تفسير سورة الفتح

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مدنية وآياتها ٢٩، هذه السورة نزلت على النبي صلى الله عليه و سلم منصرفة من الحديبية وفي ذلك أحاديث كثيرة عن أنس وابن مسعود وغيرهما وفي تلك السفرة قال النبي صلى الله عليه و سلم لعمر :" لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها " خرجه البخاري وغيره.

تفسير سورة الفتح
وهي مدنيّة هذه السورة نزلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم منصرفه من الحديبيّة، وفي ذلك أحاديث كثيرة عن أنس «١» وابن مسعود غيرهما «٢»، وفي تلك السفرة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعمر: «لقد أنزلت عليّ اللّيلة سورة هي أحبّ إليّ من الدّنيا وما فيها» خرّجه البخاريّ وغيره.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤)
قوله عز وجل: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً... الآية، قال قوم: يريد فَتْحَ مَكَّةَ، وقال جمهور الناس، وهو الصحيح الذي تَعْضُدُهُ قصة الحديبية: إنَّ قوله: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ إنَّما معناه هو ما يسرّ الله عز وجل لنبيِّه في تلك الخرجة من الفتح البَيِّنِ الذي استقبله، ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين لأَنَّهم كانوا استوحشوا من رَدِّ قريشٍ لهم ومن تلك المهادنة التي جعلها/ اللَّه سبباً للفتوحات، واستقبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في تلك السفرة أَنَّهُ هَادَنَ عَدوَّه ريثما يَتَقَوَّى هو، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية حيث وضع فيه
(١) أخرجه البخاري (٧/ ٥١٦) كتاب «المغازي» باب: غزوة الحديبية، قول الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: ١٨] (٤١٧٢)، (٨/ ٤٤٧) كتاب «التفسير» باب: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (٤٨٣٤)، ومسلم (٣/ ٤١٣) كتاب «الجهاد والسير» باب: صلح الحديبية في الحديبية (٩٧، ٩٧/ ١٧٨٦)، والترمذي (٥/ ٣٨٥- ٣٨٦) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الفتح (٣٢٦٣)، وأحمد (٣/ ١٧٣)، وابن ماجه (٢/ ٩٢، ٩٤) كتاب «البر والإحسان» باب: ما جاء في الطاعات وثوابها (٣٧٠- ٣٧١)، والبيهقي (٥/ ٢١٧) كتاب «الحج» باب: المحصر يذبح ويحل حيث أحصر.
(٢) أخرجه البخاري (٨/ ٤٤٦) كتاب «التفسير» باب: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (٤٨٣٣)، والترمذي (٥/ ٣٨٥) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الفتح (٣٢٦٢)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ٤٦١)، كتاب «التفسير» باب: قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١٤٩٩/ ١)، وأحمد (١/ ٣١)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٤/ ١٥٤) كلهم عن عمر بن الخطاب.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، رواه بعضهم عن مالك مرسلا.
سهمه، وثاب الماء حتى كَفَى الجيش، واتَّفَقَتْ بيعةُ الرضوان، وهي الفتح الأعظم قاله جابر بن عبد اللَّه والبَرَاءُ بن عازب «١»، وبلغ هَدْيُهُ مَحِلَّهُ قاله الشَّعْبِيُّ «٢»، واستقبل فتح خيبر، وامتلأت أيدي المؤمنين، وظهرت في ذلك الوقت الروم على فارس، فكانت من جملة الفتح فسرّ بها صلّى الله عليه وسلّم هو والمؤمنون لظهور أهل الكتاب على المجوس، وشَرَّفَه اللَّه بأنْ أخبره أَنَّه قد غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تأخر، أي: وإِنْ لم يكن ذنب.
ت: قال الثعلبيُّ: قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ قال أبو حاتم: هذه لام القسم، لما حُذِفَتِ النون من فعله كُسِرَتْ، ونُصِبَ فعلها تشبيهاً بلام «كي»، انتهى.
قال عياض: ومقصد الآية أَنَّك مغفور لك، غيرَ مؤاخذ بذنب، إنْ لو كان، انتهى.
قال أبو حيان «٣» : لِيَغْفِرَ اللام لِلْعِلَّةِ، وقال ع: هي لام الصيرورة، وقيل:
هي لام القسم، ورُدَّ بأنَّ لام القسم لا تُكْسَرُ وَلا يُنْصَبُ بها، وأُجِيبَ بأَنَّ الكَسْرَ قد عُلِّلَ بالحمل على «لام كي» وأَمَّا الحركة فليست نصباً بل هي الفتحة الموجودة مع النون، بَقِيَتْ بعد حذفها دَالَّةً على المحذوف، ورُدَّ باَّنَّهُ لم يُحْفَظْ من كلامهم: واللَّهِ ليقوم ولا باللَّه ليخرج زيد، انتهى.
وفي «صحيح البخاريِّ» عن أنس بن مالك: «إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً» : الحديبية «٤»، انتهى.
وقوله سبحانه: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ أي: / بإظهارك وتغليبك على عَدُوِّك، والرُّضْوَانُ في الآخرة والسَّكِينَةُ فعيلة من السكون، وهو تسكين قلوبهم لتلك الهُدْنَةِ مع قريش حتَّى اطمأَنَّتْ، وعلموا أنّ وعد الله حق.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٥ الى ٧]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧)
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٣٣٤) برقم: (٣١٤٦١- ٣١٤٦٢)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٨٨) عن البراء بن عازب، وذكره ابن عطية (٥/ ١٢٥)، وابن كثير (٤/ ١٨٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٨).
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ١٢٥).
(٣) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ٩٠).
(٤) أخرجه البخاري (٨/ ٤٤٧) كتاب «التفسير» باب: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (٤٨٣٤)، والطبري (١١/ ٣٣٣) (٣١٤٥٨)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٨٨)، وابن عطية، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٥٨)، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن مردويه، والبيهقي.
وقوله سبحانه: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ...
الآية، رُوِيَ في معنى هذه الآية أَنَّه لَمَّا نزلت: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف: ٩] تَكَلَّمَ فيها أهل الكفر، وقالوا: كيف نَتَّبِعُ مَنْ لا يعرف ما يفعل به وبالناس؟! فَبَيَّنَ اللَّه في هذه السورة ما يفعل به بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ فَلَمَّا سمعها المؤمنون قالوا: هنيئاً لك يا رسول اللَّه، لقد بَيَّنَ اللَّه لك ما يفعل بك، فما يفعل بنا؟ فنزلت: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ إلى قوله: مَصِيراً فعرَّفه اللَّه ما يفعل به وبالمؤمنين وبالكافرين، وذكر النقاش أَنَّ رجلاً من «عَكَّ» قال: هذا الذي لرسول الله، فما لنا؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هِيَ لِي وَلامَّتِي كَهَاتَيْنِ، وَجَمَعَ بَيْنَ إصْبَعَيْهِ».
وقوله: وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ هو من ترتيب الجمل في السرد، لا ترتيب وقوع معانيها لأَنَّ تكفير السيئات قبل إدخالهم الجنة.
وقوله: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ قيل: معناه: من قولهم: لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ... [الفتح: ١٢] الآية، وقيل: هو كونهم يعتقدون اللَّه بغير صفاته العلى.
