجدتُّم عليه آباءَكم، فأَبَوا أنْ يقبَلُوا ذلك؛ و ﴿ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾.
ثُم ذكَرَ ما فعَلَ بالأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ تخويفاً لَهم فقالَ تعالى: ﴿ فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ ﴾؛ يعني ما صَنَعَ بقومِ نوحٍ وعاد وثَمود.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ ﴾ معناه واذكُر يا مُحَمَّدُ إذ قالَ إبراهيمُ لأبيهِ وقومهِ حين خرجَ من السِّرب وهو ابنُ سبعَ عشرة سنةً، رأى أباهُ وقومَهُ يعبدون الأصنامَ، فقالَ لَهم: إنِّي بَرَاءٌ مما تعبُدون من دونِ الله تعالى.
﴿ إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾، إلاَّ مِن الذي خلَقَني فإنه سيحفَظُني ويُرشِدُني لدينهِ وطاعته. وقوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ﴾؛ أي وجعلَ براءتَهُ عن عبادةِ غير الله وهي كلمةُ التوحيدِ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ؛ باقيةً في عَقِبهِ لكي يرجِعُوا إلى التوحيدِ، ويدعُوا الخلقَ إليهِ، فلا يزالُ في ولَدهِ مَن يوحِّدُ اللهَ تعالى. ومعنى الآيةِ: وجعلَها كلمةً باقيةً في ذريَّة إبراهيم ونَسلهِ، فلا يزالُ في ذُريَّتهِ مَن يعبدُ اللهَ ويوحِّدهُ.
﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾؛ أي لعَلَّ أهلَ مكَّة يتَّبعون هذا الدِّينَ ويرجعون إلى دِينكَ دينِ إبراهيمَ، إذ كانوا مِن وَلدهِ. وقال السديُّ: (لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيَرْجِعُونَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ إلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى). ثُم ذكرَ نِعمَتهُ على قريشٍ فقالَ: ﴿ بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ ﴾؛ يعني المشركين متَّعْتُهم بأموالِهم وأنفُسِهم وأنواعِ النِّعَمِ، ولم أُعاجِلْهُم بعقوبةِ كُفرِهم، بل أمهَلتُهم زيادةً في الْحُجَّةِ وقطعاً للمعذرةِ.
﴿ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ ﴾؛ أي القرآنُ.
﴿ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ﴾؛ للحُجَجِ وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لَهم الأحكامَ والدينَ. وكان من حقِّ الإنعَامِ أن يُطيعوا الرسولَ بإجابتهِ، فلم يُجيبوه وعَصَوا، وهو قولهُ: ﴿ وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ﴾؛ أي لما جاءَ الرسولُ والقرآن، نَسَبوا القرآنَ إلى السِّحر وجحَدُوا بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾؛ أي قال كفَّارُ مكَّة: هلاَّ نُزِّلَ هذا القرآنُ على رجلٍ من القَريتَينِ مكَّة والطائف، وعَنَوا بالرَّجُلين إما الوليدَ بنَ المغيرةِ من مكَّة، وإما أبا مسعودٍ الثقفيِّ من الطائفِ، ظَنُّوا بجهلِهم أنَّ استحقاقَ النبوَّة إنما يكون بشَرفِ الدُّنيا مع اعترافِهم بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مِن أرفعِهم نَسباً. فقالَ اللهُ تعالى ردّاً عليهم وإنكاراً لِمَا قالوا: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾؛ يعني النبوَّةَ التي هي مِن أعظمِ النِّعَمِ، وذلك أنَّهم اعترَضُوا على اللهِ بقولِهم: لِمَ لَمْ ينْزِل هذا القرآنُ على غيرِ مُحَمَّدٍ، فَبَيَّنَ اللهُ تعالى أنه الذي يقسِمُ النبوَّةَ لا غيرهُ. قال مقاتلُ: (يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أبأَيْدِيهِمْ مَفَاتِيحُ الرِّسَالَةِ فَيَضَعُونَهَا حَيْثُ شَاؤُا). فبيَّن اللهُ تعالى أنه لَمْ يجعَلْ أمرَ معايشِهم مع قلَّةِ خطرِ ذلك إلى رأيهم، بل رفعَ بعضَهم فوقَ بعضٍ في الرِّزقِ، وتلقاه شذ على ما تُوجبهُ الحكمةُ، فقال تعالى: ﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ أي قسَمنا الرزقَ في المعيشةِ، وليس لأحدٍ أن يتحكَّمَ في شيءٍ من ذلك، فكيف نجعلُ أمرَ النبوَّة مع عِظَمِ قَدرهِ ورفعةِ شأنه إلى رأيهم، قال قتادةُ في معنى (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ): (تَلْقَى الرَّجُلَ ضَعِيفَ الْحِيلَةِ عَيَّ اللِّسَانِ وَهُوَ مَبْسُوطٌ فِي الرِّزْقِ، وَتَلْقَاهُ شَدِيدَ الْحِيلَةِ بَسِطَ اللِّسَانِ وَهُوَ مُقَتَّرٌ عَلَيْهِ). وقولهُ تعالى: ﴿ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾؛ يعني الفضل في الغنى والمال ﴿ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ﴾؛ أي ليستخدِمَ بعضُهم بعضاً، فيُسخِّر الأغنياءُ بأموالهم الفقراءَ لِيلتَئِمَ قِوَامُ أمرِ العالَم، وقال قتادةُ: (لِيَمْلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً فَيَتَّخِذُونَهُمْ عَبيداً وَمََمَالِيكَ). والسِّخْرِيُّ بالكسرِ مِن الاستهزاءِ، وبالضَّم من التسخيرِ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾؛ أي وما خصَّكَ اللهُ به من النبوَّةِ خيرٌ لكَ مما يجمَعُون من المالِ. وَقِيْلَ: معناهُ: ورحمةُ ربكَ يعني الجنَّةَ للمؤمنين خيرٌ مما يجمَعُ الكفَّارُ من الأموالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾؛ معناهُ: ولولاَ أن تَمِيلَ بالناسِ الدُّنيا فيصيرَ الخلقُ كلُّهم كُفَّاراً لأعطى اللهُ الكافرَ في الدُّنيا غايةَ ما يتمنَّى فيها لِهَوانِهَا وقلَّتِها عندَ الله تعالى، ولكنَّهُ لم يفعَلْ ذلك لعلمهِ بأن الغالبَ على الخلقِ حبُّ العاجلةِ. وقوله (سَقْفاً) من قرأهُ بالوحدانِ فهو على معنى جعلنا لكلِّ بيتٍ سَقْفاً من فضَّة. ومن قرأ (سُقُفاً) بضمَّتين فهو جمعُ سَقْفٍ، مثلُ رَهْنٍ وَرُهُنٍ. ومَن قرأهُ (سُقْفاً) بضمِّ السين وجزمِ القاف فعلى تخفيفِ سِقْفٌ مثل رهْنٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾ يعني الدَّرَجَ عليها يرتَفِعون ويَعلُون، واحدُها مَعْرِجٌ، ويقالُ مِعْرَاجٌ وَمَعَاريجُ وَمَعَارجُ، مثل مَفَاتِيح وَمَفَاتِح في جمعِ مِفتاحٍ، والمعنى: وكذلك جعلنا لَهم معارجَ من فضَّة عليها يصعَدُون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ﴾؛ أي ولبُيوتِهم أبوَاباً من فضَّة وسُرُراً من فضَّة، على سُرُُر الفضَّة يجلِسُون ويتَّكئِون، وقولهُ تعالى: ﴿ وَزُخْرُفاً ﴾؛ الزُّخرُفُ هو الذهَبُ، كأنَّهُ قال: وجعَلنا أمتِعَتَهم من الذهب. هكذا في التفاسيرِ أنَّ المرادَ بالزُّخرُفِ الذهبَ، إلاَّ أنَّهُ في اللغةِ الزُّخرف: كَمَالُ الزِّينةِ، كما قال تعالى﴿ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا ﴾[يونس: ٢٤]، ويجوزُ أن يكون قولهُ ﴿ وَزُخْرُفاً ﴾ عَطفاً على قولهِ﴿ مِّن فِضَّةٍ ﴾[الزخرف: ٣٣] كأنَّهُ قالَ: مِن فضَّةٍ وزُخرُفاً، إلاَّ أنه لَمَّا قالَ حذفَ (مِنْ) جعل نصباً، وهذا إنما يكون على قولِ الكوفِيِّين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ مَن قرأ (لَمَّا) بالتشديدِ فالمعنى: ما كلُّ ذلك إلاَّ متاعُ الحياةِ الدُّنيا، ومَن قرأ بالتخفيفِ فـ (مَا) صلةٌ زائدة، والمعنى: وإنْ كلُّ لَمَا متاعُ الحياة الدنيا، يُتَمَتَّعُ به إلى حين ثُم يفنَى، وَثوابُ ﴿ وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾؛ الكفرَ والفواحشَ، والذي قرأ (لَمَّا) بالتشديدِ حمزةُ جعلَهُ في معنى إلاَّ، وحُكي عن سيبويهِ: نشَدتُكَ لَمَّا فعلتَ، بمعنى إلاَّ فعلتَ. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" لَوْلاَ أنْ يَجْزَعَ عَبْدِي الْمُؤْمِن لَعَصَبْتُ الْكَافِرَ بعَصَابَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَلَصَبَّبْتُ الدُّنْيَا عَلَيْهِ صَبّاً "قال: ومصداقُ ذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾[الزخرف: ٣٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً ﴾؛ أي مَن يُعرِضُ عن ذكرِ الرَّحمنِ نُسَببْ له شَيطاناً يُضِلُّهُ، يجعلُ ذلك جزاؤه.
