تفسير سورة التكوير

الدر المصون
تفسير سورة سورة التكوير من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿إِذَا الشمس﴾ : في ارتفاع «الشمسِ» وجهان، أصحُّهما: أنها مرفوعةٌ بفعلٍ مقدرٍ مبنيٍّ للمفعول، حُذِف وفَسَّره ما بعده على الاشتغالِ. والرفعُ على هذا الوجهِ أعني إضمارَ الفعل واجبٌ عند البصريين؛ لأنهم لا يُجيزون أَنْ يَلِيَها غيرُه، ويتأوَّلون ما أَوْهَمَ خلافَ ذلك، والثاني: أنها مرفوعةٌ بالابتداء، وهو قول الكوفيين والأخفش لظواهرَ قد جاءَتْ في الشعر، وانتصر له ابنُ مالك وهناك أظهَرْتُ معه البحثَ. وقال الزمخشري: «ارتفاعُ الشمسُ على الابتداءِ أو الفاعليةِ. قلت: بل على الفاعليةِ» ثم ذكرَ نحوَ ما تقدم. ويعني بالفاعليةِ ارتفاعَها بفعلٍ في الجملةِ، وقد مرَّ أنه يُسَمَّى مفعولُ ما لم يُسَمَّ
699
فاعلُه فاعلاً. وتقدَّم تفسير التكوير في أوّلِ «تنزيلُ». وارتفاعُ «النجوم» وما بعدَها كما تقدَّم في «الشمس».
700
والاْنكِدار: الانتثارُ، أي: انصَبَّتْ كما يَنْصَبُّ العُقابُ إذا كُسِرَتْ. قال العَجَّاجُ يصفُ صَقْراً:
والعِشار: جمع عُشَراء، وهي الناقةُ التي مَرَّ لِحَمْلِها عشرةُ أشهرٍ، ثم هو اسمُها إلى أَنْ تَضَعَ في تمام السنةِ، وكذلك «نِفاس» في جَمْع نُفَساء. وقيل: العِشارُ: السَّحابُ. وعُطِّلت، أي: لا تُمْطر. وقيل: الأرضُ التي تَعَطَّل زَرْعُها. والتَّعْطيل: الإِهمالُ. ومنه قيل للمرأة: «عاطِلٌ» إذا لم يكُنْ عليها حُلِيّ. وتقدَّم/ في «بئرٍ مُعَطَّلةٍ». وقال امرؤ القيس:
٤٥١٠ - أَبْصَرَ خِرْبانَ الفَلاةِ فانكَدَرْ تَقَضِّيَ البازيْ إذا البازيْ كَسَرْ
700
وقرأ ابنُ كثير في روايةٍ «عُطِلت» بتخفيفِ الطاءِ. قال الرازي: «هو غَلَطٌ، إنما هو» عَطَلَتْ «بفتحتَيْنَ بمعنى تَعَطَّلَتْ؛ لأنَّ التشديدَ فيه للتعدي. يُقال: عَطَّلْتُ الشيءَ وأَعْطَلْتُه فَعَطَلَ».
والوحوش: ما لم يَتَأنَّسْ من حيوانِ البَرِّ. والوَحْشُ أيضاً: المكانُ الذي لا أُنْسَ فيه، ومنه لَقِيْتُه بوَحْشِ إصْمِت، أي: ببلدٍ قَفْر. والوحشُ: الذي يَبيت جوفُه خالياً من الطعام، وجمعُه أَوْحاش، ويُسَمَّى المنسوبُ إلى المكانِ الوَحْشِ: وَحْشِيّ، وعَبَّر بالوَحْشِيِّ عن الجانبِ الذي يُضادُّ الإِنسيَّ، والإِنسيُّ ما يُقْبَلُ من الإِنسان، وعلى هذا وحشيُّ الفَرَس وإنْسِيُّه. وقرأ الحسن وابن ميمون بتشديد الشينِ مِنْ حُشِّرَتْ.
701
والوحوش : ما لم يَتَأنَّسْ من حيوانِ البَرِّ. والوَحْشُ أيضاً : المكانُ الذي لا أُنْسَ فيه، ومنه لَقِيْتُه بوَحْشِ إصْمِت، أي : ببلدٍ قَفْر. والوحشُ : الذي يَبيت جوفُه خالياً من الطعام، وجمعُه أَوْحاش، ويُسَمَّى المنسوبُ إلى المكانِ الوَحْشِ : وَحْشِيّ، وعَبَّر بالوَحْشِيِّ عن الجانبِ الذي يُضادُّ الإِنسيَّ، والإِنسيُّ ما يُقْبَلُ من الإِنسان، وعلى هذا وحشيُّ الفَرَس وإنْسِيُّه. وقرأ الحسن وابن ميمون بتشديد الشينِ مِنْ حُشِّرَتْ.
