تفسير سورة الرعد

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
هكذا سميت من عهد السلف. وذلك يدل على أنها مسماة بذلك من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يختلفوا في اسمها.
وإنما سميت بإضافتها إلى الرعد لورود ذكر الرعد فيها بقوله تعالى ﴿ ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق ﴾. فسميت بالرعد لأن الرعد لم يذكر في سورة مثل هذه السورة، فإن هذه السورة مكية كلها أو معظمها. وإنما ذكر الرعد في سورة البقرة وهي نزلت بالمدينة وإذا كانت آيات ﴿ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ﴾ إلى قوله ﴿ وهو شديد المحال ﴾ مما نزل بالمدينة، كما سيأتي تعين أن ذلك نزل قبل نزول سورة البقرة.
وهذه السورة مكية في قول مجاهد وروايته عن ابن عباس ورواية علي بن أبي طلحة وسعيد بن جبير عنه وهو قول قتادة. وعن أبي بشر قال : سألت سعيد ابن جبير عن قوله تعالى ﴿ ومن عنده علم الكتاب ﴾ أي في آخر سورة الرعد أهو عبد الله بن سلام؟ فقال : كيف وهذه سورة مكية، وعن ابن جريج وقتادة في رواية عنه وعن ابن عباس أيضا : أنها مدنية، وهو عن عكرمة والحسن البصري، وعن عطاء عن ابن عباس. وجمع السيوطي وغيره بين الروايات بأنها مكية إلا آيات منها نزلت بالمدينة يعني قوله ﴿ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ﴾ إلى قوله ﴿ شديد المحال ﴾ وقوله ﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ﴾. قال ابن عطيه : والظاهر أن المدني فيها كثير، وكل ما نزل في شأن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة فهو مدني.
وأقول أشبه آياتها بأن يكون مدنيا قوله ﴿ أو لم يروا إنا نأتي الأرض تنقصها من أطرافها ﴾ كما ستعلمه، وقوله تعالى ﴿ كذلك أرسلناك في أمة ﴾ إلى ﴿ وإليه متاب ﴾، فقد قال مقاتل وابن جريج : نزلت في صلح الحديبية كما سيأتي عند تفسيرها.
ومعانيها جارية على أسلوب معاني القرآن المكي من الاستدلال على الوحدانية وتفريع المشركين وتهديدهم. والأسباب التي أثارت القول بأنها مدنية أخبار واهية، وسنذكرها في مواضعها من هذا التفسير ولا مانع من أن تكون مكية. ومن آياتها نزلت بالمدينة وألحقت بها، فإن ذلك في بعض سور القرآن، فالذين قالوا : هي مكية لم يذكروا موقعها من ترتيب المكيات سوى أنهم ذكروها بعد سورة يوسف وذكروا بعدها سورة إبراهيم.
والذين جعلوها مدنية عدوها في النزول بعد سورة القتال وقبل سورة الرحمان وعدوها سابعة وتسعين في عداد النزول. وإذ قد كانت سورة القتال نزلت عام الحديبية أو عام الفتح تكون سورة الرعد بعدها.
وعدت آياتها ثلاثا وأربعين من الكوفيين وأربعا وأربعين في عدد المدنيين وخمسا وأربعين عند الشام.
مقاصدها
أقيمت هذه السورة على أساس إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه من إفراد الله بالإلهية والبعث وإبطال أقوال المكذبين فلذلك تكررت حكاية أقوالهم خمس مرات موزعة على السورة بدءا ونهاية.
ومهد لذلك بالتنويه بالقرآن وأنه منزل من الله، والاستدلال على تفرده تعالى بالإلهية بدلائل خلق العالمين ونظامهما الدال على انفراده بتمام العلم والقدرة وإدماج الامتنان لما في ذلك من النعم على الناس.
ثم انتقل إلى أقوال أهل الشرك ومزاعمهم في إنكار البعث.
وتهديدهم أن يحل بهم ما حل بأمثالهم.
والتذكير بنعم الله على الناس.
وإثبات أن الله هو المستحق للعبادة دون آلهتهم.
وأن الله العالم بالخفايا وأن الأصنام لا تعلم شيئا ولا تنعم بنعمة.
والتهديد بالحوادث الجوية أن يكون منها عذاب للمكذبين كما حل بالأمم قبلهم.
والتخويف من يوم الجزاء.
والتذكير بأن الدنيا ليست دار قرار.
وبيان مكابرة المشركين في اقتراحهم مجيء الآيات على نحو مقترحاتهم.
ومقابلة ذلك بيقين المؤمنين. وما أعد الله لهم من الخير.
وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لقي من قومه إلا كما لقي الرسل عليهم السلام من قبله.
والثناء على فريق من أهل الكتب يؤمنون بأن القرآن منزل من عند الله.
والإشارة إلى حقيقة القدر ومظاهر المحو والإثبات.
وما تخلل ذلك من المواعظ والعبر والأمثال.

[١]

[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١)
المر
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظَائِرِ المر مِمَّا وَقَعَ فِي أَوَائِلِ بَعْضِ السُّورِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ.
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ
الْقَوْلُ فِي تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ طَالِعَةِ سُورَةِ يُونُسَ.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِ تِلْكَ هُوَ مَا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَخْبَرَ عَنْهَا بِأَنَّهَا آيَاتٌ، أَيْ دَلَائِلُ إِعْجَازٍ، وَلِذَلِكَ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْمُؤَنَّثِ مُرَاعَاةً لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ.
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ إِظْهَار فِي مَقَامِ الْإِضْمَارٍ. وَلَمْ يُكْتَفَ بِعَطْفِ خَبَرٍ عَلَى خَبَرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ بَلْ جِيءَ بِجُمْلَةٍ كَامِلَةٍ مُبْتَدِئَةٍ بِالْمَوْصُولِ لِلتَّعْرِيفِ بِأَنَّ آيَاتِ الْكِتَابِ مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهَا لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهَا آيَاتٌ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ أَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَوْلَا أَنَّهَا كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ آيَاتٍ.
وَأَخْبَرَ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ بِأَنَّهُ الْحَقُّ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ، أَيْ هُوَ الْحَقُّ لَا غَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ، فَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُتُبٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَهُمْ مِثْلَ قِصَّةِ رُسْتَمَ وَإِسْفِنْدِيَارَ اللَّتَيْنِ عَرَفَهُمَا النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. فَالْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ زَعَمُوهُ كَأَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ أَوِ الْقَصْرُ حَقِيقِيٌّ ادِّعَائِيٌّ مُبَالَغَةً لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، أَيْ هُوَ الْحَقُّ الْكَامِلُ، لِأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ لَمْ يَسْتَكْمِلْ مُنْتَهَى مُرَادِ
اللَّهِ مِنَ النَّاسِ إِذْ كَانَتْ دَرَجَاتٍ مُوَصِّلَةً إِلَى الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا، فَلِذَلِكَ مَا جَاءَ مِنْهَا كِتَابٌ إِلَّا وَنُسِخَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْ عُيِّنَ لِأُمَّةٍ خَاصَّةٍ «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ».
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ مُفْرَدٍ عَلَى قَوْلِهِ: الْكِتابِ مُفْرَدٍ، مِنْ بَابِ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الِاسْمِ، مِثْلَ مَا أَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَ امِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ بِالْمُزْدَحَمْ
وَالْإِتْيَانُ بِ رَبِّكَ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّلَطُّفِ. وَالِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ رَاجِعٌ إِلَى مَا أَفَادَهُ الْقَصْرُ مِنْ إِبْطَالِ مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ لَهُ فِي الْحَقِّيَّةِ إِبْطَالًا يَقْتَضِي ارْتِفَاعَ النِّزَاعِ فِي أَحَقِّيَّتِهِ، أَيْ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَمِنْ أَجْلِ هَذَا الْخُلُقِ الذَّمِيمِ فِيهِمْ يَسْتَمِرُّ النِّزَاعُ مِنْهُمْ فِي كَوْنِهِ حَقًّا.
وَابْتِدَاءُ السُّورَةِ بِهَذَا تَنْوِيهٌ بِمَا فِي الْقُرْآنِ الَّذِي هَذِهِ السُّورَةُ جُزْءٌ مِنْهُ مَقْصُودٌ بِهِ تَهْيِئَةُ السَّامِعِ لِلتَّأَمُّلِ مِمَّا سَيَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ.
[٢]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٢]
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ هُوَ ابْتِدَاءُ الْمَقْصُودِ مِنَ السُّورَةِ وَمَا قَبْلَهُ بِمَنْزِلَةِ الدِّيبَاجَةِ مِنَ الْخُطْبَةِ، وَلِذَا تَجِدُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْغَرَضِ قَدْ طَالَ وَاطَّرَدَ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الِاسْتِئْنَافِ لِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ لِأَنَّ أَصْلَ كفرهم بِالْقُرْآنِ ناشىء عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْكُفْرِ وَعَنْ تَطَبُّعِهِمْ بِالِاسْتِكْبَارِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَةِ الْحَقِّ.
79
وَالِافْتِتَاحُ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ دُونَ الضَّمِيرِ الَّذِي يَعُودُ إِلَى رَبِّكَ [الرَّعْد: ١] لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ بِهِ لَا يَشْتَبِهُ غَيْرُهُ مِنْ آلِهَتِهِمْ لِيَكُونَ الْخَبَرُ الْمَقْصُودُ جَارِيًا عَلَى مُعَيَّنٍ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ إِبْلَاغًا فِي قَطْعِ شَائِبَةِ الْإِشْرَاكِ.
والَّذِي رَفَعَ هُوَ الْخَبَرُ. وَجُعِلَ اسْمَ مَوْصُولٍ لِكَوْنِ الصِّلَةِ مَعْلُومَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَثْبُتُ لَهُ هُوَ الْمُتَوَحِّدُ بِالرُّبُوبِيَّةِ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ مِثْلَ تِلْكَ الصِّلَةِ غَيْرُ الْمُتَوَحِّدِ وَلِأَنَّهُ مُسَلَّمٌ لَهُ ذَلِكَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَان: ٢٥].
وَالسَّمَاوَاتُ تَقَدَّمَتْ مِرَارًا، وَهِيَ الْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ وَطَبَقَاتُ الْجَوِّ الَّتِي تَسْبَحُ فِيهَا.
وَرَفَعَهَا: خَلَقَهَا مُرْتَفِعَةً، كَمَا يُقَالُ: وَسِّعْ طَوْقَ الْجُبَّةِ وَضَيِّقْ كُمَّهَا، لَا تُرِيدُ وُسِّعْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ ضَيِّقًا وَلَا ضَيِّقْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ وَاسِعًا وَإِنَّمَا يُرَادُ اجْعَلْهُ وَاسِعًا وَاجْعَلْهُ ضَيِّقًا، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ رَفَعَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُنْخَفِضَةً.
وَالْعَمَدُ: جَمْعُ عِمَادٍ مِثْلُ إهَاب وَأهب، والعماد: مَا تُقَامُ عَلَيْهِ الْقُبَّةُ وَالْبَيْتُ. وَجُمْلَةُ تَرَوْنَها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ السَّماواتِ، أَيْ لَا شُبْهَةَ فِي كَوْنِهَا بِغَيْرِ عَمَدٍ.
وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي سُورَةِ يُونُسَ.
وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ عَلَى سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَالْجَرْيُ: السَّيْرُ السَّرِيعُ. وَسَيْرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ فِي مَسَافَاتٍ شَاسِعَةٍ، فَهُوَ أَسْرَعُ التَّنَقُّلَاتِ فِي بَابِهَا وَذَلِكَ سَيْرُهَا فِي مَدَارَاتِهَا.
80
وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ. وَالْأَجَلُ: هُوَ الْمُدَّةُ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ لِدَوَامِ سَيْرِهَا، وَهِيَ مُدَّةُ بَقَاءِ النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ الَّذِي إِذَا اخْتَلَّ انْتَثَرَتِ الْعَوَالِمُ وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ.
وَالْمُسَمَّى: أَصْلُهُ الْمَعْرُوفُ بِاسْمِهِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمُعَيَّنِ الْمُحَدَّدِ إِذِ التَّسْمِيَةُ تَسْتَلْزِمُ التَّعْيِينَ وَالتَّمْيِيزَ عَنِ الِاخْتِلَاطِ.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ جُمْلَةُ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ. وَجُمْلَةُ يُفَصِّلُ الْآياتِ حَالٌ ثَانِيَةٌ تُرِكَ عَطْفُهَا عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِتَكُونَ عَلَى أُسْلُوبِ التَّعْدَادِ وَالتَّوْقِيفِ وَذَلِكَ اهْتِمَامٌ بِاسْتِقْلَالِهَا. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ عَلَى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٣].
وَتَفْصِيلُ الْآيَاتِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ فِي طَالِعَةِ سُورَةِ هُودٍ [١].
وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا هُنَا أَنَّ تَدْبِيرَ الْأَمْرِ يَشْمَلُ تَقْدِيرَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّصَرُّفِ بِالتَّكْوِينِ لِلْعُقُولِ وَالْعَوَالِمِ، وَتَفْصِيلُ الْآيَاتِ مُشِيرٌ إِلَى التَّصَرُّفِ بِإِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ، وَشَأْنُ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ أَنْ يُفِيدَ اهْتِدَاءَ النَّاسِ إِلَى الْيَقِينِ بِأَنَّ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةً أُخْرَى، لِأَنَّ النَّظَرَ بِالْعَقْلِ فِي الْمَصْنُوعَاتِ وَتَدْبِيرَهَا يَهْدِي إِلَى ذَلِكَ، وَتَفْصِيلُ الْآيَاتِ وَالْأَدِلَّةِ يُنَبِّهُ الْعُقُولَ وَيُعِينُهَا عَلَى ذَلِكَ الِاهْتِدَاءِ وَيُقَرِّبُهُ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يُونُس: ٣]. وَهَذَا مِنْ إِدْمَاجِ غَرَضٍ فِي أَثْنَاءِ غَرَضٍ آخَرَ لِأَنَّ الْكَلَامَ جَارٍ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَفِي أَدِلَّةِ الْوَحْدَانِيَّةِ دَلَالَةٌ عَلَى الْبَعْثِ أَيْضًا.
81
وَصِيغَ (يُدَبِّرُ) وَ (يُفَصِّلُ) بِالْمُضَارِعِ عَكْسَ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَالتَّفْصِيلَ مُتَجَدِّدٌ مُتَكَرِّرٌ بِتَجَدُّدِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورَاتِ. وَأَمَّا رَفْعُ السَّمَاوَاتِ وَتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَقَدْ تَمَّ وَاسْتَقَرَّ دُفْعَةً وَاحِدَةً.
[٣]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ فَبَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ شِبْهُ التَّضَادِّ. اشْتَمَلَتِ الْأُولَى عَلَى ذِكْرِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَأَحْوَالِهَا، وَاشْتَمَلَتِ الثَّانِيَةُ عَلَى ذِكْرِ الْعَوَالِمِ السُّفْلِيَّةِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَالِقُ جَمِيعِ الْعَوَالِمِ وَأَعْرَاضِهَا.
وَالْمَدُّ: الْبَسْطُ وَالسِّعَةُ، وَمِنْهُ: ظِلٌّ مَدِيدٌ، وَمِنْهُ مَدُّ الْبَحْرِ وَجَزْرُهُ، وَمَدَّ يَدَهُ إِذَا بَسَطَهَا.
وَالْمَعْنَى: خَلَقَ الْأَرْضَ مَمْدُودَةً مُتَّسِعَةً لِلسَّيْرِ وَالزَّرْعِ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهَا أَسْنِمَةً مِنْ حَجَرٍ أَوْ جِبَالًا شَاهِقَةً مُتَلَاصِقَةً لَمَا تَيَسَّرَ لِلْأَحْيَاءِ الَّتِي عَلَيْهَا الِانْتِفَاعُ بِهَا وَالسَّيْرُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ مَمْدُودَةٍ فَمَدَّهَا بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ، فَهَذِهِ خِلْقَةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْقُدْرَةِ وَعَلَى اللُّطْفِ بِعِبَادِهِ فَهِيَ آيَةٌ وَمِنَّةٌ.
وَالرَّوَاسِي: جَمْعُ رَاسٍ، وَهُوَ الثَّابِتُ الْمُسْتَقِرُّ. أَيْ جِبَالًا رَوَاسِيَ. وَقَدْ حُذِفَ مَوْصُوفُهُ لِظُهُورِهِ فَهُوَ كَقَوْلِه: وَلَهُ الْجَوارِ، أَيِ السُّفُنُ الْجَارِيَةُ. وَسَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ:
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [١٥] بِأَبْسَطَ مِمَّا هُنَا.
وَجِيءَ فِي جَمْعِ رَاسٍ بِوَزْنِ فَوَاعِلَ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ غَيْرُ عَاقِلٍ، وَوَزْنُ فَوَاعِلَ يَطَّرِدُ فِيمَا مُفْرَدُهُ صِفَةٌ لِغَيْرِ عَاقِلٍ مِثْلَ: صَاهِلٍ وَبَازِلٍ.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ الْجِبَالِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ لِمَا فِي خَلْقِهَا مِنَ الْعَظَمَةِ الْمُشَاهَدَةِ بِخِلَافِ خِلْقَةِ الْمَعَادِنِ وَالتُّرَابِ فَهِيَ خَفِيَّةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ [الغاشية: ١٩].
82
وَالْأَنْهَارُ: جَمْعُ نَهْرٍ، وَهُوَ الْوَادِي الْعَظِيمُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [٢٤٩].
وَقَوْلُهُ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ عَطْفٌ عَلَى أَنْهاراً فَهُوَ مَعْمُولٌ لِ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ. وَدُخُولُ مِنْ عَلَى كُلِّ جَرَى عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ فِي ذِكْرِ أَجْنَاسِ غَيْرِ الْعَاقِلِ كَقَوْلِهِ: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ. ومِنَ هَذِهِ تُحْمَلُ عَلَى التَّبْعِيضِ لِأَنَّ حَقَائِقَ الْأَجْنَاسِ لَا تَنْحَصِرُ وَالْمَوْجُودُ مِنْهَا مَا هُوَ إِلَّا بَعْضُ جُزْئِيَّاتِ الْمَاهِيَّةِ لِأَنَّ مِنْهَا جُزْئِيَّاتٍ انْقَضَتْ وَمِنْهَا جُزْئِيَّاتٍ سَتُوجَدُ.
وَالْمُرَادُ بِ الثَّمَراتِ هِيَ وَأَشْجَارُهَا. وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الثَّمَراتِ لِأَنَّهَا مَوْقِعُ مِنَّةٍ مَعَ الْعِبْرَةِ كَقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [سُورَة الْأَعْرَاف: ٥٧]. فَيَنْبَغِي الْوَقْفُ عَلَى وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَبِذَلِكَ انْتَهَى تَعْدَادُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْأَرْضِ. وَهَذَا أَحْسَنُ تَفْسِيرًا. وَيُعَضِّدُهُ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [١١].
وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ.
وَتَتَعَلَّقُ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ بِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَبِهَذَا فَسَّرَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَيُبْعِدُهُ أَنَّهُ لَا نُكْتَةَ فِي تَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَذْكُورِ مَحَلُّ اهْتِمَامٍ فَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلثَّمَرَاتِ هُنَا، وَلِأَنَّ الثَّمَرَاتِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا وُجُودُ أَزْوَاجٍ وَلَا كَوْنُ الزَّوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وَأَيْضًا فِيهِ فَوَاتُ الْمِنَّةِ بِخَلْقِ الْحَيَوَانِ وَتَنَاسُلِهِ مَعَ أَنَّ مِنْهُ مُعْظَمَ نَفْعِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ. وَمِمَّا يُقَرِّبُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النبأ: ٦- ٨]. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ هَمَّا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى قَالَ تَعَالَى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [سُورَة الْقِيَامَة: ٣٩].
وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنَ
الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ جِنْسُ الْحَيَوَانِ الْمَخْلُوقِ صِنْفَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى أَحَدُهُمَا زَوْجٌ
83
مَعَ الْآخَرِ.
وَشَاعَ إِطْلَاقُ الزَّوْجِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْحَيَوَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٥]، وَقَوْلُهُ: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ [١]، وَقَوْلُهُ: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: ٧] فَذَلِكَ إِطْلَاقُ الزَّوْجِ عَلَى الصِّنْفِ بِنَاءً عَلَى شُيُوعِ إِطْلَاقِهِ عَلَى صِنْفِ الذَّكَرِ وَصِنْفِ الْأُنْثَى فَأُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى مُطْلَقِ صِنْفٍ مِنْ غَيْرِ مَا يَتَّصِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: أَنْبَتْنا مَعَ عَدَمِ التَّثْنِيَةِ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فِي سُورَةِ طَهَ [٥٣].
وَتَنْكِيرُ زَوْجَيْنِ لِلتَّنْوِيعِ، أَيْ جَعَلَ زَوْجَيْنِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. وَمَعْنَى التَّثْنِيَةِ فِي زَوْجَيْنِ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الزَّوْجِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ زَوْجٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٣].
وَالْوَصْفُ بقوله: اثْنَيْنِ للتَّأْكِيد تَحْقِيقًا لِلِامْتِنَانِ.
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ جُمْلَةُ يُغْشِي حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ جَعَلَ. وَجِيءَ فِيهِ بِالْمُضَارِعِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّجَدُّدِ لِأَنَّ جَعْلَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا جَعْلٌ ثَابِتٌ مُسْتَمِرٌّ، وَأَمَّا إِغْشَاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَهُوَ أَمْرٌ مُتَجَدِّدٌ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِأَعْرَاضِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ. وَذِكْرُهُ مَعَ آيَاتِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ فِي غَايَةِ الدِّقَّةِ الْعِلْمِيَّةِ لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مِنْ أَعْرَاضِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ بِحَسَبِ اتِّجَاهِهَا إِلَى الشَّمْسِ وَلَيْسَا مِنْ أَحْوَالِ السَّمَاوَاتِ إِذِ الشَّمْسُ وَالْكَوَاكِبُ لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهَا بِضِيَاءٍ وَظُلْمَةٍ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٤].
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِسُكُونِ الْغَيْنِ- وَتَخْفِيفِ الشِّينِ- مُضَارِعُ أَغْشَى. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ- بِتَشْدِيدِ الشِّينِ- مُضَارِعُ غَشَّى.
84
وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ [الرَّعْد: ٢] إِلَى هُنَا بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.
وَجَعَلَ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَات ظروفا لآيَات لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ
تَتَضَمَّنُ آيَاتٍ عَظِيمَةً يَجْلُوهَا النَّظَرُ الصَّحِيحُ وَالتَّفْكِيرُ الْمُجَرَّدُ عَنِ الْأَوْهَامِ. وَلِذَلِكَ أَجْرَى صِفَةَ التَّفْكِيرِ عَلَى لَفْظِ قَوْمٍ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ التَّفْكِيرَ الْمُتَكَرِّرَ الْمُتَجَدِّدَ هُوَ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِيهِمْ بِحَيْثُ جُعِلَتْ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ، أَيْ جِبِلَّتِهِمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي دَلَالَةِ لَفْظِ قَوْمٍ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى التَّفْكِيرِ مِنَ الطَّبَائِعِيِّينَ فَعَلَّلُوا صُدُورَ الْمَوْجُودَاتِ عَنِ الْمَادَّةِ وَنَفَوُا الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ مَا فَكَّرُوا إِلَّا تَفْكِيرًا قَاصِرًا مَخْلُوطًا بِالْأَوْهَامٍ لَيْسَ مَا تَقْتَضِيهِ جِبِلَّةُ الْعَقْلِ إِذِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمُ الْعِلَلُ وَالْمَوَالِيدُ، بِأَصْلِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ.
