تفسير سورة الأنفال

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْأَنْفَالِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قال الزمخشري: مدنية، وقال ابن عطية: إلا قوله (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ) ابن عرفة: وذكروا في سبب نزولها أنها نزلت لأجل خروجه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة فمن رأى أن اسم الهجرة إنما يصدق عليه بعد استقراره في المكان الذي هاجر إليه جعلها مكية، ومن رأى أنه حين خروجه من مكة يسمى مهاجرا جعلها مدنية؛ لأن المدني هو ما نزل بعد الهجرة، والمكي ما نزل قبل الهجرة.
[قال ابن عطية: أسند الطبري عن سعد بن أبي وقاص، قال: لما كان يوم بدر وقتل أخو عبيد قتلت [سعيد*] ابن العاصي وأخذت سيفه، [فطلبته*] من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: ليس ذلك إلي فاطرحه في [القبض*]، قال ابن عرفة: [القبض*] للغنيمة مثل الحمول للتمر، وهو [**المخل] الذي توضع فيه الغنائم.
ابن عرفة: وسمي ثقلا لأنه عن غير عوض فأشبه النافلة، قال أبو حيان: قرئ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ (١).. بإسقاط عن وبإثباتها؛ فعلى الأول يكون سؤالها بمعنى طلبتم أخذها، وعلى الثاني [يكون*] يسألون عن حكمها.
قال ابن عرفة: فالمسئول عنه إن كان ذاتا تعدى الفعل إليه بنفسه، وإن كان معنى تعدى إليه بحرف الجر، ابن عرفة: قال بعضهم: وعرف الأقران أيضا أنه إن كان المسئول عنه معنى، فإن كان ناشئا عن اختلاف تعدي الفعل إليه بعن، وإن لم يكن ناشئا عن اختلاف تعدى إليه الفعل بنفسه، كقوله (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) قلت: والسؤال هنا نشأ عن اختلاف، لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) وقال شيخنا أيضا: المعدى بعن يكون إلى الحسي وإلى المعنوي، وقال تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُل هُوَ أذًى)، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَينِ)، (وًيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ)، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ)، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا).
قوله تعالى: (قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).
والأصل أن يقال: قل هي لله وللرسول، كما قال تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُل هُوَ أَذًى) لكنه أعيد الظاهر هنا، والمعنى حكمها لله والرسول فحكمها لله باعتبار أصل الشريعة؛ لأنه يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء، والرسول باعتبار التبليغ لأنه هو المبلغ [عن*] الله، فإن قلت: السؤال عن إعطائها فكيف طابق الجواب، قلنا؛ هو [بمنزلة*] من سأل رجلا أن يعطيه العبد الفلاني، فيقول له: كيف نعطيك وهو شركة بيني وبين فلان؟.
قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ).
البين من أسماء الأضداد يطلق على الاجتماع وعلى الافتراق.
قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
ابن عرفة: وعادتهم يوردون سؤالا وهو: لما أتى بالرسول أولا معرفا بالألف واللام وثانيا مضافا إلى الضمير بما ليس فيه، وعادتهم يجيبون بأن الحكم لَا يستدعي الإضافة، والطاعة الامتثال فناسب إضافة الرسول، كما تقول: امتثلت أمر رسول الخليفة فإن ذكره معين على الامتثال ومسبب فيه؛ لأنه يفيد التهييج على الطاعة من حيث كونه من عند الله فهو أبلغ من كونه مضافا، وأما في الأول فإنه أتى به لمجرد الإخبار فلم يفتقر إلى إضافة.
قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
إما أن يراد به مطلق الإيمان فيكون من خطاب التهييج والإلهاب مثل: إن كنت ولدي فبرني، وإما أن يراد بالإيمان الكامل فيكون الشرط على بابه.
قوله تعالى: ﴿إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ... (٢)﴾
وقال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وقال تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) والجمع بين هذه الآيات.
قوله تعالى: (ذِكْرِ اللَّهِ).
منه يحدث الطمأنينة واللين، وأسند الوجل هنا للقلب، وقال تعالى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)، وقال تعالى (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)، وقال تعالى (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ
277
أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) فأسنده إلى الفؤاد، فإما أن يقول أن الفؤاد يجمع أعم الجميع، أو المراد به القلب، أو المراد هنا بالقلب باطنه وهناك ظاهره وباطنه، فكذلك عبر عنه بالفؤاد، وقال تعالى فى آخر سورة النور (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) قال ابن عرفة: فعادتهم يوردون فيها سؤالين؛ الأول: كيف الجمع بينها وبين هذه الآية؟، وهل هما متساويتان أم لَا في والجواب: أن المراد: إنما المؤمنون الكاملون الإيمان، ووصف الكمال يحتمل تناوبهما فيه ويحتمل التفاوت.
السؤال الثاني: لم خص الإيمان هنا بمن اتصف بالوجل؛ ولم يقل: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله؟ قال: وعادتهم يجيبون بأن الوصف المجرد هنا معنى راجع للقلوب وهو أمر باطن فلذلك أسنده إلى الوجل، والوصف هنا ظاهر حسي؛ فلذلك علقه بالإيمان القولي الظاهر وهو النطق باللسان لأن ما بعده أمر ظاهر وهو الاستئذان.