﴿ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾؛ لا يفارقهُ في الدُّنيا والآخرةِ، يقالُ: عَشِيَ إلى النار باللَّيل إذا تنَوَّرَها فقَصَدَها، وعَشِيَ عنها إذا أعرضَ عنها قاصداً لغيرِها، ونظيرُ هذا مالَ إليه ومالَ عنهُ، قال الشاعرُ: مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إلَى ضَوْءِ نَارهِ تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مَوْقِدِومَن قرأ (يَعْشَ) بفتح الشينِ وهو من عَشَى يَعشَى إذا لم يُبصِرْ بالليلِ، والمعنى: ومَن يَعْمَ عن ذكرِ الرَّحمنِ. قال الزجَّاجُ: (مَعْنَى الآيَةِ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيْهِ مِنَ الْحِكْمَةِ إلَى أبَاطِيلِ الْمُضِلِّينَ، نُعَاقِبْهُ بشَيْطَانٍ نُقَيِّضُهُ لَهُ حَتَّى يُضِلَّهُ وَيُلاَزمَهُ قَرِيناً لَهُ فَلاَ يَهْتَدِي، مُجَازَاةً لَهُ حِينَ آثَرَ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبينِ). وقولهُ تعالى: ﴿ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ أي صاحبٌ يُزَيِّنُ له العَمَى ويُخَيِّلُ إليه أنَّهُ على الْهُدَى وهو على الضَّلالة، وذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ ﴾؛ معناهُ: وإنَّ الشياطين ليمنعونَهم عن سبيلِ الهدى.
﴿ وَيَحْسَبُونَ ﴾؛ الكفارُ.
﴿ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا ﴾؛ يعني الكافرَ إذا جاءَ يومَ القيامةِ ﴿ قَالَ ﴾، لقَرِينهِ وهو الشيطانُ الذي يُجعَلُ معه في سِلسلةٍ واحدةٍ: ﴿ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ ﴾؛ المشرقُ والمغرِبُ إذ كُنَّا في الدُّنيا فلم أرَكَ ولم تَرَنِي.
﴿ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ ﴾؛ كُنْتَ لِي. وإنما سُمِّيَ المشرقُ والمغربُ باسمٍ الواحد للازدواجِ، كما يقالُ للشَّمسِ والقمر: القَمَرَانِ، وفي تثنيةِ أبي بكرٍ وعمرَ: العُمَرَينِ، قال الشاعرُ: أخَذْنَا بآفَاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمُ لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُوقُرئ: (حَتَّى إذا جَاءَنَا) يعني الكافرَ وشيطانهُ يُبعثان يومَ القيامةِ في سلسلةٍ واحدة، كما رُوي أنَّ الكافرَ إذا بُعث يومَ القيامةِ مِن قبرهِ أخذ بيدهِ شَيطانهُ فلم يُفارقْهُ حتى يُصَيِّرهُما اللهُ إلى النار، فلذلك حيثُ يقولُ: (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبئْسَ الْقَرِينُ)، ويقولُ اللهُ في ذلك اليومِ للكافرين " و " أنت أيها الشيطان: ﴿ وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ ﴾؛ أي إذا أشرَكتُم في الدُّنيا.
﴿ أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾؛ قال المفسِّرون: لا يُخفَّفُ عنهم الإشراكُ شيئاً من العذاب، لأنَّ لكلِّ واحدٍ منهم الحظَّ الأوفرَ من العذاب، ولا يستأنِسُ بعضُهم ببعضٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ ﴾؛ أي أفأنتَ تُسمِعُ الكفارَ الذين يتصَامَمُون عن الحقِّ ويتعامَون عنهُ.
﴿ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾؛ أي بَيِّنٍ قد ظهرَتْ ضَلالتهُ.
قولهُ تعالى: ﴿ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ﴾؛ أي نُمِيتُكَ قبلَ أن نُرِيَكَ النَّقمَةَ في كفار مكَّة.
﴿ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ﴾؛ بالقتلِ بَعدَكَ.
﴿ أَوْ نُرِيَنَّكَ ﴾؛ في حياتِكَ ما.
﴿ ٱلَّذِي وَعَدْنَاهُمْ ﴾؛ من الذُلِّ.
﴿ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ ﴾.
بَيَّنَ اللهُ تعالى أنه قادرٌ على عقوبتِهم في حالِ حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبعدَ وفاتهِ. والأصلُ: في (إمَّا): (إنْ مَا) فحُذف الشرطُ (ان وما) صلةٌ ومتى دخلت (مَا) في الشرطِ للتوكيدِ دخلت النونُ الثَّقيلةُ المؤكِّدة في الفعلِ المذكور بعدَها. ومعنى الآية: أنَّ الله تعالى " قالَ " مُطَيِّباً لقلب نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم: إنْ ذهَبْنَا بكَ انتقَمنَا لكَ مِمَّنْ كَذبَكَ بعدَكَ أو نُرِيَنَّكَ في حياتِكَ ما وعدنَاهم من العذاب، فإنَّا قادِرُون عليهم متى شِئْنَا عذبنَاهُم ثم أُريَ ذلِكَ يومَ بدرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِيۤ أُوحِيَ إِلَيْكَ ﴾؛ أي استَمسِكْ بالقُرآنِ.
﴿ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾؛ أي القرآنُ شَرَفٌ لكَ ولَهم.