وَجِيءَ فِي التَّفْكِيرِ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّكَلُّفِ وَبِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَفْكِيرٍ شَدِيدٍ وَمُكَرَّرٍ.
وَالتَّفْكِيرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فِي سُورَة الْأَنْعَام [٥٠].
[٤]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٤]
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
لِلَّهِ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ فِي تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ عِنْدَ الِانْتِقَالِ إِلَى ذِكْرِ النِّعَمِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَلْهَمَ النَّاسَ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْأَرْضِ بِفَلْحِهَا وَزَرْعِهَا وَغَرْسِهَا
85
وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا، فَجَاءَ ذَلِكَ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي أُسْنِدَ جَعْلُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُسْنَدْ إِلَى اللَّهِ حَتَّى بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِأَسْرَارٍ أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا هِيَ مُوجِبُ تَفَاضُلِهَا. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعِبَرِ، وَلَفْتُ النَّظَرِ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكُتُبِ.
وَأُعِيدَ اسْمُ الْأَرْضِ الظَّاهِرُ دُونَ ضَمِيرِهَا الَّذِي هُوَ الْمُقْتَضَى لِيَسْتَقِلَّ الْكَلَامُ وَيَتَجَدَّدَ الْأُسْلُوبُ، وَأَصْلُ انْتِظَامِ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَفِيهَا قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، فَعَدَلَ إِلَى هَذَا تَوْضِيحًا وَإِيجَازًا.
وَالْقِطَعُ: جَمْعُ قِطْعَةٍ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَهِيَ الْجُزْءُ مِنَ الشَّيْءِ تَشْبِيهًا لَهَا بِمَا يُقْتَطَعُ.
وَلَيْسَ وَصْفُ الْقِطَعِ بِمُتَجَاوِرَاتٍ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِذْ لَيْسَ هُوَ مَحَلَّ الْعِبْرَةِ بِالْآيَاتِ، بَلِ الْمَقْصُودُ وَصْفُ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ مُخْتَلِفَاتُ الْأَلْوَانِ
وَالْمَنَابِتِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ.
وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِمُتَجَاوِرَاتٍ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَلْوَانِ والمنابت مَعَ التجاور أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى الْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [فاطر: ٢٧].
فَمَعْنَى قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ بِقَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ مَعَ كَوْنِهَا مُتَجَاوِرَةً مُتَلَاصِقَةً.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الْأَرْضِ وَقِطَعِهَا يُشِيرُ إِلَى اخْتِلَافٍ حَاصِلٍ فِيهَا عَنْ غَيْرِ صُنْعِ النَّاسِ وَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْمَرَاعِي وَالْكَلَأِ. وَمُجَرَّدُ ذِكْرِ الْقِطَعِ كَافٍ فِي ذَلِكَ فَأَحَالَهُمْ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ الْمَعْرُوفَةِ مِنِ اخْتِلَافِ مَنَابِتِ قِطَعِ الْأَرْضِ مِنَ الْأَبِّ وَالْكَلَأِ وَهِيَ مَرَاعِي أَنْعَامِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ التَّعَرُّضُ هُنَا لِاخْتِلَافِ أَكْلِهِ إِذْ لَا مَذَاقَ لِلْآدَمِيِّ فِيهِ وَلكنه يخْتَلف شَرعه بَعْضِ الْحَيَوَانِ عَلَى بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ [الْأَنْعَام: ٩٩].
86
وَالزَّرْعُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ [الْأَنْعَام: ١٤١].
والنخيل: اسْم جمع نَخْلَةٍ مِثْلَ النَّخْلِ، وَتَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ، وَكِلَاهُمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَالزَّرْعُ يَكُونُ فِي الْجَنَّاتِ يُزْرَعُ بَيْنَ أَشْجَارِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى أَعْنابٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ، وَيَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جَنَّاتٌ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ الزَّرْعَ الَّذِي فِي الْجَنَّاتِ مُسَاوٍ لِلَّذِي فِي غَيْرِهَا فَاكْتُفِيَ بِهِ قَضَاءً لِحَقِّ الْإِيجَازِ. وَكَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ هُوَ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الزَّرْعِ الَّذِي فِي الْجَنَّاتِ، وَالنَّخْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي جَنَّاتٍ.
وَصِنْوَانٌ: جَمْعُ صِنْوٍ بِكَسْرِ الصَّادِ فِي الْأَفْصَحِ فِيهِمَا وَهِيَ لُغَةُ الْحجاز، وَبِضَمِّهَا فيهمَا أَيْضًا وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ. وَالصِّنْوُ: النَّخْلَةُ الْمُجْتَمِعَةُ مَعَ نَخْلَةٍ أُخْرَى نَابِتَتَيْنِ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ أَوْ نَخَلَاتٌ. الْوَاحِدُ صِنْوٌ وَالْمُثَنَّى صِنْوَانِ بِدُونِ تَنْوِينٍ، وَالْجَمْعُ صِنْوَانٌ بِالتَّنْوِينِ جَمْعُ تَكْسِيرٍ. وَهَذِهِ الزِّنَةُ نَادِرَةٌ فِي صِيغ أَو الجموع فِي الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يُحْفَظْ مِنْهَا إِلَّا خَمْسَةُ جُمُوعٍ: صِنْوٌ وَصِنْوَانٌ، وَقِنْوٌ وَقِنْوَانٌ، وَزِيدٍ بِمَعْنَى مِثْلٍ وَزِيدَانٍ، وَشِقْذٍ (بِذَالٍ
مُعْجَمَةٍ اسْمُ الْحِرْبَاءِ) وَشِقْذَانٍ، وَحِشٍّ (بِمَعْنَى بُسْتَانٍ) وَحِشَّانٍ.
وَخُصَّ النَّخْلُ بِذِكْرِ صِفَةِ صِنْوَانٍ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِهَا أَقْوَى. وَوَجْهُ زِيَادَةِ وَغَيْرُ صِنْوانٍ تَجْدِيدُ الْعِبْرَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ بِجَرِّ صِنْوانٌ وَجَرِّ وَغَيْرُ عَطْفًا عَلَى زَرْعٌ. وَقَرَأَهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ، وَيَعْقُوبُ- بِالرَّفْعِ- عَطْفًا عَلَى وَجَنَّاتٌ.
وَالسَّقْيُ: إِعْطَاءُ الْمَشْرُوبِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ هُنَا مَاءُ الْمَطَرِ وَمَاءُ الْأَنْهَارِ وَهُوَ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَسْقِيِّ بِبَعْضِهِ.
87
وَالتَّفْضِيلُ: مِنَّةٌ بِالْأَفْضَلِ وَعِبْرَةٌ بِهِ وَبِضِدِّهِ وَكِنَايَةٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُسْقَى بِفَوْقِيَّةٍ اعْتِبَارًا بِجَمْعِ جَنَّاتٌ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ يُسْقى بِتَحْتِيَّةٍ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَنُفَضِّلُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ وَيُفَضِّلُ بِتَحْتِيَّةٍ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ. وَتَأْنِيثُ بَعْضَها عِنْدَ مَنْ قَرَأَ يُسْقى بِتَحْتِيَّةٍ دُونَ أَنْ يَقُولَ بَعْضَهُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ يُفَضِّلُ بَعْضَ الْجَنَّاتِ عَلَى بَعْضٍ فِي الثَّمَرَةِ.
وَالْأُكُلُ: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ هُوَ الْمَأْكُولُ. وَيَجُوزُ فِي اللُّغَةِ ضَمُّ الْكَافِ.
وَظَرْفِيَّةُ التَّفْضِيلِ فِي الْأُكُلِ ظَرْفِيَّةٌ فِي مَعْنَى الْمُلَابَسَةِ لِأَنَّ التَّفَاضُلَ يَظْهَرُ بِالْمَأْكُولِ، أَيْ نُفَضِّلُ بَعْضَ الْجَنَّاتِ عَلَى بَعْضٍ أَوْ بَعْضَ الْأَعْنَابِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخِيلِ عَلَى بَعْضٍ مِنْ جِنْسِهِ بِمَا يُثْمِرُهُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اخْتِلَافَ طَعُومِهِ وَتَفَاضُلَهَا مَعَ كَوْنِ الْأَصْلِ وَاحِدًا وَالْغِذَاءِ بِالْمَاءِ وَاحِدًا مَا هُوَ إِلَّا لِقُوَى خَفِيَّةٍ أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِيهَا فَجَاءَتْ آثَارُهَا مُخْتَلِفَةً.
وَمِنْ ثَمَّ جَاءَتْ جُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ مَجِيء التذييل.
وَأَشَارَ قَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [سُورَة الرَّعْد: ٣]. وَقَدْ جُعِلَ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ لِلْآيَاتِ. وَجُعِلَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ دَلَالَاتٍ كَثِيرَةً إِذْ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَوُصِفَتِ الْآيَاتُ بِأَنَّهَا مِنِ اخْتِصَاصِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ تَعْرِيضًا بِأَنَّ مَنْ لَمْ تُقْنِعْهُمْ تِلْكَ
الْآيَاتُ مُنَزَّلُونَ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْقِلُ وَزِيدَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ سَجِيَّةٌ لِلَّذِينَ انْتَفَعُوا بِتِلْكَ الْآيَاتِ بِإِجْرَاءِ وَصْفِ الْعَقْلِ على كلمة لِقَوْمٍ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْعَقْلَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْآيَة قبلهَا.
88

[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٥]

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ [الرَّعْد: ٢] فَلَمَّا قُضِيَ حَقُّ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَهُوَ غَرَضٌ مُسْتَقِلٌّ مَقْصُودٌ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ أُدْمِجَ ابْتِدَاءً خِلَالَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرَّعْد: ٢] تَمْهِيدًا لِمَا هُنَا، ثُمَّ نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَيْهِ بِاسْتِقْلَالِهِ بِمُنَاسَبَةِ التَّدْلِيلِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ مُسْتَخْرَجًا مِنَ الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ عَلَيْهِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: ١٥]- وَقَوْلِهِ-: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [سُورَة الطارق: ٨] فَصِيغَ بِصِيغَةِ التَّعْجِيبِ مِنْ إِنْكَارِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ السَّالِفَةَ لَمْ تَبْقَ عُذْرًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَصَارَ فِي إِنْكَارِهِمْ مَحَلُّ عَجَبِ الْمُتَعَجِّبِ.
فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّرْطِ فِي مِثْلِ هَذَا تَعْلِيقَ حُصُولِ مَضْمُونِ جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى حُصُولِ فِعْلِ الشَّرْط كَمَا هُوَ شَأْنُ الشُّرُوطِ لِأَنَّ كَوْنَ قَوْلِهِمْ: أَإِذا كُنَّا تُراباً عَجَبًا أَمْرٌ ثَابِتٌ سَوَاء عجب مِنْهُ الْمُتَعَجِّبِ أَمْ لَمْ يُعْجَبْ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ اتِّصَافٌ بِتَعَجُّبٍ فَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ هُوَ أَسْبَقُ مِنْ كُلِّ عَجَبٍ لِكُلِّ مُتَعَجِّبٍ، وَلِذَلِكَ فَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوَجَّهًا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ بِمَا وَقَعَ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [الرَّعْد: ٦] وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ هُنَا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِثْلَ وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السَّجْدَة:
١٢].
وَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ لَا يُقْصَدُ تَعَلُّقُهُ بِمَعْمُولٍ مُعَيَّنٍ فَلَا يُقَدَّرُ: إِنْ تَعْجَبْ مِنْ قَوْلٍ أَوْ إِنْ تَعْجَبْ مِنْ إِنْكَارٍ، بَلْ يُنَزَّلُ الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ وَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ.
وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يَكُنْ مِنْكَ تَعَجُّبٌ فَاعْجَبْ مِنْ قَوْلِهِمْ الَخْ....
89
عَلَى أَنَّ وُقُوعَ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يُشْبِهُ وُقُوعَهُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَكُونُ لِعُمُومِ
الْمَفَاعِيلِ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ، أَيْ إِنْ تَعْجَبْ مِنْ شَيْءٍ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَإِنْ تَعْجَبْ إِلَخْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [سُورَة الرَّعْد:
١]. فَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تَعْجَبْ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ، فَعَجَبٌ إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ.
وَفَائِدَةُ هَذَا هُوَ التَّشْوِيقُ لِمَعْرِفَةِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ تَهْوِيلًا لَهُ أَوْ نَحْوَهُ، وَلِذَلِكَ فَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْله: فَعَجَبٌ للتنويع لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ صَالِحٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْهُ، ثُمَّ هُوَ يُفِيدُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فِي بَابِهِ تَبَعًا لِمَا أَفَادَهُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ مِنَ التَّشْوِيقِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَإِذا كُنَّا تُراباً إِنْكَارِيٌّ، لِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ فِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا تُرَابًا. وَالْقَوْلُ المحكي عَنْهُم فَهُوَ فِي مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَنْ مَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ وَهُمَا كَوْنُهُمْ: تُرَابًا، وَتَجْدِيدُ خَلْقِهِمْ ثَانِيَةً. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْعَجَبُ وَالْإِحَالَةُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَإِذا كُنَّا بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ فِي أَوَّلِهِ قَبْلَ هَمْزَةِ إِذا. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ قَبْلَ هَمْزَةِ إِنَّا. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ لِأَجْلِ مَا سَبَقَ اسْمَ الْإِشَارَةِ من قَوْلهم: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا دَلَائِلَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ فَحَقَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لِأَن قَوْلهم: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ لَا يَقُولُهُ إِلَّا كَافِرٌ بِاللَّهِ.
أَي بِصِفَات إلهيته إِذْ جَعَلُوهُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِ وَثَانِيهِمَا اسْتِحْقَاقُهُمُ الْعَذَابَ.
90
وَعُطِفَ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ جُمْلَةُ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ مُفْتَتَحَةً بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِمِثْلِ الْغَرَضِ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ الْجُمْلَةُ قَبْلَهَا فَإِنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا يُحَقِّقُ أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِوَضْعِ الْأَغْلَالِ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْإِهَانَةِ. وَكَذَلِكَ عَطْفُ جُمْلَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
وَقَوْلُهُ: الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَعِيدٌ بِسَوْقِهِمْ إِلَى الْحِسَابِ سَوْقَ الْمَذَلَّةِ وَالْقَهْرِ، وَكَانُوا يَضَعُونَ الْأَغْلَالَ لِلْأَسْرَى الْمُثْقَلِينَ، قَالَ النَّابِغَةُ:
أَوْ حُرَّةٍ كَمَهَاةِ الرَّمْلِ قَدْ كُبِلَتْ فَوْقَ الْمَعَاصِمِ مِنْهَا وَالْعَرَاقِيبِ
تَدْعُو قُعَيْنًا وَقَدْ عَضَّ الْحَدِيدُ بِهَا عَضَّ الثِّقَافِ عَلَى صُمِّ الأنابيب
والأغلال: مَعَ غُلٍّ بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَهُوَ الْقَيْدُ الَّذِي يُوضَعُ فِي الْعُنُقِ، وَهُوَ أَشد التَّقْيِيد.
قَالَ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: ٧١].
وَإِعَادَةُ اسْمِ الْإِشَارَةِ ثَلَاثًا لِلتَّهْوِيلِ.
وَجُمْلَةُ هُمْ فِيها خالِدُونَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَصْحَاب النَّار.
[٦]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٦]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦)
جُمْلَةُ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِنْ تَعْجَبْ [الرَّعْد: ٥]، لِأَنَّ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ حِكَايَةٌ لِغَرِيبِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالْوَعِيدِ. فَابْتَدَأَ بِذِكْرِ تَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدِ الْآخِرَةِ لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ تَكْذِيبَهُمْ بِوَعِيدِ الدُّنْيَا لِتَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الِاسْتِخْفَافِ بِوَعِيدِ نُزُولِ الْعَذَابِ وَعَدِّهِمْ إِيَّاهُ مُسْتَحِيلًا فِي حَالِ أَنَّهُمْ شَاهَدُوا آثَارَ الْعَذَابِ النَّازِلِِِ
91
بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِذُهُولِهِمْ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي سيق الْكَلَامَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا وَالتَّفْرِيعِ عَنْهَا، فَهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ بِنُزُولِهِ بِهِمُ اسْتِخْفَافًا وَاسْتِهْزَاءً كَقَوْلِهِمْ: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢]، وَقَوْلِهِمْ:
أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الْإِسْرَاء: ٩٣].
وَالْبَاءُ فِي بِالسَّيِّئَةِ لِتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٧].
وَالسَّيِّئَةُ: الْحَالَةُ السَّيِّئَةُ. وَهِيَ هُنَا الْمُصِيبَةُ الَّتِي تَسُوءُ مَنْ تَحُلُّ بِهِ. وَالْحَسَنَةُ ضِدُّهَا، أَيْ أَنَّهُمْ سَأَلُوا مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ عَذَابٌ بِسُوءٍ، كَقَوْلِهِمْ: إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَال: ٣٢] دُونَ أَنْ يَسْأَلُوا آيَةً مِنَ الْحَسَنَاتِ.
فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ حِكَايَةً لِبَعْضِ أَحْوَالِ سُؤَالِهِمُ الظَّانِّينَ أَنَّهُ تَعْجِيزٌ، وَالدَّالِّينَ بِهِ عَلَى التَّهَكُّمِ بِالْعَذَابِ.
وَقَبْلِيَّةُ السَّيِّئَةِ قَبْلِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ، أَيْ مُخْتَارِينَ السَّيِّئَةَ دُونَ الْحَسَنَةِ. وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٤٦] فَانْظُرْهُ.
وَجُمْلَةُ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَهُوَ مَحَلُّ زِيَادَةِ التَّعْجِيبِ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُعْذُرُونَ فِيهِ لَوْ كَانُوا لَمْ يَرَوْا آثَارَ الْأُمَمَ الْمُعَذَّبَةِ مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ.
وَالْمَثُلَاتُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ-: جَمْعُ مَثُلَةٍ- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الثَّاءِ- كَسَمُرَةٍ،- وَبِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الثَّاءِ- كَعُرْفَةٍ: وَهِيَ الْعُقُوبَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تَكُونُ مِثَالًا تُمَثَّلُ بِهِ الْعُقُوبَاتُ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ. وَهَذَا كَشْفٌ لِغُرُورِهِمْ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا
92
استهزأوا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَرَّضُوا لِسُؤَالِ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُ لَمْ يُعَجَّلْ لَهُمْ حُلُولُهُ اعْتَرَتْهُمْ ضَرَاوَةٌ بِالتَّكْذِيبِ وَحَسِبُوا تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَجْزًا مِنَ المتوعد وكذبوا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ يُمْهِلُ عِبَادَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فَالْمَغْفِرَةُ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمَغْفِرَةِ الْمُوَقَّتَةِ، وَهِيَ التَّجَاوُزُ عَنْ ضَرَاوَةِ تَكْذِيبِهِمْ وَتَأْخِيرُ الْعَذَابِ إِلَى أَجَلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [سُورَة النَّحْل: ٣٤].
وَقَرِينَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ جَارٍ عَلَى عَذَابِ الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: ١٥]، أَيْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَهُوَ الْجُوعُ الَّذِي أُصِيبَ بِهِ قُرَيْشٌ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُطْعِمُهُمْ مِنْ جُوعٍ.
وعَلى فِي قَوْلِهِ: عَلى ظُلْمِهِمْ بِمَعْنَى مَعَ.
وَسِيَاق الْآيَة يدل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَغْفِرَةِ هُنَا التَّجَاوُزُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا بِتَأْخِيرِ الْعِقَابِ لَهُمْ إِلَى أَجَلٍ أَرَادَهُ اللَّهُ أَوْ إِلَى يَوْمِ الْحِسَابِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِقَابِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ ضِدُّ تِلْكَ الْمَغْفِرَةِ وَهُوَ الْعِقَابُ الْمُؤَجَّلُ فِي الدُّنْيَا أَوْ عِقَابُ يَوْمِ الْحِسَابِ، فَمَحْمَلُ الظُّلْمِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الشِّرْكِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الظُّلْمُ عَلَى ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ كَإِطْلَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [سُورَة النِّسَاء: ١٦٠] فَلَا تَعَارُضَ أَصْلًا بَيْنَ هَذَا الْمَحْمَلِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ٤٨] كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْعِلَاوَةِ إِظْهَارُ شِدَّةِ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ
النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
[فاطر:
٤٥].
93
وَجُمْلَةُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ الْمَذْكُورَةَ مَغْفِرَةٌ دَائِمَةٌ تَعْرِيضًا بِأَنَّ الْعِقَابَ حَالٌّ بِهِمْ من بعد.
[٧]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٧]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ الْآيَةَ. وَهَذِهِ حَالَةٌ مِنْ أُعْجُوبَاتِهِمْ وَهِيَ عَدَمُ اعْتِدَادِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي تَأَيَّدَ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْظَمُهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ، فَلَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَ آيَةً كَمَا يَقْتَرِحُونَهَا، فَلَهُ اتِّصَالٌ بِجُمْلَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [هود: ١٧].
وَمُرَادُهُمْ بِالْآيَةِ فِي هَذَا خَارِقُ عَادَةٍ عَلَى حِسَابِ مَا يَقْتَرِحُونَ، فَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لِأَنَّ تِلْكَ فِي تَعْجِيلِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، وَمَا هُنَا فِي مَجِيءِ آيَةٍ تُؤَيِّدُهُ كَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: ٨].
وَلِكَوْنِ اقْتِرَاحِهِمْ آيَةً يَشِفُّ عَنْ إِحَالَتِهِمْ حُصُولَهَا لِجَهْلِهِمْ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى سِيقَ هَذَا فِي عِدَادِ نَتَائِجِ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام:
٣٦] فَبِذَلِكَ انْتَظَمَ تَفَرُّعُ الْجُمَلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَتَفَرُّعُ جَمِيعِهَا عَلَى الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ عَيْنُ أَصْحَابِ ضَمِيرِ يَسْتَعْجِلُونَكَ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ ضَمِيرِهِمْ إِلَى اسْمِ الْمَوْصُولِ لِزِيَادَةِ تَسْجِيلِ الْكُفْرِ عَلَيْهِم، وَلما يومىء إِلَيْهِ الْمَوْصُولُ مِنْ تَعْلِيلِ صُدُورِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ.
94
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ تَدُلُّ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ وَتَكَرُّرِهِ.
ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ. يُمَوِّهُونَ بِالتَّحْضِيضِ أَنَّهُمْ حَرِيصُونَ وَرَاغِبُونَ فِي نُزُولِ آيَةٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ لِيُؤْمِنُوا، وَهُمْ كَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ إِذْ لَوْ أُوتُوا آيَةً كَمَا يَقْتَرِحُونَ لَكَفَرُوا بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الْإِسْرَاء: ٥٩].
وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ اقْتِرَاحَهُمْ مِنْ أَصْلِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ، فَقَصَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
صِفَةِ الْإِنْذَارِ وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ أَنْتَ مُنْذِرٌ لَا موجد خوارق عَاد. وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ قَصْرِهِ عَلَى الْإِنْذَارِ دُونَ الْبِشَارَةِ لِأَنَّهُ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِأَحْوَالِهِ نَحْوَ الْمُشْرِكِينَ.
وَجُمْلَةُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ تَذْيِيلٌ بِالْأَعَمِّ، أَيْ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ لِهَؤُلَاءِ لِهِدَايَتِهِمْ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ يُنْذِرُهُمْ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، فَمَا كُنْتَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا كَانَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ آيَاتٌ عَلَى مُقْتَرَحِ أَقْوَامِهِمْ بَلْ كَانَتْ آيَاتُهُمْ بِحَسَبِ مَا أَرَادَ الله أَن يظْهر عَلَى أَيْدِيهِمْ.
عَلَى أَنَّ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ تَأْتِي عَلَى حَسَبِ مَا يُلَائِمُ حَالَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ الَّذِينَ ظَهَرَتْ بَيْنَهُمْ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَبًا أَهْلَ فَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ جَعَلَ اللَّهُ مُعْجِزَتَهُ الْعُظْمَى الْقُرْآنَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَا من الْأَنْبِيَاء نبيء إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
. وَبِهَذَا الْعُمُومِ الْحَاصِلِ بِالتَّذْيِيلِ والشامل للرسول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- صَارَ الْمَعْنَى إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ لِقَوْمِكَ هَادٍ إِيَّاهُمْ إِلَى الْحَقِّ، فَإِنَّ الْإِنْذَارَ وَالْهُدَى مُتَلَازِمَانِ فَمَا مِنْ إِنْذَارٍ إِلَّا وَهُوَ هِدَايَةٌ وَمَا مِنْ هِدَايَةٍ إِلَّا وَفِيهَا إِنْذَارٌ، وَالْهِدَايَةُ أَعَمُّ مِنِ الْإِنْذَارِ فَفِي هَذَا احْتِبَاكٌ بَدِيعٌ.
95
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ هادٍ بِدُونِ يَاءٍ فِي آخِرِهِ فِي حَالَتَيِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. أَمَّا فِي الْوَصْلِ فَلِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ سُكُونِ الْيَاءِ وَسُكُونِ التَّنْوِينِ الَّذِي يَجِبُ النُّطْقُ بِهِ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ، وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْوَقْفِ فَتَبَعًا لِحَالَةِ الْوَصْلِ، وَهُوَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ وَفِيهِ مُتَابَعَةُ رَسْمِ الْمُصْحَفِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْوَصْلِ مِثْلَ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَهُ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَقْفِ لِزَوَالِ مُوجِبِ حَذْفِ الْيَاءِ وَهُوَ لُغَة صَحِيحَة.
[٨، ٩]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩)
انْتِقَالٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِجُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ [الرَّعْد: ٢] إِلَخَّ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. فَلَمَّا قَامَتِ الْبَرَاهِينُ الْعَدِيدَةُ بِالْآيَاتِ السَّابِقَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَعَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ الَّتِي أَوْدَعَ بِهَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ دَقَائِقَ
الْخِلْقَةِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى إِثْبَاتِ الْعِلْمِ لَهُ تَعَالَى عِلْمًا عَامًّا بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَعَظَائِمِهَا، وَلِذَلِكَ جَاءَ افْتِتَاحُهُ عَلَى الْأُسْلُوبِ الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ الْغَرَضَ السَّابِقَ بِأَنِ ابْتُدِئَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ كَمَا ابْتُدِئَ بِهِ هُنَالِكَ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرَّعْد: ٢].
وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ لِأَنَّ لَهَا مُنَاسَبَةً بِقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فَإِنَّ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَعَظِيمِ صُنْعِهِ صَالِحٌ لِأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ الْإِتْيَانُ بِمَا اقْتَرَحُوا مِنَ الْآيَاتِ وَلَكِنَّ بِعْثَةَ الرَّسُولِ لَيْسَ الْمَقْصِدُ مِنْهَا الْمُنَازَعَاتِ بَلْ هِيَ دَعْوَةٌ لِلنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ.
96
وَإِذْ قَدْ كَانَ خَلْقُ اللَّهِ الْعَوَالِمَ وَغَيْرَهَا مَعْلُومًا لَدَى الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّ الْإِقْبَالَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ يُذْهِلُهُمْ عَنْ تَذَكُّرِهِ كَانُوا غَيْرَ مُحْتَاجِينَ لِأَكْثَرَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِذَلِكَ وَبِالتَّنْبِيهِ إِلَى مَا قَدْ يَخْفَى مِنْ دَقَائِقِ التَّكْوِينِ كَقَوْلِهِ آنِفًا بِغَيْرِ عَمَدٍ [الرَّعْد: ٢]- وَقَوْلِهِ: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ [الرَّعْد: ٤] إِلَخْ صِيغَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْخَلْقِ فِي آيَةِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ [الرَّعْد: ٢] إِلَخْ بِطَرِيقَةِ الْمَوْصُولِ لِلْعِلْمِ بِثُبُوتِ مَضْمُونِ الصِّلَةِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ.
وَجِيءَ فِي تِلْكَ الصِّلَةِ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ فَقَالَ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا. فَأَمَّا هُنَا فَصِيغَ الْخَبَرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُفِيدِ لِلتَّجَدُّدِ وَالتَّكْرِيرِ لِإِفَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدُ التَّعَلُّقِ بِمُقْتَضَى أَحْوَالِ الْمَعْلُومَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَالْمُتَكَاثِرَةِ عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ فِي قَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ [الرَّعْد: ٢].
وَذُكِرَ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ مَا لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ يَوْمَئِذٍ وَلَا تُسْتَشَارُ فِيهِ آلِهَتُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ بِإِثْبَاتِ الْجُزْئِيِّ لِإِثْبَاتِ الْكُلِّيِّ، فَمَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى هِيَ أَجِنَّةُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَلِذَلِكَ جِيءَ بِفِعْلِ الْحَمْلِ دُونَ الْحَبَلِ لِاخْتِصَاصِ الْحَبَلِ بِحَمْلِ الْمَرْأَةِ.
وَمَا مَوْصُولَةٌ، وَعُمُومُهَا يَقْتَضِي عِلْمَ الله بِحَال الْحل الْمَوْجُودِ مِنْ ذُكُورَةٍ وَأُنُوثَةٍ، وَتَمَامٍ وَنَقْصٍ، وَحُسْنٍ وَقُبْحٍ، وَطُولٍ وَقِصَرٍ، وَلَوْنٍ.
وَتَغِيضُ: تَنْقُصُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْعُلُوقِ لِأَنَّ غَيْضَ الرَّحِمِ انْحِبَاسُ دَمِ الْحَيْضِ عَنْهَا، وَازْدِيَادُهَا: فَيَضَانُ الْحَيْضِ مِنْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْغَيْضُ مُسْتَعَارًا لِعَدَمِ التَّعَدُّدِ.
وَالِازْدِيَادُ: التَّعَدُّدُ أَيْ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْحَامِ مِنْ جَنِينٍ وَاحِدٍ أَوْ عِدَّةِ أَجِنَّةٍ وَذَلِكَ فِي الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ.
وَجُمْلَةُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى.
فَالْمُرَادُ بِالشَّيْءِ الشَّيْءُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ. وعِنْدَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
97
خَبَرًا عَنْ وَكُلُّ شَيْءٍ وبِمِقْدارٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ وَكُلُّ شَيْءٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون بِمِقْدارٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مِقْدَارٍ وَيَكُونُ بِمِقْدارٍ خَبَرًا عَنْ كُلُّ شَيْءٍ.
وَالْمِقْدَارُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِقَرِينَةِ الْبَاءِ، أَيْ بِتَقْدِيرٍ، وَمَعْنَاهُ: التَّحْدِيدُ وَالضَّبْطُ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا مُفَصَّلًا لَا شُيُوعَ فِيهِ وَلَا إِبْهَامَ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ الْقَائِلِينَ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ وَلَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ فِرَارًا مِنْ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْحَوَادِثِ. وَقَدْ أَبْطَلَ مَذْهَبَهُمْ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ بِمَا لَيْسَ فَوْقَهُ مَرَامٌ. وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ أَثْبَتَتْ عُمُومَ عِلْمِهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ وَقَعَ إِثْبَاتُ الْعُمُومِ بِطَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِعِلْمِهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ الْخَفِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ.
وَجُمْلَةُ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ تَذْيِيلٌ وَفَذْلَكَةٌ لِتَعْمِيمِ الْعِلْمِ بِالْخَفِيَّاتِ وَالظَّوَاهِرِ وَهُمَا قِسْمَا الْمَوْجُودَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْغَيْبِ فِي صَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤].
وَأَمَّا الشَّهادَةِ فَهِيَ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيِ الْأَشْيَاءُ الْمَشْهُودَةُ، وَهِيَ الظَّاهِرَةُ الْمَحْسُوسَةُ، الْمَرْئِيَّاتُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ تَعْمِيمُ الْمَوْجُودَاتِ كَقَوْلِهِ: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لَا تُبْصِرُونَ [الحاقة:
٣٨- ٣٩].
وَالْكَبِيرُ: مَجَازٌ فِي الْعَظَمَةِ، إِذْ قَدْ شَاعَ اسْتِعْمَالُ أَسْمَاءِ الْكَثْرَةِ وَأَلْفَاظِ الْكِبَرِ فِي الْعَظَمَةِ تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ. وَالْمُتَعَالِي:
الْمُتَرَفِّعُ. وَصِيغَتِ الصِّفَةُ بِصِيغَةِ التَّفَاعُلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعُلُوَّ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ، أَيِ الرَّفِيعُ رِفْعَةً وَاجِبَةً لَهُ عَقْلًا. وَالْمُرَادُ بِالرِّفْعَةِ هَنَا الْمَجَازُ عَنِ الْعِزَّةِ التَّامَّةِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ مَوْجُودٌ أَنْ يَغْلِبَهُ أَوْ يُكْرِهَهُ، أَوِ الْمُنَزَّهُ عَنِ النَّقَائِصِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النَّحْل: ٣].
وَحَذْفُ الْيَاءِ من الْمُتَعالِ لمرعاة الْفَوَاصِلِ السَّاكِنَةِ لِأَنَّ الْأَفْصَحَ فِي
98
الْمَنْقُوصِ غَيْرِ الْمُنَوَّنِ إِثْبَاتُ الْيَاءِ فِي الْوَقْفِ إِلَّا إِذَا وَقَعَتْ فِي الْقَافِيَةِ أَوْ فِي الْفَوَاصِلِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمُرَاعَاةِ مِنْ والٍ [الرَّعْد: ١١]، والْآصالِ [الرَّعْد: ١٥].
وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مَا يُخْتَارُ إِثْبَاتُهُ مِنَ الْيَاءَاتِ وَالْوَاوَاتِ يُحْذَفُ فِي الْفَوَاصِلِ وَالْقَوَافِي، وَالْإِثْبَاتُ أَقْيَسُ وَالْحَذْفُ عَرَبِيّ كثير.
[١٠]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١٠]
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ لِعُمُومِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَفِيَّاتِ وَالظَّوَاهِرِ. وَعَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ الْمُتَّبَعَةِ فِي الضَّمَائِرِ فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى الْخِطَابِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: سَواءٌ مِنْكُمْ لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ يَصْلُحُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ.
وَفِيهَا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُتَآمِرِينَ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وسَواءٌ اسْمٌ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ. وَإِنَّمَا يَقَعُ مَعْنَاهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا. وَاسْتُعْمِلَ سَوَاءٌ فِي الْكَلَامِ مُلَازِمًا حَالَةً وَاحِدَةً فَيُقَالُ: هُمَا سَوَاءٌ وَهُمْ سَوَاءٌ، قَالَ تَعَالَى: فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ. وَمَوْقِعُ سَوَاءٌ هُنَا مَوْقِعُ الْمُبْتَدَأِ. ومَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ فَاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَيَجُوزُ جَعْلُ سَواءٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا ومَنْ أَسَرَّ مُبْتَدَأً مُؤَخَّرًا ومِنْكُمْ حَالٌ مَنْ أَسَرَّ.
وَالِاسْتِخْفَاءُ: هُنَا الْخَفَاءُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ مِثْلَ اسْتَجَابَ.
وَالسَّارِبُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ سَرَبَ إِذَا ذَهَبَ فِي السَّرْبِ- بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ- وَهُوَ الطَّرِيقُ. وَهَذَا مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَقَّةِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ. وَذِكْرُ الِاسْتِخْفَاءِ مَعَ اللَّيْلِ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ خَفَاءً، وَذِكْرُ السُّرُوبِ مَعَ النَّهَارِ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ ظُهُورًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ سَوَاءٌ لَدَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْوَاوُ الَّتِي عَطَفَتْ أَسْمَاءَ الْمَوْصُولِ عَلَى الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ لِلتَّقْسِيمِ فَهِيَ بِمَعْنى أَو.
[١١]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١١]
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١)
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ جُمْلَةُ لَهُ مُعَقِّباتٌ إِلَى آخِرِهَا، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِ مِنْ الْمَوْصُولَةِ مِنْ قَوْلِهِ:
مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرَّعْد: ١٠].
عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ.
وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يَحْفَظُونَهُ، وَضَمِيرَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ جَاءَتْ مُفْرَدَةً لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا عَائِدٌ إِلَى أَحَدِ أَصْحَاب تِلْكَ الصلات حَيْثُ إِنَّ ذِكْرَهُمْ ذِكْرُ أَقْسَامٍ مِنَ الَّذِينَ جُعِلُوا سَوَاءً فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لِكُلِّ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ مُعَقِّبَاتٌ يَحْفَظُونَهُ مِنْ غَوَائِلِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَتَّصِلَ الْجُمْلَةُ بِ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرَّعْد: ١٠]، وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ لِمُرَاعَاةِ عَطْفِ صِلَةٍ عَلَى صِلَةٍ دُونَ إِعَادَةِ الْمَوْصُولِ. وَالْمَعْنَى كالوجه الأول.
و (المعقبات) جُمَعُ مُعَقِّبَةٍ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ مَكْسُورَةً- اسْمُ فَاعِلِ عَقَبَهُ إِذَا تَبِعَهُ. وَصِيغَةُ التَّفْعِيلِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْعَقِبِ. يُقَالُ: عَقَبَهُ إِذَا اتَّبَعَهُ وَاشْتِقَاقُهُ من الْعقب- يُقَال فَكَسْرٍ- وَهُوَ اسْمٌ لِمُؤَخَّرِ الرَّجُلِ فَهُوَ فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ لِأَنَّ الَّذِي يَتْبَعُ غَيْرَهُ كَأَنَّهُ يَطَأُ عَلَى عَقِبَهُ، وَالْمُرَادُ: مَلَائِكَةٌ مُعَقِّبَاتٌ. وَالْوَاحِدُ مُعَقِّبٌ.
وَإِنَّمَا جُمِعَ جَمْعَ مُؤَنَّثٍ بِتَأْوِيلِ الْجَمَاعَاتِ.
100
وَالْحِفْظُ: الْمُرَاقَبَةُ، وَمِنْهُ سُمِّي الرَّقِيبُ حَفِيظًا. وَالْمَعْنَى: يُرَاقِبُونَ كُلَّ أَحَدٍ فِي أَحْوَالِهِ مِنْ إِسْرَارٍ وَإِعْلَانٍ، وَسُكُونٍ وَحَرَكَةٍ، أَيْ فِي أَحْوَالِ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ [الانفطار: ١٠].
ومِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْإِحَاطَةِ مِنَ الْجِهَاتِ كُلِّهَا.
وَقَوْلُهُ: مِنْ أَمْرِ اللَّهِ صِفَةُ مُعَقِّباتٌ، أَيْ جَمَاعَاتٌ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: ٨٥] وَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] يَعْنِي الْقُرْآنَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحِفْظُ على الْوَجْه الثَّانِي مرَادا بِهِ الْوِقَايَةُ وَالصِّيَانَةُ، أَيْ يَحْفَظُونَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ، أَيْ يَقُونَهُ أَضْرَارَ اللَّيْلِ مِنَ اللُّصُوصِ وَذَوَاتِ السُّمُومِ، وَأَضْرَارَ النَّهَارِ نَحْوَ الزِّحَامِ وَالْقِتَالِ، فَيَكُونُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ جَارًّا وَمَجْرُورًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ يَحْفَظُونَهُ، أَيْ يَقُونَهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ. وَهَذَا مِنَّةٌ عَلَى الْعِبَادِ بِلُطْفِ اللَّهِ بِهِمْ وَإِلَّا لَكَانَ أَدْنَى شَيْءٍ يَضُرُّ بِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [سُورَة الشورى: ١٩].
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمَسُوقَةِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ بِمَصْنُوعَاتِهِ وَبَيْنَ التَّذْكِيرِ بِقُوَّةِ قُدْرَتِهِ وَبَيْنَ جُمْلَةِ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً
وَطَمَعاً
[سُورَة الرَّعْد: ١٢]. وَالْمَقْصُودُ تَحْذِيرُهُمْ مِنِ الْإِصْرَارِ عَلَى الشِّرْكِ بِتَحْذِيرِهِمْ مِنْ حُلُولِ الْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا فِي مُقَابَلَةِ اسْتِعْجَالِهِمْ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي نِعْمَةٍ مِنَ الْعَيْشِ فَبَطَرُوا النِّعْمَةَ وَقَابَلُوا دَعْوَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُزْءِ وَعَامَلُوا الْمُؤْمِنِينَ بالتّحقير وَقَالُوا لَو نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١]- وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: ١١].
101
فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَنَبَّهَهُمْ إِلَى أَنَّ زَوَالَهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ بَعْدَ مَا أَنْذَرَهُمْ وَدَعَاهُمْ.
وَالتَّغْيِيرُ: التَّبْدِيلُ بِالْمُغَايِرِ، فَلَا جرم أَنه تديد لِأُولِي النَّعْمَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ قَدْ تعرضوا لتغييرها. فَمَا صدق مَا الْمَوْصُولَةِ حَالَةٌ، وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ حَالَةٌ مُلَابِسَةٌ لِقَوْمٍ، أَيْ حَالَةُ نِعْمَةٍ لِأَنَّهَا مَحَلُّ التَّحْذِيرِ مِنَ التَّغْيِيرِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَتَغْيِيرُهُ مَطْلُوبٌ. وَأُطْلِقَ التَّغْيِيرُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يُغَيِّرُوا عَلَى التَّسَبُّبِ فِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ.
وَجُمْلَةُ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ تَأْكِيدًا لِلتَّحْذِيرِ. لِأَنَّ الْمَقَامَ لِكَوْنِهِ مَقَامَ خَوْفٍ وَوَجَلٍ يَقْتَضِي التَّصْرِيحَ دُونَ التَّعْرِيضِ وَلَا مَا يَقْرُبُ مِنْهُ، أَيْ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا بِقَوْمٍ حِينَ يُغَيِّرُونَ مَا بِأَنْفُسِهِمْ لَا يَرُدُّ إِرَادَتَهُ شَيْءٌ. وَذَلِكَ تَحْذِيرٌ مِنَ الْغُرُورِ أَنْ يَقُولُوا: سَنَسْتَرْسِلُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِذَا رَأَيْنَا الْعَذَابَ آمَنَّا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [سُورَة يُونُسَ: ٩٨] الْآيَةَ.
وَجُمْلَةُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ زِيَادَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الْغُرُورِ لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّ أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
وَالْوَالِي: الَّذِي يَلِي أَمْرَ أَحَدٍ، أَيْ يَشْتَغِلُ بِأَمْرِهِ اشْتِغَالَ تَدْبِيرٍ وَنَفْعٍ، مُشْتَقٌّ مِنْ وَلِيَ إِذَا قَرُبَ، وَهُوَ قُرْبُ مُلَابَسَةٍ وَمُعَالَجَةٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ والٍ بِتَنْوِينِ والٍ دُونَ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ- بِيَاءٍ بَعْدَ اللَّامِ- وَقْفًا فَقَطْ دُونَ الْوَصْلِ كَمَا عَلِمْتَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ فِي هَذِهِ السُّورَة الرَّعْد [٣٣].
102

[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١٢]

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢)
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١٣]
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَلَى أُسْلُوبِ تَعْدَادِ الْحُجَجِ الْوَاحِدَةُ تُلْوَى الْأُخْرَى، فَلِأَجْلِ أُسْلُوبِ التَّعْدَادِ إِذْ كَانَ كَالتَّكْرِيرِ لَمْ يُعْطَفْ عَلَى جُمْلَةِ سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ [الرَّعْد: ١٠].
وَقَدْ أَعْرَبَ هَذَا عَنْ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَجِيبِ صُنْعِهِ. وَفِيهِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لِلْإِنْذَارِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ [سُورَة الرَّعْد: ١١] إِلَخْ أَنَّهُ مِثَالٌ لِتَصَرُّفِ اللَّهِ بِالْإِنْعَامِ وَالِانْتِقَامِ فِي تَصَرُّفٍ وَاحِدٍ مَعَ تَذْكِيرِهِمْ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا. وَكُلُّ ذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِمَقَاصِدِ الْآيَاتِ الْمَاضِيَةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [سُورَة الرَّعْد: ٨] وَقَوْلِهِ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [سُورَة الرَّعْد: ٨]، فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَدِيرَةً بِالِاسْتِقْلَالِ وَأَنْ يُجَاءَ بِهَا مُسْتَأْنَفَةً لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً فِي عِدَادِ الْجُمَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي غَرَضِ السُّورَةِ.
وَجَاءَ هُنَا بِطَرِيقِ الْخِطَابِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ [سُورَة الرَّعْد: ١٠] لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالطَّمَعَ يَصْدُرَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُهَدَّدُ بِهِمَا الْكَفَرَةُ.
وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ الْمُفْتَتَحِ بِهِ فِي الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، فَجَاءَتْ عَلَى أُسْلُوبٍ مُخْتَلِفٍ. وَأَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ مُرَاعَاةٌ لِكَوْنِ هَاتِهِ الْجُمْلَةِ مُفَرَّعَةً عَنْ أَغْرَاضِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ فَإِنَّ جُمَلَ فَوَاتِحِ الْأَغْرَاضِ افْتُتِحَتْ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ [سُورَة الرَّعْد: ٢] وَقَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [سُورَة الرَّعْد: ٨] وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ [سُورَة الرَّعْد: ١١]، وَجُمَلُ التَّفَارِيعِ افْتُتِحَتْ بِالضَّمَائِرِ كَقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [سُورَة الرَّعْد: ٤] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [سُورَة الرَّعْد: ٣] وَقَوْلِهِ: جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ.
وخَوْفاً وَطَمَعاً مَصْدَرَانِ بِمَعْنَى التَّخْوِيفِ وَالْإِطْمَاعِ، فَهُمَا فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ لِظُهُورِ الْمُرَادِ.
103
وَجَعَلَ الْبَرْقَ آيَةً نِذَارَةً وَبِشَارَةً مَعًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْبَرْقَ فَيَتَوَسَّمُونَ الْغَيْثَ وَكَانُوا يَخْشَوْنَ صَوَاعِقَهُ.
وَإِنْشَاءُ السَّحَابِ: تَكْوِينُهُ مِنْ عَدَمٍ بِإِثَارَةِ الْأَبْخِرَةِ الَّتِي تَتَجَمَّعُ سَحَابًا.
وَالسَّحَابُ: اسْمُ جَمْعٍ لِسَحَابَةٍ. وَالثِّقَالُ: جَمْعُ ثَقِيلَةٍ. وَالثِّقْلُ كَوْنُ الْجِسْمِ أَكْثَرَ كَمِّيَّةِ
أَجْزَاءٍ مِنْ أَمْثَالِهِ، فَالثِّقْلُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْأَجْسَامِ، فَرُبَّ شَيْءٍ يُعَدُّ ثَقِيلًا فِي نَوْعِهِ وَهُوَ خَفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ لِنَوْعٍ آخَرَ. وَالسَّحَابُ يَكُونُ ثَقِيلًا بِمِقْدَارِ مَا فِي خِلَالِهِ مِنَ الْبُخَارِ. وَعَلَامَةُ ثِقَلِهِ قُرْبُهُ مِنَ الْأَرْضِ وَبُطْءُ تَنَقُّلِهِ بِالرِّيَاحِ. وَالْخَفِيفُ مِنْهُ يُسَمَّى جَهَامًا.
