تفسير سورة الحشر

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة الحشر
«١» قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز- الكون بجملته في طلبه.. وهو عزيز.
الشموس والأقمار والنجوم، والليل والنهار، وجميع ما خلق الله من الأعيان والآثار متنادية على أنفسها: نحن عبيده... نحن عبيد من لم يزل.. نريد من لم يزل.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)
قدّس الله ونزّهه كلّ شىء خلقه فكلّ ما خلقه جعله على وحدانيته دليلا، ولمن أراد أن يعرف إلهيته طريقا وسبيلا.
أتقن «٢» كلّ شىء وذلك دليل علمه وحكمته، ورتّب كلّ شىء، وذلك شاهد على مشيئته وإرادته.
«وَهُوَ الْعَزِيزُ» فلا شبيه يساويه، ولا شريك له في الملك ينازعه ويضاهيه.
«الْحَكِيمُ» الحاكم الذي لا يوجد في حكمه عيب، ولا يتوجّه عليه عتب «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٢]
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢)
هم أهل النضير، وكانوا قد عاهدوا النبيّ (ص) ألّا يكونوا عليه، ثم بعد أحد نقضوا
(١) ويسميها ابن عباس سورة النضير (البخاري ح ٣ ص ١٣٣). [.....]
(٢) هكذا في ص وهي في م (أيقن) وهي خطأ في النسخ.
(٣) هكذا في ص وهي في م (عيب) وهي خطأ في النسخ.
556
العهد، وبايعوا أبا سفيان وأهل مكة، فأخبر الله تعالى رسوله بذلك، فبعث صلوات الله عليه إليهم محمد بن مسلمة، فأوهم أنه يشكو من الرسول في أخذ الصّدقة. وكان رئيسهم كعب ابن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة (غيلة)، وغزاهم «١» رسول الله (ص) وأجلاهم عن حصونهم المنيعة وأخرجهم إلى الشام، وما كان المسلمون يتوقّعون الظّفر عليهم لكثرتهم، ولمنعة حصونهم.
وظلّوا يهدمون دورهم بأيديهم ينقبون ليخرجوا، ويقطعون أشجارهم ليسدوا النقب، فسمّوا أول الحشر، لأنهم أول من أخرج من جزيرة العرب وحشر إلى الشام.
قال جل ذكره: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ».
كيف نصر المسلمين- مع قلّتهم- عليهم- مع كثرتهم. وكيف لم تمنعهم حصونهم إذا كانت الدائرة عليهم. وإذا أراد الله قهر عدوّ استنوق «٢» أسده.
ومن مواضع العبرة في ذلك ما قاله: «ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا» بحيث داخلتكم الرّيبة فى ذلك لفرط قوّتهم- فصانهم بذلك عن الإعجاب.
ومن مواضع العبرة في ذلك أيضا ما قاله «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ» فلم يكن كما ظنّوه- ومن تقوّ بمخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره «٣» ومذلّته.
ومن الدلائل الناطقة ما ألقى في قلوبهم من الخوف والرّعب، ثم تخريبهم بيوتهم بأيديهم علامة ضعف أحوالهم، وبأيدى المؤمنين لقوة أحوالهم، فتمت لهم الغلبة عليهم والاستيلاء على ديارهم وإجلاؤهم.
هذا كلّه لا بدّ أن يحصل به الاعتبار- والاعتبار أحد قوانين الشّرع.
ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره.
(١) حاصرهم إحدى وعشرين ليلة وأمر بقطع نخيلهم وأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير واحد ما شاءوا من متاعهم فجلوا إلى أريحا وأذرعات بأرض الشام.
(٢) الألف والسين والتاء فيها للصيرورة أي صار ناقة والمقصود: تخاذل المتجبر وصغر شأنه.
(٣) الصّغار- الرضى بالمذلة والهوان.
557
ويقال: يخرّبون بيوتهم بأيديهم، وقلوبهم باتّباع شهوات نفوسهم، ودينهم بما يمزجونه به من البدع.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٣]
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣)
لولا أن قضى الله عليهم أن يخرجوا لعذّبهم الله بالقتل والاستئصال «١»، ثم في الآخرة لهم عذاب النار.
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٤]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤)
ذلك بأنهم خالفوا أمر الله. والمشاقّة أن يتحول المرء إلى شقّ آخر.
فالعاصى إذا انتقل من المطيعين إلى العاصين فقد شاقّ الله، ولمن شاقّ الله عذاب النار.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٥]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥)
اللّينة: كلّ نوع من النخيل ما عدا العجوة والبرنيّ «٢».