وقوله: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ [أي: دائرة السوء] «١» الذي أرادوه بكم في ظَنِّهم السوءَ، ويقال للأقدار والحوادث التي هي في طَيِّ الزمان: دائرة، / لأنّها تدور بدوران الزمان.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٨ الى ٩]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩)
وقوله سبحانه: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً... الآية، مَنْ جعل الشاهِدَ مُحَصِّلَ الشهادة من يوم يحصلها، فقوله: شاهِداً حال واقعة، ومَنْ جعل الشاهد مُؤَدِّي الشهادةَ فهي حال مستقبلة، وهي التي يسميها النحاة المُقَدَّرَةَ، والمعنى: شاهداً على الناس بأعمالهم، وأقوالهم حين بَلَّغْتَ، وَمُبَشِّراً: أهلَ الطاعة برحمة اللَّه، وَنَذِيراً: من عذاب اللَّه أهلَ المعصية، ومعنى تُعَزِّرُوهُ تعظموه وتكبروه قاله ابن عباس «٢»، وقرأ ابن عبّاس
(١) سقط في: د. [.....]
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣٣٧) برقم: (٣١٤٦٨)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٢٩).
وغيره: تعزّزوه بزاءين من العِزَّةِ «١»، قال الجمهور: الضمير في تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي تُسَبِّحُوهُ لله عز وجل، والبكرة: الغدوّ، والأصيل: العشيّ.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠)
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ: يريد في بيعة الرضوان، وهي بيعة الشجرة، حين أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأهبة لقتال قريش، لِمَا بَلَغَهُ قتل عثمانَ بن عفانَ، رسولِهِ إليهم، وذلك قبل أن ينصرفَ من الحُدَيْبِيَّةِ، وكان في ألف وأربعمائة، وبايعهم صلّى الله عليه وسلّم على الصبر المتناهي في قتال العَدُوّ إلى أقصى الجهد حتى قال سَلَمَةُ بن الأكوع وغيره: بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الموت «٢»، وقال عبد اللَّه بن عمر، وجابر بن عبد اللَّه: بايعنا رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم على أَلاَّ نَفِرّ «٣»، والمبايعة في هذه الآية مُفَاعَلَةٌ من البيع لأنَّ اللَّه تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأَنَّ لهم الجنة، ومعنى إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أَنَّ صفقتهم إنما يمضيها ويمنح/ الثمن اللَّه تعالى.
ت: وهذا تفسير لا يَمَسُّ الآية، ولا بُدَّ، وقال الثعلبيُّ: «إنما يبايعون اللَّه» أي: أخذك البيعة عليهم عقد اللَّه عليهم، انتهى، وهذا تفسير حسن.
وقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ قال جمهور المتأولين: اليد بمعنى النعمة، إذْ نعمة اللَّه في نفس هذه المبايعة لما يستقبل من محاسنها «فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» : التي مَدُّوها لبيعتك، وقيل:
المعنى: قُوَّةُ اللَّه فوقَ قُوَاهُمْ في نصرك.
ت: وقال الثعلبيُّ: «يد اللَّه فوق أيديهم» أي: بالوفاء والعهد، وقيل:
بالثواب، وقيل: «يد اللَّه» : في المِنَّةِ عليهم «فوق أيديهم» : في الطاعة عند المبايعة، وهذا حَسَنٌ قريب من الأول.
وقوله تعالى: فَمَنْ نَكَثَ أي: فَمَنْ نقض هذا العهد، فإنما يجني على نفسه ومَنْ
(١) وقرأ بها محمّد بن السميفع اليماني.
ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٢٩)، و «البحر المحيط» (٨/ ٩٢). وقال السمين: وقرأ الجحدري «تعززوه» كالعامة إلا أنه بزاءين من العزة. «الدر المصون» (٦/ ١٦٠).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣٤٨) برقم: (٣١٥٢٠) عن عمرو بن الأشج.
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٣٤٩) برقم: (٣١٥٢٧) عن قتادة، وذكره ابن كثير (٤/ ١٨٦) عن جابر بن عبد الله.
أَوفى بما عاهد عليه اللَّهَ فسنؤتيه أجراً عظيما، وهو الجنة.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١١ الى ١٧]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧)
وقوله سبحانه: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ قال مجاهد وغيره «١» : هم جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَةُ، ومَنْ كان حول المدينة من الأعراب وذلك أَنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أراد المسيرَ إلى مَكَّة عام الحديبية مُعْتَمِراً، استنفر مَنْ حولَ المدينة من الأعراب وأَهلِ البوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش، وأحرم بالعمرة، وساق معه الهَدْيَ ليعلمَ الناس أنه لا يريد حرباً، فتثاقل عنه هؤلاء المُخَلَّفُونَ، ورأوا أَنَّهُ [يستقبل] «٢» عدوّاً عظيماً من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة، وهم الأحابيش، ولم يكن تَمَكَّنَ إيمانُ هؤلاءِ المُخَلَّفِينَ، فقعدوا/ عن النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وتخلَّفُوا وقالوا: لَنْ يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة، ففضحهم اللَّه في هذه الآية، وأعلم نبيّه محمّدا صلّى الله عليه وسلّم بقولهم، واعتذارهم قبلَ أَنْ يَصِلَ إليهم، فكان كما أخبر اللَّه سبحانه، فقالوا: «شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا عَنْكَ فَاسْتَغْفِرْ لَنَا» وهذا منهم خُبْثٌ وإبطال، لأَنَّهم قالوا ذلك مُصَانَعَةً من غير توبة ولا ندم فلذلك قال تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ثم قال تعالى لنبيّه ع:
قُلْ: لَهُمْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أي: مَنْ يحمي منه أموالكم وأهليكم إنْ أراد بكم فيها سوءاً، وفي مصحف ابن مسعود «٣» : إنْ أراد بكم سوءا
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٣٤٠) برقم: (٣١٤٨٤)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٦١)، وابن عطية (٥/ ١٣٠).
(٢) سقط في: د.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٣٠).
252
ثم رَدَّ عليهم بقوله: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ثم فَسَّرَ لهم العِلَّةَ التي تخلَّفُوا من أجلها بقوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ... الآية، وبُوراً معناه: هلكى فاسدين، والبوار الهلاك، والبور في لغة «أَزْد عمان» : الفاسد، ثم رجى سبحانه بقوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ثم إنَّ اللَّه سبحانه أَمَرَ نَبِيَّه [على] ما رُوِيَ [بغزو] خيبرَ، ووعده بفتحها، وأعلمه أَنَّ المُخَلَّفِينَ إذا رأوا مسير رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- إلى يهود- وهم عَدُوٌّ مُسْتَضْعَفٌ- طلبوا الكونَ معه رغبةً في عَرَضِ الدنيا والغنيمة، فكان كذلك.
وقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ معناه: أنْ يغيروا وعده لأهلِ الحُدَيْبِيَّةِ بغنيمة/ خيبرَ، وقال ابن زيد «١» : كلام اللَّه هو قوله تعالى: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا، قال ع: وهذا ضعيف لأَنَّ هذه الآية نزلت في غزوة تبوك في آخر عمره صلّى الله عليه وسلّم وآية هذه السورة نزلت عامَ الحديبية، وأيضاً فقد غَزَتْ جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَةُ بعد هذه المُدَّةِ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعني غزوة الفتح، فتح مَكَّة.
ت: قال الثعلبي: وعلى التأويل الأَوَّل عامَّةُ أهل التأويل، وهو أصوب من تأويل ابن زيد.
وقوله: كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ يريد وعده قبل باختصاصهم بها، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال قتادة وغيره: هم هوازن وَمَنْ حارب النبيّ ع يومَ حُنَيْنٍ «٢»، وقال الزُّهْرِيُّ وغيره «٣» : هم أهل الرِّدَّةِ وبنو حنيفة باليمامة، وحكى الثعلبيُّ عن رافع بن خديج أَنَّهُ قال: واللَّهِ لقد كُنَّا نقرأ هذه الآية فيما مضى، ولا نعلم مَنْ هم حَتَّى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أَنَّهُمْ هم المراد «٤»، وقيل: هم فارس والروم، وقرأ الجمهور: «أو يسلمون» «٥» على القطع أي: أو
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٣٤٣) برقم: (٣١٤٩٢)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٣١).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣٤٥) برقم: (٣١٥٠٤- ٣١٥٠٥)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٩٢)، وابن عطية (٥/ ١٣٢).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٣٤٥) برقم: (٣١٥٠٦)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٩٢)، وابن عطية (٥/ ١٣٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٦٦)، وعزاه إلى ابن المنذر، والطبراني.
(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٩٢)، وابن عطية (٥/ ١٧٦).
(٥) وقرأ أبي بن كعب فيما حكى الكسائيّ: «أو يسلموا» بنصب الفعل على تقدير: أو يكون أن يسلموا، -
253
هم يسلمون دونَ حرب، قال ابن العربي «١» : والذين تَعَيَّنَ قتالُهم حتى يسلموا مِنْ غير قبول جزية، هم العرب في أَصَحِّ الأقوال، أوِ المرتدون، فأَمَّا فارس والروم فلا يُقَاتَلونَ إلى أَنْ يسلموا بل إنْ بذلوا الجزية قُبِلَتْ منهم، وهذه الآية إخبار بمغيب فهي من معجزات النبي صلّى الله عليه وسلّم، انتهى من «الأحكام».
وقوله: فَإِنْ تُطِيعُوا أي: فيما تُدعون إليه، وباقي الآية بَيِّنٌ.
ثم ذكر تعالى أهل/ الأعذار، ورَفَعَ الحرج عنهم، وهو حكم ثابت لهم إلى يوم القيامة، ومع ارتفاع الحَرَج فجائز لهم الغزوُ، وأجرهم فيه مُضَاعَفٌ، وقد غزا ابن أُمِّ مكتوم [وكان يُمْسِكُ الرَايةَ في بعض حروب القادسية، وقد خَرَّجَ النسائِيُّ هذا المعنى، وذكر ابنَ أمّ مكتوم] «٢» رحمه الله.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠)
وقوله عز وجل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ... الآية، تشريف لهم- رضي اللَّه عنهم- وقد تَقَدَّمَ القولُ في المبالغة ومعناها، وكان سببَ هذه المبايعة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراد أَنْ يبعث إلى مَكَّةَ رجلاً يُبَيِّنُ لهم أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يريد حرباً وإنَّما جاء مُعْتَمِراً، فبعث إليهم خداش بن أميّة الخزاعيّ، وحمله صلّى الله عليه وسلّم على جَمَلٍ له يقال له: الثعلب، فلما كَلَّمَهُمْ عَقَرُوا الجمل، وأرادوا قتل خداش فمنعته الأحابيش، وبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأراد بَعْثَ عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول اللَّه، إنِّي أخاف قريشاً على نفسي، وليس بِمَكَّةَ من بني عَدِيٍّ أَحَدٌ يحميني، ولكنِ ابعث عثمان فهو أَعُزُّ بمكّة منّي، فبعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم فذهب، فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي فنزل عن دَابَّتِهِ فحمله عليها، وأجاره حتى بلغ
- ومثله قول امرئ القيس [الطويل] :
فقلت له لا تبك عينك إنما تحاول ملكا أو تموت فتعذرا
ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٣٢)، و «البحر المحيط» (٨/ ٩٤)، وزاد نسبتها إلى زيد بن علي، وهي في «الدر المصون» (٦/ ١٦٢).
(١) ينظر: «أحكام القرآن» (٤/ ١٧٠٥). [.....]
(٢) سقط في: د.
254
الرسالة، فقالوا له: إنْ شِئْتَ يا عثمانَ أَنْ تطوف بالبيت فَطُفْ به، فقال: ما كنت لأطوف حتى يطوف به النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم إنَّ بَنِي سعيد بن العاصي حَبَسُوا عثمانَ على جهة المبرة، فأبطأ على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وكانتِ الحُدَيْبِيَّةُ من مَكَّةَ على نحو عَشَرَةِ أميال، فصرخ صارخ من عسكر رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: قتل عثمان، فجثا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم/ والمؤمنون، وقالوا: لا نبرحُ- إنْ كان هذا- حتى نُنَاجِزَ القوم، ثم دعا الناسَ إلى البيعة فبايعوه صلّى الله عليه وسلّم ولم يَتَخَلَّفْ عنها إلاَّ الجد بن قيس المنافق، وجعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَدَهُ على يَدِهِ، وقال: هذه يَدٌ لعثمانَ «١»، وهي خير، ثم جاءَ عثمانُ سالماً والشجرة سمرة كانت هنالك ذهبت بعد سنين.
وقوله سبحانه: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ قال الطبريُّ «٢»، ومنذر بن سعيد: معناه: من الإيمان وصِحَّتِهِ، والحبِّ في الدين والحِرْصِ فيه، وقرأ الناس: «وَأَثَابَهُمْ» «٣» قال هارون:
وقد قرأت: «وَآتَاهُمْ» بالتاء بنقطتين «٤»، والفتح القريب: خيبر، والمغانم الكثيرة: فتح خيبرَ.
وقوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ... الآية، مخاطبة للمؤمنين، ووعد بجميع المغانم التي أخذها المسلمون ويأخذونها إلى يوم القيامة قاله مجاهد وغيره «٥».
وقولهُ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يريد خيبَر، وقال زيد بن أسلم وابنه: المغانم الكثيرة:
خيبر «٦»، وهذه إشارة إلى البيعة والتَّخَلُّصِ من أمر قريش، وقاله ابن عبّاس «٧».
(١) ورد ذكر البيعة في حديث ابن عمر، أخرجه البخاري (٦/ ٢٧١) كتاب «فرض الخمس» باب: إذا بعث الإمام رسولا في حاجة أو أمره بالمقام هل يسهم له؟ (٣١٣٠) وأطرافه في (٣٦٩٨، ٣٧٠٤، ٤٠٦٦، ٤٥١٣، ٤٥١٤، ٤٦٥٠، ٧٠٩٥)، والترمذي (٥/ ٦٢٩)، كتاب «المناقب» باب: في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه (٣٧٠٦)، وأحمد (٢/ ١٢٠)، وأبو يعلى في «مسنده» (٩/ ٤٥٠) (١٨٥/ ٥٥٩٩).
