تفسير سورة يونس

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة يونس من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

سورة يونس -عليه السلام-
بسم لله الرحمن الرحيم
١ - ﴿الر﴾ قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: أنا الله الرحمن (١)، وعنه أيضًا: أنا الله أرى (٢)، وهو قول الضحاك (٣).
وقال قتادة: (الر) اسم من أسماء القرآن (٤)، وقال أبو روق (٥): ﴿الر﴾ فاتحة السورة (٦)، وعلى هذا هي صلة وابتداء واستفتاح للكلام (٧)،
(١) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٦٤، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٧، ومكي بن أبي طالب في "تفسير المشكل من غريب القرآن" ص ١٠١، وبنحوه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٩٢١ من رواية عكرمة عنه، ولفظه: (الر) حروف الرحمن مفرقة، ورواه ابن جرير ١١/ ٧٩ بلفظ: (الر) و (حم) و (ن) حروف الرحمن مفرقة.
(٢) رواه ابن جرير ١١/ ٧٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٢١، والنحاس في "معاني القرآن الكريم" ٣/ ٢٧٥، والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" باب: ما جاء في حروف المقطعات في فواتح السور ١/ ٢٣٢، والثعلبي ٧/ ٣ أ، والبغوي ٤/ ١١٩، وغيرهم. انظر: "الدر المنثور" ٣/ ٥٣٤، والأثر ضعيف؛ لأن في سنده شريك، وهو صدوق يخطئ كثيراً، وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق اختلط.
(٣) رواه ابن جرير ١١/ ٧٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٢١، والثعلبي ٧/ ٣ أ، والبغوي ٤/ ١١٩.
(٤) رواه ابن جرير ١١/ ٧٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٢١، والثعلبي ٧/ ٣ أ.
(٥) هو: عطية بن الحارث الهمداني.
(٦) رواه الثعلبي ٧/ ٣ أ.
(٧) في (م): (الكلام).
111
والمعنى: كأنه ابتدأ فقال: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾.
وقال أبو عبيدة: الله أعلم بما أراد بهذه الحروف (١) (٢).
وقرأ القراء الراءَ بالإمالة في ﴿الر﴾ وتركها (٣)، فمن ترك الإمالة فلأن كثيراً من العرب لا تميل ما يجوز فيه الإمالة عند غيرهم، والأصل ترك الإمالة في هذه الحروف، نحو: (ما)، و (ولا)؛ لأن ألفاتها لا تكون منقلبة عن الياء، وأما من أمال فلأن هذه الحروف أسماء لما (٤) يلفظ به من
(١) في "مجاز القرآن" ١/ ٢٧: (الم) افتتاح، مبتدأ كلام، شعار للسورة، ولم أجد من ذكره بلفظ المؤلف.
(٢) ذهب كثير من المحققين إلى أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل بعض السور بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد قرر هذا القول الزمخشري في "كشافه" ١/ ٩٥ - ٩٨، ونسبه الرازي في "تفسيره" ١/ ٦ إلى المبرد والمحققين، وحكاه القرطبي في "تفسيره" ١/ ١٥٥، عن الفراء وقطرب، وذهب إليه ابن كثير وشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ المزي، انظر: "تفسير ابن كثير" ١/ ٣٨.
والذي أختاره هو الرأي القائل بان هذه الحروف مما استأثر الله بعلمه فلا يصل أحد إلى معرفة المراد منها حيث لم يصح عن الرسول - ﷺ - بيان المراد منها، ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين، وليس مع أحد المختلفين حجة قاطعة، فالوقف في مثل هذه الحالة أسلم حتى يتبين الحق في هذا المقام. أما وصف القرآن بأنه هدى وتبيان فلا يبطله أن تجيء في أوائل بعض سوره مثل هذه الحروف؛ إذ لا تعلق لها بتكليف ولا خبر، وقد يكون ورودها تنبيهًا على القدرة التامة في جانب الرب، والقصور في جانب العبد، كأسرار الله في الكون والتكاليف. والله أعلم.
(٣) قرأ ابن كثير وأبو جعفر وقالون ويعقوب وحفص بالفتح، وقرأ ورش بين اللفظين، وقرأ الباقون بالإمالة. انظر: "التيسير في القراءات السبع" ص١٢٠، "تحبير التيسير" ص١٢١، "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٤٦.
(٤) في (ح): (لا)، وهو خطأ.
112
الأصوات المقطعة في مخارج الحروف، فجازت الإمالة فيها من حيث (١) كانت أسماء (٢) ولم تكن الحروف التي تمتنع فيها (٣) الإمالة (٤)، نحو: (ما) (٥) و (لا) وما أشبههما، فقصد بإمالة هذه الحروف -التي هي أسماء للأصوات- الإعلام بأنها أسماء (٦) ليست بحروف.
وفإن قلت: فإن الأسماء لا تكون على حرفين أحدهما حرف لين، وإنما تكون على هذه الصفة الحروف نحو: (لا) و (ما)، فالقول: إن هذه الأسماء لم تمتنع أن تكون على حرفين أحدهما حرف لين؛ لأن التنوين لا يلحقها، فيؤمن لامتناع التنوين من اللحاق لها أن تبقى على حرف واحد، وإذا أمن ذلك لم يمتنع أن يكون الاسم على حرفين أحدهما حرف لين ألا ترى أنهم قالوا: هذه شاة (٧)، فجاء على حرفين، أحدهما حرف لين لما أمن لحاق التنوين له لاتصال علامة التأنيث به، وكذلك قوله: رأيت رجلاً ذا مال؛ لاتصال المضاف إليه به، وكذلك قولهم: كسرت فا زيدٍ.
ومثل شاة في كونها على حرفين أحدهما حرف لين لما دخلت (٨) عليه
(١) ساقط من (ى).
(٢) في (ى): (الأسماء).
(٣) ساقط من (ى).
(٤) في (ى): (إلي).
(٥) ساقط من (ى).
(٦) ساقط من (ى).
(٧) في "لسان العرب": (شوه) والشاة: أصلها شاهية فحذفت الهاء الأصلية، وأثبتت هاء العلامة التي تنقلب تاء في الإدراج.
(٨) في (م): (دخل).
113
علامة التأنيث قولهم في الباءة: باه، كأنه أراد: الباءة (١)، فأبدل من الهمزة الألف كما أبدلها في قوله (٢):
... لا هَنَاكِ المَرْتَعُ
فاجتمع ألفان فحذف أحدهما لالتقاء الساكنين فبقي الاسم على حرفين أحدهما حرف لين، أنشد اليزيدي (٣):
فياشرَّ مُلْكٍ ملْكِ قيس بن عاصم على أن قيسًا لم يطأ باه مَحْرَم (٤)
(١) الباءة: النكاح والتزوج، وفيه لغات: الباهُ والباءُ والباءة والباهة. انظر: "مجمل اللغة" (بوأ) ١/ ١٣٨، "لسان العرب" (بهه) ١/ ٣٨٠، "النهاية في غريب الحديث والأثر" (بوأ) ١/ ١٦٠.
(٢) هو الفرزدق، وتمام البيت كما في "ديوانه" ١/ ٤٠٨:
ومضت لمسلمة الركاب مودعًا فارعي فزارة لا هناك المرتع
والبيت منسوب للفرزدق أيضًا في: "شرح أبيات سيبويه" ٢/ ٢٩٤، و"طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٣٤٠، و"كتاب سيبويه" ١/ ١٨٤، و"المقتضب" ١/ ١٦٧ وروايته في هذه المصادر:
راحت بمسلمة البغال عشية... فارعي فزارة.......... إلخ
والبيت من قصيدة يهجو بها الفرزدق الأمير عمر بن هبيرة الفزاري لما تولى العراق بعد عزل عبد الملك بن بشر عن البصرة، وسعيد بن عمرو عن الكوفة، ورحيل مسلمة بن عبد الملك إلى الشام.
(٣) هو: يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي البصري أبو محمد النحوي، المعروف باليزيدي لاتصاله بالأمير يزيد بن منصور خال المهدي لتأديب أولاده، وقد أدب المأمون أيضًا، وكان ثقة عالمًا حجة في القراءة، أخباريًّا نحويًّا لغويًّا، نظيرًا للكسائي، وتوفي سنة ٢٠٢ هـ. انظر: "تاريخ بغداد" ١٤/ ١٤٦،"نزهة الألباء" ص ٦٩، "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٤٥، فقد نص أبو علي في هذا الموضوع أن المذكورر أبو محمد لا غيره.
(٤) لم أهتد لمصادره.
114
ومثل هذا ما رواه الفراء عن الكسائي أنه سمع: اسقني شربة مًا يا هذا (١)، يريد شربة ماء، فقصر (٢) وأخرجه على لفظ (من)، هذا إذا مضى فإذا (٣) وقف قال: ما، والقول في هذا كالقول في باهٍ؛ إلا أن باهًا (٤) أحسن من مًا، لتكثرها بعلامة التأنيث.
ولم يعد ﴿الر﴾ آية كما عد ﴿طه﴾؛ لأن آخره لا يشاكل رؤوس الآي التي بعده [إذ هي بمنزلة المردف بالباء، و ﴿طه﴾ عدّ؛ لأنه يشاكل رؤوس الآي التي بعده (٥)] (٦).
قوله تعالى ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ قال أبو عبيدة: المعنى هذه آيات (٧)، وقال الزجاج: أي تلك الآيات التي جرى ذكرها آيات الكتاب الحكيم (٨)، وقد بينّا في أول سورة البقرة جواز (تلك) و (ذلك) بمعنى (هذه) و (هذا).
وقال صاحب النظم: نظم هذه الفاتحة مثل نظم قوله تعالى: {الم
(١) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٤٥.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) في (م): (وإذا).
(٤) في (ح): (أباه)، وهو خطأ، وفي (ى) و (م): (باهً)، إلا أنها لم تشكل في (ى)، وانظر النص في "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٤٦.
(٥) الصحيح أن الآية إنما تعلم بتوقيف من الشارع، ولا مجال للقياس في ذلك، وما ذكره المؤلف غير مطرد؛ فإن (المص) آية في سورة الأعراف، وآخرها لا يشاكل رؤوس الآي التي بعدها. وانظر: "البرهان" للزركشي ١/ ٢٥٢، "الإتقان" ١/ ٨٨.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٧) "مجاز القرآن" ١/ ٢٧٢.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥.
115
(١) ذَلِكَ الْكِتَابُ} إلا أن الكتاب مذكر فقال (ذلك) والآيات مؤنثة وقال (تلك) قال: وربما أخرج ذلك على ما تقدم وربما أخرج علي ما تأخرج وأخرج هاهنا (١) على ما تأخرة لأن (ذلك) و (ذاك) و (تلك) و (أولئك) إشارات تقع على ما يقصد بالإشارة إليه، وقد قال عطاء عن ابن عباس: يريد هذه الآيات التي أنزلتها على محمد - ﷺ - (٢).
وأراد بـ ﴿الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ القرآن في قول أكثر المفسرين (٣)، والحكيم: الحاكم (فعيل) بمعنى (فاعل) دليله قوله: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [البقرة: ٢١٣] وقيل: إنه بمعنى المحكم (٤)، قال مقاتل: المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف (٥)، وقد بينا قبل هذا أن الأحكام معناه المنع من الفساد، ويدل على أن الحكيم هاهنا بمعنى المحكم قوله: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود: ١].
قال الأزهري: وهذا سائغ في اللغة، والقرآن يبين بعضه بعضًا، وإنما جاز ذلك؛ لأن (حكمت) تجري مجرى (أحكمت) في المعنى فرد إلى الأصل والله أعلم (٦).
وقد قال الأعشى:
(١) ساقط من (م).
(٢) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٨.
(٣) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٨٠، والسمرقندي ٢/ ٨٧، والثعلبي ٧/ ٣ ب، والبغوي ٤/ ١١٩.
(٤) هذا قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن" ١/ ٢٧٢.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٣٧ ب.
(٦) "تهذيب اللغة" (حكم) ١/ ٨٨٦ بنحوه.
116
وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها (١)
يذكر قصيدته ويعني بالحكيمة المحكمة.
وقال الحسن في قوله: ﴿الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وحكم فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه، وبالنار لمن عصاه (٢)، فعلى هذا الحكيم بمعنى المحكوم فيه.
٢ - قوله تعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا﴾ الآية، قال ابن عباس والمفسرون: عجبت قريش من إرسال الله (٣) محمدًا - ﷺ - إلى العباد، وقالوا أما (٤) وجد الله تعالى من يرسله إلينا إلا يتيم أبي طالب؟! فأنزل الله تعالى قوله: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا﴾ (٥) والألف فيه للتوبيخ والإنكار، ويعني بالناس أهل مكة.
وقوله تعالى: ﴿أَنْ أَوْحَيْنَا﴾ (أن) في محل الرفع؛ لأنه اسم لِكان بمنزلة قولك: إيحاؤنا.
وقوله تعالى: ﴿أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾ (أن) نصب بـ (أوحينا)، قال عطاء، عن ابن عباس: عجبوا أن اخترت من خلقي رجلاً منهم يعرفونه ويعرفون
(١) البيت للأعشى الكبير في "ديوانه" ص ١٥١، "خزانة الأدب" ٤/ ٢٥٩، "الدرر اللوامع" ١/ ٢٦٩.
(٢) رواه الثعلبي ٧/ ٣ ب، والبغوي ٤/ ١١٩.
(٣) في (ح) و (ي): (إرسال محمد).
(٤) في (ح) و (ي): (ما).
(٥) ذكره النحاس في "معاني القرآن الكريم" ٣/ ٢٧٦، والزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٢٢٤، ورواه عن ابن عباس بمعناه ابن جرير ١١/ ٨١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٢٢، والثعلبي ٧/ ٣ ب، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٣٥.
117
أباه وأمه، وفيهم وُلد ونشأ يسمونه الأمين، لا يعدلون به أحدًا في صغره، ولا شابًا في شبابه، ولا كهلًا في سنه، فكذبوه ورموه بكل (١) ما ليس فيه وإنما بعثه الله مبشرًا (٢) ونذيرًا فذلك قوله: ﴿أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾.
قال الليث وأبو الهيثم: القدم: السابقة، وكذلك القُدمة، والمعنى أنه قد سبق لهم عند الله خير (٣).
وقال ذو الرّمة:
وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابةٍ لهم قدم معروفة ومفاخر (٤)
قال: القدم السابقة وما تقدموا فيه غيرهم (٥).
وقال أحمد بن يحيى في هذه الآية: القدم كل ما قدمت من خير، قال: وتقدَّمَتْ فيه لفلان قدم: أي تقدم في الخير (٦).
وقال ابن الأنباري: القدم: كناية عن العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخر ولا إبطاء؛ لأن العادة جارية بتقدم الساعي على قدميه، فالقدم كنت (٧) من العمل الصالح، وسدّت مسدّ السبق.
(١) ساقط من (ى).
(٢) في (م): (بشيرًا).
(٣) "تهذيب اللغة" (قدم) ٣/ ٢٩٠٢، ونحوه في كتاب "العين" (قدم) ٥/ ١٢٢، وليس لأبي الهيثم سوى الكلمتين الأوليين.
(٤) البيت في "ديوان ذي الرمة" ٢/ ١٠٤٤، و"تهذيب اللغة" (قدم) ٣/ ٢٩٠٢، و"لسان العرب" (قدم) ٦/ ٣٥٥٢.
(٥) النص في "تهذيب اللغة"، الموضع السابق، دون تعيين القائل.
(٦) "تهذيت اللغة" (قدم) ٣/ ٢٩٠٢.
(٧) في (ي): (كفت)، وفي (م): (كعب)، وكلاهما خطأ.
118
وأنشد لحسان يخاطب (١) النبي - ﷺ -:
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة (٢) الله تابع (٣) (٤)
هذا الذي ذكرنا معنى القدم في اللغة.
فأما التفسير فقال ابن عباس: أجرًا حسنًا بما قدموا من أعمالهم (٥)، وعلى هذا، المعنى: أن لهم أجر قدم صدق أو ثوابه، على تقدير حذف المضاف.
وقال مجاهد والحسن: يعني الأعمال الصالحة (٦)، وعلى هذا لا حذف.
وقال الوالبي عن ابن عباس: سبقت لهم السعادة (٧).
وقال ابن زيد: محمد - ﷺ -شفيع لهم (٨)، واختار ابن الأنباري أن
(١) في (ح) و (ز): (مخاطبًا).
(٢) في "الزاهر" ملة. وما ذكره الواحدي موافق لديوان حسان.
(٣) البيت في "ديوان حسان" ص ١٤٨.
(٤) "الزاهر في معاني كلمات الناس" ١/ ٣٥٣ بنحوه، وذكر بعضه الرازي في "تفسيره" ١٧/ ٧.
(٥) رواه ابن جرير ١١/ ٨١، والثعلبي ٧/ ٤ أ، والبغوي ٤/ ١٢٠.
(٦) رواه عن مجاهد الإمام ابن جرير ١١/ ٨١، وبنحوه ابن أبي حاتم ٦/ ١٩٢٣ - ١٩٢٤، ورواه عن الحسن بنحوه الثعلبي ٧/ ٤ أ، والبغوي ٤/ ١٢٠.
(٧) رواه ابن جرير ١١/ ٨٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٢٢ - ١٩٢٣، والثعلبي ٧/ ٤ أ، والبغوي ٤/ ١٢٠، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٣٥، وعند جميعهم زيادة نصها: في الذكر الأول.
(٨) لم أجده من ذكره عن ابن زيد وإنما روي عن أبي زيد، فقد رواه عنه الثعلبي ٧/ ٤ أ، وبنحوه البغوي ٤/ ١٢٠، وذكره البخاري معلقًا في "صحيحه" كتاب التفسير، سورة يونس، وابن جرير ١١/ ٨٢.
119
يكون المراد بالقدم العمل الصالح (١)، وأنشد:
صَلِّ لذي العرش واتخذ قدما تنجيك يوم العثار والزلل (٢)
وأكثر أهل التفسير والمعاني على هذا (٣)، وهو قول مقاتل (٤)، وسعيد بن جبير (٥)، والشعبي، وقطرب (٦)، والقتيبي (٧)، وأبي عبيدة (٨)، وذكرنا (٩) أيضًا عن الحسن، ومجاهد.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ الْكَافِرُونَ﴾ تم الكلام عند قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ثم ابتدأ فقال: ﴿قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾، قال عطاء، عن ابن عباس: أخرجوا محمدًا من علمهم فيه بالأمانة والصدق إلى غير علمهم
(١) "المذكر والمؤنث" ١/ ٢٢٩ لكنه لم يذكر فيه البيت المذكور وقد ذكره في كتابه "الزاهر" ١/ ٣٥٣ لكنه لم يختر قولًا معينًا بعد أن ذكر في الآية أربعة أقوال، وانظر: "تفسير الرازي" ١٧/ ٧، "البحر المحيط" ٥/ ١٢٠.
(٢) البيت لوضاح اليمن، كما في "تفسير القرطبي" ٨/ ٣٠٧، "البحر المحيط" ٥/ ١٢٢، "الدر المصون" ٦/ ١٤٦، وقبل هذا البيت:
ما لَكَ وضاحُ دائم الغزل ألست تخشى تقارب الأجل
(٣) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٨١ - ٨٣، "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٢٧٦.
(٤) يعني ابن سليمان، انظر: "تفسيره" ص ١٣٧ ب.
(٥) لم تذكر المصادر التي بين يدي قوله هذا، وقد رواه ابن جرير ١١/ ٨٢ عنه، عن قتادة بلفظ: سلف صدق عند ربهم.
(٦) لم أقف على قولهما.
(٧) "تفسير غريب القرآن" له ص ١٩٤.
(٨) "مجاز القرآن" ١/ ٢٧٣ ولفظه: قدم صدق عند ربهم: مجازه: سابقة صدق عند ربهم، ويقال: له قدمٌ في الإسلام وفي الجاهلية. وانظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ٤ ب.
(٩) هكذا في جميع النسخ، والأولى أن يقول: وذكرناه.
120
فكفروا (١).
وقرئ: (لساحر) بالألف (٢)، والوجهان يحتملهما قوله: ﴿أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ﴾ فمن قال (ساحر) أراد به الرجل، ومن قال (سحر) أراد الذي أُوحي سحر.
٣ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ﴾ إلى قوله: ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾ مفسَّر في سورة الأعراف [٥٤].
وقوله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾، معنى التدبير: تنزيل الأمور في مراتبها على أحكام عواقبها، قال ابن عباس: يخلق ما يكون (٣)، وقال مقاتل: يقضيه وحده (٤).
وقوله تعالى: ﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾، قال أبو إسحاق: الذي اقتضى ذكر الشفيع أنهم كانوا يقولون إن الأصنام شفعاؤهم عند الله، وقد ذكر الله هذا عنهم في هذه السورة في قوله: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ [يونس: ١٨] [يونس: ١٨] الآية، فأيسهم الله عن ذلك بقوله: ﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ (٥).
قال الكلبي: ما من شفيع من الملائكة والنبيين (٦) إلا من بعد أمره في
(١) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٨.
(٢) قرأ الكوفيون وابن كثير وخلف (لساحر) بالألف، وقرأ الباقون (لسحر) من غير ألف. انظر كتاب "السبعة" ص ٣٢٢، "إرشاد المبتدي" ص ٣٠١، "النشر في القراءات العشر" ٢/ ٢٥٦.
(٣) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٨، وبمعناه القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٣٠٨.
(٤) "تفسيره" ١٣٧ ب.
(٥) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٦ بتصرف.
(٦) ساقط من (ى).
الشفاعة (١).
٤ - قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾، قال ابن عباس: يريد: إليّ (٢) مصيركم يوم القيامة وعندي الثواب والعقاب (٣)، فالمرجع بمعنى الرجوع، ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى جزائه (٤)، وهذا مما سبق بيانه (٥).
و ﴿جَمِيعًا﴾ نصب على الحال.
وقوله تعالى: ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾ منصوب على معنى وعدكم الله وعدًا؛ لأن قوله: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ معناه الوعد بالرجوع. قاله الزجاج (٦)، قال: و ﴿حَقًّا﴾ منصوب على أحق ذلك حقًا (٧).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ رد على المشركين الذين أنكروا البعث فاحتج الله عليهم بالنشأة (٨) الأولى.
وقوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ﴾، قال ابن
(١) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٨، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٨، عن الكلبي، عن ابن عباس بنحوه.
(٢) في (ى): (إليه)، وهو غير مناسب للسياق.
(٣) "تنوير المقباس" ص ٢٠٨ بمعناه.
(٤) الجزاء يقتضي الرجوع إلى الله، أما الرجوع إلى الله فهو بمعنى الإتيان المذكور في قوله تعالى: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدً﴾ [مريم: ٩٥]، فيترك النص على ظاهره وينزه الله مما يتوهم من لوازم باطله.
(٥) انظر: "تفسير البسيط" البقرة: ٢٨.
(٦) المصدر التالي، نفس الموضع.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧.
(٨) في (ح): (بالبشارة)، وهو خطأ.
عباس: يريد بالعدل جزاءً لا يصفه الواصفون (١).
فإن قيل: لم أفرد المؤمنين بالقسط دون غيرهم وهو يجزي الكافر أيضًا بالقسط؟ قال ابن الأنباري: لو جمع الله الصنفين بالقسط لم يتبين ما يقع بالكافرين من العذاب الأليم، ففصلهم من المؤمنين ليبين ما يجزيهم به مما هو عدل غير جور، فلهذا خص المؤمنين بالقسط، وأفرد الكافرين بخبر يرجع إلى تأويله بزيادة في الإبانة والفائدة (٢).
وقوله تعالى: ﴿لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ الحميم: الذي قد أسخن بالنار حتى انتهى حره، يقال: حممت الماء: أي أسخنته، أحميه (٣) فهم حميم، ومنه الحمام.
٥ - قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً﴾، قال أبو علي: الضياء لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون جمع ضوء، كسوط وسياط، وحوض وحياض، أر مصدر ضاء يضوء ضياءً، كقولك قام قيامًا، وصام صيامًا (٤)، وعلى أي الوجهين حملته فالمضاف محذوف، والمعنى: جعل الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نور، ويجوز أن يكون جُعلا النور والضياء لكثرة ذلك منهما (٥).
(١) رواه مختصرًا ابن أبي حاتم ٦/ ١٩٢٧، من رواية الضحاك وفيها انقطاع، وكذلك الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٨، من رواية الكلبي، وحاله لا تخفى، لكن المعنى صحيح.
(٢) ذكره مختصرًا بن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٨.
(٣) في (ح) و (ى): (أحمه).
(٤) في "الحجة": عاد عيادةً.
(٥) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٥٨.
123
وروي عن ابن كثير من طريق قنبل (١) (ضئاءً (٢) بهمزتين (٣)، وأكثر الناس على تغليطه في ذلك (٤)؛ لأن ياء (٥) ضياء منقلبة عن واو، مثل ياء قيام وصيام فلا وجه للهمز فيها، وعلى البعد يجوز أن يقال: الهمزة في موضع العين [من (ضياء) يكون على القلب كأنه قَدَّم اللام التي هي همزة إلى موضع العين] (٦) وأخَّر العين التي هي واو إلى موضع اللام، فلما وقعت طرفًا بعد ألف زائدة انقلبت [همزة كما انقلبت] (٧) في سقاء (٨) وبابهن وهذا إذا قدر الضياء جمعا كان أسوغ، ألا ترى أنهم قالوا: [قوس
(١) هو: محمد بن عبد الرحمن بن محمد المخزومي مولاهم، أبو عمر المكي، مقرئ أهل مكة في عصره، وراوية الإمام ابن كثير، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالحجاز، وتوفي سنة ٢٩١ هـ.
انظر: "معرفة القراء الكبار" ١/ ٢٣٠، "غاية المنتهى" ٢/ ١٦٥، "النشر في القراءات العشر" ١/ ١١٥.
(٢) ساقط من (م).
(٣) انظر: "السبعة" ص ٣٢٣، "التيسير" ص ١٢٠، "إرشاد المبتدي" ص ٣٥٩، " النشر" ١/ ٤٠٦.
(٤) انظر: "السبعة" ص ٣٢٣، "النشر" ١/ ٤٠٦، "البحر المحيط" ٥/ ١٢٥، ولا وجه لتغليط قنبل إذ وافقه الحلواني عن القواس، عن ابن كثير، انظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٣٢٨، "النشر" ١/ ٤٠٦، وانظر توجيه القراءة والرد على من ضعفها في "الدر المصون" ٦/ ١٥١ - ١٥٢.
(٥) ساقط من (ح).
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٨) أجل سقاء، سقاي؛ لأنه من سقى يسقي، فلما تطرفت الياء بعد ألف زائدة انقلبت همزة.
124
وقسي؛ فصححوا الواحد وقلبوا في الجمع (١)، وإذا قدرته مصدرًا كان أبعد؛ لأن المصدر يجري على فعله في الصحة والاعتلال، والقلب ضرب من الاعتلال فإذا لم يكن في الفعل امتنع أن يكون في المصدر أيضاً، ألا ترى أنهم قالوا] (٢): لاوذ لواذا، وبايع بياعا فصححوهما (٣) في المصدر لصحتهما في الفعل، وقالوا: قام قيامًا، فأعلوه (٤) ونحوه؛ لاعتلاله في الفعل (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ﴾، قال الفراء (٦)، والزجاج (٧)، وابن الأنباري وغيرهم (٨): خص القمر بالعائد لأن به تعرف المشهور دون الشمس فلحقه الاختصاص، قالوا: ويجوز أنه أراد: وقدرهما، فاكتفى بإعادة الذكر على أحدهما اختصارًا، ولهذا نظائر قد تقدمت (٩).
(١) قال الجوهري: أصل قسي: قووس؛ لأنه (فعول) إلا أنهم قدموا اللام وصيروه قسو على (فلوع) ثم قلبوا الواو ياء وكسروا القاف كما كسروا عين عِصِيّ، فصارت فسي على (فِليع). "الصحاح" (قوس)، "لسان العرب" (قوس).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٣) في (ى): (فصححوا)، والمثبت موافق لـ"الحجة"، وهو أنسب للسياق.
(٤) في (ح): (علّوه).
(٥) نقل الواحدي توجيه القراءة من "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٥٨.
(٦) "معاني القرآن" ١/ ٤٥٨.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧.
(٨) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٨٦، والثعلبي ٧/ ٥ أ، والبغوي ٤/ ١٢١، و"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٥٠.
(٩) انظر مثلاً: تفسير قول الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢].
125
ومعنى قدر: أي هيأ ويسر (١)، وقوله: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ﴾ يتوجه علي أحد وجهين (٢): إما أن يقال: المعنى: قدر له منازل، فحذف الجار وأفضى الفعل، وإما إن يقال: قدره (٣) ذا منازل، فحذف المضاف (٤)
وقوله تعالى: ﴿لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾، قال ابن عباس: يقول: لو جعلت شمسين شمسًا بالنهار وشمسًا بالليل ليس فيها ظلمة (٥) ولا ليل لم تعلموا عدد السنين والحساب (٦).
قال الكلبي: يعني حساب المشهور والسنين والأيام والساعات (٧).
وقوله تعالى: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ يعني ما تقدم (٨) ذكره من الشمس والقمر ومنازله، ﴿ذَلِكَ﴾ يُشار به إلى أكثر من الواحد، وذكرناه في قوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨] مستقصى مشروحًا (٩).
وقوله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ﴾، قال ابن عباس: يريد بالعدل؛ لأنه هو الحق، وكل ما جاء من عنده هو الحق (١٠)، وعلى هذا، المعنى: ما خلق
(١) في "لسان العرب" (قدر) تقدير الله الخلق: تيسيره كلًّا منهم لما علم أنهم صائرون إليه من السعادة والشقاء.
(٢) في (خ): (الوجهين).
(٣) ساقط من (ح).
(٤) انظر الوجهين في "التبيان في إعراب القرآن" ص ٤٣٣.
(٥) في (خ): (ظل).
(٦) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٣١٠.
(٧) "تنوير المقباس" ص ٢٠٨ عنه، عن ابن عباس مختصرًا.
(٨) ساقط من (ي).
(٩) ساقط من (ح).
(١٠) لم أقف عليه.
126
الله ذلك إلا عادلًا في خلقه لم يخلقه ظلمًا ولا باطلاً، بل إظهارًا لصنعه ودلالة على قدرته وحكمته، وقال بعضهم: الباء هاهنا بمعنى اللام، والمعنى ما خلق الله ذلك إلا للحق (١)، وهو ما ذكرنا من إظهار صنعه وقدرته ووحدانيته، وذكرنا وجهًا آخر في قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ﴾ في سورة الأنعام (٢).
وقوله تعالى: ﴿نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ أي نبينها ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي يتدلون بالأمارات والبراهين على قدرة الله، ولهذا خص العلماء؛ لأنهم المستدلون دون الجُهّال الذين لا يبلغون هذه المنزلة.
٦ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ إلى قوله: ﴿لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾، قال ابن عباس: يريد اتقَوُا الله، ولم (٣) يشركوا به شيئًا (٤) يعني لقوم يؤمنون باللهِ فيعلمون ويقرون، وذلك أن من كفر ولم يستدل بما ذكر في هذه الآيات فليست له دلالة فيما خلق الله في السموات والأرض.
٧ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾، قال ابن عباس (٥)، ومقاتل (٦)، والكلبي (٧): لا يخافون البعث، والمعنى أنهم لا يخافون
(١) انظر: "زاد المسير" ٤/ ٩، "البحر المحيط" ٥/ ١٢٦.
(٢) الآية ٧٣. من "تفسير البسيط" ونصه: (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق: أي بكمال قدرته وشمول علمه، وإتقان صنعه، وكل ذلك حق) اهـ. ثم أحال على آية سورة يونس.
(٣) في (ح): (ولا).
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "زاد المسير" ٤/ ١٠، "مفاتيح الغيب" ١٧/ ٤٠، "الوسيط" ٢/ ٥٣٩.
(٦) انظر: "تفسيره" ١٣٨ أ.
(٧) انظر: "مفاتيح الغيب"، الموضع السابق، والنص في "تنوير المقباس" ص ٢٠٧ بنحوه عنه، عن ابن عباس.
127
ذلك؛ لأنهم لا يؤمنون بها فلا يوجلون منها كما يوجل المؤمنون المصدقون بها المعنيون بقوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا﴾ [النازعات: ٤٥] ٤٥]، وبقوله: ﴿وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٩]، ويكون الرجاء هاهنا الخوف، كما قال تعالى: ﴿لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ (١) [نوح: ١٣]، وقال الهذلي:
إذا لسعته النحل لم يَرجُ لسعها وخالفها في بيت نوب (٢) عوامل (٣) (٤)
وقال آخرون في قوله: ﴿لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾: لا يطمعون في ثوابنا (٥)، فيكون الرجاء هاهنا الذي خلافه اليأس، كما قال: ﴿قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ﴾ [الممتحنة: ١٣]، وذكرنا معنى لقاء الله في قوله: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦].
وقوله تعالى: ﴿وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي بدلاً من الآخرة، كما قال: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ﴾ [التوبة: ٣٨]، وقد مر.
(١) وفي الآية أقوال أخرى، انظرها في: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٨٧ - ٨٨، ٩٤ - ٩٥، وقد رجح ما ذكره المؤلف.
(٢) في (ح): (قول)، وهو خطأ. والنوب: النحل. انظر: "الصحاح" (نوب) ١/ ٢٢٩.
(٣) في "تفسير ابن جرير"، "لسان العرب" عواسل.
(٤) البيت لأبي ذؤيب الهذلي كما في "شرح ديوان الهذليين" ١/ ١٤٣، "الصحاح" (نوب)، "تهذيب اللغة" (رجا)، "المخصص" ١٧/ ١١، "لسان العرب" (رجا)، " تفسير ابن جرير" ١١/ ٨٧.
(٥) انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٨٩، والماوردي ٨/ ٤٢٣، والرازى ١٧/ ٣٨، و"البحر المحيط" ٥/ ١٢٦، و"السامع لأحكام القرآن" ٨/ ٣١١.
128
وقوله تعالي: ﴿وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾، قال ابن عباس والمفسرون: أي ركنوا إليها؛ لأنهم لا يؤمنون بشيء من الثواب والعقاب (١)، كما قال: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ [الجاثية: ٢٤] الآية، فهؤلاء فرحهم يكون للدنيا، وغمهم لها، ورضاهم وسخطهم لها.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾، قال ابن عباس (٢): يريد ما أنزلت من حلالي وحرامي وفرضت من شرائعي (٣).
٩ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾، معناه: يهديهم ربهم إلى الجنان ثوابًا لهم بإيمانهم [وأعمالهم الصالحة، هذا معنى قول المفسرين في هذه الآية (٤)، قال مجاهد في قوله: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ [(٥) يكون لهم نور يمشون به (٦)،] يعني أن الله تعالى يهديهم بذلك النور إلى الجنة، ونحو هذا قال مقاتل: يهديهم بالنور
(١) انظر: "زاد المسير" ٤/ ١٠، "الوسيط" ٢/ ٥٣٩، "معالم التنزيل" ٤/ ١٢٢، ولم أجد من ذكره عن ابن عباس بهذا اللفظ بل ذكره عنه ابن الجوزي في الموضع السابق بلفظ: (آثروها)، وذكره الفيروزأبا في في "تنوير المقباس" ص ٢٠٩ بلفظ: (رضوا بها).
(٢) ساقط من (ى).
(٣) لم أجد من ذكره عنه بهذا اللفظ، وقد رواه الثعلبي ٧/ ٦، والبغوي ٤/ ١٢٢، والفيروزأبادي ص ٢٠٩، وابن الجوزي ٤/ ١٠ بلفظ: (عن آياتنا): (محمد - ﷺ - والقرآن).
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٨٨، والثعلبي ٧/ ٦ أ، والبغوي ٤/ ١٢٢، وابن الجوري ٤/ ١٠، والماوردي ٢/ ٤٢٣.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٦) رواه ابن جرير ١١/ ٨٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٢٩، والبغوي ٤/ ١٢٢.
على الصراط إلى الجنة (١)، وهو قول أبي روق (٢).
وقال قتادة: إن المؤمن يُصوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك، فيكون له نورًا وقائدًا إلى الجنة، والكافر على ضد ذلك، فلا يزال به عمله حتى يدخله النار (٣).
وقال ابن الأنباري: يجوز أن يكون المعنى: إن الله تعالى يزيدهم هداية بخصائص وألطاف وبصائر ينور بها قلوبهم، ويزيل بها الشكوك عنهم كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: ١٧] الآية (٤)، ويجوز أن يكون المعنى يثبتهم على الهداية كما قلنا في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦].
وقوله تعالى: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ﴾ أي من (٥) بين أيديهم، وهم يرونها من علو أسِرَّتهم وقصورهم.
١٠ - قوله تعالى: ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ الآية، الدعوى: مصدر كالدعاء، ذكرنا ذلك في قوله: ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ﴾ [الأعراف: ٥]، قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: كلما اشتهى أهل الجنة شيئا قالوا: ﴿سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ فجاءهم ما يشتهون، فإذا طعموا بما يشتهون قالوا:
(١) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ٦ أ، والسمرقندي ٢/ ٨٩، ولعل القول لمقاتل بن حيان إذ لم أجده في "تفسير مقاتل بن سليمان".
(٢) "تفسير الثعلبي" ٧/ ٦ أ، والقرطبي ٨/ ٣١٢.
(٣) رواه عنه بنحوه مرفوعًا ابن جرير ١١/ ٨٨، ورواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٩٢٩، عن قتادة عن الحسن مرفوعًا أيضًا، وهو حديث مرسل، وانظر: "تفسير ابن كثير" ٢/ ٤٤٨.
(٤) ذكره بنحوه الرازى في "تفسيره" ١٧/ ٤٢، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ١٢٧.
(٥) ساقط من (م).
130
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (١) وقال ابن جرير: إذا مر بهم الطير يشتهونه قالوا: ﴿سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ فيؤتون به، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (٢).
وقال الكلبي: قوله: ﴿سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ علم بين أهل الجنة والخدام، فإذا سمعوا ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون (٣).
وقوله تعالى: ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾، قال ابن عباس والكلبي: يحيي بعضهم بعضًا بالسلام (٤)، وقال آخرون: تحية الملائكة إياهم، وتحية الله إياهم سلام (٥)، وعلى هذا أضيف المصدر إلى المفعول.
وقوله تعالى: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ﴾ الآية، ذكرنا فيه قول ابن عباس وابن جرير.
وقال الكلبي: إذا فرغ أحدهم من كلامه (٦) يقول: الحمد لله رب العالمين (٧).
(١) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ١٠، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٣٩، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٩ بنحو.
(٢) رواه ابن جرير ١١/ ٨٩، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٣٩.
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٧/ ٤٤، ورواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٩، عن الكلبي، عن ابن عباس.
(٤) ذكره عن ابن عباس بنحوه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ١١، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٩، عن الكلبي، عن ابن عباس.
(٥) انظر: "الكشاف" ٢/ ٢٢٧، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ٨، "معاني القرآن الكريم" للنحاس ٣/ ٢٧٩، "تفسير البغوي" ٤/ ١٢٣.
(٦) كذا، والمعنى: يختمون كلامهم بالتحميد.
(٧) لم أجده.
131
وقال ابن زيد: إذا فرغوا وشربوا قالوا: الحمد لله على ما أعطاهم (١).
وقال الحسن في هذه الآية عن النبي - ﷺ -: "إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما تلهمون أنفاسكم" (٢)، [قال ذلك في هذه الآية وقال] (٣) أبو إسحاق: أعْلَمَ اللهُ -عز وجل- أنهم يبتدئون بتعظيم الله -عز وجل- وتنزيهه، ويختمون بشكره والثناء عليه (٤).
وقوله تعالى: ﴿أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ (أن) هي المخففة من الشديدة فلذلك لم تعمل لخروجها بالتخفيف عن شبه الفعل كقوله (٥):
أن هالك كل من يحفى وينتعل
على معنى: أنه هالك، وقال صاحب النظم: (أن) هاهنا زائدة (٦).
(١) لم أجده، وانظر القول بلا نسبة في "تفسير السمرقندي" ٢/ ٩٠.
(٢) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٧/ ٦ ب، عن الحسن مرسلاً، والحديث في "صحيح مسلم" (٢٨٣٥) كتاب: الجنة وصفة نعيمها، باب: في صفات الجنة وأهلها، عن جابر.
(٣) ما بين المعقوفين مضطرب في (ى)، وموضوع في غير موضعه.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨ مختصرًا، وقد ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٠ بهذا اللفظ.
(٥) عجز بيت، وصدره:
في فتية كسيوف الهند قد علموا
والبيت للأعشى في "ديوانه" ١٤٧، "خزانة الأدب" ٥/ ٤٢٦، "الدرر اللوامع" ٢/ ١٩٤، "شرح أبيات سيبويه" ٢/ ٧٦، "كتاب سيبويه" ٢/ ١٣٧، ٣/ ٧٤، "المحتسب" ١/ ٣٠٨، "مغني اللبيب" ١/ ٣١٤، ورواية عجز البيت في "الديوان":
أن ليس تدفع عن ذي الحيلة الحيل
(٦) ذكره الرازي ١٧/ ٤٧ وأنكره، وكذلك أبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ١٢٨.
132
١١ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ﴾، قال مجاهد: هو (١) قول الإنسان لولده وماله إذا غضب: اللهم لا تبارك فيه والعنه (٢). وقال قتادة: هو دعاء الرجل على نفسه وولده وأهله وماله بما يكره أن يستجاب له (٣)، والتعجيل: تقديم الشيء قبل وقته، والاستعجال: طلب العجلة.
قال الفراء: ﴿اسْتِعْجَالَهُمْ﴾ منصوب بوقوع الفعل وهو (يعجل) كما تقول: قد ضربت اليوم ضربك (٤)، والمعنى كضربك (٥).
وقال أبو إسحاق: نصب (استعجالهم) على [معنى: مثل استعجالهم، على] (٦) نعت مصدر محذوف، المعنى: ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلًا مثل استعجالهم بالخير (٧)، وهذا نحو قول الفراء وتفسير له؛ لأنه قد قال: هو مثل قولك ضربت اليوم ضربك، أي: كضربك فيكون المعنى تعجيلًا كاستعجالهم (٨)، فالقولان سواء،
(١) ساقط من (م).
(٢) رواه ابن جرير ١١/ ٩٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٣٢، والثعلبي ٧/ ٧ أ، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٣٩.
(٣) رواه ابن جرير ١١/ ٩٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٣٢، والثعلبي ٧/ ٧ أ، والبغوي ٤/ ١٢٣.
(٤) في (ح): (مضربك).
(٥) " معاني القرآن" ١/ ٤٥٨.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨.
(٨) "معاني القرآن" ١/ ٨ بمعناه.
133
و (استعجالهم) نصب بـ (تعجيك) (١) في الظاهر على ما قاله الفراء، وهو في الحقيقة نعت مصدر محذوف كما قال أبو إسحاق، واستعجالهم معناه طلبهم العجلة، وهو مصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى: أن الناس لو أجيبوا في الدعاء على أنفسهم وأهليهم عند الغضب كقول الرجل لابنه وحميمه: فعل الله بك وأماتك الله، وعجلوا في ذلك الشر على ما يطلبون كما يطلبون العجلة بالخير.
وزاد ابن قتيبة بيانًا فقال: إن الناس عند الغضب وعند الضجر قد يدعون على أنفسهم وأهليهم وأولادهم بالموت وتعجيل البلاء، كما قد يدعونه بالرزق والرحمة وإعطاء السؤال، يقول: فلو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلونه به استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم، قال: وفي الكلام حذف واختصار كأنه قال: ولو يعجل الله للناس إجابتهم في الشر الذي يستعجلونه استعجالهم بالخير (٢)، وعلى (٣) هذا، الاستعجال مصدر لفعل محذوف، والمصدر يدل على الفعل، كما أن الفعل يدل على المصدر، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ﴾ فعل من الله -عز وجل-، وقوله تعالى: ﴿اسْتِعْجَالَهُمْ﴾ فعل من المخلوقين.
وقال مقاتل في هذه الآية: لو استجيب لهم في الشر كما يحبون أن يستجاب لهم في الخير (٤).
(١) هكذا في جميع النسخ، وفي "معاني القرآن" للفراء: يعجل، وانظر نقل المؤلف النص قبل بضعة أسطر.
(٢) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٩٣.
(٣) في (م): (فعلى).
(٤) هذا قول مقاتل بن سليمان، انظر: "تفسيره" ١٣٨ ب.
134
وسلك أبو علي الفارسي في الآية طريقة أخرى فقال: المعنى والله أعلم: ولو يعجل الله للناس الشر (١)، أي: ما يدعون به (٢) من الشر على أنفسهم في حال ضجر وبطر استعجاله إياهم (٣) بدعاء الخير فأضيف المصدر إلى المفعول به، وحذف الفاعل، كقوله: ﴿مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ﴾ [فصلت: ٤٩] في حذف ضمير الفاعل قال: والتقدير: ولو يعجل الله للناس الشر (٤) استعجالًا مثل استعجالهم بالخير (٥)، وهذا مذهب الكلبي في هذه الآية، فإنه قال: يقول: لو يعجل الله للناس إذا دعوا بالعقوبة كما يعجل لهم الخير إذا دعوا بالرحمة والرزق والعافية فيرزق ويعطي (٦)، وعلى هذا: التعجيل والاستعجال كلاهما من الله -عز وجل-.
(١) في "الحجة" دعاء الشر.
(٢) في (م): (إليه).
(٣) هكذا في جميع النسخ، وكذلك هو في إحدى نسخ "الحجة" كما أشار إليه المحقق، ونص بقية النسخ: استعجالهم إياه، ولعل صواب عبارة أبي علي ما ذكره المؤلف ويدل على ذلك ما يأتي:
أ- قول أبي علي: فأضيف المصدر إلى المفعول به، وحذف الفاعل، دليل على أنه أراد ما ذكره المؤلف، إذ إنه على العبارة الثانية يكون المصدر مضافًا إلى الفاعل.
ب- بيان المؤلف أن عبارة الكلبي بمعنى عبارة أبي علي وهذا لا يتحقق إلا على ما ذكره المؤلف.
ج- قول المؤلف: وعلى هذا: التعجيل والاستعجال كلاهما من الله، لا يتحقق إلا بالعبارة التي ذكرها المؤلف، إذ إن العبارة الثانية تفيد أنه أراد العبارة الأخرى؛ لأنه لو أراد العبارة التي ذكرها المؤلف لقال: استعجالًا مثل استعجاله لهم بالخير. فليتأمل.
(٤) ساقط من (ح).
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٥٤.
(٦) ذكره بنحوه السمرقندي في "تفسيره" ٢/ ٩٠.
135
وقوله تعالى: ﴿لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾، قال عامة المفسرين: أي لماتوا وهلكوا جميعًا وفرغ من هلاكهم (١)، وقال أبو عبيدة: لفرغ عن أجلهم (٢)، والتقدير: لفرغ من أجلهم ومدتهم المضروبة للحياة، فإذا انتهت مدتهم المضروبة للحياة هلكوا، ومعنى الفراغ من المدة: انقضاؤها، والشيء إذا انقضى فرغ منه، ونحو هذه الآية قوله: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ﴾ [الإسراء: ١١].
فأما ما يتعلق به الجار في قوله: ﴿إِلَيْهِمْ﴾، قال أبو علي: لما كان معنى (قضى): فرغ [وكان فرغ] (٣) قد يتعدى بها الحرف نحو قوله (٤):
ألان فقد فرغت إلى نمير... فهذا حين صرت لهم عذابا
فلما تعلق (إلى) بفرغ كذلك تعلق بقضى (٥).
وتحقيق التأويل: لو أجيبوا إلى ما يدعون به من الشر والعذاب لفرغ إليهم من أَجَلِهم بأن ينقضي الأجل فيموتوا ويحصلوا في البلاء والعذاب.
وقرأ ابن عامر: (لقَضَى إليهم أجلَهم) على إسناد الفعل إلى
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٨، و"تفسير ابن جرير" ١١/ ٩٢، والثعلبي ٧/ ٧ أ، والبغوي ٤/ ١٢٤، و"معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٨.
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ٢٧٥ ولفظه: لفرغ ولقطع ونبذ إليهم. وقد ذكره أبو علي في "الحجة" ٤/ ٢٥٤ بلفظ المؤلف.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٤) هو: جرير كما في "لسان العرب" (أين) ١/ ١٩٣، ولم أجده في "ديوانه"، ورواية "اللسان": الآن وقد نزعت... إلخ
ونمير: قبيلة عربيته معروفة منها الراعي النميري، وكان بينه وبين جرير هجاء ومناقضات. انظر: "طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٤٣٦.
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٥٦ بنحوه.
136
الفاعل (١)؛ لأن ذكر الفاعل قد تقدم وهو الله -عز وجل-، في قوله: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ﴾.
وذكر عن بعض المفسرين (٢): أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ﴾ [الأنفال: ٣٢] الآية، يدل على صحة هذا قوله: ﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، يعني الكفار الذين لا يخافون البعث.
١٢ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ﴾ أي: مضطجعا على جنبه؛ ولهذا المعنى عطف عليه بالحال، كقوله: ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا﴾ [آل عمران: ٤٦] فنسق ﴿وَكَهْلًا﴾ على ﴿فِي الْمَهْدِ﴾؛ لأن معناه: ويكلم الناس صغيرًا وكبيرًا، قال ابن الأنباري: وهذا كما يقول القائل إنا بخير وكثير صيدنا، فيعطف (كثيراً) على الباء، إذ تأويلها: إنا مخصبون (٣).
قال ابن عباس: إذا أصاب الكافر ما يكره من فقر أو مرض أو بلاءً أو شدة أخلص في الدعاء مضطجعًا كان أو قائمًا أو قاعدًا (٤)، وإنما يريد جميع حالاته؛ لأن الإنسان لا يخلو من هذه الحالات.
قال أبو إسحاق: وجائز أن يكون: وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو
(١) كتاب "السبعة" ص ٣٢٣، "إرشاد المبتدي" ص ٣٦٠، " النشر" ٢/ ٢٨٢، وقد وافقه يعقوب كما في المصدرين الأخيرين.
(٢) هو: مقاتل بن سليمان كما في "تفسيره" ١٣٨ ب، "تفسير القرطبي" ٨/ ٣١٥.
(٣) لم أجده.
(٤) ذكره المؤلف في "الوسيط " ٢/ ٥٤٠، وبنحوه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ١٢، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٩.
137
مسه قاعدًا أو مسه قائمًا دعانا (١)، والمعنى: وإذا مسَّ الإنسان الضر في حال من الأحوال دعانا، قال أبو بكر: وفي هذا القول عندي بُعد؛ لأن إزالة ألفاظ القرآن إلى معنى غامض يُتطلب لها مكروهة؛ إذِ استعمال الظاهر إذا لم يدعُ إلى الغامضِ ضرورةٌ أولى (٢).
قال: ومما يزيد هذا القول فسادًا أنّ اللام في قوله (لجنبه) إذا انتصب بـ (مس) لم يجز أن يدخل بين (دعانا) وما يتعلق به كتعلق الصلة، والفاء في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا﴾ يتصل ما (٣) بعدها بـ (دعانا) وغير جائز أن تقول: دعوت فأجابني عبد الله فأحسن)، من قِبَل أنّ (أحسن) ينعطف على أجابني، فدخول منصوب الأول بينهما لا وجه له (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ﴾ [قال ابن عباس: فلما كشفنا عنه] (٥) مرضه مرّ طاغيا على ترك الشكر (٦).
وقال الفراء: استمر على طريقته الأولى قبل أن يصيبه البلاء (٧).
وقال الزجاج: مرّ في العافية على ما كان عليه قبل (٨) أن يبتلى ولم
(١) اهـ. كلام أبي إسحاق الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩.
(٢) ساقط من (م).
(٣) في (ى): (بما)، وهو خطأ.
(٤) لم أجد مصدره، وانظر: "التبيان في إعراب القرآن" ص ٤٣٤، فقد ضعف أبو البقاء أيضاً قول الزجاج المذكور.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٦) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٠ مختصرًا، و"زاد المسير" ٤/ ١٢ بلا نسبة.
(٧) "معاني القرآن" ١/ ٤٥٩.
(٨) ساقط من (ى).
138
يتعظ بما ناله (١)، وهذا بيان عن حال الجاهل (٢) من الإعراض عما يجب عليه من الشكر على كشف الضر الذي نزل به.
وقوله تعالى: ﴿كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾، قال الأخفش: ﴿كَأَنْ لَمْ﴾ يريد: كأنه لم، فخففت، ومثله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا﴾ (٣) [يونس: ٤٥]، وهذا مثل ما ذكرنا في (أن) الخفيفة في مواضع، وقال الحسن: نسي ما دعى الله فيه، وما صنع الله به (٤) فيما كشف عنه من ذلك النبلاء (٥).
وقال صاحب النظم في هذه الآية: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ﴾: (وإذا) موضوعة للمستقبل، ثم قال: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا﴾ وهذا واجب ماضٍ، فهذا النظم محمول على الاشتراك من أن المعنى فيه: إنه هكذا كان فيما مضى، وهكذا يكون في المستأنف، فدل ما فيه من [الفعل المستأنف على ما فيه من المعنى المستأنف، وما فيه من] (٦) الماضي على الماضي (٧).
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، قال المفسرون: [يقول: كما زُين لهذا الكافر الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء، زُين للمسرفين عملهم (٨)، والمعنى: زُين للمسرفين عملهم تزيينًا
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩.
(٢) في (ى): (الجاهلية).
(٣) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٣٦٩.
(٤) في (م): (فيه).
(٥) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٠، ولم أجده عند غيره.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٧) ذكره بنحوه الرازي في "تفسيره" ١٧/ ٥٢، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ١٣٠.
(٨) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ٧ ب، والبغوي ٤/ ١٢٤، وابن الجوزي ٤/ ١٣.
139
مثل تزيين عمل هذا الكافر، فموضع الكاف في (كذلك) نصب أي: جعل الله جزاءهم الإضلال [بإسرافهم (١) في كفرهم؛ لأن تزيينهم لهم ما يعملون إضلال] (٢) وهذا معنى قول الزجاج في هذه الآية (٣).
قال ابن عباس: يريد بالمسرفين: المشركين (٤).
قال ابن كيسان: أسرفوا على أنفسهم إذ عبدوا الوثن (٥)، قال عطاء: نزلت هذه الآية في عتبة بن ربيعة (٦) والوليد بن المغيرة (٧) (٨).
١٣ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ [الآية] (٩)، قال المفسرون: يخوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية (١٠).
(١) في (م): (بإسرارهم)، وهو خطأ.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من النسخ عدا (م).
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩.
(٤) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٠٩.
(٥) "الوسيط" ٢/ ٥٤٠، ولم أجده في مصدر آخر.
(٦) هو: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، أبو الوليد، كبير قريش، واحد ساداتها في الجاهلية، أدرك الإسلام ولم يسلم، بل عاند وتكبر، وشهد بدرًا مع المشركين وقتل فيها سنة ٢ هـ. انظر: "السيرة النبوية" ١/ ٢٧٦، "الأعلام" ٤/ ٢٠٠.