لمّا أمر رسول الله ﷺ بقطع بعض نخيل بنى النضير قالت اليهود:
ما فائدة هذا؟!.
فبقى المسلمون عن الجواب، فأنزل الله تعالى هذه الآية ليوضّح أن ذلك بإذن الله.
فانقطع الكلام.
وفي هذا دليل على أن الشريعة غير معلّلة، وأنّ الأمر الشرعيّ إذا جاء بطل التعليل،
(١) هكذا في ص وهي في م (الاستبصار) وهي خطأ في النسخ.
(٢) واحدته البرنيّة، وهو نوع جيد من التمر مدوّر أحمر مشرب بصفرة. (الوسيط).
وسكتت الألسنة عن المطالبة ب «لم؟» وخطور الاعتراض أو الاستقباح خروج عن حدّ العرفان. والشيوخ.
قالوا: من قال لأستاذه وشيخه «١» :«لم؟» لا يفلح. وكلّ مريد يكون لأمثال هذه الخواطر في قلبه جولان لا يجىء منه شىء. ومن لم يتجرّد قلبه من طلب التعليل، ولم يباشر حسن الرضا بكلّ ما يجرى واستحسان ما يبدو من الغيب لسرّه وقلبه- فليس من الله فى شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٦ الى ٧]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧)
يريد بذلك أموال بنى النضير «٢»، فقد كانت من جملة الفيء لا من الغنيمة فالفىء ما صار إلى المسلمين من أموال الكفّار من غير قتال ولا إيجاف خيل وركاب، وتدخل في جملته أموالهم إذا ماتوا وصارت إلى بيت المال. والغنيمة ما كانت بقتال وإيجاف خيل وركاب.
وقد خصّ رسول الله (ص) بأموال هؤلاء فقراء المهاجرين، واستأثر لنفسه بما شاء، فطابت نفوس الأنصار بذلك، وشكر الله لهم. ذلك لأن تحرّر القلب من الأعواض والأملاك صفة السادة «٣» والأكابر. ومن أسرته الأخطار وبقي في شحّ نفسه فهو في تضييقه وتدنيقه، وهو فى مصادقته ومعاملته ومطالبته مع الناس دائما يبحث في استيفاء حظوظه- وهذا ليس له من مذاقات هذه الطريقة «٤» شىء.
(١) لاحظ كيف يوجّه القشيري إشارته إلى المريدين، وما ينبغى أن تكون عليه علاقتهم بشيوخهم.
(٢) عن الزهري عن مالك بن أوس عن عمر رضى الله عنه قال: كانت أموال بنى النضير مما أفاء الله على رسوله (ص) مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله (ص) خاصة ينفق على أهله منها نفقة سنته ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله (البخاري ح ٣ ص ١٣٣).
(٣) هكذا في ص وهي في م (السعادة) وهي خطأ من الناسخ.
(٤) يقصد طريقة الصوفية.
وأهل الصفاء لم تبق عليهم من هذه الأشياء بقية، وأمّا من بقي عليه منها شىء فمترسّم «١» سوقيّ.. لا متحقّق صوفيّ.
قوله جل ذكره: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» هذا أصل من أصول وجوب متابعته، ولزوم طريقته وسيرته- وفي العلم تفصيله.
والواجب على العبد عرض ما وقع له من الخواطر وما يكاشف به من الأحوال على العلم- فما لا يقبله الكتاب والسّنّة فهو في ضلال «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٨]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨)
يريد أن هذا الفيء لهؤلاء الفقراء الذين كانوا مقدار مائة رجل.
«يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ» وهو الرزق «وَرِضْواناً» بالثواب في الآخرة.
وينصرون دين الله، «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» : والفقير الصادق هو الذي يترك كلّ سبب وعلاقة، ويفرغ أوقاته لعبادة الله، ولا يعطف «٣» بقلبه على شىء سوى الله، ويقف مع الحقّ راضيا بجريان حكمه فيه.
(١) هكذا في م وهي في ص (متوسّم). وعلى الأول يكون المعنى أنه شخص تهمه الرسوم والأشكال، أما باطنه وحقيقته فغير رسمه، وعلى الثاني يكون المعنى أنه يكتفى من التصوف بالسّمة أي العلامة كالثوب مثلا.. وباطنه غير سليم. والربط بين الصفاء والتصوف- كما يتضح من العبارة- عنصر أساسى في مذهب القشيري. (انظر الرسالة باب التصوف).
(٢) نحسب أنه ليس بعد هذا مجال للتخرص بأن الصوفية يجانبون الشريعة أو يقلّلون من قدرها.