وَعَطَفَ الرَّعْدَ عَلَى ذِكْرِ الْبَرْقِ وَالسَّحَابِ لِأَنَّهُ مُقَارِنُهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
وَلَمَّا كَانَ الرَّعْدُ صَوْتًا عَظِيمًا جَعَلَ ذِكْرَهُ عِبْرَةً لِلسَّامِعِينَ لِدَلَالَةِ الرَّعْدِ بِلَوَازِمَ عَقْلِيَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَمَّا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنِ ادِّعَاءِ الشُّرَكَاءِ، وَكَانَ شَأْنُ تِلْكَ الدَّلَالَةِ أَنْ تَبْعَثَ النَّاظِرَ فِيهَا عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الشَّرِيكِ جَعَلَ صَوْتَ الرَّعْدِ دَلِيلًا عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِسْنَادُ التَّسْبِيحِ إِلَى الرَّعْدِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً بِأَنْ شُبِّهَ الرَّعْدُ بِآدَمِيٍّ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى، وَأُثْبِتَ شَيْءٌ مِنْ عَلَائِقِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ التَّسْبِيحُ، أَيْ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ.
وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِهِ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ يُنَزِّهُ اللَّهَ تَنْزِيهًا مُلَابِسًا لِحَمْدِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ دَالٌّ عَلَى اقْتِرَابِ نُزُولِ الْغَيْثِ وَهُوَ نِعْمَةٌ تَسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ. فَالْقَوْلُ فِي مُلَابَسَةِ الرَّعْدِ لِلْحَمْدِ مُسَاوٍ لِلْقَوْلِ فِي إِسْنَادِ التَّسْبِيحِ إِلَى الرَّعْدِ. فَالْمُلَابَسَةُ مَجَازِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ أَوِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ.
والْمَلائِكَةُ عَطْفٌ عَلَى الرَّعْدِ، أَيْ وَتُسَبِّحُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، أَيْ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ.
ومِنْ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْهُ، أَيِ الْخَوْفِ مِمَّا لَا يَرْضَى بِهِ وَهُوَ التَّقْصِيرُ فِي تَنْزِيهِهِ.
104
وَهَذَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ تَعْدَادِ الْمَوَاعِظِ لِمُنَاسَبَةِ التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ، أَيْ أَنَّ التَّنْزِيهَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْجَوِّ يَقُومُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، فَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ تَنْزِيهِكُمْ إِيَّاهُ، كَقَوْلِهِ: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [سُورَة الزمر: ٧]، وَقَوْلِهِ: وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٨].
وَاقْتُصِرَ فِي الْعِبْرَةِ بِالصَّوَاعِقِ عَلَى الْإِنْذَارِ بِهَا لِأَنَّهَا لَا نِعْمَةَ فِيهَا لِأَنَّ النِّعْمَةَ حَاصِلَةٌ بِالسَّحَابِ وَأَمَّا الرَّعْدُ فَآلَةٌ مِنْ آلَاتِ التَّخْوِيفِ وَالْإِنْذَارِ. كَمَا قَالَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٩]. وَكَانَ الْعَرَبُ يَخَافُونَ الصَّوَاعِقَ. وَلَقَّبُوا خُوَيْلِدَ بْنَ نُفَيْلٍ الصَّعِقَ لِأَنَّهُ أَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ أَحْرَقَتْهُ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ»
، أَيْ بِكُسُوفِهِمَا فَاقْتَصَرَ فِي آيَتِهِمَا عَلَى الْإِنْذَارِ إِذْ لَا يَتَرَقَّبُ النَّاسُ مِنْ كُسُوفِهِمَا نَفْعًا.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّهُ مِنْ مُتَمِّمَاتِ التَّعَجُّبِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرَّعْد: ٥] إِلَخْ. فَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ كُلُّهَا عَائِدَةٌ إِلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي صَدْرِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [الرَّعْد:
١] وَقَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ [الرَّعْد: ٥] وَقَوْلِهِ: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الرَّعْد: ٧]. وَقَدْ أُعِيدَ الْأُسْلُوبُ هُنَا إِلَى ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ لِانْقِضَاءِ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَصْلُحُ لِمَوْعِظَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَتَمَحَّضَ تَخْوِيفُ الْكَافِرِينَ.
وَالْمُجَادَلَةُ: الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُرَاجَعَةُ بِالْقَوْلِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٧].
وَقَدْ فُهِمَ أَنَّ مَفْعُولَ يُجادِلُونَ هُوَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ. فَالتَّقْدِيرُ: يُجَادِلُونَكَ أَوْ يُجَادِلُونَكُمْ، كَقَوْلِهِ: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ
105
وَالْمُجَادَلَةُ إِنَّمَا تكون فِي الشؤون وَالْأَحْوَالِ، فَتَعْلِيقُ اسْمِ الْجَلَالَةِ الْمَجْرُورِ بِفِعْلِ يُجادِلُونَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، أَيْ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ أَوْ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ.
وَمِنْ جَدَلِهِمْ مَا حَكَاهُ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. فِي سُورَةِ يس [٧٧، ٧٨].
وَالْمِحَالُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ يَحْتَمِلُ هُنَا مَعْنَيَيْنِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمِيمُ فِيهِ أَصْلِيَّةً فَهُوَ فِعَالٌ بِمَعْنَى الْكَيْدِ وَفِعْلُهُ مَحَلَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ تَمَحَّلَ إِذَا تَحَيَّلَ. جَعَلَ جِدَالَهُمْ فِي اللَّهِ جِدَالَ كَيْدٍ لِأَنَّهُمْ يُبْرِزُونَهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي نَحْوِ قَوْلهم: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فَقُوبِلَ بِ شَدِيدُ الْمِحالِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُشَاكَلَةِ، أَيْ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ لَا يَغْلِبُونَهُ، وَنَظِيرُهُ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [سُورَة آل عمرَان: ٥٤].
وَقَالَ نِفْطَوَيْهِ: هُوَ مِنْ مَاحَلَ عَنْ أَمْرِهِ، أَيْ جَادَلَ. وَالْمَعْنَى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمُجَادَلَةِ، أَيْ قَوِيُّ الْحُجَّةِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْمِيمُ زَائِدَةً فَهُوَ مِفْعَلٌ مِنَ الْحَوْلِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِبْدَالُ الْوَاوِ أَلِفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِلْقَلْبِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْوَاوِ سَاكِنٌ سُكُونًا حَيًّا. فَلَعَلَّهُمْ
قَلَبُوهَا أَلِفًا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِحْوَلٍ بِمَعْنَى صَبِيٍّ ذِي حَوْلٍ، أَيْ سَنَةٍ.
وَذَكَرَ الْوَاحِدِيُّ وَالطَّبَرِيُّ أَخْبَارًا عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ حِينَ وَرَدَا الْمَدِينَة يشترطان لدخلولهما فِي الْإِسْلَامِ شُرُوطًا لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُمَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَمَّ أَرْبَدُ بِقَتْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَفَهُ اللَّهُ، فَخَرَجَ هُوَ وَعَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَاصِدَيْنِ قَوْمَهُمَا وَتَوَاعَدَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَجْلِبَا عَلَيْهِ خَيْلَ بَنِي عَامِرٍ. فَأَهْلَكَ اللَّهُ أَرْبَدَ بِصَاعِقَةٍ أَصَابَتْهُ وَأَهْلَكَ عَامِرًا بِغُدَّةٍ نَبَتَتْ فِي جِسْمِهِ فَمَاتَ مِنْهَا وَهُوَ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولٍ فِي طَرِيقِهِ إِلَى أَرْضِ قَوْمِهِ، فَنَزَلَتْ فِي أَرْبَدَ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ وَفِي عَامِرٍ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ
106
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ صُحَارٍ الْعَبْدِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَبَّارٍ آخَرَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودِيٍّ جَادَلَ فِي اللَّهِ فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ.
وَلَمَّا كَانَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ إِنَّمَا جَاءَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَكَانَ جِدَالُ الْيَهُودِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَقْدَمَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ أَوْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْهَا مَدَنِيَّةٌ، وَهِيَ أَخْبَارٌ تَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ بِالرَّأْيِ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ. وَلَمْ يَثْبُتْ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فَلَا اعْتِدَادَ بِمَا قَالُوهُ فِيهَا وَلَا يُخْرِجُ السُّورَةَ عَنْ عِدَادِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَرْسَلَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَوْلَهُ: «أَغُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ» مَثَلًا. وَرَثَى لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخَاهُ أَرْبَدَ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا:
أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا أَرْهَبُ نَوْءَ السِّمَاكِ وَالْأَسَدِ (١)
فَجَّعَنِي الرَّعْدُ وَالصَّوَاعِقُ بِالْفَ ارِسِ يَوْمَ الكريهة النّجد
[١٤]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١٤]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بِمَنْزِلَةِ النَّتِيجَةِ وَنُهُوضِ الْمُدَلَّلِ عَلَيْهِ بِالْآيَاتِ السَّالِفَةِ الَّتِي هِيَ بَرَاهِينُ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الْخَلْقِ الثَّانِي، وَبِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا تُدَانِيهَا قُدْرَةُ قَدِيرٍ، وَبِالْعِلْمِ الْعَامِّ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ تِلْكَ الصِّفَاتِ هُوَ الْمَعْبُودَ بِالْحَقِّ وَأَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِهِ ضَلَالٌ.
وَالدَّعْوَةُ: طَلَبُ الْإِقْبَالِ، وَكَثُرَ إِطْلَاقُهَا عَلَى طَلَبِ الْإِقْبَالِ لِلنَّجْدَةِ أَوْ لِلْبَذْلِ. وَذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ فِيهَا إِذَا أُطْلِقَتْ فِي جَانِبِ اللَّهِ لِاسْتِحَالَةِ الْإِقْبَالِ الْحَقِيقِيِّ فَالْمُرَادُ طَلَبُ الْإِغَاثَةِ أَوِ النِّعْمَةِ.
_________
(١) السماك- بِكَسْر السِّين- اسْم لنجوم.
107
وَإِضَافَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ إِمَّا مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ إِنْ كَانَ الْحَقُّ بِمَعْنَى مُصَادَفَةِ الْوَاقِعِ، أَيِ الدَّعْوَةُ الَّتِي تُصَادِفُ الْوَاقِعَ، أَيِ اسْتِحْقَاقُهُ إِيَّاهَا وَإِمَّا مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى مَنْشَئِهِ كَقَوْلِهِمْ: بُرُودُ الْيَمَنِ، أَيِ الدَّعْوَةُ الصَّادِرَةُ عَنْ حَقٍّ وَهُوَ ضِدُّ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ دُعَاءَ اللَّهِ يَصْدُرُ عَنِ اعْتِقَادِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ تَصْدُرُ عَنِ اعْتِقَادِ الشِّرْكِ وَهُوَ الْبَاطِلُ.
وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ الِاسْتِحْقَاقُ. وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِإِفَادَةِ التَّخْصِيصِ، أَيْ دَعْوَةُ الْحَقِّ مِلْكُهُ لَا مِلْكُ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ.
وَقَدْ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ جُمْلَةِ الْقَصْرِ بِجُمْلَةِ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ [سُورَة الرَّعْد: ١٤]، فَكَانَتْ بَيَانًا لَهَا. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تُفْصَلَ وَلَا تُعْطَفَ وَإِنَّمَا عُطِفَتْ لِمَا فِيهَا من التَّفْصِيل وَالتَّمْثِيلِ، فَكَانَتْ زَائِدَةً عَلَى مِقْدَارِ الْبَيَانِ. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْأَصْنَامِ أَنْ يَدْعُوَهَا الدَّاعُونَ. وَاسْمُ الْمَوْصُولِ صَادِقٌ عَلَى الْأَصْنَامِ.
وَضَمِيرُ يَدْعُونَ لِلْمُشْرِكِينَ. وَرَابَطُ الصِّلَةِ ضَمِيرُ نَصْبٍ مَحْذُوفٌ. وَالتَّقْدِيرُ: وَالَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ.
وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَصْنَامِ ضَمِيرُ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْتَجِيبُونَ مجازاة لِلِاسْتِعْمَالِ الشَّائِعِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ يُعَامِلُونَ الْأَصْنَامَ مُعَامَلَةَ عَاقِلِينَ.
وَالِاسْتِجَابَةُ: إِجَابَةُ نِدَاءِ الْمُنَادِي وَدَعْوَةِ الدَّاعِي، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِقُوَّةِ الْفِعْلِ.
وَالْبَاءُ فِي بِشَيْءٍ لِتَعْدِيَةِ يَسْتَجِيبُونَ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِجَابَةِ يَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمُجَابِ بِهِ بِالْبَاءِ، وَإِذَا أُرِيدَ مِنَ الِاسْتِجَابَةِ تَحْقِيقُ الْمَأْمُولِ اقْتُصِرَ عَلَى الْفِعْلِ. كَقَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ [سُورَة يُوسُف: ٣٤].
فَلَمَّا أُرِيدَ هُنَا نَفِيُ إِجْدَاءِ دُعَائِهِمُ الْأَصْنَامَ جُعِلَ نَفْيُ الْإِجَابَةِ مُتَعَدِّيًا بِالْبَاءِ إِلَى انْتِفَاءِ أَقَلِّ مَا يُجِيبُ بِهِ الْمَسْئُولُ وَهُوَ الْوَعْدُ بِالْعَطَاءِ أَوِ الِاعْتِذَارُ عَنْهُ، فَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ أَعْجَزُ عَمَّا فَوْقَهُ.
108
وَتَنْكِيرُ «شَيْءٍ» لِلتَّحْقِيرِ. وَالْمُرَادُ أَقَلُّ مَا يُجَابُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ الدَّاعِينَ وَالْمُسْتَجِيبِينَ وَالدَّعْوَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ، لِأَنَّهُ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ فَهُوَ يَسْرِي إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ الْكَلَامَ إِلَّا كَدَاعٍ بَاسِطٍ أَوْ إِلَّا كَحَالِ بَاسِطٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْتَجِيبُونَهُمْ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِجَابَةِ إِلَّا فِي حَالٍ لِدَاعٍ وَمُسْتَجِيبٍ كَحَالِ بَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ فَيَؤُولُ إِلَى نَفْيِ الِاسْتِجَابَةِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ بِطَرِيقِ التَّمْلِيحِ وَالْكِنَايَةِ.
وَالْمُرَادُ بِ (بَاسِطِ كَفَّيْهِ) مَنْ يَغْتَرِفُ مَاءً بِكَفَّيْنِ مَبْسُوطَتَيْنِ غَيْرِ مَقْبُوضَتَيْنِ إِذِ الْمَاءُ لَا يَسْتَقِرُّ فِيهِمَا. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: هُوَ كَالْقَابِضِ عَلَى الْمَاءِ، فِي تَمْثِيلِ إِضَاعَةِ الْمَطْلُوبِ.
وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
فَأَصْبَحْتُ فِيمَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا مِنَ الْوُدِّ مِثْلَ الْقَابِضِ الْمَاءَ بِالْيَدِ
وإِلَى للانتهاء لدلَالَة كَباسِطِ عَلَى أَنَّهُ مَدَّ إِلَى المَاء كفيه مبسوطتين.
وَاللَّامُ فِي لِيَبْلُغَ لِلْعِلَّةِ. وَضمير لِيَبْلُغَ عَائِدٌ إِلَى الْمَاءِ. وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ هُوَ وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ فِي (بَالِغِهِ) لِلْفَمِ.
وَالْكَلَامُ تَمْثِيلِيَّةٌ. شُبِّهَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي دُعَائِهِمُ الْأَصْنَامَ وَجَلْبِ نَفْعِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِجَابَةِ الْأَصْنَامِ لَهُمْ بِشَيْءٍ بِحَالِ الظَّمْآنِ يَبْسُطُ كَفَّيْهِ يَبْتَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ الْمَاءُ فِي كَفَّيْهِ الْمَبْسُوطَتَيْنِ إِلَى فَمِهِ لِيَرْوِيَهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغٍ إِلَى فَمِهِ بِذَلِكَ الطَّلَبِ فَيَذْهَبُ سَعْيُهُ وَتَعَبُهُ بَاطِلًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ كِنَايَةٍ وَتَمْلِيحٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَجُمْلَةُ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لِاسْتِيعَابِ حَالِ الْمَدْعُوِّ وَحَالِ الدَّاعِي. فَبَيَّنَتِ الْجُمْلَةُ السَّابِقَةُ حَالَ عَجْزِ الْمَدْعُوِّ عَنِ الْإِجَابَةِ وَأُعْقِبَتْ بِالتَّمْثِيلِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى كِنَايَةٍ وَتَمْلِيحٍ. وَاشْتَمَلَ ذَلِكَ أَيْضًا بِالْكِنَايَةِ عَلَى خَيْبَةِ الدَّاعِي.
109
وَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ حَالَ خَيْبَةِ الدَّاعِي بِالتَّصْرِيحِ عَقِبَ تَبْيِينِهِ بِالْكِنَايَةِ. فَبِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ وَالْأُسْلُوبِ حسن الْعَطف، وبالمئال حَصَلَ تَوْكِيدُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَتَقْرِيرُهَا وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ كَالْفَذْلَكَةِ لِتَفْصِيلِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى.
وَالضَّلَالُ: التَّلَفُ وَالضَّيَاعُ. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّمَكُّنِ فِي الْوَصْفِ، أَيْ إِلَّا ضَائِعٌ ضيَاعًا شَدِيدا.
[١٥]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١٥]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [سُورَة الرَّعْد: ١٤] أَيْ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَلَهُ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَذَلِكَ شِعَارُ الْإِلَهِيَّةِ، فَأَمَّا الدَّعْوَةُ فَقَدِ اخْتَصَّ بِالْحَقَّةِ مِنْهَا دُونَ الْبَاطِلَةِ، وَأَمَّا السُّجُودُ وَهُوَ الْهَوِيُّ إِلَى الْأَرْضِ بِقَصْدِ الْخُضُوعِ فَقَدِ اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ الْعُلْيَا وَالْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ يَسْجُدُونَ لَهُ، وَالْمُشْرِكِينَ لَا يَسْجُدُونَ لِلْأَصْنَامِ وَلَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَعَلَّهُمْ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.
وَعُدِلَ عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ إِلَى اسْمِهِ تَعَالَى الْعَلَمِ تَبَعًا لِلْأُسْلُوبِ السَّابِقِ فِي افْتِتَاحِ الْأَغْرَاضِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَالْعُمُومُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ مَنْ الْمَوْصُولَةِ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ الْكَاثِرَةُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ طَوْعاً وَكَرْهاً تَقْسِيمُ أَحْوَالِ السَّاجِدِينَ. وَالْمُرَادُ بِالطَّوْعِ الِانْسِيَاقُ مِنَ النَّفْسِ تَقَرُّبًا وَزُلْفَى لِمَحْضِ التَّعْظِيمِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ. وَبِالْكُرْهِ الِاضْطِرَارُ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْحَاجَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٣]. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مُكْرَهٌ أَخُوكَ لَا بَطَلٌ، أَيْ مُضْطَرٌّ إِلَى الْمُقَاتَلَةِ
110
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْكُرْهِ الضَّغْطَ وَالْإِلْجَاءَ كَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُهُمْ فَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ الْغَرَضِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَالظِّلَالُ: جَمْعُ ظِلٍّ، وَهُوَ صُورَةُ الْجِسْمِ الْمُنْعَكِسِ إِلَيْهِ نُورٌ.
وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَخْصُوصٌ بِالصَّالِحِ لَهُ مِنَ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ ذَاتِ الظِّلِّ تَخْصِيصًا بِالْعَقْلِ وَالْعَادَةِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَنْ، أَيْ يَسْجُدُ من فِي السَّمَوَات وَتَسْجُدُ ظِلَالُهُمْ.
وَالْغُدُوُّ: الزَّمَانُ الَّذِي يَغْدُو فِيهِ النَّاسُ، أَيْ يَخْرُجُونَ إِلَى حَوَائِجِهِمْ: إِمَّا مَصْدَرًا عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ وَقْتُ الْغُدُوِّ وَإِمَّا جَمْعُ غَدْوَةٍ، فَقَدْ حُكِيَ جَمْعُهَا عَلَى غُدُوٍّ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَالْآصَالُ: جَمْعُ أَصِيلٍ، وَهُوَ وَقْتُ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ فِي آخِرِ الْمَسَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِمَا اسْتِيعَابُ أَجْزَاءِ أَزْمِنَةِ الظِّلِّ.
وَمَعْنَى سُجُودِ الظِّلَالِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا مِنْ أَعْرَاضِ الْأَجْسَامِ الْأَرْضِيَّةِ، فَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِنِظَامِ انْعِكَاسِ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا وَانْتِهَاءِ الْأَشِعَّةِ إِلَى صَلَابَةِ وَجْهِ الْأَرْضِ حَتَّى تَكُونَ
الظِّلَالُ وَاقِعَةً عَلَى الْأَرْضِ وُقُوعَ السَّاجِدِ، فَإِذَا كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَأْبَى السُّجُودَ لِلَّهِ أَوْ يَتْرُكُهُ اشْتِغَالًا عَنْهُ بِالسُّجُودِ لِلْأَصْنَامِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ مِثَالَهُ شَاهِدًا عَلَى اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ السُّجُودَ إِلَيْهِ شَهَادَةً رَمْزِيَّةً. وَلَوْ جَعَلَ اللَّهُ الشَّمْسَ شَمْسَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ لَانْعَدَمَتِ الظِّلَالُ، وَلَوْ جَعَلَ وَجْهَ الْأَرْضِ شَفَّافًا أَوْ لَامِعًا كَالْمَاءِ لَمْ يظْهر الظل عَلَيْهِ بَيِّنًا. فَهَذَا مِنْ رُمُوزِ الصَّنْعَةِ الَّتِي أَوْجَدَهَا اللَّهُ وَأَدَقَّهَا دِقَّةً بَدِيعَةً. وَجَعَلَ نِظَامَ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ مُهَيَّئَةً لَهَا فِي الْخِلْقَةِ لِحِكَمٍ مُجْتَمِعَةٍ، مِنْهَا: أَنْ تَكُونَ رُمُوزًا دَالَّةً عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى حَاجَةِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ أَكْثَرَهَا فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ نَوْعَهُ مُخْتَصٌّ بِالْكُفْرَانِ دُونَ الْحَيَوَانِ.
111
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ الرَّمْزِيِّ التَّنْبِيهُ لِدَقَائِقِ الصُّنْعِ الْإِلَهِيِّ كَيْفَ جَاءَ عَلَى نِظَامٍ مُطَّرِدٍ دَالٍّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا قِيلَ:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ
وَالِاسْتِدْلَالُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَسْجُدُ لِلَّهِ لِأَنَّ ظِلَالَهَا وَاقِعَةٌ عَلَى الْأَرْضِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هِيَ مَسَاجِدُ لِلْأَصْنَامِ وَأَنَّ الْأَصْنَامَ لَهَا أَمْكِنَةٌ مُعَيَّنَةٌ هِيَ حِمَاهَا وَحَرِيمُهَا وَأَكْثَرُ الْأَصْنَامِ، فِي الْبُيُوتِ مِثْلُ: الْعُزَّى وَذِي الْخَلَصَةِ وَذِي الْكَعْبَاتِ حَيْثُ تَنْعَدِمُ الظِّلَالُ فِي الْبُيُوتِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مَوْضِعُ سُجُودٍ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَمِنْ حِكْمَةِ السُّجُودِ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا أَنْ يَضَعَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ فِي عِدَادِ مَا يَسْجُدُ لِلَّهِ طَوْعًا بِإِيقَاعِهِ السُّجُودَ. وَهَذَا اعْتِرَافٌ فِعْلِيٌّ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى.