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (١١/ ٣٥٠).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٣٤)، و «البحر المحيط» (٨/ ٩٦).
(٤) قرأ بها الحسن ونوح القارئ.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (١٤٢)، و «البحر المحيط» (٨/ ٩٦).
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٣٥١) برقم: (٣١٥٣٣)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٣٤)، وابن كثير (٤/ ١٩١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٧٠).
(٦) أخرجه الطبري (١١/ ٣٥١) برقم: (٣١٥٣٤) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية (٥/ ١٣٥).
(٧) أخرجه الطبري (١١/ ٣٥١) برقم (٣١٥٣٧) وذكره ابن عطية (٥/ ١٣٥)، وابن كثير (٤/ ١٩١).
255
وقوله سبحانه: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ قال قتادة: يريد كَفَّ أَيديهم عن أهل المدينة في مغيب النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين «١»، وَلِتَكُونَ آيَةً أي: علامة على نصر المؤمنين، وحكى الثعلبيُّ عن قتادة أَنَّ المعنى: كَفَّ اللَّه غطفان ومن معها حين جاؤوا لنصر خيبر «٢»، وقيل: أراد كفّ قريشا.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)
وقوله سبحانه: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال ابن عباس: الإشارة إلى بلاد فارس والروم «٣»، وقال قتادة والحسن: الإشارة إلى مَكَّةَ «٤»، وهذا قول يَتَّسِقُ معه المعنى ويتأيَّد/.
وقوله: قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا معناه: بالقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ لأهلها، أي: قد سبق في علمه ذلك، وظهر فيها أَنَّهم لم يقدروا عليها.
ت: قوله: وظهر فيها إِلى آخرهِ كلامٌ غير محصل، ولفظ الثعلبيِّ: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها أي: وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها، قد أحاط اللَّه بها لكم حَتَّى يفتحها عليكم، وقال ابن عباس «٥» : علم اللَّه أَنَّه يفتحها لكم، قال مجاهد «٦» : هو ما فتحوه حتى اليوم، ثم ذكر بَقِيَّةَ الأقوال، انتهى.
(١) أخرجه الطبري (١١/ ٣٥٢) برقم: (٣١٥٣٨- ٣١٥٣٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٣٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ١٧٧)، وعزاه إلى عبد بن حميد.
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ١٣٥).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٣٥٣) رقم (٣١٥٤١)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٩٨) وابن عطية (٥/ ١٣٥).
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٣٥٤) برقم: (٣١٥٥١- ٣١٥٥٢) عن قتادة، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٩٨)، وابن عطية (٥/ ١٣٥)، وابن كثير (٤/ ١٩١) عن قتادة، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٧١)، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد.
(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٩٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ١٩٢).
(٦) أخرجه الطبري (١١/ ٣٥٣) برقم: (٣١٥٤٥)، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤/ ١٩٨). [.....]
256
وقوله سبحانه: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني «١» : كفار قريش في تلك السنة لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
وقوله: سنة اللَّه أي: كَسُنَّةِ اللَّه، إشارةً إلى وقعة بدر، وقيل: إشارة إلى عادة اللَّه من نصر الأنبياء، ونصب «سنة» على المصدر.
وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ... الآية، رُوِيَ في سببها أَنَّ قريشاً جمعت جماعة من فتيانها، وجعلوهم مع عِكْرِمَةَ بن أبي جهل، وخرجوا يطلبون غرَّةً في عسكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم واختلف الناسُ في عدد هؤلاء اختلافاً متفاوتاً فلذلك اختصرته، فلمَّا أَحَسَّ بهم المسلمون بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أَثَرِهِمْ خالدَ بنَ الوليد، وسَمَّاهُ يومئذٍ سَيْفَ اللَّه في جملة من الناس، فَفَرُّوا أمامهم، حَتَّى أدخلوهم بُيُوتَ مَكَّةَ، وأَسَرُوا منهم جملة، فسيقوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَمَنَّ عليهم وأطلقهم «٢» قال الوَاحِدِيُّ: وكان ذلك سَبَبَ الصلح بينهم، انتهى.
وقوله سبحانه: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: أهل مكة وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي: منعوكم من العمرة، وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج من المدينة إلى الحديبية في/ ذي القعدة سنة ست يريد العمرة وتعظيم البيت وخرج معه بمائة بدنة وقيل بسبعين فأجمعت قريش لحربه وغوروا المياه التي تقرب من مكة فجاء صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل على بئر الحديبية وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمراً حتى كفى الجيش ثم بعث صلّى الله عليه وسلّم إليهم عثمان كما تقدم وبعثوا هم رجالاً آخرهم سهيل بن عمرو وبه انعقد الصلح على أن ينصرف صلّى الله عليه وسلّم ويعتمر من قابل فهذا صدهم إياه وهو مستوعب في السير، والْهَدْيَ معطوف على الضمير في «صدوكم» [أي] وصدوا الهدي، ومَعْكُوفاً حال، ومعناه: محبوساً، تقول عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته، وحبس الهدي من قبل المشركين هو بصدهم، ومن قبل المسلمين لرؤيتهم ونَظَرِهِمْ في أَمرهم لأجل أَنْ يبلغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ، وهو مَكَّةُ والبَيْتُ، وهذا هو حَبْسُ المسلمين، وذكر تعالى العِلَّةَ في أَنْ صَرَفَ المسلمين، ولم يمكنهم من دخول مَكَّةَ في تلك الوجهة، وهي أَنَّهُ كان بمكة مؤمنون من رجال ونساء خَفِيَ إيمانهم، فَلَوِ استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين قال قتادة «٣» : فدفع الله عن المشركين بأولئك
(١) في د: يبتغي.
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣٥٦) برقم: (٣١٥٦٠)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٧٥)، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن أبزي.
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٣٦٣) برقم: (٣١٥٧٣)، وذكره البغوي (٤/ ٢٠٤)، وابن عطية (٥/ ١٣٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٧٦)، وعزاه لابن جرير.
257
المؤمنين، والوَطْءُ هنا: الإهلاك بالسيف وغيره ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرٍ «١» » قال أبو حيَّان «٢» : وَلَوْلا رِجالٌ جوابها محذوف لدلالة الكلام عليه، أي: ما كَفَّ أيديَكم عنهم، انتهى، والمَعَرَّةُ: السوء والمكروه اللاحق مأخوذ من العُرِّ والعُرَّة وهو الجَرَبُ الصَّعْبُ اللاَّزِمُ، واختلف/ في تعيين هذه المَعَرَّةِ، فقال الطبريُّ «٣» : وَحَكَاهُ الثعلبيُّ:
هي الكَفَّارة، وقال مُنْذِرٌ: المَعَرَّة: أنْ يعيبهم الكُفَّار، ويقولوا: قتلوا أهل دينهم، وقال بعضُ المفسِّرين: هي المَلاَمُ، والقولُ في ذلك، وتألمَ النفْسِ في باقي الزمان، وهذه أقوالٌ حِسَانٌ، وجواب «لولا» محذوفٌ، تقديره: لولا هؤلاءِ لدخلتم مكَّةَ، لكن شرَّفْنَا هؤلاءِ المؤمنِينَ بأنْ رَحِمْنَاهُمْ، ودفعنا بسببهم عن مَكَّةَ ليدخل اللَّه، أي: لِيُبَيِّنَ للناظر أنَّ اللَّه يدخُلَ من يشاء في رحمته أو، أي: لِيقعَ دخولهم في رحمة اللَّه ودفعه عنهم.
