تفسير سورة الإنشقاق

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الإنشقاق من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الانشقاق
ويقال سور انشقت وهي مكية بلا خلاف وآيها ثلاث وعشرون آية في البصري والشامي وخمس وعشرون في غيرهما ووجه مناسبتها لما قبلها يعلم مما نقلناه عن الجلال السيوطي فيما قبل وأوجز بعضهم في بيان وجه ترتيب هذه السور الثلاث فقال إن في انفطرت التعريف بالحفظة الكاتبين وفي المطففين مقر كتبهم وفي هذه عرضها في القيامة.

سورة الانشقاق
ويقال سور انشقت وهي مكية بلا خلاف وآيها ثلاث وعشرون آية في البصري والشامي وخمس وعشرون في غيرهما، ووجه مناسبتها لما قبلها يعلم مما نقلناه عن الجلال السيوطي فيما قبل وأوجز بعضهم في بيان وجه ترتيب هذه السور الثلاث فقال: إن في انفطرت التعريف بالحفظة الكاتبين وفي المطففين مقر كتبهم وفي هذه عرضها في القيامة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أي بالغمام كما روي عن ابن عباس وذهب إليه الفرّاء والزجّاج كما في البحر ويشهد له قوله تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: ٢٥] فالقرآن يفسر بعضه بعضا، وقيل: تنشق لهول يوم القيامة لقوله تعالى وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الحاقة: ١٦] وبحث فيه بأنه لا ينافي أن يكون الانشقاق بالغمام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها تنشق من المجرة
وفي الآثار إنها باب السماء وأهل الهيئة يقولون إنها نجوم صغار متقاربة جدا غير متميزة في الحسن ويظهر ذلك ظهورا بيّنا لمن نظر إليها بالأرصاد ولا منافاة على ما قيل من أن المراد بكونها باب السماء أن مهبط الملائكة عليهم السلام ومصعدهم من جهتها وذلك بجامع كونها نجوما صغارا متقاربة غير متميزة في الحسن.
وخبر إن النبي صلّى الله عليه وسلم أرسل معاذا إلى أهل
286
اليمن فقال له: «يا معاذ إنهم سائلوك عن المجرة، فقل هي لعاب حية تحت العرش»
ومنه قيل إنها في البحر المكفوف تحت السماء لا يكاد يصح. والقول المذكور لا ينبغي أن يحكى إلّا لينبّه على حاله. وقرأ عبيد بن عقيل عن أبي عمرو «انشقت» وكذا ما بعد من نظائره بإشمام التاء مكسرا في الوقف. وحكى عنه أيضا الكسر أبو عبيد الله بن خالويه وذلك لغة طيىء على ما قيل. وعن أبي حاتم: سمعت أعرابيا فصيحا في بلاد قيس يكسر هذه التاء أي تاء التأنيث اللاحقة للفعل وهي لغة، ولعل ذلك لأن الفواصل قد تجري مجرى القوافي فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي كما في قول كثير عزة من قصيدة:
وما أنا بالداعي لعزة بالردى ولا شامت إن قيل عزة ذلت
إلى غير ذلك من أبيات تلك القصيدة تكسر في الفواصل وإجراء الفواصل في الوقف مجرى القوافي مهيع معروف كقوله تعالى الظُّنُونَا والرَّسُولَا في سورة [الأحزاب: ١٠، ٦٦] وحمل الوصل على حالة الوقف موجود أيضا في الفواصل وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي استمعت له تعالى، يقال: أذن إذا سمع. قال الشاعر:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا
وقال قعنب:
إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا وإن هم أذنوا من صالح دفنوا
والاستماع هنا مجاز عن الانقياد والطاعة أي انقادت لتأثير قدرته عز وجل حين تعلقت إرادته سبحانه بانشقاقها انقياد المأمور المطواع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليها للإشعار بعلة الحكم، وهذه الجملة ونظيرتها بعد قيل بمنزلة قوله تعالى أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١] في الإنباء عن كون ما نسب إلى السماء والأرض من الانشقاق والمد وغيرهما جاريا على مقتضى الحكمة على ما قرروه وَحُقَّتْ أي جعلت حقيقة بالاستماع والانقياد لكن لا بعد أن لم تكن كذلك بل في نفسها وحد ذاتها من قولهم هو محقوق بكذا وحقيق به، وحاصل المعنى انقادت لربها وهي حقيقة وجديرة بالانقياد لما أن القدرة الربانية لا يتعاصاها أمر من الأمور لا لأمر اختصت به من بين الممكنات. وذكر بعضهم أن أصل الكلام حق الله تعالى عليها بذلك أي حكم عليها بتحتم الانقياد على معنى أراده سبحانه منها إرادة لا نقض لها. وقيل: المعنى وحق لها أن تنشق لشدة الهول والجملة على ما اختاره بعض الأجلّة اعتراض مقرر لما قبلها، وقيل معطوفة عليه وليس بذاك وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ قال الضحاك:
بسطت باندكاك جبالها وآكامها وتسويتها فصارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا وقال بعضهم: زيدت سعة وبسطة من مده بمعنى أمدّه أي زاده ونحوه ما قيل جرت فزاد انبساطها وعظمت سعتها.
