تفسير سورة الأحقاف

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الأحقاف مكية وآياتها خمس وثلاثون، نزلت بعد سورة الجاثية. وتعالج سورة الأحقاف قضية العقيدة كسائر السور المكية، وقد جاء الحديث فيها مفصّلا عن قضية الإيمان بوحدانية الله وربوبيّته المطلقة، والإيمان بالوحي والرسالة، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول سبقته الرسل، أوحي إليه القرآن مصدِّقا لما سبقه من الكتب المنزلة، والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء.
وسميت " سورة الأحقاف " لقوله تعالى :﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذرَ قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه... ﴾ الآية.
وأخو عاد هو النبي هود عليه السلام، بعثه الله إلى قوم عاد وكانوا من أقوى الأمم أجسادا، وأغناهم مالا، وأكثرهم أولادا. وكانت منازلهم في الأحقاف ( ومعناها الرمال واحدها حِقف ) بين عمان وحضرموت. وكانت لهم حضارة وعناية بالعمران، لا تزال أنقاض بعض أبنيتهم في حضرموت في " وادي عدم " وشرقيه " وادي سونة ". وقد بادت وأصبح اسمها رمزا للقِدم، ويقال الآن " العاديّات " لكل شيء قديم.
بدأت السورة بالحروف المقطعة، ثم تحدّثت عن أن هذا القرآن من عند الله.. وبعد ذلك أشارت إلى كتاب هذا الكون العجيب وما فيه من آيات، وأن قيامه على الحق، وإن ظلّ الذين كفروا معرضين عن قبوله. وبعد ذلك تأخذ السورة في عرض قضية التوحيد، وإقامة الأدلة عليه، والرد على عَبدة الأصنام، وأن وضعهم لا يقوم على أساس من الواقع، ولا مأثور من العلم. ثم تذكر المعارضات التي ابتدعها المشركون للنبوة، والإجابة عنها وبيان فسادها، وتعقّب حال أهل الاستقامة الذين صدّقوا الأنبياء، وأن جزاءهم الجنة والنعيم المقيم.
وهي إذ تذكر وصايا للناس من إكرام الوالدين وعمل ما يرضي الله، وبعض الدعوات الصالحات ﴿ أولئك الذين نتقبّل منهم أحسن ما عملوا... ﴾-لا تُغفل المقابل من المنكرين العاقّين لوالديهم ﴿ من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ﴾
وما ينتظرهم من مآل سيّء.
وبعد ذلك يجيء ذكر قصص عاد وما عاثوا من الفساد. لقد طغوا فكان مصيرهم الهلاك ﴿ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾.
وفي السورة شيء جديد هو قوله تعالى :﴿ وإذ صرفنا نفرا من الجن يستمعون القرآن ﴾ وبعد سماعهم وإنصاتهم له ذهبوا إلى قومهم وأنذروهم وطلبوا منهم أن يُجيبوا داعيَ الله.
وتُختم السورة بتوجيه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه إلى الصبر وعدم الاستعجال بالعذاب لمن أنكروا رسالته ﴿ فاصبرْ كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم ﴾ فإن ما ينتظرهم قريب.

افتتحت سورة الأحقاف بحرفين من حروف الهجاء مثل كثير من السور غيرها وقد تقدم الكلام على ذلك،
وكذلك نص الآية ﴿ تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم ﴾ مثل افتتاح سورة الجاثية.
أجل مسمى : يوم القيامة.
أُنذِروا : اعلِموا وخوفوا.
ما خلقْنا هذا الكونَ العجيب إلا على نواميس ثابتة، وحكمة بالغة، وإلى أمد معين هو يوم القيامة.. أما الذين كفروا بالله ورسله فهم معرِضون عما أُنذِروا به من أنهم يبعثون بعد الموت للحساب والجزاء.
تدْعون : تعبدون.
أم لهم شِرك : أم لهم نصيب.
أو أثارة من علم : بقية من علم.