قوله تعالى: (زَادَتْهُمْ إِيمَانًا).
ابن عرفة: الإيمان إن أريد به مجرد التصديق والاعتقاد القلبي؛ فهذا لا يزيد ولا ينقص، وإن أريد الإيمان باعتبار فعل العمل البدني فهذا يزيد وينقص، واختلفوا في تقرير زيادته فمنهم من جعله يزيد باعتبار المتعلقات مثل أن يكلف بشيء فيؤتى به، ثم يكلف بآخر فيؤتى به، ومنهم من جعله يزيد باعتبار كثرة الأعمال الصالحة، ومنهم من جعله يزيد بكثرة الأدلة وزيادة باعتبار الأدلة إنما تفعل عند من يجعل العلوم متفاوتة، وأما من يقول: إنها لَا تتفاوت فيمنع الزيادة، قال: والنقص فيه إنما يعقل باعتبار الأدلة وقلتها، وأما باعتبار المتعلقات فلا يعقل فيه النقص؛ لأن من لَا يؤمن ببعض التكاليف هو كافر؛ اللهم لو كان ذلك قبل البلوغ، فكلف بأمرين أمر بأخذهما دون الآخر فهذا يعقل.
قوله تعالى: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
عبر هنا بلفظ الرب المقتضي للرحمة والحنان والشفقة، وعبر في الأول، بقوله (إذَا ذُكِرَ اللَّهُ) لما عقبه بالخوف والوجل، فإن قلت: لم قال (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) و (زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) فعبر فيهما بلفظ الماضي، وقال (يتوَكلُونَ) فعبر بالمستقبل؟ قلنا: الماضي يقتضي التحقيق والحصول؛ فناسب الأولين؛ لأنه أبلغ في المدح إشارة إلى سرعة الحصول، وعبر في الثالث بالمستقبل إشارة إلى التجرد والتصوير، كقوله
278
تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) ولا يقال: يؤخذ من الآية أن الذكر أفضل من التلاوة لأجل تقديمه لجواز أن يكون العطف في الآية من باب الترقي.
قوله تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)﴾
احتج بها الفخر للمعتزلة في قولهم: إن الرزق إنما يطلق على الحلال؛ لأن الآية خرجت مخرج الثناء على المؤمنين، ولا يصح الثناء إلا بإنفاق المال الحلال، ورده ابن عرفة: بقوله: (وَمِمَّا) وهي للتبعيض، فهم أنفقوا بعض الرزق وذلك البعض هو الحلال.
قوله تعالى: ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ... (٤)﴾
الجمع إما للتوزيع، أو يكون لكل واحد درجات.
قوله تعالى: ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)﴾
لا يبعد أن يؤخذ منها أن الموت أمر وجودي، وفيه دليل على أن الوجود مصحح للرؤية وإلا لزم منه التشبيه بالمحال؛ هذا إن كان مفعول ينظرون ضميرا محذوفا عائدا على الموت، وإن لم يكن كذلك لم يؤخذ منه ما ذكر.
قوله تعالى: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ... (٧)﴾
قلت: هذا تحصيل الحاصل إذ الحق لَا يحق قبل إحقاقه بمعنى إظهاره؛ أي يظهر الحق ويظهر الباطل؛ أي يظهر إبطاله.
قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)﴾
قال ابن عرفة: ما الفائدة في إمدادهم بالملائكة مع أن الله قادر على نصرتهم من غير إمداد، قال: فمنهم من أجاب بأنه إشارة إلى ترجيح اتخاذ الأسباب واعتبار الأمور العادية، وأن الإنسان إذا رأى عدوا لَا قدرة له عليه لم ينبغ له أن يقدم على قتاله حتى يكون معه من يعضده عليه، إلا أن تدعوه الضرورة إلى ذلك، ومنهم من قال: ليظهر امتنان الله تعالى على نبيه، وقيل: إن ذلك خشية أن لو اقتصروا عليهم من غير إمداد بالملائكة لتوهم شأن المسلمين ومن فيه نجدة أن ذلك بمجرد قدرتهم في ذواتهم، ولذلك حكى الزمخشري تلك الحكاية هنا، وإنما عبر بالاسم في قوله (مُمِدُّكُم) إشارة إلى ثبوت الإمداد وتحققه.
قوله تعالى: (مُرْدِفِينَ).
أي يردف بعضهم بعضا، وبهذا يجاب عن المعارضة بينها، وبين قوله تعالى: في آل عمران (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ).
قوله تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)﴾
احتراس خشية أن يتوهموا أن النصر بالملائكة، فأفاد أن هذه أمور عادية، والنصر عندها لَا بها.
قوله تعالى: ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (١١)﴾
ولم يقل: أقدامكم.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ... (١٣)﴾
قال ابن عرفة: يؤخذ منها جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين. لأن سياق الكلام يدل على أن هذا الحكم المذكور معلل بالحكم؛ لأن ذلك الحكم عقب المناسب يشعر بالغلبة، والعلة الثانية قوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُم).
قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
أدغم في سورة الحشر وأظهر هنا فأجاب صاحب المثل السائر: بأنه زاد هنا (وَرَسُولَهُ) فبالغ بالعطف فناسب المبالغة [بالتضعيف*]، وهناك حذف ورسوله، قال ابن عرفة رحمه الله: ووجه الإدغام إن تأولت منه الحركات لازمة جاز الأمران، مثل هذا فإن أصله يشاقق؛ فمن نظر إلى أنه يكسر إذا التقى مع ساكن جاء فيه توالي الحركات في بعض الأحوال فيدغم، ومن نظر إلى أن أحد الحرفين ساكن والكسر عارض، فلا يعتد به أظهر ولم يدغم.
والإدغام لغة أهل الحجاز، وليس عندهم إلا الإدغام، وبنو تميم يجيزون الأمرين.
قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
قال أبو حيان: هنا ضمير مستتر لَا بد منه، أي شديد العقاب له، ورده ابن عرفة بأنه اعتقد أنه خبر مَن، وتقرر في باب الأفعال أن خبرها إنما هو فعل الشرط، فالرابط إنما هو الضمير في يشاقق، قيل لابن عرفة: إنما قدره؛ لأن المعنى يقتضي أن المراد شديد العقاب له، فقال: لم يعتبر هو هذا.
قال ابن عرفة: واستدل الأصوليون بهذه الآية على أن الإجماع حجة.
قوله تعالى: ﴿فَذُوقُوهُ... (١٤)﴾
إذا كان هذا ذواقا فما بالك بما فوقه من العذاب، والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ).
قوله تعالى: ﴿فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥)﴾
ولم يقل: أدباركم إشارة إلى أن الإنسان كلف بفعل نفسه وبفعل غيره فهو أبلغ؛ لأنه إذا ولى هو دبره كان ذلك سببا لتولي غيره، فصح نفيه عن فعل غيره بهذا المعنى، فينبغي له إذا رأى غيره ولى دبره أن لَا يولى هو بل يقف ويقاتل ويناضل عمن ولى دبره ليرجع ويقاتل، فما حكاه ابن عطية هنا لَا يناسب، وغزوة القادسية وغزوة مؤتة إنما ولوا فيها لقلة النَّاس حينئذ، ولم يكن لهم قدرة على المقاتلة فلهم عذر حينئذ، وإذا ولَّى أحد متحيزا إلى فئة مقاتلة لَا شيء عليه، وإن ولى إلى فئة واقفة غير مقاتلة فهو [مذموم*].
قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى... (١٧)﴾
قال ابن عرفة: عادتهم يقولون لأي شيء لم يقل فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم ولكن الله قتلهم، كما قال (وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ) قال: والجواب أنه إنما خصص الثاني تشريفا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في إسناد الرمي إليه، وأما القتل هنا فهو مستتر لغيره، قال: ونظير إسناد الفعل لغير الله تعالى أن القاضي إذا رأى رجلا قتل آخر بأن استحضر مقام التوحيد لم يوجب عليه قصاصا؛ لأن الأشياء كلها بخلق الله وقدرته، وإن استحضر مقام التكليف واعتبر الأسباب العادية أوجب عليه القصاص أو الدية، قال: ومعنى الآية وما رميت الرمي المؤثر إذ رميت الرمي العادي ولكن الله رمى الرمي المؤثر، وإن لم يفهم كذلك لزم التناقض لتوارد النفي والإثبات على شيء واحد في حالة واحدة.
قوله تعالى: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ... (١٩)﴾
ابن عرفة: الصواب في الآية أنها خطاب للكافرين.
قال الزمخشري: على سبيل التهكم بهم، أي إن تطلبوا الفتح فقد جاءكم ما طلبتم؛ لأنهم دعوا الله؛ فقالوا: إن كان محمد على الحق فانصره وإن كنا على حق فانصرنا.