وأخرج الحاكم بسند جيد عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلّا موضع قدميه».
وَأَلْقَتْ ما فِيها أي رمت ما في جوافها من الموتى والكنوز كما أخرج ذلك عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة وإليه ذهب الزجاج. واقتصر بعضهم كابن جبير وجماعة على الموتى بناء على أن إلقاء الكنوز إذا خرج الدجال وكأن من ذهب إلى الأول لا يسلم إلقاء الكنوز يومئذ، ولو سلم يقول: يجوز أن لا يكون عاما لجميع الكنوز وإنما يكون كذلك يوم القيامة والقول بأن يوم القيامة متسع يجوز أن يدخل فيه وقت خروج الدجال ينبغي أن يلقى ولا يلتفت إليه وَتَخَلَّتْ أي وخلت عما فيها غاية الخلو حتى لم يبق فيها شيء من ذلك كأنها تكلفت في ذلك أقصى جهدها فصيغة التفعل للتكلف والمقصود منه المبالغة كما في قولك: تحلم الحليم، وتكرم الكريم. وقيل تَخَلَّتْ ممن على ظهرها من الأحياء، وقيل: مما على ظهرها من جبالها وبحارها وكلا القولين كما ترى.
وقد أخرج أبو القاسم
287
الحبيلي في الديباج عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأجلس جالسا في قبري وإن الأرض تحرك بي فقلت لها مالك؟ فقالت: إن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي وأن أتخلى فأكون كما كنت إذ لا شيء فيّ»
وذلك قوله تعالى وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها في الإلقاء وما بعده وَحُقَّتْ الكلام فيه نظير ما تقدم، وفيه إشارة إلى أن ما ذكر وإن أسند إلى الأرض فهو بفعل الله تعالى وقدرته عز وجل وتكرير كلمة إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ أي جاهد ومجد جدا في عملك من خير وشر إِلى رَبِّكَ كَدْحاً أي طول حياتك إلى لقاء ربك أي إلى الموت وما بعده من الأحوال الممثلة باللقاء والكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها، من كدح جلده إذا خدشه قال ابن مقيل:
وما الدهر إلّا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقال آخر:
ومضت بشاشة كل عيش صالح وبقيت أكدح للحياة وأنصب
فَمُلاقِيهِ أي فملاق له عقيب ذلك لا محالة من غير صارف يلويك عنه، والضمير له عز وجل أي فملاقي جزائه تعالى. وقيل: هو للكدح أي فملاقي جزاء الكدح وبولغ فيه على نحو: «إنما هي أعمالكم ترد إليكم» والظاهر أن «ملاقيه» معطوف على كادِحٌ على القولين. وقال ابن عطية بعد ذكره الثاني فألقاه على هذا عاطفة جملة الكلام على الجملة التي قبلها، والتقدير فأنت ملاقيه، ولا يظهر وجه التخصيص والمراد بالإنسان الجنس كما يؤذن به التقسيم بعد وقال مقاتل: المراد به الأسود بن هلال المخزومي جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث فقال أبو سلمة إي والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة، فقال الأسود: فأين الأرض والسماء وما حال الناس؟ وكأنه أراد أنها نزلت فيه وهي تعم الجنس، وقيل: المراد أبيّ بن خلف كان يكدح في طلب الدنيا وإيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلم والإصرار على الكفر، ولعل القائل أراد ذلك أيضا وأبعد غاية الإبعاد من ذهب إلى أنه الرسول عليه الصلاة والسلام على أن المعنى إنك تكدح في إبلاغ رسالات الله عز وجل وإرشاده عباده سبحانه واحتمال الضرر من الكفار، فأبشر إنك تلقى الله تعالى بهذا العمل وهو غير ضائع عنده جل شأنه وجواب إِذَا قيل قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً إلخ كما في قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: ٣٨] وقوله تعالى يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إلخ اعتراض، وقيل: هو محذوف للتهويل أي كان ما كان مما يضيق عنه نطاق البيان، وقدره بعضهم نحو ما صرح به في سورتي التكوير والانفطار، وقيل: هو ما دل عليه يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إلخ وتقديره لاقى الإنسان كدحه، وقيل: هو نفسه على حذف الفاء والأصل فيا أيها الإنسان أو بتقدير يقال.
وقال الأخفش والمبرد: هو قوله تعالى فَمُلاقِيهِ بتقدير فأنت ملاقيه ليكون مع المقدر جملة، وعلى هذا جملة يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إلخ معترضة. وقال ابن الأنباري والبلخي هو وَأَذِنَتْ على زيادة الواو كما قيل في قوله تعالى حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧١، ٧٣] وعن الأخفش أن إذا هنا لا جواب لها لأنها ليست بشرطية بل هي في إذا السماء متجردة عنها مبتدأ، وفي وإذا الأرض خبر والواو زائدة أي وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض وقيل لا جواب لها لأنها ليست بذلك بل متجردة عن الشرطية واقعة مفعولا لأذكر محذوفا، ولا يخفى ما في بعض هذه الأقوال من الضعف ولعل الأولى منها الأولان والحساب اليسير السهل الذي لا مناقشة فيه كما قيل وفسره عليه الصلاة والسلام بالعرض وبالنظر في الكتاب مع التجاوز،
فقد
288
أخرج الشيخان والترمذي وأبو داود عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس أحد يحاسب إلّا هلك» قلت: يا رسول الله، جعلني الله تعالى فداك أليس الله تعالى يقول فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً؟ قال: «ذلك العرض يعرضون ومن نوقش الحساب هلك»
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حسابا يسيرا فلما انصرف عليه الصلاة والسلام قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال: «أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه»
وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي عشيرته المؤمنين مبتهجا بحاله قائلا هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: ١٩] وقيل أي فريق المؤمنين مطلقا وإن لم يكونوا عشيرته إذ كل المؤمنين أهل للمؤمن من جهة الاشتراك في الإيمان، وقيل: أي إلى خاصته ومن أعده الله تعالى له في الجنة من الحور والغلمان، وأخرج هذا ابن المنذر عن مجاهد. وقرأ زيد بن علي «ويقلب» مضارع قلب مبنيا للمفعول.