ثم يردّ اللهُ تعالى على من يعبد غيره من المشركين فيأمر الرسولَ الكريم أن يقول لهم : أخبِروني عن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله ؟ هل خلقوا شيئاَ في هذه الدنيا، أم أنهم شاركوا في خلْق السموات ؟ إنْ كان ما تدّعون حقا فأْتوني بكتابٍ من قبل هذا القرآن، أو أي أثرٍ من عِلم الأولين تستندون إليه في دعواكم ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
وأيّ ضلالٍ أكبر ممن يعبد معبوداتٍ لا تسمع ولا تنطق ولا تستجيب أبدا ! والمشركون مع ذلك غافلون عن هذه الحقيقة.
وإذا حشِر الناس : إذا جمعوا يوم القيامة.
حين يُجمع الناس للحساب يوم القيامة تتبرأ هؤلاء المعبودات من المشركين وتغدو أعداء لمن عبدوهم ﴿ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ ومثله قوله تعالى :﴿ واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨١-٨٢ ].
للحق : للقرآن.
بعد أن قرر الله تعالى وحدانيته وثبّتها، ونفى الأضدادَ وكل ما يُعبد غيره، يقرر هنا أن رسالة سيدنا محمد حق، وأن الرسول كلّما تلا على مشركي قومه شيئا من القرآن قالوا إنه سِحر.
افتراه : كذب به.
فلا تملكون لي من الله شيئا : لا تغنون عني شيئا إن أراد الله عقابي.
تفيضون فيه : تخوضون في من تكذيب القرآن.
بل زادوا في تكذيبه فقالوا إنه افتراه. ويردّ الله عليهم بأنه لو افتراه على الله فمن يمنع الله من عقابه ! ! والله هو العليم بما يخوضون فيه من أحاديث وتكذيب !
﴿ كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الغفور الرحيم ﴾.
كفى بالله شهيداً لي بالصدق، وشهيداً عليكم بالكذب. ثم يجيء التعقيب اللطيف :﴿ كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الغفور الرحيم ﴾.
كفى بالله شهيداً لي بالصدق، وشهيداً عليكم بالكذب. ثم يجيء التعقيب اللطيف :﴿ وَهُوَ الغفور الرحيم ﴾ فإن الله مع كل هذا الكفر والعناد من المشركين يُبقي بابَ التوبة والمغفرة والرحمة مفتوحاً دائما، فلا يقنط من رحمته أحد.
ما كنتُ بدعا من الرسُل : هناك قبلي رسل كثير، فما أنا أول رسول لا مثيل لي.
ثم يأمر رسولَه الكريم أن يقول لهم : إني لستُ أول رسول من عند الله فتنكروا رسالتي، ولست أعلمُ ما يفعل الله بي ولا بكم، وما أتّبع فيما أقول أو أفعل إلاّ
ما يوحيه إليّ الله ﴿ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾.
يقول معظم المفسّرين : إن هذه الآية بالذات مدنية، قد نزلت في عبدِ الله بن سَلام، وكان من أكبرِ علماءِ بني إسرائيل، أسلم بالمدينة، وأحدثَ إسلامُه ضَجّةً عند اليهود، وقصتُه طويلة يُرجَع إليها في كتب الحديث والسيرة.
ويكون المعنى : قل لهم أيها الرسول : أخبِروني إن ثبتَ أنّ القرآنَ حقٌّ من عند الله، وآمن به عالِمٌ من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام الذي يُدرك أسرارَ الوحي ويشهد أن القرآن من عند الله كالتوراة التي أَنزلها على موسى... ماذا يكون حالُكم إذا بقيتم على ضلالِكم وكفركم ؟ أفلا تكونون من الظالمين ؟.
وقال جماعة من المفسرين : إن الشاهدَ موسى بن عمران، وإن التوراة مثلُ القرآن كلاهما من عند الله، وإن موسى شهِدَ على التوراة، ومحمدٌ شهِدَ على القرآن صلى الله عليهما وسلم. وهذا ما يُرجِّحه الطبري، لأن السورة مكية، فيما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة بعد الهجرة.