قال ابن عرفة: لأن الآية تكون على وتيرة واحدة؛ أي: وإن تنتهوا عما أنتم عليه، وعلى التأويل الآخر وهو أنها خطاب للمؤمنين يختلف التقدير؛ فيكون المراد: إن تطلبوا الحكم بينكم وبين الكفار فقد جاءكم الفتح، وإن تنتهوا عن المشاجرة والمخاصمة في أمر الغنائم فهو خير لكم، فمتعلق الفعل الثاني على هذا غير متعلق الفعل الأول ويؤيده أيضا قوله (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ... (٢٠)﴾
دليل على أن الإيمان غير الطاعة.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٢١)﴾
الظاهر أيضا في المنافقين، ويحتمل أن يراد بها اليهود؛ لقوله تعالى: (قَالُوا سَمِعنَا وَعَصَينَا) والمراد السماع النافع.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (٢٢)﴾
هذه الآية رد بها ابن هشام على كون الخبر أعم من المبتدأ؛ لأن الصم البكم أخص من شر الدواب على الصم البكم العمي، وعلى البكم العمي.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)﴾
إن قلت: من شرط المقدمين في علم المنطق أن يصدقا في النتيجة وهي هنا كاذبة؛ لأنها تنتج: لو علم الله فيهم خيرا لتولوا وهم معرضون، قال ابن عرفة: والجواب بأن القياس عند الأصوليين على ثلاثة أقسام: افتراضي، وشرطي، واستثنائي، مثل الاستثنائي: لو كان هذا إنسانا حيوانا لكنه ليس بحيوان فليس إنسانا، أو لكنه حيوان فهو إنسان؛ لأنه ينتج نقيض المقدم أو عينه وهو في الآية قياس اقتراني أن سور الكبرى فيه إن كان كليا أنتج، وإن كان مهملا لم ينتج مثال الأول لو كان هذا إنسانا لكان حيوانا، وكلما كان حيوانا كان جسما ينتج كلما كان إنسانا جسما، والمهمل هل هو مثل هذه الآية؛ لأن المهمل في قوة الجزية فلا ينتج فلا يرد علينا ما أورده فيها، قلت: وأجاب ابن عرفة وغيره: بأن الإسماع مختلف، فالإسماع الأول: بمعنى الإجابة، والثاني: بمعنى إفهام القول المأخوذ من السماع، وأيضا فشرط إنتاج الشكل الثاني في المنطق قول المقدمة الثالثة كلية، وأما إن كانت جزئية فلا يجتمعان.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ... (٢٤)﴾
كان بعضهم يقول: يحتمل رجوع الخيانة هنا إلى أمرين: خيانة فيما هو حق الله كقتل الحرابة فإنه حق لله لَا يجوز فيه العفو.
وخيانة فيما هو حق لآدمي كقتل القصاص فإنه يجوز فيه العفو، ويحتمل رجوعها إلى ثلاثة أمور: خيانة في حق الله الراجع للاعتقاد القطعي العقلي القلبي؛ كقول المعتزلة: إن العبد يستقل بفعله.
خيانة في حق الله الراجع للاعتقاد الظني كاعتقاد صحة المعاد.
وخيانة فيما هو حق الآدمي مستفاد من الشرع.
ابن عرفة: كقتل القصاص، والخيانة يتعدى إلى المخون بنفسه، وإلى المخون فيه بحرف الجر، كقوله: خان زيد عمرو في ماله، فإن قلت: فلم عدى الفعل أولا للمخون له وثانيا للمخون فيه؟؛ لأنه قال (لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ (٢٧).. فعداه للمخون، ثم قال (وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ) فعداه للمخون فيه بنفسه، فما السر في ذلك؟ قال: والجواب أن الأول لما كان حقا لله كان كالمستعظم فيه ذا الحق فذكر ذو الحق وهو المخون دون المخون فيه، ولما كان الثاني حقا للآدمي كان الاستعظام فيه أوقع في النفوس من استعظام صاحب الحق؛ لأن حرمة المال ومحبته أوقع في النفوس من محبة صاحبه، أو تقول في الأول لما كان المخون له أعظم مما فيه الخيانة وأشرف كان ذكره أبلغ في النفس بخلاف الثاني، أو يجاب بأنه على حذف مضاف؛ أي وتخونوا ذوي أماناتكم.
قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ... (٢٨)﴾
قال ابن عرفة: قدم المال على البنين وهو عرف القرآن في غير ما موضع، ولم يرد ما يخالفه في سورة آل عمران في قوله تعالى: (مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) ابن عرفة: وكان بعض الشيوخ يحكي أنه رأى بعض أهل السواد يمشي بأولاد كثيرين بعضهم يحمله على عنقه، وبعضهم بين يديه، وبعضهم يمشي معه، ويقول: ارحموا من خالف كتاب الله عن ذلك، فقال: الله يقول (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ) فقدم المال على البنين، وخالفت أنا نصه فقدمت البنين على المال.
قال ابن عرفة: وأخذوا من هذه الآية تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر؛ لأن المال سبب في الفتنة.
قوله تعالى: [(وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) *].
لأن المال زينة الحياة الدنيا التي هي زائلة منفصلة والآخرة فيها الثواب الباقي.
قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا... (٢٩)﴾
دليل على أن التقوى أخص من الإيمان خلافا لقول الإمام مالك رحمه الله في المتعة، ويجيب الآخرون بأن المراد: تدوموا على إيمانكم.
قوله تعالى: (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ).
راجع إلى [الستر*]؛ ولذلك سمي الحراث كافرا، والمغفرة راجعة إلى عدم المؤاخذة [بالذنب فقط*]، فإن جعلنا العاصي متقيا لاجتنابه الكبائر كان داخلا في هذه الآية، وإن قلنا: إن التقوى إنما على التوبة من الذنوب لم يدخل فيها العاصي.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ... (٣٢)﴾
قال ابن عرفة: يدعى الباطل تارة يدعيه من غير تسمية، وتارة يدعيه على صفة، فهؤلاء اعتقدوا أنه باطل ودعوا على أنفسهم إن كان حقا.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ... (٣٣)﴾
قال ابن عرفة: نفى الأول بالاسم، والثاني بالفعل، قال: فعادتهم يجيبون بأنه لما كان الاسم أبلغ من الفعل كان أخص منه، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم، ونفي الأعم أخص من نفي الأعم، مثل: ليس في الدار إنسان وليس فيها حيوان؛ فنفى الأول بلفظ الفعل فكان نفيا أخص؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهم بوجوده فهم موجب لدفع العذاب عنهم مجرد فعلهم وكسبهم وهو الاستغفار فكان أضعف فعبر فيه بالنفي الأعم فهو دون النفي الأول، فإن قلت: أول الآية اقتضى نفي العذاب عنهم، وآخرها اقتضى صحة وقوع العذاب بهم، فالجواب: أن الأول اقتضى نفي عذاب الاستئصال عنهم، والثاني: ثبوت مطلق العذاب المهلك.