(٧) هو: الوليد بن المغيرة بن عبد الله المخزومي، أبو عبد شمس، كان من قضاة العرب في الجاهلية، ومن زعماء قريش وأثريائها، أدرك الإسلام وهو هرم، فقاوم دعوته، وسعى لإطفاء نوره حتى هلك سنة ١ هـ.
انظر: "السيرة النبوية" ١/ ٢٧٧، "الأعلام" ٨/ ١٢٢.
(٨) "زاد المسير" ٣/ ١٢، "الوسيط" ٢/ ٥٤٠.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(١٠) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ٨ أ، والبغوي ٤/ ١٢٥، والسمرقندي ٢/ ٩١، وأصل القول لمقاتل بن سليمان كما في "تفسيره" ١٣٨ ب.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾، قال ابن الأنباري: ألزمهم الله ترك الإيمان لمعاندتهم الحق، وايثارهم الباطل، يدل على هذا قوله: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ (١).
وقال أبو إسحاق (٢): أعلم الله عز وجل أنهم لا يؤمنون ولو بقّاهم (٣) أبدًا، فجائز أن يكون جعل الله جزاءهم الطبع على قلوبهم، كما قال: ﴿رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا (٤) مِنْ قَبْلُ﴾ الآية في سورة الأعراف (٥)، والدليل أنه طبع على قلوبهم جزاءً لهم قوله (٦) تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [قال: وجائز أن يكون أعلم (٧) ما قد علم منهم (٨) (٩)، وعلى هذا معنى قوله: كذلك نجزي القوم المجرمين] (١٠)، أي نعاقب ونهلك المشركين المكذبين بمحمد - ﷺ - كما فعلنا بمن قبلهم.
١٤ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾، قال
(١) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٣٣٠، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٠.
(٢) في (ى): (ابن عباس)، وهو خطأ.
(٣) هكذا، وهو صحيح كما في "اللسان" (بقى) ١/ ٣٣٠، "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٢٨١، واللفظ في المصدر: أبقاهم.
(٤) في جميع النسخ (كذبوا به)، وهو خطأ.
(٥) رقم: ١٠١، وبقيتها: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ﴾.
(٦) في (م): (وقوله)، وهو خطأ.
(٧) في (ى): (أعلمهم).
(٨) أي أن الله سبحانه علم موتهم على الكفر فأخبر في هذه الآية بذلك.
(٩) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠، وقد قدم المؤلف بعض الجمل على بعض.
(١٠) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
141
ابن عباس: يريد أهل مكة (١).
وقوله تعالى: ﴿لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾، قال ابن عباس: يريد لنختبر أعمالكم، وهو يعلم ما يكون قبل أن يكون (٢).
وقال أهل المعاني: معنى النظر هو طلب العلم، وجاز في وصف الله تعالى للمظاهرة في العدل بأنه يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ليجازيهم بحسبه كقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (٣) [الملك: ٢]، وقد مرّ نظائر هذا (٤).
وقال رسول الله - ﷺ -: "إن الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون" (٥) [وقال قتادة: صدق الله ربنا؛ ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار (٦).
(١) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤١.
(٢) المصدر السابق، نفس المصدر.
(٣) وانظر معنى هذا القول في "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧٢، وللنحاس ١/ ٤٨٢.
(٤) انظر مثلاً: تفسير قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٠]، وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا﴾ [آل عمران: ١٤٢] في "البسيط".
(٥) رواه مسلم في "صحيحه" (٢٧٤٢) كتاب الرقاق، باب: أكثر أهل الجنة الفقراء، والترمذي في "سننه" (٢١٩١) كتاب: الفتن، باب: ما جاء ما أخبر النبي - ﷺ - أصحابه، وابن ماجه في "سننه" (٤٠٠٠) كتاب: الفتن، باب: فتنة النساء، وأحمد في "المسند" ٣/ ١٩.
(٦) ذكره عنه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ١٣، والرازي في "تفسيره" ١٧/ ٥٤، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤١، ولا أرى نسبته إلى قتادة إلا وهمًا، إذ رواه ابن جرير ١١/ ٩٤، والثعلبي ٧/ ٨ أ، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٣٤، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٤٠، عن قتادة، عن عمر.
142
وقال أبو إسحاق: موضع (كيف) نصب بقوله (تعملون)] (١)؛ لأنها حرف الاستفهام الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، لو قلت لننظر خيرًا تعملون أم شرًا، كان العامل في (خير) و (شر): تعملون (٢).
١٥ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ الآية، قال قتادة (٣)، ومقاتل (٤)، والكلبي (٥): نزلت في مشركي مكة؛ قالوا للنبي - ﷺ -: ائت بقرآن غير هذا، ليس فيه ترك عبادة آلهتنا، قال الزجاج: (بينات) منصوب على الحال (٦).
وقوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾، قال ابن عباس (٧)، والكلبي (٨)، وغيرهما (٩): يعني الذين لا (١٠) يخافون البعث.
وقوله تعالى: ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا﴾ أي بقرآن ليس فيه عيب آلهتنا وذكر البعث والنشور ﴿أَوْ بَدِّلْهُ﴾ أي تكلم به من ذات نفسك فبدل منه ما
(١) ما بين المعقوفين مكرر في (ى).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠.
(٣) رواه ابن جرير ١٥/ ٤٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٣٤، والثعلبي ٧/ ٨ ب، والبغوي ٤/ ١٢٥.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ١٣٨ ب، والثعلبي ٧/ ٨ ب، والبغوي ٤/ ١٢٥.
(٥) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ٨ ب، والسمرقندي ٢/ ٩١، "أسباب النزول" للمؤلف ص ٢٧٠.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠.
(٧) "تنوير المقباس" ص ٢١٠.
(٨) "تفسير السمرقندي" ٢/ ٩١.
(٩) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٩٥.
(١٠) ساقط من (ى).
143
نكرهه، قاله المفسرون (١).
وقال أهل المعاني: الفرق بين الإتيان بقرآن غيره وبين تبديله أن الإتيان بغيره قد يكون معه فأما تبديله فلا يكون إلا برفعه ووضع آخر في مكانه أو في شيء منه (٢)، وهذا تعنت وتحكم منهم وإيهام أن الأمر موقوف على ما يرضون به، وليس (٣) يرضون بهذا فيريدون غيره.
وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي﴾، قال الكلبي (٤): ما ينبغي لي أن أغيره من قبل نفسي، ولم أومر به (٥).
وقال أهل المعاني: معناه ليس لي أن أتلقاه بالتبديل، كما ليس لي أن أتلقاه بالرد (٦). ومعنى التلقاء: جهة مقابلة (٧) الشيء، وقد يجعل ظرفًا، فيقال: هو تلقاءه، كما يقال هو حذاءه وإزاءه وقبالته.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ قال ابن عباس: يريد ما أخبركم إلا ما أخبرني الله به (٨).
(١) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ٨ ب، والبغوي ٤/ ١٢٥، و"الوسيط" ٢/ ٥٤١.
(٢) انظر نحو هذا القول في: "تفسير الرازي" ١٧/ ٥٥ - ٥٦، والقرطبي ٨/ ٣١٩.
(٣) هكذا في جميع النسخ، والسياق يقتضي الجمع.
(٤) في (ى) ابن عباس والكلبي، ولم أثبت ابن عباس لعدم ذكره في سائر النسخ (ح) و (م) و (ز).
(٥) لم أعثر على مصدره، وانظر معناه في: "تنوير المقباس" ص ٢١٠ عنه، عن ابن عباس.
(٦) ذكر نحو هذا القول الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٤٢٧، والقرطبي في "تفسيره" ٨/ ٣١٩، ولم أجده في كتب أهل المعاني.
(٧) ساقط من (م).
(٨) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤١، وانظره بمعناه في: "تنوير المقباس" ص ٢١٠.
144
وقال مقاتل: يقول إذا أُمرت بأمر فعلته، ولا أبتدع ما لا (١) أومر به (٢)، وقال الزجاج: تأويله [إن الذي أتيت به من عند الله لا من عند نفسي فأبدله (٣)] (٤).
والآية بيان عن (٥) حال الجاهل في التحكم في سؤال الدلالات كما يقول السفيه: [لست أريد هذه الحجة، فهات غيرها] (٦)، جهلًا منه بما يلزمه فيها.
١٦ - قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ﴾، قال ابن عباس [والمفسرون: يقول: لو شاء الله ما قرأت عليكم] (٧) القرآن (٨) ﴿وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾ أي: ولا أخبركم ولا أعلمكم الله به، يقال: دريت الشيء وأدراني به الله [والمعنى: أنه لو شاء الله أن لا ينزل القرآن] (٩) ما أعلمهم به، ولا (١٠) أمر النبي - ﷺ - بتلاوته عليهم.
(١) في (م): (لم).
(٢) "تفسير مقاتل" ص ١١٧ مختصرًا عند تفسير قوله تعالي: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي﴾ [الأعراف: ٢٠٣].
(٣) " معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١
(٤) ما بين المعقوفين بياض في (ح).
(٥) ساقط من (ى).
(٦) ما بين المعقوفين بياض في (ح)
(٧) ما بين المعقوفين بياض في (ح)
(٨) ذكره الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص٢١٠، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤١، وبمعناه رواه ابن جرير ١١/ ٩٥.
(٩) ما بين المعقوفين بياض في (ح)
(١٠) ساقط من (ح).
145
قال سيبويه: يقال دريته ودريت به، قال: والأكثر [في الاستعمال بالباء (١). ويبين ما قاله (٢)] (٣). قوله: ﴿وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾ ولو كان على اللغة الأخرى لكان (٤): ولا أدراكموه، وأدرى: (أفعل) من الدراية وهي [التأني (٥) والتعمل (٦) لعلم الشيء، وعلى] (٧) هذا المعنى ما تصرف من هذه الكلمة نحو: درى وأدرى بمعنى ختل، وقالوا: داريت الرجل إذا [لاينته وختلته، وإذا كان الحرف] (٨) على هذا فالداري في وصف الله لا يجوز، فأما قول الراجز:
لا هُمّ لا أدري وأنت الداري (٩)
[فإنما استجاز ذلك لتقدم لا أدري] (١٠) كقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤] ونحوه، ولو لم يتقدم ذكر الاعتداء لم
(١) انظر قول سيبويه في "الحجة" لأبي علي ٤/ ٢٦٠، و"الكتاب" لسيبويه ١/ ٢٣٨ تحقيق هارون، ونصه: (ومثل ذلك دريت في أكثر كلامهم؛ لأن أكثرهم يقول: ما دريت به، مثل: ما شعرت به).
(٢) في (ح): (قالوا).
(٣) ما بين المعقوفين بياض في (ح).
(٤) في (م): (لقال).
(٥) هكذا في (م) و (ز) و (ص)، وبدون نقط في (ى)، وبهذا اللفظ في: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٦٠، الذي نقل منه المؤلف النص، ولعل الصواب: التأتي بدلالة قوله: والتعمل.
(٦) في (ى): (العمل)، والتعمل: التعني، تقول: سوف أتعمل في حاجتك: أي أتعنى.
انظر: "لسان العرب" (عمل) ٥/ ٣١٠٨.
(٧)، (٨) ما بين المعقوفين بياض في (ح).
(٩) الرجز للعجاج، انظر: "ديوانه" ١/ ١٢٠ وبعده:
كل امرئ منك على مقدار
(١٠) ما بين المعقوفين بياض في (ح).
146
يحسن في الابتداء [الأمر بالاعتداء، على أن الأعراب] (١) ربما ذكروا (٢) أشياء لا مساغ لها (٣) كقوله (٤):
اللهم إن كنت الذي بعهدي ولم تُغيرك الأمور بعدي
وقوله تعالى: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ﴾.
قال ابن عباس: يريد أقمت فيكم أربعين سنة لا أحدثكم شيئًا ولا آتيكم [به (٥).
﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أنه ليس من قبلي] (٦) أتيتكم به.
وقال الزجاج: أي قد لبثت فيكم من قبل أن يوحى إليّ لا أتلو كتابًا ولا أخطه بيميني، وهذا دليل على أنه أوحي إليّ، إذ كنتم تعرفونني بينكم (٧)، نشأت لا أقرأ الكتب، فإخباري إياكم بأقاصيص الأولين من غير
(١) بياض في (ح).
(٢) ساقط من (ى).
(٣) يعني أنه ليس كل ما ورد عن العرب يجوز وصف الله به، بل يجب الاقتصار على الوارد في الكتاب والسنة.
(٤) لم أهتد إلى قائله، ونسبه الفارسي في "الحجة" ١/ ٢٦١، إلى بعض جفاة الأعراب، وانظر البيت بلا نسبة في "المخصص" ٣/ ٤، "لسان العرب" (روح) ٣/ ١٧٦٧، وفي هذه المصادر: لاهم. وفي "المخصص"، "اللسان": ولم تغيرك السنون.
(٥) ذكره بلفظه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ١٥، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤١، ورواه بمعناه البخاري في "صحيحه" (٣٨٥١) كتاب المناقب، باب: مبعث النبي - ﷺ -، وأحمد في "المسند" ١/ ٣٧١، والثعلبي في "تفسيره" ٧/ ٩/ أ.
(٦) ما بين المعقوفين بياض في (ح).
(٧) ساقط من (ى).
147
كتاب ولا تلقين يدل على أنه إنما أتيت به من عند الله (١) جل وعز (٢)
وقال غيره: يقول قد أتى عليّ عُمُر وأنا بهذه الصفة لا أتلوه عليكم ولا يعلمكم به الله، حتى أمرني به وشاء إعلامكم (٣).
١٧ - قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ الآية (فمن) هاهنا استفهام معناه الجحد، أي لا أحد أظلم ممن هذه صفته، والمعنى: لا أحد أظلم ممن يظلم ظلم الكفر، كأنه قيل: لا أحد أظلم من الكافر.
قال ابن عباس: يريد: إني لم أفتر على الله ولم أكذب عليه، وأنتم فعلتم ذلك حيث زعمتم أن معه شريكًا وعبدتم الأوثان وكذبتم نبيه وما جاء به من عند الله (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾، قال: يريد: لا يسعد من كذب أنبياء الله (٥).
١٨ - قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾
(١) هذا أحد وجوه إعجاز القرآن، لكنه ليس الوجه الذي تُحديت به البشرية، ودل على صدق الرسول لكافة الناس، بل نظم القرآن ونسقه، وتركيب جمله، وبراعة بلاغته، هو الذي حير الألباب، وأخرس ألسنة المعاندين، وأجبرهم على الإقرار بالعجز عن الإتيان بمثله.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١ بنحوه.
(٣) ذكر نحو هذا القول النحاس في "إعراب القرآن" ٢/ ٥٤.
(٤) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ١٥، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤١.
(٥) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤١.
148
يعني أهل مكة، قال أبو إسحاق: المعنى: ما لا يضرهم إن لم يعبدوه، ولا بنفعهم إن عبدوه (١).
وذمّ هؤلاء بعبادة الوثن الذي لا يضر ولا ينفع؛ لأن هذا غاية الجهل حيث عبدوا جمادًا فهم أجهل (٢) ممن عبد من دون الله من ينفع ويضر في الظاهر.
وقوله: ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾، قال أهل المعاني: توهموا أن عبادتها أشد في تعظيم الله من قصده بالعبادة، فعبدوها وأحلوها محل الشافع عند الله (٣).
وقال الحسن: شفعاء في إصلاح معاشهم في الدنيا؛ لأنهم لا يقرون بالبعث؛ ألا تسمعه يقول: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾ (٤) [النحل: ٣٨].
وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ قال الضحاك: أتخبرون الله [أن له شريكًا ولا يعلم الله لنفسه شريكًا في السموات ولا في الأرض؛ لأنه لا شريك له، فذلك لا يعلمه ولو كان لعلم (٥).
(١) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١.
(٢) في (ى): (أهل جهل)، وهو خطأ.
(٣) ذكر نحو هذا القول الرازي في "تفسيره" ١٧/ ٥٩ - ٦٠، ولم أجده في كتب أهل المعاني.
(٤) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ١٦، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٢. وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ١٣٢.
(٥) ذكره ابن الجوزى في "زاد المسير" ٤/ ١٦، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٢.
149
قال أهل المعاني] (١): هذا على طريق الإلزام؛ لأنه ينكر ما يخبرون به من عبادة الأوثان وكونها شافعة، يقول: أتخبرون الله بالكذب وبما يعلم أنه ليس (٢)؛ لأنه لا يشفع عند الله إلا من أذن له بالشفاعة (٣).
وقوله تعالى: ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [وقرئ (تُشركون)] (٤) بالتاء (٥)؛ فمن قرأ بالتاء فلقوله: ﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ﴾، ومن قرأ بالياء فكأنه قيل للنبي - ﷺ -: قل أنت: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾. ويجوز أن يكون هو سبحانه نزه نفسه عما افتروه، فقال: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (٦).
١٩ - قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي مجتمعة على دين واحد، قال عطاء، عن ابن عباس: يعني من لدن إبراهيم إلى أن غيّر الدين عمرو بن لحي، فاختلفوا واتخذوا الأصنام أربابًا وأندادًا مع الله (٧).
(١) ما بين المعقوفين بياض في (ح).
(٢) هكذا في جميع النسخ (ح) و (ى) و (م) و (ز) و (ص)، والكلام غير مرتبط بما بعده، ولعل المعنى: ليس شفيعًا، أو ليس مأذونًا له بالشفاعة.
(٣) لم أعثر على مصدر هذا القول.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٥) قرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء على الخطاب، وقرأ الباقون بالياء. انظر: "إرشاد المبتدي" ص ٣٦١، "النشر" ٢/ ٢٨٢، "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٤٨.
(٦) انظر: توجيه القراءة في "الحجة" ٤/ ٢٦٤.
(٧) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٧/ ١٠ أ، عن عطاء، وانظر: "تفسير الوسيط" للمؤلف ٢/ ٥٤٢.
150
وقال الكلبي: يعني أمة كافرة على عهد إبراهيم، فاختلفوا فآمن بعضهم وكفر بعضهم (١).
وقال مجاهد: كانوا على ملة الإسلام إلى أن قتل أحد بني آدم أخاه (٢)، وهو قول السدي (٣).
وحكى الزجاج وابن الأنباري: أن الناس هاهنا العرب، وكان دينهم في أول دهرهم (٤) الكفر ثم اختلفوا بعد ذلك فمنهم من آمن ومنهم من كفر (٥).
وقد ذكرنا الاختلاف في هذا في قوله: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣] الآية (٦).
(١) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع، "تفسير السمرقندي" ٢/ ٩٢.
(٢) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٧/ ٩ أ، ورواه بنحوه ابن جرير في "تفسيره" ١١/ ٩٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٣٦، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٤٢.
(٣) رواه الثعلبي في نفس الموضع، وذكره أيضًا المصنف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٢.
(٤) في (ى): (الدهر).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ١٢ بنحوه، ولم أعثر على قول ابن الأنباري.
(٦) قال في هذا الموضع: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ الآية، قال ابن عباس: كان الناس على عهد إبراهيم -عليه السلام- أمة واحدة كفارًا كلهم، وولد إبراهيم في جاهلية، فبعث الله إليهم إبراهيم وغيره من النبيين، وقال الحسن وعطاء: كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أمة واحدة على ملة الكفر، قال ابن الأنباري على هذا القول: وإن كان فيما بينهم من لم يكن بهذا الوصف نحو هابيل وإدريس فإن الغالب كان الكفر، والحكم للأغلب، وقال الكلبي والواقدي: هم أهل سفينة نوح كانوا مؤمنين كلهم ثم اختلفوا.
151
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾، قال ابن عباس (١)، والكلبي (٢)، والحسن (٣)، والمفسرون (٤): سبق من الله أنه أخر هذه الأمة، ولا يهلكهم بالعذاب كما أهلك الذين من قبلهم.
ومعنى ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ [لفصل بينهم ﴿فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، قال ابن عباس: بنزول العذاب (٥)] (٦).
وقال أبو روق: بإقامة الساعة (٧).
وقال الحسن: بإدخال المؤمنين الجنة بأعمالهم، والكافرين النار
(١) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٠ من رواية الكلبي.
(٢) رواه الثعلبي ٧/ ١٠ أ، والبغوي ٤/ ١٢٧، والسمرقندي ٢/ ٩٢.
(٣) لم أجده بهذا اللفظ، وقد ذكره هود بن محكم في "تفسيره" ٢/ ١٨٧ بلفظ: يعني المؤمنين والكافرين، لولا أن الله قضى ألا يحاسب بحساب الآخرة في الدنيا لحسابهم في الدنيا بحساب الآخرة. ونحوه عند القرطبي ٨/ ٣٢٢.
(٤) لم أجد أحدًا من المفسرين المصنفين ذهب إلى هذا القول سوى المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٢، وهذا القول فيه نظر إذ ليس للأمة ذكر في الآية، والضمير يعود إلى الناس في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ والمراد بهم عامة الناس أو العرب خاصة، كما بينه المؤلف، وقد ذهب ابن جرير ١١/ ٩٨، والبغوي ٤/ ١٢٧، والسمرقندي ٢/ ٩٢، وابن عطية ٧/ ١٢٣، وغيرهم إلى أن معنى الجملة: لولا أنه سبق من الله أن لا يهلك قومًا إلا بعد إنقضاء آجالهم المقدرة لقضي بين المختلفين.
(٥) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٠ بمعناه، وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ١٣٥، عن الكلبي، كما أشار إليه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ١٧ دون تعيين القائل.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٧) رواه الثعلبي ٧/ ١٠ أ.
152
بكفرهم ولكنه (١) سبق من الله الأجل فجعل موعدهم يوم القيامة (٢).
وقال أهل المعاني: لولا كلمة سبقت من ربك في أنه لا يعاجل العصاة بالعقوبة إنعامًا عليهم في التأني بهم لقضي بينهم في اختلافهم بما يضطرهم إلى علم المحق من المبطل (٣).
٢٠ - قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ﴾ يعني أهل مكة ﴿لَوْلَا﴾ هلا ﴿أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾، قال ابن عباس: يريدون مثل العصا وما أنزل على موسى؛ سألوه أن يأتيهم بآية من ربه كما جاءت الأنبياء (٤)، هذا قول المفسرين (٥).
وقال أهل المعاني: سألوا آية تضطر إلى المعرفة، ولم يطلبوا معجزة؛ لأنه قد أتاهم بمعجزة، وإنما طلبوا آية يعلم بها صحة النبوة لا محالة من غير أن يوكلوا إلى الاستدلال بالآية (٦).
وقال بعضهم: طلبوا آية غير القرآن (٧).
(١) في (ى): (وقد).
(٢) رواه الثعلبي ٧/ ١٠ أ، والبغوي ٤/ ١٢٧.
(٣) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٧/ ٦٣ دون تعيين القائل، وبنحوه قال الزمخشري في "كشافه" ٢/ ٢٣٠، ولم أجده في كتب أهل المعاني.
(٤) لم أعثر على مصدره.
(٥) انظر: "تفسير هود بن محكم" ٢/ ١٨٧، وابن الجوزي ٤/ ١٧، والقرطبي ٨/ ٣٢٣، وابن كثير ٢/ ٤٥٢، وأبو حيان ٥/ ١٣٦.
(٦) وإلى هذا القول ذهب ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٧/ ١٢٣.
(٧) انظر: "تفسير الرازي" ١٧/ ١٦٤، وقال الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٢٣٠: وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات، وجعلو نزولها كلا نزول.
وقوله تعالى: ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّه﴾ [قال المفسرون: يعني قل لهم: إن قولكم هلا أنزل عليه آية غيب، وإنما الغيب لله] (١) لا يعلم أحد لِمَ لَمْ يفعل ذلك، وهل يفعله أم لا، وإن فعله متى يفعل (٢)؟ وهذا على التسليم أنه مما لا يعلمه العباد فيجب أن يوكل إلى علام الغيوب (٣).
وقوله تعالى: ﴿فَانْتَظِرُوا﴾ أي نزول الآية ﴿إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ لنزولها.
٢١ - قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ﴾، قال ابن عباس وغيره: يعني كفار مكة (٤) ﴿رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ﴾ يعني مطرًا وخصبًا وغنى من بعد قحط وبؤس وفقر، قال أهل المعاني: قيل: أذقناهم رحمة، على طريق البلاغة لشدة إدراك الحاسة (٥).
وقوله تعالى: ﴿إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا﴾، قال عطاء وابن عباس:
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) انظر معنى هذا القول في: "تفسير الطبري" ١١/ ٩٩، والثعلبي ٧/ ١٠ أ، والبغوي ٤/ ١٢٧.
(٣) في (م): (الغيب).
(٤) رواه عن ابن عباس بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٢١، وهو قول مقاتل بن سليمان كما في "تفسيره" ١٣٦ ب، وبه قال الثعلبي ٧/ ١٠ أ، والبغوي ٤/ ١٢٧، والنحاس في "معاني القرآن الكريم" ٣/ ٢٨٤، وغيرهم، لكنهم لم يخصوا كفار مكة، بل قال أبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ١٣٦: وهذه وإن كانت في الكفار فهي تتناول من العاصين من لا يؤدي شكر الله عند زوال المكروه عنه، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثير. وسبقه إلى ذلك ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٧/ ١٢٣.
(٥) لم أقف عليه.
154
(قول بالتكذيب في آياتنا) (١).
وقال مجاهد: (استهزاء وتكذيب) (٢)، وعلى هذا، الآيات يراد به (٣) القرآن، والمعني أنهم إذا أخصبوا بطروا وكذبوا بالقرآن، وسمي تكذيبهم بآيات الله مكرًا؛ لأن المكر صرف الشيء عن وجهه على طريق الحيلة فيه، وهؤلاء يحتالون لدفع آيات الله بكل ما يجدون إليه السبيل من شبهة أو تخليط في مناظرة أر غير ذلك من الأمور الفاسدة.
وقال مقاتل (٤): يعني لا يقولون هذا رزق الله، إنما يقولون سقينا بنوء كذا، وعلى هذا، المراد بالآيات: إذاقة الرحمة والخصب بعد القحط، وإنزال المطر بعد الجدوبة.
قال أبو إسحاق: قوله تعالى: ﴿إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ﴾ جواب الجزاء، وهذا كقوله: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ [الروم: ٣٦] المعنى: وإن تصبهم سيئة قنطوا، ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ﴾ (٥) مكروا، فـ (إذا) تنوب عن جواب الشرط كما ينوب الفعل (٦)، وكما تنوب الفاء، وزاد
(١) رواه عن ابن عباس بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٢١، ولم أعثر على مصدر قول عطاء، لكنّ أبا حيان قال في "البحر المحيط" ٥/ ١٣٦: قاله جماعة.
(٢) رواه ابن جرير ١١/ ٩٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٣٨، والثعلبي ٧/ ١٠ ب، والبغوي ٤/ ١٢٧، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٤٢.
(٣) هكذا في جميع النسخ بالتذكير.
(٤) هو: ابن حيان كما في "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٠ ب، وابن الجوزي ٤/ ١٨.
(٥) ألحق محقق "معاني القرآن" بالجملة قوله تعالى: ﴿رَحْمَةً﴾ وأشار إلى أنها زيادة يقتضيها السياق، وليست بالنسخ الخطية للكتاب.
(٦) اهـ. كلام الزجاج، "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢.
155
الفراء فقال: وكذلك يفعلون بـ (إذ) كقول الشاعر (١):
بينما هن بالأراك معًا إذ أتى راكب على جمله
قال: وأكثر الكلام في هذا الموضع أن تطرح (إذ) كقوله (٢):
بينا تَبغّيه العشاء وطوفه سقط العشاء به على سرحان (٣)
وهذا الفصل يأتي مشروحًا في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ [الروم: ٣٦] في سورة الروم إن شاء الله (٤).
وقوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا﴾، قال عطاء: أسرع نقمة (٥)، والمعنى جزاءً على المكر، وذلك أنهم جعلوا جزاء النعمة المكر مكان الشكر، فقوبلوا بما هو أشد، وتأويل قوله: ﴿أَسْرَعُ مَكْرًا﴾ أن ما يأتيهم من العقاب (٦) أسرع في
(١) هو: جميل بن معمر العذري، انظر: "ديوانه" ص ٨٥، و"شرح شواهد المغني" ٢/ ٧٢٢، و"الأغاني" ٨/ ٩٩، و"خزانة الأدب" ٨/ ٥٨، ١٠/ ٢٣، و"مغني اللبيب" ص ٤١٠، و"القاموس المحيط" (ما).
(٢) هو: عبد الله بن عثمة الضبي كما في "الأيام والليالي والشهور" للفراء ص ٦٢، "لسان العرب" (قمر) ٦/ ٣٧٣٦، "شرح أبيات معاني القرآن" ص ٣٧٧، ولصدر البيت رواية أخرى هي:
أبلغ عثيمة أن راعي إبله... سقط................ إلخ
(٣) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٥٩.
(٤) اقتصر في هذا الموضع ما نصه: وإن تصبهم سيئة يعني شدة وبلاء، وبما قدمت أيديهم، أي بما عملوا من السيئات، إذا هم يقنطون (إذا) جواب الشرط، وهو مما يجاب به الشرط، قوله: (إذا هم يقنطون) في موضح قنطوا.
(٥) لم أعثر على مصدر قوله.
(٦) في (ى): (العذاب).
156
إهلاكهم مما أتوه من المكر في إبطال آيات الله، وهذا معنى قول مقاتل: فقتلهم الله يوم بدر (١)، يعني: جزاء مكرهم في آياته بعقاب ذلك اليوم، فكان (٢) أسرع في إهلاكهم من كيدهم في إهلاك محمد - ﷺ - وإبطال ما أتى به.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ وعيد لهم على المجازاة وبه (٣) في الآخرة، ويعني بالرسل الحفظة.
٢٢ - قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ الآية، يقال سيرت القوم من بلدة إلى بلدة: أي أشخصتهم، وقرأ ابن عامر: (ينشركم) (٤) من النشر بعد الطي، والمعنى: يفرقكم ويبثكم، وحجته قوله: ﴿فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [الجمعة: ١٠].
وقوله: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ﴾، قال بعضهم: في الآية إضمار على تقدير: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ فتسيرون ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ﴾ (٥)، وذكرنا الكلام في الفلك في سورة البقرة (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾، قال أبو إسحاق: ابتداء
(١) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٢، ولعل القول لمقاتل بن حيان؛ إذ ليس موجودًا في "تفسير مقاتل بن سليمان".
(٢) في (ح) و (ز): (في)، وهو خطأ.
(٣) في (ى): (له).
(٤) انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٢٥، "النشر" ٢/ ٢٨٢، "إرشاد المبتدي" ص ٣٦١، وقد وافقه أبو جعفر كما في المصدرين الأخيرين.
(٥) انظر: "تفسير الكشاف" ٢/ ٢٣١، والرازي ١٧/ ٦٩.
(٦) البقرة: ١٦٤، وقال في هذا الموضع: الفلك: واحد وجمع، ويذكر ويؤنث، وأصله من الدوران، وكل مستدير فلك، وفلك السماء اسم لأطواق سبعة تجري فيها النجوم، والسفينة سميت فلكًا؛ لأنها تدور بالماء أسهل دور... إلخ.
157
الكلام خطاب، وبعد ذلك إخبار عن غائب؛ لأن كل من أقام الغائب مقام من يخاطب جاز له أن يرده إلى الغائب، وأنشد:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية (١) إن تقلت (٢) (٣)
فقوله (تقلت)، خبر عن غائب بعد المخاطبة.
وقوله تعالى: ﴿جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ﴾، قال الفراء: يعني الفلك، فقال: ﴿جَاءَتْهَا﴾ وقد قال: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ ولم يقل وجرت، وكلٌ صواب، تقول: النساء قد ذهبت وذهبن، والفلك يؤنث ويذكر، ويكون واحداً (٤) وجمعًا (٥).
وقوله تعالى: ﴿عَاصِفٌ﴾، قال الزجاج والفراء: ريح عاصف وعاصفة وقد عصفت عصوفًا وأعصفت، فهي معصف ومعصفة (٦).
قال الفراء: والألف (٧) لغة بني أسد (٨) ومعنى عصفت الريح: اشتدت، وأصل العصف السرعة، يقال: ناقة عاصف وعصوف: سريعة،
(١) في (ح): (مقلة)، وهو خطأ.
(٢) البيت لكثير عزة من تائيته المشهورة، انظر: "ديوانه" ٢/ ١٣، "أمالي القالي" ٢/ ١٠٩، "لسان العرب" (قلا) ٦/ ٣٧٣١، وهو في "الصحاح" (قلا) بلا نسبة.
(٣) اهـ كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٣.
(٤) في "معاني القرآن": واحدة.
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٤٦٠، وانظر التذكير والتأنيث للفلك في "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ١/ ٢٧٨.
(٦) انظر قول الفراء في المصدر السابق، نفس الموضع، وقول الزجاج في "زاد المسير" ٣/ ١٩، "تفسير الرازي" ١٧/ ٧٠، ولم أجده في كتابه "معاني القرآن".
(٧) في "معاني القرآن" (وبالألف) يعني: أعصفت.
(٨) "معاني القرآن" ١/ ٤٦٠.
158
وإنما قيل ريح عاصف؛ لأنه يراد ذات عصوف، كما قيل لابن، وتامر (١)، أو لأن لفظ الريح مذكر (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾، الموج ما ارتفع من الماء فوق الماء، ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾، قال أبو عبيدة والقتيبي: أي دنوا من الهلاك (٣)، وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد فقد دنوا من الهلاك، وذكرنا ما في هذا عند قوله: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ (٤) [البقرة: ٨١].
وقوله تعالى: ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، قال ابن عباس: يريد تركوا الشرك فلم يشركوا به من آلهتهم شيئًا، وأخلصوا لله الربوبية والوحدانية (٥)، وقالوا: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ﴾ أي: من هذه الريح
(١) في "لسان العرب" (تمر) ١/ ٤٤٥: يقال: رجل تأمر ولابن: أي ذو تمر وذو لبن.
(٢) قال ابن الأنباري: الريح من الرياح مؤنثة، والريح: الأرَج والنشر -وهما حركتا الريح- مذكر، أنشدنا أبو العباس، عن سلمة، عن الفراء، قال: أنشدني بعض بني أسد:
كم من جراب عظيم جئت تحمله ودهنة ريحها يغطي على التفل
قال: أنشدنيه عدة من بني أسد كلهم يقول: يغطي، فيذكرونه على معنى النشر، ويجوز أن يكون ذكَّروه إذ كانت الريح لا علامة فيها للتأنيث موجودة. "المذكر والمؤنث" ١/ ٢٥٧، وانظر: "اللسان" (روح) فقد نص على أن الريح مؤنثة.
(٣) "مجاز القرآن" ١/ ٢٧٧، "تفسير غريب القرآن" ص ٢٠٢.
(٤) قال هناك ما نصه: ويكون المعنى في (أحاطت به خطيئته) أهلكته، من قوله: ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾، قال ابن السراج: أحاطت به خطيئته: أي. سدت عليه مسالك النجاة.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٢٠، "الوسيط" ٢/ ٥٤٣، "مفاتيح الغيب" ١٧/ ٧٣، "البحر المحيط" ٥/ ١٣٩.
159
العاصف، ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ قال (١): يريد من الموحدين والطائعين.
٢٣ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾، قال الزجاج: المعنى: فلما أنجاهم بغوا (٢)، وذلك أن (إذا) تقع موقع الفعل كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ [بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ] (٣) إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ [الروم: ٣٦]، [على معنى قنطوا، ونذكر الكلام في هذا عند قوله ﴿إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ (٤)] (٥).
﴿إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ﴾، أي: يعملون بالفساد والمعاصي بغير الحق، قال ابن عباس: يريد بالفساد (٦) والتكذيب والجرأة على الله (٧)، ومعنى البغي: قصد الاستعلاء بالظلم، وأصله من الطلب (٨).
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ يريد: أهل مكة، ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي: بغي بعضكم على بعض متاع في الدنيا، وليس مما يقرب إلى الله، وإنما تأتونه لحبكم العاجلة.
(١) يعني ابن عباس، انظر: "تنوير المقباس" ص ٢١١، "الوسيط" ٢/ ٥٤٣.
(٢) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٤.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ى) و (ز) و (ص).
(٤) يعني آية سورة الروم السابقة.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٦) في (ى): (بالمعاصي والفساد... إلخ)، ولم أثبت الكلمة لعدم وجودها في المصدر ولا في سائر النسخ.
(٧) "تفسير الرازي" ١٧/ ٧١.
(٨) في "تهذيب اللغة" (بغى) ١/ ٣٦٧: يقال: ابغني كذا وكذا: أي اطلبه لي، ومعنى ابغني وابغ لي سواء، فإذا قال: ابغني كذا وكذا فمعناه أعني على بُغائه واطلبه معي.
160
قال أبو إسحاق: ﴿مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ تقرأ بالرفع وبالنصب (١)، فالرفع من جهتين: أحدهما: أن يكون ﴿مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ خبرًا لقوله: ﴿بَغْيُكُمْ﴾، ويجوز أن يكون خبر الابتداء ﴿عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ ويكون ﴿مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ رفعا على إضمار (هو) ومعنى الكلام: إن ما تنالونه بهذا الفساد والبغي إنما تتمتعون به في الحياة الدنيا ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ﴾، ومن نصب فعلى المصدر، المعنى: [تمتعون متاع الحياة] (٢) الدنيا؛ لأن قوله: ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ﴾ يدل على أنهم يتمتعون (٣).
وزاد أبو علي الفارسي بيانًا فقال: قوله: ﴿عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ يحتمل تاويلين؛ أحدهما: أن يكون متعلقًا بالمصدر؛ لأن فعله متعد بهذا الحرف يدل على ذلك قوله: ﴿ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ﴾ [الحج: ٦٠]، وقوله تعالى: ﴿بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ [ص: ٢٢]، فإذا جعلت الجار من صلة المصدر كان الخبر ﴿مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [والمعنى: ما ذكرنا أن بغي بعضكم على بعض متاع] (٤) في الدنيا (٥).
(١) قرأ بنصب (متاع) حفص وحده، وقرأ الباقون بالرفع، انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص١٧٠، "تقريب النشر" ص ١٢٢، وقد وافق حفصًا جمع من القراء غير العشرة، انظر: "زاد المسير" ٤/ ٢٠، "البحر المحيط" ٥/ ١٤٠.
(٢) ما بين المعقوفين هكذا نصه في (ح) تمتعون به في الحياة، وهو خطأ سببه الجملة السابقة المشابهة لهذه الجملة في لفظها.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٤.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٥) ما بين العلامتين من كلام المؤلف، وهو بمعناه في "الحجة"، وفيها زيادة.
161
ويجوز أن تجعل (١) (على) خبر المبتدأ ولا تجعله من صلة المصدر، وحينئذ يكون خبرًا للمصدر، ويكون متعلقًا بمحذوف على تقدير: إنما بغيكم عائد على أنفسكم، أي: عملكم بالظلم يرجع إليكم، كما قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ (٢) [فصلت: ٤٦]، [الجاثية: ١٥]، وهذا في (٣) المعنى كقوله: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣]، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ [الفتح: ١٠]، فإذا رفعت ﴿مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ على هذا التأويل كان خبر (٤) مبتدأ محذوف، كأنك قلت: ذاك متاع الحياة الدنيا، أو هو متاع الحياة الدنيا (٥)، ومن نصب ﴿متاعَ﴾ جعل (على) من صلة المصدر، فيكون الناصب للمتاع هو المصدر الذي هو البغي، ويكون خبر المبتدأ محذوفًا، وحسن حذفه لطول الكلام، وهذا المحذوف لو أظهرته لكان يكون: مذموم (٦) أو مكروه أو منهي عنه، ويجوز أن تجعل (على) خبر المبتدأ وتنصب (متاع) على: تمتعون متاعًا، فيدل (٧) انتصاب المصدر على المحذوف (٨).
(١) في (م): (تحمل).
(٢) ما بين العلامتين من كلام المصنف، وليس موجودًا في "الحجة".
(٣) ساقط من (ى).
(٤) في (ى): (خبره)، وهو خطأ يجعل الجملة لا معنى لها.
(٥) ساقط من (ى).
(٦) في (م): (مذمومًا أو مكروهًا أو منهيًا عنه)، وفي بقية النسخ و"الحجة" بالرفع، والتقدير: إنما بغيكم على أنفسكم مذموم أو مكروه.
(٧) في (م): (فظهر)، وهو خطأ.
(٨) اهـ. كلام أبي علي. انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٦٦ - ٢٦٨ بتصرف واختصار.
162
٢٤ - قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ الآية، معناه: إنما القول في تشبيه حال الحياة الدنيا كالقول في ماء (١) علي ما ذكر من صفته؛ لأن معنى المثل: قول يشبّه فيه حال الثاني بالأول، ويجوز أن يكون المعنى: صفة الحياة الدنيا كماء، وذكرنا الكلام في معنى المثل (٢)، وأراد بالحياة الدنيا الحياة الفانية في هذه الدار.
وقوله تعالى: ﴿فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ﴾ معنى الاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض، يعني فاختلط -بسبب ذلك الماء الذي أنزلناه- نبات الأرض ﴿مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ﴾ من البقول والحبوب والثمار ﴿وَالْأَنْعَامُ﴾ من المراعي والكلأ ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ﴾، قال ابن عباس: يريد زينتها وحسنها وخصبها (٣).
قال الزجاج: الزخرف كمال حسن الشيء (٤).
وقال غيره: يعني: حسن ألوان الزهر الذي يروق البصر (٥)، ومضى الكلام في معنى الزخرف عند قوله: ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: ١١٢].
وقوله تعالى: ﴿وَازَّيَّنَتْ﴾ قال ابن عباس: يريد بالحبوب
(١) في (خ) و (ز): (الماء).
(٢) انظر: "تفسير البسيط" البقرة: ٢٦.
(٣) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٣، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١١ مختصرًا، وفي "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٠٢، عن ابن عباس، قال: فنبت بالماء كل لون.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥.
(٥) لم يتبين لي القائل، وقد ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٣، وذكر نحوه الرازي في "تفسيره" ١٧/ ٧٣، والبغوي في "تفسيره" ٤/ ١٢٨.
163
والثمار (١)، وقيل: بنباتها (٢).
قال (٣) الزجاج: يعني: تزينت، فأدغمت التاء في الزاي [وسكنت الزاي] (٤) فاجتلبت لها ألف الوصل (٥). وهذا مثل ما ذكرنا في: ﴿فَادَّارَأْتُمْ﴾ (٦) [البقرة: ٧٢]، و ﴿ادَّارَكُوا﴾ [الأعر اف: ٣٨].
وقوله تعالى: ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾، قال ابن عباس: يريد أهل تلك الأرض أنهم قادرون على حصادها وجدادها وقطعها (٧)، وقال الزجاج: أي قادرون على الانتفاع بها (٨).
وقال أهل المعاني: أخبر عن الأرض، والمعنى للنبات إذ كان مفهومًا (٩)، وقيل رد الكناية إلى الغلة؛ لأن ما سبق من الكلام يدل عليها فكأنها قد ذكرت (١٠).
(١) رواه ابن جرير ١١/ ١٠٢، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٤٥، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١١، تفسيرًا لقوله تعالى: ﴿مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ﴾ وهو أولى بما ذكره المؤلف.
(٢) رواه بنحوه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٩٣، وابن جرير ١١/ ١٠٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٤١، عن قتادة.
(٣) في (م): (وقال).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥.
(٦) يعني في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾.
(٧) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٧/ ٧٤، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٣.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥.
(٩) هذا قول قطرب، انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ١١ ب.
(١٠) ذكره الثعلبي في المصدر السابق، نفس الموضع، والبغوي في "تفسيره" ٤/ ١٢٩، وأبو حيان في "البحر المحيط" ١٧/ ١٤٠.
164
وقوله تعالى: ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا﴾، قال ابن عباس: يريد عذابنا (١)، والمعنى: أمرنا بهلاكها.
وقوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا﴾، قال ابن عباس: لا شيء فيها (٢).
وقال الضحاك: يعني المحصود (٣)، وعلى هذا المراد بالحصيد [الأرض التي حصد نبتها، ويجوز أن يكون المراد بالحصيد] (٤) النبات والغلة، قال أبو عبيدة: الحصيد المستأصل (٥).
وقال غيره: الحصيد: المقطوع والمقلوع (٦).
وقوله تعالى: ﴿كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾، قال الليث: يقال للشيء إذا فني: كأن لم يغن بالأمس، أي كأن لم يكن، من قولهم: غني القوم في دارهم، إذا أقاموا بها (٧). وهذا معنى قول ابن عباس: كأن لم تكن أمس (٨)، وعلى هذا، المراد به الغلة.
وقال الزجاج: كأن لم تعمر بالأمس، والمغاني: المنازل التي يعمرها أهلها بالنزول (٩)، ونحو هذا قال ابن قتيبة: كأن لم تكن عامرة
(١) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٧/ ٧٤، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٣.
(٢) ذكره الرازي في المصدر السابق، نفس الموضع.
(٣) المصدر السابق، نفس الموضع.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٥) "مجاز القرآن" ١/ ٢٧٧.
(٦) هذا قول الثعلبي، انظر: "تفسيره" ٧/ ١١ ب.
(٧) النص في كتاب "العين" (غني) ٤/ ٤٥١ بنحوه، وهو في "تهذيب اللغة" (غني) ٣/ ٢٧٠٤، لكنه جعله نصين وذكر كل نص في موضع.
(٨) "تنوير المقباس" ص ٢١١.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٥.
165
بالأمس (١)، وعلى هذا، المراد به الأرض.
وقال بعض أهل المعاني: معناه (٢): كأن لم تقم على تلك الصفة فيها قبل (٣)، وهذا القول جامع للأرض والغلة جميعًا، والكلام في (أمس) يأتي عند قوله: ﴿كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ﴾ [القصص: ١٩]، إن شاء الله (٤).
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ أي: كما بينا هذا المثل للحياة الدنيا كذلك نبين آيات القرآن.
وقوله (٥): ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في المعاد، هذا الذي ذكرنا تفسير الآية ومعناها على ما ذكره المفسرون وأصحاب المعاني، وتأويلها: أن الله تعالى ضرب مثلا للحياة الدنيا في هذه الدار الفانية بما أنزله من السماء، فجعله سببا لالتفاف النبات وكثرته، حتى تتزين به الأرض وتظهر بهجتها بحمرة النوار وبياض الزهر وخضرة العشب، وظن الناس أنهم منتفعون ومستمتعون بجميع ذلك، فبينا هم على ذلك الظن جُعلوا (٦) على غير شيء؛ لأن القادر عليهم وعليها أهلكها (٧)، وردها إلى الفناء حتى كأن لم تكن،
(١) "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٢٠٢.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) لم أقف عليه عند أهل المعاني، وانظره بنحوه في: "تفسير هود بن محكم" ٢/ ١٨٩.
(٤) قال في هذا الموضع: (أمس) اسم لليوم الماضي الذي هو قبل يومك، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين، وقال الكسائي: بني على الكسر؛ لأنه فعل سمي به، ومن العرب من يبنيه على الفتح، قال الفراء: ومن العرب من يخفض الاسم وإن أدخل عليه الألف واللام، وأنشد... إلخ.
(٥) ساقط من النسخ عدا (م).
(٦) في (م): (حصلوا).
(٧) ساقط من (ى).
166
كذلك الحياة في (١) الدنيا سبب (٢) اجتماع (٣) المال وزهرة الدنيا وعروضها وما فيها مما يروف ويعجب (٤)، حتى إذا كثر ذلك واجتمع منه شيء كثير عند صاحبه، وظن أنه متمتع (٥) به، سلب ذلك عنه بموته أو بحادثة تأتي على ما قد جمعه بالإهلاك والتبديد، وهذا بيان عما يوجب الحذر عن (٦) الركون إلى الدنيا، والحياة فيها (٧)، والاغترار بها.
٢٥ - قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ أي: ببعث الرسول، ونصب الأدلة يدعو إلى الجنة، ودار السلام هي الجنة، وذكرنا الكلام فيها عند قوله تعالى: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الأنعام: ١٢٧]، وذكرنا في السلام قولين؛ أحدهما: أنه اسم الله تعالى؛ لأنه سلم مما يلحق الخلق من الغير والفناء (٨)، وقال المبرد: تأويله: أنه ذو السلام أي الذي يملك السلام الذي هو تخليص من المكروه (٩)، وعلى هذا (السلام) مصدر سلم.
(١) ساقط من (ى).
(٢) ساقط من (ى).
(٣) في (ى): (جمع).
(٤) في (ح): (يروق العجب ويعجب). ولا معنى له.
(٥) في (م): (ممتع).
(٦) هكذا في جميع النسخ، والصواب: (من).
(٧) لعل المقصود: الحياة فيها بفسق وفجور وطول أمل، أر نحو ذلك مما يناسب السياق.
(٨) انظر: "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ٢١٥.
(٩) رواه عنه الزجاج في"معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢٥٣، والأزهرى في "تهذيب اللغة" (سلم) ٢/ ١٧٤٢، على أن السياق في الموضعين يحتمل أن القول للزجاج، لكن ابن منظور أثبت القول للمبرد، انظر: "لسان العرب" (سلم) ٤/ ٢٠٧٨.
167
وقال النضر بن شميل: سمى نفسه سلامًا؛ لأن الخلق سلموا من ظلمه (١)، وهذا أيضًا مثل قول المبرد؛ لأن معناه ذو السلام، قال ابن الأنباري: وعلى هذا هو من باب حذف المضاف كقوله: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: ٩٣] وأمثاله (٢).
القول الثاني: أن السلام جمع سلامة، ومعنى دار السلام: الدار التي من دخلها سلم من الآفات؛ كالموت والمرض والألم والمصائب ونزغات الشيطان والكدّ والعناء، وخوف العاقبة، وغير ذلك بما يكون في الدنيا.
وقال قوم: سميت الجنة دار السلام؛ لأن الله تعالى يسلم على أهلها، قال الله تعالى: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨]، والملائكة يسلمون عليهم أيضًا] (٣)، قال الله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرعد: ٢٣، ٢٤]، وهم أيضًا يحيّي بعضهم بعضًا بالسلام، قال الله تعالى عنهم: ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ (٤) [إبراهيم: ٢٣]، وهذا معنى قول الحسن: إن السلام لا ينقطع عن أهل الجنة، وهو تحيتهم (٥)، وكنا وعدنا في تفسير قوله: ﴿دَارُ السَّلَام﴾ [الأنعام: ١٢٧] زيادة بيان هاهنا.
(١) انظر: "زاد المسير" ٨/ ٢٥، ولم يعين القائل.
(٢) "الزاهر" ١/ ٦٤ بنحوه.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٤) ذكر نحو هذا القول مختصرًا الثعلبي ٧/ ١٢ ب، والبغوي ٤/ ١٢٩.
(٥) رواه الثعلبي ٧/ ١٢ ب.
168
وقول (١): ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، قال المفسرون وأصحاب الحقائق (٢): عَمّ بالدعوة وخَصّ بالهداية من شاء؛ لأن الحكم له في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (٣).
٢٦ - قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾، قال ابن عباس: يريد للذين قالوا لا إله إلا الله (٤).
ورُوي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى وهي الجنة" (٥).
(١) ساقط من (ح).
(٢) أصحاب الحقائق عرفًا هم الباحثون في السلوك وأعمال القلوب، المتعرفون إلى الله عن طريق الذوق والكشف، وغالب ما يدعونه من الحقائق بدع وأهواء. انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" ١٠/ ١٥٦، ١٥٩، ١٧١. والظاهر أن المؤلف هنا يعني علماء الكلام، وانظر النص بنحوه في: "الإبانة عن أصول الديانة" ص ٢١٦، وكتاب "الإرشاد إلى قواطع الأدلة" ص ١٩١، وكتاب "أصول الدين" لأبي منصور البغدادي ص ١٤٠.
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢ ب، والبغوي ٤/ ١٢٩، والسمرقندي ٢/ ٩٤، "الوسيط" للمؤلف ٢/ ٥٤٤.
(٤) رواه ابن جرير ١١/ ١٠٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٤٤، والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" باب: ما جاء في فضل الكلمة الباقية ١/ ٨٤، والطبراني في كتاب "الدعاء" ٣/ ١٥٠٩، من رواية علي بن أبي طلحة.
(٥) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٧/ ١٢ ب، وإبن مسنده في "الرد على الجهمية" ص ٩٦، وأبو الشيخ والدارمي في "الرؤية"، وابن مردويه واللالكائي والخطيب وابن النجار، كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٤٧، وفي سند ابن منده والثعلبي متروك وهو: نوح بن أبي مريم كما في "الكاشف" ٧/ ٣٢، "تهذيب التهذيب" ٣٤٧، ولم أطلع على سنده في المصادر الأخرى.
169
ونحو ذلك قال ابن عباس في الحسنى؛ أنها الجنة (١).
وروى ليث، عن عبد الرحمن بن سابط (٢) أنه قال: الحسنى: النضرة التي ذكرها الله -عز وجل- في قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (٣) [القيامة: ٢٢، ٢٣]، والحسنى في اللغة تأنيث الأحسن، وهي جامعة للمحاسن.
قال ابن الأنباري: والعرب توقعها على الخلّة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها المفروح بها، ولذلك لم توصف هاهنا ولم تنعت بشيء؛ لأن ما يعرفه العرب من أمرها يغني عن نعتها، يدل على ذلك قول امرئ القيس:
فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ورُضْتُ فذلت صعبة أي إذلال (٤)
أراد: فصرنا إلى الأمر المحبوب المأمول (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَزِيَادَةٌ﴾، اختلفوا في هذه الزيادة؛ فروى أنس بن مالك أن النبي - ﷺ - سئل عن هذه الآية فقال: "الحسنى الجنة والزيادة النظر
(١) انظر تخريج أثر ابن عباس السابق، نفس المواضع.
(٢) هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط الجمحي المكي، تابعي ثقة كثير الإرسال، وكان من أصحاب ابن عباس الفقهاء، وتوفي سنة ١١٨ هـ. انظر: "الكاشف" ١/ ٦٢٨ (٣١٩٨)، "تهذيب التهذيب" ٢/ ٥٢٢، "تقريب التهذيب" ص ٣٤٠ (٣٨٦٧).
(٣) وانظر قول ابن سابط في "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٠٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٤٥، "الدر المنثور" ٣/ ٥٤٨.
(٤) البيت في "ديوان امرئ القيس" ص ١٢٥، وانظر: "خزانة الأدب" ٩/ ١٨٧، "لسان العرب" (روض) ٣/ ١٧٧٦.
(٥) انظر قول ابن الأنباري في "زاد المسير" ٤/ ٢٣، وذكر بعضه الرازي في "تفسيره" ١٧/ ٧٧.
170
إلى وجه الله الكريم" (١).