ثم حكى عن المشركين شُبهةً أخرى بشأن إيمان من آمَنَ من المسلمين من الفقراء كَعَمّار وصُهَيب وابنِ مسعود وغيرِهم فقالوا : لو كانَ هذا الدينُ خيراً ما سبَقَنا إليه هؤلاء الضعفاءُ من الناس، وإنما قرآن محمد إفكٌ قديم من أساطير الأولين.
وقد ردّ الله عليهم طَعْنَهم هذا في القرآن وأثبت صحته فقال :
﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ ﴾.
القرآن كالتوراة التي نزلت على موسى، كلٌّ منهما إمامٌ ورحمةٌ لمن آمن به وعمِلَ بموجبه، وقد بشَّرت التوراةُ بسيّدنا محمد :﴿ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ]. وهذا القرآنُ مصدِّق بالتوراة وما قبلَه من الكتب، وينطِق بلسانكم أيها العربُ، وينذِرُ من أساءَ بالعذاب، ويبشّر من أحسنَ بالثواب، فكيف يكون إفكاً قديماً، وسحرا وأساطير ؟
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر ويعقوب وابن كثير : لتنذر بالتاء. والباقون : بالياء
إن الذين قالوا ربُّنا الله الذي لا إله غيره، ثم أحسَنوا العملَ واستقاموا عليه بإيمان كامل، لا خوفٌ عليهم من فزعِ يوم القيامة وأهواله، وهُم لا يحزنون على ما خلّفا وراءهم بعد مماتهم.
أولئك هُم أهلُ الجنة خالدين فيها، ثواباً لهم من الله على أعمالهم الصالحة التي كانوا يعملونها في الدنيا. وهذه أحسنُ بُشرى يزفُّها القرآن الكريم للمحسنين، فهنيئا لهم.
وصّينا الإنسان : أمرناه أن يفعل كذا.. ومثله أوصاه.
كُرها : بضم الكاف وفتحها : مشقة.
حَمْله وفصاله : مدة حَمْلِه وفطامه.
أشده : صار بالغا مستحكما القوة والعقل.
أوزِعني : ألهِمني، رغّبني، وفقني.
أصلحْ لي في ذريتي : اجعل لي خلَفاً صالحا.
ثم تأتي الوصيّة بالوالدَين، وقد وردت التوصية بهما في غير آيةٍ لِما للوالدَين من منزلةٍ كبيرة وكريمة في وجود الإنسان.
ووصّينا الإنسانَ بأن يحسِن إلى والديه ويبرَّهما في حياتهما وبعد مماتهما، وخصَّ الأمَّ بالكلام لأنها تقاسي في حمله مشقةً وتعبا، وفي وضعه آلاماً كثيرة، ثم في إرضاعه وتربيته. فالطفلُ يقضي معظم وقتِه مع أمهِ، وفي رعايتها وحنانها وعطفها.. لهذا كلّه تستحقّ الكرامةَ وجميل الصحبة والبر العظيم. وقد وردت أحاديث كثيرة تحثّ على بِرّ الأمهات.
روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« أمَّكَ ثم أمك ثم أمك، ثم أباك » ورواه أحمد وأبو داود والحاكم عن معاوية بن حيدة.
وهناك حديث مشهور :« الجنّةُ تحت أقدام الأمهات » رواه الخطيب والقضاعي عن أنسٍ رضي الله عنه، وروي أيضاً عن ابنِ عباس رضي الله عنه.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي قال لرجلٍ يسأله عن حقوق الوالدين :«هما جنَّتاك ونارك » وفي البخاري ومُسْلم والترمذي :« أحقُّ الناسِ بالصحبة الأم » والأحاديثُ كثيرة يمكن الرجوع إليها في كتب الحديث.
﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ﴾
يعني أن مدة الحمل والفطام ثلاثون شهرا، تكابد الأم فيها الآلامَ الجسمية والنفسية، فتسهَرُ الليالي العديدةَ على طفلها، وتغذّيه وتقوم بجميع شئونه بلا ضَجَر ولا ملل.
ويؤخذ من هذه الآية ﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ﴾ ومن الآية :﴿ والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ] أنّ أقلَّ مدة الحمل ستةُ أشهرٍ فإذا ولدت امرأة ولداً بعد ستة أشهر من دخولها في عصمة الزوج يُعترف به.