قوله: ﴿سُجِّرَتْ﴾ : قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ «سُجِرَتْ» بتخفيف الجيم، والباقون بتثقيلِها على المبالغةِ والتكثيرِ. وتقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ.
قوله: ﴿زُوِّجَتْ﴾ : العامَّةُ على تشديد الواوِ مِنْ التزويجِ، ورُوي عن عاصمٍ «زُوْوِجَتْ» على فُوْعِلَتْ. قال الشيخ: «والمُفَاعَلَةُ تكون بين اثنين» انتهى. قلت: وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ: لأنه ينبغي أَنْ يُلفَظَ بواوٍ ساكنةٍ أخرى مكسورةٍ. وقد تقدَّم لك أنَّه اجتمع مِثْلان، وسَكنَ أوَّلُهما وَجَبَ الإِدغام حتى في كلمتين، ففي كلمةٍ واحدةٍ بطريقِ الأَوْلى.
قوله: ﴿الموءودة﴾ : هي البنتُ تْدْفَنُ حيةً مِنْ الوَأْدِ، وهو الثِّقَلُ؛ لأنَّها تُثْقَلُ بالترابِ والجَنْدَل. يقال: وَأَدَه يَئِدُهُ كوَعَدَه يَعِدُه. وقال الزمخشري: «وَأَدَ يَئِدُ، مقلوبٌ مِنْ آد يَؤُوْد إذا أَثْقَلَ. قال اللَّهُ تعالى: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: ٢٥٥] لأنه إثْقالٌ بالتراب». قال الشيخ: «ولا يُدَّعى ذلك؛ لأنَّ كلاً منهما كاملُ التصرُّفِ في الماضي والأمرِ والمضارعِ والمصدرِ واسمِ الفاعلِ واسمِ المفعولِ، وليس فيه شيءٌ مِنْ مُسَوِّغات ادِّعاءِ القَلْبِ. والذي يُعْلَمُ به الأصالةُ مِنْ القَلْب: أَنْ يكونَ أحدُ النَّظْمَيْن فيه حُكْمٌ يَشْهَدُ له بالأصالةِ، والآخرُ ليس كذلك أو كونُه مجرداً من حروف الزيادة والآخر فيه مزيداً، وكونُه أكثرَ تصرفاً والآخر ليس كذلك، أو أكثرَ استعمالاً من الآخرِ، وهذا على ما قُرِّرَ وأُحْكِمَ في علمِ التصريفِ. فالأول: كيَئِس وأيِسَ. والثاني: كَطَأْمَنْ واطمأنَّ. والثالث:
702
كشوايع وشواعِي. والرابع: كلَعَمْري ورَعَمْلي».
وقرأ العامَّةُ: «المَوْءُوْدَة» بهمزةٍ بينَ واوَيْن ساكنتَيْن كالمَوْعودة. وقرأ البزيُّ في روايةٍ بهمزةٍ مضمومةٍ ثم واوٍ ساكنةٍ. وفيها وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ كقراءةِ الجماعة ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ قبلها، وحُذِفَتِ الهمزةُ، فصار اللفظُ المَوُوْدَة: واوٌ مضومةٌ ثم أخرى ساكنةٌ، فقُلبت الواوُ المضمومةُ همزةً نحو: «أُجوه» في وُجوه، فصار اللفظُ كما ترى، ووزنُها الآن المَفُوْلة؛ لأنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ. والثاني: أَنْ تكونَ الكلمةُ اسمَ مفعولٍ مِنْ آدَه يَؤُوده مثلَ: قاده يَقُوده. والأصلُ: مأْوُودة، مثلَ مَقْوُوْدة، ثم حَذَفَ إحدى الواوين على الخلافِ المشهورِ في الحَذْفِ مِنْ نحوِ: مَقُوْل ومَصُوْن فوزنُها الآن: إمَّا مَفُعْلَة إنْ قلنا: إنَّ المحذوفَ الواوَ الزائدةُ، وإمَّا مَفُوْلة إنْ قُلْنا: إنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ، وهذا يُظْهِرُ فَضْلَ عِلْمِ التصريفِ.