ونحو هذا (٢) روى أبيّ بن كعب (٣). وهذا قول أبي بكر الصديق (٤)، وحذيفة (٥)، وأبي موسى (٦)، وصهيب (٧)، وعبادة بن الصامت (٨)، وابن
(١) رواه الثعلبي ٧/ ١٢ ب، وابن منده في "الرد على الجهمية" ص ٩٦، وأبو الشيخ والدارقطني في "الرؤية" وابن مردويه واللالكائي والخطيب وابن النجار، كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٤٧ - ٥٤٨ وفي سند الثعلبي وابن منده متروك وهو نوح بن أبي مريم، لكن أجل الحديث ومعناه في "صحيح مسلم" (٢٩٧) كتاب الإيمان، باب: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم.
(٢) في (م): (ذلك).
(٣) رواه ابن جرير ١١/ ١٠٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٤٥، وفي سندهما مجهول، وذكره السيوطي عنهما، وزاد الدارقطني وابن مردويه واللالكائي والبيهقي في كتاب "الرؤية". انظر: "الدر المنثور" ٣/ ٥٤٧.
(٤) رواه ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" ١/ ٤٥٠، وابن جرير في "تفسيره" ١١/ ١٠٦، وابن منده في "الرد على الجهمية" ص ٩٥، والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" ٢/ ٣٣، من رواية عامر بن سعد، وهو لم يلق أبا بكر، فروايته عنه مرسلة كما في "تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٦٣ ورواه ابن خزيمة في المصدر السابق ٢/ ٤٥٣، والدارمي في "الرد على الجهمية" ص٦١، من رواية عامر بن سعد، عن سعيد بن نمران عنه، وسعيد مجهول كما في "ميزان الاعتدال" ١/ ٣٩٢، و"لسان الميزان" ٣/ ٤٦ فالأثر ضعيف. وانظر: "تفسير الطبري" ١٥/ ٦٣ ت: شاكر).
(٥) رواه ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" ١/ ٤٥٢، وابن جرير ١٥/ ٦٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٤٥ وغيرهم. انظر: "الدر المنثور" ٣/ ٥٤٨.
(٦) المصادر السابقة، نفس المواضع عدا الأول ففي ١/ ٤٥٦.
(٧) ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" ٧/ ١٢ بغير سند، وكذلك القرطبي ٨/ ٣٣٠، وبمعناه رواه أبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٤٧.
(٨) ذكره عنه بغير سند الثعلبي ٧/ ١٢ ب، والبغوي ٤/ ١٣٠، وابن القيم في "حادي الأرواح" ص ٤١٢.
171
عباس في رواية عطاء (١)، وأبي الجوزاء (٢) (٣)، وهو قول الضحاك (٤)، والسدي (٥)، ومقاتل (٦).
وقال آخرون: الزيادة تضعيف الحسنات بواحدة عشرة إلى سبعمائة، وهو قول ابن عباس في رواية العوفي (٧)، والحسن (٨)، وعلقمة (٩)، وقال مجاهد: الزيادة: مغفرة من الله تعالى ورضوان (١٠).
وروى الحكم، عن علي -رضي الله عنه- قال: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب (١١).
(١) رواه البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" ١/ ١٨٤ من رواية عكرمة، وذكره ابن الجوزي في "تفسيره" ٤/ ٢٤، وابن القيم في "حادي الأرواح" ص ٤١٢، كما أشار إليه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٩٤٤.
(٢) هو: أوس بن عبد الله الربعي.
(٣) ذكره عنه الثعلبي ٧/ ١٢ ب.
(٤) رواه الثعلبي ٧/ ١٢ ب، والبغوي ٤/ ١٣٠، وذكره بغير سند ابن أبي حاتم ٦/ ١٩٤٤، وابن الجوزي ٤/ ٢٤، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٥.
(٥) المصادر السابقة، نفس المواضع.
(٦) المصادر السابقة، نفس المواضع، وانظر: "تفسيره" ١٤٠ أ.
(٧) رواه ابن جرير ١١/ ١٠٧، والثعلبي ٧/ ١٣ أ، والبغوي ٤/ ١٣٠.
(٨) رواه ابن جرير ١١/ ١٠٧ - ١٠٨، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٤٩.
(٩) رواه ابن جرير ١١/ ١٠٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٤٦.
(١٠) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع، "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٢ أ، والبغوي ٤/ ١٣٠.
(١١) رواه ابن جرير ١١/ ١٠٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٤٥، والثعلبي ٧/ ١٣ أ، والأثر ضعيف؛ لأنه من رواية الحكم، عن علي وهو لم يسمع منه، فقد ولد سنة ٥٠ هـ، انظر: "تهذيب التهذيب" ١/ ٤٦٦ - ٤٦٧.
172
وقال ابن زيد: الزيادة ما أعطاهم في الدنيا من النعيم، لا يحاسبهم به يوم القيامة، بخلاف أهل النار؛ فإن ما يعطيهم الله تعالى في الدنيا من النعمة في مقابلة ما يأتون من حسنة ولا ثواب لهم يوم القيامة على أعمالهم (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ﴾ أي لا يغشاها، يقال: رهقه ما يكرهه: أي غشيه ومصدره (٢) الرهق، قال ابن عباس: يريد ولا يصيب وجوههم (٣).
وقال تعالى: ﴿قَتَرٌ﴾، القتر والقترة: غبرة تعلوها سواد كالدخان، قال ابن عباس وقتادة (٤): يعني سواد الوجوه من الكآبة (٥).
وقال عطاء: يريد دخان جهنم (٦)، ﴿وَلَا ذِلَّةٌ﴾ كما تصيب أهل جهنم، قال ابن أبي ليلى: هذا بعد نظرهم إلى ربهم (٧).
(١) رواه بنحوه ابن جرير ١١/ ١٠٨، ورواه مختصرًا بن أبي حاتم ٦/ ١٩٤٦، والثعلبي ٧/ ١٣ أ.
(٢) في (ح) و (ز): (ومصدر).
(٣) ذكره بلفظه المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٥، وذكره السيوطي بمعناه في "الدر المنثور" ٣/ ٥٤٩، وعزاه إلى ابن جرير وابن أبي حاتم، ولم أجده عندهما.
(٤) ساقط من (ى).
(٥) رواه عنهما الثعلبي ٧/ ١٣ ب، والبغوي ٤/ ١٣٠، ورواه عن ابن عباس الإمام ابن جرير ١١/ ١٠٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٤٦، ولم تذكر هذه المصادر لفظ: من الكآبة.
(٦) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٢٥، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٥.
(٧) رواه ابن جرير ١١/ ١٠٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٤٦، والثعلبي ٧/ ١٣ ب، والبغوي ٤/ ١٣٠، وقد ضعف القرطبي هذا القول فقال: هذا فيه نظر؛ فإن الله -عز وجل- يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ إلى قوله: =
173
٢٧ - قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ﴾، قال ابن عباس في رواية الكلبي: يريد عملوا الشرك (١)، مثل قوله: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ [النساء: ١٨].
وقوله تعالى: ﴿جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ [قال الفراء: رفعت الجزاء بإضمار (لهم)؛ كأنك قلت: فلهم جزاء السيئة بمثلها] (٢)، كما قال: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾ [البقرة: ١٩٦]، أي: فعليه، قال: وإن (٣) شئت رفعت الجزاء بالباء في قوله: ﴿بِمِثْلِهَا﴾ والأول أعجب إليّ (٤). هذا كلامه، وزاد ابن الأنباري بيانًا فقال: إذا رفعت الجزاء بالباء أضمرت العائد إلى الموصول، على تقدير: جزاء سيئة منهم بمثلها، فالجزاء مرتفع بالباء و (الذين) يرتفعون برجوع الهاء المضمرة عليهم، وصلح إضمار (منهم) في ذا الموضع كما تقول: رأيت القوم صائم وقائم، يراد: منهم صائم وقائم، كما أنشد الفراء (٥):
= ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ [الأنبياء: ١٠١ - ١٠٣]، وقال في غير آية: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٣٨]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ الآية [فصلت: ٣٠]، وهذا عام فلا يتغير -بفضل الله في موطن من المواطن لا قبل النظر ولا بعده- وجهُ المحسن بسواد من كآبة ولا حزن، ولا يعلوه شيء من دخان جهنم ولا غيره. "الجامع لأحكام القرآن" ٨/ ٣٣٢.
(١) "تنوير المقباس" ص ٢١٢، "زاد المسير" ٤/ ٢٥، "الوسيط" ٢/ ٥٤٥.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) في (م): (فإن)، والمثبت موافق لما في "معاني القرآن".
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٤٦١.
(٥) انظر: "معاني القرآن" ١/ ١٩٣.
174
حتى إذا ما أضاء النجم في غلس وغودر البقل ملوي ومحصود (١)
معناه: منه ملوي ومنه محصود.
وعلى الجواب الأول يرتفع الجزاء باللام المضمرة؛ لأن التقدير: لهم جزاء سيئة بمثلها، والباء صلة الجزاء و (الذين) يرتفعون برجوع الهاء عليهم، وصلح إضمار (لهم) كما تضمره العرب في قولهم: رأيت لعبد الله ذكاءً وفطنة وعلم واسع، يريدون وله علم واسع، أنشد الفراء (٢):
هزئت هنيدة أن رأت لي رثة وفمًا (٣) به قصم وجلد أسود (٤)
أراد ولي جلد أسود (٥). انتهى كلامه.
وهذا مذهب الكوفيين في هذه الآية (٦).
(١) البيت لذي الرمة في "ديوانه" ٢/ ١٣٦٦، والرواية فيه:
حتى إذا ما استقل النجم في غلس وأحصد البقل ملوي ومحصود
(٢) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٢٣٤، ورواية صدره فيه:
هزئت حميدة إن رأت بي رتة
(٣) في (م): (وفم)، وهو خطأ بدلالة السياق، إذ إن قوله (وجلد) مرفوع على الرغم من عطفه على قوله: (لي رثة وفمًا). وهم منصوبان، وقد وجه ابن الأنباري ذلك.
(٤) البيت لسليك بن سلكة السعدي كما في "الأشباه والنظائر" ٢/ ٢٧١، "تذكرة النحاة" ٦٨٠، "شرح أبيات معاني القرآن" ص ١١١، طى اختلاف في الروايات، وذكره بلا نسبة بمثل رواية المصنف، الفارسي في "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٠٧.
والرثة: الخلق الخسيس البالي من كل شيء، والرتة: عيب في النطق، والقصم: كسر في الثنية من الأسنان. انظر: "اللسان" (رث ورت وقصم).
(٥) انظر قول ابن الأنباري مختصرًا في: "زاد المسير" ٤/ ٢٦، "مفاتيح الغيب" ١٧/ ٨٤.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٦١، وانظر الخلاف بين البصريين والكوفيين في مثل هذه المسألة في: "الإنصاف" ص٥٣.
175
وأما عند أهل البصرة (١) فقال أبو عثمان (٢): الباء في قوله (بمثلها) زائدة، وتقديره عنده: جزاء سيئة مثلها، واستدل على هذا بقوله في موضع آخر: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠].
قال أبو الفتح الموصلي (٣): وهذا مذهب حسن، واستدلال صحيح؛ إلا أن الآية تحتمل مع صحة هذا القول تأويلين آخرين، أحدهما: أن تكون الباء مع ما بعدها هو الخبر، فكأنه قال: وجزاء سيئة كائن بمثلها، كما تقول: إنما (٤) أنا بك، أي كائن موجود بك.
والثاني: أن تكون الباء في (بمثلها) متعلقة بنفس الجزاء، ويكون الجزاء مرتفعًا (٥) بالابتداء، وخبره محذوف كأنه قال: وجزاء سيئة بمثلها كائن أو واقع، وحذف الخبر حسن متجه، قد حذف في عدة مواضع.
هذان القولان حكاهما أبو الفتح (٦)، وذكرهما أبو علي في "المسائل الحلبية" (٧) في قوله -عز وجل-: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥]، وعلى هذه الأقوال في الباء، الجزاء مرتفع بالابتداء، والجملة -التي هي ابتداء وخبر- فيها خبر الابتداء الأول وهو قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ﴾
(١) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٣٧٢.
(٢) هو المازني.
(٣) هو ابن جني.
(٤) ساقط من (ى).
(٥) في (ح) و (ى) و (ز) و (ص): (مرتفَعُهُ)، وما أثبته من (م)، وهو موافق لما في "سر صناعة الإعراب".
(٦) "سر صناعة الإعراب" ١/ ١٣٨ - ١٤٠ باختصار.
(٧) لم أجد ذلك في الكتاب المطبوع، ومخطوطته ناقصة كما أشار المحقق في المقدمة.
176
والمعني: يجزون السوء، وعلى هذا المعنى عطف قوله: ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾، هذا كلام النحويين من الفريقين في هذه الآية، وكلهم جعلوا الموصول مبتدأ (١)، ويجوز أن تجعله عطفًا على الموصول الأول وهو قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى﴾ فكأن التقدير: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة، فيرتفع الجزاء باللام في الآية الأولى، والباء في (بمثلها) من صلة الجزاء، وحسن النظم من غير إضمار ولا تكلف.
وقوله تعالى: ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾، قال ابن عباس: يصيبهم الذل والخزي (٢) والهوان (٣).
وقوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ ما لهم من عذاب الله من مانع يمنعهم ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ﴾ ألبست (٤) ﴿وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ القِطْع: [اسم لِما (٥) قطع فسقط، ويراد به هاهنا بعض من الليل.
قال ابن السكيت: القِطْع] (٦) الطائفة من الليل (٧)، ومعنى الآية وصف وجوههم بالسواد حتى كأنها ألبست سوادًا من الليل كقوله: ﴿تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر: ٦٠]، وكما قيل في قوله تعالى: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ [الرحمن: ٤١] أي (٨): أنه سواد الوجوه وزرقة
(١) انظر: "التبيان في إعراب القرآن" ص ٤٣٧.
(٢) في (ى): (الحزن).
(٣) رواه بمعناه ابن جرير ١١/ ١٠٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٤٦.
(٤) ساقط من (ى).
(٥) في (ى): (ما).
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٧) "المشوف المعلم" ٢/ ٦٤٨، "تهذيب إصلاح المنطق" ص ٣٨.
(٨) ساقط من (م).
177
الأعين (١)، والعرب تستعمل لون الليل في السواد.
قال الشاعر (٢):
ودوية مثل السماء اعتسفتها وقد صبغ الليل الحصى بسواد
جعل ما يعلو الحجارة من ظلمة الليل صبغا منه إياها بالسواد.
وقوله تعالى: ﴿مُظْلِمًا﴾ قال الفراء (٣)، والزجاج (٤): هو نعت لقوله: ﴿قِطَعًا﴾.
و [قال أبو علي] (٥) يجوز أن تجعله حالاً من الذكر الذي في الظرف -يريد بالظرف الليل- كأنه قيل: قطعًا من الليل وهو مظلم، أي الليل، قال: والقول الأول (٦) أحسن؛ لأنه على قياس قوله: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: ٩٢، ١٥٥]، وصفت الكتاب بالمفرد بعدما وصفته بالجملة، وأجريته على النكرة (٧) كذلك هاهنا، تصف ﴿قِطَعًا﴾ بكونه مظلما بعدما وصفته بقوله ﴿مِنَ اللَّيْلِ﴾.
(١) هذا قول الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج، انظر: "تفسير ابن جرير" ٢٧/ ١٤٣، ط. الحلبي، "الدر المنثور" ٧/ ٧٠٤.
(٢) هو: ذو الرمة، انظر:"ديوانه" ٢/ ٦٨٥، "شرح شواهد الإيضاح" ص ٣٨٢. والدوية: الصحراء الملساء، واعتسفتها: ركبتها على غير هداية.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤٦٢، وهذا القول أحد الوجهين الذين ذكرهما الفراء.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦، وهو كالفراء ذكر وجهين في إعراب الكلمة هذا أحدهما.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٦) يعني ما ذكره عن الفراء والزجاج.
(٧) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٧٠ بتصرف.
178
وقرئ ﴿قِطَعًا﴾ مفتوحة الطاء (١)، وهي جمع قِطْعة، ومعنى الآية في القراءتين واحد؛ لأنهم إذا أغشيت وجوههم قِطْعًا من الليل مظلمًا اسودت منها، كما أنه إذا أغشيت قِطَعا التي (٢) هي جمع قطعة اسودت و ﴿مُظْلِمًا﴾ على هذه القراءة حال من الليل، المعنى أغشيت وجوههم قِطَعا من الليل في حال ظلمته.
٢٨ - قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾، قال ابن عباس (٣)، ومقاتل (٤)، والكلبي (٥): ويوم نجمع المشركين وشركاءهم والكفار (٦) وآلهتهم، والحشر: الجمع من كل أوب (٧) إلى الموقف.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ﴾، قال الزجاج: مكانكم منصوب على الأمر؛ كأنه (٨) قيل لهم: انتظروا مكانكم حتى نفصل بينكم، قال: والعرب تتوعد فتقول: مكانك، وانتظر، وهي كلمة جرت على الوعيد (٩).
(١) قرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب (قِطْعًا) بإسكان الطاء، وقرأ الباقون بفتحها. انظر: "إرشاد المبتدي" ص ٣٦٢، "تحبير التيسير" ص ١٢٢، "النشر" ٢/ ٢٨٣.
(٢) ساقط من (ح) و (ز).
(٣) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٦، وذكره مختصرًا بن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٢٦، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٢.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٤٠ أ.
(٥) "تنوير المقباس" ص ٢١٢ عنه، عن ابن عباس.
(٦) في (ى): (وشركاءهم الكفار).
(٧) من كل أوب: أي من كل وجه، وجاءوا من كل أوب: أي من كل طريق ووجه وناحية. "لسان العرب" (أوب) ١/ ١٦٨.
(٨) في (ى): (كأنهم)، وهو مخالف لما في المصدر.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦.
179
وقوله تعالى: ﴿أَنْتُمْ﴾ مبتدأ ﴿وَشُرَكَاؤُكُمْ﴾ عطف عليه، والخبر في قوله: ﴿مَكَانَكُمْ﴾ على ما ذكرنا من التقدير كأنه قيل: ثم نقول أنتم وشركاؤكم انتظروا مكانكم، واثبتوا وقفوا والزموا مكانكم، ومعنى ﴿شُرَكَاؤُكُمْ﴾ أي: الذين جعلتموهم شركاء في العبادة وفي أموالكم من الأوثان، كما قالوا: ﴿هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا﴾ [الأنعام: ١٣٦].
وقوله تعالى: ﴿فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ﴾ جاء هذا على لفظ المضي بعد قوله ﴿ثُمَّ نَقُولُ﴾ وهو منتظر؛ لأن الكائن (١) يومًا في علم الله تعالى وقدره كالكائن الراهن (٢) الآن، وذكرنا نظير هذا في قوله: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ (٣) [الأعراف: ٤٤]. ومعنى (زيلنا) فرقنا وميزنا، ومنه قوله الفرزدق:
أنت الفداء لذكر عام لم يكن نحسًا ولا بين الأحبة زيلا (٤)
وأنشد المبرد فقال (٥):
سائل مجاور جَرْم هل جنيت لهم حربًا تُزيّل بين الجيرة الخُلُطِ (٦)
قال أبو إسحاق: هو (٧) من قولك [زلت الشيء عن مكانه أزيله،
(١) في (ى): (الكافرين)، وهو خطأ جلي.
(٢) ساقط من (ح) و (ز).
(٣) انظر تفسير الآية في "تفسير البسيط" ولم يذكر المؤلف هذا المعنى في تفسيرها.
(٤) "ديوان الحماسة" ٢/ ٥٥ غير منسوب، وبعده (وقال الفرزدق) فيبدو أن هذا سبب الخطأ في النسبة.
(٥) ساقط من جميع النسخ عدا (م)، وانظر إنشاد المبرد في "الكامل" ١/ ٢٧٣.
(٦) البيت لوعلة الجرمي كما في "الأغاني" ١٩/ ١٤٠. وجرم: هو جرم بن ربان بن حلوان، جد جاهلي من قضاعة، ينتسب إليه بنو جشم وبنو قدامة، وبنو عوف. انظر: "جمهرة الإنساب" ص ٤٥١، "اللباب" ١/ ٢٢٢.
(٧) في (ى): (هذا)، والضمير غير موجود في "معاني القرآن وإعرابه".
180
وزيّلنا -للكثرة- من (١) هذا: إذا نحيته (٢). وحكى سلمة (٣)، عن الفراء في قوله: ﴿فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ﴾، قال: ليس من زُلت، إنما هي من زِلت الشيء فأنا أزيله: إذا فرقت ذا من ذا (٤)، ونحو هذا قال الكسائي، قال: وتقول العرب زلت الضأن من المعز فلم تزل ومزتها فلم تنمز (٥). هذا كلامه، فالزيل (٦) والتزييل والمزايلة: التمييز والتفريق، قال ذو الرمة:
وبيضاء لا تنحاش منا وأمها إذا ما رأتنا زيل منا زويلها (٧)
أراد بيض النعامة وأن البيضة لا تنفر منا، وأن النعامة التي باضتها فإنها إذا رأتنا نفرت، وزيل منا زويلها، أي نُحي عنا حركة شخصها.
وقرئ (فَزَيَلْنَا بَيْنَهُمْ) (٨)، وهو مثل: (فَزَيَّلْنَا) والتزايل والانزيال:
(١) في "معاني القرآن وإعرابه": ومن.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٦.
(٣) هو ابن عاصم النحوي.
(٤) "تهذيب اللغة" مادة: (زول) ٢/ ١٥٧٧، والنص بنحوه في "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٦٢.
(٥) انظر النص بلا نسبة في: "الصحاح" (زيل) ٤/ ١٧٢٠، "تفسير الرازي" ١٧/ ٦٧، و"البحر المحيط" ٥/ ١٥٤.
(٦) في (م): (والزيل).
(٧) انظر: "ديوان ذي الرمة" ١/ ٥٥٤، و"البصريات" للفارسي ١/ ٥٨٤، و"الصحاح" (زيل) ٤/ ١٧٢٠، و"لسان العرب" (زول) ٣/ ١٨٩١، و"خزانة الأدب" ٤/ ٢٤٢، و"غريب الحديث" للخطابي ٢/ ٤٨٤، و"جمهرة اللغة" ٢/ ٨٢٧، و"مقاييس اللغة" (حوش - زول).
(٨) هي قراءة شاذة قرأ بها ابن أبي عبلة كما في "زاد المسير" ٤/ ٢٧، وذكرها بلا نسبة الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٤٦٢، وابن جرير ١١/ ١١١، والزمخشري ٢/ ٢٣٥، ولم يذكر هذه القراءة ابن جني ولا ابن خالويه في كتابيهما في الشواذ.
181
التباين والافتراق، والزيال بمعنى الفراق (فِعَال) من المزايلة.
وقال ابن قتيبة في هذه الآية: هو من زال يزول وأزلته أنا (١).
قال الأزهري: هذا غلط وأراه لم يميز بين زال يزول، وزال يزيل، وبينهما بنون بعيد، والقول ما قال الفراء، وكان القتيبي قليل البصر بمقاييس النحو والتصريف وهو مع ذلك ذو بيان عذب (٢).
قال المفسرون: فرقنا بين المشركين وبين شركائهم من الآلهة
(١) "تفسير غريب القرآن" ص ٢٠٣.
(٢) "تهذيب اللغة" (زول) ٢/ ١٥٧٧ - ١٥٧٨، وقد لطف الواحدي عبارة الأزهري ونصها: إلا أنه منحوس الحظ من النحو والصرف ومقاييسهما. اهـ. والأزهرى متأثر بالهجمة الشرسة الموجهة ضد ابن قتيبة بغير حق والتي قادها جمع من الأدباء والعلماء وفي مقدمتهم أبو بكر ابن الأنباري.
انظر: "مقدمة تأويل مشكل القرآن" ص٧٠، "مقدمة تهذيب اللغة" ١/ ٥٠، ولعل الأزهري -رحمه الله- نسي ثناءه العطر على ابن قتيبة حيث قال في صدد التعريف به وبأبي تراب: وكانا من المعرفة والإتقان بحيث تثنى بهما الخناصر، وهما من الشهرة وذهاب الصيت والتأليف الحسن بحيث يعفى لهما عن خطيئة غلط، ونبذ زلة تقع في كتبهما.
"تهذيب اللغة" ١/ ٥٢، كما أن ابن قتيبة ليس وحده قال هذا القول، فأبو البقاء العكبري جزم بصوابه حيث قال: قوله: (فزيلنا) عين الكلمة واو؛ لأنه من زال يزول، وإنما قلبت ياء؛ لأن وزن الكلمة (فعيل) أي: زَيْوَلنا، مثل: بيطر وبيقر، فلما اجتمعت الياء والواو على الشرط المعروف قلبت ياء، وقيل: هو من زلت... إلخ.
"التبيان في إعراب القرآن" ص ٤٣٧ - ٤٣٨، وإلى ذلك ذهب أيضًا السمرقندي في "تفسيره" ٢/ ٩٦، واعتبر الجوهري قول القائل: زِلت الشيء من مكانه أزيله زيلًا، لغة في أزلته، ورد عليه ابن بري، انظر: "لسان العرب" (زيل) ٣/ ١٨٩١.
وبذلك يتبين أن المسألة موضع نظر، ومحل اجتهاد، فلا يشنع على من خالف غيره، ولو لم يحالفه الصواب.
182
والأصنام، وانقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا، وذلك حين يتبرأ كل معبود من دون الله ممن عبده (١)، وهو قوله تعالى: ﴿وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾، قال ابن عباس: أنكروا عبادتهم (٢).
قال مجاهد: يقول ذلك كل شيء يعبدون من دون الله يعني أن الله تعالي ينطق الأوثان فتقول: ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون (٣).
٢٩ - قوله تعالى: ﴿فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ الآية، هذا من كلام معبوديهم (٤)، لما تبرؤوا منهم قالوا: يشهد الله على علمه فينا ما كنا عن عبادتكم إلا غافلين؛ لأنه لم يكن فينا روح وما كنا نسمع ولا نبصر، وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنَّا﴾ (إن) هاهنا هي المخففة من الثقيلة، ودليله إلحاق اللام في الخبر للفرق بين (إن) الجحد و (إن) المؤكدة، والتقدير: إنا (٥) كنا عن عبادتكم لغافلين، ثم خففت وحذف الضمير، كقوله:
إن هالك كل من يحفى وينتعل (٦)
وقد ذكرنا نظائر هذا فيما تقدم.
٣٠ - قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ﴾، قال أبو إسحاق: (هنالك) (٧) ظرف،
(١) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤ أ، والبغوي ٤/ ١٣١، وبنحوه في "تفسير ابن جرير" ١١/ ١١١.
(٢) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٦، وبنحوه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٢٧.
(٣) هذا معنى أثر طويل عن مجاهد، رواه ابن جرير ١١/ ١١١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٤٨، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٥٠.
(٤) في (ح) و (ز) و (ص): (معبودهم)، وهو خطأ.
(٥) في (ح) و (ز) و (ص): (إن)، وهو خطأ.
(٦) سبق تخريجه.
(٧) ساقط من (ح).
183
المعنى: في ذلك الوقت، و (هنا) غير متمكن، واللام زائدة، وكسرت لالتقاء الساكنين (١).
قال صاحب النظم: ويجوز أن يكون معنى ﴿هُنَالِكَ﴾ هاهنا (٢): الإشارة إلى محل؛ لأن ما ذكر الله تعالى من هذه القصة لا يكون إلا في محل، وقد أحكمنا الكلام في هذا الفصل عند قوله: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه﴾ [آل عمران: ٣٨].
قوله تعالى: ﴿تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ﴾، قال ابن عباس والمفسرون: أي (٣) تختبر (٤)، والبَلْو: الاختبار (٥)، ومنه قوله: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ﴾ [الأعراف: ١٦٨]، ويقال: [البلاء ثم] (٦) الثناء أي: الاختبار ينبغي أن يكون قبل الثناء [ليكون الثناء] (٧) على علم بما يوجبه، ومعنى اختبارها ما أسلفت: أنه إن قدم خيرًا أو شرًا جوزي عليه فيختبر الخير ويجد ثوابه، ويختبر الشر ويجد عقابه، ولهذا قيل في التفسير في قوله: (تبلو) تعلم (٨)؛ لأن الاختبار سبب العلم.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٧ بتصرف.
(٢) يعني في هذه الاَية.
(٣) في (ح) و (ز): (كي)، واللفظ ساقط من (ى).
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١١٢ - ١١٣، والثعلبي ٧/ ١٤ أ، والبغوي ٤/ ١٣١، ولم أجده من ذكره عن ابن عباس.
(٥) في "لسان العرب" (بلا) ١/ ٣٨٠: بلوت الرجل بلوًا وبلاءً وابتليته: اختبرته.
(٦) و (٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٨) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٢، عن ابن عباس، ونسبه القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٣٣٤ إلي الكلبي، وانظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٤ أ.
184
وقرئ (تَتُلُو) بتاءين (١)، ومعناه: تقرأ، كذلك قال الأخفش (٢)، والفراء (٣)، وغيرهما (٤)، ومعناه تقرأ كتابها، وما كتب من أعماله (٥) التي قدمها كقوله: ﴿فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ﴾ [الإسراء: ٧١].
قال الزجاج: وفسروه أيضاً تتبع كل نفس ما أسلفت (٦)، من حسنة وسيئة، ومعنى أسلفت: قدمت.
وقوله تعالى: ﴿وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ﴾، الرد في اللغة الرجع إلى الشيء بعد الذهاب عنه، وهؤلاء ذهبوا عن أمر الله فأعيدوا إليه.
[وقوله تعالى] (٧): ﴿مَوْلَاهُمُ﴾ أي: الذي يملك تولي أمرهم.
(١) وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف، وقراءة الباقين (تبلو) بالتاء وبعدها باء موحدة. انظر: "كتاب السبعة" ص ٣٢٥، "النشر" ٢/ ٢٨٣، "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٤٨.
(٢) انظر قول الأخفش في: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ١٧، "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٢٩٢، "حجة القراءات" ص ٣٣١، وفسرها الأخفش في كتابه "معاني القرآن" ١/ ٣٧٣ بقوله: تتبعه
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤٦٣.
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ١٧، "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٧١، "الحجة في القراءات" ص ١٨١.
(٥) في (ى): (أعمالها)، أما الضمير التالي ففي جميع النسخ بالتذكير، وقد أعاد الضمير على مذكر باعتبار المعنى؛ لأن النفس يراد بها الإنسان.
(٦) اهـ. كلام الزجاج كما في "معاني القرآن واعرابه" ٣/ ١٧، والجدير بالذكر أن لهذا الكتاب نسخًا متفاوتة، يزيد بعضها على بعض كما بينه الأزهري في مقدمة كتابه "تهذيب اللغة" ١/ ٤٦ - ٤٧، فلعل بقية القول من نسخة أخرى، أو من توضيح الواحدي وزيادته كما هي عادته في عدم التقيد باللفظ في النقل.
(٧) ما بين المعقوفين بياض في (م).
185
وقوله تعالى: ﴿الْحَقِّ﴾ هو من (١) صفة الله -جل وعز- وجاز وصفه بالحق كما جاز وصفه بالعدل للمبالغة في الصفة، إذ كل حق من قِبَله؛ يدل على هذا قول ابن عباس في قوله: ﴿مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ﴾ يريد الذي يجازيهم بالحق (٢)، ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾ أي: زال وبطل، ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ في الدنيا من التكذيب.
وقال صاحب النظم في هذه الآية: قوله: ﴿هُنَالِكَ﴾ خبر لقوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾؛ لأنه مبتدأ يقتضي جوابا، وهو ظرف للجواب الذي هو قوله: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو﴾ وبني عليه ﴿هُنَالِكَ﴾ وهو محل، فجعل كناية عن الظرف -الذي هو وقت- على السعة والاستعارة (٣).
٣١ - قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ يريد من ينزل (٤) القطر من السماء ويخرج النبات من الأرض، قاله ابن عباس (٥)، والمفسرون (٦).
﴿أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾ [قال (٧): يريد من جعل لكم السمع
(١) ساقط من (ى).
(٢) " الجامع لأحكام القرآن" ٨/ ٣٣٤.
(٣) المعنى: (هنالك) ظرف للمكان والمحل فمعناه: في ذلك الموقف، لكن معناه في الآية: في ذلك الوقت، وهذا من باب استعارة ظرف المكان للزمان.
(٤) في (ى): (يخرج).
(٥) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٢.
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١١٣، و"تفسير البغوي" ٤/ ١٣٢، وابن الجوزي "زاد المسير" ٤/ ٢٨.
(٧) يعني ابن عباس، وانظر القول بنحوه في: "تنوير المقباس" ص ٢١٢
والأبصار، وعلى هذا، المعنى: أم من يملك (١) خلق السمع والأبصار] (٢).
﴿وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ أي المؤمن من الكافر، والنبات من الأرض، والإنسان من النطفة، والطير من البيضة، والسنبلة من الحب، والنخلة من النواة، كل هذا قد (٣) قيل (٤)، وعلى الضد من ذلك: ﴿وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾.
﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ أمر الدنيا والآخرة، ﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ أي: الله هو الذي يفعل (٥) هذه الأشياء، وذلك أنهم علموا أن الرازق والمدبر هو الله، فإذا أقروا بعوإلاحتجاج عليهم ﴿فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ قال ابن عباس: أفلا تخافون فلا تشركوا به شيئًا (٦).
٣٢ - قوله تعالى: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾، قال الزجاج: لما خوطبوا بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى: وأقروا به قيل لهم: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾ (٧)، قال ابن عباس: يريد: الذي هذا كله فعله هو الحق ليس هؤلاء الذين جعلتم معه شركاء لا يملكون شيئًا من هذا (٨).
وقوله: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾، قال: يريد الذي أنتم فيه وما
(١) ساقط من (ى).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٣) ساقط من (م).
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ٣/ ٢٢٦، والبغوي ٢/ ٢٤، "الدر المنثور" ٢/ ٢٧.
(٥) في (م): (جعل).
(٦) "الوسيط" ٢/ ٥٤٧، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٢٨ بلفظ: أفلا تتعظون.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٨ بمعناه.
(٨) "الوسيط" ٢/ ٥٤٧، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٢ مختصرًا.
اتخذتم من الآلهة غير الله (١)، وقال مقاتل: فماذا بعد الحق (٢): يعنى بعد (٣) عبادة الله إلا الضلال، يعني عبادة الشيطان (٤).
﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾، قال ابن عباس: يريد: كيف تصرف عقولكم إلى عبادة مالا يرزق ولا يحيى ولا يميت (٥).
٣٣ - قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾، قال الزجاج: الكاف في موضع نصب أي مثل أفعالهم جازاهم ربك (٦) هذا كلامه. وشرحه أبو بكر (٧) فقال: (ذلك) إشارة إلى مصدر ﴿تُصْرَفُونَ﴾ تلخيصه: مثل ذلك الصرف حقت كلمة ربك، وموضع ﴿ذَلِكَ﴾ خفض بالكاف، والكاف موضعها نصب (٨) بـ ﴿حَقَّتْ﴾ على تقدير: حقت الكلمة مثل ذلك الصرف (٩).
وقال بعض أهل المعاني: المشبه به في ﴿كَذَلِكَ﴾ معنى قوله: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [ومعناه ليس بعد الحق إلا الضلال] (١٠) كذلك حقت الكلمة، وعلى هذا: الكاف في موضسع رفع بالابتداء، وخبره ﴿حَقَّتْ﴾
(١) "تنوير المقباس" ص ٢١٢ بمعناه.
(٢) في (ح) و (ز) زيادة: (إلا الضلال).
(٣) ساقط من (ى).
(٤) "تفسير مقاتل" ١٤٠ أبنحوه.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٢٩، "الوسيط" ٢/ ٥٤٧.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٨.
(٧) هو ابن الأنباري.
(٨) ساقط من (ى).
(٩) ذكر قوله ابن الأنباري مختصرًا بن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٣٠.
(١٠) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
188
وذكر أبو بكر قولًا آخر في ﴿كَذَلِكَ﴾ وهو أنه بمعنى هكذا (١) إشارة إلى الحاضر وهو مصدر ﴿حَقَّتْ﴾ ويكون موضع ﴿كَذَلِكَ﴾ نصبًا بـ ﴿حَقَّتْ﴾ ولا تكون الكاف فيه منفصلة مما بعدها، وتقديره إذا لم تفصل الكاف منه: هذا الحق حقت كلمة ربك [وقد ترفع (كذلك) إذا استحق الرفع، وهذا المعنى ذهب إليه مقاتل بن سليمان (٢)، والكلبي (٣)، وجماعة من المفسرين (٤)، أعني أنهم يقولون: معنى الحرف: هكذا حقت كلمة ربك] (٥)، والدليل على أن (هكذا) يرفع وينصب ويخفض بكماله وجملته ولا يُقضى عليه بانفصال (٦) بعضه من بعض حكايته الفراء عن أبي ثروان (٧): ليس بهكذا (٨)، فدخول الباء على (هكذا) يكشف أنه مشبه بـ (هذا)، ويؤكد هذا الفصل ما ذكره صاحب النظم أن (كذلك) قد تكون تحقيقًا وإثباتًا لما قبله من الخبر، كما أن (كلا) ردٌ وإبطال لما قبله من الخبر، وعلى هذا (كذلك) كلمة (٩) بكماله وجملته، ولا يُقضى عليه بانفصال بعضه عن بعض.
(١) "زاد المسير" ٤/ ٣٠.
(٢) لم أجده في "تفسيره".
(٣) رواه الثعلبي ٧/ ١٤ أ، والبغوي ٤/ ١٣٢.
(٤) انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٩٨، وابن الجوزي ٤/ ٣٠.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٦) في (ح) و (ز): (انفصال).
(٧) هو: أبو ثروان العكلي، من بني عُكْل، أعرابي فصيح مصنف، له من الكتب "خلق الإنسان"، وكتاب "معاني الشعر". انظر: "الفهرست" ص ٧٣، "إنباه الرواة" ٤/ ١٠٥، ولم أجد من ترجم له ترجمة وافية.
(٨) في (م): (هكذا)، وهو خطأ.
(٩) في (ى): (كذلك حقت كلمة)، وهو خطأ.
189
وقوله تعالى: ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ وقرئ كلمات ربك (١)، وذكر المفسرون في معناها (٢) قولين، أحدهما: حق وعد ربك الذي بينه في غير موضع من كتابه من تعذيبه أهل الكفر وإصارته إياهم إلى الهلاك والبوار، وهذا معنى قول الزجاج: أي: مثل أفعالهم جازاهم (٣).
أما توحيد الكلمة وجمعها، فمن وحدها فإنه أراد الجمع؛ لأن ما أوعد الله -عز وجل- به وتهدد به الكفار كلام يجمع حروفًا وألفاظًا (٤)، كقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ﴾ [السجدة: ٢٠] الآية، فجعل هذه الجملة وغيرها من آي الوعيد كلمة وإن كانت في الحقيقة كلمات؛ لأنهم قد يسمون القصيدة والخطبة كلمة، وهذا نحو قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف: ١٣٧]، يعني بالكلمة قوله: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص: ٥] الآية، فجعلها كلها كلمة؛ وذلك لأنها إذا كانت الكلمات في معنى واحد كانت كأنها كلمة واحدة، هذا قول أبي بكر، وأبي علي (٥).
قال أبو بكر: ويجوز أن يكون أراد الكلمات، فأوقع الواحد موقع الجمع كقوله:
(١) يعني الجمع، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر، وقرأ الباقون بالتوحيد. انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٢٦، "تحبير التيسير" ص ١٢٢، "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢١٦.
(٢) ساقط من (ح).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٨.
(٤) في (م): (ألفاظًا وحروفًا).
(٥) يعني الفارسي، انظر: "الحجة" ٤/ ٢٧٣.
190
وأما جلدها فصليب (١)
يعني جلودها، وقال أبو علي: ويجوز أن تكون: ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ التي يراد بها الجنس، وقد أوقع على بعض الجنس، كما أوقع اسم الجنس على بض، كقوله: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ﴾ [الصافات: ١٣٧، ١٣٨]، فأوقع اسم الليل على ذلك الوقت الذي يقرون فيه عليهم وهو بعض الجنس (٢).
القول الثاني: في معنى الكلمة، أنه أراد: حق عليهم ما سبق من علم الله فيهم وما جبلهم عليه من الشقاء، وهذا قول ابن عباس (٣)، وقوله تعالى: ﴿عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا﴾، قال ابن عباس: يريد كذبوا (٤).
قال أهل المعاني: فسقوا في كفرهم، أي تمردوا فيه، والفسق
(١) هذا بعض بيت، وهو بكماله:
بها جِيَف الحسرى فأما عظامها فبِيضٌ وأما جلدها فصليب
والبيت لعلقمه الفحل في "ديوانه" ص ٤٠، "خزانة الأدب" ٧/ ٥٥٩، "شرح أبيات سيبويه" ١/ ٩٣، "كتاب سيبويه" ١/ ٢٠٩.
والشاعر يصف طريقًا شاقًا قطعه حتى يصل إلى ممدوحه، والحسرى: جمع حسير، وهو البعير الذي كلّ وانقطع سيره إعياء أو هزالًا فيتركه أصحابه، وابيضت عظامه: يعني أكلت السباع والطيور ما عليها من لحم، وجلد صليب: أي يابس، أو لم يدبغ. انظر: "شرح أبيات سيبويه"، "خزانة الأدب"، نفس الموضعين السابقين.
(٢) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٧٣.
(٣) رواه بمعناه مختصرًا ابن أبي حاتم ٦/ ١٩٥١، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٥١.
(٤) "تنوير المقباس" ص ٢١٢، ولفظه: كفروا.
191
الخروج في المعصية إلى الكبيرة، فإن كانت كفرا فالخروج إلى أكبره (١).
وقوله تعالى: ﴿أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ موضع (أن) رفع (٢) بدل من (كلمة ربك) قاله الزجاج (٣)، وابن الأنباري، وهذا على القول الثاني في تفسير الكلمه، وعلى القول الأول تكون (أن) (٤) منصوبة، لحذف الخافض، ويكون المعنى: حقت الكلمة عليهم؛ لأنهم لا يؤمنون، أو بأنهم لا يؤمنون، ذكره الفراء (٥)، والزجاج (٦) جميعًا، ويقول الكسائي: موضعها خفض بالخافض المضمر معها (٧).
٣٤ - قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ﴾، قال ابن عباس (٨)، ومقاتل (٩)، والمفسرون (١٠): يعني آلهتهم التي يعبدون من دون الله، وذكرنا معنى إضافة الشركاء إليهم في قوله: ﴿أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ﴾ [يونس: ٢٨].
وقوله تعالى: ﴿مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾ أي: يرشد إلى دين الإسلام، ﴿قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ أي: إلى الحق.
قال أبو إسحاق: تقول هديت إلى الحق وهديت للحق بمعنى
(١) انظر: "المفردات في غريب القرآن" (فسق) ص٣٨٠ بمعناه.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٨.
(٤) ساقط من النسخ عدا (م).
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٤٦٣.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٨.
(٧) لم أعثر على مصدره.
(٨) "تنوير المقباس" ص ٢١٣.
(٩) "تفسير مقاتل" ١٤٠ أ.
(١٠) "تفسير ابن جرير" ١١/ ١١٥، والسمرقندي ٢/ ٩٨، "الدر المنثور" ٣/ ٥٥٢.
192
واحد (١) وهذا مما ذكرناه في أول الكتاب (٢).
قال ابن عباس: يريد (٣) يرشد إلى الحق أهل الحق (٤).
قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي﴾ أي: آلله الذي يهدي ويرشد إلى الحق أهل الحق أحق أن يتبع أمره، أو الأصنام التي لا تهدي أحدًا ولا تهدي إلى خير؟! وهذا معنى قول ابن عباس (٥)، والحسن (٦)، والمفسرين (٧).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾، قال ابن عباس: يريد يرشد، وما ذلك إلا بيد الله، وما يفعله إلا بأوليائه (٨).
وقال مقاتل: ﴿إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾ يعني: هذا الذي يعبد الأوثان (٩)، فعلى هذا الهداية لا ترجع إلى الوثن إنما ترجع إلى عابده، وتصحيحه في النظم أن يكون التقدير: أمن (١٠) لا يهدي غيره أو عابده أو أحدًا، ثم
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩.
(٢) في أول البقرة [٢].
(٣) ساقط من (ى)، وفي (ح): (يريد به).
(٤) ذكره بمعناه ابن زنجلة في "حجة القراءات" ص ٣٣٢.
(٥) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢١٣، "حجة القراءات" ص ٣٣٢.
(٦) لم أعثر على قوله.
(٧) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١١٦، والثعلبي ٧/ ١٤ ب، والسمرقندي ٢/ ٩٨، والبغوي ٤/ ١٣٣، وابن كثير ٢/ ٤٥٧.
(٨) لم أقف عليه.
(٩) نص عبارة مقاتل: إلا أن يهدى، وبيات ذلك في: ﴿وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ﴾ [النحل: ٧٦] انظر: "تفسير مقاتل" ١٤٠ ب.
(١٠) في (ح): (أم لا).
193
حذف المفعول وتم الكلام، ثم قال: ﴿إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾ على الاستثناء المنقطع بمعنى: لكن إن هدي ذلك العابد اهتدى، أي إن هداه الله اهتدى، فأما الصنم فلا هداية عنده، وهذا المعنى على قراءة من قرأ (أَمَّنْ لَا يَهْدي)
ساكنة الهاء خفيفة الدال (١).
وقرئ (يَهَدّي) (٢)، و (يِهِدّي) (٣)، و (يَهِدّي) (٤)، و (يَهْدّي) (٥)، ومعانيها كلها (يفتعل) وإن اختلفت ألفاظها.
والجميع أدغموا التاء في الدال لمقاربتها لها؛ ألا ترى أن التاء والطاء والدال من حيز واحد.
واختلفوا في تحرك الهاء، فمن فتح الهاء ألقى حركة الحرف المدغم وهي الفتحة على الهاء كما ألقاها على ما قبل (٦) المدغم في مُعِدّ ومُمِدّ، ومن حرك الهاء بالكسر فلأن الكلمة عنده تشبه المنفصلة، فلم يُلق حركة المدغم على ما قبله نحو (قومْ موسى) إذا أدغم (٧) لا يلقى على الساكن منه
(١) وبهذا قرأ حمزة والكسائي وخلف. انظر كتاب "السبعة" ص ٣٢٦، "إرشاد المبتدي" ص ٣٦٢، "تقريب النشر" ص ١٢٢، "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٤٩.
(٢) بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، وهي قراءة ابن كثير وابن عامر وورش وأبي عمرو في أحد الوجهين. انظر المصادر السابقة، نفس المواضع.
(٣) بكسر الياء والهاء وتشديد الدال، وهي قراءة أبي بكر عن عاصم.
(٤) بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، وهي قراءة حفص عن عاصم، ويعقوب.
(٥) بإسكان الهاء وتشديد الدال، وهي قراءة نافع وأبي عمرو، غير أن أبا عمرو كان يشم الهاء شيئًا من الفتح. انظر المصادر السابقة، نفس المواضع.
(٦) في (ى): (قبلها).
(٧) في "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٧٧ الذي نقل منه النص: واسم موسى لا يُلقى على الساكن منه حركة المدغم.
194
حركة المدغم فلما لم يجز ذلك تركت الهاء على سكونها، فالتقت مع (١) الحرف المدغم، وهما ساكنان فحرك الأول منهما بالكسر لالتقاء الساكنين، ومن سكّن الهاء جمع بين الساكنين، وقد بينا حكم الجمع بين ساكنين في هذا النحو فيما تقدم.
ومن قرأ (يِهِدّي) بكسر الياء والهاء فقال الزجاج: هي رديئة لثقل الكسر في الياء (٢).
قال أبو علي: أتبع الياء ما بعدها من الكسر، وليس الكسر في الياء على لغة من يكسر حروف المضارعة من التاء والنون في نحو تِعلم ونِعلم؛ لأن من يقول تِعلم (٣) لا يقول يِعلم (٤)، ومن قال (٥): أنت تِهتدي (٦) لا يقول: هو يِهتدي (٧)، ولكن الكسرة في الياء للإتباع، كما أنه لم تكسر الياء في: يِيْجل (٨)، من حيث كسرت التاء في تِعلم، ولكن كسرت لتنقلب الواو
(١) في (ح): (على).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٩، ولا معنى لوصفها بالرداءة وهي قراءة متواترة، قال السمين الحلبي في "الدر المصون" ٦/ ١٩٩ بعد أن نقل رأي سيبويه في منع كسر ياء المضارعة: وهذا فيه غض من قراءة أبي بكر، لكنه قد تواتر قراءة، فهو مقبول، وانظر رأي سيبويه في "كتابه" ٤/ ١١٠، وانظر توجيه القراءة لغة في "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٧٩، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٣٣٢.
(٣) بكسر التاء.
(٤) بكسر الياء.
(٥) في (ى): (قرأ)، وهو خطأ.
(٦) بكسر التاء.
(٧) بكسر الياء.
(٨) رسمت الكلمة في النسخ بلا نقط، والكلمة في "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٧٩،= =
195
ياء، كذلك هاهنا كسرت للإتباع. هذا وجه القراءة في ﴿أَمَّنْ لَا يَهِدِّي﴾.
فأما معنى لا تهتدي إلا أن تهدى، وهي لا تهتدي وإن هديت؛ لأنها موات من حجارة وأوثان ولكن الكلام نزل على أنها إن هديت اهتدت، وإن لم تكن في الحقيقة كذلك؛ لأنهم لما اتخذوها آلهة عبر عنها كما يعبر عمن يعلم ويفعل (١) ويعقل، ألا ترى أنه تعالى قال: ﴿مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [النحل: ٧٣]، وكما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأعراف: ١٩٤]، وإنما هي موات؛ ألا ترى أنه قال: ﴿فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾ [الأعراف: ١٩٤]، ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: ١٩٥]، وكذلك قوله: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ﴾ [فاطر: ١٤] الآية، وأجرى اللفظ على الأوثان على حسب ما يجري على من يعلم، كذلك هاهنا وصف بصفة من يعقل وإن لم يكن في الحقيقة كذلك، و (إِلَّا) على هذا بمنزلة (حتى) كأنه قال (٢): أمن لا يهدي (٣) حتى يُهدى، أي من لا يَعلم حتى يُعلم، ولا يستدل على شيء حتى يُدل عليه، وإن كان لو دُل أو أُعلم لم يعلم ولم يستدل.
=وقال سيبويه في "كتابه" ٤/ ١١٠: وأما يوجل ونحوه فإن أهل الحجاز يقولون: يوجل، فيجرونه مجرى علمت، وغيرهم من العرب سوى أهل الحجاز يقولون في توجل: هي تيجل، وأنا إيجل، ونحن نِيجل، وإذا قلت (يفعل) فبعض العرب يقولون: ييجل، كراهية الواو مع الياء.
(١) ساقط من (ح).
(٢) ساقط من (م).
(٣) في (م): (يهتدي).
196
وهذا الذي ذكرنا وجه آخر في قراءة من قرأ: (أَمَّن لَا يَهْدِي إلا أن يُهدى) (١) [أي أمن لا يهدي] (٢) غيره ولكن يُهدى، أي [لا يعلم شيئًا ولا يعرفه لكن] (٣) يُهدى، أي لا هداية له، ولو هدي أيضًا لم يهتد (٤)، إلا أن اللفظ جرى عليه، هذا كلام أبي علي الفارسي (٥)، وهو وجه الآية.
وذكر المتأخرون من أهل التفسير وجهين في قوله: ﴿أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾ لا يساوي واحد منهما أن يحكى فتركته (٦)، ولم أر للمتقدمين فيه شيئًا (٧)، وتأويل الآية أنهم نُسبوا إلى غاية الذهاب عن الحق والزيغ عنه (٨) في معادلتهم الآلهة بالله - ﷺ -.
(١) يعني قراءة حمزة ومن معه، انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٧٦.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٤) في العبارة غموض؛ إذ قوله: (ولكن يُهدى) يناقض قوله: (ولو هدي أيضًا لم يهتد)، والعبارة هكذا أيضاً في "الحجة" ٤/ ٣٧٦، وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٧/ ١٤٧: والذي أقول: إن قراءة حمزة والكسائي تحتمل أن يكون المعنى: (أمن لا يهدي أحدًا إلا أن يُهدى ذلك الأحد بهداية من عند الله).
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٧٥ - ٢٨٠، مع التقديم والتأخير والاختصار.
(٦) الوجهان للثعلبي في "تفسيره" ٧/ ١٥ أ، ونص عبارته: في معنى الآية وجهان: فصرفها قوم إلى الرؤساء والمضلين، أراد لا يرشدون إلا أن يُرشدوا، وحملها الآخرون على الأصنام وهو وجه الكلام، والمعنى: لا يمشي إلا أن يحمل، ولا ينتقل عن مكانه إلا أن ينقل.
(٧) بل روى ابن جرير في "تفسيره" ١١/ ١١٦، عن مجاهد: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى، قال: الأوثان، الله يهدي منها ومن غيرها من شاء لما شاء، ولم يتبين لي مراده.
(٨) في (ى): (عنهم).
197
وقوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ﴾، قال الزجاج: (ما لكم) كلام تام كأنهم قيل: لهم أي شيء لكم في عبادة الأوثان؟ ثم قيل لهم: ﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ علي أي حال تحكمون؟ وموضع (كيف) نصب بـ ﴿تَحْكُمُونَ﴾ (١).
وقال مقاتل: كيف تقضون حين زعمتم أن مع الله شريكًا (٢).
وقال عطاء: بئسما حكمتم إذ جعلتم لله شريكًا ليس (٣) بيده منفعة ولا مضرة (٤).
٣٦ - قوله تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ﴾، قال ابن عباس: هم الرؤساء، وأما السفلة فلا يعلمون شيئًا إلا ما قالت (٥) الرؤساء (٦).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا ظَنًّا﴾ يعني: ما يستيقنون أنها آلهة.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ قيل: لا يغني من عذاب الله شيئاً، ولا يدفع شيئًا من العذاب (٧)، و (الحق) على هذا هو الله، وظنهم أن الأصنام آلهة، وأنها تشفع لهم لا يغني عنهم شيئًا، وقال عطاء عن ابن عباس: يريد ليس الظن كاليقين (٨)، يريد بالحق: اليقين، والمعنى على
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٤٠ أبنحوه، والنص في "الوسيط" ٢/ ٥٤٧.
(٣) في (ى) و (م): (من ليس).
(٤) لم أقف عليه.
(٥) في (ح): (قال).
(٦) لم أقف عليه.
(٧) هذا قول مقاتل في "تفسيره" ١٤٠ ب بمعناه، وابن عباس في رواية الكلبي كما في "تنوير المقباس" ص ٢١٣.
(٨) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٧، عن عطاء.
هذا: إن الظن لا يقوم مقام العلم، وفي هذا دليل على أن من كان في مسائل الأصول ظانًّا لم يكن مؤمنًا.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾، قال (١): يريد من كفرهم] (٢).
٣٧ - قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، قال الزجاج (٣)، وابن الأنباري (٤): هذا جواب لقولهم ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا﴾ [يونس: ١٥] و (أن) مع (يُفْتَرَى) مصدر مقضيًا عليه بالنصب تقديره: وما كان هذا القرآن افتراءً من دون الله، كما تقول: ما كان هذا الكلام كذبًا.