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١٦]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)
لَمَّا نَهَضَتِ الْأَدِلَّةُ الصَّرِيحَةُ بِمَظَاهِرِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [سُورَة الرَّعْد: ٢] وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [سُورَة الرَّعْد: ٣] وَقَوْلِهِ: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [سُورَة الرَّعْد: ٨] وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ [سُورَة الرَّعْد: ١٢] الْآيَاتِ، وَبِمَا فِيهَا مِنْ دَلَالَةٍ رَمْزِيَّةٍ دَقِيقَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [سُورَة الرَّعْد: ١٤] وَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ [سُورَة الرَّعْد: ١٥] إِلَى آخِرِهَا لَا جَرَمَ تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِتَقْرِيرِ الْمُشْرِكِينَ تَقْرِيرًا لَا يَجِدُونَ مَعَهُ عَنِ الْإِقْرَارِ مَنْدُوحَةً، ثُمَّ لِتَقْرِيعِهِمْ عَلَى الْإِشْرَاكِ تَقْرِيعًا لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا تَجَرُّعُ مَرَارَتِهِ، لِذَلِكَ اسْتُؤْنِفَ الْكَلَامُ وَافْتُتِحَ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ تَنْوِيهًا بِوُضُوحِ الْحُجَّةِ.
112
وَلِكَوْنِ الِاسْتِفْهَامِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ جَاءَ جَوَابُهُ مِنْ قِبَلِ الْمُسْتَفْهِمِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ أَسَالِيبِهِ، كَقَوْلِهِ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [سُورَة النَّبَأِ: ١- ٢].
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢].
وَإِعَادَةُ فِعْلِ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ فِي قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ الَّذِي هُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ التَّفْرِيعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ.
فَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ وَتَسْفِيهٌ لِرَأْيِهِمْ بِنَاءً عَلَى الْإِقْرَارِ الْمُسَلَّمِ. وَفِيهِ اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ أَهْلِيَّة أصنامهم للإهلية فَإِنَّ اتِّخَاذَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ مَعْلُومٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ عَنْهُ.
وَجُمْلَةُ لَا يَمْلِكُونَ صِفَةٌ لِ أَوْلِياءَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَنْبِيهُ السَّامِعِينَ لِلنَّظَرِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ فَإِنَّهُمْ إِنْ تَدَبَّرُوا عَلِمُوهَا وَعَلِمُوا أَنَّ مَنْ كَانَتْ تِلْكَ صِفَتَهُ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِأَنْ يُعْبَدَ.
وَمَعْنَى الْمُلْكِ هُنَا الْقُدْرَةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٧٦].
وَفِي الحَدِيث: «أَو أملك لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ»
. وَعَطْفُ الضُّرِّ عَلَى النَّفْعِ اسْتِقْصَاءٌ فِي عَجْزِهِمْ لِأَنَّ شَأْنَ الضُّرِّ أَنَّهُ أَقْرَبُ لِلِاسْتِطَاعَةِ وَأَسْهَلُ.
113
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ إِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ لِلِاهْتِمَامِ الْخَاصِّ بِهَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ إِبْطَالٌ لِاسْتِحْقَاقِ آلِهَتِهِمُ الْعِبَادَةَ. وَهَذَا إِظْهَارٌ لِمَزِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ، ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ تَضَمَّنَ أَن الرَّسُول- عَلَيْهِ السّلام- دَعَا إِلَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ أَثْبَتُوا الرُّبُوبِيَّةَ لِلْأَصْنَامِ فَكَانَ حَالُهُمْ وَحَالُهُ كَحَالِ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ وَحَالِ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ.
وَنَفْيُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهًا بِالْحَالَيْنِ وَهَذَا مِنْ صِيَغِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ.
وأَمْ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ فِي التَّشْبِيهِ. فَهِيَ لِتَشْبِيهٍ آخَرَ بِمَنْزِلَةِ أَوْ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
أَوْ رَجْعُ وَاشِمَةٍ أُسِفَّ نُؤُورُهَا وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ.
وَأَظْهَرَ حَرْفَ هَلْ بَعْدَ أَمْ لِأَنَّ فِيهِ إِفَادَةَ تَحْقِيقِ الِاسْتِفْهَامِ. وَذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا تُغْنِي فِيهِ دَلَالَةُ أَمْ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِفْهَامِ وَلِذَلِكَ لَا تَظْهَرُ الْهَمْزَةُ بَعْدَ أَمْ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ أَمْ عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِفْهَامٍ.
وَجَمْعُ الظُّلُمَاتِ وَإِفْرَادُ النُّورِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١].
وَاخْتِيرَ التَّشْبِيهُ فِي الْمُتَقَابِلَاتِ الْعَمَى وَالْبَصَرِ، وَالظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، لِتَمَامِ الْمُنَاسَبَةِ لِأَنَّ حَالَ الْمُشْرِكِينَ أَصْحَابِ الْعَمَى كَحَالِ الظُّلْمَةِ فِي انْعِدَامِ إِدْرَاكِ
114
الْمُبْصَرَاتِ، وَحَالُ الْمُؤْمِنِينَ كَحَالِ الْبَصَرِ فِي الْعِلْمِ وَكَحَالِ النُّورِ فِي الْإِفَاضَةِ وَالْإِرْشَادِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ بِفَوْقِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مُرَاعَاةً لِتَأْنِيثِ الظُّلُمَاتِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ وَذَلِكَ وَجْهٌ فِي الْجَمْعِ غَيْرِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ.
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أَمْ للإضراب الِانْتِقَال فِي الِاسْتِفْهَام مُقَابل قَوْلِهِ: أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا، فَالْكَلَامُ بَعْدَ (أَمْ) اسْتِفْهَامٌ حُذِفَتْ أَدَاتُهُ لِدَلَالَةِ (أَمْ) عَلَيْهَا. وَالتَّقْدِيرُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ. وَالْتَفَتَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ لِمَا مَضَى مِنْ ذِكْرِ ضَلَالِهِمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ وَالتَّغْلِيطِ. فَالْمَعْنَى: لَوْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ يَخْلُقُونَ كَمَا يَخْلُقُ اللَّهُ لَكَانَتْ لَهُمْ شُبْهَةٌ فِي الِاغْتِرَارِ وَاتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً، أَيْ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ، فَجُمْلَةُ خَلَقُوا صِفَةٌ لِ شُرَكاءَ.
وَشِبْهُ جُمْلَةِ كَخَلْقِهِ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، أَيْ خَلَقُوا خَلْقًا مِثْلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ.
وَالْخَلْقُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرٌ.
وَجُمْلَةُ فَتَشابَهَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَهِيَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ شُرَكاءَ،
وَالرَّابِطُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْخَلْقُ لِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنِ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَتَشَابَهَ خَلْقُهُمْ عَلَيْهِمْ. وَالْوَصْفَانِ هُمَا مصب التهكم والتغليط.
وَجُمْلَةُ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَنَتِيجَةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ الِاسْتِفْهَامُ التَّوْبِيخِيُّ فِي أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ [سُورَة الرَّعْد: ١٦] وَفِي أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ كَانَ
115
بِحَيْثُ يَنْتُجُ أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ وَالَّذِينَ تَبَيَّنَ قُصُورُهُمْ عَنْ أَنْ يَمْلِكُوا لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا أَوْ ضَرًّا، وَأَنَّهُمْ لَا يَخْلُقُونَ كَخَلْقِ اللَّهِ إِنْ هُمْ إِلَّا مَخْلُوقَاتٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَا أُولَئِكَ الْأَصْنَامُ إِلَّا أَشْيَاءُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَوَحِّدُ بِالْخَلْقِ، الْقَهَّارُ لِكُلِّ شَيْءٍ دُونَهُ. وَلِتَعَيُّنِ مَوْضُوعِ الْوَحْدَةِ وَمُتَعَلَّقِ الْقَهْرِ حُذِفَ مُتَعَلَّقُهُمَا. وَالتَّقْدِيرُ: الْوَاحِدُ بِالْخَلْقِ الْقَهَّارُ لِلْمَوْجُودَاتِ.
والقهر: الْغَلَبَة، وَتقدم عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ فِي سُورَة الْأَنْعَام [١٨].
[١٧]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١٧]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧)
جُمْلَةُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ أَفَادَ تَسْجِيلَ حِرْمَانِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِدَلَائِلِ الِاهْتِدَاءِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَهْدِيَ مَنْ لَمْ يَطْبَعِ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ فَاهْتَدَى بِهَا الْمُؤْمِنُونَ.
وَجِيءَ فِي هَذَا التَّسْجِيلِ بِطَرِيقَةِ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِحَالَيْ فَرِيقَيْنِ فِي تَلَقِّي شَيْءٍ وَاحِدٍ انْتَفَعَ فَرِيقٌ بِمَا فِيهِ مِنْ مَنَافِعَ وَتَعَلَّقَ فَرِيقٌ بِمَا فِيهِ مِنْ مَضَارَّ. وَجِيءَ فِي ذَلِكَ التَّمْثِيلِ بِحَالَةٍ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى بَدِيعِ تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَحْصُلَ التَّخَلُّصُ مِنْ ذِكْرِ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ إِلَى ذِكْرِ عِبَرِ الْمَوْعِظَةِ، فَالْمُرَكَّبُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْبِيهِ التَّمْثِيلِيِّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ إِلَخْ.
116
شُبِّهَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ الَّذِي بِهِ الْهُدَى مِنَ السَّمَاءِ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ الَّذِي بِهِ النَّفْعُ وَالْحَيَاةُ مِنَ السَّمَاءِ. وَشُبِّهَ وُرُودُ الْقُرْآنِ عَلَى أَسْمَاعِ النَّاسِ بِالسَّيْلِ يَمُرُّ عَلَى مُخْتَلَفِ الْجِهَاتِ فَهُوَ يَمُرُّ عَلَى التِّلَالِ وَالْجِبَالِ فَلَا يَسْتَقِرُّ فِيهَا وَلَكِنَّهُ يَمْضِي إِلَى الْأَوْدِيَةِ وَالْوِهَادِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ كُلٌّ بِقَدْرِ سَعَتِهِ. وَتِلْكَ السُّيُولُ فِي حَالِ نُزُولِهَا تَحْمِلُ فِي أَعَالِيهَا زَبَدًا، وَهُوَ رَغْوَةُ الْمَاءِ الَّتِي تَرْبُو
وَتَطْفُو عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ، فَيَذْهَبُ الزَّبَدُ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ وَيَبْقَى الْمَاءُ الْخَالِصُ الصَّافِي يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ لِلشَّرَابِ وَالسَّقْيِ.
ثُمَّ شُبِّهَتْ هَيْئَةُ نُزُولِ الْآيَاتِ وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنْ إِيقَاظِ النَّظَرِ فِيهَا فَيَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ دَخَلَ الْإِيمَانُ قُلُوبَهُمْ عَلَى مَقَادِيرِ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَيَمُرُّ عَلَى قُلُوبِ قَوْمٍ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ وَهُمُ الْمُنْكِرُونَ الْمُعْرِضُونَ، وَيُخَالِطُ قُلُوبَ قَوْمٍ فَيَتَأَمَّلُونَهُ فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ مَا يُثِيرُ لَهُمْ شُبُهَاتٍ وَإِلْحَادًا. كَقَوْلِهِمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمِنْهُ الْأَخْذُ بِالْمُتَشَابِهِ قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [سُورَة آل عمرَان: ٧].
شُبِّهَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِهَيْئَةِ نُزُولِ الْمَاءِ فَانْحِدَارُهُ عَلَى الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ وَسَيَلَانُهُ فِي الْأَوْدِيَةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَقَادِيرِهَا، ثُمَّ مَا يَدْفَعُ مِنْ نَفْسِهِ زَبَدًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَلْبَثِ الزَّبَدُ أَنْ ذَهَبَ وَفَنِيَ وَالْمَاءُ بَقِيَ فِي الْأَرْضِ لِلنَّفْعِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ التَّشْبِيهَ بِالْهَيْئَةِ كُلِّهَا جِيءَ فِي حِكَايَةِ مَا تَرَتَّبَ عَلَى إِنْزَالِ الْمَاءِ بِالْعَطْفِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَسالَتْ وَقَوْلِهِ: فَاحْتَمَلَ فَهَذَا تَمْثِيلٌ صَالِحٌ لِتَجْزِئَةِ التَّشْبِيهَاتِ الَّتِي تَرَكَّبَ مِنْهَا وَهُوَ أَبْلَغُ التَّمْثِيلِ.
وَعَلَى نَحْوِ هَذَا التَّمْثِيلِ وَتَفْسِيرِهِ جَاءَ مَا يُبَيِّنُهُ مِنَ التَّمْثِيلِ الَّذِي
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادَبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقُوا
117
وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاء وَلَا نتنبت كَلَأً، مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»
. وَالْأَوْدِيَةُ: جَمْعُ الْوَادِي، وَهُوَ الْحَفِيرُ الْمُتَّسِعُ الْمُمْتَدُّ مِنَ الْأَرْضِ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ السَّيْلُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ [سُورَة التَّوْبَة: ١٢١].
وَالْقدر- بِفتْحَتَيْنِ-: التَّقْدِير، فَقَوْلُهُ: بِقَدَرِها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ أَوْدِيَةٌ، وَذَكَرَهُ لِأَنَّهُ مِنْ مَوَاضِعِ الْعِبْرَةِ، وَهُوَ أَنْ كَانَتْ أَخَادِيدُ الْأَوْدِيَةِ عَلَى قَدْرِ مَا تَحْتَمِلُهُ مِنَ السُّيُولِ بِحَيْثُ لَا تَفِيضُ عَلَيْهَا وَهُوَ غَالِبُ أَحْوَالِ الْأَوْدِيَةِ. وَهَذَا الْحَالُ مَقْصُودٌ فِي التَّمْثِيلِ
لِأَنَّهُ حَالُ انْصِرَافِ الْمَاءِ لِنَفْعٍ لَا ضُرَّ مَعَهُ، لِأَنَّ مِنَ السُّيُولِ جَوَاحِفَ تَجْرُفُ الزَّرْعَ وَالْبُيُوتَ وَالْأَنْعَامَ.
وَأَيْضًا هُوَ دَالٌّ عَلَى تَفَاوُتِ الْأَوْدِيَةِ فِي مَقَادِيرِ الْمِيَاهِ. وَلِذَلِكَ حَظٌّ مِنَ التَّشْبِيهِ وَهُوَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي قَابِلِيَّةِ الِانْتِفَاعِ بِمَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَاخْتِلَافِ الْأَوْدِيَةِ فِي قَبُولِ الْمَاءِ عَلَى حَسَبِ مَا يَسِيلُ إِلَيْهَا مِنْ مَصَابِّ السُّيُولِ، وَقَدْ تَمَّ التَّمْثِيلُ هُنَا.
وَجُمْلَةُ وَمِمَّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فَاحْتَمَلَ إِلَخْ وَجُمْلَةِ فَأَمَّا الزَّبَدُ إِلَخَّ.
وَهَذَا تَمْثِيلٌ آخَرُ وَرَدَ اسْتِطْرَادًا عَقِبَ ذِكْرِ نَظِيرِهِ يُفِيدُ تَقْرِيبَ التَّمْثِيلِ لِقَوْمٍ لَمْ يُشَاهِدُوا سُيُولَ الْأَوْدِيَةِ مِنْ سُكَّانِ الْقُرَى مِثْلَ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُمُ الْمَقْصُودُ، فَقَدْ كَانَ لَهُمْ فِي مَكَّةَ صَوَّاغُونَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْإِذْخِرِ، فَقَرَّبَ إِلَيْهِمْ تَمْثِيلَ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِمَا انْتَفَعَ بِهِ غَيْرُهُمْ بِمَثَلِ مَا يُصْهَرُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْبَوَاتِقِ فَإِنَّهُ يَقْذِفُ زَبَدًا يَنْتَفِي عَنْهُ وَهُوَ الْخَبَثُ وَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِشَيْءٍ فِي حِينِ صَلَاحِ مَعْدِنِهِ لِاتِّخَاذِهِ حِلْيَةً أَوْ مَتَاعًا.
وَفِي الْحَدِيثِ «كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ
118
خَبَثَ الْحَدِيدِ»
. فَالْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ تَعَدُّدِ التَّشْبِيهِ الْقَرِيبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ثُمَّ قَوْلِهِ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٩].
وَأَقْرَبُ إِلَى مَا هُنَا قَوْلُ لَبِيدٍ:
فَتَنَازَعَا سَبِطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يَشِبُّ ضِرَامُهَا
مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتِ عَرْفَجِ كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا
وَأَفَادَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: زَبَدٌ مِثْلُهُ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمَسْنَدِ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اعْتِبَارٍ أَيْضًا بِبَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَ الزَّبَدَ يَطْفُو عَلَى أَرَقِّ الْأَجْسَامِ وَهُوَ الْمَاءُ وَعَلَى أَغْلَظِهَا وَهُوَ الْمَعْدِنُ فَهُوَ نَامُوسٌ مِنْ نَوَامِيسِ الْخِلْقَةِ، فَبِالتَّقْدِيمِ يَقَعُ تَشْوِيقُ السَّامِعِ إِلَى تَرَقُّبِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ.
وَهَذَا الِاهْتِمَامُ بِالتَّشْبِيهِ يُشْبِهُ الِاهْتِمَامَ بِالِاسْتِفْهَامِ
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَصْفِ جَهَنَّمَ «فَإِذَا فِيهَا كَلَالِيبُ مِثْلُ حَسَكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ حَسَكَ السَّعْدَانِ»
. وَعَدَلَ عَنْ تَسْمِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ
فِي النَّارِ لِأَنَّهَا أَخْصَرُ وَأَجْمَعُ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ فِي ذِكْرِ الْجُمْلَةِ الْمَجْعُولَةِ صِلَةً، فَلَوْ ذُكِرَتْ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ صِلَةٍ كَالْوَصْفِيَّةِ مَثَلًا لَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْفَضْلَةِ فِي الْكَلَامِ وَلَطَالَ الْكَلَامُ بِذِكْرِ اسْمِ الْمَعْدِنَيْنِ مَعَ ذِكْرِ الصِّلَةِ إِذْ لَا مَحِيدَ عَنْ ذِكْرِ الْوَقُودِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الزَّبَدِ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ قَضَاءً لِحَقِّ ذِكْرِ الْجُمْلَةِ مَعَ الِاخْتِصَارِ الْبَدِيعِ.
وَلِأَنَّ فِي الْعُدُولِ عَنْ ذِكْرِ اسْمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِعْرَاضًا يُؤْذِنُ بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمَا تَرَفُّعًا عَنْ وَلَعِ النَّاسِ بِهِمَا فَإِنَّ اسْمَيْهِمَا قَدِ اقْتَرَنَا بِالتَّعْظِيمِ فِي عُرْفِ النَّاسِ.
وَمن فِي قَوْلِهِ: وَمِمَّا تُوقِدُونَ ابْتِدَائِيَّةٌ.
119
وَ (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ) مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ مُتَعَلِّقٌ بِ تُوقِدُونَ. ذُكِرَ لِإِيضَاحِ الْمُرَادِ مِنَ الصِّلَةِ وَلِإِدْمَاجِ مَا فِيهِ مِنْ مِنَّةِ تَسْخِيرِ ذَلِكَ لِلنَّاسِ. لِشِدَّةِ رَغْبَتِهِمْ فِيهِمَا.
وَالْحِلْيَةُ: مَا يُتَحَلَّى بِهِ، أَيْ يُتَزَيَّنُ وَهُوَ الْمَصُوغُ.
وَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ وَيُنْتَفَعُ، وَذَلِكَ الْمَسْكُوكُ الَّذِي يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُوقِدُونَ- بِفَوْقِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ- عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ- بِتَحْتِيَّةٍ- عَلَى الْغَيْبَةِ.
وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ مُعْتَرِضَةٌ، هِيَ فَذْلَكَةُ التَّمْثِيلِ بِبَيَانِ الْغَرَضِ مِنْهُ، أَيْ مِثْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ ضَرْبُ مَثَلٍ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. فَمَعْنَى يَضْرِبُ يُبَيِّنُ وَيُمَثِّلُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنًى يَضْرِبُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
فَحُذِفَ مُضَافٌ فِي قَوْلِهِ: يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ، وَالتَّقْدِيرُ: يَضْرِبُ اللَّهُ مَثَلَ الْحق وَالْبَاطِل، دلَالَة فِعْلِ يَضْرِبُ عَلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمُضَافِ.
وَحَذْفُ الْجَارِّ مِنَ الْحَقَّ لِتَنْزِيلِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَنْزِلَةَ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الزَّبَدَ مَثَلٌ لِلْبَاطِلِ وَأَنَّ الْمَاءَ مَثَلٌ لِلْحَقِّ، فَارْتَقَى عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى مَا فِي الْمَثَلَيْنِ مِنْ صِفَتَيِ الْبَقَاءِ وَالزَّوَالِ لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ لِأَهْلِ الْحَقِّ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ بِأَنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ هُوَ الْبَاقِي الدَّائِمُ، وَأَنَّ الْفَرِيقَ الثَّانِيَ زَائِلٌ بَائِدٌ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ
عابِدِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٥، ١٠٦]، فَصَارَ التَّشْبِيهُ تَعْرِيضًا وَكِنَايَةً عَنِ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَ ذَلِكَ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ [الرَّعْد:
١٨] إِلَخْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
فَجُمْلَةُ فَأَمَّا الزَّبَدُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً مُفَرَّعَةٌ عَلَى التَّمْثِيلِ. وافتتحت ب فَأَمَّا لِلتَّوْكِيدِ وَصَرْفِ ذِهْنِ السَّامِعِ إِلَى الْكَلَامِ
120
لِمَا فِيهِ مِنْ خَفِيِّ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَلِأَنَّهُ تَمَامُ التَّمْثِيلِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَذَهَبَ الزَّبَدُ جُفَاءً وَمَكَثَ مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ.
وَالْجُفَاءُ: الطَّرِيحُ الْمَرْمِيُّ، وَهَذَا وَعِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ سَيَبِيدُونَ بِالْقَتْلِ وَيَبْقَى الْمُؤْمِنُونَ.
وَعُبِّرَ عَنِ الْمَاءِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ الْبَقَاءُ فِي الْأَرْضِ تَعْرِيضًا لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يَعْرِضُوا أَحْوَالَهُمْ عَلَى مَضْمُونِ هَذِهِ الصِّلَةِ لِيَعْلَمُوا أَنهم لَيْسُوا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَهَذِهِ الصِّلَةُ مُوَازِنَةٌ لِلْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ١٠٥].
وَاكْتُفِيَ بِذِكْرِ وَجْهِ شَبَهِ النَّافِعِ بِالْمَاءِ وَغَيْرِ النَّافِعِ بِالزَّبَدِ عَنْ ذِكْرِ وَجْهِ شَبَهِ النَّافِعِ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَغَيْرِ النَّافِعِ بِزَبَدِهِمَا اسْتِغْنَاءً عَنْهُ.
وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ مُسْتَأْنَفَةٌ تَذْيِيلِيَّةٌ لِمَا فِي لَفْظِ الْأَمْثالَ مِنَ الْعُمُومِ. فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ جُمْلَةِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ لِدَلَالَتِهَا عَلَى صِنْفٍ مِنَ الْمَثَلِ دُونَ جَمِيعِ أَصْنَافِهِ فَلَمَّا أُعْقِبَ بِمَثَلٍ آخَرَ وَهُوَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً جِيءَ بِالتَّنْبِيهِ إِلَى الْفَائِدَةِ الْعَامَّةِ مِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ. وَحَصَلَ أَيْضًا تَوْكِيدُ جُمْلَةِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ لِأَنَّ الْعَامَّ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْخَاصُّ.
فَإِشَارَةُ كَذلِكَ إِلَى التَّمْثِيلِ السَّابِقِ فِي جُمْلَةِ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً أَيْ مَثَلُ ذَلِكَ الضَّرْبِ الْبَدِيعِ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا التَّذْيِيلِ.
وَالْإِشَارَةُ لِلتَّنْوِيهِ بِذَلِكَ الْمَثَلِ وَتَنْبِيهِ الْأَفْهَامِ إِلَى حِكْمَتِهِ وَحِكْمَةِ التَّمْثِيلِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ، وَمَا جَمَعَهُ مِنَ التَّمْثِيلِ وَالْكِنَايَةِ التَّعْرِيضِيَّةِ، وَإِلَى بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ، وَذَلِكَ تَبْهِيجٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَحَدٍّ لِلْمُشْرِكِينَ، وَلِيُعْلَمَ أَنَّ جُمْلَةَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً لَمْ يُؤْتَ بِهَا لِمُجَرَّدِ تَشْخِيصِ دَقَائِقِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالصُّنْعِ الْبَدِيعِ بَلْ وَلِضَرْبِ الْمثل، فَيعلم لممثّل لَهُ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ
121
وَالْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: كَذلِكَ
يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ كَمَا فِي شَأْن التذييل.
[١٨]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١٨]
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ، أَيْ فَائِدَةُ هَذِهِ الْأَمْثَالِ أَنَّ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ حِينَ يَضْرِبُهَا لَهُمُ الْحُسْنَى إِلَى آخِرِهِ.
فَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّمْثِيلَيْنِ أَنَّهُمَا عَائِدَانِ إِلَى أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ. فَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ زِيَادَةُ تَنْبِيهٍ لِلتَّمْثِيلِ وَلِلْغَرَضِ مِنْهُ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ بِمَا عَقَلُوا الْأَمْثَالَ فَجُوزُوا بِالْحُسْنَى، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَعْرَضُوا وَلَمْ يَعْقِلُوا الْأَمْثَالَ، قَالَ تَعَالَى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [سُورَة العنكبوت: ٤٣]، فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ عَذَابًا عَظِيمًا وَهُوَ سُوءُ الْحِسَابِ الَّذِي عَاقِبَتُهُ الْمَصِيرُ إِلَى جَهَنَّمَ. فَمَعْنَى اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ اسْتَجَابُوا لِدَعْوَتِهِ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْمَثَلُ السَّابِقُ وَغَيْرُهُ.
وَقَوْلُهُ: الْحُسْنى مُبْتَدَأٌ ولِلَّذِينَ اسْتَجابُوا خَبَرُهُ. وَفِي الْعُدُولِ إِلَى الْمَوْصُولَيْنِ وَصِلَتَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا- وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الصِّلَتَيْنِ سَبَبَانِ لِمَا حَصَلَ لِلْفَرِيقَيْنِ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا مَعَ جَعْلِ الْحُسْنَى فِي مَرْتَبَةِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِهَا أَيْضًا.
وَأَمَّا الْخَبَرُ عَنْ وَعِيدِ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا فَقَدْ أُجْرِيَ عَلَى أَصْلِ نَظْمِ الْكَلَامِ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٣٦].
وَأُتِيَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْخَبَرِ بِسَبَبِ مَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الصِّلَةِ.
وسُوءُ الْحِسابِ مَا يَحُفُّ بِالْحِسَابِ مِنْ إغلاظ وإهانة للمحساب. وَأَمَّا أَصْلُ الْحِسَابِ فَهُوَ حَسَنٌ لِأَنَّهُ عدل.
[١٩]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١٩]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى الْآيَة [سُورَة الرَّعْد: ١٣].
فَالْكَلَامُ لِنَفْيِ اسْتِوَاءِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ تَنْبِيهًا عَلَى غَفْلَةِ الضَّالِّينَ عَنْ عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ، كَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [سُورَة السَّجْدَة: ١٨].
وَاسْتُعِيرَ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ اسْمُ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ انْتَفَى عِلْمُهُ بِشَيْءٍ ظَاهِرٍ بَيِّنٍ فَأَشْبَهَ الْأَعْمَى، فَالْكَافُ لِلتَّشَابُهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَاثُلِ. وَالِاسْتِوَاءُ الْمُرَادُ بِهِ التَّمَاثُلُ فِي الْفَضْلِ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الْعَمَى. وَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْمَعْنَى اتِّصَالٌ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ- إِلَى- يُؤْمِنُونَ [سُورَة الرَّعْد: ١]. (١)
وَجُمْلَةُ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِانْتِفَاءِ بِأَنَّ سَبَبَ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْحَقِّ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلتَّذَكُّرِ لِأَنَّ التَّذَكُّرَ مِنْ شِعَارِ أُولِي الْأَلْبَابِ، أَيِ الْعُقُولِ.
وَالْقَصْرُ بِ أَنَّما إِضَافِيٌّ، أَيْ لَا غَيْرَ أُولِي الْأَلْبَابِ، فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ لَا عُقُولَ لَهُمْ إِذِ انْتَفَتْ عَنْهُمْ فَائِدَةُ عُقُولِهِمْ.
_________
(١) فِي المطبوعة: الَّذين يُؤمنُونَ
وَالْأَلْبَابُ: الْعُقُولُ. وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ آل عمرَان.
[٢٠، ٢٢]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : الْآيَات ٢٠ إِلَى ٢٢]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢)
يجوز أَن تكون الَّذِينَ يُوفُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جَاءَ لِمُنَاسَبَةِ مَا أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ إِنْكَارِ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ. وَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ حَالُ فَرِيقَيْنِ فِي الْمَحَامِدِ وَالْمَسَاوِي لِيَظْهَرَ أَنَّ نَفْيَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ ذَلِكَ النَّفْيُ الْمُرَادُ بِهِ تَفْضِيلُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ هُوَ نَفْيٌ مُؤَيَّدٌ بِالْحُجَّةِ، وَبِذَلِكَ يَصِيرُ مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُفِيدًا تَعْلِيلًا لِنَفْيِ التَّسْوِيَةِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ تَفْضِيلُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُوفُونَ مُسْنَدًا إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ. وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ مُسْنَدًا.
وَاجْتِلَابُ اسْمِ الْإِشَارَةِ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِمَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا [سُورَة الْفرْقَان: ٣٤] مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [سُورَة الْفرْقَان: ٣٣].
124
وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ كُلِّهَا وَبِمَوْقِعِهَا تَفْضِيلُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أُنْزِلَ حَقٌّ بِمَا لَهُمْ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَضْلِ فِي الدُّنْيَا وَحُسْنِ الْمَصِيرِ فِي الْآخِرَةِ وَبِمَا لِأَضْدَادِهِمْ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ:- وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سُورَة الرَّعْد: ٢٥].
وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ: أَنْ يُحَقِّقَ الْمَرْءُ مَا عَاهَدَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَهُ. وَمَعْنَى الْعَهْدِ: الْوَعْدُ الْمُوَثَّقُ بِإِظْهَارِ الْعَزْمِ عَلَى تَحْقِيقِهِ مِنْ يَمِينٍ أَوْ تَأْكِيدٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ نعتا لقَوْله: أُولُوا الْأَلْبابِ وَتَكُونُ جُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ نَعْتًا ثَانِيًا. وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْغَرَضِ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
وَعَهْدُ اللَّهِ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِمَفْعُولِهِ، أَيْ مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَى فِعْلِهِ، أَوْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ مَا عَهِدَ اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِمْ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى الْخَلْقِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧٢]، فَذَلِكَ عَهْدُهُمْ رَبَّهُمْ. وَأَيْضًا بِقَوْلِهِ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي [سُورَة يس: ٦٠- ٦١]، وَذَلِكَ عَهْدُ اللَّهِ لَهُمْ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ، فَحَصَلَ الْعَهْدُ بِاعْتِبَارِ إِضَافَتِهِ إِلَى مَفْعُولِهِ وَإِلَى فَاعِلِهِ.
وَذَلِكَ أَمْرٌ أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي فِطْرَةِ الْبَشَرِ فَنَشَأَ عَلَيْهِ أَصْلُهُمْ وَتَقَلَّدَهُ ذُرِّيَّتُهُ، وَاسْتَمَرَّ اعْتِرَافُهُمْ لِلَّهِ بِأَنَّهُ خَالِقُهُمْ. وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ عَهْدِ اللَّهِ. وَطَرَأَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْرِيفُ عَهْدِهِمْ فَأَخَذُوا يَتَنَاسَوْنَ وَتَشْتَبِهُ الْأُمُورُ عَلَى بَعْضِهِمْ فَطَرَأَ عَلَيْهِمُ الْإِشْرَاكُ لِتَفْرِيطِهِمُ النَّظَرَ فِي دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَلِأَنَّهُ بِذَلِكَ الْعَهْدِ قَدْ أَوْدَعَ اللَّهُ فِي فِطْرَةِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ لِمَنْ تَأَمَّلَ وَأَسْلَمَ لِلدَّلِيلِ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ أَعْرَضُوا وَكَابَرُوا
125
ذَلِكَ الْعَهْدَ الْقَائِمَ فِي الْفِطْرَةِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ الْإِشْرَاكُ إِبْطَالًا لِلْعَهْدِ وَنَقْضًا لَهُ، وَلِذَلِكَ عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَلا يَنْقُضُونَ
الْمِيثاقَ عَلَى جُمْلَةِ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمِيثاقَ يُحْمَلُ عَلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْمَوَاثِيقِ وَبِذَلِكَ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ عَهْدِ اللَّهِ فَيَشْمَلُ الْمَوَاثِيقَ الْحَاصِلَةَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ عُهُودٍ وَأَيْمَانٍ.
وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْعُمُومِ حَصَلَتْ مُغَايَرَةٌ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَهْدِ اللَّهِ. وَتِلْكَ هِيَ مُسَوِّغَةُ عَطْفِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ عَلَى يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ مَعَ حُصُولِ التَّأْكِيدِ لِمَعْنَى الْأُولَى بِنَفْيِ ضِدِّهَا، وَتَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ لِاتِّصَافِهِمْ بِضِدِّ ذَلِكَ الْكَمَالِ، فَعُطِفَ التَّأْكِيدُ بِاعْتِبَارِ الْمُغَايَرَةِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ.
وَالْمِيثَاقُ وَالْعَهْدُ مُتَرَادِفَانِ. وَالْإِيفَاءُ وَنَفْيُ النَّقْضِ مُتَّحِدَا الْمَعْنَى. وَابْتُدِئَ مِنَ الصِّفَاتِ بِهَذِهِ الْخصْلَة لِأَنَّهَا تنبىء عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ أَصْلُ الْخَيْرَاتِ وَطَرِيقُهَا، وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَى يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ: وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ تَحْذِيرًا مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ نَقْضُهُ.
وَهَذِهِ الصِّلَاتُ صِفَاتٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فَعَطْفُهَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الصِّفَاتِ لِلْمَوْصُوفِ الْوَاحِدِ، وَلَيْسَ مِنْ عَطْفِ الْأَصْنَافِ. وَذَلِكَ مِثْلُ الْعَطْفِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ الَّذِي أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ
فَالْمَعْنَى: الَّذِينَ يَتَّصِفُونَ بِمَضْمُونِ كُلِّ صِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ كُلَّمَا عَرَضَ مُقْتَضٍ لِاتِّصَافِهِمْ بِهَا بِحَيْثُ إِذَا وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَلَمْ يَتَّصِفُوا بِمُقْتَضَاهُ كَانُوا غَيْرَ مُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الْفَضَائِلِ، فَمِنْهَا مَا يَسْتَلْزِمُ الِاتِّصَافَ بِالضِّدِّ، وَمِنْهَا مَا لَا يَسْتَلْزِمُ إِلَّا التَّفْرِيطَ فِي الْفَضْلِ.
وَأُعِيدَ اسْمُ الْمَوْصُولِ هَذَا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْصُولَةِ، للدلالة على أَنَّهَا صِلَاتِهَا خِصَالٌ عَظِيمَةٌ تَقْتَضِي الِاهْتِمَامَ بِذِكْرِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَا، وَلِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ عُقْبَى الدَّارِ لَا تَتَحَقَّقُ لَهُمْ إِلَّا إِذَا جَمَعُوا كُلَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ.
126
فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ مَا يَصْدُقُ عَلَى الْفَرِيقِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ.
وَمُنَاسَبَةُ عَطْفِهِ أَنَّ وَصْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ وَهُوَ عَهْدُ الطَّاعَةِ الدَّاخِلُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فِي سُورَةِ يس [٦١].
وَالْوَصْلُ: ضَمُّ شَيْءٍ لِشَيْءٍ. وَضِدُّهُ الْقَطْعُ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْقُرْبِ وَضِدُّهُ الْهَجْرُ.
وَاشْتُهِرَ مَجَازًا أَيْضًا فِي الْإِحْسَانِ وَالْإِكْرَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ، صِلَةُ الرَّحِمِ، أَيِ الْإِحْسَانُ لِأَجْلِ الرَّحِمِ، أَيْ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ الْآتِيَةِ مِنَ الْأَرْحَامِ مُبَاشرَة أَو بواسط، وَذَلِكَ النَّسَبُ الْجَائِي مِنَ الْأُمَّهَاتِ. وَأُطْلِقَتْ عَلَى قَرَابَةِ النَّسَبِ مِنْ جَانِبِ الْآبَاءِ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو غَالِبًا مِنِ اشْتَرَاكٍ فِي الْأُمَّهَاتِ وَلَوْ بَعُدْنَ.
وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوَاصِرِ وَالْعَلَائِقِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْمَوَدَّةِ وَالْإِحْسَانِ لِأَصْحَابِهَا. فَمِنْهَا آصِرَةُ الْإِيمَانِ، وَمِنْهَا آصِرَةُ الْقَرَابَةِ وَهِيَ صِلَةُ الرَّحِمِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا مُرَادُ اللَّهِ هُنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦، ٢٧].
وَإِنَّمَا أُطْنِبَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِطَرِيقَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ وَاصِلَهَا آتٍ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى التَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَطَعُوا أَوَاصِرَ الْقَرَابَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَسَاءُوا إِلَيْهِمْ فِي كُلِّ حَالٍ وَكَتَبُوا صَحِيفَةَ الْقَطِيعَةِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ.
وَفِيهَا الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَصِلُونَ الْأَرْحَامَ وَلَمْ يُقَطِّعُوا أَرْحَامَ قَوْمِهِمُ الْمُشْركين إِلَّا عِنْد مَا حاربوهم وناووهم.
127
وَقَوْلُهُ: أَنْ يُوصَلَ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ بِهِ، أَيْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ. وَجِيءَ بِهَذَا النَّظْمِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْأَرْحَامُ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ.
وَالْخَشْيَةُ: خَوْفٌ بِتَعْظِيمِ الْمَخُوفِ مِنْهُ وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٥]. وَتُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْخَوْفِ.
وَالْخَوْفُ: ظَنُّ وُقُوعِ الْمَضَرَّةِ مِنْ شَيْءٍ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٩].
وسُوءَ الْحِسابِ مَا يَحُفُّ بِهِ مِمَّا يَسُوءُ الْمُحَاسَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ يَخَافُونَ وُقُوعَهُ عَلَيْهِمْ فيتركون الْعَمَل السيّء.
وَجَاءَتِ الصِّلَاتُ الَّذِينَ يُوفُونَ والَّذِينَ يَصِلُونَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِمَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْخَمْسَةِ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِمْرَارِ.
وَجَاءَتْ صِلَةُ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا وَهُوَ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِإِفَادَةِ تَحَقُّقِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ لَهُمْ وَتَمَكُّنِهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ تَنْوِيهًا بِهَا لِأَنَّهَا أُصُولٌ لِفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ.
فَأَمَّا الصَّبْرُ فَلِأَنَّهُ مِلَاكُ اسْتِقَامَةِ الْأَعْمَالِ وَمَصْدَرِهَا فَإِذَا تَخَلَّقَ بِهِ الْمُؤمن صدرت عَنْهَا لحسنات وَالْفَضَائِلُ بِسُهُولَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [سُورَة الْعَصْر: ٢- ٣].
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ وَفِيهَا مَا فِي الصَّبْرِ مِنَ الْخَاصِّيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [سُورَة الْبَقَرَة: ٤٥].
وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ فَأَصْلُهُ الزَّكَاةُ، وَهِيَ مُقَارِنَةٌ لِلصَّلَاةِ كُلَّمَا ذُكِرَتْ، وَلَهَا الْحَظُّ الْأَوْفَى مِنِ اعْتِنَاءِ الدِّينِ بِهَا، وَمِنْهَا النَّفَقَاتُ وَالْعَطَايَا كُلُّهَا، وَهِيَ أَهَمُّ
128
الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ فَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ مَا جَعَلَهُ ثَانِيًا لِلصَّلَاةِ.
ثُمَّ أُعِيدَ أُسْلُوبُ التَّعْبِيرِ بِالْمُضَارِعِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى الصِّلَةِ وَهُوَ قَوْله: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ إِفَادَةَ التَّجَدُّدِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ تَجَدُّدَ هَذَا الدرء مَا يُحْرَصُ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّاسَ عُرْضَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ عَلَى تَفَاوُتٍ، فَوُصِفَ لَهُمْ دَوَاءُ ذَلِك بِأَن يدعوا السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ.
وَالْقَوْلُ فِي عَطْفِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا وَفِي إِعَادَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ كَالْقَوْلِ فِي وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ.
وَالصَّبْرُ: مِنَ الْمَحَامِدِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٥]. وَالْمُرَادُ الصَّبْرُ عَلَى مَشَاقِّ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَنَصْرِ الدِّينِ.
وابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ لِ صَبَرُوا. وَالِابْتِغَاءُ: الطَّلَبُ. وَمَعْنَى ابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ ابْتِغَاءُ رِضَاهُ كَأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا يَطْلُبُ بِهِ إِقْبَالَهُ عِنْدَ لِقَائِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٧٢].
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ صَبَرُوا لِأَجْلِ أَنَّ الصَّبْرَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنَ اللَّهِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ كَالرِّيَاءِ لِيُقَالَ مَا أَصْبَرَهُ عَلَى الشَّدَائِدِ وَلِاتِّقَاءِ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ.
وَالسِّرُّ وَالْعَلَانِيَةُ تَقَدَّمَ وَجْهُ ذِكْرِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً أَوَاخِرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٧٤].
وَالدَّرْءُ: الدَّفْعُ وَالطَّرْدُ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِإِزَالَةِ أَثَرِ الشَّيْءِ فَيَكُونُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَدْفُوعِ وَقَبْلَ حُصُولِهِ بِأَنْ يُعِدَّ مَا يَمْنَعُ حُصُولَهُ، فَيُصَدِّقُ ذَلِكَ بِأَنْ يُتْبِعَ السَّيِّئَةَ إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَطَرْدِ السَّيِّئَةِ.
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُ كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا»
. وَخَاصَّةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ.
129
وَيُصَدِّقُ بِأَنْ لَا يُقَابِلَ مَنْ فَعَلَ مَعَه سيّئة بِمثلِهِ بَلْ يُقَابِلُ ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ، قَالَ تَعَالَى:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سُورَة فصلت: ٣٤] بِأَنْ يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ وَيُعْطِيَ مَنْ حَرَمَهُ وَيَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَكَذَلِكَ بَين الْجَمَاعَات إِذْ لَمْ يُفْضِ إِلَى اسْتِمْرَارِ الضُّرِّ. قَالَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [سُورَة الْأَنْفَال: ٣].
وَيُصَدِّقُ بِالْعُدُولِ عَنْ فِعْلِ السَّيِّئَةِ بَعْدَ الْعَزْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعُدُولَ حَسَنَةٌ دَرَأَتِ السيّئة المعزوم عَلَيْهِ.
قَالَ النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام-: «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً»
. فقد جمع يَدْرَؤُنَ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَعَانِي وَلِهَذَا لَمْ يُعَقَّبْ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ مُعَامَلَةُ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ كَمَا أُتْبِعَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٣٤]. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [٩٦].
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ. وَدَلَّ اسْمُ الْإِشَارَةِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ جَدِيرُونَ بِالْحُكْمِ الْوَارِدِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ مَا وُصِفَ بِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَوْصَافِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥].
ولَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جُمْلَةٌ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْقَصْرِ، أَيْ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ لَا لِلْمُتَّصِفِينَ بِأَضْدَادِ صِفَاتِهِمْ، فَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ.
وَالْعُقْبَى: الْعَاقِبَةُ، وَهِيَ الشَّيْءُ الَّذِي يُعَقِبُ، أَيْ يَقَعُ عَقِبَ شَيْءٍ آخَرَ. وَقَدِ اشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي آخِرَةِ الْخَيْرِ، قَالَ تَعَالَى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سُورَة الْقَصَص: ٨٣]. وَلِذَلِكَ
وَقَعَتْ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ ضِدِّهَا فِي قَوْلِهِ: وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سُورَة غَافِر: ٥٢].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ [سُورَة الرَّعْد: ٣٥] فَهُوَ مُشَاكَلَةٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ السُّورَةِ
130
عِنْدَ قَوْله: وَسَيعْلَمُ الْكَافِر لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [سُورَة الرَّعْد: ٤٢]. وَانْظُرْ مَا ذَكَرْتُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٣٧] فَقَدْ زِدْتُهُ بَيَانًا.
وَإِضَافَتُهَا إِلَى الدَّارِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ. وَالْمَعْنَى: لَهُمُ الدَّارُ الْعَاقِبَةُ، أَي الْحَسَنَة.
[٢٣، ٢٤]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : الْآيَات ٢٣ إِلَى ٢٤]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)
جَنَّاتُ عَدْنٍ بَدَلٌ مِنْ عُقْبَى الدَّارِ. وَالْعَدْنُ: الِاسْتِقْرَارُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ:
وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٧٢].
وَذِكْرُ يَدْخُلُونَها لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ الْبَهِيجَةِ. وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ جَنَّاتُ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، وَالْوَاوُ فِي وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَاوُ الْمَعِيَّةِ وَذَلِكَ زِيَادَةُ الْإِكْرَامِ بِأَنْ جَعَلَ أُصُولَهُمْ وَفُرُوعَهُمْ وَأَزْوَاجَهُمُ الْمُتَأَهِّلِينَ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ لِصَلَاحِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا فَمَنْ كَانَتْ مَرْتَبَتُهُ دُونَ مَرَاتِبِهِمْ لَحِقَ بِهِمْ، وَمَنْ كَانَتْ مَرْتَبَتُهُ فَوْقَ مَرَاتِبِهِمْ لَحِقُوا هُمْ بِهِ، فَلَهُمُ الْفَضْلُ فِي الْحَالَيْنِ. وَهَذَا كَعَكْسِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [سُورَة الصافات: ٢٢] الْآيَةَ لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ عَذَابِ الْأَقَارِبِ عَذَابٌ مُضَاعَفٌ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بُشْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ سَلَفٌ صَالِحٌ أَوْ خَلَفٌ صَالِحٌ أَوْ زَوْجٌ صَالِحٌ مِمَّنْ تَحَقَّقَتْ فيهم هَذِه الصَّلَاة أَنَّهُ إِذَا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ لَحِقَ بِصَالِحِ أُصُولِهِ أَوْ فَرُوعِهِ أَوْ زَوْجِهِ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ هَذَا إِلَّا لِهَذِهِ الْبُشْرَى كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [سُورَة الطّور: ٢١].