قوله تعالى: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)﴾
إن قلت: هو من باب تعليل الحكم لعلتين: أحدهما: وصف الكفر، والآخر: صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، فالأولى منصوصة، والثانية موحى إليها لأن ذكر الحلم عقب الوصف المناسب يشعر بأنه علة له، وأيضا فإن الفاء للسبب.
قوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ... (٣٧)﴾
قال: ما وجه الجمع بين هذه الآية، وبين قوله تعالى: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فإن هذه الآية تقتضي أن الخبيث أكثر من الطيب؛ لأن الأَقل مخرج من الأكثر، والأخرى بالعكس.
فالجواب أن تلك شرطية على سبيل الفرض والتقدير، فلا يلزم منها الوقوع وهذه جملة [فعلية*]، ويؤخذ من الآية في باب التعديل والتجريح فيمن [دلت*] حاله أنه محمول على العدالة، خلاف مذهب مالك.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ... (٣٨)﴾
قال الزمخشري: الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تباعة، وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله تعالى وتبقى عليه حقوق الآدميين.
قال ابن عرفة: هذا مذهب أبي حنيفة؛ لأن الزمخشري حنفي المذهب.
وقال ابن العربي: إن الحربي إذا أسلم حفظت عنه الحقوق كلها إلا حد القذف، قال أشهب: وحد السرقة، قال ابن عرفة: وهذا غير صحيح والذي في المدونة أنه يسقط عنه الحدود كلها وهي مشكلة في المدونة؛ لأنه قال: سقط عنه حد القذف كما لا يطالب بالقتل، وتقدمنا مفارفتها للقتل بأنه إذا قذف وقتل فإنه يحد للقذف ثم يقتل فلم يجعل القتل مستلزما حد القذف، وتقدم الجواب بأنه إنما سقط عنه حد القذف وحد القتل يقتضي الآية؛ لأن سقوط القتل يستلزم سقوط ما دونه من باب أحرى؛ ولأن حصوله يستلزم حصول غيره.
قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ... (٤١)﴾
ابن عرفة: يؤخذ منها من لوازم العلم العمل؛ لأنه المقصود في الآية لأنه إذا انتفى الملزوم فليس المراد علم ذلك على العلم به، فلولا أن العلم بالشيء يستلزم العمل به لما صح الاكتفاء به عنه، ويلزم من عدم العمل به عدم العلم به، ويلزم من نفي اللازم نفي الملزوم، وهل المراد العلم حقيقة أو المراد اعتقاد ذلك علما أو ظنا؟ قال: إما بالنسبة إلى الصحابة فهو علم حقيقة، وإما بالنسبة إلى من بعدهم فتقرر الخلاف في دلالة القرآن هل هي قطعية أو ظنية، والظاهر أنه علم حقيقة لما تقرر من أن أهل أصول الدين يحتجون بآية القرآن في المطالب العلمية، فلولا أنه يفيد العلم لما صح احتجاجهم بذلك، والغنيمة ما أخذ بمجادلة وتكتسب من غير بيع ولا شراء، وقيل: ما أوجف عليه بالخيل والركاب، والعطف في الآية تدل، وقوله: (مَا
[غَنِمْتُمْ) الظاهر في أن (مَا) شرطية فتعم*] كل غنيمة تأتي بعدها ولو كانت موصولة لما تناولت إلا ما نص قبلها فقط.
قوله تعالى: (وَالْمَسَاكِينِ).
إن الفقير هو المسكين، وأشد منه حاجة ليدخل في الآية من باب أحرى، ولو كان العكس أضعف منه لخرج الفقير من الآية.
قوله تعالى: (وَابْنِ السَّبِيلِ).
هو الملازم للسبيل، وهو المسافر، [إذا قدم على بلد هو فيها فقير ويكون في بلده غنيا، فإن كان فقيرا في بلده فهو (مسكين) *].
قوله تعالى: (يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ).
كان في غزوة أحد وغزوة بدر وغيرهما، فقال: الألف واللام للعهد، فالمراد الجمعان الخاصين، وذكر الزمخشري حديثا فيه "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد" بالشين المعجمة، وذكر ابن دقيق العيد في الإلمام [بالسين المهملة*]، والشيء في اللغة: المثل؛ أي مثل واحد، والمراد هما متساويان.
قوله تعالى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا... (٤٣)﴾
ابن عرفة: وأنهم قليلين في العدد أو في القوة والنجدة.