فمحصول خواطرهم، ومكاشفاتهم من خلال أحوالهم... كل ذلك ينبغى ألا يكون مرفوضا من الشرع. ومحاولة عقد لقاء بين الحقيقة والشريعة عنصر أساسى آخر في مذهب القشيري- رحمه الله.
(٣) عطف يعطف هنا بمعنى مال وانحنى تجاه ناحية تاركا ناحية أخرى- وهذا هو أصل معنى اللفظة قبل أن تأخذ معانيها التوسعة. [.....]
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٩]
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)
نزلت هذه الآية في الأنصار. «تَبَوَّؤُا الدَّارَ» أي سكنوا المدينة قبل المهاجرين..
«يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ» من أهل مكة.
«وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً» مما خصّص به المهاجرون من الفيء، ولا يحسدونهم على ذلك، ولا يعترضون بقلوبهم على حكم الله بتخصيص المهاجرين، حتى لو كانت بهم حاجة أو اختلال أحوال.
«وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
قيل نزلت الآية «١» فى رجل منهم أهديت له رأس شاة فطاف على سبعة أبيات حتى انتهى إلى الأول.
وقيل نزلت في رجل منهم نزل به ضيف فقرّب منه الطعام وأطفأ السراج ليوهم ضيفه أنه يأكل، حتى يؤثر به الضيف على نفسه وعلى عياله، فأنزل الله الآية في شأنه «٢».
ويقال: الكريم من بنى الدار لضيفانه وإخوانه (واللئيم من بناها لنفسه) «٣».
وقيل: لم يقل الله: ومن يتّق شحّ نفسه بل قال: ومن يوق شحّ نفسه «٤».
ويقال: صاحب الإيثار يؤثر الشبعان على نفسه- وهو جائع.
(١) حديث القشيري عنه وفيما بعد عن الإيثار يصلح أن يكون متمما للفصل الذي عقده في رسالته عن الفتوة ص ١١٣.
(٢) هكذا في رواية أبى هريرة (البخاري ح ٣ ص ١١٣).
(٣) ما بين القوسين موجود في ص وغير موجود في م.
(٤) فتقاه من الله لا من نفسه.
ويقال: من ميّز بين شخص وشخص فليس بصاحب إيثار حتى يؤثر الجميع دون تمييز.
ويقال: الإيثار أن ترى أنّ ما بأيدى الناس لهم، وأن ما يحصل في يدك ليس إلا كالوديعة والأمانة عندك تنتظر الإذن فيها.
ويقال: من رأى لنفسه ملكا فليس من أهل الإيثار.
ويقال: العابد يؤثر بدنياه غيره، والعارف يؤثر بالجنة غيره «١».
وعزيز من لا يطلب من الحقّ لنفسه شيئا: لا في الدنيا من جاه أو مال، ولا في الجنّة من الأفضال، ولا منه أيضا ذرّة من الإقبال والوصال وغير ذلك من الأحوال «٢».
... وهكذا وصف الفقير يكون بسقوط كلّ أرب.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ١٠]
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠)
أي والذين هاجروا من بعدهم، ثم أجيال المؤمنين من بعد هؤلاء إلى يوم القيامة..
كلّهم يترّحمون على السلف من المؤمنين الذين سبقوهم، ويسلكون طريق الشفقة على جميع المسلمين، ويستغفرون لهم، ويستجيرون من الله أن يجعل لأحد من المسلمين في قلوبهم غلّا أي حقدا. ومن «٣» لا شفقة له على جميع المسلمين فليس له نصيب من الدّين.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ١١]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١)
(١) ومن قبيل ذلك ما يقوله له الحسين النوري (ت ٢٩٥ هـ) :
«اللهم إن يكن قد سبق في مشيئتك التي لا تتخلف أن تملأ النار من الناس أجمعين فإنك قادر على أن تملأها بي وحدي وأن تذهب بهم إلى الجنة».
(٢) لأن الأحوال من الله، فهى من عين الجود، كما أن المقامات ببذل المجهود.
(٣) سقطت (ومن) من م وهي موجودة في ص، وهي ضرورية للسياق.
يريد بهم منافقى المدينة ظاهروا بنى النضير وقريظة، وعاهدوهم على الموافقة بكلّ وجه، فأخبر الله- سبحانه- أنهم ليسوا كما قالوا وعاهدوا عليه، وأخبر أنّهم لا يتناصرون، وأنّهم يتخاذلون، ولئن ساعدوهم في بعض الحروب فإنهم يتخاذلون إن رأوهم ينهزمون أمام من يجاهدونهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ١٣]
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣)
أخبر- سبحانه- أن المسلمين أشدّ رهبة في صدورهم من الله «١»، وذلك لقلّة يقينهم، وإعراض قلوبهم عن الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ١٤]
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤)
أخبر أنهم لا يجسرون على مقاتلة المسلمين إلّا مخاتلة، أو من وراء جدران.