﴿ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾؛ عن شُكرِ هذه النِّعمةِ، يعني ما أعطاهُ الله من الحكمةِ وقومَهُ المؤمنين من الْهُدَى بالقرآنِ إلى إدراكِ الحقِّ، وقال مجاهدُ: (الْقَوْمُ هَا هُنَا الْعَرَبُ، وَالْقُرْآنُ لَهُمْ شَرَفٌ إذْ نَزَلَ بلُغَتِهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾؛ وذلك أنه" لَمَّا أُسرِيَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم بعثَ اللهُ آدمَ وجميعَ الْمُرسَلِينَ وأذنَ جبريلُ ثم أقَامَ، وقالَ: يا مُحَمَّدُ تقَدَّمْ فصَلِّ بهم، فلمَّا فرغَ من الصَّلاةِ قَالَ جِبْرِيلُ: سَلْ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ، هَلْ أرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ جَوَازَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " لاَ أسْأَلُ قَدِ اكْتَفَيْتُ " ". وَقِيْلَ: معناهُ: اسأَل أُمَمَ مَن أرسَلنا قبلَكَ، يعني مؤمني أهلِ الكتاب سَلْهُم هل جاءَتْهم الرُّسُلُ إلاَّ بالتوحيدِ، فلم يشُكَّ ولم يسأَلْ، (ومعنى الأمرِ بالسُّؤال لتقريرِ مُشرِكي قريشٍ أنه لَمْ يأتِ رسولٌ ولا كتابٌ بعبادةِ غير اللهِ تعالى).
قولهُ تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَـٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ﴾؛ أي يَهْزَأُونَ ويضحَكُون منها جَهْلاً وغفلةً.
قولهُ تعالى: ﴿ وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ﴾؛ يعني ما نرادفُ عليهم من الطُّوفان والجرَادِ والقُمَّلِ والضفادعِ والدَّمِ والطَّمْسِ، وكانت كلُّ آيةٍ من هذه الآياتِ أكبرَ مِن التي قبلَها، وهي العذابُ المذكور في قولهِ تعالى: ﴿ وَأَخَذْنَاهُم بِٱلْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾؛ لأنَّهم عُذِّبوا بهذه الآياتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَ ٱلسَّاحِرُ ﴾؛ قال الكلبيُّ: (يَا أيُّهَا الْعَالِمُ، وَكَانَ السَّاحِرُ فِيْهِمْ عَظِيماً يُعَظِّمُونَهُ، ولَمْ يَكُنْ " السِّحْرُ " صِفَةَ ذمٍّ، وَكَانَ عُلَمَاؤُهُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ السَّحَرَةُ، فَكَانُواْ يُوَقِّرُونَهُ بهَذا الْقَوْلِ، وَلَمْ يُرِيدُوا شَتْمَهُ). وقوله تعالى: ﴿ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ﴾؛ أي سَلْ ربَّكَ بما عَهِدَ عِندَكَ فيمن آمنَ بكَ ليكشِفَ العذابَ عنَّا، والمعنى: بمَا عَهِدَ فيمَنْ آمنَ به من كشفِ العذاب عنه.
﴿ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ﴾؛ مُؤمنون بكَ. فدَعَا مُوسَى ربَّهُ فكشفَ عنهم فلم يُؤمِنُوا، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ﴾؛ العهدَ الذي عَاهَدُوا موسَى، معناهُ: إذا هم يَنْقُضُونَ عهُودَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ ﴾؛ إلى قولهِ: ﴿ قَالَ يٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾؛ يعنِي أنْهارَ النِّيلِ تجرِي مِن تَحتِي؛ أي من تحتِ قُصوري وفي بساتينِي، وقال الحسنُ: (بأَمْرِي) فعلى هذا معناهُ: من تحتِ أمري، أفلا تُبصِرُونَ عظَمَتي وشدَّةَ مُلكِي وفضلِي على موسى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ ﴾؛ أي بل أنا خيرٌ من هذا الذي هو ضعيفٌ حقير، يعني موسَى؛ وإنما وصفَهُ بهذا لأنه كان يقومُ بأمرِ نفسه، ولم يكن أحدٌ يقومُ بأمرهِ، ومن ذلك المهنَةُ، وقولهُ تعالى: ﴿ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ ﴾؛ أي لا يكادُ يُبينُ الكلامَ، يعني أنه كان بلسانهِ لَثْغَةً من أثرِ العُقدةِ التي كانت، وكان مع ذلك بَليغاً مُبيناً.
قَولُهُ تََعَالَى: ﴿ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ ﴾؛ معناهُ: قالَ فرعونُ: هلاَّ أُلقِيَ على موسى أسوِرَةٌ من ذهبٍ إن كان رَسُولاً كما يُسَوِّرُ الملوكُ رُسُلَهم تَعظيماً لهم، وكان آلُ فِرعَون يلبَسُون الأسَاورَ، والأسْوِرَةُ جمعُ السِّوَار، والأسَاورُ جمعُ الأسْوِرَةِ. وقولهُ تعالى: ﴿ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ﴾؛ أي مُتَتابعِين يُعِينُونَهُ على أمرهِ الذي بُعث له، ويشهَدُون له بصِدقهِ. والمعنى: أنَّ فرعون قالَ: هلاَّ جاءَ معه الملائكةُ متعاونين يَمشُونَ معه فيدُلُّون على صدقهِ بنبوَّتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ﴾؛ أي استخفَّ فرعونُ عُقُولَ قومهِ القبطِ فوجَدَهم خِفَافَ العقولِ فأطاعوهُ على تكذيب موسى.
﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾؛ أي خارجين عن أمْرِنا.
قولهُ تعالى: ﴿ فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾؛ أي فلَمَّا أغضَبُونا انتقَمنا منهم، وجازَيناهم على معاصِيهم.
﴿ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾.
والآسَفُ: الْغَضَبُ في هذه الآيةِ، وأصلهُ في اللغة: الْحُزْنُ، إلاَّ أن الحزنَ لا يجوزُ في صفاتِ الله. وقولهُ تعالى: ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً ﴾؛ أي متقدِّمين، وَقِيْلَ: سَلَفاً إلى النار.
﴿ وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ ﴾؛ يُتمَثَّلُ بهم في الهلاكِ إلى آخر الدَّهرِ. وقرأ حمزةُ (سُلُفاً) بالضمِّ في السين واللامِ: جمعُ سَلِيفٍ وهو الماضِي مأخوذٌ من سُلُفٍ بضمِّ اللام يَسْلُفُ؛ أي تقدَّمَ فهو سَلِيفٌ. ومَن قرأ (سُلَفاً) بضمِّ السين وفتحِ اللام فهو جمعُ سُلَفَةٍ وهي الفِرقَةُ التي قد مضَتْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:" لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ... ﴾ الآيةُ، قَرَأهَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: أخَاصٌّ هَذا أمْ عَامٌّ؟ فَقَالَ: " عَامٌّ " فَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: فَإنَّ عِيسَى تَعْبُدُهُ النَّصَارَى، فَهُوَ وَالنَّصَارَى فِي النَّار، وَعُزَيْرٌ تَعْبُدُهُ الْيَهُودُ، وَخُزَاعَةُ تَعْبُدُ الْمَلاَئِكَةَ، فَإنْ كَانَ هَؤُلاَءِ فِي النَّار فَآلِهَتُنَا خَيْراً مِنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً ﴾ ". والمعنى: لَمَّا شبَّهوهُ بآلهتهم ﴿ إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾ يعني قومَهُ الكفارَ كانوا يضُجُّون ضجيجَ المجادَلةِ، حيث خاصَموهُ وقالوا: رضِينَا أن تكون آلهتَنا، وهو قولُهم: ﴿ وَقَالُوۤاْ ءَأَ ٰلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ﴾؛ أي ليست آلِهتُنا خيراً من عيسَى، فإنْ كان عيسَى في النار بأنه يُعبَدَ من دونِ الله فآلِهتُنا في النار. قرئ (يَصِدُّونَ) بكسرِ الصاد وضمِّها، قال الفرَّاءُ والزجَّاجُ والأخفش والكسائيُّ: (هُمَا لُغَتَانِ، مَعْنَاهُمَا: يَضُجُّونَ). وَقِيْلَ: يَصُدُّونَ: يُعْرِضُونَ. ومَنَ قرأ بكسرِ الصاد فمعناهُ: يضحَكُون. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً ﴾؛ أي ما ذكَروا لكَ وصفَ عيسى إلاَّ لِيُجادِلُوكَ به؛ لأنَّهم قد علِمُوا أن المرادَ بحصَب جهنَّم ما اتخذوهُ من الموتِ. ثم ذكرَ أنَّهم أصحابُ خصُومَاتٍ فقالَ: ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾؛ أي جَدِلُونَ بالباطلِ، وعن أبي أُمامةَ الباهليِّ أنه قالَ: (مَا ضَلَّ قَوْمٌ إلاَّ أُوْتُوا الْجَدَلَ. ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾؛ فيه بيانُ أنَّ عيسَى عليه السلام عبدٌ مثلُهم فضَّلَهُ بالنبوَّةِ والرسالةِ، والمعنى: أنعَمْنا عليه بالنبوَّةِ.
﴿ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾؛ أي جَعلنا خلقَهُ بغيرِ الأب آية تدلُّهم على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى وقُدرتهِ على ما يريدُ. ثم خاطبَ كفارَ مكَّة فقالََ تعالى: ﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً ﴾؛ أي لو نشاءُ أهلَكنَاكُم وجعلنا بَدَلاً منكم ملائكةً.
﴿ فِي ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ ﴾؛ كم يكون خَلَفاً منكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ ﴾؛ يعني نزولَ عيسى من أشراطِ السَّاعَةِ نعلمُ به.
﴿ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا ﴾؛ أي لاَ تَشُكُّنَّ في القيامةِ إنَّها كائنةٌ، ولا تُكَذِّبُوا، وَ؛ قُل لَهم: ﴿ وَٱتَّبِعُونِ ﴾؛ على التوحيدِ، و ﴿ هَـٰذَا ﴾؛ الذي أنا عليهِ.
﴿ صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾؛ أي دينٌ قائم لا عِوَجَ فيهِ.
﴿ وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾؛ أي لا يَصرِفنَّكُم عن هذا الدينِ.
﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾؛ أي ظاهرُ العداوةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾؛ أي بالْمُعجِزَاتِ، وقال قتادةُ: (يَعْنِي الإنْجِيلَ)، وقوله تعالى: ﴿ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ ﴾؛ أي بالإنجيلِ، وَقِيْلَ: بالنبوَّةِ، وَ؛ جئتكم ﴿ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾؛ فيما بينكم، قال مجاهدُ: (مِنْ أحْكَامِ التَّوْرَاةِ). فإن قِيْلَ: فهلاَّ بَيَّنَ لَهم جميعَ ما اختلَفُوا فيه وقد أُرسِلَ إليهم؟ قُلنا: قد اختلفوا فيه؛ قال بعضُهم: إنَّ الذي جاءَ به عيسى في الإنجيلِ إنما هو بعضُ الذي اختلَفُوا فيهِ، وقد بيَّنَ لهم من غيرِ الإنجيلِ ما احتاجُوا إليه. وقال بعضُهم: معناهُ: لأُبَيِّنَ لكم بعضَ الكتاب الذي تختلفون فيهِ، إذ كانوا مختلفين في بعضِ التَّوراةِ. وقال بعضُهم معناهُ: لأُبيِّنَ لكم أمرَ دينكم لأنَّهم كانوا مُختلفين في أمرِ دينهم ودُنياهم، والمقصودُ من إرسالِ الرسُلِ بيانُ الدينِ، فكان ذلك بعضَ ما اختلفوا فيه، وقد يذكَرُ البعضُ أيضاً بمعنى الكلِّ، كما قالَ الشاعرُ: قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُوأرادَ بالبعضِ الكلَّ، لأن المستعجلَ أيضاً قد يدركُ البعضَ.
﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ﴾؛ يعني اليهودَ والنصارَى، وَقِيْلَ: المرادُ به فِرَقَ النصَارَى على ما تقدَّم ذِكرهُ من الاختلافِ فيما بينهم في عيسَى عليه السلام، وقوله تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ﴾؛ أي هل ينظُرون إلاَّ القيامةَ أن تأتِيَهم فجأةً على غِرَّةٍ منهم، " مِنْ " غير تأهُّبٍ ولا استعدادٍ.
﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾؛ وقتَ مجِيئها. فإنْ قِيْلَ: كيف تُسمَّى القيامةُ الساعةَ وهي تشتملُ على خمسين ألفَ سَنة؟ قلنا: إنما سُمِّيت ساعةً لسُرعَةِ مجيئِها، ولأنَّها في جنب ما وراءَها ساعةٌ، وهي سريعةُ الانقضاءِ على المؤمنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾؛ يعني الأخِلاَّءَ في يومئذٍ؛ أي يومَ تأتي الساعةُ ﴿ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ يعني إذا كانت الْخِلَّةُ على المعصيةِ والكُفرِ صارت عداوةً يومَ القيامةِ.
﴿ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ يعني المؤمنينَ الذين يُخَالِلُ بعضُهم بعضاً على الإيمانِ والتقوَى، فإنَّ خِلَّتَهُمْ لا تصيرُ عدواةً. وفي الحديثِ:" أنَّ الأَخِلاَّءَ أرْبَعَةٌ: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ، فَإذا سُئِلَ الْمُؤْمِنُ عَنْ خَلِيلِهِ، قَالَ: مَا عَلِمْتُهُ إلاَّ أمَّاراً بالْمَعْرُوفِ نَهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُسْأَلُ الْمُؤْمِنُ الثَّانِي عَنْ خَلِيلِهِ، فَيَقُولُ مِثْلَ ذلِكَ، وَيُثْنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبهِ خَيْراً، فَتَزْدَادُ مُخَالَلَتُهُمَا فِي الآخِرَةِ عَلَى الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا. ثُمَّ يُسْأَلُ أحَدُ الْكَافِرِيْنِ عَنْ خَلِيلِهِ، فَيَقُولُ: بئْسَ الأَخُ؛ مَا عَلِمْتُهُ إلاَّ أمَّاراً بالْمُنْكَرِ، نَهَّاءً عَنِ الْمَعْرُوفِ، اللَّهُمَّ أضْلِلْهُ كَمَا أضَلَّنِي، وَيَقُولُ الآخَرُ مِثْلَ ذلِكَ، وَيُثْنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبهِ شَرّاً وَتَنْقَلِبُ مُخَالَلَتُهُمَا عَدَاوَةً، لأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي ذاتِ اللهِ تَعَالَى ".
قوله تعالى: ﴿ يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾؛ أي يقالُ للمتَّقين: يا عِبَادِي لا خوفٌ عليكم من أهوالِ القيامة وما بعدَها، ولا أنتُم تَحزَنُونَ إذا حَزِنَ الناسُ، فقولهُ: (الَّذِينَ) موضعُ نصبٍ على النعتِ لِعِبَادِي، لأن عِبَادِي مُنَادَى مضاف. وقولهُ تعالى: ﴿ وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾ أي خَاضِعينَ مُنقَادِين، يقالُ لَهم: ﴿ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ﴾؛ أي لأَنْتُم وحَلائِلِكُم المؤمناتِ تُكرَمُونَ غايةَ الإكرامِ بالتُّحَفِ والهدايا. ويقالُ: معنى: تُحبَرُونَ: تُسَرُّونَ، والْحُبُورُ السُّرُورُ.