﴿وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [أي: ولكن كان تصديق الذي بين يديه] (٥) من الكتب وأنباء الأمم السالفة وأقاصيص أنبيائهم، وهذا قول المفسرين (٦). قال أبو إسحاق: ويجوز أن يكون المعنى: ولكن تصديق الذي بين يديه (٧) القرآن، أي تصديق الشيء الذي تقدمه القرآن، أي يدل
(١) يعني ابن عباس، وانظر القول في "تنوير المقباس" ص ٢١٣ بمعناه.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠ بنحوه.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٣٢ مختصرًا.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١١٧، والماوردي ٢/ ٤٣٥، والبغوي ٤/ ١٣٤.
(٧) في "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع: يدي، والصواب ما ذكره الواحدي؛ لأن القرآن قبل البعث، ولو قيل: البعث بين يدي القرآن لكان المعنى: البعث قبيل القرآن، وهذا لا يصح، وفي "لسان العرب" (يدي) ٨/ ٤٩٥٤: يقال: بين يديك كذا لكل شيء أمامك، قال الله -عز وجل-: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] ويقال: إن بين يدي الساعة أهوالاً، أي: قدامها.
199
على أمر البعث والنشور (١)، فعلى القول الأول الكناية في ﴿يَدَيْهِ﴾ تعود إلى القرآن، وعلى القول الثاني تعود إلى الذي قال ابن الأنباري (٢).
تحقيق القول الأول: ولكن تصديق الوحي الذي بين يدي القرآن من الكتب، فالقرآن شاهد لما تقدمه من الكتب أنها حق، وموافق لها في الأخبار وشاهد لها، إذ جاء على ما تقدمت به البشارة فيها.
وتحقيق القول الثاني: ولكن تصديق البعث الذي القرآن بين يديه؛ لأن القرآن يخبر بالبعث، ويدعو إلى الاستعداد له، قال أبو بكر: ويحتمل أن يكون المعنى ولكن تصديق النبي (٣) الذي بين يدي القرآن (٤)؛ [لأنهم شاهدوا النبي - ﷺ - وعرفوه قبل أن يسمعوا منه القرآن (٥)] (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ﴾ أراد وتفصيل ما في الكتاب من الحلال والحرام والفرائض والسنن والأحكام، وما في الكتاب هو الكتاب لذلك قال: ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ﴾ كأن المعنى وتفصيل المكتوب من هذه الأشياء، والتفصيل: التبيين، وقد مر، وهذا معنى قول ابن عباس (٧).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٠.
(٢) لم يرد لابن الأنباري قول في هذه الجملة من الآية، ولا يمكن أن يكون مراده قول ابن الأنباري الآتي، لعدم اتفاقه مع معنى القول الثاني، ولعل المؤلف يريد قول أبي إسحاق الزجاج.
(٣) في (ح): (الشيء)، وهو خطأ.
(٤) يعني محمدًا - ﷺ -، وانظر تفسير القول في "الجامع لأحكام القرآن" ٨/ ٣٤٤.
(٥) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٣٢.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٧) "تنوير المقباس" ص ٢١٣.
200
وقال الحسن: ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ﴾ الوعد لمن آمن بالنعيم، والوعيد لمن عصي بالعذاب الأليم (١)، والمعنى على هذا أيضًا: تفصيل المكتوب من الوعد والوعيد، والقرآن أتى ببيان هذا، وقوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي في كونه ونزوله من رب العالمين، قال ابن عباس: يريد أنه من عند رب العالمين (٢).
٣٨ - وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ الآية، قال الزجاج وغيره: هذا تقرير لهم لإقامة الحجة عليهم (٣)، وهي إلزامهم أن يأتوا بسورة مثله إن كان كما يقولون، وتقديره: بل أتقولون.
وقد ذكرنا حكم هذا الاستفهام عند قوله: ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا﴾ (٤) [البقرة: ١٠٨]، وهذا احتجاج عليهم بعد احتجاج؛ لأن الآية الأولى أوجبت كونه من عند الله بتصديقه الذي بين يديه، وفي هذه الآية ألزموا أن يأتوا بسورة مثله إن كان مفترى.
وقوله تعالى: ﴿وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، قال الزجاج: وادعوا إلى أن يعينكم على ذلك من استطعتم ممن هو في التكذيب مثلكم وإن خالفكم في أشياء (٥).
(١) لم أجده.
(٢) "تنوير المقباس" ص ٢١٣ بمعناه.
(٣) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١، وانظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١١٧، والسمرقندي ٢/ ٩٩ بمعناه.
(٤) قال هناك: (أم) تقع عاطفة بعد الاستفهام، كقولك: أخرج زيد أم عمرو، وأزيد عندك أم عمرو، فيكون معنى الكلام: أيهما عندك، ولا تكاد تكون عاطفة إلا بعد الاستفهام. وأطال الكلام حولها.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١.
وقال غيره: معناه: ادعوا إلى معاونتكم على المعارضة كل من تقدرون عليه (١)، واستقصاء تفسير هذه الآية قد مضى في سورة البقرة عند (٢) قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ [البقرة: ٢٣] الآية، وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي في أنه اختلقه.
٣٩ - قوله تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾ يعني: القرآن، أي كذبوا به لما لم يعلموه، قال عطاء: يريد أنه ليس خلقٌ يحيط بجميع علم القرآن (٣)، وقال الحسين بن الفضل: هذا كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ (٤) [الأحقاف: ١١].
وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾، قال أبو إسحاق: أي: لم يكن معهم علم تأويله، وهذا دليل أن علم التأويل ينبغي أن ينظر فيه (٥)، وقال ابن كيسان في هذه الآية: يقول: لم يعلموه تنزيلًا، ولا علموه تأويلاً، فكذبوا به (٦)، وتلخيص هذا المعنى يعود إلى أنهم جهلوا القرآن وعلمه وعلم تأويله فعادوه (٧) بالتكذيب، وفي الآية قول آخر وهو أن معنى قوله: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾ أي بما في القرآن من الجنة والنار والبعث والقيامة والثواب والعقاب.
(١) "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٥ ب بنحوه من قول ابن كيسان، ورواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٩٥٣، عن ابن عباس بمعناه.
(٢) في (ى): (في).
(٣) لم أجده.
(٤) ذكره بنحوه الثعلبي ٧/ ١٥ ب، وابن الجوزي ٤/ ٣٣، والقرطبي ٨/ ٣٤٥.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١.
(٦) لم أجده.
(٧) في (ى): (فعادوا).
202
وقوله تعالى. ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ أي: لم يأتهم بعد حقيقة ما وعدوا في الكتاب بما يؤول إليه أمرهم من العقوبة (١)، ويدل على صحة هذا التأويل قوله: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أي: بالبعث [والقيامة، وتكذيب الكفار من الأمم الخالية كان بالبعث] (٢) والقيامة، لا (٣) بالقرآن، وعلى القول الأول شبّه تكذيبهم بالقرآن والنبي بتكذيب الأمم الخالية أنبياءهم فيما وعدوهم به، والقولان في الآية أشار إليهما أبو إسحاق (٤).
وذُكر قول ثالث، هو أن معنى قوله: ﴿بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾ أي يقول: لم يعلموه يقينًا (٥)، ويعني قولهم: ﴿افْتَرَاهُ﴾ مهو يقول: بل كذبوا القرآن بقولهم افتراه، وأنه مفترى وهم شاكون في قولهم هذا، ولم يتيقنوا أنه مفترى [وهذا معنى قول الزجاج: هذا والله أعلم، قيل في الذين كفروا (٦) وهم شاكون (٧).
وقوله: ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ أي: لم يأتهم حقيقة ما يقولون أنه مفترى] (٨)، والتأويل ما يؤول إليه الأمر، وقوله: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
(١) "زاد المسير" ٤/ ٣٣، ورواه الثعلبي ٧/ ١٥ ب، عن الضحاك مختصرًا، وذكره الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١ مختصرًا أيضاً.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٣) في (ى): (ولا).
(٤) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١.
(٥) انظر: "معاني القرآن الكريم" للنحاس ٣/ ٢٩٤، "زاد المسير" ٤/ ٣٣.
(٦) في (م): (كذبوا).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢١.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
203
﴿الظَّالِمِينَ﴾ ﴿كَيْفَ﴾ في موضع نصب على خبر (كان) ولا يجوز أن يعمل (١) فيها (انظر)؛ لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه.
٤٠ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ الآية، قال المفسرون: أخبر الله تعالى عن إيمان قوم علم (٢) أنهم يؤمنون، وعن كفر قوم علم (٣) أنهم لا يؤمنون، وهذا إخبار عما سبق في علم الله تعالى (٤)، قال الكلبي: نزلت في أهل مكة (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ﴾، قال عطاء: يريد المكذبين (٦)، وهذا تهديد لهم.
٤١ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ الآية، قال مقاتل (٧)، والكلبي (٨): هذه الآية منسوخة بآية الجهاد (٩).
(١) في (خ) و (ز): (يجوز).
(٢) ساقط من (ى).
(٣) ساقط من (ى).
(٤) انظر معناه في "تفسير ابن جرير" ١١/ ١١٨، والثعلبي ٧/ ١٥ ب، والبغوي ٤/ ١٣٤.
(٥) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٨، وهو أحد قولين ذكرهما الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٣ عنه، عن ابن عباس، والقول الثاني لفظه: من اليهود، وهو ما ذكره السمرقندي ٢/ ٩٩، وابن الجوزي ٤/ ٣٤.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٣٤، "الوسيط" ٢/ ٥٤٨.
(٧) رواه الثعلبي ٧/ ١٦ أ، والبغوي ٤/ ١٣٥، وذكره أيضاً بغير سند المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٨، والقرطبي في "تفسيره" ٨/ ٣٤٦، ولعل القول لمقاتل بن حيان، إذ لم أجده في "تفسير مقاتل بن سليمان".
(٨) المصادر السابقة، نفس المواضع، "زاد المسير" ٤/ ٣٤.
(٩) ليس بين هذه الآية وآيات الجهاد منافاة حتى يحكم بالنسخ، بل هذه الآية بمعنى =
٤٢ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ الآية، قال ابن عباس: نزلت في المستهزئين؛ كانوا يستمعون إلى النبي - ﷺ - للاستهزاء والتكذيب فلم ينتفعوا باستماعهم (١)، قال الله تعالى: ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾، قال أبو إسحاق: أي: ظاهرهم ظاهر من يستمع (٢)، وهم لشدة عداوتهم وبغضهم بمنزلة الصم (٣).
= قولى تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: ٦] فهي إخبار بالبراءة منهم، والمفاصلة معهم، وأما ما قد يفهم منها من المتاركة وعدم التعرض لهم بسوء فإنه -إن كان الأمر كذلك- من أحكام حالة ضعف المسلمين، وعدم قدرتهم على الجهاد وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالحكم موقوف بتلك الحالة، ويزول بزوالها، والسلف يطلقون على هذا الحكم لفظ النسخ، وليس هو كذلك في اصطلاح المتأخرين، قال الزركشي في "البرهان" ٢/ ٤٢٣ بعد أن ذكر للنسخ أقسامًا: (الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب، كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين لا يرجون لقاء الله، ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها، ثم نسخه إيجاب ذلك، وهذا ليس بنسخ في الحقيقة، وإنما هو نسء... ، وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليس كذلك، بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدًا). وقال الأصفهاني في "تفسيره" ٤/ ٧٥ أ، بعد أن ذكر قول الكلبي ومقاتل في نسخ الآية: وهذا بعيد؛ لأن شرط الناسخ أن يكون رافعًا لحكم المنسوخ، ومدلول هذه الآية اختصاص كل واحد بأفعاله، وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب، وذلك لا ينافي وجوب الجهاد، فلا تكون آية الجهاد رافعة لشيء من مدلولات هذه الآية.
(١) "زاد المسير" ٤/ ٣٤.
(٢) في (ي): (يسمع).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ﴾، قال ابن عباس: يريد أنهم شر من الصم؛ لأن الصم لهم عقول وقلوب، وهؤلاء قد أصم الله قلوبهم (١).
وقال الزجاج: أي (٢): ولو كانوا مع ذلك جهالًا (٣)، أخبر الله تعالى أن هؤلاء يستمعون استماع استهزاء لا استماع انتفاع، فهم بمنزلة الصم الجهال؛ إذ لم ينتفعوا بما سمعوا، وقال قوم: هذه الآية والتي قبلها إخبار أنه (٤) لا يؤمن إلّا من وفقه الله تعالى، فذكر أن هؤلاء الكفار يستمعون القرآن وهم كالصم الذين لا يعقلون لعدم التوفيق، وصرف الله قلوبهم عن الانتفاع بما سمعوا، فقوله: ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ مثلٌ ضربه الله لنبيه - ﷺ -، يقول: كما لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع، كذلك لا تقدر أن تسمعهم إسماعًا ينتفعون به، وقد حكمت عليهم أن (٥) لا يؤمنوا (٦).
٤٣ - قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ﴾، قال عطاء عن ابن عباس: يريد متعجبين منك (٧)، ﴿أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ﴾ يريد: أن الله أعمى قلوبهم فلا يبصرون شيئًا من الهدى كما يبصر المؤمنون، وهذا كما قال: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: ٤٦].
(١) "زاد المسير" ٤/ ٣٥.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) اهـ كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢.
(٤) في (ى): (لأنه).
(٥) في (ح): (لأن).
(٦) انظر معنى هذا القول في "تفسير ابن جرير" ١١/ ١١٩، والثعلبي ٧/ ١٦ أ، والبغوي ٤/ ١٣٥، والقرطبي ٨/ ٣٤٦.
(٧) "زاد المسير" ٤/ ٣٥، "الوسيط" ٢/ ٥٤٨.
206
وقال أبو إسحاق: ومنهم من يقبل إليك بالنظر وهو كالأعمى من بغضه لك، وكراهته ما يراه من آياتك (١)، هذا على القول الأول في الآية الأولى (٢)، وعلى القول الثاني (٣) معناه: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ﴾ فيبصرك ويراك ولا يؤمن بك، وأنت (٤) لا تقدر على أن توفقه للإيمان كما لا تقدر أن تخلق للأعمى بصرًا يهتدي به، وذكر ابن قتيبة: أن الله فضل السمع على البصر حيث قرن بذهاب السمع ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر (٥).
قال ابن الأنباري: وهذا عندي غلط؛ لأن الذي نفاه الله مع السمع بمنزلة الذي نفاه مع البصر؛ إذ كان الله -عز وجل- أراد إبصار القلوب، ولم يرد إبصار العيون، فالذي يبصره القلب هو الذي يعقله. وهذا الذي ذكره أبو بكر يكون على القول الأول في الآيتين، وعلى القول الثاني: يقال: إن الله تعالى نفى العقل [عن (٦) الصم لا من حيث أن فقد السمع يوجب فقد العقل، ولكنه زاد نفي العقل] (٧) تأكيدًا؛ يقول: لا تقدر أن تسمع الصم الذين لا يعقلون؛ لأن الأصم إذا كان غير عاقل كان أبعد من الانتفاع بما يقال له، فإنه لا يفهم الإشارة أيضًا، وإذا كان عاقلًا فهم الإشارة، فقامت له مقام
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢.
(٢) وهو أنهم لشدة بغضهم لمحمد بمنزلة الصم.
(٣) وهو أنهم يستمعون القرآن وهم بمنزلة الصم لعدم التوفيق.
(٤) في (ح) و (ز): (وإنك).
(٥) "تأويل مشكل القرآن" ص ٧.
(٦) في (ى): (على)، وهو خطأ.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
207
السمع، يؤكد ما قلناه أنا نشاهد الصم عاقلين، فلو كان الأمر على بما ذكره بن قتيبة وجب أن لا يوجد أصم عاقلًا.
قال أبو بكر: وكيف يكون السمع أفضل وبالبصر يكون جمال الوجه، وبذهابه شينه، وذهاب السمع لا يكسب الوجه شينًا، والعرب تسمي العينين (الكريمتين)، ولا تصف السمع بمثل هذا؛ ومنه الحديث: يقول الله تعالى: من أذهبت كريمتيه فصبر (١) لم أرض له ثوابًا دون الجنة (٢) " (٣).
وأنشد لبعض من أصيب بعينيه:
(١) في (م): (فصبر واحتسب).
(٢) رواه نحوه البخاري في "صحيحه" (٥٦٥٣) كتاب المرضى، باب: فضل من ذهب بصره، والترمذي في "سننه" (٢٤٠٠) كتاب الزهد، باب: ما جاء في ذهاب البصر، والدارمي في "سننه" كتاب الرقاق، باب: فيمن ذهب بصره فصبر ٢/ ٢١٧ (٢٧٩٥)، وأحمد في "المسند" ٣/ ١٤٤.
(٣) ذكر بعض قول ابن الأنباري هذا الرازي في "تفسيره" ١٧/ ١٠٢، ولابن الأنباري كتاب في الرد على ابن قتيبة لم يكمله، ولعل هذا النص منه.
انظر مقدمة "تأويل مشكل القرآن" ص٧٠، وقول ابن الأنباري هذا يذكرنا بقول الشريف المرتضى في كتابه "غرر الفوائد ودرر القلائد" المعروف بـ"الأمالي" ٢/ ١٣، بعد أن ذكر رأيًا لابن الأنباري: وهذا الذي ذكره ابن الأنباري غير صحيح، ونظن أن الذي حمله على الطعن في هذا الوجه حكايته له عن ابن قتيبة؛ لأن من شأنه أن يرد كل ما يأتي به ابن قتيبة وإن تعسف في الطعن عليه اهـ. وأقول: الواقع يؤيد رأي ابن قتيبة في تفضيل السمع على البصر، فكم من كفيف بلغ شأوًا عظيمًا في العلم والتعليم والنبوغ والتصنيف وقيادة الأمم، ولم نسمع ذلك في شأن الصم الذين ولدوا كذلك.
208
أصغي إلى قائدي لمخبرني إذا المقينا عمن يحييني
لله عينن التي فجعت بها لو أن دهرًا بها يواتيني
لو كنت خُيِّرت ما أَخَذْتُ بها تعميرَ نوح في ملك قارون (١)
٤٤ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾ الآية، قال أرباب الأصول (٢) وأصحاب المعاني: لما ذكر الله تعالى في الآيتين السابقتين فريقين ووصفهما بالشقوة ينظرون ويسمعون ولا يعقلون ولا يؤمنون، وذلك للقضاء السابق عليهم، أخبر الله في هذه الآية أن تقدير الشقوة عليهم ما كان ظلما منه؛ لأنه يتصرف (٣) في ملكه كيف شاء (٤)، وإذا كسبوا المعاصي فقد ظلموا أنفسهم؛ لأن الفعل منسوب إليهم وإن كان القضاء لله تعالى (٥).
٤٥ - قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا﴾ الآية (كأن) هذه هي المخففة من الثقيلة، التقدير: كأنهم لم يلبثوا، كقول النابغة:
(١) الأبيات للخريمي كما في "عيون الأخبار" ٤/ ٥٧، و"الحيوان" للجاحظ ٣/ ١١٣، و"معاهد التنصيص" ١/ ٢٥٣، و"الشعور بالعور" ١/ ٢٤٦، و"الشعر والشعراء" ص ٨٥٤، و"نكت الهيمان" ص ٧١.
(٢) يعني علماء أصول الدين والعقيدة، وانظر: المسألة في "الإبانة عن أصول الديانة" ص ١٥٨، و"عقيدة السلف وأصحاب الحديث" ص ٢٨٠، وكتاب "الإرشاد إلى قواطع الأدلة" ص ١٨٩، و"الغنية في أصول الدين" ص ١٢٩.
(٣) في (ح) و (ز): (لا ينصرف)، وهو خطأ.
(٤) سبق بيان مذهب الأشاعرة في استحالة نسبة الظلم إلى الله والرد عليه.
(٥) لم أجده في كتب المعاني، وانظر نحوه في: "زاد المسير" ٤/ ٣٥، "الجامع لأحكام القرآن" ٨/ ٣٤٧.
209
وكأن قد (١)
وقول آخر:
كأن ظبية تعطو إلى ناضر (٢) السلم (٣)
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ﴾، قال ابن عباس: كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا قدر ساعة من النهار (٤).
وقال الزجاج: أي قرب عندهم ما بين موتهم وبعثهم كما قال: ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ (٥) [المؤمنون: ١١٣].
(١) بعض بيت للنابغة الذبياني في "ديوانه" ص ١٠٥ وتمامه:
أزف الترحل غير أن ركابنا لمّا تَزُلْ برحالنا وكأن قد
وانظر: "خزانة الأدب" ٧/ ١٩٧، "شرح شواهد المغني" ص ٤٩٠.
(٢) في (ى): (ناظر)، وهو خطأ، وفي المصادر التالية: وارق.
(٣) عجز بيت، وصدره:
ويومًا توافينا بوجه مقسَّم
وقد اختلف في نسبة البيت، فهو لباغت بن صريح اليشكري في "تخليص الشواهد" ص٣٩٠، "شرح المفصل" ٨/ ٨٣، "كتاب سيبويه" ٢/ ١٣٤، ولأرقم بن علباء في "شرح شواهد سيبويه" ١/ ٥٢٥، ولعلباء بن أرقم في "الأصمعيات" ص ١٥٧، ولأحد الثلاثة أو لراشد بن شهاب اليشكري في "خزانة الأدب" ١٠/ ٤١٣، وصحح البغدادي نسبته لعلباء بن أرقم. والشاعر يصف امرأته حالة رضاها، ويشبهها بظبية مخصبة. والمقسَّم: المحسن، وتعطو: تتطاول إلى الشجر لتتناول منه. انظر: "شرح الأعلم على كتاب سيبويه" ١/ ٢٨١، "لسان العرب" (قسم) و (عطو).
(٤) "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٦ ب، والسمرقندي ٢/ ١٠٠، والبغوي ٤/ ١٣٥، وابن الجوزي ٤/ ٣٦، و"تنوير المقباس" ص ٢١٤.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢.
210
وقال الضحاك وابن الأنباري: قصر عندهم مقدار الوقت الذي بين موتهم (١) وبعثهم فصار في تقديرهم كالساعة من النهار من هول ما استقبلوه من أمر البعث والقيامة (٢).
وقال آخرون: إنما قصرت عندهم مدة لبثهم في الدنيا لا مدة كونهم في البرزخ، فقوله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا﴾ أي: في الدنيا إلا ساعة من النهار (٣).
وقوله تعالى: ﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾، قال ابن عباس (٤)، والضحاك (٥)، ومقاتل (٦): يتعارفون بينهم حين بعثوا من القبور يعرف بعضهم بعضًا كمعرفتهم في الدنيا، ثم تنقطع المعرفة فلا يعرف أحد أحدًا، قال أبو إسحاق: وفي معرفة بعضهم بعضًا وعلم بعضهم بإضلال بعض التوبيخ لهم وإثبات الحجة عليهم (٧)، وزاد ابن الأنباري بيانًا فقال: ﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ بتوبيخ (٨) بعضهم بعضًا، فيقول كل فريق للآخر: أنت أضللتني يوم كذا،
(١) ساقط من (ح).
(٢) انظر قول الضحاك في "الوسيط" ٢/ ٥٤٩، "زاد المسير" ٤/ ٣٦، وبمعناه في "بحر العلوم" ٢/ ١٠٠.
(٣) هذا قول آخر للضحاك رواه الثعلبي ٧/ ١٦ أ، والبغوي ٤/ ١٣٥، وهو قول مقاتل ابن سليمان في "تفسيره" ١٤٠ ب، والزمخشري في "كشافه" ٢/ ٢٣٩.
(٤) "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٦ ب، والبغوي ٤/ ١٣٥، والسمرقندي ٢/ ١٠٠، وابن الجوزي ٤/ ٣٦، وقد تبين من "تفسير السمرقندي" أن الأثر من رواية الكلبي ولا يخفى تهافتها.
(٥) "تفسير السمرقندي" ٢/ ١٠٠.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٤٠ ب بمعناه.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢.
(٨) في (ج) و (ز): (توبيخ).
211
وأنت كسّبتني دخول النار بما علمتنيه وزينته لي، فهذا تعارف توبيخ وتعنيف، وتباعد وتقاطع، لا تعارف عطف وإشفاق، ومن هذه الجهة وافق قوله: ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ [المعارج: ١٠]، يريد لا يسأله سؤال رحمة وعطف. هذا كلامه (١)، والمفسرون حملوا الآيتين على حالتين فقالوا: يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة، فلذلك لا يسأل حميم حميمًا (٢)، وقال أبو علي: معنى ﴿يَتَعَارَفُونَ﴾ يحتمل أمرين؛ أحدهما: أن يكون المعنى يتعارفون مدة إماتتهم التي وقع حشرهم بعدها، وحذف المفعول للدلالة عليها (٣) كما حذف في مواضع كثيرة، وعدي (تفاعل) (٤) كما عدي فيما أنشد أبو عبيدة (٥):
تخاطأت (٦) النبل أحشاءه
(١) ذكره بنحوه الرازي في "تفسيره" ١٧/ ١٠٤ - ١٠٥، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٣٦ دون نسبة.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٢٠، والسمرقندي ٢/ ١٠٠، والماوردي ٢/ ٤٣٧، والثعلبي ٧/ ١٦ ب، والبغوي ٤/ ١٣٥، والرازي ١٧/ ١٠٥.
(٣) هكذا في جميع النسخ، والضمير يعود إلى (مدة) إذ هي المفعول، وفي "الحجة" عليه، ومعنى (يتعارفون مدة إماتتهم) أي: يسأل بعضهم بعضًا كم لبثتم في القبور.
(٤) يعني وزن: تعارف.
(٥) "مجاز القرآن" ٢/ ٥، ونسبه إلى أوفى بن مطر المازني، وهو صدر بيت عجزه:
وأُخِّر يومي فلم يُعجل
وانظر: "سمط اللآلي" ١/ ٤٦٥، "شرح أبيات المغني" ٧/ ٤١، "اللسان" (خطأ) ٢/ ١١٩٣.
(٦) في (ح) و (ز) و (ص): (تخطأت)، وهو موافق لرواية "لسان العرب"، وما أثبته من (ى) و (م) موافق لرواية أبي عبيدة في "مجاز القرآن" وبقية المصادر، ومعنى تخاطأت: أخطأت، كما في "شرح أبيات المغني"، الموضع السابق.
212
أو يكون أعمل الفعل الذي دلّ عليه (يتعارفون)؛ ألا ترى أنه دل علي يستعلمون ويتعرفون، وتعرّفوا مدة اللبث هاهنا، كما تعّرفوها (١) [في قوله: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [المؤمنون: ١١٢] الآية، والآخر في التعارف: بما جاء في قوله: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ] (٢) يَتَسَاءَلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ﴾ [الصافات: ٥٠، ٥١]، وقال في موضع آخر ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا﴾ (٣) [الطور: ٢٦] الآية، وتعرّفهم يكون على أحد هذين الوجهين (٤)، وذكر (٥) تقدير الآية فقال: يحتمل قوله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا﴾ ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون صفة لليوم، ويكون التقدير: كأن لم يلبثوا قبله إلا ساعة، فحذفت الكلمة لدلالة المعنى علمها، ومثله قوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٢] أي أمسكوهن قبله، وكذلك قوله: ﴿فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ﴾ [البقرة: ٢٢٦] أي قبل انقضاء الأربعة الأشهر، ويجوز أن يكون على هذا التقدير حذف (قبل) الذي هو مضاف إلى الهاء، وأقيم المضاف إليه مقامه ثم حذفت الهاء من الصفة، كقولك: الناس رجلان رجل أكرمت ورجل أهنت، ومثل هذا قوله: ﴿تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ [الشورى: ٢٢] والتقدير: وجزاؤه واقع بهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
(١) في (ز): (يعرفونها).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ز).
(٣) وقد ذكر أبو علي الآية بتمامها والآية التي قبلها.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٣٠٢.
(٥) يعني أبا علي الفارسي.
213
الوجه الثاني: أن تجعله صفة للمصدر على تقدير: ويوم نحشرهم حشرًا (١) كأن لم يلبثوا قبله، ثم فُعِلَ بـ (قبله) ما ذكرنا في الوجه الأول.
الوجه الثالث: أن تجعله حالاً من الضمير المنصوب في ﴿نَحْشُرُهُمْ﴾ والمعنى: نحشرهم مشابهةً أحوالُهم أحوال من لم يلبث إلا ساعة، وأما (يوم) فإنه يصلح أن يكون معمولًا لأحد شيئين؛ أحدهما: أن يكون معمول ﴿يَتَعَارَفُونَ﴾، وينتصب على وجهين؛ أحدهما: أن يكون ظرفًا معناه: يتعارفون في هذا اليوم، والآخر: أن يكون مفعولًا على السعة على:
يا سارقَ الليلةَ أهلِ الدار (٢)
وأهل الدار ما سرقوا وإنما سرق منهم، ولكن جعلوا مفعولًا على السعة، كذلك هاهنا تعارفوا في اليوم فجعل اليوم مفعولًا على السعة، والآخر (٣): أن يكون ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ معمول ما دلّ عليه قوله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا﴾ ألا ترى أن المعنى: تشابه أحوالهم أحوال من لم يلبث، فيعمل في الظرف هذا المعنى، ولا يمنع المعنى من أن يعمل في الظرف وإن تقدم الظرف عليه، كقولهم: أكلَّ يوم لك ثوب؟ غير أن هذا الوجه ضعيف؛ لأن قوله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا﴾ لا يخلو من أن يكون على أحد (٤) الأوجه الثلاثة التي
(١) في (ي): (نحشرهم جميعًا حشرًا) والجملة ليست من كلام أبي علي في هذا الموضع.
(٢) رجز مجهول القائل وهو من شواهد سيبويه في "الكتاب" ١/ ١٧٥، وانظره بلا نسبة في: "خزانة الأدب" ٣/ ١٠٨، "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي ص ٦٥٥، "المحتسب" ٢/ ٢٩٥.
(٣) يعني الوجه الثاني في العامل في (يوم).
(٤) في (ح) و (ز): (احدى).
214
ذكرنا، فإن جعلته صفة المصدر لم يجز أن يعمل في (يوم)؛ لأن الصفة لا يتقدم عليها ما تعمل فيه، وإن جعلته صفة لليوم فالصفة لا تعمل في [الموصوف كما أن الصلة لا تعمل في] (١) الموصول؛ لأنها بعضه، وإنْ قدرته تقدير الحال على ما ذكرنا لم يجز أن يكون (يوم) معمولًا له؛ لأن العامل [في الحال] (٢) (نحشر) و (نحشر) قد أضيف اليوم إليه فلا يجوز أن يعمل في المضاف المضاف إليه، ولا ما يتعلق بالمضاف إليه؛ لأن ذلك يوجب تقديمه على المضاف، فلهذا (٣) قلنا: إن هذا الوجه ضعيف (٤).
وقوله تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾، قال المفسرون: خسر ثواب الجنة الذين كذبوا بالبعث (٥).
قال ابن الأنباري: ووجه اتصال خسرانهم بتعارفهم هو أن الله -عز وجل- لما ذكر البعث وذكر ما يصير إليه أحوال المبعوثين، وصله بتخسير المكذبين بالبعث (٦)، وهذا معنى قول أبي إسحاق: يجوز أن يكون هذا إعلامًا من الله عز وجل -بعد أن بين أمر البعث- أنه من كذب به فقد خسر (٧).
قال أبو بكر: وفيه قول (٨) آخر: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله في
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٣) في (ح): (فلذلك).
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٣٠٠ - ٣٠٤ بتصرف واختصار، وإضافة بعض الجمل.
(٥) انظر: "زاد المسير" ٤/ ٣٦، "الوسيط" ٢/ ٥٤٩، وبنحوه في "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٢٠.
(٦) لم أجده.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢.
(٨) فى (ى): (وجه).
215
حال التعارف؛ لأن تلك حالٌ لا تقبل فيها توبة ولا يرجى معها إقالة (١).
٤٦ - وقوله تعالى: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾، قال ابن عباس والمفسرون: يريد ما (٢) ابتلوا به يوم بدر (٣)، ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ أو أتوفأك قبل ذلك، فلا فوت عليّ، ولا يفوتني شيء، وهو قوله: ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾، قال الربيع (٤): أي: فنعذبهم في الآخرة (٥)، وقال مقاتل: ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ بعد الموت فنجزيهم بأعمالهم (٦)، ﴿ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾ أي: من محاربتك وتكذيبك، قاله ابن عباس (٧).
قال أهل المعاني: أعلم الله تعالى نبيه -عليه السلام- أنه ينتقم من بعض هذه الأمة، ولم يعلمه أيكون ذلك بعد وفاته أو قبله (٨)، فقال المفسرون: كانت وقعة بدر ما أراه في حال حياته (٩).
وقال أبو إسحاق: الذي (١٠) تدل عليه الآية أن الله أعلمه أنه إن لم
(١) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٣٤٨ بنحوه، دون تعيين القائل.
(٢) في (ى): (من)، وهو خطأ.
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٦ ب، والبغوي ٤/ ١٣٦، وابن الجوزي ٤/ ٣٦، والقرطبي ٨/ ٣٤٨، ولم أجد من ذكره عن ابن عباس.
(٤) هو: ابن أنس.
(٥) لم أعثر عليه في مظانه من كتب التفسير.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٤١ أبنحوه.
(٧) "تنوير المقباس" ٢١٤ بمعناه.
(٨) هذا قول الزجاج في "معاني القرآن" ٣/ ٢٣.
(٩) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣، و"تفسير مقاتل" ١٤١ أ، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٢٩٨، و"الثعلبي" ٧/ ١٦ ب، والبغوي ٤/ ١٣٦، "الوسيط" ٢/ ٥٤٩.
(١٠) ساقط من (ى).
ينتقم منهم في العاجل انتقم منهم في الآجل (١).
٤٧ - قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾، ذكر المفسرون (٢)، وأصحاب المعاني (٣) في هذه الآية قولين:
أحدهما: أن مجيء الرسول والقضاء بينهم في الدنيا، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: فإذا كذبوا رسولهم قضي بينهم بالعدل (٤)، وقال عطية العوفي: يقول الله تعالى: أرسلت إلى كل أمة رسولاً، فإذا جاء رسولهم وبلغهم الكتاب وكذبوه قضي بينهم وبين رسولهم في الدنيا بالعدل؛ فعُذب المكذبون (٥)، ونجا (٦) الرسل (٧) والمؤمنون.
القول الثاني: أن المراد بمجيء الرسول والقضاء ما يكون في القيامة، وهو قول مقاتل ومجاهد وابن عباس في بعض الروايات (٨)، قال مجاهد: فإذا جاء رسولهم يوم القيامة (٩)، وقال مقاتل: فإذا جاء رسولهم في الآخرة (١٠).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣.
(٢) انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ١٠٠، والثعلبي ٧/ ١٦ ب، والبغوي ٤/ ١٣٦.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٦٣.
(٤) ذكره ابن الجوزي ٤/ ٣٧ بنحوه، عن عطاء بن السائب.
(٥) في (ح) و (ز): (المكذبين).
(٦) في (ى): (ونجي).
(٧) في (ى): (الرسول).
(٨) منها رواية الكلبي كما في "تفسير الماوردي" ٢/ ٤٣٧.
(٩) رواه ابن جرير ١١/ ١٢١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٥٥، والثعلبي ٧/ ١٢ ب، والبغوي ٤/ ١٣٦.
(١٠) "تفسير مقاتل" ١٤١ أ، والثعلبي ٧/ ١٢ ب، والبغوي ٤/ ١٣٦.
217
وقال ابن عباس: إن الله تعالى يقول لهم يوم القيامة: ألم يأتكم رسلي بكتبي؟ فيقولون: ما أتانا لك رسول ولا كتاب (١)، ثم يؤتى بالرسول فيقول: قد أبلغتهم كتابك، فذلك قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ (٢).
قال أبو إسحاق: ودليل القول الأول: قوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥]، وقوله: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [النساء: ١٦٥] الآية، أعلم أنه لا يعذب قومًا إلا بعد الإعذار والإنذار، ودليل القول الثاني قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣]، وقوله: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: ٣٠]، أعلَم الله أن كل رسول شاهد على أمته بإيمانهم وكفرهم (٣).
وزاد ابن الأنباري بيانًا ومعنى فقال في القول الأول: ولكل أمة رسول يرسله الله إليهم سفيرًا بينه وبينهم، مبشرًا ومنذرًا، فإذا جاءهم الرسول في الدنيا ﴿قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ أي: حكم عليهم عند اتباعه وعناده (٤) بالمعصية والطاعة والضلالة والهدى (٥)، فالقضاء بالقسط على
(١) في (ح) و (ز): (بكتاب).
(٢) أورده القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٣٤٩ بمعناه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٣/ ٢٤ بتصرف بالزيادة وترتيب الجمل، وقد يكون ذلك بسبب اختلاف النسخ، كما أشار إليه الأزهري في "مقدمة التهذيب" ١/ ٢٧.
(٤) في "الوسيط" عند اتباع المؤمنين وعناد الكافرين.
(٥) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٤٩، أشار إليه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٣٧ دون تعيين القاتل.
218
هذا وقع في الدنيا على القبول من الرسل والسعادة باتباعهم (١)، أو (٢) كذيب الرسل والشقاوة بعصيانهم، وهذا معنى آخر سوى ما ذكرنا من قول المفسرين؛ لأنهم فسروا (القضاء بالقسط في الدنيا) بعذاب الكافرين ونجاة المؤمنين، وقال (٣) في القول الثاني: ولكل أمة رسول يرسل إليهم مبينًا الضلالة والهدى، ومرغبًا في ثواب الله، ومخوفًا غضب الله، فإذا جاء رسولهم في الآخرة شاهدًا عليهم بما كان منهم في الدنيا قضي بينهم هنالك (٤) بدخول الجنة والنار، يدل على صحة هذا قوله ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا﴾ [النساء: ٤١] الآية.
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، قال عطاء، عن ابن عباس: يريد لا ينقص الذين صدقوا، ويُجازى الذين كذبوا (٥)، وقال مقاتل: لا ينقصون من محاسنهم ولا يزادون على مساوئهم ما لم يعملوا (٦) (٧)، وقال العوفي: لا يُعذب أحد بغير ذنب ولا على غير حجة (٨).
٤٨ - قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾، قال مقاتل: وذلك حين
(١) في (ح) و (ز): (وبإتباعهم)، وهو خطأ.
(٢) في (ى): (و).
(٣) يعني ابن الأنباري، ولم أجد من ذكره عنه.
(٤) من (م)، وفي بقية النسخ: (هناك).
(٥) "الوسيط" ٢/ ٥٤٩ بنحوه عن عطاء، وبمعناه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٤.
(٦) في (م): (يعلموا)، وهو خطأ.
(٧) "تفسير مقاتل" ١٤١ أبنحوه.
(٨) لم أجده.
أخبرهم النبي - ﷺ - بقوله (١): ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ الآية، فقالوا: متي هذا الوعد الذي تعدنا يا محمد (٢)، وقال غيره: يريدون متى قيام الساعة (٣) ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ أي أنت يا محمد وأتباعك ﴿صَادِقِينَ﴾، وقال الكلبي في هذه الآية: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى﴾ يعني: كل أمة كذبت رسولها تقول ذلك لرسولها (٤).
٤٩ - قوله: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي﴾ الآية إلى آخرها مفسرة في آيتين من سورة الأعراف [٣٤، ١٨٨].
٥٠ - قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا﴾ الآية، هذا جواب لقولهم: متى هذا الوعد، وهذا استعجال منهم للعذاب (٥)، فقيل للنبي - ﷺ -: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ أي أعلمتم (٦)، والرؤية هاهنا من رؤية القلب لا من رؤية العين، ﴿إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ﴾ أي عذاب الله ﴿بَيَاتًا﴾، قال الزجاج: البيات: كل ما كان بليل، وهو منصوب على الوقت (٧) (٨)، ﴿أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يجوز أن يكون (ماذا) اسمان، فيكون (ما) استفهامًا، و (ذا) بمعنى (الذي)، ويكون المعنى ما الذي يستعجل منه
(١) ساقط من (ح) و (ز).
(٢) " تفسير مقاتل" ١٤١ أبمعناه.
(٣) هذا قول ابن جرير في "تفسيره" ١١/ ١٢١، وذكره الثعلبي ٧/ ١٦ ب، والبغوي ٤/ ١٣٦ دون تعيين القائل.
(٤) "تنوير المقباس" ص ٢١٤، عن الكلبي، عن ابن عباس، "زاد المسير" ٤/ ٣٧، عن ابن عباس.
(٥) في (م): (للعقاب).
(٦) في (ى): (علمتم).
(٧) يعني نصب على الظرفية.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤.
220
المجرمون؟] (١) كقولك: أي شيء الذي يستعجل من العذاب المجرمون؟ أي يستعجله؛ فـ (ما) على هذا في موضع رفع، و (ذا) بمعنى (الذي) خبره، والعائد إن صلته إليه الهاء المقدر في (يستعجل)، فإن جعلت (٢) (ما) و (ذا) اسمًا واحدًا كان في موضع نصب كأنه في التمثيل: أي شيء يستعجل المجرمون من العذاب أو من الله؟ هذا كلام أبي علي الفارسي (٣) في شرح كلام أبي إسحاق، وذكر أبو إسحاق أن (ما) في (٤) موضع (٥) رفع من جهتين (٦)، وأنكر أبو علي أن تكون في موضع رفع إلا من جهة واحدة، وهي ما ذكرنا من الابتداء، وذكر الكلام عليه في "المسائل المصلحة" (٧). قال أبو إسحاق: والأجود أن تكون الهاء في (منه) تعود على العذاب (٨).
وأما معنى هذا الاستفهام فقال ابن الأنباري وصاحب النظم: معناه: التهويل والتحذير والتفظيع، أي: ما أعظم ملتمسهم، وأشد وقوع الذي يبغون، ونزوله بهم، وهذا كقولك لمن هو في أمر تستوخم (٩) عاقبته: ماذا
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٢) في (ح): (جعل).
(٣) انظر: "الإغفال" ص ٨٦٥، وما بعدها.
(٤) ساقط من (ح) و (ز).
(٥) في (ح) و (ز): (موضعه).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤، وعبارته: (ما) في موضع رفع من جهتين، إحداهما: أن يكون (ذا) بمعنى (ما الذي)، ويجوز أن يكون (ماذا) اسمًا واحدًا، ويكون المعنى: أي شيء يستعجل منه المجرمون.
(٧) يعني "الإغفال"، انظر ص ٨٦٥.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤.
(٩) تستوخم: أي تستردئ وتستثقل. انظر: "اللسان" (وخم) ١٢/ ٦٣١.
221
تجني على نفسك؟ (١)، وكقول الشاعر (٢):
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديًا وماذا يؤدي الليل حين يؤوب
فهذا الاستفهام معناه التعظيم لشأن من ذكر، والتهويل منه.
وقال بعض أصحاب المعاني (٣): تقدير الآية ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾ أي أعلمتم؛ لأن هذا من رؤية القلب فيكون معناه العلم، ماذا يستعجل المجرمون من العذاب إن أتاكم بياتًا أو نهارًا؟ أي: أعلمتم أي شيء استعجلوه (٤) إن أتاكم، يعني في العظم (٥) والفظاعة، وهذا على التقديم والتأخير.
٥١ - وقوله تعالى: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ﴾، دخول ألف الاستفهام على (ثم) للتقرير والتوبيخ، ومعناه: إن أهل الكفر قالوا: نكذب بالعذاب ونستعجله، ثم إذا ما وقع آمنا به، فقال الله -عز وجل- موبخًا ومقررًا: أثم إذا ما وقع وحلّ بكم آمنتم به؟ يقول لنبيه عليه السلام: قل لهم: أثم تؤمنون به بعد أن نزل بكم فلا يقبل منكم الإيمان، ويقال لكم: الآن تؤمنون وقد كنتم به تستعجلون في الدنيا مستهزئين ومعاندين للحق؟.
(١) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٣٥٠ دون نسبة.
(٢) هو: كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه. انظر: "الصحاح" (هوى) ٦/ ٢٥٣٩، "تهذيب اللغة" (هوى) ٦/ ٤٩٢، "الأمالي" للقالي ٢/ ١٥٠، "التكملة" للصغاني (هـ وى) ٦/ ٥٤٠، "لسان العرب" (هوا) ١٥/ ٣٧٣.
ومعنى هوت أمة: أي هلكت، كما في المصدر الأخير، نفس الموضع.
(٣) يعني الحوفي، انظر: "البحر المحيط" ٦/ ٦٨، "الدر المصون" ٦/ ٢١٥، والنسخة التي بين يدي من كتابه "البرهان" ينقصها سورة يونس، وبعض سورة التوبة.
(٤) هكذا، والسياق يقتضي أن يقول: استعجلتموه.
(٥) في (ج): (العلم).
قال ابن عباس: يريد لا أقبل إيمانًا عند نزول العذاب (١)، وذكر الفراء الكلام في (الآن) هاهنا، وذكر أقوالًا (٢)، ورد عليه الزجاج (٣)، وأبو علي (٤)، وأكثر كلامهم ذكرناه في سورة البقرة في قوله: ﴿قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: ٧١].
٥٣ - قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ﴾، قال ابن عباس وغيره: يستخبرونك (٥) ﴿أَحَقٌّ هُوَ﴾، قال ابن عباس: يريد الذي جئت به (٦).
وقال الكلبي: أحق ما جئتنا به من نزول العذاب بنا والبعث (٧).
﴿قُلْ إِي وَرَبِّي﴾، قال الليث: إي: يمين (٨). وقال الزجاج. معناه: نعم وربي (٩)، ونحو ذلك روى أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرابي (١٠)، قال الأزهري: وهذا هو القول الصحيح (١١).
(١) "تنوير المقباس" ص ٢١٤ بمعناه.
(٢) قال الفراء: (الآن) حرف بني على الألف واللام لم تخلع منه، وأصل (الآن) إنما كان (أوان) حذفت منها الألف وغيرت واوها إلى الألف، وإن شئت جعلت (الآن) أصلها من قولك: (أن لك أن تفعل، أدخلت عليها الألف واللام..). "معاني القرآن" ١/ ٤٦٧.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٤.
(٤) "الإغفال" ص ٢٥٤ - ٢٥٦.
(٥) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٤، وهو قول ابن جرير ١٥/ ١٠٢، والثعلبي ٧/ ١٧ أ، والبغوي ٤/ ١٣٧، وابن الجوزي ٤/ ٣٨ وغيرهم.
(٦) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٤ بلفظ: يعني العذاب والقرآن.
(٧) ذكره الماوردي في "تفسيره" ٢/ ٤٣٨ مختصرًا.
(٨) "تهذيب اللغة" (إى) ١٥/ ٦٥٧، وبخحوه في كتاب "العين" (أي) ٨/ ٤٤٠.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥.
(١٠) و (١١) "تهذيب اللغة" (إي) ١٥/ ٦٥٧.
﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾، قال الكلبي: يعني العذاب، ﴿لَحَقٌّ﴾ نازل بكم (١). ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾، قال ابن عباس: يريد: أن الله لا يعجزه شيء (٢)، ولا يفوته شيء (٣). وقال الكلبي: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ بعد الموت (٤).
وقال الزجاج: أي لستم ممن يُعجز أن يجازى على كفره (٥).
٥٤ - وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ﴾، قال ابن عباس وغيره: أشركت (٦)، ﴿مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ﴾ أي: لبذلته لدفع العذاب عنها، قال ابن عباس: يريد إن قبل الله ذلك منها، ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾ أي: أخفى الرؤساء الندامة من السفلة الذين أضلوهم، أي كتموهم ذلك ولم يطلعوهم عليه، هذا قول عامة المفسرين (٧)، وأصحاب المعاني (٨)، قال الفراء: يعني الرؤساء من المشركين أسروها من سفلتهم الذين أضلوهم، أي أخفوها (٩).
(١) "تنوير المقباس" ص ٢١٤ مختصرًا عنه، عن ابن عباس.
(٢) من (م) وفي النسخ الأخرى: يريد أنه لا يعجز الله شيء، وأثبت ما في (م) لموافقتها لما في المصدر التالي.
(٣) "الوسيط" ٢/ ٥٥٠.
(٤) في "تنوير المقباس" ص ٢١٤، عن الكلبي، عن ابن عباس: وما أنتم بفائتين من عذاب الله.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥.
(٦) "تنوير المقباس" ص ٢١٤، "زاد المسير" ٤/ ٣٩، "الوسيط" ٢/ ٥٥٠.
(٧) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٢٣، والسمرقندي ٢/ ١٠٢، والثعلبي ٧/ ١٧ أ، وابن الجوزي ٤/ ٣٩.
(٨) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٦٩، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ٢٥، "معاني القرآن الكريم" للنحاس ٣/ ٢٩٩.
(٩) "معاني القرآن" ١/ ٤٦٩.
224
ونحو هذا قال الزجاج (١).
وقال ابن الأنباري: إنما يقع هذا الكتمان منهم (٢) قبل إحراق النار ولهم، فإذا أحرقتهم النار ألهتهم عن هذا التصنع لمن كان يتبعهم في الدنيا، يدل على هذا قوله: ﴿قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ [المؤمنون: ١٠٦] الآيات، فهم في هذه الحال (٣) لا يكتمون ندمهم (٤)، وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة: أسررت الشيء: أخفيته، وأسررته: أعلنته، قال: ومن الإصهار قول الله تعالى: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾ أي أظهروها، وأنشد للفرزدق (٥):
فلما رأى الحجاجَ جرد سيفه أسر الحروري الذي كان أضمرا (٦)
أراد أظهر الحروري، قال شِمْر: لم أجد هذا البيت للفرزدق، وما قال غير (٧) أبي عبيدة في قوله: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ﴾ أي أظهروها، ولم أسمع ذلك لغيره (٨).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥.
(٢) من (م) فقط.
(٣) في (ى): (الحالات).
(٤) لم أجده، وقد ذكر القول من غير نسبة القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٣٥٢.
(٥) البيت ليس في "ديوانه"، وقد نسب إليه في كتاب "الأضداد" للأصمعي ص ٢١، وكتاب "الأضداد" لابن الأنباري ص ٤٦ وأخرى غيرها، وشكك في صحة نسبته للفرزدق أبو حاتم السجستاني كما سيأتي.
(٦) اهـ. كلام أبي عبيدة، انظر كتاب "الأضداد" للسجستاني ص ١١٥، "تهذيب اللغة" (سر) ٢/ ١٦٧٠، "لسان العرب" (سرر) ٤/ ١٩٨٩، ولم يفسر أبو عبيدة هذه الآية في كتابه "مجاز القرآن".
(٧) ساقط من (ى).
(٨) "تهذيب اللغة" (سر) ٢/ ١٦٧٠، وإلى ذلك ذهب أبو حاتم السجستافي حيث قال: =
225
وذكر المفضل، عن الأصمعي وغيره: أسر بمعنى أظهر (١)، واختار المفضل الإظهار، وقال: ليس ذلك اليوم يوم تكبُّر ولا تصبُّر (٢).
ومعنى الندامة: الحسرة على ما كان يتمنى أنه لم يكن، والتأسف علي ما وقع منه، ويود أنه لم يكن أوقعها، هذا معنى الندامة والندم، فأما أصله فإن (٣) موضوعه (٤) اللزوم، ومنه سمي النديم؛ لأنه يلازم المجلس (٥)، ويقوي هذا قولهم: نادم وسادم، والسَّدَم (٦): اللهج بالشيء، وقالوا للرجل: ندم وسدم إذا اهتم بالشيء الفائت؛ لأن هذا الهمّ ألزم للقلب من الهمّ العارض للشيء الحادث؛ فإن هذا يزول بزوال ما حدث، والفائت لا سبيل إلى رده، فاستعملوا فيه الندم والسدم.
ويقوي هذا المذهب أيضًا أن أصحاب القلب (٧) ذكروا أن الندم قلب
= وكان يقول -يعني أبا عبيدة- في هذه الآية: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾ أظهرها، ولا أثق بقوله في هذا، والله أعلم، وقد زعموا أن الفرزدق قال.. ، وذكر البيت ثم قال: ولا أثق أيضًا بقول الفرزدق في القرآن، ولا أدري لعله قال: الذي كان أظهرا، أي كتم ما كان عليه، والفرزدق كثير التخليط في شعره.. ، فلا أثق به في القرآن. كتاب "الأضداد" له ص ١١٥، وقال الأزهري: وأهل اللغة أنكروا قول أبي عبيدة أشد الإنكار، "لسان العرب" (سرر) ٤/ ١٩٨٩.
(١) انظر قول الأصمعي في كتابه: "الأضداد" ص ٢١.
(٢) انظر: "زاد المسير" ٤/ ٣٩، "الوسيط" ٢/ ٥٥٠.
(٣) في (م): (بأن).
(٤) في (ح) و (ز): (ممنوعة).
(٥) في (ى): (المسجد).
(٦) في "مختار الصحاح": (سدم) السَّدَم -بفتحتين- الندم والحزن، وبابه: طَرِب، ورجل سادم نادم، وسلمان ندمان، وقيل: هو إتباع.
(٧) يعني علماء اللغة الذين لهم عناية بالكلمات المقلوبة، قال ابن منظور: يقال: =
226
الدمن (١)، وهو اللزوم.
وقال ابن الأعرابي (٢): فلان نديم الخمر أي مدمن لها، والدمن ما اجتح في الدار وتلبد من الأبوال والأبعار، سمي بذلك للزومه، والدمنة: الحقد الكامن في الصدر اللازم، وهذا من المقلوب الذي يستعمل كل واحد من الأصل والمقلوب في معنى غير المعنى الآخر بعد أن يكونا يرجعان إلى أصل واحد.
وقوله تعالى: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ أي: بين الرؤساء والسفلة، ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾؛ لأنهم يجازون بشركهم.
٥٥ - قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ قال ابن عباس: يريد ما وعد لأوليائه من [الثواب والنعيم، وما أوعد أعداءه من] (٣) العذاب والخِزي والهوان، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، قال: يريد: المشركين (٤).
٥٧ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ يعني قريشًا (٥) {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ
= المنادمة مقلوبة من المدامنة؛ لأنه يدمن شرب الشراب من نديمه؛ لأن القلب في كلامهم كثير كالقسي من القووس، وجذب وجبذ، وما أطيبه وأيطبه... إلخ. "لسان العرب" (ندم) ٧/ ٤٣٨٦.
(١) قال الأزهري: دمّن فلان فناء فلان: إذا غشيه ولزمه، ومدمن الخمر: الذي لا يقلع عن شربها، واشتقاقه من دمن البعر. "تهذيب اللغة" (دمن) ٣/ ١٤٢٨.
(٢) في (م): (ابن الأنباري).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٤) ذكره مختصرًا ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٤٠، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٠.
(٥) هذا التخصيص من رواية ابن عباس التي اعتمدها المؤلف. انظر: "الوسيط" ٢/ ٥٥٠، "زاد المسير" ٤/ ٤٠، وقد ذهب إلى هذا التخصيص =
مِنْ رَبِّكُمْ} يريد القرآن وما فيه، ومعنى الموعظة: الإبانة عما يدعو إلي الصلاح بطريق الرغبة والرهبة، والقرآن داع إلى كل صلاح بهذا الطريق.