وإنما يشتدّ بأسهم فيما بينهم، أي إذا حارب بعضهم بعضا، فأمّا معكم... فلا.
«تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ».
اجتماع النفوس- مع تنافر القلوب واختلافها- أصل كلّ فساد، وموجب كلّ تخاذل، ومقتضى تجاسر العدوّ.
(١) والمعنى أنهم بنفاقهم يقولون: نحن نخاف الله، ولكنهم في الحقيقة يخافون منكم خوفا أشدّ من خوفهم من الله، وذلك لقلة يقينهم... إلخ.
واتفاق القلوب والاشتراك في الهمّة والتساوي في القصد يوجب كلّ ظفر وكلّ سعادة.. ولا يكون ذلك للأعداء قطّ فليس فيهم إلا اختلال كلّ حال، وانتقاض كلّ شمل.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ١٥]
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥)
مثل بنى قريظة كمثل بنى النضير «١» ذاق النضير وبال أمرهم قبل قريظة بسنة «٢» وذاق قريظة بعدهم وبال أمرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ١٦]
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦)
أي مثل هؤلاء المنافقين مع النضير- فى وعدهم بعضهم لبعض بالتناصر- كمثل الشيطان «إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ... ».
وكذلك أرباب الفترة وأصحاب الزّلّة وأصحاب الدعاوى.. هؤلاء كلّهم في درجة واحدة فى هذا الباب- وإن كان بينهم تفاوت- لا تنفع صحبتهم في الله قال تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» «٣» وكلّ أحد- اليوم- يألف شكله فصاحب الدعوى إلى صاحب الدعوى، وصاحب المعنى إلى صاحب المعنى.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ١٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨).
(١) يرى النسفي أن: «مثلهم كمثل أهل بدر» (النسفي- ح ٤ ص ٢٤٣).
(٢) وكان ذلك عقب مرجع النبي (ص) من الأحزاب ففى رواية عن عائشة رضى الله عنها قالت: لما رجع النبي (ص) من الخندق، ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح والله ما وضعناه فاخرج إليهم قال: فإلى أين؟ قال: هاهنا- وأشار إلى بنى قريظة (البخاري ح ٣ ص ٢٣).
(٣) آية ٦٧ سورة الزخرف.
التقوى الأولى على ذكر العقوبة في الحال والفكر في العمل خيره وشرّه «١».
والتقوى الثانية تقوى المراقبة والمحاسبة، ومن لا محاسبة له في أعماله ولا مراقبة له في أحواله.. فعن قريب سيفتضح «٢».
وعلامة من نظر لغده أن يحسن مراعاة يومه ولا يكون كذلك إلّا إذا فكّر فيما عمله فى أمسه والناس في هذا على أقسام: مفكّر في أمسه: ما الذي قسم له في الأزل؟ وآخر مفكّر فى غده: ما الذي يلقاه؟؟ وثالث مستقل بوقته فيما يلزمه في هذا الوقت فهو مصطلم عن شاهده موصول بربّه، مندرج في مذكوره «٣» لا يتطلّع لماضيه ولا لمستقبله، فتوقيت الوقت يشغله عن وقته «٤».
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ١٩]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩)
تركوا طاعته فتركهم في العذاب وهو الخذلال حتى لم يتوبوا.. أولئك هم الفاسقون».
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٢٠]
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)
لا يستوى أهل الغفلة مع أهل الوصلة.
وأصل كلّ آفة نسيان الربّ، ولولا النسيان لما حصل العصيان، والذي نسى أمر نفسه فهو الذي لا يجتهد في تحصيل توبته، ويسوّف فيما يلزمه به الوقت من طاعته.
(١) ويكون العبد فيها في مرحلة الغيبة (أي قبل السّكر) : فيما دام هناك وارد لثواب أو عقاب أو فكر فى حال أو مآل- فهذه في منازل السالكين دون المرحلة التالية.
(٢) تفيد هذه الإشارة في توضيح الفرق في الاصطلاح بين: المراقبة والمحاسبة.
(٣) لأن أقصى درجات الذكر أن يفنى الذاكر في المذكور، وقد اعتبرنا الأوصاف أسماء مفعول تعبيرا عن فناء الإرادة الإنسانية، وتجرد العبد من كل فعل في نفسه ولنفسه. [.....]