قوله تعالى: (لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ).
إن قلت: التنازع والاختلاف سبب في القتل فهلا قدم عليه، فأجيب بأن القتل المراد به الجبن الطبيعي والهلع والخوف الحاصل في النفس، وهو سابق على التنازع، وإنما تتمة السؤال أن لو أريد القتل باعتبار الفعل وهو الكف عن المقاتلة لَا لخوف في النفس، قيل: لعدم الناصر والمعين.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا... (٤٤)﴾
ابن عرفة: في ظاهر الآية تناقض؛ لأن تقليل الكفار في أعين المسلمين نعمة على المسلمين، وسبب في هجومهم على الكفار وغلبهم لهم، ورؤية الكفار للمسلمين قليلين منافية لذلك؛ لأنها أيضا سبب في شدة الكفار وغلبتهم للمسلمين فيلزم التناقض، قال: وأجيب بأن تقليل كل فريق في أعين الفريق الآخر موجب لاجتماع الفريقين للحرب والقتال فيقع ما وعد الله به وأراده من نصرة المسلمين، وتقليل أحد
الفريقين في عين صاحبه دون الآخر موجب لهروب الفريق القليل من الكثير فلا يقع الاجتماع للحرب بوجه، وإنما جاء التناقض من جعل القليل موجب للغلبة؛ بل هو موجب للاجتماع الموجب للغلبة، قال: وعبر في الأول بالاسم وهو قوله تعالى: (فِي أَعْيُنِكُم قَلِيلًا) وقال في الثاني (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) فعبر عن تقليل المسلمين بالفعل، [وهنا*] إشارة أن تقليل [الكفار*] مستمر ثابت ليدوموا على القتال، ولا يدركهم هلع ولا قتل، وتقليل المسلمين في أعين الكفار [إنما يكون في أول الأمر؛ فإِذا التقى الجمعان ونشأ الحرب فإهم يرونهم حينئذٍ كثيرين فينهزموا*] ويدركهم الرعب والخوف.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥)﴾
قال ابن عرفة: الذكر مأمور به مطلقا، وهذا المحل مخصوص بكثرته؛ لقوله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لأن الطاعة مأمور بها مطلقا، ولا يؤخذ من الآية أن الأمر لا يقتضي التكرار، ولما احتيج إلى قوله (كَثِيرًا) لأن الكثرة أخص من مطلق التكرار.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ... (٤٦)﴾
قال ابن عرفة: جعل التنازع سبب في القتل، وقال قبلها: (وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) وتقدم الجواب بأن القتل أمر نفي جلي طبيعي وهو الخبر، والتنازع أمر فعلي ظاهر وهو المقابلة؛ فالفشل سبب في التنازع هنالك وأصابنا فالفشل ناشئ عن التنازع، وأنهم إما تنازعوا أو اختلفوا يقع الانهزام من طائفة منهم فيقع الفشل بالأخرى بقتلها.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ... (٤٨)﴾
ابن عرفة: التحسين هو حالة ذاتية توجب الميل إلى الشيء لذاته، والتزيين حالة عرضية توجب الميل إلى الشيء؛ لأن التزيين يزول والتحسين ثابت، تقول: أعجبني حسن الجارية وأعجبتني زينتها؛ فحسنها بإجمالها، وزينتها جمال ثيابها وحليها.
قوله تعالى: (وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ).
ابن عرفة: صفة حيث لم يأت بالنفي الأبلغ، فلم يقل: أنتم تغلبون عدوكم ليلا يكذب في مقالته، فأتى كلام متوسط ليكون أدعى إلى القبول، فقال (لَا غَالِبَ لَكُمُ) فهو يحتمل لأن يغلبوا عدوهم أو لَا؛ فيغلبونه ولا يغلبهم.
وقوله تعالى: (مِنَ النَّاسِ) إشارة أنه فهم أن الملائكة قد يعينون المسلمين عليهم فينغلبونهم أن يكون رأى الملائكة أو لم يرهم.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ... (٤٩)﴾
هم الكافرون.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ... (٥٠)﴾
اختلفوا في فاعل يتوفى، فقيل: الملائكة، وقيل: هو الله، وقيل: الملائكة مبتدأ.
ابن عرفة: والظاهر الأول لوجهين؛ أحدهما: أنه قرئ [ترى بالتاء*] والفاعل فيها الملائكة، وإحدى القرائتين [تُفَسِّرُ*] الأخرى.
الثاني: أن في إسناد توفيهم إلى الله تعظيم لهم، فإسناده إلى الملائكة أولى [لتحقير*] الكافرين؛ فإذا كان الفاعل الملائكة، فقد يقال: كان الأولى تقدير على المفعول؛ لأنه الأصل، ولأنه الأشرف، فيجاب بأنه إنما قدم لأنه الأهم بالذكر.
قوله تعالى: (يَضرِبُونَ وُجُوهَهُم وَأَدْبَارَهُمْ).