ت: وقال الثَّعْلَبِيُّ: قوله: «بِغَيْرِ عِلْمٍ» يحتمل أنْ يريد بغير علم مِمَّنْ تكلَّم بهذا، والمَعَرَّةُ: المشقة «لِيُدْخِلَ اللَّهُ في رَحْمَتِهِ» أي: في دين الإِسلام «مَنْ يَشَاءُ» : من أهل مكة قبل أن تدخلوها، انتهى.
وقوله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا أي: لو ذهبوا عن مَكَّةَ تقول: زِلْتُ زيداً عن موضعه إزالة، أي: أذهبته، وليس هذا الفعل من «زَالَ يَزُولُ»، وقد قيل: هو منه، وقرأ أبو حيوة
(١) أخرجه البخاري (٢/ ٥٧٢) كتاب «الاستسقاء» باب: دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: «واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (١٠٠٦)، (٦/ ٤٨١) كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: قول الله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٣٣٨٦)، (١٠/ ٥٩٦) كتاب «الأدب» باب: تسمية الوليد (٦٢٠٠)، (١١/ ١٩٧) كتاب «الدعوات» باب: تكرير الدعاء (٦٣٩٣)، ومسلم (٣/ ١٩٠- ١٩١) كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة، إذا نزلت بالمسلمين نازلة (٢٩٤، ٢٩٤/ ٦٧٥)، (٢٩٥/ ٦٧٥)، وابن حبان (٥/ ٣٠١) كتاب «الصلاة» باب: صفة الصلاة (١٩٦٩، ١٩٧٢)، باب: فصل في القنوت (١٩٨٦)، وأبو داود (١٠/ ٤٥٧) كتاب «الصلاة» باب: القنوت في الصلاة (١٤٤٢)، وأحمد (٢/ ٢٣٩، ٢٥٥، ٢٧١، ٣٩٦، ٤٠٧، ٤١٨، ٥٠٢، ٥٢١)، وابن ماجه (١/ ٣٩٤) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها: باب: ما جاء في القنوت في صلاة الفجر (١٢٤٤)، والبيهقي (٢/ ١٩٧، ١٩٨، ٢٠٠) كتاب «الصلاة» باب: القنوت في الصلاة عند النازلة، (٢/ ٢٠٧) كتاب «الصلاة» باب: الدليل على أنه يقنت بعد الركوع، (٢/ ٢٤٤) كتاب «الصلاة» باب: ما يجوز من الدعاء في الصلاة، (٩/ ١٤) كتاب «السير» باب: ما جاء في عذر المستضعفين، والدارقطني (٢/ ٣٨) كتاب «الوتر»، وأنه ليس بفرض، والوتر على البعير، باب: صفة القنوت وبيان موضعه برقم: (٧)، والحميدي (٢/ ٤١٩) (٩٣٩)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٤/ ١٧٦).
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ٩٧).
(٣) ينظر: «تفسير الطبري» (١١/ ٣٦٣).
258
وقتادة: «تَزَايَلُوا» بألف «١»، أي: ذهب هؤلاء عن هؤلاء، وقال النَّحَّاس: وقد قيل: إنَّ قوله: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ... الآية: يريدُ: مَنْ في أصلاب الكافرين مِمَّنْ سيُؤْمِنُ في غابر الدهر، وحكاه الثعلبيُّ والنَّقَّاش عن عليِّ بْنِ أبي طالبٍ- رضي اللَّه عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرفوعاً، والحَمِيَّةُ التي جعلوها هي حَمِيَّةُ أَهل مكة في الصَّدِّ قال الزُّهْرِيُّ: وهي حمية سُهَيْلٍ ومَنْ شَاهَدَ مِنْهُمْ عقدَ الصُّلْحِ، وجعلها سبحانه حَمِيَّةً جاهلية، لأَنَّها كانت منهم بغير حجّة، إذ لم يأت صلّى الله عليه وسلّم مُحِارِباً لهم، وإنما جاء معتمراً معظِّماً لبيت اللَّه، والسكينة: هي الطَّمْأَنِينَةُ إلى أَمْرِ رسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، والثقةُ بوعد اللَّه، والطاعةُ، وزوالُ/ الأَنَفَةِ التي لحقت عُمَرَ وغيره، «وكَلِمَةُ التَّقْوَى» : قال الجمهور: هي لا إله إلا اللَّه، ورُوِيَ ذلك عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي مصحف ابن مسعود «٢» :«وَكَانُوا أَهْلَهَا [وَأَحَقَّ بِهَا» والمعنى: كانوا أهلها] على الإطلاق في علم اللَّه وسابق قضائه لهم، وروى أبو أمامة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ: «إذَا نَادَى المُنَادِي فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، واسْتُجِيبَ الدُّعَاءُ، فَمَنْ نَزَلَ بِهِ كَرْبٌ أَوْ شِدَّةٌ فَلْيَتَحَيَّنِ المُنَادِيَ، فَإذَا كَبَّرَ كَبَّرَ، وَإذَا تَشَهَّدَ تَشَهَّدَ، وَإذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، وَإذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، قَالَ: حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ، ثُمَّ يَقُولُ: رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الصادِقَةِ المُسْتَجَابِ لَهَا، دَعُوَةِ الحَقِّ وَكَلِمَةِ التقوى، أَحْيِنَا عَلَيْهَا، وَأَمِتْنَا عَلَيْهَا، وَابْعَثْنَا عَلَيْهَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتَاً، ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ حَاجَتَهُ» رواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح الإِسناد «٣»، انتهى من «السّلاح».
فقد بيّن صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث معنى «كلمة التقوى» على نحو ما فسرَ به الجمهور، والصحيحِ أنه يعوض عن الحَيْعَلَةِ الحَوْقَلَةُ ففي «صحيح مسلم»، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَلاَةِ، قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلا باللَّهِ، ثم قال: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلا باللَّهِ «٤» » الحديث، انتهى.
وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم، وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية فيروى أنّه لما انعقد
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٣٧)، و «البحر المحيط» (٨/ ٩٨)، وزاد نسبتها إلى ابن أبي عبلة، وابن مقسم، وابن عون. وهي في «الدر المصون» (٦/ ١٦٤).
(٢) وهي في مختصر ابن خالويه ص: (١٤٣) هكذا: وكانوا أهلها أحق من غير واو. ونسبها إلى أصحاب عبد الله بن مسعود. وكما أثبتها «المصنف» عند ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٥/ ١٣٨).
(٣) أخرجه الحاكم (١/ ٥٤٦- ٥٤٧)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (١٠/ ٢١٣).