وقوله تعالى: ﴿وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ أي: دواء لداء الجهل، وذلك أن داء الجهل أضر للقلب من داء المرض للبدن، فالمزيل له أجلّ شفاء وأعظمه موقعًا، والقرآن بحمد الله مزيل للجهل، وكاشف لعمى القلب ﴿وَهُدًى﴾ وبيان من الضلالة ﴿وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، قال ابن عباس: ونعمة من الله لأصحاب محمد (١) - ﷺ - (٢).
٥٨ - قوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ﴾ الآية، قال أبو علي: الجار في قوله: ﴿بِفَضْلِ اللَّهِ﴾ متعلق بمضمر استغني عن ذكره لدلالة ما تقدم من قوله: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ﴾ عليه، كما أن قوله: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾ [يونس: ٩١] يتعلق الظرف فيه بمضمر يدل عليه ما تقدم ذكره من الفعل، وكذلك قوله: ﴿آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ (٣) [يونس: ٥١] معناه الآن تؤمنون، ودل عليه: ﴿أَثُمَّ إِذاَ مَا وَقَعَءَامَنُم﴾ [يونس: ٥١]، ونحو هذا قال ابن الأنباري، فقال (٤): (الباء الأولى في الآية خبر لاسم مضمر، وتأويله:
= أيضًا السمرقندي ٢/ ١٠٢، والقرطبي ٨/ ٣٥٣، والأصل بقاء الخطاب على عمومه، وإلى ذلك ذهب ابن جرير ١١/ ١٢٤، وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٧/ ١٦٧: هذه آية خوطب بها جميع العالم.
(١) القرآن نعمة لأصحاب محمد ولمن جاء بعدهم مؤمنًا إلى يوم القيامة، فلا وجه لهذا الحصر والتخصيص، وقد أشار الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٤٦٩ إلى هذا التخصيص تفسيرًا لقراءة زيد بن ثابت (فبذلك فلتفرحوا) بالتاء، وسيأتي.
(٢) "الوسيط" ٢/ ٥٥٠.
(٣) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٨٠.
(٤) هكذا في جميع النسخ.
228
هذا الشفاء وهذه الموعظة بفضل الله، خذف الاسم وأبقى خبره) (١).
ومعنى الإضافة في قوله: ﴿بِفَضْلِ اللَّهِ﴾، قال بعض أهل المعاني: الفضل هاهنا موضع الإفضال، كما أن النبات في موضع الإنبات في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾ [نوح: ١٧]، والمعنى بإفضال الله (٢)، ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى الملك، كما يضاف العبد إلى الله بمعنى أن مالك له.
وقوله تعالى: ﴿وَبِرَحْمَتِهِ﴾ أعاد الجار على الأصل كقوله (٣):
يا دار عفراء ودار البَخْدَنِ
وكقولهم: مررت بأخيك وبأبيك، وهذا مما سبق بيانه قديمًا، ومعنى الآية على ما ذكرنا: جاءتكم هذه الموعظة وهذا الشفاء -ويعني به القرآن- بإفضال الله عليكم، وإرادته الخير بكم، ثم قال: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ أشار بذلك إلى القرآن؛ لأن المراد بالموعظة والشفاء القرآن، فترك اللفظ وأشار إلى المعنى. وقال ابن الأنباري: (ذلك) إشارة إلى معنى الفضل والرحمة، تلخيصه: بذلك التطول (٤) فليفرحوا (٥).
قال أبو علي: الجار في قوله ﴿فَبِذَلِكَ﴾ متعلق بـ (ليفرحوا)؛ لأن هذا
(١) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٤١.
(٢) لم أقف عليه عند أهل المعاني، وقد ذكره مختصرًا في "تفسيره" ٢/ ٢٩٨.
(٣) البيت لرؤبة في "ديوانه" ص ١٦١، وبعده:
بك المها من مطفل ومشدن
وكتاب سيبويه ٢/ ١٨٨، و"المحكم" ٥/ ٣٤٣، و"اللسان" (بخدن) و"الجمهرة" (١١١٦).
(٤) في (ج): (التطويل)، وهو خطأ، والتطول: التفضل. انظر: "القاموس المحيط" (طول) ص ١٠٢٦.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٤١.
229
الفعل يصل به، يقال: فرحت بكذا، والفاء في قوله: ﴿فَلْيَفْرَحُوا﴾ زيادة (١) كقول الشاعر (٢):
وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
والفاء في (فاجزعي) زيادة، كما كانت التي في قوله: ﴿فَلْيَفْرَحُوا﴾ كذلك (٣)، هذا الذي ذكرنا مذهب النحويين في هذه الآية (٤).
ومذهب المفسرين غير هذا، فإن ابن عباس (٥)، والحسن (٦)،
(١) زيادة المبني تدل على زيادة المعنى، وليس في القرآن زيادة لا فائدة لها، ولعل أبا علي وسائر النحويين يقصدون بالزيادة عدم تأثير حذف ما قيل بزيادته من الناحية الإعرابية، وقال الزركشي: ومعنى كونه زائدًا أن أصل المعنى حاصل بدونه دون التأكيد، فبوجوده حصل فائدة التأكيد، والواضع الحكيم لا يضع الشيء إلا لفائدة. "البرهان في علوم القرآن" ١/ ٧٤.
(٢) هو النمر بن تولب، وصدر البيت:
لا تجزعي إن منفسًا أهلكته
انظر: "ديوانه" ص ٧٢، "خزانة الأدب" ١/ ٣١٤، "شرح أبيات سيبويه" ١/ ١٦٠، "كتاب سيبويه" ١/ ١٣٤، والمنفس: الشيء النفيس. والشاعر يخاطب امرأته لما لامته على إنفاق ماله على ضيوفه. انظر: "الخزانة"، شرح الأبيات نفس الموضعين السابقين.
(٣) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٨١ بتصرف.
(٤) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٦٥، "البحر المحيط" ٥/ ١٧١ - ١٧٢، "الدر المصون" ٦/ ٢٢٤.
(٥) رواه عنه ابن جرير ١١/ ١٢٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٥٩، وهو صحيح من رواية ابن أبي طلحة.
(٦) رواه عبد الرازق في "تفسيره" ٢/ ٢/ ٢٩٦، وابن جرير ١١/ ١٢٥، وذكره ابن أبي حاتم ٦/ ١٩٥٩ بغير سند.
230
وقتادة (١)، ومجاهدًا (٢)، وغيرهم (٣)، قالوا: فضل الله: الإسلام، ورحمته القرآن.
وقال أبو سعيد الخدري: فضل الله: القرآن، ورحمته أن جعلهم من أهله (٤)، وعلى هذا: الباء في ﴿بِفَضْلِ اللَّهِ﴾ تتعلق بمحذوف يفسره ما بعده، كأنه قيل: قل (٥) فليفرحوا بفضل الله وبرحمته.
[وقوله تعالى: ﴿فبَذَلِك﴾، قال الزجاج: هو بدل من قوله: ﴿بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ﴾] (٦).
وقال صاحب النظم: قوله: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ﴾ يقتضي جوابًا فلم يجىء حين قال مبتدئًا: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾، وأكثر ما يجيء أن يكون المبتدأ مجملاً، ثم تجيء الترجمة والبيان بعد، وهاهنا جاءت الترجمة قبل، وجاء الإجمال بعد البيان؛ لأن قوله: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ﴾ معروف ما هما، فلو قال نسقًا عليه ﴿فَلْيَفْرَحُوا﴾ لكان تامًّا مفهومًا، فلما قال: (فبذلك) أجمل به ما تقدم من الترجمة؛ لأن قوله (ذلك) يحمل ما قبله قلّ أم كثر، ذكرًا كان أم أنثى، واحداً كان أم اثنين، كما قال تعالى: ﴿لَا فَارِضٌ﴾
(١) رواه ابن جرير ١١/ ١٢٥، والثعلبي ٧/ ١٧ أ، والبغوي ٤/ ١٣٨.
(٢) المصادر السابقة، نفس المواضع.
(٣) منهم هلال بن يساف وزيد بن أسلم وابنه وأبو العالية وسالم بن أبي الجعد
والضحاك والربيع بن أنس، كما في "تفسير ابن أبي حاتم" ٦/ ١٩٥٩.
(٤) رواه ابن جرير ١١/ ١٢٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٥٨، وذكره بغير سند السمرقندي ٢/ ١٠٢، والثعلبي ٧/ ١٧ أ، والبغوي ٤/ ١٣٨، وابن الجوزي ٤/ ٤٠.
(٥) ساقط من (ى).
(٦) ما بين المعقوفين (ى)، وانظر قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥.
231
وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: ٦٨] أي بين البكر والفارض (١).
وقوله تعالى: ﴿فَلْيَفْرَحُوا﴾ هو أمر للمؤمنين بالفرح.
ومعنى الفرح: لذة في القلب بإدراك المحبوب ونيل المشتهى، يقول: ليفرح المؤمنون بفضل الله ورحمته، فإن ما آتاهم الله من الموعظة وشفاء ما في الصدور، وثلج اليقين بالإيمان، وسكون النفس إليه، خير مما يجمع غيرهم من أعراض الدنيا مع فقد هذه الخلال.
فإن قيل: كيف جاء الأمر للمؤمنين (٢) بالفرح (٣) وقد ذم ذلك في غير (٤) موضع من التنزيل؛ من ذلك قوله: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: ٧٦]، وقوله: ﴿إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ [هود: ١٠]؟
قيل: إن عامة ما جاء مقترنًا بالذم من هذه اللفظة إذا جاءت مطلقة، فإذا قيد (٥) لم يكن ذمًا، كقوله: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [آل عمران: ١٧٠]، وقد قيد في هذه الآية بقوله تعالى: (بذلك).
وقوله: ﴿فَلْيَفْرَحُوا﴾ بالياء، قال الفراء: وقد ذُكر عن زيد بن ثابت أنه قرأ بالتاء (٦)، وقال: معناه: فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد - ﷺ -، هو
(١) الفارض: المسنة الهرمة. انظر: "تفسير ابن جرير" ١/ ٣٤١، ٣٤٢، ٢٤٣، "القاموس المحيط" فصل: الفاء، باب: الضاد ٦٥٠.
(٢) في (م): (المؤمن).
(٣) ساقط من (م).
(٤) ساقط من (ح) و (ز).
(٥) في (ى): (قيل)، وهو خطأ.
(٦) وهي قراءة رويس عن يعقوب -من العشرة- والحسن البصري وغيرهما. انظر: "الغاية في القراءات العشرة" ص ١٧١، "النشر" ٢/ ٢٨٥، "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٥٢، "المحتسب"١/ ٣١٣، وذِكْرها في السواد وهْمٌ من ابن جني.
232
خير مما يجمع الكفار، قال: وقوى هذه القراءة قراءةُ أُبيّ (فبذلك فافرحوا) (١)، والأصل في الأمر للمخاطب والغائب اللام، نحو: لتقم يا زيد، وليقم زيد، يدل على هذا أن حكم الأمرين واحد، إلا أن العرب حذفت (٢) اللام من فعل المأمور المواجه (٣) لكثرة استعماله، وحذفوا التاء أيضًا وأدخلوا ألف الوصل، نحو: اضرب واقتل؛ ليقع الابتداء به، كما قالوا (٤): ﴿ادَّارَكُوا﴾ [الأعراف: ٣٨]، و ﴿اثَّاقَلْتُمْ﴾ [التوبة: ٣٨]، وكان الكسائي يعيب قولهم: فلتفرحوا؛ لأنه وجده قليلاً فوجده (٥) عيبًا، وهو الأصل، ولقد سُمع عن النبي - ﷺ - أنه قال في بعض المشاهد: "لتأخذوا مصافكم" (٦)
(١) ذكرها عنه أبو جعفر النحاس في "إعراب القرآن" ٢/ ٦٥، وأبو علي الفارسي في "الحجة" ٤/ ٢٨٢، وابن جني في "المحتسب" ١/ ٣١٣، وهي قراءة شاذة مخالفة لرسم المصحف.
(٢) في (ى): (حدثت)، وهو خطأ.
(٣) يعني الحاضر الذي يوجّه له الخطاب.
(٤) هكذا في جميع النسخ، وفي "معاني القرآن": (قال)؛ لأن القول المذكور من القرآن، ولعل الواحدي لم يرد ذلك.
(٥) هكذا في جميع النسخ، وفي "معاني القرآن" فجعله، وهو أصوب.
(٦) لم أجده مسندًا، وقال الزيلعي في "تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف" ٢/ ١٢٧: غريب، ولم يذكر له مخرجًا، وقد ذكره بغير سند الفراء في "المعاني" ١/ ٤٧٠، والزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٢٤٢، والقرطبي ٨/ ٣٥٤، وأبو حيان في "البحر" ٥/ ١٧٢، وروى معناه في الصلاة الترمذي (٣٢٣٥) في التفسير سورة ص، وأحمد ٥/ ٢٤٣، ولفظهما: على مصافكم كما أنتم، ولا شاهد فيه بهذا اللفظ، ويشهد لهذا الحديث من الناحية اللغوية قول الرسول - ﷺ -: "لتأخذوا مناسككم" رواه مسلم (١٢٩٧) في الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، قال المحقق: هذه اللام لام الأمر، ومعناه: خذوا مناسككم.
233
يريد به خذوا (١)، هذا كلام الفراء مع زيادة شرح لابن الأنباري.
قال أبو علي: اللام إنما تدخل عل فعل الغائب؛ لأن المواجهة (٢) استغني فيه عن اللام بقولهم: افعل، فصار مشبهًا للماضي في (يدع) الذي استغني عنه بـ (ترك)، ولو قلت: (فلتفرحوا) فألحقت التاء لكنت مستعملاً لما هو كالمرفوض وإن كان الأصل، فلا تُرجِّح القراءة بالتاء أن ذلك هو الأصل، لما قد ترى كثيراً من الأصول المرفوضة، وحجة من قرأ بالتاء أنه اعتبر الخطاب وهو قوله: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ﴾ [يونس: ٥٧]، وقرئ (تجمعون) بالتاء (٣) أيضًا، ووجه قول من قرأ ذلك أنه عني المخاطبين والغُيَّب جميعا، إلا أنه غلّب المخاطب على الغائب كما يغلب التذكير على التأنيث، وكأنه أراد المؤمنين وغيرهم (٤).
٥٩ - قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ﴾ قال المفسرون: الخطاب في هذه الآية لكفار مكة (٥) و (ما) هاهنا فيه وجهان، أحدهما: أن يكون بمعنى: الذي، فينتصب بـ (رأيتم)، والآخر: أن يكون بمعنى: أي، في الاستفهام، فينتصب بـ (أنزل) وهو قول الزجاج؛ لأنه
(١) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٧٠، وقد أشار المؤلف إلى انه أدخل فيه كلام ابن الأنباري.
(٢) هكذا في جميع النسخ، وهو كذلك في إحدى نسخ "الحجة"، كما بين ذلك المحقق، لكنه اعتمد لفظ: المواجه، وهو أجدر بالسياق.
(٣) هي قراءة ابن عامر وأبي جعفر ورويس عن يعقوب.
انظر: "الغاية" ص ١٧١، "النشر" ٢/ ٢٨٥، "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٥٢.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٨٢ بتصرف.
(٥) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٢٧١، والثعلبي ٧/ ١٧ ب، والبغوي ٤/ ١٣٨.
234
قال: (ما) في موضع نصب بـ (أنزل) (١)، ومعنى (أنزل) هاهنا: خلق وأنشأ، كقوله: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر: ٦] وقد مرّ، وجاز أن يعبر عن الخلق بالإنزال؛ لأن كل ما في الأرض من رزق فمما أنزل من السماء (٢)، من ضرع وزرع وغيره، فلما كان إيجاده بالإنزال سمي إنزالاً، كقوله:
تعلّى الندى في متنه وتحدرا (٣)
يعني الشحم، سماه ندى؛ لأنه بالندى يكون النبات، وبالنبات يكون الشحم، وقوله تعالى: ﴿فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا﴾، قال ابن عباس والحسن
(١) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٥.
(٢) يعني أمر الله تعالى وتقديره، كما في قوله: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: ٢٢]، وهو ظاهر سياق كلام المؤلف، ويجوز أن يكون المراد المطر، قال القرطبي ٨/ ٣٥٥: فيجوز أن يعبر عن الخلق بالإنزال؛ لأن الذي في الأرض من الرزق إنما هو بما ينزل من السماء من المطر.
وانظر نحوه في: "تفسير الرازي" ١٧/ ١١٩، "الدر المصون" ٦/ ٢٢٧.
(٣) عجز بيت وصدره:
كثور العداب الفرد يضربه الندى
والبيت لعمرو بن أحمر الباهلي كما في "ديوانه" ص ٨٤، "أدب الكاتب" ص ٧٦، "الاقتضاب" ص ٣١٩، "لسان العرب" (ندى) ٥/ ٤٣٨٧، والبيت بلا نسبة في: "الصحاح" (ندى)، "تهذيب اللغة" (ندى)، "المخصص" ١٥/ ١٣١.
والعداب: منقطع الرمل ومسترقه، والفرد: منتمطع النظير الذي لا مثيل له في جودته أو عظمته، والندى الأولى: المطر، والثانية: الشحم.
والشاعر يصف ناقته القصواء التي أعدها للهرب عند الخوف، ويقول بأنها صارت كثور وحشي في موقع مخصب بعيد عن الناس. انظر: "الاقتضاب في شرح أدب الكتاب" ص٣١٩، "لسان العرب" (عدب) و (فرد) و (ندي).
235
ومجاهد: يعني ما حرموا من الحرث والأنعام لآلهتهم من البحائر والسوائب (١)، وهو ما ذكر في سورة الأنعام في قوله: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ﴾ [الأنعام: ١٣٦] الآية، وقوله تعالى: ﴿قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾ أي: في هذا التحريم والتحليل؛ وذلك أنهم كانوا يقولون: الله (٢) أمرنا بها. ثم قال: ﴿أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ بمعنى: بل على الله تفترون، تقولون على الله الكذب.
قال أبو علي: (قل) في قوله: ﴿قُلْ آللَّهُ﴾ توكيد؛ لأن ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ بمعنى (٣) أخبروني، والاستفهام في قوله: في موضع المفعول الثاني [وإذا
(١) البحائر والسوائب: جمع بحيرة وسائبة، وهما مما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من أنعامهم، أما كيفية ذلك فقد اختلف فيه اختلافا كثيراً، فقال الزجاج: أثبت ما روينا في تفسير هذه الأسماء عن أهل اللغة، البحيرة: ناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرًا بحروا أذنها -أي شقوها- وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولا تطرد عن ماء، ولا تمنع من مرعى، وإذا لقيها المعيي لم يركبها.
والسائبة: كان الرجل إذا نذر لقدوم من سفر أو برء من علة أو ما أشبه ذلك، قال: ناقتي هذه سائبة، فكانت كالبحيرة في أن لا يتفع بها، وأن لا تجلى عن ماء، ولا تمنع من مرعى. "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٢١٣.
وقيل السائبة: أم البحيرة، كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا الضيف وشقت أذن بنتها الأخيرة وسميت البحيرة، وهي بمنزلة أمها في أنها سائبة، وثمة أقوال أخرى، انظر: "الصحاح"، "لسان العرب" (سيب) و (بحر). قال الطبري: أما كيفية عمل القوم في ذلك، فما لا علم لنا به، وقد وردت الأخبار بوصف عملهم ذلك على ما قد حكينا، وغير ضائر الجهل بذلك إذا كان المراد من علمه المحتاج إليه، موصولاً إلى حقيقته، وهو أن القوم كانوا يحرمون من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله. "الطبري" ١١/ ١٢٧.
(٢) لفظ الجلاله لم يكتب في (ى).
(٣) ساقط من (ح) و (ز).
236
كان كذلك لزم أن يكون (قل) تكريرًا؛ ليقع الاستفهام بعدها في موضع المفعول الثاني] (١)، ومثله في التوكيد والاعتراض بين المفعول الأول والثاني، قوله (٢): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾ (٣) [الأحقاف: ٤] ونذكر الكلام فيه إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى (٤).
٦٠ - قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ الظرف متعلق بالظن على معنى: ما ظنهم في ذلك اليوم؟ وهو استفهام تقريع وتوبيخ، قال مقاتل: وما ظن الذين يتقولون على الله الكذب بأن الله أمرهم بتحريمه (٥) يوم القيامة إذا لقوه (٦)؟
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾، قال ابن عباس: يريد: أهل مكة حين جعلهم في أمن وحرم (٧) كما قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٢) ساقط من (م).
(٣) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "المسائل الحلبيات" ص ٧٦ بتصرف واختصار.
(٤) أحال في هذا الموضع إلى سورة فاطر وقال هناك ٤/ ١٧٧ أ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ﴾ الآية، قال أبو إسحاق: معناه: أخبروني عن شركائكم، ﴿مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾ قال أبو علي: قوله: ﴿مَاذَا خَلَقُوا﴾ في موضع نصب، وقال مقاتل: ﴿مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾ كما خلق الله آدم إن كانوا آلهة، قال الفراء: أي أنهم لم يخلقوا شيئًا، فعلى هذا (من) بمعنى (في).
(٥) في (م): (بتكذيبه)، وهو خطأ.
(٦) "الوسيط" ٢/ ٥٥١، ولفظه في "تفسير مقاتل" ١٤١ ب: ﴿وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ﴾ في الدنيا، ﴿عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ فزعموا أن له شريكًا ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.
(٧) "الوجيز" ٧/ ١٧١، ولا دليل على هذا التخصيص، والأصل بقاء اللفظ على عمومه.
حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: ٦٧]، وقال: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾ [القصص: ٥٧].
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ﴾، قال: يريد: لا يوحدون ولا يطيعون (١)، وقال مقاتل: إن الله لذو فضل على الناس، حين لا يعجل عليهم بعقوبة افترائهم (٢)، وقوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ﴾ تأخير العذاب عنهم (٣).
٦١ - وقوله: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ﴾ الآية، قال الفراء: (ما) هاهنا جحد لا موضع لها (٤)، والشأن: الخطب، والجمع الشؤون، والعرب تقول ما شأن فلان: أي: ما حاله.
قال الأخفش: وتقول ما شأنتُ شأنه أي: ما عملت عمله (٥).
وقال غيره: يقال: أتاني فلان وما شأنتُ شأنه، إذا لم تكترث له (٦)، ويقال: لأشأنن شأنهم، أي لأفسدن أمرهم (٧)، فالشأن اسم إذا كان بمعنى الخطب، وإذا كان بمعنى المصدر كان معناه القصد (٨)، والذي في هذه الآية يجوز أن يكون المراد به اسم الأمر وهو قول المفسرين (٩).
(١) "الوجيز" ٧/ ١٧١.
(٢) " تفسير مقاتل" ١٤١ ب بنحوه.
(٣) ساقط من (ى).
(٤) اهـ. كلام الفراء، "معاني القرآن" ١/ ٤٧٠.
(٥) "الكشف والبيان" ٧/ ١٨ أ، "تفسير الرازي" ١٧/ ١٢١، والقرطبي ٨/ ٣٥٦، ولم يذكره الأخفش في كتابه "معاني القرآن" كما لم أجد من أشار إليه من أهل اللغة.
(٦) هذا قول الأزهري، انظر: "تهذيب اللغة" (شأن) ٣/ ١٨١٤.
(٧) "الصحاح" (شأن) ٥/ ٢١٤٢.
(٨) في (م): (الفسد)، وهو خطأ.
(٩) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٧/ ١٢١، والسمرقندي ٢/ ١٠٣، والثعلبي ٧/ ١٨ أ.
238
قال ابن عباس: (وما تكون) يا محمد (في شأن) يريد من أعمال البر (١).
وقال الحسن: في شأن من شأن الدنيا، وحوائجك فيها (٢)، ويجوز أن يكون المراد به المصدر يعني قصد الشيء، قال الشاعر (٣):
يا طالب الجود [إن الجود] (٤) مكرمة لا البخل منك ولا من شأنك الجودا (٥)
أي ولا من قصدك الجود، وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ﴾ اختلفوا في الكناية في (منه)، فقيل: إنه كناية عن القرآن (٦)، على تأويل: وما تتلو من القرآن، أي من جميعه ﴿مِنْ قُرْآنٍ﴾ أي من (٧) شيء؛ لأن عامته قرآن وبعضه أيضاً قرآن، وقد سبق ذكر القرآن في معنى قوله: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ﴾ [يونس: ٥٨] والمعنى وما تتلو من القرآن من سورة.
وقال بعض أهل المعاني: ذكر القرآن بالإضمار ثم بالإظهار لتفخيم ذكره، على نحو قوله: ﴿إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (٨) [النمل: ٩]، وقد قيل: إن معناه من الله (٩)، أي ما تتلو من قرآن من الله، أي نازل منه، ويجوز أن
(١) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٧/ ١٢١.
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٧/ ١٢١، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥١.
(٣) "مقاييس اللغة" ٣/ ٢٣٨.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٥) في (م): (الجودُ)، والصواب ما أثبته إذ هو مفعول به للمصدر (شأن) الذي هو بمعنى القصد كما بينه المؤلف.
(٦) هذا قول ابن جرير ١١/ ١٢٩، واحد قولي الزمخشري في "كشافه" ٢/ ٢٤٢.
(٧) ساقط من (ح).
(٨) وقد اعتمد هذا القول الزمخشري ٢/ ٢٤٢، وانظر: "الدر المصون" ٦/ ٢٢٨.
(٩) هذا قول السمرقندي ٢/ ١٠٣، والثعلبي ٧/ ١٨ أ، والبغوي ٤/ ١٣٩، وهو القول الآخر للزمخشري ٢/ ٢٤٢.
239
يعود الضمير إلى الشأن (١)، كأنه قيل من الشأن من قرآن (٢)، أي وما تتلو فيما تعمل من شأنك من قرآن، وهذا الوجه اختيار الزجاج (٣)، وذكر صاحب النظم الأوجه الثلاثة.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ﴾، قال ابن عباس: خاطبه وأمته جميعًا (٤). قال ابن الأنباري: قوله: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو﴾ خطاب للنبي - ﷺ -، وأمته داخلون فيه، ومعنيون به، ومعروف عندهم أن يخاطب الرئيس والمراد هو وأتباعه إذ كان هو زعيمهم، يدل على هذا قوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [الطلاق: ١]، ثم جمع في قوله: ﴿وَلَا تَعْمَلُونَ﴾ ليدل على أنهم داخلون في الفعلين الأولين الذين أفردا (٥) لخطاب النبي - ﷺ - (٦).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا﴾، قال الفراء: يقول: الله شاهد على كل شيء، وهو كقوله: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] يقول: إلا هو شاهدهم (٧)، قال: وهو جمع (٨) ليس
(١) هذا قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦، وذكره عن الفراء أبو جعفر النحاس في "إعراب القرآن" ٢/ ٦٥، ومكي في "مشكل إعراب القرآن" ١/ ٣٤٨.
(٢) قال النحاس في "إعراب القرآن" ٢/ ٦٥ بعد ذكر قول الفراء: وهذا كلام يحتاج إلى شرح، يكون المعنى: وما تتلو من الشأن، أي من أجل الشأن، أي يحدث شأن فيتلى من أجله القرآن ليعلم كيف حكمه، أو ينزل فيه قرآن فيتلى.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦.
(٤) "الوجيز" ١/ ٥٠٢.
(٥) في (ى): (افردوا)، وهو خطأ.
(٦) ذكر بعض قول ابن الأنباري هذا ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٤٥، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٣.
(٧) "معاني القرآن" ١/ ٤٧٠.
(٨) ساقط من (ى).
240
بمصدر، والمعنى: إلا نعلمه فنجازيكم به (١).
وقوله تعالى: ﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾، معنى الإفاضة هاهنا: الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه، وهو الانبساط في العمل، قال ابن الأنباري: ﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ إذ تندفعون فيه وتنبسطون في ذكره، يقال: قد أفاض القوم في الحديث: إذا اندفعوا (٢) فيه، وقد أفاضوا من عرفة: إذا دفعوا منه بكثرتهم فتفرقوا (٣) (٤).
وقال الزجاج: إذ تنتشرون فيه، وأفاض القوم في الحديث: إذا انتشروا فيه (٥)، وهو قول ابن كيسان (٦).
وقال ابن عباس: يقول الله تعالى: شهدت ذلك منكم إذ تأخذون فيه (٧).
قال صاحب النظم: (إذ) هاهنا بمعنى حين، ولذلك جاز في المستقبل، والمعنى حين تفيضون فيه.
(١) لم يذكره الفراء في "معاني القرآن"، وقد ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٢.
(٢) في (ى): (انتشروا).
(٣) في (م): (فتعرفوا)، وفي (ح) و (ز): (فنفروا)، وأثبت ما في (ى) لأمرين:
أ- ما جاء في "تهذيب اللغة" (فاض) ونصه: كل ما في اللغة من باب الإفاضة فليس يكون إلا عن تفرق وكثرة.
ب- موافقته لـ"تفسير الرازي"، وهو كثير النقل من "البسيط".
(٤) ذكره مختصرًا البغوي ٤/ ١٣٩، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٢.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦.
(٦) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٨/ أ، والقرطبي ٨/ ٣٥٦.
(٧) رواه بمعناه مختصرًا ابن جرير ١١/ ١٢٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٦٢، والثعلبي ٧/ ١٨ أ، وذكره بلفظه مختصرًا المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٢.
241
وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ﴾ أي: وما يبعد وما يغيب، قاله ابن عباس (١)، وغيره (٢)، ومعنى العزوب (٣): ذهاب المعنى عن المعلوم، وأصله من البعد، ومنه (٤) يقال: كلأ عازب، إذا كان بعيد المطلب، وعزب الرجل بإبله: إذا راعها بعيدًا عن الحلة، لا يأوي إليهم، وعزب الشيء عن علمي: إذا بعد، وفيه لغتان: عَزَبَ يعزُب وعَزَبَ يَعْزِب (٥).
وقوله تعالى: ﴿مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾ أي وزن ذرة، ومثقال الشيء: ميزانه من مثله، والمعنى: ما يزن ذرة، والذر صغار النمل، واحدها ذرة (٦)، وهي خفيفة الوزن جدًّا، ﴿فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ﴾ ويقرآن بالرفع (٧)، قال الفراء: فمن نصبهما فإنما يريد الخفض يُتْبعهما المثقال أر الذرة، ومن رفعهما أتبعهما معنى المثقال؛ لأنك لو ألقيت من المثقال (من) كان رفعًا، وهو كقولك ما أتاني من أحد عاقلٍ (٨)،
(١) رواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٩٦٣، والثعلبي ٧/ ١٨ أ، وانظر كتاب "غريب القرآن" لابن عباس ص ٤٨.
(٢) انظر: "غريب القرآن" لليزيدي ص ١٧١، ولابن قتية ص ٢٠٣، "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٣١، "نزهة القلوب" للسجستاني ص ٤٩٨، "تفسير الثعلبي" ٧/ ١٨ أ.
(٣) في (ى): (العزب).
(٤) ساقط من (ى).
(٥) وقد قرأ الكسائي بكسر الزاي، وقرأ الباقون بضمها. انظر كتاب "السبعة" ص ٣٢٨، "الغاية" ص ١٧٢، "النشر" ٢/ ٢٨٥.
(٦) انظر: "لسان العرب" (ذرر) ٣/ ١٤٩٤، وفيه أيضًا في نفس الموضع: وقيل: الذرة ليس لها وزن، ويراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة.
(٧) قرأهما بالرفع حمزة ويعقوب وخلف، والباقون بالنصب. انظر المصادر السابقة، نفس المواضع.
(٨) في (ح): (واحد).
242
وعاقلٌ (١)، وكذلك قوله: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٥٩، ٦٥، ٧٣، ٨٥]، [هود: ٥٠، ٦١، ٨٤]، [المؤمنون: ٢٣، ٣٢] وغَيْرِهِ (٢). هذا كلامه (٣).
وشرحه أبو علي الفارسي فقال: من فتح الراء من ﴿وَلَا أَصْغَرَ﴾، ﴿وَلَا أَكْبَرَ﴾؛ فلأن (أفعل) في الموضعين في موضع جر؛ لأنه صفة للمجرور الذي هو (مثقال)، وإنما فتح لأن (أفعل) إذا اتصل به (من) كان صفة، [وإذا كان صفة] (٤) لم ينصرف في النكرة، ومن رفع حمله على موضع الموصوف، وذلك (٥) أن الموصوف الذي هو ﴿مِن مِّثقَالِ﴾ الجار والمجرور فيه في موضع رفع، كما كان (٦) في موضعه في قوله: ﴿كَفَى بِاللَّهِ﴾ (٧) [الرعد: ٤٣]، [الإسراء: ٩٦]، [العنكبوت، ٥٢] وقوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمي... بما لاقت.............. (٨)
(١) يعني بالجر والرفع، فجره باعتباره صفة لأحد، ورفعه باعتبار معنى (أحد) لأنك لو حذفت (من) لكان فاعلًا مرفوعًا.
(٢) قال الإمام ابن الجزري: قرأ أبو جعفر والكسائي (من إله غيره) بخفض الراء وكسر الهاء بعدها، والباقون بالرفع والضم حيث وقع. "تقريب النشر" ص ١١٥، وانظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٢٨٦.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤٧٠.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٥) في (م): (وقال)، وهو خطأ.
(٦) في "الحجة": (كانا).
(٧) وقد وردت أيضًا في مواضع كثيرة مسبوقة بالواو.
(٨) وعجزه بتمامه:
بما لاقت لبون بني زياد
والبيت لقيس بن زهير، كما في "الأغاني" ١٧/ ١٣١، "خزانة الأدب" ٨/ ٣٥٩، "شرح أبيات سيبويه" ١/ ٣٤٠، "شرح شواهد الشافية" ص ٤٠٨، "الخصائص" ١/ ٣٣٣.
وكان قيس هذا استاق إبل الربيع بن زياد العبسي وباعها بمكة؛ لأن الربيع كان قد أخذ منه درعًا ولم يردها عليه فقال قيس في ذلك قصيدة مطلعها هذا البيت.
243
فحمل الصفة على الموضع، ومما يجوز أن يكون محمولًا على الموضع قوله: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ وقوله: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون: ١٠]، وقول الشاعر:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا (١)
قال: وقد يجوز أن يعطف قوله: ﴿وَلَا أَصْغَرَ﴾ على ﴿ذَرَّةٍ﴾ فيكون التقدير: وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا مثقال أصغر، فإذا حمل على هذا لم يجز فيه إلا الجر؛ لأنه لا موضع للذرة غير لفظها كما كان لقوله: ﴿مِنْ مِثْقَالِ﴾ (٢) موضع غير لفظه، ولا يجوز على قراءة من قرأ بالرفع أن يكون معطوفًا على (ذرة) كما جاز في قراءة الباقين؛ لأنه إذا عطف على ﴿ذَرَّةٍ﴾ وجب أن يكون مجرورًا (٣)، وإنما فتح؛ لأنه لا ينصرف، وكذلك يكون على قول من عطفه على الجار الذي هو (من) (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، قال ابن عباس: يريد: اللوح المحفوظ (٥)، وذكرنا معنى إثبات الله الكائنات في اللوح المحفوظ عند
(١) عجز بيت وصدره:
معاوي إننا بشر فأَسْجِح
والبيت لعقبة أو عقيبة الأسدي كما في "خزانة الأدب" ٢/ ٢٦٠، "سر صناعة الإعراب" ١/ ١٣١، "شرح أبيات سيبويه" ١/ ٣٠٠، "شرح شواهد المغني" ٢/ ٨٧٠، "كتاب سيبويه" ١/ ٦٧، "لسان العرب" (غمز) ٦/ ٣٢٩٦.
ومعنى الإسجاح: حسن العفو والتسهيل. انظر: "لسان العرب" (سجح) (١٩٤٤).
(٢) في "الحجة": من مثقال ذرة.
(٣) في "الحجة": وجب أن يكون (أصغر) مجرورًا.
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٨٥ بتصرف.
(٥) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٤٣، والمؤلف "الوسيط" ٢/ ٥٥٢،=
244
قوله: ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٥٩] مشروحًا، وذكر أبو علي الجرجاني هاهنا فصلاً لابد من الوقوف عليه وهو أنه قال: قول: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا أَكْبَرَ﴾ كلام تام نفى الله عز وجل (١) به عن نفسه عزوب شيء من الأحداث، وهاهنا انقطاعه (٢)، وقوله تعالى: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ خبرآخر منقطع بما قبله؛ لأنه لو كان متصلًا بما قبله فيكون محققًا من قوله: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ﴾؛ وجب أن يكون قوله: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ﴾ نفيًا منتظرًا له تحقيق، وإذا كان النفي منتظرًا له التحقيق كان نفيًا (٣) إذا خلا من الحال التي تحقق ما قبلها، مثل قولك: ما ينام زيد إلا بجهد، وما يصبح عمرو إلا مريضًا، فأنت لم تنف النوم عن زيد ولا الإصباح عن عمرو، إلا بخلاف الحال التي حققت النوم والإصباح بها؛ لأن التأويل (هكذا ينام زيد، وهكذا يصبح عمرو)، فلو كان قوله: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ متصلًا بقوله: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ لوجب أن يكون قد عزب عن الله أو يعزب عنه مثقال ذرة وأصغر وأكبر (٤) منها إلا في الحال التي (٥) استثناها، وهو قوله: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ فيكون ما يعزب عنه من ذلك مستدركًا في الكتاب وفي هذا ما فيه، ونظيره من الكلام قول القائل (ما يغيب عني زيد إلا في بيته)، فالغيبة
= وبنحوه رواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عند تفسير آية الأنعام كما في "الدر المنثور" ٣/ ٢٩.
(١) ساقط من (ح) و (ز).
(٢) في (ى): (تحقيق).
(٣) ساقط من (ح) و (ز).
(٤) في (ي): (أو أكبر أو أصغر).
(٥) ساقط من (م).
245
واجبة بهذه الحال.
وإذا كان كان آخر الكلام منقطعًا من الأول لم يؤد (١) إلى هذا النوع من الفساد، فكأنه قال: لا يعزب عنه شيء في السماء ولا في الأرض لا صغيرًا ولا كبيرًا، وانقطع الكلام هاهنا ثم استأنف خبرًا آخر بقوله: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [أي: وهو أيضًا في كتاب مبين] (٢)، والعرب تضع (إلا) موضع واو النسق كثيراً على معنى الابتداء، كقوله تعالى: ﴿إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ [النمل: ١٠، ١١] يعني ومن ظلم، وقوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ (٣) [البقرة: ١٥٠] يعني: والذين ظلموا (٤). وهذا مذهب أبي عبيدة في تلك الآية (٥)، وقد ذكرنا في سورة البقرة ما احتج به من الأبيات (٦)، فقد ثبت أن (إلا) بمعنى واو النسق تستعمل، فقوله: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ معنى (إلا) هاهنا: واو النسق، وأضمر بعده (هو)، والعرب تضمر
(١) في (خ) و (ز): (يرد).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) وقد كتب نساخ (ح) و (ز) و (ى) و (ص) الآية هكذا: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ ﴿إلا الذين ظلموا﴾ وأسقط ناسخ (م) لفظ (للناس) ولا توجد آية بأحد هذين اللفظين، وفي قول الله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٦٥]، ودلالة السياق تدل على أن المؤلف أراد آية سورة البقرة وعندها ذكر أبو عبيدة مذهبه.
(٤) انظر قول أبي علي الجرجاني في "تفسير الرازي" ١٧/ ١٢٤، "الدر المصون" ٦/ ٢٣١ مختصرًا، وقال الرازي: هذا الوجه في غاية التعسف. اهـ. وقال السمين الحلبي: هذا الذي قاله الجرجاني ضعيف جدًا، ولم يثبت ذلك بدليل صحيح.
(٥) انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٦٠، وانظر أيضًا: "معاني القرآن" للأخفش ١/ ١٦٢ فهو يجيز أن تكون (إلا) بمنزلة الواو.
(٦) انظر النسخة الأزهرية ١/ ٩٧ أ.
246
(هو) وما يتصرف منه كقوله: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ [البقرة: ٥٨، الأعراف: ١٦١]، أي: هي حطة، وقوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ﴾ [النساء: ١٧١] أي: هم ثلاثة، ومما جاء من (١) مثل هذا النظم قوله: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ [الأنعام: ٥٩] إلى قوله: ﴿وَلَا يَابِسٍ﴾ فهذا تمام، ثم قال: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [المعنى: وهو في كتاب مبين] (٢) كهذه الآية سواء.
وذكر أبو إسحاق على قراءة من قرأ (ولا أصغرُ، ولا أكبرُ) رفعًا وجهًا للرفع سوى ما ذكرنا يستغنى فيه عن هذا التطويل الذي ذكره الجرجاني، وهو (٣) أنه قال: يجوز رفعه على الابتداء، فيكون المعنى وما أصغر من ذلك وما أكبر ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (٤)، فجعل ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ خبر المبتدأ، وهذا مستقيم، ولكن لا يستقيم هذا الوجه في قراءة من قرأ بالفتح وهو قراءة أكثر القراء (٥).
٦٢ - قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ الآية، الأولياء جمع الولي، وذكرنا معنى الولي في اللغة في سورة البقرة (٦)، فأما هؤلاء الذين ذكروا هاهنا فقال رسول الله - ﷺ - فيما روى
(١) ساقط من (ى).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من النسخ عدا (م).
(٣) في (ح) و (ز): (وهذا).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦ بمعناه.
(٥) سبق تخريج القراءة عند أول تفسير الجملة.
(٦) انظر: النسخة الأزهرية ١/ ١٥٤ ب، حيث قال في هذا الموضع: الولي: (فعيل) فهو وال وولي، وأصله من (الولْي) الذي هو القرب.. ومن هذا المعنى يقال للنصير المعاون المحب: ولي؛ لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ولا يفارقك.. فالولي في اللغة هو القريب من غير فصل، والله تعالى ولي المؤمنين، على معنى أنه يلي أمورهم، أي يتولاها... إلخ.
247
عنه الخدري: "هم الذين يُذكر الله لرؤيتهم" (١)، وروى عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس" ثم قرأ هذه الآية (٢).
وقال ابن كيسان: هم الذين تولى الله هديهم بالبرهان الذي أتاهم وتولوا القيام بحقه (٣)، وهذا تفسير على مقتضى اللغة.
(١) رواه بهذا اللفظ ابن المبارك في كتاب "الزهد" ١/ ٢٤٥، وابن جرير ١١/ ١٣١، ١٣٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٦٤، والثعلبي ٧/ ١٨ ب، والطبراني في "المعجم الكبير" (١٢٣٢٥)، وغيرهم متصلًا من حديث ابن عباس أو أبي مالك الأشعري، أو مرسلًا عن سعيد بن جبير عن النبي - ﷺ -. وله شاهد عند أحمد في "المسند" ٦/ ٤٥٩، وابن ماجه في "السنن" (٤١١٩)، كتاب الزهد، باب: من لا يؤبه له، من حديث أسماء بنت يزيد، وفي "سنده" شهر بن حوشب؛ قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" ص ٣٦٩ (٢٨٣٠): (صدوق كثير الإرسال والأوهام).
(٢) رواه أبو داود في "سننه" (٣٥٢٧) كتاب البيوع، باب: في الرهن، وهناد في كتاب "الزهد" ١/ ٥٦٤، وابن جرير ١١/ ١٣٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٦٣ - ١٩٦٤، وأبو نعيم في "الحلية" ١/ ٥، وفي سنده انقطاع، فإن أبا زرعة لم يسمع من عمر كما في "تفسير ابن كثير" ٢/ ٤٦٣، "تهذيب التهذيب" ٤/ ٥٢٣. وللحديث شاهد من حديث أبي مالك، أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" ١١/ ٢٠١، وأحمد في "المسند" ٥/ ٣٤١، ٣٤٣، والطبري في "تفسيره" ١١/ ١٣٢، والبغوي في "شرح السنة" ١٣/ ٥٠، وفي "تفسيره" ٤/ ١٤٠، وفي سنده شهر بن حوشب السالف الذكر. وكذلك له شاهد آخر من حديث ابن عمر، أخرجه الحاكم ٤/ ١٧٠، وصححه وأقره الذهبي. وله شاهد ثالث من حديث أبي هريرة، أخرج ابن حبان في "صحيحه" (الإحسان) ٢/ ٣٣٢ (٥٧٣)، ورجاله ثقات سوى عبد الرحمن بن صالح الأزدي فهو صدوق بتشيع، كما في "تقريب التهذيب" ص ٣٤٣ (٣٨٩٨).
(٣) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٧/ ١٩ أ.
248
وقال ابن زيد: هم الذين وصفوا فيما بعد ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ (١)، وهذا إذا جعلت (الذين) نعتًا للأولياء، فإن جعلت (الذين) مستأنفًا (٢) وجعلت الخبر (٣) قوله: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى﴾ لم يكن قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ نعتًا للأولياء.
قال ابن عباس: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هو يريد: الذين صدقوا النبي - ﷺ - وخافوا مقامهم بين يديّ (٤).
٦٣ - قوله تعالى: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾، روى عبادة بن الصامت وأبو الدرداء عن النبي - ﷺ - أنه قال في هذه الآية: "هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" (٥).
﴿وَفِي اَلأَخِرَةِ﴾ الجنة، يريد أن الرؤيا الصالحة بشرى للمسلم في الدنيا ويبشر في الآخرة بالجنة، وقال ابن عباس في رواية عطاء ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى
(١) رواه ابن جرير ١١/ ١٣٢.
(٢) في (م): (سابقًا)، وهو خطأ.
(٣) ساقط من (ى).
(٤) "الوسيط" ٢/ ٥٥٣.
(٥) روى حديث عبادة الإمام الترمذي في "سننه" (٢٢٧٥) كتاب الرؤيا، باب: قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، وابن ماجه (٣٨٩٨) كتاب تعبير الرؤيا، باب: الرؤيا الصالحة، والدارمي في "سننه" كتاب الرؤيا، ٢/ ١٦٥ (٢١٣٦)، وأحمد في "المسند" ٥/ ٣١٥، ٣٢١، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣٤٠، ٤/ ٣٩١، وصححه ووافقه الذهبي، وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ١٢/ ٣٧٥: رواته ثقات إلا أن أبا سلمة لم يسمعه من عبادة. وروى حديث أبي الدرداء الإمام الترمذي في الموضع السابق (٢٢٧٣) كتاب: الرؤيا، باب: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وحسنه، أحمد في "المسند" ٦/ ٤٤٥، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٦٦، والطبري ١١/ ١٣٣ - ١٣٤، وفي سنده من لم يسم.
249
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: يريد عند الموت، تأتيهم ملائكة الرحمة بالبشرى من الله ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾ يريد: عند خروج نفس المؤمن إذا خرجت يعرجون (١) بها إلى الله تزف كما تزف العروس تبشر برضوان الله (٢)، وهذا قول الزهري (٣)، وقتادة (٤)، والضحاك (٥) قالوا: هي بشارة الملائكة للمؤمن عند الموت.
وقال الحسن: هي ما بشرهم الله عز وجل به في كتابه من جنته وكريم ثوابه، في قوله: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٢٥]، ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب: ٤٧]، ﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ﴾ (٦) [فصلت: ٣٠]، وهذا اختيار الفراء (٧)، والزجاج (٨)، قالا: ويدل على صحة هذا قوله بعد هذا ﴿لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ (٩)، قال ابن عباس: يريد لا خلف لمواعيد الله، وذلك أن مواعيده بكلماته، فإذا لم تبدل كلماته بوضع غيرها بدلاً منها لم تبدل مواعيده (١٠).
(١) في (ى): (بغير حق)، وهو تصحيف.
(٢) رواه الثعلبي ٧/ ١٩ ب، والبغوي ٤/ ١٤١، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٣.
(٣) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٩٦، والطبري ١١/ ١٣٨، وابن أبي حاتم ٤/ ١٣٦ أ، والثعلبي ٧/ ١٩ ب، والبغوي ٤/ ١٤١.
(٤) المصادر السابقة، نفس المواضع.
(٥) المصادر السابقة عدا عبد الرزاق والبغوي، نفس المواضع.
(٦) رواه الثعلبي ٧/ ١٩ ب، والبغوي ٤/ ١٤١.
(٧) "معاني القرآن" ١/ ٤٧١، ولم يصرح باختياره، بل جوّز أن يكون المراد ذلك.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٦.
(٩) القول بنحوه للزجاج، وأما عبارة الفراء فنصها: ثم قال: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ أي الخلف لوعد الله.
(١٠) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٤٤، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٤.
250
٦٥ - قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾، قال ابن عباس: (تكذيبهم) (١). وقال الزجاج: أي: لا يحزنك إنكارهم وتكذيبهم وتظاهرهم عليك (٢).
وقال غيره من أهل المعاني: معنى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ التسلية عن قولهم الذي يؤذونه به (٣).
والنهي في اللفظ للقول، وإنما هو عن السبب المؤدي إلى التأذي بقولهم، ومثله (لا أرينك هاهنا) (٤) والمعنى لا تكن هاهنا فمن كان هاهنا رأيته، فكذلك لا تعبأ بقولهم فمن عبأ به آذاه.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾، قال الفراء: هذا استئناف، ولم يقولوا هم ذاك فيكون حكاية (٥).
وقال غيره: هذا استئناف بالتذكير (٦) لما ينفي الحزن، لا (٧) لأنها بعد القول (٨)؛ لأنها ليست حكايته عنهم (٩).
(١) انظر المصدرين السابقين، وبمعناه رواه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٦٣.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٧.
(٣) انظر نحو هذا القول في: "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٢٧، "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٣٠٤، "البحر المحيط" ٥/ ١٧٦.
(٤) ساقط من (ح).
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٤٧١.
(٦) في (ى): (زيادة أخلت بالمعنى ونص الجملة فيها: وقال غيره: هذا استئناف ويقولوا لهم ذاك بالتذكير اهـ. والناسخ أدخل في هذه الجملة شيئًا من الجملة السابقة.
(٧) لفظ: (لا) ساقط من (ز).
(٨) يعني أن الجملة ليست مقول القول الذي سبقها.
(٩) انظر نحو هذا القول في: "الكشاف" ٢/ ٢٤٣، "البحر المحيط" ٥/ ١٧٦.
ومعنى ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾، قال الزجاج: أي: إن الغلبة لله، وهو ناصرك وناصر دينك (١)، وقال غيره: العزة: القدرة على كل جبار بما لا يرام ولا يضام (٢)، والمعنى: إنه الذي يعزك حتى تصير أعز ممن ناوأك.
وليست هذه الآية مضادة لقوله: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: ٨]؛ لأن عزة الرسول والمؤمنين بالله فهي كلها لله.
وقوله تعالى: ﴿هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي: يسمع قولهم ويعلم ضميرهم فيجازيهم بما تقتضيه حالهم، ويدفع عنك شرهم، وهذه الآية بيان عما توجبه العزة لله من التسلي عن قول الجاهلين، وأذى المبطلين؛ لأنهم في سلطان الله حتى يعاملهم بما تقتضيه حالهم.
٦٦ - قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾، قال ابن عباس: يريد: لا ملك إلا لله في السموات ولا في الأرض (٣).
وقال الزجاج: أي: يفعل بهم وفيهم ما يشاء (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ﴾ ذكر أهل التفسير والمعاني في (ما) هاهنا قولين: أحدهما: أنه نفي وجحد كأنه قيل: وما يتبعون شركاء على الحقيقة؛ لأنهم يعدونها شركاء شفعاء لهم، وليست على ما يظنون، فإذن ما يتبعون شركاء.
الثاني: أن (ما) استفهام كأنه قيل: أي شيء يتبع الذين يدعون من
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٧.
(٢) انظر معنى هذا القول في: "مجمل اللغة" (عز) ٣/ ٦١٣، "المفردات في غريب القرآن" (عز) ص ٣٣٣.
(٣) "تنوير المقباس" ص ٢١٦ بمعناه من رواية الكلبي.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٧، وليس فيه لفظ: بهم.
252
دون الله شركاء؟ تقبيحًا (١) لفعلهم يعني أنهم ليسوا على شيء؛ لأن هذا الاستفهام معناه الإنكار (٢).
وذكر صاحب النظم في هذا قولين آخرين:
أحدهما: أن التأويل: وما يتبع الذين يَدْعُون من دون الله فيما يدعون من الشركاء من يجب اتباعه في ذلك من نبي دعاهم إلى ذلك فهم يتبعونه فيه، كما يقال في الكلام: فلان متبع وفلان مبتدع، والمتبع (٣) الذي يتبع السنة، فاعلم أنهم لا يتبعون [ولكن يبتدعون، فلما كف عن هذا البيان وأضمره، بَيَّنَ في قوله: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ] (٤) إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ أنّ اتباعهم فيما يدعون من دون الله إنما هو ظن وتخرص (٥)، فعلى هذا القول: الشركاء منصوبة بـ (يدعون) لا بـ (يتبع) ويكون مفعول (يتبع) محذوفًا على ما ذكر من التقدير (٦).
القول الثاني: أن قوله: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ﴾ تكرير لقوله: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ﴾
(١) في (ى): (تفخيمًا)، وهو خطأ.
(٢) انظر القولين في: "مشكل إعراب القرآن" ص ٣٤٨، "معالم التنزيل" ٤/ ١٤٢، "الكشاف" ٢/ ٢٤٤، "مفاتيح الغيب" ١٧/ ١٣٧، "التبيان في إعراب القرآن" ٥/ ١٧٦ - ١٧٧، "البحر المحيط" ٥/ ١٧٦ - ١٧٧، "الدر المصون" ٦/ ٢٣٥، واقتصر على القول الأول المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٤، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٤٥، وعلى الثاني "الطبري" ١١/ ١٣٩، و"السمرقندي" ٢/ ١٠٥، و"الثعلبي" ٧/ ٢٠ ب.
(٣) في (م): (فالمتبع).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٥) من (م) وفي غيرها: (تخريص).
(٦) في (ى): (التقدير الأول).
253
والتأويل (١): وما يتبع الذين يدعون شركاء من دون الله إلا الظن، أي: يتبعون الظن ويعملون به، فيكون قوله: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ﴾ مكررًا على قوله: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ﴾ و (ما) و (إن) الخفيفة جحدان معناهما واحد، ومثاله من الكلام: ما يأكل الذي يغصب ويظلم الناس ويأخذ أموالهم، إن يأكل إلا النار، فيكون قوله: إن يأكل، توكيدًا لقوله: ما يأكل، ومثل هذا من التكرير قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٠] النحل: ١١٠]، فكرر قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ [على قوله] (٢) ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ﴾ ولو لم يكرر الآخر لكان في الأول كفاية، وقوله تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ يريد: ظنهم أنها تشفع لهم يوم القيامة. ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ قال ابن عباس: يقولون ما لا يكون (٣)، وذكرنا معنى الخرص في سورة الأنعام عند قوله: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ (٤).
٦٧ - قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ﴾ أي خلق، وذكرنا معنى الجعل عند قوله: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾ (٥) [المائدة: ١٠٣].