وقُرِىءَ «المَوُوْدة» بضمِّ الواو الأولى على أنه نَقَل حركةَ الهمزةِ بعد حَذْفِها ولمَ يَقْلِبَ الواوَ همزةً. وقرأ الأعمش «المَوْدَة» بزنةِ المَوْزَة. وتوجيهُه: أنه حَذَفَ الهمزةَ اعتباطاً، فالتقى ساكنان، فحَذَفَ ثانيهما،
703
ووزنُها المَفْلَة؛ لأنَّ الهمزةَ عينُ الكلمةِ، وقد حُذِفَتْ. وقال مكي: «بل هو تخفيفٌ قياسِيٌّ؛ وذلك أنَّه لمَّا نَقَل حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ لم يَهْمِزْها، فاستثقلَ الضمَّةَ عليها، فسَكَّنها، فالتقى ساكنان فحَذَفَ الثاني، وهذا كلُّه خروجٌ عن الظاهرِ، وإنما يظهر في ذلك ما نَقَله القُرَّاء في وقفِ حمزةَ: أنه يقفُ عليها كالمَوْزَة. قالوا: لأجل الخطِّ لأنها رُسِمَتْ كذلك، والرسمُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ.
والعامَّةُ على»
سُئِلت «مبنياً للمفعولِ مضمومَ السين. والحسنُ بكسرِها مِنْ سال يَسال كما تقدَّم. وقرأ أبو جعفر» قُتِّلَتْ «بتشديد التاءِ على التكثيرِ؛ لأنَّ المرادَ اسمُ الجنسِ، فناسبَه التكثيرُ.
وقرأ عليٌّ وابن معسود وابن عباس»
سَأَلَتْ «مبنياً للفاعل،» قُتِلْتُ «بضمِّ التاءِ الأخيرة التي للمتكلم حكايةً لكلامِها. وعن أُبَيّ وابن مسعود أيضاً وابن يعمرَ» سَأَلَتْ «مبنياً للفاعل،» قُتِلَتْ «بتاءِ التأنيث الساكنةِ كقراءةِ العامة.
704
قوله: ﴿نُشِرَتْ﴾ : قرأ الأخَوان وابن كثير
704
وأبو عمرو بالتثقيل. والباقون بالتخفيف. ونافعٌ وحفصٌ وابنُ ذكوانَ/ «سُعِّرَتْ» بالتثقيل، والباقون بالتخفيف.
705
قوله :﴿ كُشِطَتْ ﴾ [ التكوير : ١١ ]، أي : قُشِرَتْ، مِنْ قولهم : كَشَطَ جِلْدَ الشاةِ، أي : سَلَخَها. وقرأ عبد الله " قُشِطَتْ " بالقاف، وقد تقدَّم أنهما يَتعقبان كثيراً، وأنه قُرِىء " قافوراً " و " كافوراً " في ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ ﴾.
قوله: ﴿عَلِمَتْ﴾ : هذا جوابُ «إذا» أولَ السورةِ وما عُطِفَ عليها.
قوله: ﴿كُشِطَتْ﴾ [التكوير: ١١]، أي: قُشِرَتْ، مِنْ قولهم: كَشَطَ جِلْدَ الشاةِ، أي: سَلَخَها. وقرأ عبد الله «قُشِطَتْ» بالقاف، وقد تقدَّم أنهما يَتعقبان كثيراً، وأنه قُرِىء «قافوراً» و «كافوراً» في ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان﴾.
قوله: ﴿بالخنس﴾ : جمعُ خانِس، والخُنُوس: الانقباضُ. يقال: خَنَسَ من القوم وانْخَنَسَ. وفي الحديث: «فانْخَنَسْتُ»، أي: اسْتَخْفَيْتُ. والخَنَسُ: تأخُّرُ الأَنْفِ عن الشَّفَة مع ارتفاع الأَرْنَبةِ قليلاً. ويقال: رجلٌ أَخْنَسُ وامرأةُ خَنْساءُ. ومنه الخَنساءُ الشاعرة. والخُنَّسُ في القرآن قيل: كواكبُ سبعةٌ: القمران وزُحَلُ والزهرةُ والمُشْتري والمَرِّيخ وعُطارِد. والكُنَّسُ: الدَّاخلة في الكِناس وهو
705
بيتُ الوحشِ. والجواري: جمعُ جارية. وقيل: هي بَقَرُ الوحشِ؛ لأنَّ هذه صفتُها وقيل: الظِّباء، قالوا: لأنَّ الخَنَسَ يكون فيها.