(٤) أخرجه مسلم (٢/ ٣٢١) كتاب «الصلاة» باب: استحباب القول مثل قول المؤذن، برقم: (١٢/ ٣٨٥).
259
الصلحُ أَمِنَ الناسُ في تلك المُدَّةِ الحربَ والفتنةَ، وامتزجوا وعَلَتْ دعوةُ الإسلام، / وانقاد إلى الإسلام كُلُّ مَنْ له فهم، وزاد عدد الإسلام في تلك المدة أَضعافَ ما كان قبلَ ذلك قال ع «١» : ويقتضى ذلك أَنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كان في عام الحديبيةِ في أَرْبَعَ عَشْرَةَ مائة، ثم سار إلى مَكَّةَ بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس- صلّى الله عليه وسلّم-.
ت: المعروف عَشَرَةُ آلاف، وقوله فارس ما أظنّه يصحّ فتأمله في كتب السيرة.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨)
وقوله سبحانه: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ... الآية: «رُوِيَ في تفسيرها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى في مَنَامِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى الْعُمْرَةِ أَنَّهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، بَعْضُهُمْ مُحَلِّقُونَ، وَبَعْضُهُمْ مُقَصِّرُونَ» «٢» وقال مجاهد: رأى ذلك بالحديبية فأخبر الناسَ بهذه الرؤيا، فَوَثِقَ الجميعُ بأَنَّ ذلك يكون في وجهتهم تلك، وقد كان سَبَقَ في علم اللَّه أنَّ ذلك يكون، لكن ليس في تلك الوجهة، فَلَمَّا صَدَّهُمْ أهلُ مَكَّةَ قال المنافقون: وأين الرؤيا؟ ووقع في نفوس بعض المسلمين شيء من ذلك، فأجابهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بأَنْ قَالَ: «وَهَلْ قُلْتُ لَكُمْ: يَكُونُ ذَلِكَ فِي عَامِنَا هَذَا»، أَوْ كَمَا قَالَ، ونطق أبو بكر قبل ذلك بنحوه «٣»، ثم أنزل الله عز وجل: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ... الآية، واللام في: لَتَدْخُلُنَّ لامُ القَسَمِ.
وقوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ اخْتُلِفَ في هذا الاستثناء، فقال بعض العلماء: إنَّما استثنى من حيثُ إنَّ كل واحد من الناس متى رَدَّ هذا الوعد إلى نفسه، / أمكن أَنْ يتمّ الوعد فيه وأَلاَّ يتمّ إذ قد يموت الإنسان أو يمرض لحينه، فلذلك استثنى عز وجل في الجملة إذ فيهم- ولا بُدَّ- مَنْ يموتُ أو يمرض.
ت: وقد وقع ذلك حسبما ذكر في السِّيَرِ، وقال آخرون: هو أخذ من
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٣٨).
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣٦٧) برقم: (٣١٦٠٢)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٧٩).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٣٦٧) برقم: (٣١٦٠١)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٣٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٧٩)، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «الدلائل».
اللَّه تعالى [على عباده] «١» بأدبه في استعمال الاستثناء في كل فعل.
ت: قال ثعلب: استثنى اللَّه تعالى فيما يعلم ليستثنيَ الخَلْقُ فيما لا يعلمون، وقيل غير هذا، ولما نزلت هذه الآية عَلِمَ المسلمون أَنَّ تلك الرؤيا ستخرج فيما يستأنفونه من الزمان، فكان كذلك، فخرج صلّى الله عليه وسلّم في العام المُقْبِلِ واعتمر.
وقوله سبحانه: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا يريد ما قَدَّرَهُ من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه.
وقوله: مِنْ دُونِ ذلِكَ أي: من قبل ذلك، وفيما يدنو إليكم، واختلف في الفتح القريب، فقال كثير من العلماء: هو بيعة الرضوان وصُلْحُ الحديبية، وقال ابن زيد «٢» : هو فتح خيبر.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٩]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)
وقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قال جمهور الناس: هو ابتداء وخبر، استوفى فيه تعظيمَ منزلة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله: وَالَّذِينَ مَعَهُ ابتداء، وخبره: أَشِدَّاءُ ورُحَماءُ خبر ثانٍ، وهذا هو الراجح لأَنَّهُ خبر مضاد لقول الكفار: «لا تكتب مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ»، وَالَّذِينَ مَعَهُ إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور، وحكى الثعلبيُّ عن ابن عباس أَنَّ الإشارة إلى مَنْ شَهِدَ الحديبية «٣».
ت: ووصف تعالى الصحابة بأَنَّهُمْ رحماء بينهم، وقد جاءت أحاديثُ صحيحةٌ في تراحم المؤمنين حدثنا الشيخ وليُّ الدين العراقيُّ بسنده عن عبد اللَّه بن عمرو بن/ العاصي أَنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرحمن ارْحَمُوا مَنْ في الأرض
(١) سقط في: د. [.....]
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣٦٨) برقم: (٣١٦١٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٤٠)، والسيوطي في «الدر المنثور»
(٦/ ٧٩)، وعزاه لابن جرير.
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ١٤٧).
261
يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» «١» وأخرج الترمذيُّ من طريق أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلاَّ مِنْ [قَلْبٍ] شَقِيٍّ» «٢» وخَرَّجَ عن جرير بن عَبْدِ اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ، لاَ يَرْحَمْهُ اللَّهُ» «٣» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهذا الحديث خَرَّجه مسلم عن جرير، وخَرَّجَ مسلم أيضاً من طريق أبي هريرةَ:
«مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ» «٤» انتهى، وبالجملة: فأسباب الألفة والتراحم بين المؤمنين كثيرةٌ، ولو بأَنْ تَلْقَى أخاك بوجه طَلْقٍ، وكذلك بَذْلُ السلام وَطيِّبُ الكلام، فالمُوَفَّقُ لا يحتقر من المعروف شيئاً، وقد روى الترمذي الحكيم في كتاب «ختم الأولياء» له بسنده عن عمر بن الخطاب- رضي اللَّه عنه- قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ كَان أَحَبَّهُمَا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَحْسَنُهُمَا بِشْراً بِصَاحِبِهِ» أوْ قَالَ: «أكثرهما [بشرا] بصاحبه، فإذا
(١) أخرجه أبو داود (٢/ ٧٠٣) كتاب «الأدب» باب: في الرحمة (٤٩٤١)، والترمذي (٤/ ٣٢٣- ٣٢٤) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في رحمة المسلمين (١٩٢٤)، وأحمد (٢/ ١٦٠)، والحاكم في «المستدرك» (٤/ ١٥٩)، والبيهقي (٩/ ٤١) كتاب «السير» باب: ما على الوالي من أمر الجيش، والحميدي (٢/ ٢٦٩) (٥٩١).
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(٢) أخرجه أبو داود (٢/ ٧٠٣) كتاب «الأدب» باب: في الرحمة (٤٩٤٢)، والترمذي (٤/ ٣٢٣) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في رحمة المسلمين (١٩٢٣).