حتى إذا بلغ كمالَ قوّته وعقله ببلوغه أربعين سنةً، ويكون في كامل قواه الجسمية والعقلية، يقول عندها : ربِّ ألهِمني شُكرَ نعمتك التي تفضّلتَ بها عليّ وعلى والديّ، ووفقني إلى العمل الصالحِ الذي ترضاه، وارزقني ذريةً صالحة تسير على درب الهدى والإيمان، إني تُبت إليك من كلّ ذنب ﴿ وَإِنِّي مِنَ المسلمين ﴾ المستسلمين لأمرِك ونَهيك.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة : إحسانا وقرأ الباقون : حسنا. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو عمرو : كَرها بفتح الكاف. والباقون : كُرها بضمها وهما لغتان. وقرأ يعقوب : وفصله، والباقون : وفصاله. وهما لغتان.
في أصحاب الجنة : يدخلون الجنة مع الذين أنعم الله عليهم.
هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات الحميدة نتقبّل منهم أعمالَهم الحسنة، ونجازيهم عليها أحسنَ الجزاء. وهم منتظِمون في سلك أصحاب الجنة ﴿ وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ ﴾ والله تعالى لا يُخْلف وعده.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وحفص : نتقبل، ونتجاوز بالنون. والباقون : يتقبل ويتجاوز بالياء.
أف : كلمة معناها التضجّر، وهي مستعملة كثيرا.
أن أُخرج : أن ابعث من القبر.
خلت القرونُ من قبلي : مضت الأممُ من قبلي ولم يبعث أحدٌ من قبره.
ويلك : دعاء عليه بالهلاك. الهلاك لك.
أساطير الأولين : أباطيلهم وخرافاتهم.
بعد أن مضى الحديث عن حال البررة من الأولاد، بيّن هنا حالَ الأشقياء العاقّين للوالدَين، الجاحدين المنكرين للبعث والحساب.
والفريق الثاني من الناس هو الذي ينهر والديه ويقول لهما أفّ لكما ولما تؤمنان به، أتقولان لي : إني سأُبعث من قبري حيّا بعد موتي، وقد مات قبلي كثيرٌ من الناس لم يعُدْ منهم أحد، أنا لا أصدّق هذا ولا أومن به !
ووالداهُ يستصرخان اللهَ مستغيثين أن يوفق ولدهما إلى الإيمان، ويقولان له : ويلكَ، آمِنْ قبل أن تهلك وتموتَ ثم تحشَر إلى النار، ﴿ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ﴾ فيردّ عليهم بأنّ كل ما يقولانه خرافاتٌ من أساطير الأقدمين.
قراءات :
قرأ هشام : أتعدانّي بنون واحدة مشددة. والباقون : أتعدانني بنونين بدون تشديد. قراءات :
حقَّ عليهم القول : حق عليهم العذاب.
الخاسرين : الّذين ضيّعوا أنفسهم باتّباع شهواتهم وعدم الإيمان بالله ورسوله.
هذا الصنف من البشَر هم الذين حقَّ عليهم وقوعُ العذاب مع أممٍ قد مضت من قبلِهم من الجنّ والإنس، ﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ ﴾.
روى البخاري والترمذي وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« إن من أكبرِ الكبائر أن يلعنَ الرجلُ والديه أو يعقَّهما ».
الدرجات : المنازل.
ولكل من المؤمنين والكافرين منازلُ تلائمهم بحسب أعمالهم، ليظهرَ عدلُ الله فيهم، وليوفيهم جزاءَ أعمالهم ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وابن ذكوان : لنوفيهم بالنون. والباقون : ليوفيهم بالياء.
أذهبْتم طيباتكم : أذهبتم حياتكم وشبابكم وقوّتكم باتّباع شهواتكم في الدنيا.
الهُون : الهوان والذل.