هذا مثل: ضربته الظهر والبطن، ومطرنا السهل والجبل إشارة إلى العموم.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ... (٥٣)﴾
قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: ما أفاد قوله تعالى: (أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ)؟ قال: وعادتهم يجيبون بأنه إشارة إلى تلك النعمة محض تفضل من الله تعالى [وليست*] جزاء بوجه فإذا لم يغير ما تفضل به عليهم من النعم، فأحرى إذا كانت نعمة عن سبب، ولذلك قال: لم يكن ليدل على نفي القابلية إن لم يفعل وليس هو قابلا لأن يفعل ذلك.
قوله تعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ... (٥٤)﴾
إن قلت: لم خص آل فرعون بالذكر دون غيرهم؟ قلنا: تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنهم كانوا كثيرا ما يؤذون موسى عليه الصلاة والسلام فهم أشد أذية من قريش لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن غيرهم.
قوله تعالى: (فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ).
فيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، بقوله تعالى: (بِذُنُوبِهِمْ) وفي ذلك أربعة أقوال: قيل: إنهم مخاطبون بالفروع، وقيل: لَا، وقيل: [مخاطبون فيما عدا الجهاد*]، وقيل: [الْفَرْقُ بَيْنَ النَّوَاهِي، فَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا دُونَ الْأَوَامِرِ*] (١).
قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ... (٥٥)﴾
هذا مثل ما تقدم عن ابن هشام في أن شرط الجزاء أن يكون أعم من المبتدأ.
قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ... (٥٧)﴾
أي فرق بهم وأبعدهم عن مقاتلتك من خلفهم، والمراد: وأبعدهم مسافتك ومخالفتك، فالإبعاد إما حسي وعليه جملة المفسرين، أو معنوي فإن كان الأولى دليل على أن قتل الأسارى هو المطلوب، وإن كان الثاني كان بارز في تخيير في الوجوه الخمسة، إما الأمر، وإما القتل، والمن والاسترقاق، أو ضرب الجزية.
قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).
إشارة إلى تقدم الأدلة الدالة على الإيمان فكأن الإيمان كان حاصلا، قلت: وقيد بعضهم عن ابن عرفة هنا ما نصه قوله تعالى: (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) ليعذبهم من خلفهم عن مسافتك ومقاتلتك، قال: فعلى هذا القسم هذه الآية تخصيص لما ورد من التخيير بين القتل والأسر والفداء والمن وغير ذلك، فما يراد صلاحا وسدادا أو يتعين القتل في حق هؤلاء؛ لأنه هو البعد عن مقاتلته من سواهم، وقيل: معناه فأبعدهم عن الكفر وعدم الإيمان بك فلا تخصيص على هذه، ويكون التخيير بين ما تقدم باقيا، ويكون أمر الفعل الأصلح، فإن قلت: أن لَا تدخل إلا على غير المحقق؛ فهلا قيل: فإذا تثقفنّهم؛ لأنه محقق الوقوع، ابن عرفة: فعادتهم يجيبون بأن تأكيد الفعل بالنون الشديدة اعتناء عن ذلك وغيره؛ كالمحقق لأنه المشكوك فيه لَا يؤكد وأيضا فترتيب الأمر بالتشديد عليه بغيره محقق الوقوع، قلت: وأجاب بعض الطلبة إنما هو الغلبة لا النفاق لأنهم في الممكن أن يمتربوا ويؤخذوا.
قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ... (٦٠)﴾
(١) قال القرافي في الفروق:
"فِي كَوْنِ الْكُفَّارِ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مُخَاطَبُونَ، لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ، الْفَرْقُ بَيْنَ النَّوَاهِي فَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا دُونَ الْأَوَامِرِ فَلَا يُخَاطَبُونَ بِهَا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَبِقَوَاعِدِ الدِّينِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْفُرُوعِ". اهـ (الفروق. ١/ ٢١٨).
ابن عرفة: هذا تسمية احتراس لأنه قد تقدم، قوله (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) فقد يتوهم أن ضعفهم وعدم قوتهم يوجب عدم الاستعداد لهم.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى... (٦٧)﴾
ابن عرفة: ما ذكره ابن عطية وغيره عن أبي بكر وعمر ينبغي حمله على وجهين؛ أحدهما: أن الخطأ في الجهاد ملزوم للتأثم، الثاني: ما ذكره ابن الحاجب من أنه قد تعرض له صلى الله عليه وعلى آله وسلم الخطأ في اجتهاده ولكنه لا يقر.
وقال الفخر في المحصول: الأكثرون على منع ذلك في حقه وهو الصحيح؛ لأن المعصية تمنع منه، وهذا كله إذا قلنا: إن كل مجتهد مصيب، قال: واحتجوا بهذه الآية على أن المصيب واحد؛ فدلت على أن عمر هو المصيب في اجتهاده، وأجاب الآخرون بأن أبا بكر أقره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ما فعله فهر مصيب بإقراره له، وفرق بعضهم بين الحكم بالفداء، وبين أخذ الفداء. فأبو بكر حكم [بالفداء*] وغيره من الصحابة أخذه فوقع العتب على من أخذ الفداء؛ لأنه عرض دنيوي فأخذوه لمجرد ذلك فقط، وأبو بكر إنما حكم بالفداء لمصلحة الآخرة؛ وهو رجاء إسلامهم.
قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ).
أبلغ من قول القائل: لَا يفعل النبي كذا ولا يفعل كذا؛ لاقتضائه نفي القابلية للفعل.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
راجع للأمر الباطن وهو اختيار الفداء لأنه جائز في نفس الأمر، لقوله (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا... (٦٩).. راجع للأمر الظاهر وهو التوبيخ على أخذ الفداء، ثم بعد ذلك نسخ بالجواز.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)﴾
[أخَّرُ*] (وَجَاهَدُوا مَعَكُم) وقال تعالى قبلها: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فذكر بأموالهم وأنفسهم الأولى دون الثانية.
ابن عرفة: فقدم الجواب بوجهين؛ الأول: أنه حذف من الثاني لدلالة الأول عليه إذ الآية الأولى في الميراث، قلت: فيها حذف المال لتناول جهاد الغني والفقير.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ... (٧٣)﴾
ابن عرفة: يؤخذ منه أن الكفر علة واحدة، وفيه قولان.
قوله تعالى: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ... (٧٥)﴾
هذه الآية منسوخة عند مالك وأصحابه، والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على مولانا وسيدنا محمد وعلى آله الطيبين وسلم.
* * *
291
سُورَةُ التَّوْبَةِ (بَرَاءَة)
تكلم ابن رشد في البيان على ترك البسملة من أولها في أوائل الجامع الأول وذكروا وجوه في سبب إسقاط التسمية من أولها، من ذلك قول ابن عباس: سألت عليا عن ذلك، فقال: لأن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أمان، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهد وليس فيها أمان، قلت:ابن هشام المصري: هذا البيت من المشكل وبيانه أن (مَهْمَا) في كلامه لَا يجوز أن يكون مفعولا لـ تصل؛ لاستيفائه مفعوله، ولا مبتدأ لعدم [الرابط*]، فإن قيل: [قدر مهما واقعة*] على براءة؛ [فيكون*] ضمير [تصلها راجعا*] إلى براءة، وحينئذ فهي مبتدأ، أو مفعول لمحذوف يفسره تصل، قلنا: اسم الشرط عام، وبراءة اسم خاص، [فضميرها*] كذلك فلا يرجع إلى العام، وبالوجه الذي بطل به ابتدائية مهما، بطل كونها [مشتغلا عنها*] العامل بالضمير، وهذه بخلافها في قوله: "ومهما تصلها مع أواخر سورة" فإنها هناك واقعة على البسملة التي في أول كل سورة فهي عامة، [فيصح*] فيها الابتداء [أو*] النصب بفعل يفسره تصل أي: [وأي*] بسملة [تصل*] تصلها، والظرفية بمعنى، وأي وقت تصل البسملة على القول بجواز ظرفيتها، [وأما هُنَا فَيتَعَيَّن*] كونها ظرفا لـ تصل بتقدير، وأي وقت تصل براءة أو مفعولا به [حذف عَامله*]، أي ومهما [تفعل*] ويكون تصل [وبدأت*] بدل تفصيل من ذلك الفعل، وأما ضمير تصلها؛ فلك أن [تعيده*] على اسم مظهر قبله محذوف، أي ومهما [تفعل*] في براءة تصلها أو بدأت بها، وحذف بها وَلما [خَفِي*] الْمَعْنى بِحَذْف [مرجع*] الضمير ذكر براءة بيانا له إما على أنها بدل منه، أو على إضمار، أعني، ولك أن [تعيده*] على ما بعده، وهو براءة، إما على [أنه*] بدل منه، مثل: رأيته زيدا؛ [فمفعول*] بدأت [محذوف*]، وإما على أن الْفِعْلَيْنِ تنازعاها، فأعمل الثاني [متسعا فيه بِإِسْقَاط الْبَاء*]، [وأضمر*] الفضلة في الأول على حد قوله:
وهذا هو الذي اختار الشاطبي في قوله [وَمَهْمَا تَصِلْهَا أَوْ بَدَأْتَ بَرَاءَةً لِتَنْزِيْلِهاَ بالسَّيْفِ لَسْتَ مُبَسْمِلَا*].
إِذا كنت ترضيه ويرضيك صَاحب [جهازا*] فَكُن [فِي الْغَيْب*] أحفظ [للود*]
الزمخشري؛ سأل ابن عباس عثمان رضي الله عنهما عن ترك التسمية أول هذه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا نزلت عليه السورة أو الآية، قال: " [اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا، وتوفى رسول الله ﷺ ولم يبين لنا أين نضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، «٢» فلذلك قرنت بينهما، وكانتا تدعيان القرينتين*]. الطيبي: غير أنه غير مطابق للسؤال [فيجاب*] عن بيان عدم تصدير السورة بالبسملة، وأجاب من موقع السورة مع أختها، ويمكن أن يقال إن السؤال كان عن شيئين؛ فأولها ترى في السؤال على أحدها وفي الجواب عن الآخر يدل عليه ما روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، والترمذي وأبو داود في سننهما، عن ابن عباس، قال: [قُلْتُ
292
Icon