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(٣) أخرجه البخاري (١٠/ ٤٥٢) كتاب «الأدب» باب: رحمة الناس والبهائم (٦٠١٣)، ومسلم (٤/ ١٨٠٩) كتاب «الفضائل» باب: رحمته صلّى الله عليه وسلّم الصبيان والعيال، وتواضعه وفضل ذلك (٦٦، ٦٦/ ٢٣١٩)، والطبراني (٢/ ٣٥٤- ٣٥٥) (٢٤٩١- ٢٤٩٢- ٢٤٩٣- ٢٤٩٥)، والبيهقي (٨/ ١٦١) كتاب «قتال أهل البغي» باب: ما على السلطان من القيام فيما ولي بالقسط والنصح للرعية، والرحمة بهم، والشفقة عليهم والعفو عنهم ما لم يكن حدا، والحميدي (٢/ ٣٥١) (٨٠٢)، وأحمد (٤/ ٣٥٨، ٣٦٠، ٣٦١، ٣٦٢، ٣٦٥، ٣٦٦).
(٤) أخرجه البخاري (١٠/ ٤٤٠) كتاب «الأدب» باب: من ترك صبية غيره حتى تلعب به، أو قبلها أو مازحها (٥٩٩٧)، ومسلم (٤/ ١٨٠٨- ١٨٠٩) كتاب «الفضائل» باب: رحمته صلّى الله عليه وسلّم الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك (٦٥، ٦٥/ ٢٣١٨)، وأبو داود (٢/ ٧٧٧) كتاب «الأدب» باب: في قبلة الرجل ولده (٥٢١٨)، والترمذي (٤/ ٣١٨) كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في رحمة الولد (١٩١١)، والبخاري في «الأدب المفرد» (٣٥) (٩١)، وابن حبان (٢/ ٢٠٢) كتاب «البر والإحسان» باب: الرحمة (٤٥٧، ٤٦٣)، (١٢/ ٤٠٦- ٤٠٧) كتاب «الحظر والإباحة» باب: ذكر الإباحة أن يقبل الرجل ولده، وولد ولده وما بعده (٥٥٩٤، ٥٥٩٦)، (١٥/ ٤٣١) كتاب «إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة» باب: ذكر ملاعبة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (٦٩٧٥)، وأحمد (٢/ ٢٢٨، ٢٤١، ٢٦٩، ٥١٤).
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
262
تَصَافَحَا، أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيهِمَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، تِسْعُونَ مِنْهَا لِلَّذِي بَدَأَ، وَعَشَرَةٌ لِلَّذِي صُوفِحَ» «١»، انتهى.
وقوله: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً أي: ترى هاتين الحالتين كثيرا فيهم ويَبْتَغُونَ:
معناه: يطلبون.
وقوله سبحانه: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ قال مالك بن أنس: كانت جِبَاهُهُم مَتْرِبَةً من كثرة السجود في التراب وقاله عِكْرِمَةُ، ونحوه لأبي العالية «٢»، وقال ابن عباس وخالد الحنفي/ وعطية: هو وعد بحالهم يومَ القيامة من اللَّه تعالى، يجعل لهم نوراً من أَثر السجود «٣»، قال ع «٤» : كما يجعل غُرَّةً من أثر الوضوء، حسبما هو في الحديث، ويؤيد هذا التأويلَ اتصالُ القولِ بقوله: «فَضْلاً مِنَ اللَّهِ» وقال ابن عباس:
السَّمْتُ الحَسَنُ هو السيما، وهو خشوع يبدو على الوجه «٥»، قال ع «٦» : وهذه حالةُ مُكْثِرِي الصلاةَ لأَنَّها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، وقال الحسن بن أبي الحسن، وشِمْرُ بن عَطِيَّةَ: «السيما» : بَيَاضٌ وصُفْرَةٌ وتَبْهِيجٌ يعتري الوجوهَ من السَّهَرِ»
، وقال عطاء بن أبي رباح، والربيع بن أنس: «السّيما» : حسن يعتري وجوه المصلّين «٨»، قال- عليه السلام «٩» -: ومن هذا الحديثُ الذي في «الشِّهاب» :«مَنْ كثرت صلاته باللّيل حسن وجهه
(١) ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٩/ ١١٤) (٢٥٢٤٥)، وعزاه لأبي الشيخ، والحكيم الترمذي عن عمر.
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣٧١) عن عكرمة برقم: (٣١٦٣٢)، وذكره البغوي (٤/ ٢٠٦) عن عكرمة، وأبي العالية، وابن عطية (٥/ ١٤١).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٣٧٠) عن ابن عبّاس برقم: (٣١٦١٣)، وعن خالد الحنفي برقم: (٣١٦١٤)، وذكره البغوي (٤/ ٢٠٦) عن ابن عبّاس، وابن عطية (٥/ ١٤١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٨٢)، وعزاه للبخاري في «تاريخه»، وابن نصر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٤١).
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٣٧٠) برقم: (٣١٦٢١)، وذكره البغوي (٤/ ٢٠٦)، وابن عطية (٥/ ١٤١)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٢٠٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٨١)، وعزاه لمحمّد بن نصر في كتاب «الصلاة»، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «سننه».
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٤١).
(٧) أخرجه الطبري (١١/ ٣٧١) عن الحسن برقم: (٣١٦٢٨)، وعن شمر بن عطية برقم: (٣١٦٣٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٤١).
(٨) ذكره البغوي (٤/ ٢٠٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٤١). [.....]
(٩) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٤١).
263
بِالنَّهَارِ» «١» قال ع «٢» : وهذا حديث غَلِطَ فيه ثابت بن موسى الزاهد، سَمِعَ شَرِيكَ بنَ عبد اللَّه يقول: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عن أبي سفيانِ، عن جابر، ثم نزع شريك لما رأى ثابتاً الزاهد فقال يعنيه: مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ بِاللَّيْلِ، حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ، فَظَنَّ ثابت أَنَّ هذا الكلام حديث متركِّب على السند المذكور، فَحَدَّثَ به عن شريك.
ت: واعلم أَنَّ اللَّه سبحانه جعل حُسْنَ الثناء علامةً على حسن عُقْبَى الدار، والكون في الجنة مع الأبرار، جاء بذلك صحيح الآثار عن النبي المختار ففي «صحيح البخاريّ» و «مسلم» عن أنس قالَ: «مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خيرا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
وَجَبَتْ، ثُمَّ مَرُّوا بأخرى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: / وَجَبَتْ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا وَجَبَتْ؟ فَقَالَ:
هَذا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْراً فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأَرْضِ»
«٣»، انتهى، ونقل صاحب «الكوكب الدُّرِّيِّ» من مسند البَزَّارِ عنِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «يُوشِكُ أَنْ تَعْرِفُوا أَهْلَ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بم؟ قال:
بالثّناء الحسن والثّناء السّيّئ»
«٤»، انتهى، ونقله صاحب كتاب «التشوُّف إلى رجال التصوُّف» وهو الشيخ الصالح أبو يعقوب يوسف بن يحيى التادلي، عن ابن أبي شيبة، ولفظه: وخرّج
(١) أخرجه ابن ماجه (١/ ٤٢٢) كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب: ما جاء في قيام الليل (١٣٣٣)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (١/ ٣٤١) (٢٥٧)، (١٣/ ٣٨) (٦٩٩٥)، وابن الشجري في «أماليه» (١/ ٢٠٥، ٢٠٨).