واذكر أيّها الرسول، يومَ يُعرض الكافرون على النار يقال لهم : لقد استوفيتم ملذّاتِكم وشهواتِكم في الدنيا، و استمتعتُم بها، فاليومَ لكم أشدُّ العذاب بالذلّ والهوان بما كنتم في الدنيا تفسُقون وتستكبرون.
قراءات :
قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب : أأذهبتم طيباتكم بالاستفهام، والباقون : بهمزة واحدة، وابن كثير يقرأ بهمزة ممدودة.
أخا عاد : هو هود عليه السلام.
الأحقاف : جمع حِقف بكسر الحاء، رمال معوجة مستطيلة، وهي بلاد بين عُمان وحضرموت كما تقدم في الكلام على مقدمة السورة.
النذُر : جمع نذير، وهو المنذر.
من بين يديه : من قبله.
ومن خلفه : من بعده.
اذكر أيها الرسول، لقومك المكذِّبين هوداً، أخا قوم عادٍ، الذي حذّر قومه الذين كانوا يسكنون الأحقاف. وقد مضت الرسُل قبله وبعدَه بمثل ما أنذَر به قومه، إذ قال لهم : لا تعبدوا إلا الله وحده، ﴿ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾.
لتأفكنا : لتصرفنا.
بما تعدنا : من تعجيل العذاب.
فما كان جوابُ قومه إلا أن قالوا : أجئتنَا لتَصرِفَنا عن عبادة آلهتنا، فأتِنا بما تعِدُنا من العذابِ إن كنتَ من الصادقين.
فقال هود : إنما العِلم بوقتِ عذابكم عندَ الله وحده، وأنا أبلِّغكم رسالة ربي إليكم، ﴿ ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ﴾ ما تُبعث به الرسُل وما في مصلحتكم.
العارض : السحاب الذي يعرض في أفق السماء.
مستقبل أوديتهم : متجها إليها.
فأتاهم العذابُ في صورة سحاب. فلَمّا رأَوه ممتدّا في الأفُق مقبلاً على أوديتهم ظنّوه غيثاً فقالوا فرِحين : هذا سحابٌ جاءنا بالمطر والخير. فقيل لهم : بل هو العذابُ الذي طلبتموه واستعجلتم به. إنها ريحٌ فيها عذابٌ شديدُ الألم.
تُهلك كلَّ شيء بأمر ربِّها. ولقد دمرتْهم واستأصلت جميع الأحياء في تلك البلاد.
﴿ فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ﴾
أصبحوا أثراً بعد عَيْن. بمثل هذا نجزي كلَّ من أجرمَ واستكبر ولم يؤمن بالله ورسله.
قراءات :
قرأ عاصم وحمزة وخلف : لا يُرى إلا مساكنهم بضم الياء من يرى، ورفع النون. والباقون : لا تَرى إلا مساكنهم بفتح التاء ونصب النون.
وحاق بهم : نزل بهم.
ولقد مكنّا عاداً وقومه بالقوة والسَّعة ما لم نمكّن لكم يا أهل مكة، وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة لم ينتفِعوا بها لأنهم كانوا مصرّين على إنكار بآيات الله وجحدوها.
﴿ وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾
وأحاط بهم العذابُ الذي كانوا يستهزئون به.
صرّفنا الآيات : بيناها.
ولقد أهلكنا القرى التي كانت حولكم يا أهلَ مكة، وبينّا لهم الآياتِ المتنوعةَ والحجج لعلّهم يرجعون عن الكفر. فلم يَرعَووا ولم يرجِعوا. فخُذوا عبرةً من كل ما تلوناه عليكم وارجِعوا عن كفركم وعبادةِ الأوثان لعلّكم تُفلحون.
والمقصود بالقرى التي حولَهم هي أقوام هود وصالح ولوط وشعيب لأنهم كانوا حول ديارهم.
قرباناً : متقربا بها إلى الله.
ضلّوا عنهم : غابوا عنهم.
وذلك إفكُهم : وذلك الذي حل بهم عاقبة كذبهم وافترائهم.
هنا يقول الله تعالى : لم تَنصرهم آلهتُهم وأوثانهم الذين عبدوهم من دون الله، واتّخذوا عبادتَهم قرباناً يتقرّبون به إلى ربهم فيما زعموا، بل غابوا عنهم وتركوهم في أحرجِ الأوقات.