(١) ساقط من (ى).
(٢) ساقط من (ى).
(٣) "تنوير المقباس" ص ٢١٦ بلفظ: يكذبون للسفلة، وفي كتاب "غريب القرآن" لابن عباس: (يخرصون) يكذبون بلغة هذيل. وانظر: "زاد المسير" ٤/ ٤٦، وفي "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٢٠٤: (يخرصون) يحدسون ويحزرون اهـ. وبكلا المعنيين جاءت اللغة كما في "لسان العرب" (خرص) ٢/ ١١٣٣.
(٤) من الآية ١٤٨.
(٥) قال في هذا الموضع: وأما (جعل) فلها أحوال منها: جعل: صير، ومنها جعل: أوجب، ومنها جعل: خلق، ومنها جعل: صلة لما بعده، مثل: جعل يعرفه، نحو طفق وأنشأ وأقبل، كل منها صلة لما بعده من الفعل.
254
وقوله تعالي: ﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾، قال ابن عباس: يقول جعلت الليل راحة لكم لتسكنوا فيه مع أزواجكم وأولادكم (١).
وقال أهل المعاني: جعل الليل ليزول التعب والكلال بالسكون فيه، وجعل النهار مبصرًا: أي: مضيئًا لتهتدوا به في حوائجكم بالإبصار، والمبصر الذي يبصر، والنهار يبصر فيه وإنما جعله مبصرًا على طريق استعارة صفة الشيء لسببه للمبالغة (٢)، كما قال جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى (٣) ونمت وما ليل المطي بنائم (٤)
وقال رؤبة:
فنام ليلي وتجلى همي (٥)
ومثله قوله: ﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ [إبراهيم: ١٨]، وذكرنا الكلام هناك بأبسط من هذا (٦).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ يريد: يسمعون
(١) "تنوير المقباس" ص ٢١٦ بمعناه مختصرًا.
(٢) لم أقف عليه عند أهل المعاني، وقد ذكره من غير نسبة الرازي في "تفسيره" ١٧/ ١٣١.
(٣) في (خ) و (ز): (بالسرى).
(٤) "ديوان جرير" ص ٩٩٣، "خزانة الأدب" ١/ ٤٦٥، "كتاب سيبويه" ١/ ١٦٠.
(٥) البيت في "ديوان رؤبة" ص ١٤٢، وفيه: وتقضى همي.
(٦) قال في هذا الموضع: قال الفراء: جعل العصوف تابعًا لليوم في إغوائه، وإنما العصوف للرياح، وذلك جائز على وجهين، أحدهما: أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم قد يوصف به؛ لأن الريح تكون فيه، وقال أبو عبيدة: العرب تفعل ذلك في الظرف، قال الفراء: الوجه الآخر: أن يريد: في يوم عاصف الريح، فيحذف الريح؛ لأنها قد ذكرت في أول الكلام.
255
سماع اعتبار، أنه مما لا يقدر عليه إلا عالم قاصد مدبر لهما، وأنه نعمة على العباد بما لهم فيه من الانتفاع والصلاح.
٦٨ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾، قال ابن عباس والمفسرون: يعني: زَعَم المشركون أن الملائكة بنات الله (١)، قال الكلبي: نزلت في أهل مكة، وهذه مقالتهم (٢)، ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تعظيمًا له وتنزيهًا عما قالوا: ﴿هُوَ الْغَنِيُّ﴾، قال ابن عباس: الغني أن تكون له زوجة أو ولد (٣).
وقوله تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [هذا كقوله: (سبحانه أن يكون (له ولد) (٤) له ما في السموات وما في الأرض)] (٥) [النساء: ١٧١] وقد مر.
قوله: ﴿إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ ما عندكم من (٦) حجة بهذا.
٦٩ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾، قال ابن عباس: يريد لا يسعدون (٧).
(١) ذكره عن ابن عباس بنحوه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٤٧، والفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٦، وهو قول ابن جرير ١١/ ١٤٠، والسمرقندي ٢/ ١٠٥، والثعلبي ٧/ ٢٠ ب، والبغوي ٤/ ١٤٢ وغيرهم.
(٢) "تنوير المقباس" ص ٢١٦ بنحوه عنه، عن ابن عباس.
(٣) " تنوير المقباس" ص ٢١٦ بنحوه، وذكره من غير نسبة المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٤، "الوجيز" ٧/ ١٨٢، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٤٧.
(٤) ساقط من جميع النسخ عدا (م).
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٦) ساقط من (ح) و (ز).
(٧) "تنوير المقباس" ص ٢١٦ بمعناه، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٤٧ دون تعيين القائل.
256
قال أهل المعاني: إنهم لا يفلحون وإن اغتروا بطول السلامة والمظاهرة في النعمة، قال الزجاج: هذا وقف التمام (١) (٢)، ثم قال: ﴿مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا﴾ وارتفاعه على أنه خبر ابتداء محذوف، قال الزجاج: يعني: ذلك متاع في الدنيا (٣)، وقال الفراء: ومثله التي في النحل ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ (٤)، وقوله: ﴿لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ﴾ [الأحقاف: ٣٥] كله مرفوع بشيء مضمر قبله إما (هو) وإما (ذاك) (٥).
وقال الأخفش: المعنى: لهم متاع (٦) (٧)، وإضمار (لهم) هاهنا أظهر وأكشف للمعنى من إضمار (هو) أو (ذاك)؛ لأنه لم يتقدم ما يضمر أو ما (٨) يشار إليه، والمعنى: لهم متاع في الدنيا يتمتعون به أيامًا يسيرة، ثم إلينا مرجعهم، ودل (٩) على هذا المحذوف ما هو معلوم (١٠) من حالهم.
(١) في (م): (وهذا وقف للتمام)، وما أثبته موافق للمصدر.
(٢) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٧.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٧، وعبارة الزجاج: متاع في الدنيا، مرفوع على معنى: ذلك... إلخ.
(٤) الآية ١١٧.
(٥) "معاني القرآن" ١/ ٤٧٢.
(٦) في (ى): (عذاب)، وهو خطأ.
(٧) "الكشف والبيان" ٧/ ٢١ أ، "الجامع لأحكام القرآن" ٨/ ٣٦١، ولم يفسر الأخفش هذه الآية في كتابه "معاني القرآن"، وقد فسر الآية رقم (٢٣) من هذه السورة على قراءة الجمهور فقال: وقال: ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي: وذلك متاعُ الحياة الدنيا، أو أراد: متاعكم متاعُ الحياة الدنيا. كتاب "معاني القرآن" له ١/ ٣٧١.
(٨) لفظ: (ما) ساقط من (ى).
(٩) في (ح) و (ز): (وقيل)، وهو خطأ.
(١٠) ساقط من (ح).
257
وقال صاحب النظم: افتراؤهم متاع في الدنيا، ودل ﴿يَفْتَرُونَ﴾ علي الافتراء، كما قال: ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧] فكنى عن الشكر؛ لأن ﴿تَشْكُرُوا﴾ دلّ عليه. وعلى ما ذكره (١) يجوز أن يعود ما أضمره الفراء والزجاج من قولهما (هو) أو (ذاك) (٢) إلى الافتراء الذي دل عليه ﴿يَفْتَرُونَ﴾.
وقوله: ﴿ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ﴾، قال ابن عباس: الغليظ: الذي لا ينقطع (٣)، ﴿بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾، قال: يريد: بنعم الله ويجحدون ربوبيته (٤).
٧١ - قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي﴾ الآية، قال: كَبِرَ يكبَر كِبَرًا في السنن، وكَبُر الأمر والشيء: إذا عظم يَكْبُر كِبَرًا وكَبَارة (٥).
قال ابن عباس: يريد ثقل عليكم (٦)، ومعناه شق عليكم، وعظم أمره عندكم.
والمقام -بضم الميم-: مصدر كالإقامة، يقال: أقام بين أظهركم
(١) يعني الجرجاني صاحب النظم.
(٢) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ٢٧، "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٧٢، ولم يقدر الزجاج لفظ (هو).
(٣) "تنوير المقباس" ص ٢٠٦ مختصرًا.
(٤) في المصدر السابق، نفس الموضع: "بما كانوا يكفرون" بمحمد - ﷺ - والقرآن ويكذبون على الله.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" (كبر) ٤/ ٣٠٩٠ - ٣٠٩٣، "الصحاح" (كبر) ٢/ ٨٠١.
(٦) "تنوير المقباس" ص ٢١٧ بنحوه، وذكره الرازي في "تفسيره" ١٧/ ١٠٣٦ نقلاً عن "البسيط" للواحدي.
258
مقامًا وإقامة، والمقام -بفتح الميم-: الموضع الذي تقوم (١) فيه، وأراد بالمقام هاهنا لبثه ومكثه فيهم، وقوله تعالى: ﴿وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ﴾، قال ابن عباس: يريد وعظي وتخويفي إياكم عقوبة الله ونقمته (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ﴾ جواب الشرط، مع أن شأنه التوكل كيف تصرفت حاله؛ ليبين أنه متوكل في هذا على التفصيل، لِمَا (٣) في إعلامه قومه ذلك من زجرهم عنه؛ لأن الله -جل وعز- يكفيه أمرهم (٤).
وقال ابن الأنباري: معنى الآية: إن كان عظم عليكم كوني بين أظهركم (٥)، ولم تحبوا نصرتي فإني أتوكل على من ينصرني ويمنع عني (٦)، فأدى قوله: ﴿فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ﴾ عن هذا المعنى، وقال صاحب النظم: ليس هذا جوابًا للشرط؛ لأنه ليس بِطِبْق له ولا بِلِفْق، وجوابه قوله: ﴿فَأَجْمِعُوا﴾، وهذا كلام اعترض بين الشرط وجوابه، كما تقول في الكلام: إن كنت أنكرت عليّ شيئًا فالله حسبي فأعمل ما تريد (٧).
وقوله تعالى: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ﴾، قال الفراء: الإجماع: الإعداد، والعزيمة على الأمر.
(١) ساقط من (ح).
(٢) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٥، وبنحوه رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٧.
(٣) في (ح) و (ز): (بما)، وهو خطأ.
(٤) انظر: "مفاتيح الغيب" ١٧/ ١٤٣، "الجامع لأحكام القرآن" ٨/ ٣٦٢.
(٥) في (ح) و (ز): (أظهرهم)، وهو خطأ.
(٦) في النسخ عدا (م): (مني).
(٧) انظر معنى هذا القول في: "غرائب التفسير" ١/ ٤٩٠، "الدر المصون" ٦/ ٢٣٩ دون تعيين القائل.
259
وأنشد الشاعر (١):
يا ليت شعري والمُنَي لا تنفع
هل أغدُوَنْ يومًا وأمري مجمع (٢)
فإذا أردت جمع المتفرق قلت: جمعت القوم فهم مجموعون (٣)، وقال الأصمعي: جمعت الشيء إذا جئت به من هنا وهنا، وأجمعته إذا صيرته جميعًا، وأنشد:
وأولات (٤) ذي العرجاء نهب مجمع (٥) (٦)
وقال أبو الهيثم: أجمع أمره: أي جعله جميعًا بعد ما كان متفرقًا،
(١) لفظ: (الشاعر) ساقط من النسخ عدا (م)، واللفظ موجود في المصدر.
(٢) الرجز مجهول القائل، وانظره بلا نسبة في "إصلاح المنطق" ص ٢٦٣، "الأضداد" لابن الأنباري ص ٤١، "أمالي المرتضى" ١/ ٥٥٩، "تهذيب اللغة" (جمع)، "الحجة" ٣/ ٢٠٩، ٤/ ٢٨٧، "الخصائص" ٢/ ١٣٦، "الدرر اللوامع" ٤/ ٢٠، "شرح شواهد المغني" ٢/ ٨١١، "لسان العرب" (جمع)، ونوادر أبي زيد ص ١٣٣.
(٣) اهـ. كلام الفراء، "معاني القرآن" ١/ ٤٧٣ باختصار.
(٤) رسمت في المخطوطات: وآلات، والصواب: وأولات، كما في مصادر تخريج البيت.
(٥) عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي يصف حُمرًا، وصدره:
فكأنها بالجزع بين نُبايع
انظر: "ديوان الهذليين" ١/ ٦، "المفضليات" ص ٤٢٣، "تهذيب اللغة" (جمع) ١/ ٦٥٢، "اللسان" (جمع) ٢/ ٦٨١.
والنهب المجمع: إبل القوم التي أغار عليها اللصوص وكانت متفرقة في مراعيها، فجمعوها من كل ناحية حتى اجتمعت لهم ثم طردوها وساقوها. انظر: "اللسان" نفس الموضع السابق.
والجزع ونبايع وأولات ذي العرجاء: أسماء مواضع.
(٦) اهـ. قول الأصمعي، انظر: "تهذيب اللغة" (جمع) ١/ ٦٥٢.
260
قال: وتفرُّقه أنه جعل يدبّره فيقول مرة: أفعل كذا، ومرة أفعل كذا، فلما عزم على أمر محكم أجمعه، أي جعله جميعًا (١).
وقد كشف أبو الهيثم عن حقيقة معنى إجماع الأمر، ومن هذا قوله وتعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ﴾ [يوسف: ١٠٢]، وقال الشاعر (٢):
أجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
هذا الذي ذكرنا معنى إجماع الأمر، ثم صار بمعنى العزم حتى وُصِلَ بـ (على) فقيل: أجمعت على الأمر، أي: عزمت عليه، والأصل أجمعت الأمر.
وقوله تعالى: ﴿وَشُرَكَاءَكُمْ﴾، قال الفراء: وادعوا شركاءكم [دعاء استغاثة (٣) بهم والتماس لمعونتهم] (٤) وكذلك هي في قراءة عبد الله (٥)، قال: والضمير هاهنا يصلح إلقاؤه كما قال الشاعر (٦):
ورأيت زوجك في الوغى متقلدًا سيفًا ورمحًا
(١) المصدر السابق، نفس الموضع.
(٢) البيت للحارث بن حلزة كما في "ديوانه" ص ٢٤، "لسان العرب" (ضوا) ٥/ ٢٦٢١.
(٣) في (م): (استعانة)، وما أثبته موافق لما في "الوسيط" ٢/ ٥٥٥.
(٤) ما بين المعقوفين غير موجود في "معاني القرآن" للفراء. ولم يذكره من نقل الجملة عنه كالنحاس في "إعراب القرآن" ٢/ ٣٦٢، وفي "معاني القرآن" ٣/ ٣٠٥، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٤٨.
(٥) يعني ابن مسعود، ولم أجد من نسب إليه هذه القراءة سوى الفراء والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٥، والمشهور نسبتها إلى أبيّ بن كعب كما في "الحجة" ٤/ ٢٨٩، "المحتسب" ١/ ٣١٤، "تفسير الثعلبي" ٧/ ٢١/ ب، والزمخشري ٢/ ٢٤٥، "البحر المحيط" ٥/ ١٧٨ - ١٧٩، "الدر المصون" ٦/ ٢٤١.
(٦) البيت لعبد الله بن الزبعرى في "ديوانه" ص ٣٢، وسيأتي تخريجه.
261
نصب الرمح بضمير (١) الحمل (٢).
قال الزجاج: الذي قاله الفراء غلط في إضمار (وادعوا)؛ لأن الكلام لا فائدة فيه (٣)؛ لأنهم إن كانوا يدعون شركاءهم لأن يجمعوا أمرهم، فالمعنى: فأجمعوا أمركم مع شركائكم، [وإن كان الدعاء لغير شيء فلا فائدة فيه (٤)] (٥)، قال: والواو بمعنى (مع) كقولك: لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها (٦)، وذكر أبو علي القولين جميعًا فقال: وقول الفراء انتصاب الشركاء بإضمار فعل آخر كأنه: فأجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم، فدل المنصوب على الناصب كقول الشاعر:
علفتها تبنًا وماءً باردًا (٧)
(١) في (م): (ضمير). وما أثبته موافق للمصدر، والمعنى: نصب الرمح بإضمار لفظ مناسب والتقدير: وحاملاً رمحًا.
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٤٧٣.
(٣) ساقط من (م).
(٤) ساقط من (م).
(٥) ما بين المعقوفين غير موجود في "المعاني القرآن" للزجاج ٣/ ٢٨، وقد ذكره عنه النحاس في "معاني القرآن" ٣/ ٣٠٥، ولفظه: وإن كان يذهب إلى الدعاء فقط فلا معنى لدعائهم لغير شيء.
قلت: يمكن حمل كلام الفراء على معنى مستقيم تقديره: فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم ليجمعوا أمرهم، وهذا يفيد أن الشركاء لن يجمعوا أمرهم إلا بدعوة منهم، وهذه النكتة لا يؤديها تقدير الزجاج فلا وجه للاعتراض.
ولقد كان لكفار العرب شركاء عقلاء تمكن دعوتهم كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ﴾، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٧].
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٧، ٢٨.
(٧) البيت من الرجز، وبعده: حتى شتت همالة عيناها
262
وقال آخر:
شَرَّاب ألبان وتمر وأقط (١)
وقال آخر:
متقلدًا سيفًا ورمحًا (٢)
لما لم يجز أن يحمل الرمح على التقلد (٣) أضمر له فعلاً، كذلك يُضمر لنصب الشركاء -لما لم يجز الحمل على (أجمعوا) - فعل آخر، قال: وزعموا أن في حرف أُبي (وادعوا شركاءكم) (٤) فحمل الكلام في قراءة العامة على الذي يراد به الانتصاب، كقوله: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ
= وبعضهم يجعل قبله: لما حططت الرحل عنها واردًا
والبيت لبعض بني أسد يصف فرسه كما في "معاني القرآن" للفراء١/ ١٤، وهو بلا نسبة في: "الأشباه والنظائر" ٢/ ١٠٨، "أمالي المرتضى" ٢/ ٢٥٩، "أوضح المسالك" ٢/ ١٥٧، "الخصائص" ٢/ ٤٣١، "الدرر اللوامع" ٦/ ٧٩، "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي ص ١١٤٧، "شرح شواهد المغني" ١/ ٥٨، "اللسان" (زجج) ٣/ ١٨١٢.
(١) الرجز بلا نسبة في: "الإنصاف" ص ٤٨٨، "الحجة" ١/ ٣١٢، "الكامل" ١/ ٣٣٤، "لسان العرب" (زجج) ٣/ ١٨١٢، "المقتضب" ٢/ ٥١.
(٢) عجز بيت وصدره:
يا ليت زوجك قد غدا
والبيت لعبد الله بن الزبعري في "ديوانه" ص ٣٢، وفي بعض نسخ "الكامل". انظر: حاشية رقم (٥) ١/ ٣٣٤. والبيت بلا نسبة في "الأشباه والنظائر" ٢/ ١٠٨، "أمالي المرتضى" ١/ ٥٤، "خزانة الأدب" ٢/ ٢٣١، "الخصائص" ٢/ ٤٣١، "لسان العرب" (زجج) ٣/ ١٨١٢، "المقتضب" ٢/ ٥١، وانظر ما ذكره محقق "الحجة" ١/ ٣١١ حاشية (٢).
(٣) في (م): (التقليد). وفي "اللسان" (زيد): (تقلد الأمر: احتمله) وكذلك تقلد السيف.
(٤) سبق تخريج هذه القراءة مع قراءة ابن مسعود قريبًا.
263
اللَّهِ} [هود: ١٣]، ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٣]، قال: ويجوز أن يكون انتصاب الشركاء على أنه مفعول معه، أي أجمعوا أمركم مع شركائكم، كقولهم: استوى الماء والخشبة، وجاء البرد والطيالسة (١)، قال: ويدلك على جوازه أن الشركاء فاعلة في المعنى كما أن الطيالسة كذلك، ومن ثم قرأ الحسن (وشركاؤكم) (٢) رفعًا (٣).
قال أبو الفتح الموصلي: الواو التي بمعنى (مع) كقولهم (٤): لو خُليت والأسد لأكلك، ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها، وكيف تصنع وزيدًا، وكيف تكون وقصعة ثريد، واجتمع زيد وأبا محمد، ومن أبيات (٥) الكتاب (٦):
وكونوا (٧) أنتم وبني أبيكم مكان الكليتين من الطحال (٨)
(١) الطيالسة: جمع، ومفرده الطيلسان والطيلس، وهو ضرب من الأكسية، يميل إلى السواد، وأصل اللفظ فارسي معرب. انظر: "الصحاح" (طلس) ٣/ ٩٤٤، "لسان العرب" (طلس) ٥/ ٢٦٨٩.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٤٢، "المحتسب" ١/ ٣١٤، ومختصر في "شواذ القرآن" ص ٥٧، وليست هذه القراءة شاذة كما يوهم ذكرها ضمن القراءات الشاذة، بل قرأ بها من العشرة يعقوب كما في "إرشاد المبتدي" ص ٣٦٥، "النشر" ٢/ ٢٨٦، "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٥٣.
(٣) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة" ٤/ ٢٨٨ بتصرف.
(٤) في (ى): (كقولك).
(٥) في (ى): (آيات)، وهو خطأ فاحش.
(٦) انظر: "كتاب سيبويه" ١/ ٢٩٨.
(٧) في مصادر تخريجه: فكونوا.
(٨) اختلف في نسبة البيت فهو لشعبة بن قمير كما في "نوادر أبي زيد" ص ١٤١، أو للأقرع بن معاذ كما في "سمط اللآلي" ص ٩١٤ لكن صدره فيهما: =
264
أي مع بني أبيكم، فلما حذف (مع) وأقام الواو مقامها أفضى الفعل الذي قبل الواو إلى الاسم الذي بعدها فنصبها (١) بوساطة (٢) الواو، وذلك أن الواو قوية فأوصلته إليه (٣).
وزاد غيره فقال: الواو في مثل هذا للجمع دون العطف، ألا ترى أن ليس قبلها منصوب يعطف عليه بالواو، والواو معنى الجمع فيه أعم من معنى العطف (٤)، ولا تكون الواو عاطفة إلا وهي للجمع، وقد تكون للجمع ولا تكون عاطفة وهي واو الحال، والواو في هذه المسألة جامعة، نحو قولك: استوى الماء والخشبة، الواو (٥) جمعت الخشبة مع الماء (٦)، والخشبة منصوبة بـ (استوى) بتوسط الواو، وعلى هذا، التقدير: فأجمعوا أمركم مع شركائكم (٧).
قال ابن الأنباري: وهذا الوجه خطأ في قول الكوفيين (٨)؛ لأنه لا
= وإنا سوف نجعل موليينا
والبيت بلا نسبة في: "أوضح المسالك" ٢/ ٥٤، "سر صناعة الإعراب" ١/ ١٢٦، "شرح أبيات سيبويه" ١/ ٤٢٩، "كتاب سيبويه" ١/ ٢٩٨.
(١) هكذا في جميع النسخ، وفي "سر صناعة الإعراب" فنصبه، وهو الصواب.
(٢) في (ى): (بواسطة)، والمثبت موافق للمصدر.
(٣) "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٤٠.
(٤) ساقط من (ح) و (ز).
(٥) في (ى): (والواو).
(٦) في (م): (الواو)، وهو خطأ.
(٧) لم يتبين لي صاحب هذا القول، وانظر معناه في: "الأصول في النحو" لابن السراج ص ٢٠٩ - ٢١٢، "الإيضاح العضدي" ١/ ٢١٥ - ٢١٧، "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص ٢٠٦.
(٨) ذهب الكوفيون إلى أن المفعول معه منصوب على الخلاف، بمعنى أنه لا يحسن فيه تكرير الفعل ولا يصح، فانتصب ما بعد الواو على الخلاف. وذهب البصريون إلى أنه منصوب بالفعل الذي قبل الواو بتوسط الواو وتقويته به فتعدى إلى الاسم فنصبه، وإن كان في الأصل غير متعد. انظر: "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص ٢٠٦، "ائتلاف النصرة" ص ٣٦.
265
ينصب الثاني مع الواو التي تأويلها (مع) إلا بأن لا يحسن تكرير معرب الأول على الثاني، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال استوى الماء واستوت الخشبة [لأن الخشبة] (١) لم تكن معوجة فتستوي ولا يمكن أن يقال: جاء البرد وجاءت الطيالسة، إذ كانت الطيالسة لا تَقْدَم، والشركاء هاهنا يحسن أن نضمر معهم الدعاء (٢) فينصبهم، وما صلح إضمار فعل ناصب معه انقطع من المعرب الأول، وكان الفعل المضمر أملك به (٣) وأغلب عليه.
هذا كله في قراءة من قرأ ﴿فَأَجْمِعُوا﴾ بقطع الألف، وهو قراءة عامة القراء (٤)، وروى الأصمعي عن نافع: (فاجمعوا أمركم) بوصل الألف (٥) من جمعت.
قال أبو علي: والمعنى على هذا: فاجمعوا أمركم، أراد ذوي الأمر منكم، أي رؤساؤكم ووجوهكم، فحذف المضاف وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت، ويجوز أن يراد بالأمر ما كانوا
(١) ساقط من (ى).
(٢) يعني يصح تقدير: وادعوا شركاءكم.
(٣) ساقط من (ى).
(٤) هذه هي القراءة المشهورة عن العشرة، لكن وردت روايات يسيرة عن بعضهم بالقراءة بوصل الألف، فقد روى ذلك عصمة عن أبي عمرو، والأصمعي عن نافع، وأيضاً رويس في أحد طرقه عن يعقوب.
انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٢٨، "النشر" ٢/ ٢٨٥، "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٥٣.
(٥) انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٢٨.
266
يجمعونه من كيدهم الذي يكيدونه به (١) (٢).
قال ابن الأنباري: ولكون المعنى: لا تَدَعوا من أمركم شيئًا إلا أحضرتموه. وانتصاب الشركاء في هذه القراءة بالنسق على الأمر، يراد به: أجمعوا شركاءكم للمعونة لكم، ولا تدعوا منها (٣) غائبًا عنكم، ليكون ذلك أبلغ لما تؤملونه (٤) من نصرتها. وقرأ الحسن وجماعة من القراء (فأجمعوا) بقطع الألف (وشركاؤكم) رفعًا (٥) بالعطف على الضمير المرفوع في (٦) (فأجمعوا) وجاز ذلك من غير تأكيد الضمير، كنحو قوله: ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ [البقرة: ٣٥]، [الأعراف: ١٩]؛ لأن قوله: ﴿أَمْرَكم﴾ فصل بين الضمير وبين المنسوق فكان كالعوض من التوكيد، وقد شرحنا (٧) هذا عند قوله: (فاذهب (٨) أنت وربك) [المائدة: ٢٤]، وكان الفراء يستقبح هذه القراءة لخلافها المصحف (٩)، فإن الواو لم تكتب (١٠) في المصاحف ولأن
(١) من (م) واللفظ موجود في المصدر.
(٢) " الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٨٧ بتصرف.
(٣) في (ح) و (ز): (منه).
(٤) في (م): (تأملونها).
(٥) هذه قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي وسلام ويعقوب. انظر: "مختصر في شواذ القرآن" ص ٥٧، "المحتسب" ١/ ٣١٤، "البحر المحيط" ٥/ ١٧٨ - ١٧٩، "الغاية" ص ١٧٢، "النشر" ٢/ ٢٨٦، والقراءة ليست شاذة كما يوهم صنيع ابن خالويه وابن جني في ذكرها في "الشواذ".
(٦) ساقط من (ح).
(٧) الكلام لأبي بكر ابن الأنباري وكتابه مفقود.
(٨) في جميع النسخ: اذهب.
(٩) انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٧٣.
(١٠) في (ي): (تكن).
267
شركاءهم هي الأصنام، والأصنام لا تعمل ولا تجمع (١)، انتهى كلام أبي بكر (٢).
وقوله تعالى: ﴿لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾، قال أبو الهيثم: أي مبهمًا، من قولهم غُم علينا الهلال فهو مغموم: إذا التبس، قال طرفة:
لعمرك ما أمري عليّ بغمة نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد (٣) (٤)
وقال الليث: إنه لفي غمة من أمره: إذا لم يهتد له (٥).
قال الزجاج: أي ليكن أمركم [ظاهرًا منكشفًا (٦).
وذكر صاحب النظم أن قوله: (ثم لا يكن أمركم] (٧) عليكم غمة) يجوز أن يكون نهيًا على غير المواجهة كما ذكره الزجاج (٨)، والنهي في الظاهر واقع على الأمر، ولكن المراد به صاحب الأمر كما قال: ﴿وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾ [الكهف: ٢٨] النهي واقع على العينين، ولكنه لما خاطب صاحب العينين حسن ذلك.
(١) الأصنام بعض شركاء العرب، وكان لهم شركاء عقلاء كالجن وطواغيت البشر، قال تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ﴾ [الأنعام: ١٠٠]، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٧]، وقال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: ٤٢].
(٢) ذكر بعضه الرازي في "تفسيره" ١٧/ ١٤٠، لكنه نسبه للواحدي.
(٣) "ديوان طرفة" ص ٤٧، "الدر المصون" ٦/ ٢٤٣، "لسان العرب" (غمم) ٦/ ٣٣٠٢.
(٤) اهـ. كلام أبي الهيثم، انظر: "تهذيب اللغة" (غم)، "المستدرك" ص ١١٥.
(٥) انظر المصدر السابق، الصفحة التالية. والنص في كتاب "العين" (غمم) ٤/ ٣٥٠.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٨.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٨) يعني في قوله السابق.
268
قال: وقد قيل: إن (ثم) هاهنا زائدة، وحروف النسق قد تزاد في أضعاف الكلام مثل قوله: (كالأعمى والأصم والبصير (١) والسميع) (٢) [هود: ٢٤].
وقد ذكرنا هذا في الواو التي تكرر (٣) في النعوت، نحو قوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام (٤)
وكقوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: ٧٣]، وزيادة الفاء ذكرناها أيضًا في مواضع، ومنها [قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا﴾ إلى قوله: ﴿فَلَهُمْ﴾ (٥) [البروج: ١٠] فالفاء زيادة (٦)، وكذلك قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا
(١) في (م): (والسميع البصير)، وهو خطأ.
(٢) وانظر زيادة (ثم) في "الصاحبي" ص ١٥٢.
(٣) في (ى): (تكون).
(٤) صدر بيت، وعجزه:
وليث الكتيبة في المزدحم
وهو مجهول القائل، وانظره بلا نسبة في: أبيات النحو في تفسير "البحر المحيط" ١/ ٢٠٢، "الإنصاف" ص ٤٧٦، "خزانة الأدب" ٥/ ١٠٧، "شرح أبيات معاني القرآن" ص ٣١٠، "شرح قطر الندى" ص ٢٩٥، "الكشاف" ١/ ١٣٣، ولم ينسبه محب الدين في "تنزيل الآيات على الشواهد" (ملحق بالكشاف) ٤/ ٥١٢. والقرم: الفحل المكرم الذي لا يحمل عليه، ويطلق على السيد من الناس، والكتيبة: الجيش، والمزدحم: المراد به هنا المعركة؛ لأنها موضع المزاحمة والمدافعة. انظر تنزيل الآيات، الموضع السابق، "لسان العرب" (قرم).
(٥) لم يذكر في هذا الموضع زيادة الفاء.
(٦) في (م): (زائدة). وقد سبق بيان مراد النحويين بالزيادة وأضيف هنا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية حول الموضوع بعد بيانه وجود الزيادة في "كلام العرب"، ونصه: فليس في القرآن من هذا شيء، ولا يذكر فيه لفظًا زائدًا (كذا) إلا لمعنى زائد، وإن كان في ضمن ذلك التوكيد، وما يجيء من =
269
وَكَذَّبُوا] (١) بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ} [الحج: ٥٧]، ومثله قوله: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١١٨]، و (حتى) (٢) لا يقتضي (ثم) في جوابه، وكذلك قوله: ﴿ثُمَّ لَا يَكُنْ﴾ فيكون تأويله: فأجمعوا أمركم وشركاءكم لا يكن أمركم عليكم (٣) إذا فعلتم ذلك غمة، فيكون جزمه على جواب الأمر.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ﴾ قال مجاهد: اقضوا إليّ ما في أنفسكم (٤).
قال ابن الأنباري: معناه: ثم امضوا إليّ بمكروهكم وما توعدونني به، كما تقول العرب: قد قضى فلان، يريدون مات ومضى (٥)، وهذا معنى قول الفراء (٦)، وقال الزجاج: ثم افعلوا ما تريدون (٧).
وقال ابن عرفة (٨): قضاء (٩) الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه،
= زيادة اللفظ في مثل: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾، وقوله: ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾، وقوله: ﴿قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه، فزيادة اللفظ لزيادة المعنى، وقوة اللفظ لقوة المعنى. "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" ١٦/ ٥٣٧.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٢) يعني في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ﴾ في الآية نفسها.
(٣) في (ى): (عليكم غمة).
(٤) رواه ابن جرير ١١/ ١٤٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٧٠، وانظر: "تفسير مجاهد" ص ٣٨٢.
(٥) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٤٨.
(٦) انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٧٤.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٩.
(٨) هو: إبراهيم بن محمد بن عرفة نفطويه.
(٩) في (م): (قضى)، وفي (ى): (أقضى).
270
وبه (١) سمي القاضي؛ لأنه إذا حكم فقد فرغ، فقوله: ﴿ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ﴾ أي: افرغوا من أمرع، وأمضوا ما في أنفسكم، واقطعوا ما بيني وبينكم، ومن هذا قولى تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ﴾ [الإسراء: ٤] أي: أعلمناهم إعلامًا قاطعًا.
وهذا من أقوى آيات النبوة أن يقول النبي لقومه وهم متعاونون عليه: افعلوا بي بما شئتم، قال ابن عباس في هذه الآية: يريد: لا تألوا في الجمع والقوة فإنكم لا تقدرون على مساءتي ولا مضرتي؛ لأن لي إلهًا يمنعني، مثل قوله في هود: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾ (٢).
وقال المفسرون: هذا إخبار من الله سبحانه وتعالى عن نبيه نوح -عليه السلام- أنه كان بنصر الله واثقًا، ومن كيد قومه وبوائقهم (٣) غير خائف، علما منه بأنهم وآلهتهم لا تنفع ولا تضر شيئًا إلا أن يشاء الله، وتعزية لنبيه محمد - ﷺ - وتقوية لقلبه؛ لأن سبيله في (٤) قومه كسبيل الأنبياء من قبله (٥).
٧٢ - قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾، قال ابن عباس: يريد: عن الإسلام وعن عبادة الله، ﴿فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ﴾، قال: يريد: من مال تعطونيه (٦).
قال أهل المعاني: هذا بيان عن إخلاص الدعاء إلى الله جل وعز من
(١) ساقط من (ح).
(٢) من الآية ٥٥. ولم أقف على قول ابن عباس هذا.
(٣) البوائق: الغوائل والشر والغشم والبلايا. انظر: "الصحاح" (بوف) ٤/ ١٤٥٢، "لسان العرب" (بوق) ١/ ٣٨٨.
(٤) في (م): (مع).
(٥) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٤٥، والثعلبي ٧/ ٢٢ أ، والبغوي ٤/ ١٤٣.
(٦) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٧.
ترك الأجر لتتوفر الدواعي إلى الحق، وذلك أن الناصح إذا طلب على نصحه أجرًا ربما كان ذلك سببًا لامتناع الناس عن القبول منه، والإقبال عليه، وإذا لم يطلب الأجر كان ذلك أدعى إلى قبول قوله (١).
٧٣ - قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ﴾ (٢) جعل الذين نجوا مع نوح خلفاء ممن هلك بالغرق، قال ابن عباس: يريد: أن الخلق جميعًا من يومئذٍ من ولد نوح كما قال (٣): ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ (٤) [الصافات: ٧٧]، يريد إن الناس كانوا من ذريته بعد الغرق، وهلك أهل الأرض جميعًا بتكذيبهم لنوح عليه السلام سوى ذريته الذين نجوا معه، وهذا تحذير للكفار من التكذيب كي لا يؤول أمرهم بالإهلاك إلى مثل ما آل أمر قوم نوح.
٧٤ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي من بعد نوح، ﴿رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ﴾، قال ابن عباس: يريد: إبراهيم وهودًا وصالحًا ولوطًا (٥) وشعيبًا (٦). ﴿فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ يريد بان لهم أنهم رسل الله، ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ أي: أولئك الأقوام الذين بُعث إليهم الرسل، ﴿بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ﴾ يعني قوم نوح، أي: لم يصدقوا بما كذب به قوم نوح [هذا معنى قول
(١) لم أقف عليه.
(٢) هكذا في جميع النسخ، وتفسير المؤلف لهذه الجملة يقتضي أن يذكر قوله تعالى: ﴿خَلَائِفَ﴾.
(٣) في (ح) و (ز): (قلنا)، وهو خطأ.
(٤) وقد روى الأثر ابن جرير في "تفسيره" (٦٨/ ٢٣) (طبعة الحلبي)، من رواية علي بن أبي طلحة، ورواه بنحوه البغوي في "تفسيره" ٧/ ٤٣ من رواية الضحاك.
(٥) ساقط من (ى).
(٦) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٤٩، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٥.
272
ابن عباس (١)، وقد علموا أن الله أغرق قوم نوح] (٢) بتكذيبهم نوحًا، أي إن هؤلاء الآخرين لم يؤمنوا بما كذب به أولهم أيام نوح، أي: إنهم مثلهم في الكفر والعتو.
ثم قال: ﴿كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾، قال ابن عباس: يريد: أن الله طبع على قلوبهم فأعماها (٣) وأصمها فلا يبصرون سبيل الهدى (٤)، والمعنى: أن هؤلاء ومن قبلهم معتدون قد طبع (٥) على قلوبهم.
وقال بعضهم: يحتمل نظم الآية أن يقال فيه: إن الأمم كذبوا رسلهم قبل أن جاءوهم بالمعجزات فجاءوهم بالمعجزات، ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ﴾ (٦)، والآية دلالة ظاهرة على أن الله تعالى إذا طبع على قلوب قوم استحال منهم الإيمان، فمن قال إنه [لا يطبع] (٧) على قلوب قوم ويأمرهم بالإيمان فذلك القائل ممن طبع الله (٨) على قلبه ولم يهده بكتابه (٩).
(١) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢١٧.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) في (م): (وأعماها)، والمثبت موافق لما في "الوسيط".
(٤) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٥.
(٥) في (ى): (طبع الله).
(٦) روي نحو هذا القول عن الكلبي كما في "بحر العلوم" ٢/ ١٠٦، واعتمده ابن كثير ٢/ ٤٦٧، وانظر: "الدر المصون" ٦/ ٢٤٥.
(٧) في (ى): (إذا طبع).
(٨) ما في (ي): (ممن طبع على قلبه).
(٩) يشير المؤلف إلى المعتزلة القائلين بأن الله لا يطبع على قلوب الكافرين طبعًا يمنعهم من الإيمان، بل المراد بذلك عندهم سواد في القلب ليكون سمة لهم =
273
٧٧ - قوله (١) تعالى: ﴿قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا﴾ [الآية، يقال في هذا: لِمَ دخل الاستفهام في قولهم: ﴿أَسِحْرٌ هَذَا﴾] (٢) وهم قد قالوا هو سحر بغير استفهام ولا شك؟ وذكر (٣) الفراء في هذا ثلاثة أوجه:
أحدها: قال قوم: قد يكون هذا من قولهم على أنه سحر عندهم وإن استفهموا، كما ترى الرجل تأتيه الجائزة فيقول: أحق هذا؟ وهو يعلم أنه حق لا شك فيه (٤)، وزاد أبو بكر لهذا (٥) بيانًا فقال: إنهم أدخلوا الاستفهام على جهة تفظيع الأمر والزيادة فيه كما يقول الرجل إذا نظر إلى الكسوة الفاخرة: أكسوة هذه؟! يريد بالاستفهام تعظيمها وأنها تزيد على معاني الكسى، وتأتي الرجل جائزة فيقول: أحق ما أرى، معظمًا لما ورد عليه منها (٦).
الوجه الثاني: قال (٧): ويكون أن تزيد الألف في قولهم، وإن كانوا
= تعرفهم الملائكة بها، وقال بعضهم: الطبع هو شهادة الله بأنهم لا يؤمنون، وقال آخرون: هو تسمية الرب تعالى الكفرة بالكفر والضلال.
انظر: "مقالات الإسلاميين" ١/ ٣٢٣، "الإرشاد إلى قواطع الأدلة" ص ١٩٢.
(١) لم يتطرق المؤلف لتفسير آيتين قبل هذه الآية، وقد بين في "الوسيط" ٢/ ٥٥٥، علة ذلك بعد أن ترك عدة آيات حيث قال بعد بيان معنى الطبع في الآية السابقة: وما بعد هذا ظاهر التفسير.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) هكذا في جميع النسخ، ولم يسبق ذكر قولٍ يستوجب هذا العطف.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٧٤.
(٥) في (ج) و (ز): (هذا).
(٦) انظر: "زاد المسير" ٤/ ٥٠.
(٧) يعني الفراء.
274
لم يقولوها، فيخرج الكلام على لفظه وإن كانوا لم يتكلموا به كما يقول الرجل: فلان أعلم منك، فيقول المتكلم (١): أقلت أحد أعلم بذا مني (٢)؟ [فحكى (٣) قوله على غير لفظه الذي قال.
وقال أبو بكر في هذا الجواب: إن ألف الاستفهام دخلت في كلام قوم فرعون على معنى رد الخبر على (٤) موسى إذ كان هو المخبر والمتكلم، كما يقول رجل لرجل: فلان أعلم منك، فيقول له المخاطب: أقلت أحد أعلم بذا مني] (٥) فبدّل (٦) الياء من الكاف؛ لأنه صرف الكلام إلى نفسه، وإن كان مخبرًا به عن غيره، وحقيقة هذا الكلام أنه أخبر عنهم كما كان موسى يقوله إذا أجابهم (٧).
الوجه الثالث: أن تجعل القول بمنزلة الصلة؛ لأنه فصل في الكلام، ألا ترى أنك تقول للرجل: أتقول عندك مال؟ ويكفيك أن تقول: ألك مال؟ فالمعنى قائم ظهر القول أو لم يظهر (٨).
قال أبو بكر: تقدير هذا الجواب: قال موسى أسحر هذا؟ فدخل القول توكيدًا للكلام، كما ذكره الفراء من المثال، قال: وفيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير: أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر؟ ثم قال: أسحر هذا؟
(١) هكذا وهو موافق لما في "معاني القرآن"، والصواب: المكلَّم. وستأتي الجملة على الصواب.
(٢) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٧٤.
(٣) في (ى): (فحكوا).
(٤) في (م): (إلى).
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٦) في (ح) و (ز): (فيبدل).
(٧) لم أعثر على مصدر كلام ابن الأنباري هذا.
(٨) "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٧٤.
275
فأضمر (هو سحر) بعد القول؛ لأن الكلام المحكي يصلح إضماره إذا ظهر ما يدل عليه، والإضمار مع القول أمكن منه مع غيره، والدليل على المضمر قوله: ﴿أَسِحْرٌ هَذَا﴾ قال الشاعر (١):
قلنا لهم وقالوا... وكل له (٢) مقال
فأضمر المحكي مع القول ثقة بعلم المخاطب به ولم يذكر أَيش (٣) قالوا، وأَيش قيل لهم.
وقال أبو إسحاق: قوله: ﴿أَسِحْرٌ هَذَا﴾ هو تقرير لقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ثم قررهم فقال (٤): ﴿أَسِحْرٌ هَذَا﴾ (٥)، وهذا من كلامه (٦) يدل على أنه اختار الوجه الثالث من الأوجه التي ذكرها الفراء، وهو أنه جعل قوله: ﴿أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ﴾ صلة.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ﴾ قال (٧): المفلح الذي يفوز بإرادته (٨)، أي: فكيف يكون هذا سحرًا، وقد أفلح الذي أتى به، أي فاز وفلح (٩) في حجته.
(١) البيت من أمثلة العروض المشهورة.
(٢) في (ح) و (ز): (لهم).
(٣) سبق بيان معنى هذه الكلمة في أول الأنفال، ومعناها: أي شيء.
(٤) في (ى): (فقالوا)، والمثبت موافق للمصدر.
(٥) اهـ كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٩.
(٦) يعني الزجاج.
(٧) يعني الزجاج، انظر المصدر السابق، نفس الموضع.
(٨) أي: بما يريد.
(٩) هكذا في جميع النسخ بالحاء، وهو كذلك في "معاني القرآن وإعرابه"، قال الجوهري في "الصحاح" (فلح) ١/ ٣٩٢: الفلح لغة في الفلاح، وفي "لسان =
276
٧٨ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾، قال ابن عباس: يريد لتردنا (١)، ومعنى اللفت في اللغة: الصرف عن أمر (٢)، وأصله اللّي، يقال: لَفَتَ عنقه: إذا لواها، ومن هذا يقال: التَفَتَ إليه: أي عدل وجهه وأماله إليه.
الأزهري: لَفَتَ الشيء وفَتَله: إذا لواه (٣)، وهذا من المقلوب.
وقوله تعالى: ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ﴾، قال ابن عباس (٤)، ومجاهد (٥)، وابن جريج (٦)، والمفسرون (٧): أي: ويكون لكما الملك والعز في أرض مصر، والخطاب لموسى وهارون.
وقول أهل اللغة في الكبرياء أيضًا أنها الملك (٨)، قال الزجاج: وسُمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا (٩).
=العرب" (فلح) ٦/ ٣٤٥٨: الفلح والفلاح: الفوز والنجاة. ويظهر من السياق أن صحة الكلمة: فلج، بالجيم، وفي "لسان العرب" (فلج) ٦/ ٣٤٥٧: الفلج: الظفر والفوز، وفلج بحجته وفي حجته كذلك.
(١) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٧.
(٢) انظر: "الصحاح" (لفت) ١/ ٢٦٤، "مجمل اللغة" (لفت) ٣/ ٨١١.
(٣) اهـ. كلام الأزهري، انظر: "تهذيب اللغة" (فتل) ٦/ ٣٣٤٤، ولفظه: لفت فلانًا عن رأيه وفتله: إذا صرفه ولواه.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٥٠، "تنوير المقباس" ص ٢١٧.
(٥) "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٤٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٧٣، وانظر: "تفسير مجاهد" ص ٣٨٢، "الدر المنثور" ٣/ ٥٦٤.
(٦) رواه ابن جرير ١١/ ١٤٧، عن ابن جريج، عن مجاهد، ولم أجده في موضع آخر.
(٧) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٤٧، والسمرقندي ٥/ ١٠٧، والثعلبي ٧/ ٢٢ ب.
(٨) انظر: "لسان العرب" (كبر) ٦/ ٣٨٠٧.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٩.
وقال الفراء: إنما قالوا ذلك لهما؛ لأن النبي إذا صُدِّق صارت مقاليد أمته وملكهم إليه (١)، وهذا بيان عن جهلهم حيث توهموا أن الصواب في اتباع الأسلاف وأن الداعي إلى خلافه إنما يريد التملك عليهم باتباعهم إياه وانقيادهم له (٢).
٨١ - قوله تعالى: ﴿قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ﴾، (ما) هاهنا موصولة بمعنى (الذي) وهي مرتفعة بالابتداء وخبرها (السحر)، قال الفراء: وإنما قال: ﴿السِّحْرُ﴾ بالألف واللام؛ لأنه جواب لكلام (٣) قد سبق، ألا ترى أنهم قالوا لما جاءهم به موسى ﴿هَذَا سِحْرٌ﴾ (٤) فقال موسى: بل ما جئتم به السحر (٥).
قال أبو بكر: فوجب دخول الألف واللام؛ لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة، يقول الرجل لمخاطبه: لقيت رجلاً، فيقول له: من الرجل؟ فيعيده بالألف واللام، ولو قال له من رجل؟ لم يقع في وهمه أنه يسأله عن الرجل الذي ذكره له (٦).
(١) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٧٥، ولم يذكر المؤلف بقية عبارة الفراء التي توضح مقصوده، ولفظها: فقالوه على ملك ملوكهم من التكبر اهـ. يعني أن عادة الأنبياء إذا ملكوا تخالف عادة الملوك من التكبر والتعاظم والجبروت، لكن قائلي هذه المقولة حسبوا أن عادة الأنبياء كعادة غيرهم من الملوك.
(٢) ساقط من (ى).
(٣) من (م) وفي بقية النسخ: (الكلام)، والصواب ما أثبته وهو موافق للمصدر.
(٤) ورد قولهم هذا في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [النمل: ١٣].
(٥) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٧٥.
(٦) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٧/ ١٤٢، لكنه لم ينسبه لابن الأنباري، بل أدخله ضمن قول الفراء.
وقرأ أبو عمرو (آلسحر) بالاستفهام (١) و (ما) على هذه القراءة استفهام يرتفع بالابتداء، و ﴿جِئْتُمْ بِهِ﴾ في موضع الخبر كأن قيل: أي شيء جئتم به؟ ثم قال على وجه التقرير والتوبيخ (آلسحر)؟ كقوله تعالى: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦] ونحوه كثير، و (آلسحر) بدل من المبتدأ، ولزم أن يلحقه الاستفهام ليساوي المبدل منه في أنه استفهام، كما تقول: كم مالك؟ أعشرون أم ثلاثون؟ فجعلت (أعشرون) بدل من كم، ولا يلزم أن يضمر للسحر خبر؛ لأنك (٢) إذا أبدلته من المبتدأ صار في موضعه، وصار ما كان خبرًا لما أبدلت (٣) منه في موضع خبر البدل (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ﴾ سيهلكه ويظهر فضيحة صاحبه، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ أي: لا يجعله ينفعهم؛ لأن معنى إصلاح العمل تقويمه على ما ينفع بدلا بما يضر.
٨٢ - قوله تعالى: ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ﴾ معنى إحقاق الحق: إظهاره وتمكينه بالدلائل الواضحة والآيات البينة حتى يرجع الطاعن عليه حسيرًا، والمناصب (٥) له مغلوبًا، وهذا معنى (٦) قول ابن عباس في هذه الآية:
(١) انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٢٨، "إرشاد المبتدي" ص ٣٦٥، "النشر" ١/ ٣٧٨، "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٥٣.
(٢) في (ح) و (ز): (خبرًا أنك) وهو خطأ.
(٣) في (ح) و (ز): (أنزلت) وهو خطأ.
(٤) انظر هذا التوجيه للقراءة في: "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٢٩٠.
(٥) المناصب: المعادي، يفال: نصبت فلان نصبًا: إذا عاديته. انظر: "الصحاح" (نصب) ١/ ٢٢٥.
(٦) ساقط من (ى).
يريد: حيث ألقى موسى عصاه فتلقفت كل كذب وسحر جاء به فرعون فأحق الله الحق (١).
وذكرنا هذا المعنى في قوله: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ﴾ [الأنفال: ٨] الآية، وقوله تعالى: ﴿بِكَلِمَاتِهِ﴾، قال الحسن: بوعده موسى (٢)، وقيل: بما سبق من حكمه في اللوح المحفوظ بأن ذلك يكون (٣).
٨٣ - قوله تعالى: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾ الآية، قال الفراء: فسر المفسرون الذرية: القليل (٤)، قال ابن الأنباري: من المفسرين من يذهب إلى أن الذرية معناها هاهنا تقليل عدد المؤمنين؛ لأن الأكابر وأولي الأنساب (٥) العالية ممن لم يؤمنوا كانوا أكثر عددًا من الذرية، وهذا قول ابن عباس في رواية قتادة قال: الذرية: القليل (٦).
(١) لم أعثر عليه.
(٢) ذكره هود بن محكم ٢/ ٢٠٤، والرازي ١٧/ ١٤٣ - ١٤٤ بلا نسبة.
(٣) ذكر نحوه الرازي ١٧/ ١٤٣ - ١٤٤، ولم يعين القائل، وللزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٢٤٨ معنى هذا القول ولفظه: بأمره ومشيئته.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٤٧٦.
(٥) من (ى) وفي بقية النسخ: (الأسنان)، وما أثبته أولى بالسياق.
(٦) رواه ابن جرير ١١/ ١٤٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٧٥، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في"الدر المنثور" ٣/ ٥٦٥، وقد بين ابن عطية مراد ابن عباس فقال: هيئة قوله (فما آمن) يعطي تقليل المؤمنين به؛ لأنه نفى الإيمان ثم أوجبه للبعض، ولو كان الأكثر مؤمنًا لأوجب الإيمان أولاً ثم نفاه عن الأقل، وعلى هذا الوجه يترجح قول ابن عباس في الذرية: إنه القليك، لا أنه أراد أن لفظة (الذرية) هي بمعنى القليل كما ظنه مكي وغيره. "المحرر الوجيز" ٧/ ١٩٧ - ١٩٨.
وقد ذهب الزمخشري في "كشافه" ٢٤٨/ ٢، إلى أن هذا في أول أمر موسي، =
280
واختلفوا في هؤلاء الذرية من هم؛ فقال ابن عباس: كانوا ستمائة ألف من بني إسرائيل (١)، وعلى هذا سموا ذرية؛ لأن يعقوب عليه السلام دخل مصر في اثنين وسبعين إنسانًا، فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف، كانوا ذرية ذلك القوم الذين دخلوا مصر مع يعقوب من أولاده (٢)، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (٣).
وقال مجاهد: أراد بهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل، لطول الزمان هلك الآباء (٤)، وبقي الأبناء (٥)، وهذا القول اختيار
= وفي بداية دعوته، وهذا الرأي هو الظاهر من السياق، إذ إن الفاء في قوله تعالى: ﴿فَمَا آمَنَ﴾ للتعقيب، أي: إن الله أيد موسى بالمعجزة الكبرى وأبطل كيد السحرة وأظهر الحق فما آمن من بني إسرائيل في تلك اللحظة إلا القليل من الشباب خوفًا من بطش فرعون، ولا يعني هذا أن غيرهم لم يؤمن بعد، كما توهمه ابن عطية في "المحرر" ٧/ ١٩٨.
وبهذا يتبين الجواب عن القول بأن السحرة وبعض آل فرعون آمنوا، وكذلك القول بأن جميع بني إسرائيل تابعوا موسى وخرجوا معه من مصر، فكيف يقال بأنه لم يؤمن إلا القليل من ذرلة بني إسرائيل؟ فالآية تتحدث عمن آمن من قوم موسى في أول أمره والله أعلم.
(١) رواه ابن جرير ١١/ ٤٩١ - ١٥٠، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٧٥، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٦٥، لكنهم لم يذكروا العدد، ورواه الثعلبي ٧/ ٢٣ أ، فذكر العدد ولم يذكر لفظ (من بني إسرائيل).
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ٢٣ أ، والسمرقندي ٢/ ١٠٧.
وهذا الخبر من القسم الثالث من أقسام الإسرائيليات وهو ما لم يرد في شرعنا ما يؤيده أو ينفيه فلا يصدق ولا يكذب.
(٣) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٧/ ٢٣ أ.
(٤) في (ى) هلك الآباء فلم يؤمنوا وبقي إلخ، وهذه الزيادة غير موجودة في مصادر تخريج الأثر.