قال العجلوني في «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» (٢/ ٣٣٨) (٢٥٨٧) : لا أصل له، وإن روي من طرق عند ابن ماجه بعضها عن جابر، وأورد الكثير منها عن القضاعي وغيره، قال: ولكن قرأت بخط شيخنا في بعض أجوبته أنه ضعيف، بل قواه بعضهم والمعتمد الأول، وأطنب ابن عدي في رده، قال ابن طاهر: ظن القضاعي أن الحديث صحيح لكثرة طرقه، وهو معذور لأنه لم يكن حافظا انتهى.
واتفق أئمة الحديث: ابن عدي، والدارقطني، والعقيلي، وابن حبان، والحاكم على أنه من قول شريك لثابت، وقال ابن عدي: سرقه جماعة من ثابت، كعبد الله بن شبرمة الشريكي، وعبد الحميد بن بحر، وغيرهما، وقال ابن حجر المكي في «الفتاوى» : أطبقوا على أنه موضوع، مع أنه في «سنن ابن ماجه».
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١٤١).
(٣) أخرجه البخاري (٣/ ٢٧٠) كتاب «الجنائز» باب: ثناء الناس على الميت (١٣٦٧) (٥/ ٢٩٩) كتاب «الشهادات» باب: تعديل كم يجوز؟ (٢٦٤٢)، ومسلم (٢/ ٦٥٥) كتاب «الجنائز» باب: فيمن يتسنى عليه خير أو شر (٦٠، ٦٠/ ٩٤٩)، وابن ماجه (١/ ٤٧٨) كتاب «الجنائز» باب: ما جاء في الثناء على الميت (١٤٩١).
(٤) أخرجه ابن ماجه (٢/ ١٤١١) كتاب «الزهد» باب: الثناء الحسن (٤٢٢١)، والبيهقي (١٠/ ١٢٣) كتاب «آداب القاضي» باب: اعتماد القاضي على تزكية المشركين وجرحهم، والحاكم (١/ ١٢٠).
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
264
أبو بكر بن أبي شيبةَ أَنَّهُ قال صلّى الله عليه وسلّم في خُطْبَتِهِ: «تُوشِكُوا أَنْ تَعْرِفُوا أَهْلَ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ قَالَ: خِيَارَكُمْ مِنْ شِرَارِكُمْ، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بالثّناء الحسن، وبالثّناء السّيّئ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ» «١». ومن كتاب «التشوُّف» قال: وخَرَّجَ البزَّارُ عن أنس قال: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَهْل الجَنَّةِ؟ قال: مَنْ لاَ يَمُوتُ حتى تُمْلأَ مَسَامِعُهُ مِمَّا يُحِبُّهُ، قِيلَ: فَمَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ قال: مَنْ لاَ يَمُوتُ حتى تملأ مسامعه مِمَّا يَكْرَهُ» قال:
وخَرَّج البَزَّارُ عن أبي هريرةَ «أَنَّ رجلاً قال: يا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ، وَأَتَاهُ آخَرُ، فَقَالَ: متى أَعْلَمُ أَنِّي مُحْسِنٌ؟ قَالَ: إذَا قَالَ جِيرَانُكَ: إنَّكَ مُحْسِنٌ، فَإنَّكَ مُحْسِنٌ، وَإذَا قَالُوا: إنَّكَ مُسِيءٌ، فَإنَّكَ مُسِيءٌ» «٢» انتهى، ونقل القرطبي في «تذكرته» عن عبد اللَّه بن السائب قال: مَرَّتْ جنازةٌ بابن مسعود فقال لرجُلٍ: قُمْ فانظرْ أمن أهل الجنة هو أم من أهل النَّارِ، فقال الرجل: ما يُدْرِينِي أمِنْ أهل الجنة هو أَمْ مِنْ أهل النار؟ قال: انظر ما ثَنَاءُ الناسِ عليه، فأنتم شهداءُ اللَّه في الأرض، / انتهى وباللَّه التوفيق، وإياه نستعين.
وقوله سبحانه: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ... الآية: قال مجاهد وجماعة من المتأولين: المعنى: ذلك الوصف هو مَثَلُهُمْ في التوراة ومثلهم في الإنجيل «٣»، وتم القول، وكَزَرْعٍ ابتداءُ تمثيل، وقال الطبريُّ وحكاه عن الضَّحَّاك «٤» : المعنى: ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة، وتَمَّ القولُ، ثم ابتدأ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ «٥».
ت: وقيل غير هذا، وأبينها الأَوَّلُ، وما عداه يفتقر إلى سند يقطع الشكِ.
وقوله تعالى: كَزَرْعٍ على كل قول هو مثل للنبيّ ع وأصحابه في أنّ النبي ع بُعِثَ وَحْدَهُ فكان كالزرع حَبَّةً واحدة، ثم كَثُرَ المسلمون فهم كالشطء، وهو فراخ السُّنْبُلَةِ التي تنبت حول الأصل يقال: أشطأتِ الشجرةُ إذا أخرجت غُصُونَها، وأشطأ الزرع: إذا أخرج شطأه، وحكى النقاش عن ابن عباس أَنَّهُ قال: الزّرع: النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فَآزَرَهُ: عليُّ بن أبي طالب، فَاسْتَغْلَظَ بأبي بكر، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ بعمر بن الخطاب.
(١) أخرجه أحمد (٦/ ٤٦٦)، والبيهقي (١٠/ ١٢٣) كتاب «آداب القاضي» باب: اعتماد القاضي على تزكية المشركين وجرحهم.
(٢) تقدم تخريجه شاهدا لحديث: «لا تغضب».
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٣٧٣) برقم: (٣١٦٤١)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٤٢).
(٤) ينظر: «تفسير الطبري» (١١/ ٣٧٢).
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٣٧٢) برقم: (٣١٦٣٥)، وذكره ابن عطية (٥/ ١٤٢).
265
ت: وهذا لَيِّنُ الإسناد والمتن، كما ترى، واللَّه أعلم بِصِحَّتِهِ «١».
وقوله تعالى: فَآزَرَهُ له معنيان:
أحدهما: ساواه طولاً.
والثَّاني: أنَّ: «آزره» و «وَازَرَهُ» بِمعنى: أعانه وَقَوَّاهُ مأخوذٌ من الأَزَرِ، وفَاعِلُ «آزر» يحتملُ أنْ يكون الشَّطْءَ، ويحتمل أَنْ يكون الزَّرْعَ.
وقوله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ابتداء كلام قبله محذوف، تقديره: جعلهم اللَّه بهذه الصفة ليغيظ بهم الكفار، قال/ الحسن: مِنْ غَيْظِ الكُفَّارِ قولُ عُمَرَ بِمَكَّةَ: لاَ يُعْبَدُ اللَّهُ سِرّاً بَعْدَ الْيَوْمِ «٢».
وقوله تعالى: مِنْهُمْ هي لبيان الجنس، وليست للتبعيض لأنّه وعد مرج للجميع.
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ١٤٢).
(٢) ذكره البغوي (٤/ ٢٠٦)، وابن عطية (٥/ ١٤٣).
266
Icon