قولهُ تعالى: ﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ ﴾؛ أي يَطُوفُ عليهم خَدَمُهم بقِصَاعٍ من ذهبٍ فيها من أنواعِ الأطعمَةِ اللَّذِيذةِ الشَّهيَّةِ، وواحدُ الصِّحَافِ: صَحْفَةٌ؛ وهي القَصْعَةُ الواسعةُ العريضة، وقولهُ تعالى: ﴿ وَأَكْوَابٍ ﴾؛ أي وأكوابٍ من ذهَبٍ، والأكوابُ جمع الكُوب، وهو إناءٌ مستدير مُدَوَّرُ الرأسِ لا عُروةَ له. وَقِيْلَ: الأكوابُ هي الأباريقُ التي لا خرَاطِيمَ لها ولا أُذُنَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ ﴾؛ أي في الجنَّة ما تتمنَّى الأنفُسُ وتستحسنهُ الأعيُن.
﴿ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِيۤ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؛ مِن الأعمالِ الصالحة.
﴿ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ ﴾؛ ألوان الفاكهةِ الكثيرة.
﴿ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾؛ أي إنَّ الْمُجرِمِينَ في عذاب جهنَّم دائمون.
﴿ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ﴾؛ أي يُرَفَّهُ عنهم ولا يُهَوَّنُ عليهم.
﴿ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾؛ أي آيسُونَ مِن الرَّوْحِ والرَّاحَةِ. والإبْلاَسُ هو: اليأسُ من الخيرِ، والْمُبْلِسُ هو الساكتُ المنقطعُ لِيَأْسِهِ من الفرحِ.
﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ﴾؛ بهذا العذاب.
﴿ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ لأنفُسِهم بالكفرِ والمعاصي. وفي قراءةِ ابنِ مسعود (الظَّالِمُونَ) بالرفعِ على لُغة تَميم يُعمِلُونَ الْمُضْمَرَ قبلَهُ، وأما على القراءةِ التي ليست في المصحَفِ (فَهُمْ) زيادةٌ وفصلٌ لا موضعَ لها من الإعراب بمنْزِلة (مَا) في قولهِ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ ﴾[آل عمران: ١٥٩].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾؛ وذلكَ أنَّهُ إذا اشتدَّ عليهم العذابُ وقد صيَّرَهم، تَمَنَّوا الموتَ، فنادَوا مَالِكاً خازنَ جهنَّم: يا مالِكُ ادعُ لنا ربَّكَ يقضِي علينا بالموتِ فنستريحَ من العذاب بعد أربعين سنةً.
﴿ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ﴾؛ مُقيمون دائمون، وعن ابنُ عبَّاس: (أنَّهُمْ يُنَادُونَ مَالِكاً ألْفَ سَنَةٍ فَيُجِيبُهُمْ: إنَّكُمْ مَاكِثُونَ فِي الْعَذاب)، وقرأ عليٌّ وابنُ مسعودٍ: (يَا مَالِ) بالترخيمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي لقد أرسَلنا إليكم يا معشرَ قُريش مُحَمَّداً رسُولَنا بالحقِّ.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾.
قولهُ تعالى: ﴿ أَمْ أَبْرَمُوۤاْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ﴾؛ أي بل احكَمُوا عند نُفوسِهم أمراً في كيدِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم والْمَكْرِ به، فإنَّا مُحكِمُونَ أمْراً في مُجازَاتِهم شَرّاً بشَرٍّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾؛ السِّرُّ ما يعقدهُ الإنسانُ في نفسهِ ويُضمِرَهُ بقلبهِ، والنَّجوَى ما يُحَدِّثُ به غيرَهُ في الخِفْيَةِ، وقولهُ تعالى (بَلَى) أي نسمَعُ سِرَّهم ونَجوَاهُم، ورسُلُنا هم الْحَفَظَةُ عندَهم، يكتُبونَ عليهم ذلكَ. ويقالُ: إنَّ هذه الآيةَ نزلت في ثلاثةِ نَفَرٍ من المشركين، وهم صفوانُ بن أُمَية، وربيعةُ بن عمرٍو وأخوهُ حبيبُ بن عمرٍو، وكانوا يَمْكُرُونَ في قتلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أخبرْنَا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ لأصحابهِ: إنَّ الله يعلَمُ السرَّ يكون بين الاثنينِ، أفَتَرَوْنَهُ يعلمُ ما نقولُ؟ قال ربيعةُ: أراهُ يعلَمُ بعضَ ما نقولُ ولا يعلَمُ بعضاً، فقال صفوانُ: ولا كلمةً واحدةً، ولو عَلِمَ بعضَهُ لعلمَهُ كُلَّهُ، فأنزلَ اللهُ تعالى هذهِ الآيةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ ﴾؛ وذلك أنَّ المشركين لَمَّا قالوا: لله ولدٌ! ولَم يرجِعُوا عن مَقالَتِهم، أنزلَ اللهُ هذه الآيةَ، والمعنى: قُل لَهم يا مُحَمَّدُ: ﴿ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ ﴾ في زَعمِكم ﴿ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ ﴾ مَن عبدَ اللهَ وحدَهُ وكذبَكم بما تقولون، هكذا رُوي عن مجاهد. وقال قتادةُ والحسن: (مَعْنَاهُ: مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، وَأنَا أوَّلُ مَنْ عَبَدَ اللهَ مِنْ أهْلِ هَذا الزَّمَانِ). وَقِيْلَ: معناهُ: إنْ كان للرَّحمنِ ولدٌ كما تزعمون فأنَا أوَّلُ مَن غَضِبَ للرحمنِ، فعلى هذا القولِ العَابدُ من العَبَدِ بمعنى الغَضَب. وقال الفرَّاءُ: (عَبَدَ عَلَيْهِ أيْ غَضِبَ عَلَيْهِ). وَقِيْلَ: معناهُ: فأنا أوَّلُ الآنِفِينَ، يقالُ: عَبَدَ يَعْبُدُ؛ إذا أنِفَ وَغَضِبَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ نَزَّهَ اللهَ تعالى نفسَهُ مما يقولُ المشركون؛ أي تَنْزِيهاً لخالقِ السَّماواتِ والأرضِ.