(٥) رواه الثعلبي ٧/ ٢٣/ أ، وبنحوه ابن جرير ١١/ ١٤٩ - ١٥٠، وابن أبي شيبة وابن =
281
إسحاق؛ لأنه قال: إنه (١) مكث يدعو الآباء فلم يؤمنوا وآمنت طائفة من أولادهم (٢)، وعلى هذين القولين (٣) (الهاء) في (قومه) كناية عن موسى.
= المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٦٥، ومعناه: إن من أُرسل إليهم موسي من قومه لم يؤمنوا به، وطال الزمن حتى كان لهم ذرية آمنت به ثم هلك الآباء الذين لم يؤمنوا، وبقي الأبناء المؤمنون. وهذا القول غير صحيح لعدة أوجه:
أ- قول الله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٢٧]، يدل على أن قوم موسى صغارًا وكبارًا آمنوا به وتركوا ما كان يعبد فرعون.
ب- أن مواقف بني إسرائيل المخزية مع نبيهمِ موسى عليه السلام كأقوالهم فيما أخبر الله عنهم ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا﴾، و ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾، و ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾، و ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا﴾، وغير ذلك كثير، يدل دلالة واضحة أن جلّ بني إسرائيل آمنوا على كبر، وليس المؤمنون منهم ذريةً صغيرة نشأت على يد موسى وغذاها بغذاء الإيمان.
ج- أن المفسرين ذكروا أن الحكمة من ضرب التيه على بني إسرائيل هلاك الآباء ونشوء ذرية تتربى على عين موسى.
انظر: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ١٩٧، "في ظلال القرآن" ٢/ ٨٧١، وقول مجاهد يقتضي أن هلاك الآباء كان في أرض مصر.
د- أن تاريخ بني إسرائيل لا يؤيد قول مجاهد هذا، إذ إن من تتبع قصة بني إسرائيل في القرآن الكريم وفي ما ورد من أخبارهم يعلم يقينًا أنهم أمة قد نالها من ذل فرعون وطغيانه ما جعلهم يأملون الخلاص من ظلمه على يد نبي منهم، فالعقل والعادة يقتضيان إطباقهم على الإيمان بموسى قناعة بما جاء به، أو رغبة في إصلاح دنياهم وتغيير أوضاعهم ودرء الظلم عنهم، ومجاهد يقول إن الآباء لم يؤمنوا.
(١) ساقط من (ح) و (ز).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٠، وليس في كلامه ما يدل على أنه اختار هذا القول، بل صدّره بقوله: قيل: إنه مكث... إلخ. وهو أسلوب يقتضي عادة عدم القناعة التامة.
(٣) في (ي): (الوجهين).
282
وقال ابن عباس في رواية عطية: هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا، منهم امرأة فرعون (١) وماشطة ابنته (٢)، ومؤمن آل فرعون (٣) ونفر
(١) هي آسية بنت مزاحم المؤمنة الصابرة زوج الطاغية فرعون، وقد جاء في شأنها عدة روايات تبين فضلها، منها:
أ- روى أحمد في "المسند" ١/ ٣١٦، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٥٩٤، وصححه ووافقه الذهبي عن رسول الله - ﷺ - قال: "أفضل نساء الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد - ﷺ -، ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون".
ب- وعن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها، فكانوا إذا تفرقوا عنها أظلتها الملائكة.
قال السيوطي في "الدر المنثور" ٦/ ٣٧٧ - ٣٧٨: أخرجه أبو يعلى والبيهقي بسند صحيح اهـ، وقد رواه أيضًا الحاكم بنحوه في "المستدرك" ٢/ ٤٩٩، عن سلمان وصححه ووافقه الذهبي.
ج- روى الطبراني كما في "الدر المنثور" ٦/ ٣٧٨، عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى" لكن سنده ضعيف كما في "ضعيف الجامع الصغير" ٢/ ٩٠.
(٢) روى الإمام أحمد في "المسند" ١/ ٣٠٩، عن رسول الله - ﷺ - قال: "لما كانت الليلة التي أسري بي فيها أتت عليّ رائحة طيبة، فقلت يا جبريل: ما هذه الرائحة الطيبة؟ فقال: هذه ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قال: قلت وما شأنها؟ قال: بينا هي تمشي ابنة فرعون ذات يوم إذ سقطت المدرى من يديها فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: أبي؟ قالت: لا، ولكن ربي ورب أبيك الله، قالت: أخبره بذلك؟ قالت: نعم، فأخبرته فدعاها فقال: يا فلانة وإن لك ربًا غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك، فأمر ببقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها أن تلقى هي وأولادها فيها، قالت: إن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا، قال: ذلك لك علينا من الحق".
(٣) قيل كان أسمه سمعان، وقيل كان اسمه حبيبًا. انظر: "معاني القرآن وإعرابه" =
283
يسير (١)، وروي عنه أيضًا: أنهم قوم كان (٢) آباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل (٣).
قال الفراء: وهؤلاء إنما سموا ذرية؛ لأن أمهاتهم كن من غير جنس آبائهم، كما سمي أولاد الفرس الذين سقطوا إلى اليمن فتزوجوا نساء اليمن الأبناء (٤)، وعلى هذا الهاء في ﴿قَوْمَهِ﴾ تعود على فرعون (٥).
وقوله تعالى: ﴿عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ﴾، قال الفراء: إنما قال: ﴿وَمَلَئِهِمْ﴾ وفرعون واحد؛ لأن الملك يُخبَر عنه بخبر الجمع؛ لأن الوهم يذهب إليه وإلى من معه من تُبّاعه (٦) كما يقال: قدم الخليفة فغلت
= ٤/ ٣٧١، "الدر المنثور" ٧/ ٢٨٥، وانظر قصته ومناظرته فرعون وقومه في سورة غافر، الآيات (٢٨ - ٤٥).
(١) رواه ابن جرير ١١/ ١٥٠ بلفظ: من قوم فرعون يسير، منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه، ورواه الثعلبي ٧/ ٢٤ أ، والبغوي ٤/ ١٤٥ بنحو رواية ابن جرير وزادا: (وماشطته) هكذا والأثر من رواية عطية العوفي المسلسلة بـ"الضعفاء".
(٢) في (خ) و (ز): (كانوا).
(٣) رواه الثعلبي ٧/ ٢٣ أ، وبنحوه البغوي ٤/ ١٤٥.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٤٧٦، والفراء يعني أن هذا اصطلاح لبني إسرائيل كاصطلاح أهل اليمن على إطلاق الأبناء على أولاد الفرس من أمهات عرب، لا أن اللغة تقتضي ذلك.
(٥) رجح هذا القول ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٧/ ١٩٨ - ١٩٩، بينما رده ابن جرير في "تفسيره" ١١/ ١٥٠، ورجح عود الضمير إلى موسى عليه السلام؛ لأنه أقرب مذكور يعود إليه الضمير ولظهور اسم فرعون في قوله تعالى: ﴿عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ﴾ ولو كان الضمير الأول يعود إليه لقال: على خوف منه.
(٦) في "لسان العرب" (تبع) ١/ ٤١٦: التابع: التالي، والجمع: تُبّع وتُنّاع وتبعة.
284
الأسعار وكثر الناس واتسعت الأموال يراد بمن معه (١)، وهذا معنى قول الزجاج: لأن فرعون (٢) ذو أصحاب يأتمرون له، قال الفراء وابن الأنباري: وقد يكون هذا من باب حذف المضاف؛ كأنه أريد بفرعون آل فرعون (٣)، وعلى القول الذي يقول الكناية [في ﴿قَوْمِهِ﴾] (٤) تعود إلى فرعون جاز أن تعود الكناية في ﴿وَمَلَئِهِمْ﴾ إلى القوم.
وقوله (٥) تعالى: ﴿أَنْ يَفْتِنَهُمْ﴾ أي: يصرفهم عن دينهم بمحنة وبلية يوقعهم فيها، وهو إخبار عن فرعون؛ لأن الملأ كانوا على مثل ما كان عليه، ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ﴾، قال ابن عباس: يريد: متطاول في أرض مصر (٦).
﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ الإسراف: الإبعاد في مجاوزة الحد، قال المفسرون: وإسرافه أنه كان عبدًا فادعى الربوبية (٧).
(١) "معاني القرآن" ١/ ٤٧٦ بمعناه.
(٢) في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٠: جاز أن يقال: (وملئهم) لأن فرعون.. إلخ.
(٣) انظر قول الفراء في "معاني القرآن" ١/ ٤٧٧، وانظر القول غير منسوب في "تفسير الرازي" ١٧/ ١٤٤ - ١٤٥، "التبيان" للعكبري ص ٤٤٣، قال العكبري: وهذا عندنا غلط؛ لأن المحذوف لا يعود إليه ضمير؛ إذ لو جاز ذلك لجاز أن تقول: زيد قاموا، وأنت تريد غلمان زيد قاموا، وانظر رد هذا القول أيضًا: "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٧١ - ٧٢، "المحرر الوجيز" ٧/ ١٩٩.
(٤) ساقط من (ى).
(٥) بياض في (م).
(٦) "الوسيط" ٢/ ٥٥٦، "زاد المسير" ٤/ ٥٣.
(٧) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ٢٣ ب، والبغوي ٤/ ١٤٧، وابن الجوزي ٤/ ٥٣، ومعناه في "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٥١.
285
٨٤ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ﴾ الآية، قال أهل المعاني: أعيد ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ بعد ﴿إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ﴾ (١) لتبين المعنى بالصنفين من الإيمان والإِسلام، وبالتقييد والإطلاق (٢).
ودلت الآية على أن التوكل والتفويض إلى الله من كمال الإيمان، وأن من كان يؤمن بالله فليتوكل على الله ويسلم أمره إليه عند نزول الشدائد على الثقة بحسن تدبيره له (٣).
٨٥ - قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، قال أبو مجلز، وأبو الضحى: يعني: لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا طغيانًا (٤).
وقال مجاهد: لا تهلكنا بعذاب على (٥) أيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتتنوا (٦).
(١) نص الآية: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾.
(٢) لم أقف عليه عند أهل المعاني، وذكر نحوه ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٧/ ٢٠٢.
(٣) ساقط من (ى).
(٤) ذكره عنهما الثعلبي ٧/ ٢٣ ب، ورواه ابن جرير ١١/ ١٥٢، وابن أبي حاتم ١١/ ١٩٧٦، عن أبي مجلز، وروياه أيضًا عن أبي الضحى لكن بلفظ: قال: لا تسلطهم عليا فيزدادوا فتنة.
(٥) ساقط من (ح) و (ز).
(٦) رواه ابن جرير ١١/ ١٥٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٧٦، الثعلبي ٧/ ٢٣ ب، والبغوي ٤/ ١٤٦.
قال ابن الأنباري: معنى دعائهم والذي التمسوه: ألا (١) يغلبهم الكفار فيفتتنوا بذلك ويظنوا أنهم لم يغلبوا إلاَّ وهم (٢) أولياء حق وأصحابه (٣)، قال: والفتنة في اللغة تكون إحراقًا وإهلاكًا، فكأن (٤) معنى الآية لا تجعلنا سبب هلاكهم وإحراقهم وإيقاع عذابك الأليم بهم (٥). هذا طريق في معنى الآية عليه أكثر أهل التأويل (٦)، وعلى هذا سألوا ألا تقع الفتنه بقوم فرعون بسبب تسلطهم وتمكنهم منهم.
وفي الآية قول آخر، وهو قول عطية، قال: معناها: لا تسلطهم علينا فيفتنوننا (٧) (٨)، أي لا تمكنهم من ظلمنا بما يحملنا على الانصراف عن ديننا، وعلى هذا القول سألوا ألا تقع بهم الفتنة بسبب قوم فرعون، والفتنة أريد به المفعول؛ أي مفتونين بهم.
٨٦ - قوله تعالى: ﴿وَنَجِّنَا﴾ الآية، وذلك أنهم كانوا يستعبدونهم
(١) في (خ) و (ز): (لا).
(٢) في (ى): (أولادهم)، وهو خطأ.
(٣) لم أقف عليه.
(٤) في جميع النسخ لم توضع الهمزة على الألف، وقد وضعتها؛ لأن ابن الأنباري لم يجزم بأن هذا المعنى هو المراد في الآية بدلالة قوله السابق.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٧/ ١٤٦ - ١٤٧، وابن عطية في "المحرر" ٧/ ٢٠٢ - ٢٠٣، وضعفه وكذلك أبو حيان في "البحر" ٥/ ١٨٥، ولم أجده عند غيرهم من أهل التفسير بالأثر أو الرأي أو أهل المعاني أو الغرائب فيما اطلعت عليه، بل إن المؤلف اعتمد غيره في "الوسيط" ٢/ ٥٥٦، وفي "الوجيز" ١/ ٥٠٦.
(٧) في (م): (يفتنونا)، وما أثبته موافق لمصدر التخريج.
(٨) رواه الثعلبي في "تفسيره" ٧/ ٢٣ ب، وذهب إليه مجاهد أيضاً في إحدى الروايتين عنه، انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٥٢.
ويأخذونهم بالأعمال الشاقة والمهن الخسيسة.
٨٧ - قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا﴾، قال أبو علي: التبوء: فعل يتعدى إلى مفعولين، واللام في قوله: ﴿لِقَوْمِكُمَا﴾ في قوله: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ [النمل: ٧٢] ألا ترى أن المطاوع من الأفعال على ضربين، أحدهما: ألا يتعدى نحو: انشوى وانتأى (١)، في مطاوع [شويته ونأيته، والآخر: أن يتعدى كما تعدى ما هو مطاوع] (٢) له؛ وذلك نحو تعلقته وتقطعته فـ (تعلقته) يتعدى كما تعدى (علقته) وليس فيه أن ينتقص مفعول المطاوع عما (٣) كان يتعدى إليه ما هو مطاوع له (٤)، فإذا كان كذلك كان اللام على الحد الذي ذكرنا (٥). فعلى ما ذكر أبو علي يجوز أن تقول: تبوأت زيدا مكانًا، أي اتخذت له، ولم أر هذا لغيره؛ لأنه يقال: تبوأ المكان دارًا، فيُعدونه إلى مفعولين كما ذكر، ويقال: تبوأ لزيد منزلاً، أي اتخذه له، فلا يُعدون إلى زيد إلا باللام.
وقوله تعالى: ﴿بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد مساجد (٦)، فالبيوت هاهنا هي المساجد، لا المنازل المسكونة، كقوله
(١) كذا في جميع النسخ وهو بمعنى: بعد، انظر: "اللسان" (نأى)، وفي "الحجة": انثأى، وهو من الثأي بمعنى الإفساد أو القتل أو خرم الخرز. انظر: "لسان العرب" (ثأي).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٣) من (ى) وفي بقية النسخ: كما، وما أثبته موافق لما في "الحجة" وهو الصواب.
(٤) ساقط من (ح) و (ز).
(٥) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٣٠٩ بتصرف.
(٦) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٨ من رواية الكلبي، ورواه تفسيرًا للجملة التالية ابن جرير ١١/ ١٥٣ - ١٥٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٧٧، والفريابي =
288
تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ﴾ [النور: ٣٦].
﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾، قال (١) يريد: إلى الكعبة (٢)، وعلى هذا، التقدير: واجعلوا بيوتكم؛ أي مساجدكم قِبَل القبلة، أي (٣) إلى القبلة، وهذا قول مجاهد (٤)، والحسن (٥)، وابن جريج عن ابن عباس قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه (٦).
= وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٥/ ٥٦٦، وهو من رواية عكرمة.
(١) يعني ابن عباس، وقد رواه ابن جرير ١١/ ١٥٤.
(٢) في هذا القول نظر لما يأتي:
أ- أن تشريع القبلة تجاه بيت المقدس في أول الإسلام يدل على أنها قبلة الأنبياء السابقين، وليست مما غيره أهل الكتاب من دينهم.
ب- أن هذا الأثر عند ابن جرير من رواية محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو الأسدي؛ والأول سيء الحفظ جدًا، فاخش الخطأ، كثير المناكير كما في "تهذيب التهذيب" ٣/ ٦٢٧، والثاني صدوق ربما وهم كما في "التقريب" (٦٩١٨).
(٣) في (م): (أو)، وهو خطأ.
(٤) رواه ابن جرير ١١/ ١٥٤ - ١٥٥ من طريقين أحدهما من رواية ابن جريج وهي ضعيفة لعنعنة ابن جريج وهو مدلس كما في "التقريب" ص ٣٦٣ (٤١٩٤)، والثانية من رواية ابن أبي نجيح وهي ضعيفة أيضًا؛ لأن في سندها أبا حذيفة؛ وهو صدوق سيء الحفظ وكان يصحف، ولم يخرج له البخاري إلا في المتابعات، كما في المصدر السابق ٢/ ٢٨٨.
(٥) ذكره هود بن محكم في "تفسيره" ٢/ ٢٠٥، لكن بلفظ: مستقبلة القبلة، ومعلوم أن القبلة أعم من الكعبة كما قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٥].
(٦) رواه الثعلبي ٧/ ٢٤ أ، والبغوي ٤/ ١٤٦، وفي سنده ابن جريج وقد عنعنه وهو مدلس كما في "تقريب التهذيب" ص ٣٦٣ (٤١٩٣)، وانظر التعليق على قول ابن عباس السابق.
289
وعلى هذا القول أمر موسى وأخوه باتخاذ المساجد لقومهما بمصر على رغم أعدائهما وأعداء قومهما؛ لأن الله عز وجل يمنعهم من أعدائهم حتى لا (١) يَصِلُوا إيقاع مكروه بهم.
وقال أكثر المفسرين: لما أُرسل (٢) موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها، ومُنعوا من الصلاة، فأُمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفًا من فرعون (٣)، وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة (٤)، وإبراهيم (٥)، وابن زيد (٦)، والربيع (٧)، وأبي مالك (٨)، والسدي (٩)، والضحاك (١٠)، واختيار الفراء (١١)، والزجاج (١٢).
قال الزجاج: وقوله تعالى: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ أي: صلوا
(١) ساقط من (ح) و (ز).
(٢) في (ى): (أرسل الله).
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ٢٣ ب، والسمرقندي ٢/ ١٠٨، والبغوي ٤/ ١٤٦، وابن الجوزي ٤/ ٥٤.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٥٤، والثعلبي ٧/ ٢٣ ب، والبغوي ٤/ ١٤٦.
(٥) يعني النخعي، وانظر قوله في: المصادر السابقة "تفسير ابن أبي حاتم" ٦/ ١٩٧٧.
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٥٤، والثعلبي ٧/ ٢٣ ب.
(٧) انظر: المصدرين السابقين، نفس الموضع.
(٨) رواه ابن جرير ١١/ ١٥٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٧٧، والثعلبي ٧/ ٢٣ ب.
(٩) رواه ابن جرير، الموضع السابق.
(١٠) المصدر السابق، نفس الموضع.
(١١) "معاني القرآن" ١/ ٤٤٧.
(١٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٠.
290
في بيوتكم لتأمنوا من الخوف (١)، وقال الفراء: أمروا أن يتخذوا المساجد في جوف الدور لتخفى من القبط، ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ أي إلى الكعبة (٢).
وقال ابن الأنباري: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ أي قبلا، يعني مساجد فاكتفى بالواحد من الجمع، كقول العباس بن مرداس:
فقلنا أسلموا إنا أخوكم فقد برئت من الإحن الصدور (٣)
[أراد إنا إخوتكم (٤).
وقال عكرمة عن ابن عباس: واجعلوا بيوتكم مساجد (٥)] (٦).
٨٨ - قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، قال ابن عباس: كان لهم من لدن فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن ذهب وفضة وزبرجد وياقوت (٧).
﴿رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾، اختلفوا في هذه اللام؛ فقال الفراء:
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٠.
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٤٧٧، ولفظه: لتخفى من فرعون.
(٣) انظر: "ديوان العباس بن مرداس" ص ٥٢، "لسان العرب" (أخا) ١/ ٤١، "المقتضب" ٢/ ١٧٤، وقبل هذا البيت:
كأن بني معاوية بن بكر إلى الإسلام ضائنة تخور
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٥٥، وذكره مختصرًا الرازي في "تفسيره" ١٧/ ١٤٧.
(٥) رواه ابن جرير ١١/ ١٥٣، ١٥٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٧٧، والفريابي وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٦٦.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٧) "الوسيط" ٢/ ٥٥٧، "زاد المسير" ٤/ ٥٥.
291
(إنها (١) لام كي) (٢) وعلى هذا، المعنى: إنك جعلت هذه الأموال سببًا لضلالهم؛ لأنهم بطروا فيها فاستكبروا عن الإيمان، وطغوا في الأرض.
وققال الأخفش: اللام في ﴿لِيُضِلُّوا﴾ إنما هو لما يؤول إليه الأمر، والمعنى: إنك آتيت فرعون وملأه زينة فضلوا، كما أن معنى ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: ٨] أي: فكان كذلك (٣)، وهذا قول الزجاج، وأكثر أهل المعاني (٤).
قال الزجاج: المعنى: أصارهم ذلك إلى الضلال، كما قال: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص: ٨] أي: فالتقطوه (٥) فآل أمرهم إلى أن صار عدوًّا وحزنًا، لا أنهم قصدوا ذلك (٦)، فعلى هذا هي لام العاقبة والصيرورة، وفتح الياء في (ليَضلوا) (٧) حسن لهذا المعنى؛ لأنهم ضلوا وطغوا لما أوتوه من الزينة والأموال، ومن قرأ: ﴿لِيُضِلُّوا﴾ من الإضلال فقد ذكرنا وجه ذلك في قوله: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ﴾ سورة الأنعام [١١٩].
وقال ابن الأنباري: هذه لام الدعاء، وهي مكسورة تجزم المستقبل
(١) ساقط من (ى).
(٢) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٧٧.
(٣) كتاب "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٣٧٧ بمعناه.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٠، "معاني القرآن الكريم" للنحاس ٣/ ٣١٠، "إعراب القرآن" له ٢/ ٧٢ - ٧٣، "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٢٩١، ٣٩٥.
(٥) في (ى): (فالتقطه)، والمثبت موافق للمصدر وهو الصواب.
(٦) اهـ. كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٠.
(٧) قرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بضم الياء من الفعل (أضل)، وقرأ الباقون بفتحها من الفعل (ضل). انظر: "الغاية" ص ١٤٩، " إرشاد المبتدي" ص ٣١٧٤، "النشر" ٢/ ٢٦٢، "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٥٣.
292
ويفتتح به (١) الكلام، فيقال: ليغفر الله للمؤمن (٢)، وليعذب الله الكافر، وتأويلها (٣): ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك (٤) (٥).
وقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾، ذكرنا معنى الطمس عند قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ (٦) [النساء: ٤٧]، ومعناه هاهنا المسخ.
قال الأزهري فيما روى عن شمر: ويكون الطموس بمنزلة المسخ للشيء، قال الله: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ قالوا: صارت حجارة (٧).
وهذا قول ابن عباس (٨)، [وقتادة (٩)، والقرظي (١٠)، والسدي (١١)، وابن زيد (١٢)، والربيع (١٣) والضحاك (١٤):
(١) هكذا في جميع النسخ، والأولى بالسياق أن يقول: بها.
(٢) في (ح) و (ز): (للمؤمنين).
(٣) في (م): (تاويله).
(٤) في (ح) و (ز): (سبيله).
(٥) انظر قول ابن الأنباري في: "زاد المسير" ٤/ ٥٦.
(٦) وهذه الآية مع تسع آيات مفقودة في النسخ التي بين يدي.
(٧) اهـ. كلام شمر، انظر: "تهذيب اللغة" (طمس) ٣/ ٢٢١٨.
(٨) رواه الثعلبي ٧/ ٢٤ أ، والبغوي ٤/ ١٤٧.
(٩) رواه الصنعاني في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٩٦، وابن جرير ١١/ ١٥٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٧٩، والثعلبي ٧/ ٢٤ أ، والبغوي ٤/ ١٤٧.
(١٠) رواه ابن جرير ١١/ ١٥٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٧٩، والثعلبي ٧/ ٢٤ أ، والبغوي ٤/ ١٤٧.
(١١) المصادر السابقة، عدا ابن جرير.
(١٢) رواه ابن جرير ١١/ ١٥٨، والثعلبي ٧/ ٢٤ ب، ولفظه: طمس على أموالهم فصارت حجارة ذهبهم ودراهمهم وعدسهم وكل شيء، وانظر التعليق الآتي على قول السدى.
(١٣) رواه ابن جرير ١١/ ١٥٧.
(١٤) رواه ابن جرير في الموضع السابق، وابن أي حاتم ٦/ ١٩٧٩.
293
قال ابن عباس] (١): بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحًا وأثلاثًا وأنصافًا (٢)
وقال القرظي: جعل سكرهم (٣) حجارة.
وقال قتادة: بلغنا أن حروثًا لهم صارت حجارة.
وقال السدي: مسخ الله أموالهم حجارة؛ النخل والثمار والدقيق والأطعمة (٤).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) انظر تخريج هذا الأثر والآثار التالية في التعليقات السابقة.
(٣) بضم السنن وتشديد الكاف، وهو معروف، أو بفتح السين والكاف من غير شديد، وهو نقيع التمر الذي لم تمسه النار، أو الخمر، أو النبيذ، وكان إبراهيم والشعبي وأبو رزين يقولون: السَّكَر: خمر. وقال أبو عبيدة: الطعام. واحتج بقول الآخر:
جعلت أعراض الكرام سكرا
انظر: "تهذيب اللغة" (سكر) ٢/ ١٧١٩، "التكملة والذيل والصلة" (سكر) ٣/ ٣٣، "لسان العرب" (سكر) ٤/ ٢٠٤٧.
(٤) الظاهر أن هذا القول وما في معناه مما تلقاه المفسرون عن أهل الكتاب، ولو صح ما ذكره السدي وابن زيد لهلكوا، ومعلوم أن هلاكهم كان غرقًا في اليم، ثم إن قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: ٥٧ - ٥٩]، وقوله تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الدخان: ٢٥ - ٢٨] يدل على بطلان القول بعموم مسخ أموالهم وطعامهم وزروعهم، ولم يرد دليل صحيح على مسخ البعض، وعلى ضوء ذلك فالراجح ما رواه ابن جرير ١١/ ١٥٨، عن ابن عباس ومجاهد بأن معنى الآية: دمر عليهم وأهلك أموالهم، وهذا موافق لقوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ﴾ إلى قوله: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ [الأعراف: ١٣٣ - ١٣٥]، وكشف الرجز عنهم يبين وجه الجمع بين الآيات الدالة على هلاك أموالهم والآيات الدالة على بقائها بعد غرقهم.
294
وقال عطاء عن ابن عباس: لم يبق لهم معدن إلا [طمس الله عليه فلم ينتفع به أحد بعد (١).
قال الزجاج: تأويل طمس الشيء: إذهابه عن] (٢) صورته والانتفاع به على الحال الأولى التي كانت عليها (٣) (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾، قال ابن عباس: يريد: امنعهم عن الإيمان (٥)، وتأويله: أقسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان، وهذا دليل على أن الله يفعل ذلك بمن يشاء (٦)، ولولا ذلك لما حسن من موسى هذا السؤال.
وقوله تعالى: ﴿فَلَا يُؤْمِنُوا﴾، قال المبرد: هو عطف على قوله: ﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ أي: ربنا إنك آتيتهم ليضلوا فلا يؤمنوا (٧).
وهذا اختيار أبي علي، قال: هو عطف على النصب الحادث من اللام في ﴿لِيُضِلُّوا﴾، وما بين ذلك من قوله: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾
(١) ذكره القرطبي ٨/ ٣٧٤، وأبو حيان ٥/ ١٨٧، وانظر التعليق السابق.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٣) في (ى): (عليه).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣١، والطمس في اللغة: الدروس والانمحاء، وطمس الكواكب: ذهاب نورها. انظر: "اللسان" (طمس).
(٥) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٧، والقرطبي ٨/ ٣٧٤، وأبو حيان ٥/ ١٨٧، ورواه بمعناه ابن جرير ١١/ ٥٨١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٧٩.
(٦) لكن وفق حكمته وعدله كما قال تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٦]، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥].
(٧) ذكر قول المبرد هذا: الزجاج في "معاني القرآن" ٣/ ٣١، وانظر: "زاد المسير" ٤/ ٥٧.
295
اعتراض (١) بين ﴿آتَيْتَ﴾ وما يتصل به، وهذا الضرب من الاعتراض كثير (٢).
وقال الفراء (٣)، والزجاج (٤): ﴿فَلَا يُؤْمِنُوا﴾ دعاء عليهم كأنه قال: اللهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
[قال ابن الأنباري: والتأويل فلا آمنوا (٥) حتى يروا العذاب (٦)] (٧) وموضع ﴿يُؤْمِنُوا﴾ على هذا التأويل جزم بـ (لا) قال الأعشى:
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم (٨)
قال أبو بكر: ويجوز أن يكون ﴿يُؤْمِنُوا﴾ في موضع جزم بالنسق على (يضلوا)، و (يضلوا) منجزم بلام الدعاء (٩).
وقال الفراء: وإن شئت جعلت ﴿فَلَا يُؤْمِنُوا﴾ جوابًا لمسألة موسى عليه السلام لأن المسألة خرجت على لفظ الأمر، فـ (لا يؤمنوا) (١٠) في موضع
(١) ساقط من (ى).
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٣٩٥.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٤٧٧ واللفظ له.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه"، ولفظه: فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، دعاء أيضًا عليهم.
(٥) من (م) وفي بقية النسخ: فلا يؤمنوا، وما أثبته موافق للمصدر التالي.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٥٧.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٨) البيت للأعشى الكبير من قصيده يهجو بها يزيد بن مسهر الشيباني، انظر: "ديوانه" ص ١٧٨، "زاد المسير" ٤/ ٥٧، "لسان العرب" (زوى) ٣/ ١٨٩٤.
(٩) ساقط من (ى).
(١٠) عبارة الفراء: فتجعل (فلا يؤمنوا) في موضع نصب.
296
نصب على الجواب، فيكون كقول الشاعر (١):
يا ناق سيري عنقًا فسيحًا إلى سليمان فنستريحا (٢)
قال ابن الأنباري: وذهب بعض الناس إلى أن معنى قوله: ﴿فَلَا يُؤْمِنُوا﴾ فلن يؤمنوا، فأبدلت الألف من النون الخفيفة [وهذا خطأ لأن النون الخفيفة] (٣) لا تبدل ألفًا في وصل الكلام، ويلزم هذا القائل أن يجيز: لا يقومَ عبد الله، بنصب الميم، وذلك محال من كل وجه، وهذا القول الذي حكاه عن بعض الناس هو قول صاحب النظم.
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ يريد الغرق (٤)، قال ابن جريج عن ابن عباس: فلا يؤمنوا حتى يروا الغرق (٥)، قال: وما آمن فرعون حتى أدركه الغرق (٦).
٨٩ - قوله تعالى: ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾ الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: وذلك أن موسى كان يدعو، وهارون يؤمن (٧)، وهذا قول
(١) هو: أبو النجم العجلي يمدح سليمان بن عبد الملك، انظر: "الدرر اللوامع" ٣/ ٥٢، "كتاب سيبويه" ٣/ ٣٥، "لسان العرب" (نفخ) ٨/ ٤٤٩٥، و (عنق) ٥/ ٣١٣٤، والعنق: ضرب من السير. انظر: "لسان العرب" (عنق).
(٢) اهـ. كلام الفراء، انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٧٨.
(٣) ما بين المعقومن ساقط من عدا (م).
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٥٨، والثعلبي ٧/ ٢٤ ب.
(٥) رواه ابن جرير ١١/ ١٦٠، ورواه أيضاً ابن أبي حاتم ٦/ ١٩٨٠، من رواية عطية العوفي.
(٦) رواه ابن جرير ١١/ ١٦٠، وبنحوه ابن أبي حاتم ٦/ ١٩٨٠، من رواية علي بن أبي طلحة الوالبي.
(٧) رواه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٦٧، وبمعناه ابن جرير ١٥/ ١٨٧.
297
الربيع وابن زيد وعكرمة وأبي العالية والقرظي كلهم قالوا: دعا موسي وأمّن هارون فلذلك قال: ﴿دَعْوَتُكُمَا﴾ فأضاف إليهما (١).
قال الزجاج: والمؤمّن على دعاء الداعي داع أيضًا؛ لأن قوله (آمين) تأويله: استجيب، فهو سائل كسؤال الداعي (٢).
وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِيمَا﴾ فامضيا لأمري، قال عكرمة: فهو الاستقامة، عن ابن عباس (٣)، وقال المفسرون: فاستقيما على الرسالة والدعوة إلى أن يأتيهم العذاب (٤).
قال ابن جريج: إن فرعون لبث بعد هذه الآية (٥) أربعين سنة (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعَانِّ﴾، قال أبو إسحاق: موضعه جزم إلا أن
(١) ذكر أقوالهم ابن جرير في "تفسيره" ١١/ ١٦٠ - ١٦١، والسيوطي في "الدر المنثور" ٣/ ٥٦٧.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣١.
(٣) هكذا في جميع النسخ، وفي العبارة قلق، وقد روى ابن جرير في "تفسيره" ١١/ ١٦١، أثري ابن عباس وعكرمة، ولفظ ابن عباس: (فاستقيما) فامضيا لأمري، وهي الاستقامة، وهو من رواية ابن جريج عنه. ولفظ عكرمة: أمن هارون على دعاء موسى، فقال الله: قد أجيبت دعوتكما فاستقيما.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٦١، والثعلبي ٧/ ٢٤ ب، والبغوي ٤/ ١٤٨.
(٥) يعني الدعوة الواردة في هذه الآية، ورواية المؤلف موافقة لما في مخطوطة تفسير ابن جرير، كما أشار إلى ذلك محققه ١٥/ ١٨٧، وقد أثبت المحقق ما في الطبعة السابقة. انظر طبعة الحلبي ١١/ ١٦١، "الدر المنثور" ٣/ ٥٦٧، ولفظه: بعد هذه الدعوة.
(٦) رواه ابن جرير ١١/ ١٦١، والثعلبي ٧/ ٢٤ ب، وأشار البغوي ٤/ ١٤٧، إلى أن هذا من القصص، يعني الذي لا يمكن التثبت من صحته.
298
النون الشديدة دخلت للنهي مؤكدة وكسرت لسكونها (١) وسكون النون التي قبلها فاختير لها الكسرة؛ لأنها بعد الألف تشبه نون الاثنين (٢)، قال أبو علي: إنما شبهتها؛ لأنها زائدة مثلها وداخلة لمعنى كدخولها (٣)، فإن قيل: المكسورة في (تتبعان) ليست بعد ألف فكيف تكسر تشبيهًا بنون رجلان وهي بعد ألف؟ قيل: النون الأولى من المشددة لما كانت ساكنة وجَمعت إلى السكون الخفاء لم يعتد (٤) بها، وصارت المكسورة كأنها وليت الألف، وقد لا يعتدون بالحاجز لخفائه، وإن كان متحركًا، كما أجمعوا -فيما زعم سيبويه (٥) - على (رُدَّهَا) بفتح الدال ولم يضموا كما أجازوا الضم في (رُدُّ)؛ لأن الدال في (ردها) صارت كأنها وليت الألف لخفاء الهاء (٦)، وهذا مما ذكرناه في أول هذا الكتاب.
فأما قراءة ابن عامر (٧) (وَلَا تَتَّبِعَانِ) بتخفيف النون (٨) فلها ثلاثة أوجه: أحدهما: أن يكون خفف الثقيلة للتضعيف كما حذفوا (رب) و (إن)
(١) في (ح) و (ز): (وسكونها)، وما أثبته موافق للمصدر.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣١.
(٣) في (ى): (كمعنى دخولها)، والمثبت موافق للمصدر.
(٤) في (ى): (يعرر)، وهو خطأ.
(٥) انظر: "كتابه" ٣/ ٥٣٤.
(٦) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة" ٢٩٣/ ٤ بمعناه.
(٧) في (ى): (ابن عباس)، وهو خطأ.
(٨) انظر: "الغاية في القراءات العشر" ص ١٧٣، "إرشاد المبتدي" ص ٣٦٥، "تقريب النشر" ص ١٢٣.
299
ونحوهما من المضاعف، إلا أنه حذف الأولى (١) من المثلين، كما أبدلوا الأولى في نحو قيراط ودينار (٢)، ولزم ذلك في هذا الموضع؛ لأن الحذف لو لحق الثانية للزم التقاء الساكنين على غير ما يستعمل في الأمر الشائع، وغلط بعضهم فزعم أن هذا على مذهب يونس فإنه يجيز (٣) إدخال النون الخفيفة في فعل الاثنين وفعل جماعة النساء (٤)، وهذا غلط؛ لأن تلك النون الخفيفة ساكنة غير متحركة، وأجاز يونس في ذلك الجمع بين ساكنين، وابن عامر يقرأ بالتخفيف والتحريك (٥) وجميع أهل النحو خالفوا يونس في ذلك الوجه (٦).
الثاني: أن قوله (لا تتبعان) على هذه القراءة على لفظ الخبر، ومعناه الأمر، كقوله: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨، ٢٣٤]، و ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ﴾ [البقرة: ٢٣٣] أي: لا ينبغي ذلك.
(١) في (ح): (للأولى)، وفي "الحجة" الأول، وكذا في الموضع التالي، وهو أولى.
(٢) أجل قيراط: قرّاط، بتشديد الراء، ثم قبلت إحدى الراءين ياء، وكذلك أصل دينار: دنّار فقلبت إحدى النونين ياء وذلك لئلا يلتبس بالمصادر التي تجيء على وزن فِعّال ككذّاب. انظر: "لسان العرب" (دنر) و (قرط).
(٣) في (ح) و (ز): (يجوز).
(٤) انظر قول يونس ورد سيبويه عليه في: "كتاب سيبويه" ٣/ ٥٢٧، "الإنصاف" ص ٥٢٣، "ائتلاف النصرة" ص ١٣١.
(٥) انظر: "النشر" ٢/ ٢٨٦، "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٥٣.
(٦) انظر: "كتاب سيبويه" ٣/ ٥٢٧، "الأصول في النحو" لابن السراج ٢/ ٢٠٣، "الحجة" ٣/ ٤٤١، "الإيضاح العضدي" ١/ ٣٣٥، "أوضح المسالك" ٣/ ١٣٦، وقول المؤلف: وجميع أهل النحو خالفوا يونس غير صحيح، فقد وافقه جميع الكوفيين، انظر: "الإنصاف" ص ٥٢٣، "ائتلاف النصرة" ص ١٣١.
300
وإن شئت جعلته حالاً من ﴿استقيما﴾، وتقديره: استقيما غير متبعين، وهذا هو الوجه الثالث، ويدل على هذا (١) قول الشاعر (٢):
ولا أسقي ولا يَسقي شريبي ويرويه إذا أوردت مائي
وقول الفرزدق:
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ولم تكثر القتلى بها حين سلت (٣)
ومعنى الآية: ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلا قضائي، فإن وعدي لا خلف له، ووعيدي نازل بفرعون وقومه، كذا قال المفسرون (٤).
٩٠ - قوله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ﴾ هذا مذكور في سورة الأعراف، وقوله: ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُه﴾ الإتباع طلب اللحاق بالأول واستقصاء هذا مذكور في قوله: ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾ [الأعراف: ١٧٥].
وقوله تعالى: ﴿بَغْيًا وَعَدْوًا﴾ البغي: طلب الاستعلاء بغير حق،
(١) ساقط من (ح).
(٢) لم أهتد له، والبيت بلا نسبة في "أمالي القالي" ٢/ ٢٦٣، "الحجة" ٤/ ٢٩٤، "سمط اللآلي" ٢/ ٩٠١، "المعاني الكبير" لابن قتيبة ٣/ ١٢٦٥ قال ابن قتيبة في الموضع نفسه: شريبه: الذي يشرب معه، والمعنى: لا أسقي حتى يسقي شريبي.
(٣) لم أجده في ديوانه، "شرح ديوان الحماسة" اللمرزوقي ص ١٢٢،"لسان العرب" (شيم) ٤/ ٢٣٨٠، "المعاني الكبير" ٣/ ١٢٦٥. وقد بين المبرد في "الكامل" ١/ ٣٠٨، أن هذا البيت ظريف عند أصحابي المعاني، وتأويل لم يشيموا: لم يغمدوا، ولم تكثر القتلى: أي لم يغمدوا سيوفهم إلا وقد كثرت بها القتلى حين سلت.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٦١ - ١٦٢، والثعلبي ٧/ ٢٥ أ، والبغوي ٤/ ١٤٨.
301
والعدْو: الظلم، وهذا ما سبق القول فيه (١)، وقوله تعالى: ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ﴾، وقرئ بكسر الألف (٢)، فمن فتح الألف فلأن هذا الفعل يصل بحرف الجر نحو: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣] فلما حذف الحرف وصل الفعل إلى (أن) فصار (٣) في موضع نصب أو خفض على الخلاف في ذلك، ومن (٤) كسر الألف حمله على القول المضمر، كأنه: آمنت فقلت إنه، وإضمار القول في هذا النحو كثير، ولإضمار القول من المزية هنا أن قلت: إنه لا إله إلا الله في المعنى إيمان (٥)، فإذا قال: آمنت، فكأنه قد ذكر ذلك.
قال ابن عباس في هذه الآية: فلم يقبل الله إيمانه عند [نزول العذاب، وقد كان في مهل، ولم يفعل الله ذلك بأحد عند] (٦) نزول العذاب، أو غرغرة الموت من المشركين، إلا قوم يونس (٧) وهذا قول جميع المفسرين (٨)، قالوا: إن فرعون تلفظ بما ذكر الله عنه من قوله: {آمَنْتُ أَنَّهُ
(١) انظر المصدر السابق ١/ ٣٨١.
(٢) قرأ حمزة والكسائي وخلف (إنه) بكسر الهمزة والباقون بفتحها. انظر: كتاب "السبعة" ص ٣٣٠، "إرشاد المبتدي" ص ٣٦٥، "تقريب النشر" ص ١٢٣.
(٣) في (ى): (صار).
(٤) في (ى): (وإن)، وهو خطأ.
(٥) يعني: أن قول كلمة الإخلاص إيمان، فقولها بمعنى قول: آمنت.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من النسخ عدا (م).
(٧) لم أجده بهذا السياق، وقد ذكر أوله ابن الجوزي ٤/ ٥٩، وروى نجاة قوم يونس عنه جمع من المفسرين. انظر: "الدر المنثور" ٣/ ٥٦٨ - ٥٦٩.
(٨) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٦٢، والسمرقندي ٢/ ١١٠، والزمخشري ٢/ ٢٥١، وابن الجوزي ٤/ ٦٠٢، والرازي ١٧/ ١٥٤.
302
لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} فلم ينفعه ذلك؛ لأن التوبة مقبولة إلى أن يعاين ملك الموت وأعوانه من الملائكة، وعدو الله فرعون جنح إلى التوبة حين أغلق بابها بحضور الموت، ومعاينة الملائكة، فقيل له (١) (آلآن وقد عصيت قبل) (٢) يراد الآن تتوب وقد أضعت التوبة في وقتها وآثرت دنياك الفانية على الآخرة؟! والظرف متعلق بمحذوف تدل عليه الحال، تقديره: الآن آمنت أو تؤمن أو تتوب، والمفسرون على أن جبريل خاطب فرعون بهذا الخطاب (٣).
وقال صاحب النظم: قوله: ﴿آمَنَتْ﴾ إلى آخر الآية، قد يعلم الجميع أن الغريق -سيّما من يكون غرقه نقمة من الله- لا يمكنه أن يلفظ بمثل هذا المنطق (٤) لما يكون فيه من الشغل بالموت، والمعنى إن شاء الله: إن الله عز وجل علم ما وقع في قلبه حينئذ من اليقين والندامة على ما فرط منه، فذكر ذلك عنه وجعله قولاً، كما قال: ﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة: ٨] فأخرج إضمارهم مخرج القول، ومثله قوله: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ [الإنسان: ٩] الآية. وجاء في الخبر: إن الله أثنى عليهم بما في ضميرهم، وهم لم يقولوا ذلك، ولكن الله علم ذلك من ضمائرهم
(١) ساقط من (ح) و (ز).
(٢) في (ى): (وكنت من المفسدين)، ولم أثبت هذه الزيادة لانفراد النسخة (ى) بذلك مع كثرة أخطائها، ثم إن المؤلف لم يتطرق إلى تفسير هذه الجملة.
(٣) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ٢٦ ب، والبغوي ٤/ ١٤٨، وابن الجوزي ٤/ ٦٠، وقد ذهب فريق من المفسرين إلى أن المخاطب له هو تعالى، وإليه ذهب ابن جرير ١١/ ١٦٤، والسمرقندي ٢/ ١١٠، وهو الظاهر ويدل عليه قوله تعالى بعد ذلك: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾.
(٤) ساقط من (ي).
303
فمدحهم به حتى كأنهم قالوا ذلك (١).
٩١ - وقوله تعالى بعد هذا ﴿آلْآنَ﴾ وما بعدها، كله على الخبر أنه فعله به، لا على أنه خاطبه بهذا القول (٢).
والصحيح ما ذكرنا أولاً من مذهب المفسرين، يدل عليه ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن فرعون لما أدركه الغرق جعل جبريل يحشو التراب في فيه خشية أن يؤمن (٣).
وروي أيضًا عن النبي - ﷺ - أنه قال: "قال لي جبريل رأيتني يا محمد وأنا أدس الطين في فيه مخافة أن تدركه الرحمة" (٤).
(١) الخبر عن مجاهد، ولفظه: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ الآية، قال: لم يقل القوم ذلك حين أطعموهم، ولكن علم الله من قلوبهم فأثنى به عليهم. رواه عبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ٣٣٧، وابن جرير ٢٩/ ٢١١ (طبعة الحلبي).
(٢) اهـ. كلام صاحب النظم.
(٣) رواه ابن جرير ١١/ ١٦٣، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٨٢. وهو بمعنى الحديث المرفوع التالي.
(٤) رواه الترمذي (٣١٠٧)، (٣١٠٨) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة يونس، وقال: هذا حديث حسن، ثم ذكر رواية أخرى وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. ورواه أيضًا الحاكم في "المستدرك" ١/ ٥٧، ٤/ ٢٤٩، وصححه ووافقه الذهبي، ورواه ابن حبان (الإحسان) ١٤/ ٩٨، وقال محققه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. ورواه كذلك أحمد في "المسند" ١/ ٢٤٥، ٣٠٩، وابن جرير في "تفسيره" ١١/ ١٦٣ - ١٦٤.
هذا وقد زعم الزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٢٥١ أن ما جاء في الحديث من قول جبريل -عليه السلام- "خشية أن تدركه الرحمة" من زيادات الباهتين لله وملائكته، وقال: فيه جهالتان: أحدهما: أن الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه، والأخرى: أن من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر؛ =
304
والذي ذكره صاحب النظم شيء لا تبعده طريقة أهل اللغة والمعاني.
= لأن الرضا بالكفر كفر. وقد رد عليه الإمام ابن حجر في "الكافي الشاف" ٨٥ - ٨٦ فقال: وهذا إفراط منه في الجهل بالمنقول والغض من أهله، فإن الحديث صحيح الزيادات، وقد أخرجه الترمذي وصححه والنسائي وابن حبان والحاكم، ثم ذكر الروايات ثم قال: وأما الوجهان اللذان ذكرهما الزمخشري فللحديث توجيه وجيه لا يلزم منه ما ذكره الزمخشري، وذلك أن فرعون كان كافرًا كفر عناد؛ ألا ترى إلى قصته حيث توقف النيل، وكيف توجه منفردًا وأظهر أنه مخلص، فأجري له النيل، ثم تمادى على طغيانه وكفره، فخشي جبريل أن يعاود تلك العادة فيظهر الإخلاص بلسانه فتدركه رحمة الله فيؤخره في الدنيا، فيستمر في غيه وطغيانه فدس في فمه الطين، ليمنعه التكلم بما يقتضي ذلك، هذا وجه الحديث، ولا يلزم منه جهل ولا رضي بكفر بل الجهل كل الجهل من اعترض على المنقول الصحيح برأيه الفاسد. وأيضاً فإن إيمانه في تلك الحال -على تقدير أنه كان صادقًا بقلبه- لا يقبل؛ لأنه وقع في حال الاضطرار ولذلك عقب الآية بقوله: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾ وفيه إشارة في قوله تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥] اهـ.
قلت: ويمكن أن يضاف إلى ما ذكره الحافظ وجهان آخران: الأول: أن الملِائكة عالم غيبي مفطور على الطاعة ومعصوم من المعصية: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦]، ولذا فلا ينبغي أن تنزل أفعال الملائكة منزلة أفعال الثقلين في الحكم، لاختلاف الطبيعة والتكليف والجزاء. الثاني: أن الملائكة لا تنزل إلا بأمر الله، ولا تفعل إلا بإذنه كما قال تعالى: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ١٦٤]، وقال -عز وجل-: ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٧]، ولذا ينبغي أن يحمل فعل جبريل -عليه السلام- على أنه بأمر الله وإذنه فلا يكون جهلاً ولا رضي بكفر، بل هو كسجود الملائكة لآدم -عليه وعليهم السلام - والله تعالى يفعل بالأسباب كما يفعل بددونها، فإذا لم يرد الله شيئًا منع أسبابه، وبما أن الدعاء وإظهار الإخلاص سبب الرحمة فقد أرسل الله جبريل لمنع هذا السبب الذي يقتضي مسببه عادة بإذن الله.
305
٩٢ - قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾، قال ابن عباس (١) عامة المفسرين (٢): لما غرّق الله فرعون وقومه جحد بعض بني إسرائيل غرق فرعون، وقالوا: هو أعظم شأنًا من أن يغرق، فأخرجه الله حتى رأوه فذلك قوله: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ أي: نلقيك على نجوة من الأرض، وهي المكان المرتفع، وهذا قول أبي عبيدة (٣)، وأبي عمرو بن العلاء (٤)، ويونس (٥)، واختيار الزجاج (٦)، وابن قتيبة (٧)، وروى ثعلب، عن ابن الأعرابي قال: إنهم -أحسبها- شكوا في غرقه؛ فأمر الله أن يقذفه على دكة
(١) رواه بنحوه ابن جرير ١١/ ١٦٥ - ١٦٦، والبغوي ٤/ ١٤٨، وذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٨، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٦١.
(٢) منهم قتادة ومجاهد وقيس بن عباد وابن جريج وغيرهم.
انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٦٥ - ١٦٦، "الدر المنثور" ٣/ ٥٧٨. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ٨/ ٣٤٨ بعد أن ذكر أثر قيس بن عباد: هذا موقوف، رجاله ثقات.
(٣) "مجاز القرآن"١/ ٢٨١.
(٤) لم أجد من ذكره بعد طول بحث، وقد نسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٦٠ إلى اللغويين، وذكره ابن سيده في "المخصص" ١٠/ ٧٩، ونسبه لأبي عبيد والخليل والأصمعي ونسبه الأزهري في "تهذيب اللغة" (نجا) ٤/ ٣٥١٠ للزجاج وأبي زيد والنضر بن شميل.
(٥) رواه ابن الأنباري وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٧٠، وانظر: "زاد المسير" ٤/ ٦٠.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٢، وعبارة الزجاج تدل على أنه لم يختر هذا القول، ونصها: (ننجيك ببدنك) نلقيك عريانًا، وقيل: (ننجيك ببدنك) نلقيك على نجوة من الأرض.
(٧) "تفسير غريب القرآن" ص ٢٠٤.
306
في (١) البحر (٢).
وذهب بعضهم إلى أن هذا من النجاة والتخليص، ومعنى ننجيك نخرجك من البحر بعد الغرق (٣) وهو معنى قول الكلبي (٤)، ونحو ذلك قال عطاء عن ابن عباس: فأخرجه الله حتى رأوه (٥).
واختلفوا في معنى البدن هاهنا؛ فأهل اللغة ذهبوا إلى أن معناه الدرع (٦)، قال الليث: البدن: شبه الدرع، إلا أنه قصير قدر ما يكون على المجسد، قصير الكمين (٧).
وقال ابن الأعرابي في هذه الآية: ببدنه: بدرعه (٨)، وأنشد ابن الأنباري:
ترى الأبدان فيها مسبغات على الأبطال واليلب الحصينا (٩)
(١) ساقط من (ى).
(٢) "تهذيب اللغة" (بدن) ١/ ٢٩٥، وفيه: فأمر الله البحر أن يقذفه.
(٣) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ٦٤١ - ١٦٦، وهود بن محكم ٢/ ٢٠٧، والسمرقندي ٢/ ١١٠، والزمخشري ٢/ ٢٥١.
(٤) رواية الكلبي عن ابن عباس في "تنوير المقباس" ص ٢١٩ موافقة للقول الأول، ولم أجد من ذكر قول الكلبي هذا.
(٥) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٨، وبنحوه رواه ابن جرير ١١/ ١٦٦ من رواية عطية العوفي.
(٦) انظر: "الصحاح" (بدن) ٥/ ٢٠٧٧، "مجمل اللغة" (بدن) ١/ ١١٩.
(٧) "تهذيب اللغة" (بدن) ١/ ٢٩٥، والنص في كتاب "العين" (بدن) ٨/ ٥١.
(٨) "تهذيب اللغة"، الموضع السابق.
(٩) البيت لكعب بن مالك في "تفسير القرطبي" ٨/ ٣٨٠، "فتح القدير" للشوكاني ٢/ ٦٨١، وبلا نسبه في "البحر المحيط" ٥/ ١٨٩، "الدر المصون" ٦/ ٢٦٥، وليس في "ديوانه". =
307
هذا قول ابن عباس قال: كانت عليه درع من ذهب يعرف بها وهو البدن (١)، والمعنى على هذا: إنا نرفع فرعون فوق الماء بدرعه المشهورة ليعرفوه بها أو نخرجه من الماء بدرعه، على الخلاف في ﴿نُنَجِّيكَ﴾.
وقال آخرون: معنى البدن هاهنا جسده بغير روح (٢)، روى ابن أبي نجيح عن مجاهد ﴿بِبَدَنِكَ﴾ قال: معناه بجسدك (٣)، ونحوه قال الكلبي (٤).
وقال بعض المفسرين: إنه طفا عريانًا، وكان ناجيًا ببدنه المجرد لينظر إليه نكالًا من كان يعتقده إلهًا (٥)، قال ابن الأنباري: وعلى هذا القول أهل التفسير (٦)، والقول الأول في البدن [عليه أهل اللغة واختاره الكسائي (٧) أيضًا.
وقوله تعالى: ﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾] (٨)، قال الكلبي: لتكون
= والأبدان: الدروع، واليلب: الدروع اليمانية، كانت تتخذ من الجلود يخرز بعضها على بعض، وهو اسم جنس، والواحدة: يلبة. "الصحاح" (يلب) ١/ ٢٤٠.
(١) "الوسيط" ٢/ ٥٥٨، "مفاتيح الغيب" ١٧/ ١٦٤.
(٢) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٦٦، والثعلبي ٧/ ٢٧ أ، والبغوي ٤/ ١٤٩، والزمخشري ٢/ ٢٥٢، "الدر المنثور" ٣/ ٥٧٠، واختاره الأخفش ورد القول الأول، انظر كتاب "معاني القرآن" ١/ ٣٧٨.