(٤) ولهذا يقولون: الصوفىّ ابن وقته ومعناه أنه مشتغل بما هو أولى به في الحال، قائم بما هو مطالب به فى الحين، مستسلم لما يبدوله من الغيب من غير اختيار له. ومن ساعده الوقت فالوقت له وقت، ومن ناكده الوقت فالوقت عليه مقت. (الرسالة ص ٣٤).
(٥) سيعود القشيري لاتمام إشارة هذه الآية بعد الآية التالية.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٢١]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)
أي لو كان للجبل عقل وصلاح فكر وسرّ، وأنزلنا عليه هذا القرآن لخضع وخشع.
ويجوز أن يكون على جهة ضرب المثل كما قال: «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ» «١» ويدل عليه أيضا قوله:
«وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ» : ليعقلوا ويهتدوا، أي بذلك أمرناهم، والمقصود بيان قسوة قلوبهم عند سماع القرآن.
ويقال: ليس هذا الخطاب على وجه العتاب معهم، بل هو على سبيل المدح وبيان تخصيصه إيّاهم بالقوة فقال: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ» لم يطق ولخشع- وهؤلاء خصصتهم بهذه القوة حتى أطاقوا سماع خطابى «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٢٢]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢)
«الْغَيْبِ» : ما لا يعرف بالضرورة، ولا يعرف بالقياس من المعلومات «٣». ويقال: هو ما استأثر الحقّ بعلمه، ولم يجعل لأحد سبيلا إليه.
«وَالشَّهادَةِ» : ما يعرفه الخلق.
وفي الجملة: لا يعزب عن علمه معلوم.
(١) آية ٩٠ سورة مريم.
(٢) يتصل هذا بموضوع السماع عند الصوفية، وقد عقد السراج له فصلا ممتعا فى «اللمع»، ومن أقواله المتصلة بهذه النقطة الى أثارها القشيري يقول السراج: ألا ترى أحدهم يكون ساكنا فيتحرك ويظهر منه الزفير والشهيق، وقد يكون من هو أقوى منه ساكنا في وجده لا يظهر منه شىء من ذلك (اللمع ص ٣٧٥) ويجيب الجنيد حين سئل عن سكونه وقلة اضطرابه عند السماع: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب).
(٣) أي لا يعرف بالضرورة العقلية ولا بالقياس العقلي لأن العقل يستمد أحكامه من المحسات، والغيب بعيد عن المحسات، فلا سبيل للخلق إليه بوسائلهم المحدودة وحدها.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٢٣]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣)
الملك: ذو القدرة على الإيجاد.
القدوس: المنزّه عن الآفة والنقص.
السلام: ذو السلامة من النقائص، الذي يسلّم على أوليائه، والذي سلم المؤمنون من عذابه.
المؤمن: الذي يصدق عبده في توحيده فيقول له: صدقت يا عبدى.
والذي يصدّق نفسه في إخباره أي يعلم أنه صادق.
ويكون بمعنى المصدق لوعده. ويكون بمعنى المخبر لعباده بأنه يؤمّنهم من عقوبته.
المهيمن: الشاهد، وبمعنى الأمين، ويقال مؤيمن (مفيعل) من الأمن قلبت همزته هاء وهو من الأمان، ويقال بمعنى المؤمن.
العزيز: الغالب الذي لا يغلب، والذي لا مثيل له، والمستحق لأوصاف الجلال، وبمعنى: المعزّ لعباده. والمنيع الذي لا يقدر عليه أحد.
الجبّار: الذي لا تصل إليه الأيدى. أو بمعنى المصلح لأمورهم من: جبر الكسر. أو بمعنى القادر على تحصيل مراده «١» من خلقه على الوجه الذي يريده من: جبرته على الأمر وأجبرته.
المتكبر: المتقدّس عن الآفات.
قوله جل ذكره:
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٢٤]
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤).
(١) هكذا في م وهي في ص (مرات).
567
هو المنشئ للأعيان والآثار.
«لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» : المسمّيات الحسان.
«وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» : مضى معناهما، وقد استقصينا الكلام في معانى هذه الأسماء (فى كتابنا المسمّى: «البيان والأدلة في معانى أسماء الله تعالى» ) «١».
(١) ما بين القوسين غير موجود في م وهو موجود في ص. وهذه أول مرة نعرف للقشيرى كتابا بهذا الاسم فلم يرد ذكره في كتب الفهارس والتراجم. وكنا نعلم حتى هذه اللحظة أن القشيري قد عالج دراسة الأسماء والصفات في كتابين فقط أولهما: التحبير في التذكير تحقيق بسيونى. والثاني: شرح أسماء الله الحسنى تحقيق الحلواني.
568
Icon