﴿ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾؛ يُضِيفُونَ إليه مِن الولدِ.
قوله تعالى: ﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ ﴾؛ أمرٌ بتركِهم على وجه التوبيخِ؛ أي اترُكْ يا مُحَمَّدُ كفارَ مكَّة يخوضُوا في أباطيلِهم، ويلعَبُوا في دُنياهم بمقالتِهم حتى يُعاينُوا يومَ القيامةِ.
قولهُ تعالى: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ ﴾؛ أي هو معبودُ مَن في السَّماوات ومَن في الأرضِ، لا معبودَ غيرهُ ولا إلهَ إلاَّ هُوَ.
﴿ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ في أمرهِ وقضائه.
﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾؛ بخلقهِ وتدبيرِهم.
قولهُ تعالى: ﴿ وَتَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾؛ أي تعالَى ودامَ الذي بيدهِ خزائنُ السماوات والأرضِ وما بينهما.
﴿ وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ ﴾؛ أي عِلمُ قيامِ الساعة، لا يعلَمُ وقتَها أحدٌ غيرهُ.
﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾؛ في الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ ﴾؛ أي لا يَملِكُ الذين يدْعُونَ من دونهِ الشفاعةَ، ثُم استَثْنَى عيسَى والعزيرَ والملائكةَ فقالَ: ﴿ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي مَن شَهِدَ أنَّهُ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ.
﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾؛ بقُلوبهم ما شَهِدُوا به بأَلسِنَتِهم. والمعنى: إلاَّ مَن شَهِدَ بكلمةِ التوحيد، وعَلِمَ بقَلْبهِ أنَّها حقٌّ.
قولهُ تعالى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾؛ أي ولئِنْ سألتَ هؤلاءِ الذين عَبَدُوا غيرَ اللهِ: مَن خلَقَهم وخلَقَ معبودَهم؟ ليقُولُنَّ: اللهُ خلَقَهم، فمِن أين يُصرَفُونَ عن عبادةِ اللهِ مع معرفتِهم بأنه الخالقُ، والخالقُ أولى بالعبادةِ من المخلوقِ؟
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقِيلِهِ يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾؛ من قرأ بنصب اللام؛ فمعناهُ: يعلمُ قيامَ الساعة، ويعلمُ (قِيلَهُ) محمد يا ربِّ؛ لأن معنى﴿ وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ ﴾[الزخرف: ٨٥] ويعلمُ قيامَ الساعةِ. وقيل: انتصبَ عطفاً على قوله﴿ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ﴾[الزخرف: ٨٠] كأنه قال: أمْ يحسبون أنا لا نسمعُ سِرَّهم ونجواهم، (وَقِيلَهُ) يا ربِّ في شكوى منهم إلى ربه. قال المبرِّدُ: (الْعَطْفُ عَلَى الْمَنْصُوب حَسَنٌ وَإنْ تَبَاعَدَ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ). ومَن قرأ (وَقِيلِهِ) بكسرِ اللامِ فهو على معنى: وعندَهُ علمُ الساعةِ وعلمُ قِيلِهِ. والقِيْلُ مصدرٌ كالقولِ، يقالُ: قلْتُ قَوْلاً وقِيْلاً وقَالاً. ولو قُرئ (وَقِيلُهُ) بالرفعِ على معنى: وقيلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، هذا كان جائزاً في الكلامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ ﴾؛ أي أعرِضْ عنهم إلى أن تُؤمَرَ فيهم بشيءٍ.
﴿ وَقُلْ سَلاَمٌ ﴾، قال عطاءُ: (يُرِيدُ مُدَارَاةً حَتَّى يَنْزِلُ حُكْمِي)، ومعناهُ: الْمُتَارَكَةُ؛ أي سلامُ هِجرَانٍ وتركٍ لا سلامَ تحيَّةٍ.
﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ عاقبةَ كُفرِهم، وماذا ينْزِلُ بهم فيَندَمُونَ حين لا ينفعُهم الندمُ. ومَن قرأ (تَعْلَمُونَ) فعلى الأمرِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بأن يُخاطِبَهم بهذا، قال مقاتلُ: (نَسَخَ السَّيْفُ الإعْرَاضَ وَالسَّلاَمَ).