706
قوله: ﴿عَسْعَسَ﴾ : يقال: عَسْعَسَ وسَعْسَعَ أقبل. قال العَجَّاج:
٤٥١١ - وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحشٍ إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعَطَّلِ
٤٥١٢ - حتى إذا الصُّبْحُ لها تَنَفَّسا وانْجابَ عنها ليلُها وعَسْعَسا
أي: أَدْبَر. وقيل: هو لهما على طريق الاشتراك. وقيل: أَدْبَرَ بلغةِ قريشٍ خاصةً. وقيل: أقبل ظلامُه، ويُرَجِّحُه مقابلتُه بقولِه ﴿والصبح إِذَا تَنَفَّسَ﴾ وهذا هو قريبٌ من إدْباره.
قوله: ﴿عِندَ ذِي العرش﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ل «رسولٍ»، وأن يكونَ حالاً مِنْ «مَكين»، وأصلُه الوصفُ، فلمَّا قُدِّمُ نُصِبَ حالاً.
قوله: ﴿ثَمَّ أَمِينٍ﴾ : العامَّةُ على فَتْحِ الثاءِ؛ لأنَّه ظرفُ مكانٍ للبعيدِ. والعاملُ فيه «مُطاعٍ». وأبو البرهسم وأبو جعفر
706
وأبو حيوة بضمِّها جعلوها عاطفةً، والتراخي هنا في الرتبةِ؛ لأنَّ الثانية أعظمُ من الأولى.
707
قوله: ﴿بِضَنِينٍ﴾ : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء بمعنى مُتَّهم، مِنْ ظنَّ بمعنى اتَّهم فيتعدَّى لواحدٍ. وقيل: معناه بضعيفِ القوةِ عن التبليغ مِنْ قولِهم: «بئرٌ ظَنُوْنٌ»، أي: قليلةُ الماءِ. وفي مصحفِ عبد الله كذلك، والباقون بالضاد بمعنى: ببخيلٍ بما يأتيه من قِبَلِ ربِّه، إلاَّ أنَّ الطبريَّ نَقَلَ أنَّ الضادَ خطوطُ المصاحفِ كلِّها، وليس كذلك لِما مرَّ، وكان رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بها، وهذا دليلٌ على التمييز بين الحرفين، خِلافاً لمَنْ يقول: إنه لو وقع أحدُهما مَوْقِعَ الآخرِ لجاز، لِعُسْرِ معرفتِه. وقد شَنَّعَ الزمخشري على مَنْ يقول ذلك، وذكر بعضَ المخارج وبعضَ الصفاتِ، بما لا يَليق التطويلُ فيه. و «على الغيب» متعلقٌ ب «ظَنِين» أو «بضَنِين».
قوله: ﴿فَأيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ :«أين» منصوبٌ ب «تَذْهبون» لأنه ظرفٌ مُبْهَمٌ. وقال أبو البقاء: «أي: إلى أين، فحذف حرفَ الجر كقولك: ذهبتُ الشامَ. ويجوزُ أَنْ يُحْمَلَ على المعنى كأنه قال: أين تؤمنون». يعني أنه على الحذفِ، أو على التضمين. وإليه نحا
707
مكي أيضاً، ولا حاجة إلى ذلك البتة؛ لأنه ظرفُ مكانٍ مبهمٌ لا مُخْتَصٌّ.
708
قوله: ﴿لِمَن شَآءَ﴾ : بدلٌ مِنْ «العالمين» بإعادةِ العاملِ، وعلى هذا فقولُه «أن يَسْتقيمَ» مفعولُ «شاء»، أي: لمَنْ شاء الاستقامة، ويجوزُ أَنْ يكونَ «لمَنْ شاء» خبراً مقدماً، ومفعول «شاء» محذوفٌ، و «أَنْ يَسْتَقيم» مبتدأ. وقد مَرَّ له نظيرٌ.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين﴾ : أي: إلاَّ وقتَ مشيئةِ الله، وقال مكي: «وأنْ في موضع خفضٍ بإضمارِ الباءِ، أو في موضعِ نصبٍ بحذفِ الخافضِ» يعني أنَّ الأصلَ: إلاَّ بأَنْ، وحينئذٍ تكونُ للمصاحبة.
Icon