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ أي يؤتاه بشماله من وراء ظهره، قيل: تغل يمناه إلى عنقه وتجعل شماله وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله. وروي أن شماله تدخل في صدره حتى تخرج من وراء ظهره فيأخذ كتابه بها فلا تدافع بين ما هنا وما في سورة الحاقة حيث لم يذكر فيه الظهر ثم هذا إن كان في الكفرة وما قبله في المؤمنين المتقين فلا تعرض هنا للعصاة كما استظهره في البحر. وقيل: لا بعد في إدخال العصاة في أهل اليمين إما لأنهم يعطون كتبهم باليمين بعد الخروج من النار كما اختاره ابن عطية أو لأنهم يعطونها بها قبل لكن مع حساب فوق حساب المتقين ودون حساب الكافرين، ويكون قوله تعالى فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً من وصف الكل بوصف البعض، وقيل: إنهم يعطونها بالشمال وتمييز الكفرة بكون الإعطاء من وراء ظهورهم ولعل ذلك لأن مؤتي الكتب لا يتحملون مشاهدة وجوههم لكمال بشاعتها أو لغاية بغضهم إياهم أو لأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً يطلبه ويناديه ويقول: يا ثبوراه تعالى فهذا أوانك والثبور الهلاك وهو جامع لأنواع المكاره وَيَصْلى سَعِيراً يقاسي حرها أو يدخلها، وقرأ أكثر السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج «يصلّى» بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة من التصلية لقوله تعالى وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة: ٩٤] وقرأ أبو الأشهب وخارجة عن نافع وأبان عن عاصم والعتكي وجماعة عن أبي عمرو «يصلى» بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام مبنيا للمفعول من الإصلاء لقوله تعالى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء: ١١٥] إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ في الدنيا مَسْرُوراً فرحا بطرا مترفا لا يخطر بباله أمور الآخرة ولا يتفكر في العواقب ولم يكن حزينا متفكرا في حاله ومآله كسنة الصلحاء والمتقين، والجملة استئناف لبيان علة ما قبلها. وقوله تعالى إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ تعليل لسروره في الدنيا أي ظن أن لن يرجع إلى الله تعالى تكذيبا للمعاد، وقيل: ظن أن لن يرجع إلى العدم أي ظن أنه لا يموت وكان غافلا عن الموت غير مستعد له وليس بشيء، والحور الرجوع مطلقا ومنه قول الشاعر:
وما المرء إلّا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
والتقييد هنا بقرينة المقام وأَنْ مخففة من الثقيلة سادّة مع ما في حيزها مسد مفعولي الظن على المشهور بَلى إيجاب لما بعد لَنْ وقوله تعالى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً تحقيق وتعليل له أي بلى يحور البتة أن ربه عز وجل الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء بصيرا بحيث لا تخفى عليه سبحانه منها خافية فلا بد من رجعة وحسابه ومجازاته فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ هي الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب
289
بعد الغروب وأصله من رقة الشيء، يقال: شيء شفق أي لا يتماسك لرقته ومنه أشفق عليه رق قلبه والشفقة من الإشفاق وكذلك الشفق قال الشاعر:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزّال على الحرم
وقيل: البياض الذي يلي تلك الحمرة ويرى بعد سقوطها، وفي تسمية ذلك شفقا خلاف فالجمهور على أنه لا يسمى به وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم على أنه يسمى. وروى أسد ابن عمرو عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه رجع عن ذلك إلى ما عليه الجمهور وتمام الكلام عليه في شروح الهداية. وأخرج عبد ابن حميد عن مجاهد وعكرمة أنه هنا النهار كله. وروي ذلك عن الضحاك وابن أبي نجيح وكأنه شجعهم على ذلك عطف الليل عليه وعن عكرمة أيضا أنه ما بقي من النهار والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا عرفت هذا أو تحققت الحور بالبعث فلا أقسم بالشفق وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وما ضم وجمع يقال: وسقه فاتسق واستوسق أي جمعه فاجتمع، ويقال: طعام موسوق أي مجموع وإبل مستوسقة أي مجتمعة. قال الشاعر:
إن لنا قلائصا حقائقا مستوسقات لم يجدن سائقا
ومن الوسق الأصواع المجتمعة وهي ستون صاعا أو حمل بعير لاجتماعه على ظهره وما تحتمل المصدرية والموصولة والجمهور على الثاني والعائد محذوف، أي والذي وسقه والمراد به ما يجتمع بالليل ويأوي إلى مكانه من الدواب وغيرها. وعن مجاهد ما يكون فيه من خير أو شر وقيل ما ستره وغطى عليه بظلمته وقيل: ما جمعه من الظلمة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال وَما وَسَقَ وما عمل فيه ومنه قوله:
فيوما ترانا صالحين وتارة تقوم بنا كالواسق المتلبب
وقيل: وسق بمعنى طرد أي وما طرده إلى أماكنه من الدواب وغيرها أو ما طرده من ضوء النهار ومنه الوسيقة قال في القاموس وهي من الإبل كالرفقة من الناس فإذا سرقت طردت معا وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي اجتمع نوره وصار بدرا لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ خطاب لجنس الإنسان المنادى أولا باعتبار شموله لأفراده والمراد بالركوب الملاقاة والطبق في الأصل ما طابق غيره مطلقا وخص في العرف بالحال المطابقة لغيرها ومنه قول الأقرع بن حابس:
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره وساقني طبق منه إلى طبق
وعَنْ للمجاوزة. وقال غير واحد: هي بمعنى بعد كما في قولهما: سادوك كابرا عن كابر وقوله:
ما زلت أقطع منهلا عن منهل حتى أنخت بباب عبد الواحد
والمجاوزة والبعدية متقاربان والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لطبقا أو حالا من فاعل (تركبن) والظاهر أن نصب طَبَقاً على أنه مفعول به أي لتلاقن حالا مجاوزة لحال أو كائنة بعد حال أو مجاوزين لحال أو كائنين بعد حال كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول، وجوز كون الركوب على حقيقته وتجعل الحال مركوبة مجازا. وقيل نصب طَبَقاً على التشبيه بالظرف أو الحالية وقال جمع الطبق جمع طبقة كتخم وتخمة وهي المرتبة ويقال إنه اسم جنس جمعي واحده ذلك والمعنى لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها، ورجحه
290
الطيبي فقال: هذا الذي يقتضيه النظم وترتب الفاء في فَلا أُقْسِمُ على قوله تعالى بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً وفسر بعضهم الأحوال بما يكون في الدنيا من كونهم نطفة إلى الموت وما يكون في الآخرة من البعث إلى حين المستقر في إحدى الدارين. وقيل: يمكن أن يراد بطبقا عن طبق الموت المطابق للعدم الأصلي والإحياء المطابق للإحياء السابق، فيكون الكلام قسما على البعث بعد الموت ويجري فيه ما ذكره الطيبي.
وأخرج نعيم بن حماد وأبو نعيم عن مكحول أنه قال في الآية تكونون في كل عشرين سنة على حال لم تكونوا على مثلها. وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في كل عشرين عاما تحدثون أمرا لم تكونوا عليه، فالطبق بمعنى عشرين عاما وقد عد ذلك في القاموس من جملة معانيه وما ذكر بيان للمعنى المراد. وقيل:
الطبق هنا القرن من الناس مثله في قول العباس بن عبد المطلب يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
وأنت لما ولدت أشرقت الأر ض وضاءت بنورك الأفق
تنقل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق
وإن المعنى لتركبن سنن من مضى قبلكم قرنا بعد قرن، وكلا القولين خلاف الظاهر. وقرأ عمر وابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان وابن كثير «لتركبنّ» بتاء الخطاب وفتح الباء وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما أيضا كسرا تاء المضارعة وهي لغة بني تميم على أنه خطاب للإنسان أيضا لكن باعتبار اللفظ لا باعتبار الشمول. وأخرج البخاري عن ابن عباس أن الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم، وروي ذلك عن جماعة وكأن من ذهب إلى أنه عليه الصلاة والسلام هو المراد بالإنسان فيما تقدم يذهب إليه وعليه يراد لَتَرْكَبُنَّ أحوالا شريفة بعد أخرى من مراتب القرب أو مراتب من الشدة في الدنيا باعتبار ما يقاسيه صلّى الله عليه وسلم من الكفرة ويعانيه في تبليغ الرسالة أو الكلام عدة بالنصر أي لتلاقن فتحا بعد فتح ونصرا بعد نصر وتبشيرا بالمعراج، أي لتركبن سماء بعد سماء كما أخرجه عبد بن حميد عن ابن عباس وابن مسعود وأيّد بالتوكيد بالجملة القسمية والتعقيب بالإنكارية وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في ذلك يعني السماء تنفطر ثم تنشق ثم تحمر، وفي رواية السماء تكون كالمهل وتكون وردة كالدهان وتكون واهية وتشقق فتكون حالا بعد حال فالتاء للتأنيث والضمير الفاعل عائد على السماء. وقرأ عمر وابن عباس أيضا «ليركبن» بالياء آخر الحروف وفتح الباء على الالتفات من خطاب الإنسان إلى الغيبة. وعن ابن عباس يعني نبيكم عليه الصلاة والسلام فجعل الضمير له صلّى الله عليه وسلم والمعنى على نحو ما تقدم. وقيل الضمير الغائب يعود على القمر لأنه يتغير أحوالا من سرار واستهلال وإبدار. وقرأ عمر أيضا «ليركبن» بياء الغيبة وضم الباء على أن ضمير الجمع للإنسان باعتبار الشمول. وقرىء بالتاء الفوقية وكسر الباء على تأنيث الإنسان المخاطب باعتبار النفس وأمر التقدير الحالية المشار إليها فيما مر على هذه القراءات لا يخفى. والفاء في قوله تعالى فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ جوز أن تكون لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة وأهوالها المشار إليها بقوله تعالى لَتَرْكَبُنَّ إلخ على بعض الأوجه الموجبة للإيمان والسجود أي إذا كان حالهم يوم القيامة كما أشير إليه فأي شيء لهم حال كونهم غير مؤمنين، أي أي شيء يمنعهم من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم وسائر ما يجب الإيمان به مع تعاضد موجباته من الأهوال التي تكون لتاركه يومئذ، وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما قيل من عظيم شأنه عليه الصلاة والسلام المشار إليه بقوله سبحانه لَتَرْكَبُنَّ إلخ على بعض آخر من الأوجه السابقة فيه أي إذا كان حاله وشأنه صلّى الله عليه وسلم ما أشير
291
إليه فأي شيء يمنعهم من الإيمان به عليه الصلاة والسلام وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما تضمنه قوله سبحانه فَلا أُقْسِمُ إلخ مما يدل على صحة البعث من التغييرات العلوية والسفلية الدالة على كمال القدرة وإليه ذهب الإمام أي إذا كان شأنه تعالى شأنه كما أشير إليه من كونه سبحانه وتعالى عظيم القدرة واسع العلم فأي شيء يمنعهم عن الإيمان بالبعث الذي هو من جملة الممكنات التي تشملها قدرته عز وجل ويحيط بها علمه جل جلاله.
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ عطف على الجملة الحالية فهي حالية مثلها، أي فأي مانع لهم حال عدم سجودهم عند قراءة القرآن والسجود مجاز عن الخضوع اللازم له على ما روي عن قتادة أو المراد به الصلاة. وفي قرن ذلك بالإيمان دلالة على عظم قدرها كما لا يخفى أو هو على ظاهره. فالمراد بما قبله قرىء القرآن المخصوص أو وفيه آية سجدة
وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه سجد عند قراءة هذه الآية
. أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وعن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد فقلت له، فقال: سجدت خلف أبي القاسم صلّى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه عليه الصلاة والسلام
. وفي ذلك رد على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حيث قال:
ليس في المنفصل وهو من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم وقيل من الفتح وقيل هو قول الأكثر من الحجرات سجدة وهي سنة عند الشافعي وواجبة عند أبي حنيفة. قال الإمام:
روي أنه صلّى الله عليه وسلم قرأ ذات يوم وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:
١٩] فسجد هو ومن معه من المؤمنين
وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر فنزلت هذه الآية. واحتج أبو حنيفة على وجوب السجدة بهذا من وجهين: الأول أن فعله عليه الصلاة والسلام يقتضي الوجوب لقوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: ١٥٣، ١٥٥] الثاني أنه تعالى ذم من يسمعه ولا يسجد وحصول الذم عند الترك يدل على الوجوب انتهى. وفيه بحث مع أن الحديث كما قال ابن حجر لم يثبت بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ أي بالقرآن وهو انتقال عن كونهم لا يسجدون عند قراءته إلى كونهم يكذبون به صريحا ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم. وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة «يكذبون» مخففا وبفتح الياء وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ أي بالذي يضمرونه في صدورهم من الكفر والحسد والبغضاء والبغي فما موصولة والعائد محذوف وأصل الإيعاء جعل الشيء في وعاء. وفي مفردات الراغب الإيعاء حفظ الأمتعة في وعاء ومنه قوله:
والشر أخبث ما أوعيت من زاد وأريد به هنا الإضمار مجازا وهو المروي عن ابن عباس ولا يلزم عليه كون الآية في حق المنافقين مع كون السورة مكية كما لا تخفى، وفسره بعضهم بالجمع وحكي عن ابن زيد وجوز أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يجمعونه في صحفهم من أعمال السوء وأيّا ما كان فعلم الله تعالى بذلك كناية عن مجازاته سبحانه عليه. وقيل: المراد الإشارة إلى أن لهم وراء التكذيب قبائح عظيمة كثيرة يضيق عن شرحها نطاق العبارة. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يضمرونه في أنفسهم من أدلة كونه أي القرآن حقا فيكون المراد المبالغة في عتادهم وتكذيبهم على خلاف علمهم، والظاهر أن الجملة على هذا حال من ضمير يُكَذِّبُونَ وكونها كذلك على ما قيل من الإشارة خلاف الظاهر. وقرأ أبو رجاء «بما يعون» من وعى يعي فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ مرتب على الأخبار بعلمه تعالى بما يوعون مرادا به مجازاتهم به وقيل
292
على تكذيبهم، وقيل: الفاء فصيحة أي إذا كان حالهم ما ذكر فبشرهم إلخ والتبشير في المشهور الإخبار بسار والتعبير به هاهنا من باب:
تحية بينهم ضرب وجيع وجوز أن يكون ذلك على تنزيلهم لانهماكهم في المعاصي الموجبة للعذاب وعدم استرجاعهم عنها منزلة الراغبين في العذاب حتى كأن الأخبار به تبشيرا وإخبارا بسار، والفرق بين الوجهين يظهر بأدنى تأمل وأبعد جدا من قال إن ذلك تعريض بمحبة نبي الرحمة صلّى الله عليه وسلم البشارة فيستعار لأمره عليه الصلاة والسلام بالإنذار لفظ البشارة تطييبا لقلبه صلّى الله عليه وسلم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ استثناء منقطع من الضمير المنصوب في فَبَشِّرْهُمْ وجوز أن يكون متصلا على أن يراد بالمستثنى من آمن وعمل الصالحات من آمن وعمل بعد منهم أي من أولئك الكفرة والمضي في الفعلين باعتبار علم الله تعالى أو هما بمعنى المضارع، ولا يخفى ما فيه من التكلف مع أن الأول أنسب منه بقوله تعالى لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ لأن الأجر المذكور لا يخص المؤمنين منهم بل المؤمنين كافة، وكون الاختصاص إضافيا بالنسبة إلى الباقين على الكفر منهم خلاف الظاهر على أن إيهام الاختصاص بالمؤمنين منهم يكفي في الغرض كما لا يخفى. والتنوين في أَجْرٌ للتعظيم ومعنى غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع من منّ إذا قطع أو غير معتد به ومحسوب عليهم من منّ عليه إذا اعتد بالصنيعة وحسبها وجعل بعضهم المن بهذا المعنى من منّ بمعنى قطع أيضا لما أنه يقطع النعمة ويقتضي قطع شكرها والجملة على ما قيل استئناف مقرر لما أفاده الاستثناء من انتفاء العذاب عن المذكورين ومبين لكيفيته ومقارنته للثواب العظيم الكثير.
293
Icon