(٣) رواه ابن جرير ١١/ ١٦٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٨٣، وابن المنذر وابن الأنباري في "المصاحف"، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٧٠.
(٤) لم أقف عليه، ورواية الكلبي في "تنوير المقباس" ص ٢١٩ توافق القول السابق، وأن المراد بالبدن الدرع.
(٥) هذا قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٢.
(٦) يعني القول بأن المراد بالبدن الجسد.
(٧) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ٢٧ أ.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
308
نكالاً لمن خلفك فلا يقولوا مثل مقالتك (١).
قال أبو بكر: وتلخيص الحرف (٢): لتكون لمن بعدك من الأمم عبرة، وأمرًا (٣) معجوبًا منه معتبرًا به (٤).
وقال أبو إسحاق: وإنما كان ذلك آية؛ لأنه كان يدعي أنه رب وكان يعبده قوم (٥)، فبين الله -عز وجل- أمره وأنه عبد، وفيه من الآية أن غرق مع وأخرج هو من بينهم فكان في ذلك آية (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ الناس (٧) هاهنا عامة، وقوله: ﴿عَنْ آيَاتِنَا﴾ أي: عن الإيمان بآياتنا.
٩٣ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ ذكرنا معنى ﴿بَوَّأْنَا﴾ عند قوله: ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ﴾ [آل عمران: ١٢١]، وقال أبو زيد: بوأت فلانًا منزلًا تبوئةً وتبوُّئًا (٨)، والاسم: البيئة (٩) (١٠)، وقال أبو
(١) "الوسيط" ٢/ ٥٥٩، وذكره ابن الجوزي ٤/ ٦١، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهو سند الكلبي في "تفسيره"، وليس للكلبي أقوال في التفسير بل نسب ذلك كله إلى ابن عباس.
وقد ذكره أيضًا بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٩، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
(٢) في (م): (الحدف).
(٣) ساقط من (ى).
(٤) لم أقف عليه
(٥) في المصدر: قومه.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٢.
(٧) ساقط من (ى).
(٨) في "تهذيب اللغة"، "اللسان": تبويئًا.
(٩) في "تهذيب اللغة" المباءة.
(١٠) "تهذيب اللغة" (باء) ١/ ٢٤٦، "لسان العرب" (بوأ) ١/ ٣٨٢ هع اختلاف يسير.
309
علي: قوله: ﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ يجوز أن يكون مصدرًا، أي تبوّؤ (١) صدق، ويكون المفعول الثاني محذوفًا، ويجوز أن يكون مفعولًا ثانيًا فيجعل المبوأ اسمًا غير ظرف كما قال الشاعر (٢):
وأنت مكانك من وائل... مكان القراد من است الجمل (٣)
ومعنى (صدق) هاهنا أن العرب إذا مدحت شيئًا أضافته إلى الصدق؛ لأن الصدق محمود في الأحوال كلها؛ فتقول: رجل صدق؛ [وقدم صدق] (٤)، وفلان صديقك الصدق (٥).
وقال بعض أهل المعاني: معناه أن هذا المنزل يصدق فيما يدل عليه من جلالة النعمة (٦)، قال ابن عباس في قوله: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ قال: يريد: قريظة والنضير وبني قينقاع، ﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾، قال: يريد: أنزلناهم منزل صدق ما بين المدينة والشام، ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾، قال:
(١) في (م): (تبؤى)، وفي بقية النسخ: (تبوي)، وآثرت الرسم المثبت لمناسبته للحركة، وانظر: "الحجة" ٤/ ٣١٠، وكلام المحقق في الحاشية رقم (٢).
(٢) اختلف في قائل هذا البيت، فهو في "ديوان جرير" ص ٤٨٦، وهو للأخطل في "الأغاني" ٨/ ٢٨، "خزانة الأدب" ١/ ٤٦٠، "سمط اللآلي" ص ٨٥٤، "العقد الفريد" ٣/ ٣٦٠، وليس في "ديوان الأخطل".
وله أو لعتبة بن الوغل في "شرح أبيات سيبويه" للسيرافي ١/ ٣٧٨.
والبيت لعتبة بن الوغل في "المؤتلف والمختلف" للآمدي ص ٨٤، ونسب أيضاً لكعب ابن جعيل في "خزانة الأدب" ١/ ٤٦٠، وهو من شواهد سيبويه ١/ ٤١٧ بلا نسبة.
(٣) اهـ. كلام أبي علي، انظر: "الحجة" ٤/ ٣١٠.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٥) في (ى): (صدق). وانظر: "تهذيب اللغة" (صدق) ٢/ ١٩٩٠ - ١٩٩١.
(٦) لم أقف عليه.
310
يريد: من أرض يثرب من النخل وما فيها من الرطب والتمر الذي ليس في البلاد مثلها طيبًا (١).
وقال بعض أهل المعاني: قد دلت الآية على اتساع أرزاقهم (٢).
وعلى هذا التفسير يريد ببني إسرائيل: اليهود الذين كانوا في زمان النبي - ﷺ -، وذهب قوم إلى أنه أراد الذين كانوا في زمن موسى فمن بعدهم فقالوا في قوله: ﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ يعني الشام ومصر (٣)، وهو قول الضحاك (٤).
وقال قتادة: الشام وبيت المقدس (٥).
وقال الحسن: مصر، وهو منزل صالح خصيب آمن (٦)، والصحيح قول ابن عباس؛ لأن قوله: ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ من صفة الذين كانوا في عهد النبي - ﷺ - (٧)، فكذلك ما قبله.
(١) "الوسيط" ٢/ ٥٥٩، "مفاتيح الغيب" ١٧/ ١٦٥.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٦٦، والسمرقندي ٢/ ١١٠، والثعلبي ٧/ ٢٧ أ، والبغوي ٤/ ١٤٩، وابن الجوزي ٤/ ٦٣.
(٤) رواه ابن جرير ١١/ ١٦٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٨٥، والثعلبي ٧/ ٢٧ أ، والبغوي ٤/ ١٤٩.
(٥) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ٢/ ٢٩٧، وابن جرير ١١/ ١٦٦، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٨٥.
(٦) ذكره مختصرًا هود بن محكم في "تفسيره" ٢/ ٢٠٧.
(٧) وإلى هذا ذهب ابن جرير ١١/ ١٦٧، والثعلبي ٧/ ٢٧/ أ، والبغوي ٤/ ١٥٠، وغيرهم. وذهب السمرقندي ٢/ ١١٠، والزمخشري ٢/ ٢٥٢، وابن عطية ٧/ ٢١٦، والرازي ١٧/ ١٥٩ إلى أن هذا من صفة اليهود السابقين الذين كانوا على عهد موسي -عليه السلام- والمعني: ما اختلف بنو إسرائيل في دينهم وما تفرقوا فيه إلا من =
311
وعلى (١) قول هؤلاء يحمل أول الآية على العموم وآخرها على الخصوص (٢)، ومعنى ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا﴾ أي: في تصديق النبي - ﷺ - وأنه نبي حق مبعوث (٣).
قال المفسرون: كانوا يخبرون بمبعث محمد (٤) - ﷺ -، ويفخرون على سائر الناس بما يعلمونه من صدقه وخروجه والدخول في جملته، حتى بُعث فكذبوه حسدًا وبغيًا وإيثارًا لبقاء الرئاسة، وآمن فريق منهم وصدقه، فذلك اختلافهم حين جاءهم العلم (٥).
= بعد ما جاءهم العلم بالدين الحق عن طريق التوراة وتعاليم موسى، وعلموا أن الاختلاف مذموم، فهو اختلاف عناد ومكابرة وإعراض عن الحق.
(١) في (ح) و (ز): (فعلى)، والصواب ما أثبته.
(٢) بل من حمل أول الآية على العموم وقال إن المراد هم جميع بني إسرائيل الذين على عهد موسى -عليه السلام-، حمل آخرها أيضًا على العموم وقال بأن المختلفين هم قوم موسى، انظر المراجع السابقة، نفس المواضع.
(٣) هذا على قول ابن عباس المذكور ومن وافقه في المراد ببني إسرائيل، أما من قال بالعموم فقد حمل الاختلاف المذكور على العموم، قال السمرقندي ٢/ ١١٠: فما اختلفوا في الدين حتى جاءهم البيان، يعني جاءهم موسى -عليه السلام- بعلم التوراة. وقال الزمخشري ٢/ ٢٥٢: (فما اختلفوا) في دينهم وما تشعبوا فيه شعبًا إلا من بعد ما قرءوا التوراة وكسبوا العلم بدين الحق، ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة، وعلموا أن الاختلاف فيه تفرق عنه. وقال ابن عطية ٧/ ٢١٦: إن بني إسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسى في أول حاله فلما جاءهم العلم والأوامر وغرف فرعون اختلفوا.
(٤) في (ى): (النبي).
(٥) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٦٧، والثعلبي ٧/ ٢٧ ب، والبغوي ٤/ ١٥٠، وابن الجوزي ٤/ ٦٣.
312
قال ابن عباس: يريد القرآن الذي جاء به محمد - ﷺ - (١) وعلى هذا، القرآن سمي علمًا؛ لأنه دليل مؤد إلى العلم، وقال الفراء: العلم يعني به محمدًا - ﷺ - وصفته (٢)، وعلى هذا أريد بالعلم المعلوم، وذلك أنهم كانوا يعملونه قبل خروجه بنعته وصفته حق العلم، هذا الذي ذكرنا مذهب عامة أهل التأويل (٣).
وقال الحسن (٤) وابن زيد (٥): قوله: ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا﴾ يعني أنهم كانوا قبل مبعث محمد - ﷺ - كانوا كفارًا كلهم، حتى جاءهم العلم فاختلفوا بأن آمن فريق وكفر فريق، فنفي الاختلاف في القول الأول يعود إلى التصديق بمحمد - ﷺ - قبل مبعثه، وفي قول الحسن وابن زيد نفي الاختلاف عن كفرهم ثم ظهر الاختلاف بإيمان بعضهم، والقول هو الأول.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، قال ابن عباس: يريد: من أمرك (٦).
٩٤ - قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ الآية، معنى الشك في موضوع (٧) اللغة: ضم بعض الشيء إلى بعض، يقال: شك
(١) "الوسيط" ٢/ ٥٥٩، "زاد المسير" ٤/ ٦٣، ورواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٩ بنحوه.
(٢) "معاني القرآن" ١/ ٤٧٨.
(٣) يعني الذين ذهبوا مذهبه في المراد ببني إسرائيل هنا، وقد سبق ذكر الخلاف.
(٤) ساقط من (ح) و (ز) ولم أقف على قوله، وقد ذكر هذا القول بلا نسبة الرازي في "تفسيره" ١٧/ ١٥٩.
(٥) روى قوله ابن جرير ١١/ ٦٧ بمعناه.
(٦) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٥٩ بلا نسبة.
(٧) في (ح) و (ز): (موضع).
313
الجواهر في العقد: إذا ضم بعضها إلى بعض، وشككت الصيد: إذا رميته فنظمت يده إلى يده أو رجله إلى رجله، لا يكون الشك إلا كذلك والشكائك من الهوادج (١): ما شك بعضها في بعض، والشكاك: البيوت المصطفة، والشكائك الأدعياء؛ لأنهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم، أي: يضمون، وشك الرجل في السلاح إذا دخل فيه وضمه إلى نفسه [وألزمه إياها (٢)، فإذا قالوا شك فلان في الأمر أرادوا أنه وقف نفسه] (٣) (٤) بين شيئين فيجوّز هذا (٥) ويجوّز ذاك، فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئًا آخر خلافه (٦).
واختلفوا في هذا الخطاب لمن هو؟ فقال أكثر أهل العلم: هذا الخطاب للرسول -عليه السلام- والمراد غيره من الشكاك (٧)؛ لأن القرآن نزل عليه بمذاهب العرب كلها، وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء يريدون غيره،
(١) الهودج: مركب للنساء يصنع من العصي ثم يجعل فوقه الخشب فيقبب. انظر: "لسان العرب" (هدج) ٨/ ٤٦٣٠ - ٤٦٣١.
(٢) أي ألزم نفسه السلاح.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٤) في (ح) و (ز): (من).
(٥) ساقط من (ى).
(٦) انظر: "تهذيب اللغة" (شك) ٢/ ١٩١٤ - ١٩١٥، "اللسان" (شك) ٤/ ٢٣٠٩ - ٢٣١٠.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢، "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٦٨ - ١٦٩، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٢٠٤ - ٢٠٥، "تأويل مشكل القرآن" له ص ٢٧٠، "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٣١٦، "المحرر الوجيز" ٧/ ٢١٧.
314
وكذلك يقول متمثلهم: إياك أعني واسمعي يا جارة (١)، ومثل هذا قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾ [الأحزاب: ١] الآية، الخطاب للنبي - ﷺ - والمراد بالوصية والعظة المؤمنون، يدل علي ذلك قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢] ولم يقل بما تعمل.
وقال أبو إسحاق: إن الله -عز وجل- يخاطب النبي - ﷺ - وذلك الخطاب شامل للخلق، والمعنى فإن كنتم في شك فاسألوا (٢)، والدليل علي ذلك قوله في آخر السورة: ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ﴾ [يونس: ١٠٤] الآية، فَأعْلَم الله أن نبيه ليس في شك، وأمره أن يتلو عليهم ذلك، وهذا أحسن الأقوال. انتهى كلامه (٣)، وهذا (٤) الذي ذكرنا مذهب ابن عباس (٥)، والحسن (٦)، وأكثر أهل التأويل (٧).
قال ابن عباس في هذه الآية: لم يرد النبي - ﷺ -؛ لأنه لم يشك في الله، ولا فيما أوحى إليه، ولكن يريد من آمن به وصدقه، أمرهم أن يسألوا لئلا ينافقوا كما شك المنافقون.
(١) المثل يضرب لمن يتكلم بكلام ويقصد به شيئًا آخر، انظر: "مجمع الأمثال" ١/ ٨٣، "جمهرة الأمثال البغدادية" ١/ ٥٥٦.
(٢) في (ح) و (ز): (قالوا)، وهو خطأ.
(٣) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٢ بتصرف واختصار.
(٤) في (ح) و (ز): (وهو)، وهو خطأ.
(٥) سيأتي تخريج قوله.
(٦) رواه ابن الأنباري في "المصاحف" كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٧١.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٢، "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٦٨ - ١٦٩، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ٢٠٤ - ٢٠٥، "تأويل مشكل القرآن" له ص٢٧٠، "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٣١٦، "المحرر الوجيز" ٧/ ٢١٨.
315
وقال ابن قتيبة: الناس كانوا في عصر النبي - ﷺ - أصنافًا؛ منهم كافر به مكذب لا يرى إلا أن ما جاء به الباطل، وآخر: مؤمن به مصدق يعلم أن ما جاء به الحق، وشاك في الأمر لا يدري كيف هو، فهو يقدم رجلاً ويؤخر رجلاً، فخاطب الله هذا الصنف من الناس فقال: فإن كنت أيها الإنسان (١) في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد - ﷺ - فأسأل، قال: ووحد وهو يريد الجمع، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ [الانفطار: ٦]، و ﴿أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ﴾ [الانشقاق: ٦]، ﴿فَإِذَا (٢) مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ﴾ [الزمر: ٤٩]، ولم يرد في جميع هذا (٣) إنسانًا بعينه إنما هو لجماعة الناس، قال: وهذا وإن كان جائزًا حسنًا، فإن المذهب الأول (٤) أعجب إليّ؛ لأن الكلام اتصل حتى قال: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٩٩]، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لرسول الله - ﷺ - (٥)، فجعل ابن قتيبة (٦) هذا الذي ذكره جوابًا آخر، ثم (٧) اعترض عليه بما ذكر، والأولى أن يقال: الخطاب للنبي - ﷺ - والمراد به هذا الصنف الشاك الذي ذكره ابن قتيبة، فيكون هذا تأكيدًا وبيانًا للقول الأول، ويسقط ذلك الاعتراض الذي ذكر. وذكروا في هذه الآية أقوالًا متكلفة بعيدة فلم
(١) في (ى): (الناس)، وهو خطأ.
(٢) في (م): (وإذا)، وهو صواب موافق للآية ٨ من سورة الزمر.
(٣) في (ى): (هذا الجميع).
(٤) "الوسيط" ٢/ ٥٥٩، ومعناه في "تنوير المقباس" ص ٢١٩.
(٥) يعني أن الخطاب للرسول - ﷺ - والمراد غيره.
(٦) "تأويل مشكل القرآن" ص ٢٦٩ - ٢٧٤ باخصار.
(٧) ساقط من (ح) و (ز).
316
أحكها (١).
وقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾، قال ابن عباس (٢)، والضحاك (٣)، ومجاهد (٤)، وابن زيد (٥): يعني من آمن من أهل، الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه فسيشهدون (٦) على صدق محمد - ﷺ - ويخبرونك بنبوته، وما قدمه الله في الكتب من ذكره، وباقي الآية والتي تليها (٧) حكمه على ما ذكرنا من أنه خطاب للنبي - ﷺ - والمراد به غيره من الشاكين.
٩٦ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾،
(١) ذكر النحاس في "معاني القرآن" ٣/ ٣١٦ أربعة أقوال، وذكر الثعلبي ٧/ ٢٧، ٢٨ ثمانية أقوال، وكذلك الرازي ١٧/ ١٦٠ - ١٦١، ولأبي حيان توجيه بديع للآية حيث قال: والذي أقوله: إِنّ (إنْ) الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء، ولا تستلزم تحتم وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزخرف: ٨١]، ومستحيل أن يكون له ولد، فكذلك هذا مستحيل أن يكون في شك، ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية. "البحر المحيط" ٥/ ١٩١.
(٢) رواه ابن جرير ١١/ ١٦٨، والبغوي ٤/ ١٥٠، وأبو الشيخ عن الحسن كما في "الدر" ٣/ ٥٧١.
(٣) رواه ابن جرير ١١/ ١٦٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٨٦، والبغوي ٤/ ١٥٠.
(٤) رواه ابن جرير والبغوي، في الموضع السابق نفسه.
(٥) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، في الموضع السابق نفسه.
(٦) في (ى): (فيشهدون).
(٧) يعني قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٩٤) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
قال ابن عباس: قول ربك بالسخط عليهم (١)، وقال قتادة: سخط ربك بما عصوه (٢)، وقال أهل المعاني: معنى (حقت عليهم [كلمة ربك) أي: وقعت على تحقيق من غير شرط ولا تقييد بأنهم لا يؤمنون، والمعنى: إن الذين حقت عليهم] (٣) الكلمة (٤) بأنهم لا يؤمنون [لا يؤمنون] (٥) ولو جاءتهم كل آية (٦)، وقال مقاتل: وجبت عليهم كلمة العذاب (٧).
٩٧ - ومعنى ﴿وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾، قال المفسرون: كانوا يسألون رسول الله - ﷺ - أن يأتيهم بالآيات حتى يؤمنوا، [فقال الله: (لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا] (٨) العذاب الأليم) فلا ينفعهم حينئذ إيمانهم كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق.
٩٨ - قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾ الآية، في هذه الآية طريقان:
أحدهما: وهو طريق المفسرين أن (لولا) معناها (٩) النفي، قال أبو مالك صاحب ابن عباس: كل ما في كتاب الله من ذكر (لولا) فمعناها:
(١) "الوسيط" ٢/ ٥٦٠، وبنحوه رواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٩٨٦.
(٢) رواه ابن جرير ١١/ ١٦٨، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٨٦، والبغوي ٤/ ١٥١.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ز).
(٤) في (ى): (كلمة العذاب).
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من جميع النسخ عدا (م) ولا يتم المعنى إلا بها.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) "تفسير مقاتل بن سليمان" ١٤٣ أ.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٩) في (م): (معناه).
318
(هلَّا)، إلا حرفين ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾ معناها: فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها، وكذلك ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [هود: ١١٦] معناه فما كان من القرون (١).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس: قال: يريد لم أفعل هذا بأمة قط ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا﴾ عند نزول العذاب، كشفنا عنهم العذاب (٢) (٣).
وقال قتادة في هذه الآية: لم يكن هذا معروفًا لأمة من الأمم؛ كفرت ثم آمنت عند نزول العذاب فكشف عنهم، إلا قوم يونس كشف عنهم العذاب بعد ما تدلى عليهم (٤).
وقال مقاتل: كان العذاب فوق رؤوسهم قدر ميل (٥).
وقال ابن الأنباري (٦): كشف الله عنهم العذاب وقَبِل توبتهم لما علم من حسن نيتهم وأنهم يقيمون على شكره وحمده، ولا يزالون يوحدونه
(١) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" ٣/ ٥٧٢، ونسبه لابن أبي حاتم، ورواه ابن أبي حاتم في تفسير سورة يونس ٦/ ١٩٨٧ مختصرًا.
(٢) ساقط من (م) و (ى).
(٣) "الوسيط" ٢/ ٥٦٠، ورواه بمعناه ابن جرير ١١/ ١٧١ من رواية عطاء الخراساني، ورواه أيضًا ابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٧٢.
(٤) رواه بنحوه ابن جرير ١١/ ١٧٠ - ١٧٢، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٨٨، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٧٢.
(٥) "تفسير مقاتل" ص ١٤٣ أ.
(٦) ذكر قوله مختصرًا ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٦٧.
319
ويعبدونه ويتأسفون (١) على ما فرط (٢) منهم من الكفر، بخلاف ما علم من سوء نيات الأمم المهلكين، يدل على صحة ما ذكرنا (٣) ما روي عن ابن مسعود أنه قال: بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم بينهم حتى إن كان الرجل ليأتي الحجر وقد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه (٤) فيرده (٥).
وانتصب قوله تعالى: ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ﴾ على أنه استثناء منقطع من الأول؛ لأن أول الكلام جرى على القرية وإن كان المراد أهلها، ووقع استثناء القوم من القرية فكان كقوله (٦):
(١) في (ح) و (ز): (ينافسون)، وهو خطأ.
(٢) في (ى) فرطوا، وهو خطأ، ومعنى فرط: سبق وتقدم. انظر: "لسان العرب" (فرط) ٦/ ٣٣٨٩.
(٣) في (ى): (هذا).
(٤) في (م): (فيقلعه)، وما أثبته موافق لما في "تفسير القرطبي".
(٥) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٣٨٤، وبنحوه الزمخشري ٢/ ٢٥٤، والرازي ١٧/ ١٦٥، ورواه بمعناه ابن جرير ١١/ ١٧٠ - ١٧٢، وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٧٣.
(٦) هو النابغة الذبياني وما ذكره المؤلف بعض بيتين نصهما:
وقفت فيها أصيلالًا أسائلها عيت جوابًا وما بالربع من أحد
إلا الأواريّ لأيًا ما أبينها والنُّؤْيُ كالحوض بالمظلومة الجلد
انظر: "ديوانه" ص ٩، "إصلاح المنطق" ص ٤٧، "الإنصاف" ص ٢٣٤، "خزانة الأدب" ٤/ ١٢٢، "كتاب سيبويه" ٢/ ٣٢١. وقوله: اصيلالاً: أي عشاء، وذلك أن الأصيل هو العشي، وجمعه أُصُل (بضمتين) وأُصْلان (بضم فسكون) ثم صغروه فقالوا: أصيلان، ثم أبدلوا من النون لامًا فقالوا: أُصيلالا. قوله: عيت: أي عجزت عن الكلام. والأوارى: جمع آريّ: وهو محبس الدابة. ولأيًا: أي بعد جهد وإبطاء. والنؤْي: الحاجز من تراب حول البيت.
320
وما بالربع من أحد
إلا أواريَّ.................
وذكر صاحب النظم أوجهًا سوى هذا، وهو أنه قال: معنى (لولا): هلا، وهلا: حث على الشيء، ويكون تبكيتًا وتنديمًا على فأئت، وفي ذلك دليل بالاعتبار على أنه لم يكن، فقوله: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ﴾ أي: لم تكن آمنت عند حلول العذاب فنفعها إيمانها، ثم استثنى قوم يونس فقال: (إلا قوم يونس) (١) وإنما نصب وقبله معنى جحد ونفي؛ لأنه لم يجىء على لفظ [النفي والجحد، وإنما جاء على لفظ] (٢) التبكيت والخبر، ولو كان نفيًا خالصًا لكان رفعًا، قال: وقد يكون نصبه على أن الكلام تم وانقطع عن قوله: ﴿فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾ ثم جاء قوله: ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ﴾ بعد التمام كما نصب [من قرأ (ما فعلوه إلا قليلا منهم) [النساء: ٦٦] بالنصب (٣)] (٤)، وقد شرحنا وجه النصب هناك (٥) وأنه إنما
= والمظلومة: الأرض التي حفرت ولم تكن حفرت من قبل، وهو يعني أرضًا مروا بها في برية فتحوضوا حوضًا سقوا فيه إبلهم وليست بموضع تحويض. والجلد: الأرض الصلبة المستوية المتن الغليظة. انظر: "لسان العرب" (أصل وعيى وأري ولأي وظلم وجلد).
(١) ساقط من (م).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٣) وهي قراءة ابن عامر وحده، وكذا هو في مصحف الشام. انظر كتاب "السبعة" ص ٢٣٥، "إرشاد المبتدي" ص ٢٨٥، "النشر" ٢/ ٢٥٠.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٥) السياق يدل على أن القائل هو الجرجاني صاحب "نظم القرآن"، وقد شرح المؤلف وجه النصب عند تفسير الآية، فهي جملة اعتراضية من المؤلف.
321
يجوز النصب بعد النفي إذا كان ما قبله كلامًا تامًا كقولك ما مر بي أحدٌ إلا زيدًا، [ولا يجوز ما مر بي إلا زيدًا] (١)، قال: وقد قيل إن نصبه علي أن يكون مستثنى من قوله: ﴿فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾ على تأويل: لم ينفع قرية آمنت إيمانها إلا قوم يونس، أي: أن الإيمان نفع قوم يونس لما آمنوا.
هذا الذي ذكرنا طريقة المفسرين (٢).
الثاني: وهو طريقة الزجاج، وذكرها ابن الأنباري أيضاً، وهو أن معنى الآية حث على الإيمان حين ينفع الإيمان، يقول (٣): هلا كانت قرية آمنت في وقت ينفعهم الإيمان.
وهذا تبكيت لفرعون؛ لأنه آمن لما أدركه الغرق فلم ينفعه، يدل على صحة هذا المعنى أن هذه الآية ذكرت عقيب قصته، وعلى هذا (لولا) يكون على ما هو موضوع له.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ﴾، قال الزجاج: وقوم يونس -والله أعلم- لم يقع بهم العذاب، إنما رأوا الآية التي تدل على العذاب فلما آمنوا كشف عنهم، ومثل ذلك العليل الذي يتوب في مرضه وهو يرجو في مرضه العافية ويخاف (٤) الموت فتوبته صحيحة.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (م).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ١/ ٤٧٩، "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٧٠ - ١٧٢، والسمرقندي ٢/ ١١١، والثعلبي ٧/ ٢٨ ب، والبغوي ٤/ ١٥١.
(٣) يعني الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٤، ولم أقف على قول ابن الأنباري.
(٤) في "معاني القرآن وإعرابه" المطبوع: ولا يخاف، والصحيح ما أثبته المؤلف، بل إن توبة المريض صحيحة ولو لم يرج العافية، ما لم يغرغر وتبلغ روحه حلقومه، =
322
وقال ابن الأنباري: قوم يونس تابوا (١) بعد آية ظهرت لهم تدل على قرب العذب، ولو عاين القوم العذاب كانت قصتهم في الهلكة قصة عاد وثمود، وعلى هذا قوله: ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ﴾ من الاستثناء المنقطع؛ معناه: لكن قوم يونس لما آمنوا في وقت ينفعهم الإيمان ﴿كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [قال ابن عباس: يريد: سخط الله في الحياة الدنيا (٢)] (٣)، وقال أهل المعاني: عذاب الهوان (٤) الذي يفضح صاحبه (٥)، ﴿وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾، قال ابن عباس: يريد حين آجالهم (٦).
= وقد دل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ [النساء: ١٨]، وقول الرسول - ﷺ - "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، رواه الترمذي (٣٥٣٧) كتاب الدعوات، باب: في فضل التوبة، وقال: حسن غريب.
رواه أيضًا أحمد في "المسند" ٢/ ١٣٢، والحاكم في "المستدرك" ٤/ ٢٥٧، وصححه، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني كما في "صحيح الجامع الصغير" (١٩٠٣). انظر: "تفسير الطبري" ١١/ ١٧٠ - ١٧٢، "شرح صحيح مسلم" ١/ ٢١٣، "تفسير القرطبي" ٥/ ٩٢، "محاسن التأويل" ٥/ ١١٥٥.
وكلام الزجاج هذا في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٤.
(١) في (ح) و (ز): (قالوا)، وهو خطأ.
(٢) "الوسيط" ٢/ ٥٦٠.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٤) في (م): (الهون).
(٥) لم أقف عليه عند أهل المعاني، وانظر القول بنحوه في: "بحر العلوم" ٢/ ١١٢، "زاد المسير" ٤/ ٦٥.
(٦) "الوسيط" ٢/ ٥٦٠، وبمعناه رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" ٦/ ١٩٩٠.
323
٩٩ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ﴾ الآية، قال ابن عباس: كان رسول الله - ﷺ - حريصًا على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله [سعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله] (١) الشقاء (٢) في الذكر الأول (٣)، وروي عنه أيضًا أنه قال (٤): كان رسول الله - ﷺ - حريصًا على إسلام أبي طالب، فأبى الله عليه إلا من علم في سابق علمه (٥)، وقال في قوله: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ﴾ يريد أبا طالب (٦).
١٠٠ - قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قد مضى الكلام في مثل هذه اللام عند قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ [آل عمران: ١٦١]، و ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [التوبة: ١١٣]، و ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ [الأنفال: ٣٣]، ومعنى ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، قال ابن
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) في (ى): (شقاوة)، وما أثبته موافق لما في "تفسير ابن جرير"، وقوله: (من الله الشقاء) ساقط من (ح) و (ز).
(٣) رواه ابن جرير في "تفسيره" ١١/ ١٧٣، والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" ١/ ١٤٧، وفي كتاب "الاعتقاد" ص ١٠٦، والثعلبي في "تفسيره" ٧/ ٣٠ ب، وهو من رواية علي بن أبي طلحة.
(٤) ساقط من (ح) و (ز).
(٥) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢١٩، وبمعناه أبو سهل السري بن سهل كما في "الدر المنثور" ٦/ ٤٢٩، وأصله في "صحيح مسلم" (٢٤، ٢٥) كتاب الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع من حديث المسيب وأبي هريرة.
(٦) انظر: "تنوير المقباس" ص ٢٢٠.
324
عباس في رواية عطاء وهو قول عطية: إلا ما سبق لها (١) في قضاء الله وقدره (٢)، وقال عطاء (٣): بمشيئة الله (٤).
وقال أبو إسحاق: وما كان لنفس الوصلة إلى الإيمان إلا بتوفيق الله -عز وجل- وهو إذنه (٥)، وهذا قول الكناني (٦)، قال ابن الأنباري: لأنه ليس كل مأمور بالإيمان يوفق للقبول (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾، قال الحسن: الرجس: العذاب (٨)، وهو قول الفراء (٩)، والزجاج (١٠)، وعلى هذا هو بمعنى الرجز، وروي عن ابن عباس أنه قال: الرجس السخط (١١)، وهذا كالأول؛ لأن (١٢) السخط سبب العذاب.
وقال الكسائي (١٣)، وابن الأنباري (١٤): الرجس النتن، قال أبو علي
(١) في (م): (له).
(٢) انظر قول ابن عباس في "الوسيط" ٢/ ٥٦٠، "زاد المسير" ٤/ ٦٧، وانظر قول عطية العوفي في "تفسير الثعلبي" ٧/ ٣٠ ب.
(٣) في (ى): (عطية)، وهو خطأ.
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" ٧/ ٣٠ ب، وابن الجوزي ٤/ ٦٧.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٦.
(٦) "تفسير الثعلبي"، الموضع السابق، والكناني هو: عبد العزيز بن يحيى.
(٧) ذكره بمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ٦٧.
(٨) المصدر السابق ٤/ ٦٨، "الوسيط" ٢/ ٥٦١.
(٩) "معاني القرآن" ١/ ٤٨٠، ولفظه: العذاب والغضب.
(١٠) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٦.
(١١) رواه ابن جرير ١١/ ١٧٤، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٩٠، من رواية علي بن أبي طلحة.
(١٢) ساقط من (ى).
(١٣) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٣٠٧.
(١٤) لم أقف على قوله، وهو سند أبي علي في روايته عن الكسائي هذا القول.
325
فكأن (١) الرجس على الوجهين (٢):
أحدهما: أن يكون في معنى الرجز، وهو العذاب، والمعنى في قوله: ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ أنهم يعذبون، كما قال: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ﴾ [الفتح: ٦].
والآخر: أن يُعنى به النجس والقذر، ومن ذلك قوله: ﴿أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ [الأنعام: ١٤٥]، ويكون المعنى فيه أنه يحكم بأنهم رجس كما قال: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨]، أي: ليسوا من أهل الطهارة، فذموا على خروجهم منها، وإن لم تكن عليهم نجاسة من نحو البول والدم والخمر، والمعنى: إن الطهارة الثابتة للمسلمين هم خارجون عنها، ومباينون لها، وهذه الطهارة هي ما تثبت لهم من قوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: ١٠٣]، وهي طهارة من جهة الحكم وإن لم تُزل شيئًا نجسًا عن (٣) أبدانهم (٤).
وقوله تعالى: ﴿عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾، قال ابن عباس: يريد لا يؤمنون (٥)، والمعنى: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه وما يدعوهم إليه، وقال أبو بكر: معناه: لا يعقلون القرآن ووصاة الأنبياء عن الله -جل وعز- عنادًا للحق، وهم يعقلون غيره، كما يقول القائل: فلان أصم (٦) عن كلامي،
(١) من (م) وفي بقية النسخ: وكأن، وأثبت ما في (م) لموافقته لما في "الحجة".
(٢) في "الحجة" ضربين.
(٣) في (ح): (على).
(٤) "الحجة للقراء السبعة" ٤/ ٣٠٧، ٣٠٨ بتصرف واختصار.
(٥) "الوسيط" ٢/ ٥٦١.
(٦) في (م): (صم).
326
يريد لا يسمعه، وما يزال يعرض عنه، فهو فيه كالأصم، ولو كان سميعا لغيره (١).
١٠١ - قوله تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا﴾ الآية، قال المفسرون: قل المشركين الذين يسألونك الآيات على توحيد الله ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [أي: انظروا بالتفكر والاعتبار ﴿مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (٢) من الآيات والعبر التي تدل على وحدانية (٣) الله تعالى ونفاذ قدرته (٤).
قال ابن عباس: أما آيات السموات: فالشمس والقمر والنجوم، وأما آيات الأرض: فالجبال والشجر والبحار وسائر الآيات، وهي الأنهار والثمار والأشجار (٥)، وهذا قول عامة المفسرين (٦).
قال أهل المعاني: وكل هذا يقتضي مدبرًا لا يشبه الأشياء ولا تشبهه، وهذا أمر بالاستدلال على القديم (٧) بالمحدث.
(١) لم أقف عليه.
(٢) ما بين المعقوفين من (م).
(٣) في (م): (وحدانيته ونفاذ... إلخ)، وما أثبته موافق لما في "الوسيط".
(٤) ذكر هذا القول ابن الجوزي ٤/ ٦٨، ونسبه للمفسرين وكذلك المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٦١، وبنحوه البغوي ٤/ ١٥٣، وبمعناه ابن جرير ١١/ ١٧٥، والثعلبي ٧/ ٣٠ ب.
(٥) رواه بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٢٠.
(٦) انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ١١٢، الثعلبي ٧/ ٣١ أ، والبغوي ٤/ ١٥٣.
(٧) اسم القديم مما يطلقه علماء الكلام، م والفلاسفة على الله -عز وجل- وقلدهم بعض العلماء كالإمام البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" ١/ ٣٥، والحليمي في "المنهاج في =
327
قال ابن الأنباري: أبهم قوله: ﴿مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، ولم يخصصه بما ذكره المفسرون من الآيات لكثرة ترددها في القرآن، وإن معرفة المخاطبين بالقرآن أغنى عن ذكر ما هو معلوم عندهم، يدل على هذا قول الشاعر (١):
ذري ماذا علمت سأتقيه ولكن بالمغيب نبئيني
= شعب الإيمان" ١/ ١٨٨. وحول هذا الإطلاق على الباري جل جلاله الملحوظات التالية: أولاً: أن اصطلاح علماء الكلام يخالف لغة العرب التي نزل بها القرآن، إذ مرادهم بذلك الأول الذي لم يسبقه عدم، والقديم في لغة العرب: المتقدم على غيره، كما في قوله تعالى: ﴿كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ [يس: ٣٩]، وقوله تعالى: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ﴾ [الشعراء: ٧٥، ٧٦] فلفظ القديم والأقدم يعني المتقدم على غيره وإن كان مسبوقًا بعدم.
ثانيًا: أن من عقائد السلف أن أسماء الله وصفاته توقيفية فلا يتجاوز بها الوارد في الكتاب والسنة، وليس للاستحسان والاجتهاد دخل في ذلك.
ثالثًا: أنه قد جاء في الكتاب والسنة ما يقوم مقام هذا اللفظ ويغني عنه، وهو اسم الله الأول كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ [الحديد: ٣]، وقوله - ﷺ -: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء" "صحيح مسلم" (٢٧١٣) كتاب الذكر، باب: ما يقول عند النوم، واسمه تعالى: (الأول) أحسن من (القديم)؛ لأنه يشعر بأن ما بعده آيل له، وتابع له، بخلاف القديم والله تعالى له الأسماء الحسنى، لا الحسنة. انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" ١/ ٢٤٥، "شرح العقيدة الطحاوية" ١/ ٧٧، "مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية" ص ٢٧.
(١) اختلف فيه، فالبيت للمثقب العبدي في "ديوانه" ص ٢١٣، "خزانة الأدب" ٧/ ٤٨٩، ولمزرد بن ضرار في "ديوانه" ص ٦٨، ولسحيم بن وثيل أو للمثقب العبدي أو لأبي زبيد الطائي في "المقاصد النحوية" ١/ ١٩٢، ولأبي حيه النميري في "لسان العرب" (أبي) ١/ ١٨، وقد ذكر ابن منظور قبل هذا البيت بيتًا آخر هو:
328
أراد ماذا علمت من الأمور المكروهة المذمومة فلما وثق بمعرفة من يخاطبه بها استغنى عن ذكرها
وذكرنا الكلام في (ماذا) (١) وأنه يكون بمعنيين (٢)، فإن قلنا إنه بمعنى (الذي) فموضعه نصب بقوله ﴿انْظُرُوا﴾ وإن قلنا معناه (أي شيء)، فموضع (ما) رفع بالابتداء، وخبره ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة في موضع نصب.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، يجوز أن تكون (ما) نفيًا بمعنى ما تغني عنهم شيئًا بدفع الضرر واجتلاب (٣) النفع، كقولك: [ما يغني عنك المال إذا لم تنفق، ويجوز أن يكون استفهامًا كقولك] (٤): أي شيء يغني عنهم؟ والنذر: جمع نذير، وهو صاحب النذارة، وهي الإعلام بموضع المخافة ليحترز منه، وقوله تعالى: ﴿عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [قال المفسرون: أي عمن سبق في علم الله وقضائه] (٥) أنه لا يؤمن (٦)، يقول: الإنذار غير نافع لهؤلاء ولا مجدٍ عليهم.
وقال أهل المعاني: ﴿عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي: عن قوم استشعروا
(١) في (ح) و (ز): (ذا).
(٢) ذكر ذلك عند تفسير الآية ٥٠ من هذه السورة.
(٣) في (ح): (اختلاف)، وهو خطأ.
(٤) ما بين المعقوفين من (م) فقط، والنص في "تفسير الرازي" ١٧/ ١٧٠.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٦) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٧٥، والثعلبي ٧/ ٣١ ب، والبغوي ٤/ ١٥٤، والقرطبي ٨/ ١٨٦، وهو قول مجاهد كما في "تفسير ابن أبي حاتم" ٦/ ١٩٩١، وقول أبي العالية كما في "تفسير السمرقندي" ٢/ ١١٣.
329
عناد الحق وتركوا الإيمان، فهؤلاء لا تغني عنهم الآيات؛ لأنهم لا يستدلون بها، ولا النذر؛ لأنهم لا ينتفعون بإنذارهم ووعظهم (١).
١٠٢ - قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ الآية، ذكرنا في سورة البقرة والأنعام معنى هذا الاستفهام عند قوله: ﴿فَهَلْ يَنْظِرُونَ﴾، [البقرة: ٢١٠]، [الأنعام: ١٥٨]، وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ﴾ يعني: إلا أيامًا مثل أيام الأمم الماضية المكذبة في وقوع العذاب والحسرة [حين لا تنفع الندامة، ولا يحتاج إلى ذكر العذاب والحسرة] (٢)؛ لأن أيام تلك الأمم في وقوع العذاب بهم معروفة مشهورة، وقال أكثر المفسرين: إلا مثل وقائع الله تعالى فيمن سلف قبلهم من الكفار، مثل قوم نوح وعاد وثمود (٣)، وروى الحراني، عن ابن السكيت: العرب تقول: الأيام، في معنى الوقائع، يقال هو عالم بأيام العرب، يريد: وقائعها، وأنشد:
أبالموت الذي لا بد أني ملاق لا أباكِ تخوفيني؟
وقائع في مُضَر تسعة وفي وائل كانت العاشرة (٤)
فقال: تسعة، وكان ينبغي أن يقول: تسع، ولكنه ذهب إلى
(١) لم أقف عليه.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٧٥ - ١٧٦، والثعلبي ٧/ ٣١ أ، والبغوي ٤/ ١٥٤، والزمخشري ٢/ ٢٥٥، والقول مروي عن قتادة، انظر: "الدر المنثور" ٣/ ٥٧٤.
(٤) لم أهتد لقائله، وانظره بلا نسبة في: المصدر التالي، وفي "لسان العرب" (يوم) ٨/ ٤٩٧٥، و"الأشباه والنظائر" ٥/ ٢٣٦، ٢٥٧، و"الإنصاف" ٢/ ٧٦٩، و"الدرر اللوامع" ٦/ ١٦٩، و"مجالس ثعلب" ٢/ ٤٩٠، و"بدائع الفوائد" ٣/ ٢٣٥، و"همع الهوامع" ٣/ ٢٥٤.
الأيام (١): وقال شمر: جاءت لأيام بمعنى الوقائع والنعم، وإنما خصوا الأيام دون ذكر الليالي في الوقائع لأن حروبهم كانت نهارًا، وإذا كانت ليلاً ذكروها (٢).
وقال ابن الأنباري: العرب تكني بالأيام عن الحروب والشرور، يقال: قتل فلان يوم صفين، يعنون في حرب صفين؛ يدل على ذلك أن الحرب كانت بصفين في أيام كثيرة، فتوحيد اليوم بمعنى الحرب والوقعة، وأنشد:
شهدت الحروب فشيبنني ولم أر يومًا كيوم الجمل (٣)
أراد حربًا كحرب الجمل، وقد تذكر العرب الأيام وهي تقصد بها قصد السرور والنعم، وبكلى (٤) الوجهين فُسّر قوله: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ (٥) [إبر اهيم: ٥].
١٠٣ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية، هذا إخبار عما كان الله يفعل في الأمم الماضية من إنجاء الرسل والمصدقين لهم عما
(١) اهـ. كلام ابن السكيت، انظر: "تهذيب اللغة" (يوم) ٤/ ١٩٩١.
(٢) المصدر السابق ص ٦٤٧.
(٣) لم أقف عليه، ويوم الجمل معركة وقعت بين الإمام علي -رضي الله عنه- من جهة والزبير وطلحة وعائشة -رضي الله عنهم- من جهة أخرى سنة ٣٦ هـ. انظر المصدر السابق ٧/ ٢٣٠.
(٤) هكذا في (ح) و (ز) و (ى)، وفي (م): (بكل). ومعلوم أن (كلا) و (كلتا) لا يعربان إعراب المثنى إلا إذا أضيفا إلى مضمر فإن أضيفا إلى ظاهر لزمتهما الألف. انظر: "أوضح المسالك" ١/ ٣٦.
(٥) انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ٢٠٠، والبغوي ٤/ ٣٣٥، وانظر قول ابن الأنباري مختصراً في "زاد المسير" ٤/ ٦٩.
يعذب به من كفر، وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين بمحمد - ﷺ - من عذابي، والتأويل: ننجي المؤمنين إنجاءً مثل ذلك الإنجاء، وقوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَيْنَا﴾ أي واجبًا علينا، قاله ابن عباس (١) وغيره (٢)، ومعنى الوجوب هاهنا: أنه أخبر بذلك ولا خلف لوعده، وما أخبر به [فهو واجب] (٣) الوجود.
١٠٤ - قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، قال ابن عباس: يريد أهل مكة (٤)، ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي﴾، قال: يريد من توحيد الله الذي جئت به والحنيفية التي بعثت بها (٥)، ﴿فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، يقال في هذا: لِمَ جعل جواب ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ﴾، ﴿لَآ أَعْبُدُ﴾ وهؤلاء يعبدون غير الله شكوا أو لم يشكوا؟ قيل: لأن المعنى: لا تشككوني (٦) بشككم حتى أَعبد غير الله كعبادتكم، كأنه قيل: ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ بشككم ﴿وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ﴾، قال أهل المعاني: إنما خص التوفي هاهنا بالذكر دون الإحياء؛ لأنه يتضمن تهديدًا لهم؛ لأن وفاة المشركين ميعاد عذابهم (٧).
(١) رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٢٠.
(٢) انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ١١٣، والثعلبي ٧/ ٣١ أ، والبغوي ٤/ ١٥٤.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز).
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٦٩، "تنوير المقباس" ص٢٢٠، ولا دليل على هذا التخصيص.
(٥) انظر المصدرين السابقين، نفس الموضع، بمعناه.
(٦) في (ى): (لا تشكون)، وهو خطأ.
(٧) لم أجده عند أهل المعاني، وانظره في "الوسيط" ٢/ ٥٦١، "زاد المسير" ٤/ ٧٠.
332
وقوله تعالى: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ (١) أَكُونَ﴾، قال المبرد: أي وقع الأمر لهذا ومن أجل هذا (٢)، كما قال (٣):
أريد لأنسى ذكرها...........
أي: إرادتي لنسيان (٤) ذكرها، وقوله تعالى: ﴿أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني أول مؤمني هذه الأمة، كما قال: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٣].
١٠٥ - قوله تعالى: ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾، قال صاحب النظم: لا يجوز في الظاهر أن ينسق هذا على ﴿أَنْ أَكُونَ﴾، إلا أن الأمر قول وكلام، فكان قوله: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ﴾ قيل لي: كن من المؤمنين وأقم وجهك، ومعنى الآية: استقم بإقبالك على ما أمرت به بوجهك (٥)، إذ من أقبل على الشيء بوجهه جمع همته له وله يُضْجِعُ (٦) فيه، وهذا معنى قول
(١) في جميع النسخ: (لأن)، وهو خطأ. وإنما ذلك في سورة الزمر، الآية: ١٢، وهي التي ذكرها المبرد، لا آية سورة يونس.
(٢) اهـ. كلام المبرد، انظر: "المقتضب" ٢/ ٣٦، وقد ذكر بيت كثير في "الكامل" ٣/ ٩٧، دون ذكر ما قبله وما بعده.
(٣) هو: كثير، وما ذكره المؤلف بعض بيت، ونصه:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثَّلُ لي ليلى بكل سبيل
انظر: "ديوان كثير عزة" ص ١٠٨، "أمالي القالي" ٢/ ٦٣، "خزانة الأدب" ١٠/ ٣٢٩، "لسان العرب" (رود) ٣/ ١٧٧٢.
(٤) في (م): (نسيان).
(٥) في (ح) و (ز): (وجهك)، وهو خطأ.
(٦) يقال: ضَجَعَ الرجل في الأمر يَضْجَع، وأضجع يُضْجِع وضجّع يُضَجِّع: إذا وهن وتوانى وقصر فيه.
انظر: "جمهرة اللغة" (ج ض ع) ١/ ٤٧٩، "الصحاح" (ضجع) ٣/ ١٢٤٨.
333
ابن عباس: وجهك عملك (١)، ومعنى إقامة الشيء: نصبه المنافي لإضجاعه، ومضى الكلام في الحنيف والحنيفية عند قوله: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ (٢) [البقرة: ١٣٥].
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، نهي عن الإشراك على (٣) التصريح؛ لتأكيد التحذير والذم لأهله؛ لأنه إذا قيل: لا تكن منهم اقتضى أنهم على نهاية الخزي والمقت.
١٠٦ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ الآية، الدعاء يكون على وجهين:
أحدهما: النداء كقولك: يا زيد، ويا عمرو، وعلى هذا، معنى: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي: لا تدعه إلهًا، لا تقل لما دون الله: يا إله، كما يدعو المشركون أوثانهم آلهة.
والثاني: الدعاء إلى أمر (٤)، وهو طلب الفعل من القادر بصيغة الأمر، وعلى هذا معنى الآية: لا تدع من دون الله دعاء الله في العبادة بدعائه.
وقوله تعالى: ﴿مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ﴾ أي: شيئًا ما؛ لأنه لا يتحقق النفع والضر إلا من الله تعالى، ولا تدع من دون الله شيئًا.
(١) رواه الثعلبي ٧/ ٣١ أ، والبغوي ٤/ ١٥٤، والفيروزأبادي ص ٢٢٠.
(٢) قال في هذا الموضع ما نصه: وأما معنى الحنيف: فقال ابن دريد: الحنيف: العادل عن دين إلى دين، وبه سمي الإسلام الحنيفية؛ لأنها مالت عن اليهودية والنصرانية.. ، وروى ابن نجدة عن ابن زيد أنه قال: الحنيف: المستقيم.. إلخ.
(٣) في (م): (عن).
(٤) في (م): (أحد)، وهو خطأ.
وقال بعض أهل المعاني: ما لا ينفعك ولا يضرك نفع الإله وضره (١)، وقيل: إنما قال: ﴿مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ﴾ -وهو إن نَفَع وضرَّ لم تجز عبادته- لأنه أخسر للصفقة، وأبعد من الشبهة، عبادةُ ما (٢) لا ينفع ولا يضر، ﴿فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، قال ابن عباس: يريد بذلك مخاطبة لجميع من بعث إليه.
١٠٧ - قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾، الباء هاهنا للتعدية، والمعني يجعل الضر يمسك بحلوله فيك، كأنه قيل: يمسك الضر، والضر: اسم لكل ما يتضرر به الإنسان، قال ابن عباس: يريد: بمرض وفقر، ﴿فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ﴾، معنى الكشف رفع الساتر، ولما جعل الضر بما يمس جعل دفعه كشفًا له] (٣) أي: لا مزيل لما غشاك وألبسك من الضر ﴿إِلَّا هُوَ﴾
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾ هو من المقلوب، معناه: وإن يرد بك الخير، ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالإرادة جاز: يريدك بالخير، ويريد بك الخير. ﴿فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ لا مانع لما يفضل به عليك من رخاء ونعمة وصحة ونصر، وقوله تعالى: ﴿يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ يجوز (٤) أن يريد بكل واحد مما ذكر، ويجوز أن تعود الكناية إلى الخير الذي هو أقرب، والخبر عنه يكون كالخبر (٥) عن الخير والضر؛ لأنهما ذكرا
(١) لم أقف عليه
(٢) في (ى): (من).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من النسخ عدا (م).
(٤) في (ح) و (ز) و (ى): (ويجوز).
(٥) في (م): (لخبر).
معًا، فالإخبار عن أحدهما كالإخبار عن الآخر، وهذه الآية تحقق ما ذكرنا في الآية الأولى أنه لا يتحقق النفع والضر إلا من الله؛ لأنه إذا لم يتهيأ لأحد [دفع نفع يريده بعبد فهو النافع على الحقيقة، وإذا لم يتهيأ لأحد] (١) منع ضر يحل به أو بغيره فهو الضار.
١٠٨ - قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ قالوا: يعني أهل مكة (٢)، ﴿قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ القرآن الذي جاء به محمد - ﷺ -، قاله ابن عباس (٣) وغيره (٤)، وفيه البيان والأدلة التي نصبت ليهتدي بها العباد، ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾، قال ابن عباس: يريد من صدق محمدًا - ﷺ - فإنما يحتاط لنفسه (٥)، ﴿وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ أي: إنما يكون وبال ضلاله على نفسه، كما أن ثواب اهتدائه لنفسه، ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ أي: في منعكم من اعتقاد الباطل، فانظروا لأنفسكم نظر من يطالب بعمله من غير أن يطالب غيره بحفظه، كأنه قيل: بحفيظ من الهلاك كما يحفظ الوكيل المتاع من الهلاك.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ح) و (ز) و (م).
(٢) انظر: "تفسير السمرقندي" ٢/ ١١٤، "الوسيط" ٢/ ٥٦٢، "تنوير المقباس" ص ٢٢٠، وقد ذكر الزركشي في "البرهان" ١/ ١٨٧: أن بعض العلماء يرى أن ما كان خطابًا بـ (يا أيها الناس) فالمراد بهم أهل مكة.
وانظر رد هذا القول في: "مناهل العرفان" ١/ ١٨٦.
(٣) ذكره بنحوه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص ٢٢٠.
(٤) انظر: "تفسير ابن جرير" ١١/ ١٧٨، والسمرقندي ٢/ ١١٤، والثعلبي ٧/ ٣١ ب، والبغوي ٤/ ١٥٥.
(٥) "الوسيط" ٢/ ٥٦٢.
قال ابن عباس: نسختها آية القتال (١).
١٠٩ - قوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾، قال ابن عباس: هي منسوخة نسختها آية السيف؛ فحكم الله بقتل المشركين والجزية على أهل الكتاب (٢) (٣).
(١) رواه الثعلبي ٧/ ٣١ ب، والبغوي ٤/ ١٥٥، وانظر: "زاد المسير" ٤/ ٧١، "تفسير القرطبي" ٨/ ٣٨٩، وانظر رد هذا القول في: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص ٣٧٤، "زاد المسير" ٤/ ٧١.
(٢) انظر: "الوسيط" ٢/ ٥٦٢، "زاد المسير" ٤/ ٧١، وهذا مذهب ابن زيد كما في "تفسير الطبري" ١١/ ١٧٨، وانظر رده في: المصدرين السابقين الأخيرين.
(٣) في النسخة (م) كتب ناسخها بعد هذا ما نصه:
هذا آخر الجزء الثالث، ويتلوه الجزء الرابع أول سورة هود -إن شاء الله تعالى- كتابته على يد العبد الضعيف محمد بن محمد بن محمود العنبري الحسيني في مستهل رجب المبارك من شهور سنة تسع وخمسين وسبعمائة والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
337
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
سورة هود
تحقيق
د. عبد الله بن إبراهيم الريس
339
Icon