﴿ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾
وذلك الذي حلّ بهم من خِذلان آلهتهم لهم وضلالِهم عنهم هو عاقبةُ كذِبهم.
صرَفَنا إليك : وجّهنا إليك.
النفر : ما بين الثلاثة والعشرة.
قُضِيَ : فرغ من تلاوته.
ولّوا : رجعوا.
بعد أن ذكر اللهُ أن في الإنس من آمنَ ومنهم من كفر، بيّن هنا أن الجنّ كذلك، وأنهم عالَمٌ مستقلّ بذاته. ويجب أن نعلم أن عالَم الملائكة وعالَم الجن يختلفان عنا تمامَ الاختلاف ولا نعلم عنهما شيئا إلا من الأخبار التي جاءت بها الرسُل الكرام. ونحن نؤمن بوجودهما، وأن النبيّ عليه الصلاة والسلام بلّغ الجنَّ رسالته كما ورد هنا وفي عدد من السور.
أخرج مسلم وأحمد والترمذي عن علقمة قال : قلت لعبدِ الله بن مسعود، هل صحبَ رسولَ الله منكم أحد ليلة الجنّ ؟ قال ما صحبه منا أحد، ولكنّا افتقدناه ذات ليلة، فبتنا بشرِّ ليلة باتَ بها قوم. فلمّا كان وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قِبَل حِراء، فقال : أتاني داعي الجن فأتيتُهم فقرأتُ عليهم القرآن. فانطلق فأرانا آثارهم... الحديث.
وخلاصة معنى هذه الآية :
لقد وجّهنا إليك أيها الرسول مجموعة من الجن ليستمعوا القرآن، فلما سمعوه قالوا : أنصِتوا. فلما فرغ من قراءته رجعوا إلى قومهم فأنذروهم.
وقالوا لهم : يا قومنا، لقد سمعنا آياتٍ من كتاب أنزله الله من بعد موسى مصدِّقاً
لما تقدَّمه من الكتب الإلهية، يهدي إلى الحق، وإلى شريعة قويمة، وحياة كريمة.
داعي الله : رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من يجِرْكم : من ينقذكم.
فآمِنوا به يغفرْ لكم من ذنوبكم. يا قومنا أَجيبوا داعي الله الذي يهدي إلى الحق.
ومن لم يجب الداعي فإن الله سيهلكه، ولن يستطيع أحد أن يحميَه، إن الذين
لا يطيعون الله ورسوله في ضلال مبين.
لم يعيَ : لم يعجز.
يبين الله تعالى هنا أن الذي خلق هذا الكونَ العجيب بمفرده ولم يُعجِزه خلْقُه
وما فيه، يقدر على إعادة الموتى وإحيائهم من جديد، ﴿ بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
قراءات :
قرأ يعقوب : يقدر. والباقون : بقادر.
ويوم يوقَف الذين كفروا ويُعرضون على النار، يقول الله لهم : أليست النارُ حقيقةً واقعة ؟.
فيقولون : بلى واللهِ إنها الحق. فيقال لهم : ذوقوا عذابَ النار الذي كنتم به تكذِّبون.
أولو العزم : أصحاب الجد والصبر والثبات.
بلاغ : كفاية في الموعظة.
فاصبر أيها الرسول، على ما أصابك من أذى وتكذيب، كما صبر أولو العزم من الرسُل قبلك، ولا تستعجل لهم العذابَ فهو واقعٌ بهم لا محالة، كأنّهم يومَ يشاهدون هولَه يظنّون أنّهم ما أقاموا في هذه الدنيا إلا ساعةً من نهار.
إن هذا القرآن بلاغٌ لهم، فيه الكفاية لمن طلب الرشد والهداية.
ثم بعد ذلك أوعد وأنذر فقال :﴿ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون ﴾.
وهكذا تنتهي هذه السورة الكريمة بالوعيد للفاسقين، وما الله يريد ظلماً للعباد.
Icon