131
وَالْآبَاءُ يَشْمَلُ الْأُمَّهَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ كَمَا قَالُوا: الْأَبَوَيْنِ.
وَجُمْلَةُ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ عَطْفٌ عَلَى يَدْخُلُونَها فَهِيَ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ. وَهَذَا مِنْ كَرَامَتِهِمْ وَالتَّنْوِيهِ بِهِمْ، فَإِنَّ تَرَدُّدَ رُسُلِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ إِكْرَامِهِ.
وَذِكْرُ مِنْ كُلِّ بابٍ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةٍ غِشْيَانِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ بِحَيْثُ لَا يَخْلُو بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ لَا تَدْخُلُ مِنْهُ مَلَائِكَةٌ. ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الدُّخُولَ لَمَّا كَانَ مَجْلَبَةَ مَسَرَّةٍ كَانَ كَثِيرًا فِي الْأَمْكِنَةِ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْأَزْمِنَةِ فَهُوَ مُتَكَرِّرٌ لِأَنَّهُمْ مَا دَخَلُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ إِلَّا لِأَنَّ كُلَّ بَابٍ مَشْغُولٌ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ مَنْ كُلِّ بَابٍ فِي كُلِّ آنٍ.
وَجُمْلَةُ سَلامٌ عَلَيْكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا كَلَامًا مِنَ الدَّاخِلِينَ. وَهَذَا تَحِيَّةٌ يُقْصَدُ مِنْهَا تَأْنِيسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وَالْبَاءُ فِي بِما صَبَرْتُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْكَوْنِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْمَجْرُورِ وَهُوَ عَلَيْكُمْ. وَالتَّقْدِيرُ: نَالَكُمْ هَذَا التَّكْرِيمُ بِالسَّلَامِ بِسَبَبِ صَبْرِكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ مُسْتَفَادٍ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ هَذَا النَّعِيمُ الْمُشَاهَدُ بِمَا صَبَرْتُمْ.
وَالْمُرَادُ: الصَّبْرُ عَلَى مَشَاقِّ التَّكَالِيفِ وَعَلَى مَا جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.
وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ تَفْرِيعَ ثَنَاءٍ عَلَى حُسْنِ عَاقِبَتِهِمْ. وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَقَامِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ دَارُ عُقْبَاكُمْ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى عُقْبَى الدَّارِ آنِفا.
132

[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٢٥]

وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥)
هَذَا شَرْحُ حَالِ أَضْدَادِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى شَرْحِ مُجْمَلِ قَوْلِهِ:
كَمَنْ هُوَ أَعْمى [سُورَة الرَّعْد: ١٩]. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الَّذِينَ يُوفُونَ [الرَّعْد: ٢٠].
وَنَقْضُ الْعَهْدِ: إِبْطَالُهُ وَعَدَمُ الْوَفَاءِ بِهِ.
وَزِيَادَةُ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ زِيَادَةٌ فِي تَشْنِيعِ النَّقْضِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ تَوْثِيقِ الْعَهْدِ وَتَأْكِيدِهِ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٦- ٢٧].
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ خَبَرٌ عَنْ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ وَهِيَ مُقَابِلُ جُمْلَةِ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ.
وَالْبُعْدُ عَنِ الرَّحْمَةِ وَالْخِزْيِ وَإِضَافَةِ سُوءِ الدَّارِ كَإِضَافَةِ عُقْبَى الدَّارِ. وَالسُّوءُ ضِدُّ الْعُقْبَى كَمَا تقدم.
[٢٦]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٢٦]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا عَمَّا يَهْجِسُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ سَمَاعِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ
133
الْمُفِيدُ أَنَّهُمْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَقُولُونَ: كَيْفَ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَازْدَادُوا بِهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَهَلَّا عَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْخَصَاصَةِ كَمَا قَدَّرَ تَعْذِيبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [سُورَة يُونُس: ٨٨]، وَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَيَسْخَرُونَ مِنَ الْوَعِيدِ مُزْدَهِينَ بِمَا لَهُمْ مِنْ نِعْمَةٍ. فَأُجِيبَ الْفَرِيقَانِ بِأَنَّ اللَّهَ يَشَاءُ بَسْطَ الرِّزْقِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ وَنَقْصَهُ لِبَعْضٍ آخَرَ لِحِكْمَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِأَسْبَابِ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ اتِّصَالٌ بِحَالِ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ التَّعْمِيمُ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ يَشاءُ، وَمَشِيئَتُهُ تَعَالَى وَأَسْبَابُهَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ.
وَأَفَادَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَبْسُطُ تَقْوِيَةً لِلْحُكْمِ وَتَأْكِيدًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ وَلَفْتَ الْعُقُولِ إِلَيْهِ عَلَى رَأْيِ السَّكَّاكِيِّ فِي أَمْثَالِهِ.
وَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ إِفَادَةِ الْحَصْرِ كَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ «الْكَشَّافُ» إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ مَنْ يَزْعُمُ الشَّرِكَةَ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ، أَوْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَيَقْصِدُ الرَّدَّ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْقَصْرِ.
وَالْبَسْطُ: مُسْتَعَارٌ لِلْكَثْرَةِ وَلِلدَّوَامِ. وَالْقَدْرُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْقِلَّةِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَعْلِيمَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا إِلَيْهِمْ.
وَجِيءَ فِي جَانِبِ الْكَافِرِينَ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَفْهَمُوا هَذِهِ الدَّقَائِقَ لِعُنْجُهِيَّةِ نُفُوسِهِمْ فَهُمْ فَرِحُوا بِمَا لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَغَفَلُوا عَنِ الْآخِرَةِ، فَالْفَرَحُ الْمَذْكُورُ فَرَحُ بَطَرٍ وَطُغْيَانٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ قَارُونَ: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [سُورَة الْقَصَص: ٧٦]، فَالْمَعْنَى فَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا دُونَ اهْتِمَامٍ بِالْآخِرَةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَفَادَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ الدُّنْيَا فِي حِينِ ذَكَرَ الْآخِرَةَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ.
134
وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَبِالْآخِرَةِ نَعِيمُهُمَا بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، فَالْكَلَامُ مِنْ إِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الذَّاتِ وَالْمُرَادُ أَحْوَالُهَا.
وفِي ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ حَالٌ مِنَ الْحَياةُ الدُّنْيا. وَمَعْنَى فِي الظَّرْفِيَّةُ الْمَجَازِيَّةُ بِمَعْنَى الْمُقَايَسَةِ، أَيْ إِذَا نُسِبَتْ أَحْوَالُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِأَحْوَالِ الْآخِرَةِ ظَهَرَ أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٣٨].
وَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ وَيَنْقَضِي. وَتَنْكِيرُهُ لِلتَّقْلِيلِ كَقَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [سُورَة آل عمرَان: ١٩٦- ١٩٧].
[٢٧]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٢٧]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧)
عُطِفَ غَرَضٌ عَلَى غَرَضٍ وَقِصَّةٌ عَلَى قِصَّةٍ. وَالْمُنَاسَبَةُ ذِكْرُ فَرَحِهِمْ بِحَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا وَقَدِ اغْتَرُّوا بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الرِّزْقِ فَسَأَلُوا تَعْجِيلَ الضُّرِّ فِي قَوْلِهِمُ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [سُورَة الْأَنْفَال:
٣٢]. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَكْرِيرٌ لِنَظِيرَتِهَا السَّابِقَةِ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ [سُورَة الرَّعْد: ٧]. فَأُعِيدَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ إِعَادَةَ الْخَطِيبِ كَلِمَةً مِنْ خُطْبَتِهِ لِيَأْتِيَ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ بَعْدَ أَنْ يَفْصِلَ بِمَا اقْتَضَى الْمَقَامُ الْفَصْلَ بِهِ ثُمَّ يَتَفَرَّغُ إِلَى مَا تَرَكَهُ مِنْ قَبْلُ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ وَلَكِنَّ حِكْمَتَهُ اقْتَضَتْ عَدَمَ التَّنَازُلِ لِيَتَحَدَّى عَبِيدَهُ فَتَبَيَّنَ ذَلِكَ كُلُّهُ كَمَالَ التَّبْيِينِ. وكل ذَلِك لَا حق بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سُورَة الرَّعْد: ٥]، وَعَوْدٌ إِلَى الْمُهِمِّ مِنْ غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِآيَةِ الْقُرْآنِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا أُطِيلَ الْكَلَامُ عَلَى هَدْيِ الْقُرْآنِ عَقِبَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ.
135
وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ مَوْقِعَ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ مَوْقِعَ الْخَبَرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي تعجيب الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- مِنْ شِدَّةِ ضَلَالِهِمْ بِحَيْثُ يُوقِنُ مَنْ شَاهَدَ حَالَهُمْ أَنَّ الضَّلَالَ وَالِاهْتِدَاءَ بِيَدِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ لَوْلَا أَنَّهُمْ جُبِلُوا مِنْ خِلْقَةِ عُقُولِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ الضَّلَالِ لَكَانُوا مُهْتَدِينَ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْهِدَايَةِ وَاضِحَةٌ.
وَتَحْتَ هَذَا التَّعْجِيبِ معَان أُخْرَى:
أَحدهَا: أَنَّ آيَاتِ صِدْقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِحَةٌ لَوْلَا أَنَّ عُقُولَهُمْ لَمْ تُدْرِكْهَا لِفَسَادِ إِدْرَاكِهِمْ.
الثَّانِي: أَنَّ الْآيَاتِ الْوَاضِحَةَ الْحِسِّيَّةَ قَدْ جَاءَتْ لِأُمَمٍ أُخْرَى فَرَأَوْهَا وَلَمْ يُؤْمِنُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها [سُورَة الْإِسْرَاء: ٥٩].
الثَّالِثُ: أَنَّ لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ أَسْبَابًا خَفِيَّةً يَعْلَمُهَا اللَّهُ قَدْ أُبْهِمَتْ بِالتَّعْلِيقِ عَلَى الْمَشِيئَةِ فِي قَوْلِهِ: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ مِنْهَا مَا يومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ فِي مُقَابَلَةِ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَكَبَّرُوا وَأَعْرَضُوا حِينَ سَمِعُوا الدَّعْوَةَ إِلَى التَّوْحِيدِ فَلَمْ يَتَأَمَّلُوا، وَقَدْ أُلْقِيَتْ إِلَيْهِمُ الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ فَأَعْرَضُوا عَنْهَا وَلَوْ أَنَابُوا وَأَذْعَنُوا لَهَدَاهُمُ اللَّهُ وَلَكِنَّهُمْ نَفَرُوا. وَبِهَذَا يَظْهَرُ مَوْقِعُ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنْ يُجِيبَ بِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ بِأَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ مِمَّنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا ضَالِّينَ وَبِأَنَّ حَالَهُمْ مَثَارُ تَعْجَبٍ.
وَالْإِنَابَةُ: حَقِيقَتُهَا الرُّجُوعُ. وَأُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ عِنْدَ ظُهُورِ دَلَائِلِهِ لِأَنَّ النَّفْسَ تَنْفِرُ مِنَ الْحَقِّ ابْتِدَاءً ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَالْإِنَابَةُ هُنَا ضد النفور.
136

[سُورَة الرَّعْد (١٣) : الْآيَات ٢٨ إِلَى ٢٩]

الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
اسْتِئْنَافٌ اعْتِرَاضِيٌّ مُنَاسَبَتُهُ الْمُضَادَّةُ لِحَالِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ، وَالْبَيَانُ لِحَالِ الَّذِينَ هَدَاهُمْ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مِثَالَ الَّذِينَ ضَلُّوا هُوَ عَدَمُ اطْمِئْنَانِ قُلُوبِهِمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَعُدُّوا الْقُرْآنَ آيَةً مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ التَّصْرِيحُ بِجِنْسِ عَاقِبَةِ هَؤُلَاءِ، وَالتَّعْرِيضُ بِضِدِّ ذَلِكَ لِأُولَئِكَ، فَذِكْرُهَا عَقِبَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ يُفِيدُ الْغَرَضَيْنِ وَيُشِيرُ إِلَى السَّبَبَيْنِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلِ الَّذِينَ آمَنُوا بَدَلًا مِنْ مَنْ أَنابَ [الرَّعْد: ٢٧] لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ عَلَى الصِّلَةِ جُمْلَةُ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ وَلَا عَطْفُ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عَلَى الصِّلَةِ الثَّانِيَةِ. فَ الَّذِينَ آمَنُوا الْأَوَّلُ مُبْتَدَأٌ، وَجُمْلَةُ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ مُعْتَرِضَةٌ والَّذِينَ آمَنُوا الثَّانِي بَدَلٌ مُطَابِقٌ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْأَوَّلِ، وَجُمْلَةُ طُوبى لَهُمْ خبر المبدأ.
وَالِاطْمِئْنَانُ: السُّكُونُ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْيَقِينِ وَعَدَمِ الشَّكِّ، لِأَنَّ الشَّكَّ يُسْتَعَارُ لَهُ
الِاضْطِرَابُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [٢٦٠].
و (ذكر اللَّهِ) يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خَشْيَةُ اللَّهِ وَمُرَاقَبَتُهُ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ قَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [سُورَة الزخرف: ٤٤]، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ. وعَلى هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ:
فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [سُورَة الزمر: ٢٢]، أَيْ لِلَّذِينَ كَانَ قَدْ زَادَهُمْ قَسْوَةَ قُلُوبٍ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهَا: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [سُورَة الزمر: ٢٣].
137
وَالذِّكْرُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ذِكْرُ اللَّهِ بِاللِّسَانِ فَإِنَّ إِجْرَاءَهُ عَلَى اللِّسَانِ يُنَبِّهُ الْقُلُوبَ إِلَى مُرَاقَبَتِهِ.
وَهَذَا وَصْفٌ لِحُسْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُقَايَسَتِهِ بِسُوءِ حَالَةِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ غَمَرَ الشَّكُّ قُلُوبَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: ٦٣].
وَاخْتِيرَ الْمُضَارِعُ فِي تَطْمَئِنُّ مَرَّتَيْنِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَجَدُّدِ الِاطْمِئْنَانِ وَاسْتِمْرَارِهِ وَأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُهُ شَكٌّ وَلَا تَرَدُّدٌ.
وَافْتُتِحَتْ جُمْلَةُ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا وَإِغْرَاءً بِوَعْيِهِ. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا فِي تَعْرِيفِ الْقُلُوبُ مِنَ التَّعْمِيمِ. وَفِيهِ إِثَارَةُ الْبَاقِينَ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى أَنْ يَتَّسِمُوا بِسِمَةِ الْمُؤمنِينَ من التَّدْبِير فِي الْقُرْآنِ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا عَلِمْتُمْ رَاحَةَ بَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَمَاذَا يَمْنَعُكُمْ بِأَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ فَإِنَّ تِلْكَ فِي مُتَنَاوَلِكُمْ لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ بِمَسَامِعِكُمْ.
وَطُوبَى: مَصْدَرٌ مِنْ طَابَ طِيبًا إِذَا حَسُنَ، وَهِيَ بِوَزْنِ الْبُشْرَى وَالزُّلْفَى، قُلِبَتْ يَاؤُهَا وَاوًا لِمُنَاسَبَةِ الضَّمَّةِ، أَيْ لَهُمُ الْخَيْرُ الْكَامِلُ لِأَنَّهُمُ اطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ بِالذِّكْرِ، فَهُمْ فِي طِيبِ حَالٍ: فِي الدُّنْيَا بِالِاطْمِئْنَانِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ وَهُوَ حُسْنُ الْمَئَابِ وَهُوَ مَرْجِعُهُمْ فِي آخِرِ أَمْرِهِمْ.
وَإِطْلَاقُ الْمَآبِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آخِرُ أَمْرِهِمْ وَقَرَارِهِمْ كَمَا أَنَّ قَرَارَ الْمَرْءِ بَيْتُهُ يَرْجِعُ إِلَيْهِ بَعْدَ الِانْتِشَارِ مِنْهُ. عَلَى أَنَّهُ يُنَاسِبُ مَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَيْ مِنْ عَالَمِ الْمَلَكُوتِ وَهُوَ عَالَمُ الْخُلْدِ فَمَصِيرُهَا إِلَى الْخُلْدِ رُجُوعٌ إِلَى عَالَمِهَا الْأَوَّلِ. وَهَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمُ للْملك.
138

[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣٠]

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠)
هَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ لِأَنَّ الْجَوَابَ السَّابِقَ بِقَوْلِهِ:
قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ جَوَابٌ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ جَهَالَتِهِمْ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَمَا هُنَا هُوَ الْجَوَابُ الرَّادُّ لِقَوْلِهِمْ. فَيَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ مَقُولِ القَوْل، وَيجوز جعله مَقْطُوعَةً عَنْ جُمْلَةِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ الْقَوْلِ كُلِّهَا، أَوِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ الْمَقُولِ وَهُوَ التَّعَجُّبُ.
وَفِي افْتِتَاحِهَا بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ الَّذِي هُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ تَأْكِيدٌ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ التَّعَجُّبُ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ إِذْ عَمُوا عَنْ صِفَةِ الرِّسَالَةِ.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ: الْإِرْسَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ فِعْلِ أَرْسَلْناكَ، أَيْ مِثْلَ الْإِرْسَالِ الْبَيِّنِ أَرْسَلْنَاكَ، فَالْمُشَبَّهُ بِهِ عَيْنُ الْمُشَبَّهِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لِوُضُوحِهِ لَا يُبَيِّنُ مَا وَضَحَ مِنْ نَفْسِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣].
وَلَمَّا كَانَ الْإِرْسَالُ قَدْ عُلِّقَ بِقَوْلِهِ: فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ صَارَتِ الْإِشَارَةُ أَيْضًا مُتَحَمِّلَةً لِمَعْنَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ إِلَى أُمَمٍ يَقْتَضِي مُرْسَلِينَ، أَيْ مَا كَانَتْ رِسَالَتُكَ إِلَّا مِثْلَ رِسَالَةِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ. كَقَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [سُورَة الْأَحْقَاف: ٩] وَقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [سُورَة الْفرْقَان: ٢٠] لِإِبْطَالِ تَوَهُّمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَمْ يَأْتِهِمْ بِمَا سَأَلُوهُ فَهُوَ غَيْرُ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ. وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [سُورَة الرَّعْد: ٣١] الْآيَاتِ.
139
وَلِذَلِكَ أُرْدِفَتِ الْجُمْلَة بقوله: لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.
وَالْأُمَّةُ: هِيَ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [سُورَة آل عمرَان: ١٣٧]. وَيَتَضَمَّنُ قَوْلُهُ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ التَّعْرِيضَ بِالْوَعِيدِ بِمِثْلِ مَصِيرِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا.
وَتَضَمَّنَ لَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْله: لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ أَنَّ الْإِرْسَالَ لِأَجْلِ الْإِرْشَادِ وَالْهِدَايَةِ
بِمَا أَمَرَ اللَّهُ لَا لِأَجْلِ الِانْتِصَابِ لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ.
وَالتِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ. فَالْمَقْصُودُ لِتَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، كَقَوْلِه: وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [سُورَة النَّمْل: ٩٢] الْآيَةَ.
وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ مُعْجِزَتُهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي مُقَابَلَةِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ وَمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [سُورَة الرَّعْد: ٧]. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [سُورَة العنكبوت: ٥١].
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ»
. وَجُمْلَةُ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ بِأَوْضَحِ الْهِدَايَةِ وَهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ لَمْ تَدْخُلِ الْهِدَايَةُ قُلُوبَهُمْ، فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمَفْهُومِينَ مِنَ الْمَقَامِ لَا إِلَى أُمَّةٍ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مِنْهَا مُؤْمِنُونَ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي يَكْفُرُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ ذَلِكَ وَاسْتِمْرَارِهِ. وَمَعْنَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ إِشْرَاكُهُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَقَدْ أَبْطَلُوا حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ فَكَفَرُوا بِهِ.
140
وَاخْتِيَارُ اسْمِ (الرَّحْمَنِ) مِنْ بَيْنِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى لِأَنَّ كُفْرَهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ أَشَدُّ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يكون الله رحمان. قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٦٠]، فَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى كُفْرَيْنِ مِنْ كُفْرِهِمْ: جَحْدِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَجحد اسْم الرحمان وَلِأَنَّ لِهَذِهِ الصِّفَةِ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِتَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَتَأْيِيدِهِ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلنَّاسِ. وَقَدْ أَرَادُوا تَعْوِيضَهُ بِالْخَوَارِقِ الَّتِي لَا تُكْسِبُ هَدْيًا بِذَاتِهَا وَلَكِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا.
قَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابَ الصُّلْح فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْكَاتِبِ «اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: مَا نَعْرِف الرحمان إِلَّا صَاحِبَ الْيَمَامَةِ، يَعْنِي مُسَيْلمَة،
فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ»

. وَيُبْعِدُهُ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ حِينَ قَالَ لَهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ»
فَنَزَلَتْ.
وَقَدْ لُقِّنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْطَالِ كُفْرِهِمُ الْمَحْكِيِّ إِبْطَالًا جَامِعًا بِأَنْ يَقُولَ: هُوَ رَبِّي،
فَضَمِيرُ هُوَ عَائِد إِلَى (الرحمان) بِاعْتِبَارِ الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، أَيِ الْمُسَمَّى هُوَ رَبِّي وَأَن الرحمان اسْمُهُ.
وَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِبْطَالٌ لِإِشْرَاكِهِمْ مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ غَيْرَهُ. وَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَهُ، فَهُوَ احْتِرَاسٌ لِرَدِّ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إِلَى رَبٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ رَبَّهُ اللَّهُ وَإِن ربه الرحمان، فَكَانَ قَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ دَالا على أَن الْمَدْعُو بالرحمان هُوَ الْمَدْعُو بالله إِذْ لَا إِلَه إِلَّا إِلَه وَاحِد، فَلَيْسَ قَوْله: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِخْبَارا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ.
141
وَجُمْلَةُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ هِيَ نَتِيجَةٌ لِكَوْنِهِ رَبًّا وَاحِدًا. وَلكنهَا كَالنَّتِيجَةِ لِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِاتِّصَالِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ وَهُمَا عَلَيْهِ وإِلَيْهِ لِإِفَادَةِ اخْتِصَاصِ التَّوَكُّلِ وَالْمَتَابِ بِالْكَوْنِ عَلَيْهِ، أَيْ لَا عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَوَحَّدَ بِالرُّبُوبِيَّةِ كَانَ التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا اتَّصَفَ بِالرَّحْمَانِيَّةِ كَانَ الْمَتَابُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ رَحْمَانِيَّتَهُ مَظِنَّةٌ لِقَبُولِهِ تَوْبَةَ عَبْدِهِ.
وَالْمَتَابُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ عَلَى وَزْنِ مَفْعَلٍ، أَيِ التَّوْبَةُ، يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَصَادِرِ الْمِيمِيَّةِ أَنَّهَا أَسْمَاءُ زَمَانٍ جُعِلَتْ كِنَايَةً عَنِ الْمَصْدَرِ، ثُمَّ شَاعَ اسْتِعْمَالُهَا حَتَّى صَارَتْ كَالصَّرِيحِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَتَابُ مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ عُدِّيَ الْمَتَابُ بِحَرْفِ إِلَى.
وَأَصْلُ مَتابِ مَتَابِي- بِإِضَافَةٍ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ- فَحُذِفَتِ الْيَاءُ تَخْفِيفًا وَأُبْقِيَتِ الْكَسْرَةُ دَلِيلًا عَلَى الْمَحْذُوفِ كَمَا حذف فِي النادي الْمُضَافِ إِلَى الْيَاء.
[٣١]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣١]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً.
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا أَنَّ رِسَالَتَهُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا مِثْلَ رِسَالَةِ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صِفَةُ أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً تَتِمَّةً لِلْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ.
142
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ هُوَ رَبِّي وَبَيْنَ جُمْلَةِ أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ [سُورَة الرَّعْد: ٣٣] كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَحْكِيَّةً بِالْقَوْلِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
وَالْمَعْنَى: لَوْ أَنَّ كِتَابًا مِنَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ اشْتَمَلَ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الْهِدَايَةِ فَكَانَتْ مَصَادِرَ لِإِيجَادِ الْعَجَائِبِ لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ كَذَلِكَ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنٌ كَذَلِكَ، فَهَذَا الْقُرْآنُ لَا يُتَطَلَّبُ مِنْهُ الِاشْتِمَالُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ.
وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ. وَحَذْفُ جَوَابِ لَوْ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [سُورَة الْأَنْعَام: ٢٧] وَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [سُورَة السَّجْدَة: ١٢].
وَيُفِيدُ ذَلِكَ مَعْنًى تَعْرِيضِيًّا بِالنِّدَاءِ عَلَيْهِمْ بِنِهَايَةِ ضَلَالَتِهِمْ، إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهَدْيِ الْقُرْآنِ وَدَلَائِلِهِ وَالْحَالُ لَوْ أَنَّ قُرْآنًا أَمَرَ الْجِبَالَ أَنْ تَسِيرَ وَالْأَرْضَ أَنْ تَتَقَطَّعَ وَالْمَوْتَى أَنْ تَتَكَلَّمَ لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ بَالِغًا ذَلِكَ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْكُتُبِ، فَيَكُونُ عَلَى حَدِّ قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ سُلْمَى مِنَ الْحَمَاسَةِ:
وَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرِ
وَوَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ مِنْ بَيْنِ الْخَوَارِقِ الْمَفْرُوضَةِ مَا رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ وَالطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، أَبَا جَهْلٍ وَابْنَ أبي أميّة وَغَيرهمَا جَلَسُوا خَلْفَ الْكَعْبَةِ ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: لَوْ وَسَّعْتَ لَنَا جِبَالَ مَكَّةَ فَسَيَّرْتَهَا حَتَّى تتسع أَرْضنَا فنحترثهما فَإِنَّهَا ضَيِّقَةٌ، أَوْ قَرِّبْ إِلَيْنَا الشَّامَ فَإِنَّا نَتَّجِرُ إِلَيْهَا، أَوْ أَخْرِجْ قُصَيًّا نُكَلِّمْهُ.
وَقَدْ يُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَنَّهُ تَكَرَّرَ فَرْضُ تَكْلِيمِ الْمَوْتَى بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى [سُورَة الْأَنْعَام: ١١١]، فَكَانَ فِي ذِكْرِ
143
هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِشَارَةٌ إِلَى تَهَكُّمِهِمْ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ قُطِّعَتْ مَسَافَاتُ الْأَسْفَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [سُورَة الْأَنْعَام: ٩٤].
وَجُمْلَةُ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً عَطْفٌ عَلَى وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً بِحَرْفِ الْإِضْرَابِ، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْكُتُبِ بَلْ لِلَّهِ أَمْرُ كُلِّ مُحْدَثٍ فَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ الْعَجَائِبَ إِنْ شَاءَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عِنْدَ سُؤَالِكُمْ، فَأمر الله نبيئه بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ إِجْرَاءً لِكَلَامِهِمْ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، لِأَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِمَا قَالُوهُ إِلَّا التَّهَكُّمَ، فَحُمِلَ كَلَامُهُمْ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِهِمْ أَنْ يَنْظُرُوا هَلْ كَانَ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ قُرْآنٌ يَتَأَتَّى بِهِ مِثْلَ مَا سَأَلُوهُ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ الْحَجَّاجِ لِلْقَبَعْثَرَى: لِأَحْمِلَنَّكَ عَلَى الْأَدْهَمِ (يُرِيدُ الْقَيْدَ). فَأَجَابَهُ الْقَبَعْثَرَى بِأَنْ قَالَ: مِثْلُ الْأَمِيرِ يَحْمِلُ عَلَى الْأَدْهَمِ وَالْأَشْهَبِ، فَصَرَفَهُ إِلَى لَوْنِ فَرَسٍ.
وَالْأَمْرُ هُنَا: التَّصَرُّفُ التَّكْوِينِيُّ، أَيْ لَيْسَ الْقُرْآنُ وَلَا غَيْرُهُ بِمُكَوِّنٍ شَيْئًا مِمَّا سَأَلْتُمْ بَلِ اللَّهُ الَّذِي يُكَوِّنُ الْأَشْيَاءَ.
وَقَدْ أَفَادَتِ الْجُمْلَتَانِ الْمَعْطُوفَةُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا مَعْنَى الْقَصْرِ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِ بَلْ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْأَمْرُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وجَمِيعاً تَأْكِيدٌ لَهُ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ لِأَنَّ الْقَصْرَ أُفِيدَ بِ بَلْ الْعَاطِفَةِ.
وَفُرِّعَ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا إنكارا لانْتِفَاء يأسي الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ فَهُمْ حَقِيقُونَ بِزَوَالِ يَأْسِهِمْ وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا.
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ [سُورَة الرَّعْد: ٢٧].
144
وَ (يَيْأَسِ) بِمَعْنَى يُوقِنُ وَيَعْلَمُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا الْفِعْلُ إِلَّا مَعَ أَنَّ الْمَصْدَرِيَّةَ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْيَأْسِ الَّذِي هُوَ تَيَقُّنُ عَدَمِ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ الْبَحْثِ، فَاسْتُعْمِلَ فِي مُطْلَقِ الْيَقِينِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ لِتَضَمُّنِ مَعْنَى الْيَأْسِ مَعْنَى الْعِلْمِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ سُحَيْمِ بْنِ وَثِيلٍ الرَّيَاحِيِّ:
أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَيْسَرُونَنِي أَلَمْ تَأْيَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ
وَشَوَاهِدُ أُخْرَى.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ اسْتِعْمَالَ يَئِسَ بِمَعْنَى عَلِمَ لُغَةُ هَوَازِنَ أَوْ لُغَةُ بَنِي وَهْبِيلَ (فَخِذٌ مِنِ النَّخْعِ سُمِّيَ بِاسْمِ جَدٍّ). وَلَيْسَ هُنَالك مَا يلجىء إِلَى هَذَا. هَذَا إِذَا جُعِلَ أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ
مَفْعُولًا لِ يَيْأَسِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلَّقُ يَيْأَسِ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. تَقْدِيرُهُ: مِنْ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ، وَيَكُونُ أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ مَجْرُورًا بِلَامِ تَعْلِيلٍ مَحْذُوفَةٍ. وَالتَّقْدِيرُ: لِأَنَّهُ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ، فَيَكُونُ تَعْلِيلًا لِإِنْكَارِ عَدَمِ يَأْسِهِمْ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهِ.
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.
مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ. وَهِيَ تَهْدِيدٌ بِالْوَعِيدِ عَلَى تَعَنُّتِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِرَافِ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ، وَتَهَكُّمِهِمْ بِاسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ الَّذِي تُوُعِّدُوا بِهِ، فَهُدِّدُوا بِمَا سَيَحُلُّ بِهِمْ مِنَ الْخَوْفِ بِحُلُولِ الْكَتَائِبِ وَالسَّرَايَا بِهِمْ تَنَالُ الَّذِينَ حلّت فيهم وَتَخْفِيف مَنْ حَوْلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ بِيَوْمِ بَدْرٍ أَوْ فَتْحِ مَكَّةَ.
145
وَاسْتِعْمَالُ لَا يَزالُ فِي أَصْلِهَا تَدُلُّ عَلَى الْإِخْبَارِ بِاسْتِمْرَارِ شَيْءٍ وَاقِعٍ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةً تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عِنْدَ وُقُوعِ بَعْضِ الْحَوَادِثِ الْمُؤْلِمَةِ بِقُرَيْشٍ مِنْ جُوعٍ أَوْ مَرَضٍ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَنْبِيهًا لَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ عِقَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدٌ بِأَنَّ ذَلِكَ دَائِمٌ فِيهِمْ حَتَّى يَأْتِي وعد لله. وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ فِي مُدَّةِ إِصَابَتِهِمْ بِالسِّنِينَ السَّبْعِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٥٥].
وَمَنْ جَعَلُوا هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةً فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَارِعَةَ السَّرِيَّةُ مِنْ سَرَايَا الْمُسْلِمِينَ الَّتِي تَخْرُجُ لِتَهْدِيدِ قُرَيْشٍ وَمَنْ حَوْلَهُمْ. وَهُوَ لَا ملجىء إِلَيْهِ.
وَالْقَارِعَةُ: فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ مِنَ الْقَرْعِ، وَهُوَ ضَرْبُ جِسْمٍ بِجِسْمٍ آخَرَ. يُقَالُ: قَرَعَ الْبَابَ إِذَا ضَرَبَهُ بِيَدِهِ بِحَلْقَةٍ. وَلَمَّا كَانَ الْقَرْعُ يُحْدِثُ صَوْتًا مُبَاغِتًا يَكُونُ مُزْعِجًا لِأَجْلِ تِلْكَ الْبَغْتَةِ صَارَ الْقَرْعُ مَجَازًا لِلْمُبَاغَتَةِ وَالْمُفَاجَأَةِ، وَمِثْلُهُ الطَّرْقُ. وَصَاغُوا مِنْ هَذَا الْوَصْفِ صِيغَةَ تَأْنِيثٍ إِشَارَةً إِلَى مَوْصُوفٍ مُلْتَزَمِ الْحَذْفِ اخْتِصَارًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ مَا يُؤَوَّلُ بِالْحَادِثَةِ أَوِ الْكَائِنَةِ أَوِ النَّازِلَةِ، كَمَا قَالُوا: دَاهِيَةٌ وَكَارِثَةٌ، أَيْ نَازِلَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِالْإِزْعَاجِ فَإِنَّ بَغْتَ الْمَصَائِبِ أَشَدُّ وَقْعًا عَلَى النَّفْسِ. وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ سَاعَةِ الْبَعْثِ بِالْقَارِعَةِ.
وَالْمُرَادُ هُنَا الْحَادِثَةِ الْمُفْجِعَةِ بِقَرِينَةِ إِسْنَادِ الْإِصَابَةِ إِلَيْهَا. وَهِيَ مِثْلُ الْغَارَةِ وَالْكَارِثَةِ تَحُلُّ فِيهِمْ فَيُصِيبُهُمْ عَذَابُهَا، أَوْ تَقَعُ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ فَيُصِيبُهُمُ الْخَوْفُ مِنْ تَجَاوُزِهَا إِلَيْهِمْ،
فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَارِعَةِ الْغَزْوَ وَالْقِتَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ إِطْلَاقُ اسْمِ الْقَارِعَةِ عَلَى مَوْقِعَةِ الْقِتَالِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِمَّا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ.
وَمَعْنَى بِما صَنَعُوا بِسَبَبِ فِعْلِهِمْ وَهُوَ كُفْرُهُمْ وَسُوء معاملتهم نبيئهم. وَأَتَى فِي ذَلِكَ بِالْمَوْصُولِ لِأَنَّهُ أَشْمَلُ لِأَعْمَالِهِمْ.
وَضَمِيرُ تَحُلُّ عَائِدٌ إِلَى قارِعَةٌ فَيَكُونُ تَرْدِيدًا لِحَالِهِمْ بَيْنَ إِصَابَةِ الْقَوَارِعِ إِيَّاهُمْ وَبَيْنَ حُلُولِ الْقَوَارِعِ قَرِيبًا مِنْ أَرْضِهِمْ فَهُمْ فِي رُعْبِ مِنْهَا وَفَزَعٍ
146
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَحُلُّ خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ أَوْ تَحُلُّ أَنْتَ مَعَ الْجَيْشِ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ. وَالْحُلُولُ: النُّزُولُ.
وَتَحُلُّ: بِضَمِّ الْحَاءِ مُضَارِعُ حَلَّ اللَّازِمِ. وَقَدِ الْتُزِمَ فِيهِ الضَّمُّ. وَهَذَا الْفِعْلُ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ بُحْرُقٌ الْيَمَنِيُّ عَلَى ابْنِ مَالِكٍ فِي شرح لامية الْأَفْعَالِ، وَهُوَ وَجِيهٌ.
ووَعْدُ اللَّهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ مَوْعُودُ اللَّهِ، وَهُوَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [سُورَة آل عمرَان: ١٢]، فَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى اسْتِئْصَالِهِمْ لِأَنَّهَا ذَكَرَتِ الْغَلَبَ وَدُخُولَ جَهَنَّمَ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ غَلَبَ الْقَتْلُ بِسُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْبَطْشَةُ الْكُبْرَى. وَمِنْ ذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ وَيَوْمُ حُنَيْنٍ وَيَوْمُ الْفَتْحِ.
وَإِتْيَانُ الْوَعْدِ: مَجَازٌ فِي وُقُوعِهِ وَحُلُولِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِيذَانًا بِأَنَّ إِتْيَانَ الْوَعْدِ الْمُغَيَّا بِهِ مُحَقِّقٌ وَأَنَّ الْغَايَةَ بِهِ غَايَةٌ بِأَمْرٍ قَرِيبِ الْوُقُوعِ. وَالتَّأْكِيدُ مُرَاعَاةً لإنكار الْمُشْركين.
[٣٢]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣٢]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [سُورَة الرَّعْد: ٣١] إِلَخَّ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمُثُلَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي فُرِضَتْ أُرِيدَ بِهَا أُمُورٌ سَأَلَهَا الْمُشْرِكُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً وَتَعْجِيزًا لَا لِتَرَقُّبِ حُصُولِهَا.
وَجَاءَتْ عَقِبَ الْجُمْلَتَيْنِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمُثُلِ الَّتِي فِي الْأُولَى وَمِنْ جِهَةِ الْغَايَةِ الَّتِي فِي الثَّانِيَةِ.
وَقَدِ اسْتَهْزَأَ قَوْمُ نُوحٍ بِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [سُورَة هود: ٣٨]، وَاسْتَهْزَأَتْ عَادٌ بِهُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سُورَة الشُّعَرَاء: ١٨٧]، وَاسْتَهْزَأَتْ ثَمُودُ بِصَالِحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [سُورَة الْأَعْرَاف: ٦٦]، واستهزأوا بِشُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [سُورَة هود: ٨٧]، وَاسْتَهْزَأَ فِرْعَوْنُ بِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [سُورَة الزخرف: ٤٣].
وَالِاسْتِهْزَاءُ: مُبَالِغَةٌ فِي الْهَزْءِ مِثْلَ الِاسْتِسْخَارِ فِي السُّخْرِيَةِ.
وَالْإِمْلَاءُ: الْإِمْهَالُ وَالتَّرْكُ مُدَّةً. وَمِنْهُ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. وَتقدم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ فِي [سُورَةِ الْأَعْرَافِ:
١٨٢].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي «فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ» لِلتَّعْجِيبِ.
وَ «عِقَابِ» أَصْلُهُ عِقَابِي مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَإِلَيْهِ مَتابِ.
وَالْكَلَام تَسْلِيَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، ووعيد للْمُشْرِكين.
[٣٣]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣٣]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)
الْفَاءُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ مُؤَخَّرَةٌ مِنْ تَقْدِيمٍ لِأَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ لَهَا الصَّدَارَةُ. فَتَقْدِيرُ أصل النّظم: فأمن هُوَ قَائِمٌ. فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِفْهَام
148
وَلَيْسَ الِاسْتِفْهَامِ اسْتِفْهَامًا عَلَى التَّفْرِيعِ، وَذَلِكَ هُوَ الْوَجْهُ فِي وُقُوعِ حُرُوفِ الْعَطْفِ الثَّلَاثَةِ الْوَاوِ وَالْفَاءِ وَثُمَّ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ، خِلَافًا لِمَنْ يَجْعَلُونَ الِاسْتِفْهَامَ وَارِدًا عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ وَمَا عَطَفَهُ.
فَالْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ [الرَّعْد: ٣٠] الْمُجَابِ بِهِ حِكَايَةُ كَفْرِهِمُ الْمُضَمَّنِ فِي جُمْلَةِ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ [الرَّعْد: ٣٠]،
فَالتَّفْرِيعُ فِي الْمَعْنَى عَلَى مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ: كفرهم بِاللَّه، وَإِيمَانِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْد: ٣١]، فَيَكُونُ تَرَقِّيًا فِي إِنْكَارِ سُؤَالِهِمْ إِتْيَانَ مُعْجِزَةٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ، أَيْ إِنْ تَعْجَبْ مِنْ إِنْكَارِهِمْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ أَعْجَبَ مِنْهُ جَعْلُهُمُ الْقَائِمَ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ مُمَاثِلًا لِمَنْ جَعَلُوهُمْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ.
وَاعْتُرِضَ أَثَرَ ذَلِكَ بِرَدِّ سُؤَالِهِمْ أَنْ تُسَيَّرَ الْجِبَالُ أَوْ تُقَطَّعَ الْأَرْضُ أَوْ تُكَلَّمَ الْمَوْتَى، وَتَذْكِيرُهُمْ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مَعَ إِدْمَاجِ تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام-، ثمَّ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَصْوِير نظم الْآيَةِ مَحَامِلُ مُخْتَلِفَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَمَرْجِعُ الْمُتَّجَهِ مِنْهَا إِلَى أَنَّ فِي النَّظْمِ حَذْفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِيهِ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِيَاقُ. وَالْوَجْهُ فِي بَيَانِ النَّظْمِ أَنَّ التَّفْرِيعَ عَلَى مَجْمُوعِ قَوْلِهِ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَيْ أَن كفرهم بالرحمان وَإِيمَانَكَ بِأَنَّهُ رَبُّكَ الْمَقْصُورَةَ عَلَيْهِ الرُّبُوبِيَّةُ يَتَفَرَّعُ عَلَى مَجْمُوعِ ذَلِكَ اسْتِفْهَامُهُمُ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ عَلَيْهِمْ تَسْوِيَتَهُمْ مَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَنْ لَيْسَ مِثْلُهُ مَنْ جَعَلُوهُمْ لَهُ شُرَكَاءَ، أَيْ كَيْفَ يُشْرِكُونَهُمْ وَهُمْ لَيْسُوا سَوَاءً مَعَ الله.
وَمَا صدق فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ هُوَ اللَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ.
149
وَخَبَرُ (مَنْ هُوَ قائِمٌ) مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ. وَالتَّقْدِير:
أَمَّنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ وَمَنْ جَعَلُوهُمْ بِهِ شُرَكَاءَ سَوَاءٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ. دَلَّ عَلَى تَقْدِيرِهِ مَا تَقْتَضِيهِ الشَّرِكَةُ فِي الْعِبَادَةِ مِنَ التَّسْوِيَةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِتِلْكَ التَّسْوِيَةِ الْمُفَادِ مِنْ لَفْظِ شُرَكاءَ. وَبِهَذَا الْمَحْذُوفِ اسْتُغْنِيَ عَنْ تَقْدِيرِ مُعَادِلٍ لِلْهَمْزَةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ»، لِأَنَّ هَذَا الْمُقَدَّرَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ أَقْوَى فَائِدَةً مِنْ تَقْدِيرِ الْمُعَادِلِ الَّذِي حَاصِلُهُ أَنْ يَقْدِّرَ: أَمْ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَسَيَأْتِي قَرِيبًا بَيَانُ مُوقِعِ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ.
وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ لِأَنَّ فِي الصِّلَةِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ، وَتَخْطِئَةً لِأَهْلِ الشِّرْكِ فِي تَشْرِيكِ آلِهَتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَنِدَاءً عَلَى غَبَاوَتِهِمْ إِذْ هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ. وَالْمُقَدَّرُ بِاعْتِقَادِهِمْ ذَلِكَ هُوَ أَصْلُ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ وَلِمَا فِي هَذِهِ الصِّلَةِ مِنَ التَّعْرِيضِ لِمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
وَالْقَائِمُ عَلَى الشَّيْءِ: الرَّقِيبُ، فَيَشْمَلُ الْحِفْظَ وَالْإِبْقَاءَ وَالْإِمْدَادَ، وَلِتُضَمُّنِهِ مَعْنَى
الرَّقِيبِ عُدِّيَ بِحَرْفِ عَلى الْمُفِيدِ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْقِيَامِ وَهُوَ الْمُلَازَمَةُ كَقَوْلِهِ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [سُورَة آل عمرَان: ٧٥]. وَيَجِيءُ مِنْ مَعْنَى الْقَائِمِ أَنَّهُ الْعَلِيمُ بِحَالِ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ تَمَامَ الْقَيُّومِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِحَاطَةِ الْعِلْمِ.
فَمَعْنَى قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ مُتَوَلِّيهَا وَمُدَبِّرُهَا فِي جَمِيعِ شُؤُونِهَا فِي الْخَلْقِ وَالْأَجَلِ وَالرِّزْقِ، وَالْعَالَمُ بِأَحْوَالِهَا وَأَعْمَالِهَا، فَكَانَ إِطْلَاقُ وَصْفِ قائِمٌ هُنَا مِنْ إِطْلَاقِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ. وَالْمُشْرِكُونَ لَا يُنَازِعُونَ فِي انْفِرَادِ اللَّهِ بِهَذَا الْقِيَامِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُرَاعُونَ ذَلِكَ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ وَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْمَعْنَى تَعَلَّقَ قَائِمٌ بُقُولِهِ: عَلى كُلِّ نَفْسٍ لِيَعُمَّ الْقِيَامُ سَائِرَ شُؤُونِهَا.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كَسَبَتْ لِلْمُلَابَسَةِ. وَهِيَ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ مِنْ نَفْسٍ
150
أَوْ مِنْ قائِمٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَقْتَضِيهِ الْقِيَامُ مِنَ الْعِلْمِ، أَيْ قِيَامًا مُلَابِسًا لِمَا عَمِلَتْهُ كُلُّ نَفْسٍ، أَيْ قِيَامًا وِفَاقًا لِأَعْمَالِهَا مِنْ عَمَلِ خَيْرٍ يَقْتَضِي الْقِيَامَ عَلَيْهَا بِاللُّطْفِ وَالرِّضَى فَتَظْهَرُ آثَارُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [سُورَة النَّحْل: ٩٧]، وَقَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [سُورَة النُّور: ٥٥] أَوْ مِنْ عَمَلِ شَرٍّ يَقْتَضِي قِيَامَهُ عَلَى النَّفْسِ بِالْغَضَبِ وَالْبَلَايَا. فَفِي هَذِهِ الصِّلَةِ بِعُمُومِهَا تَبْشِيرٌ وَتَهْدِيدٌ لِمَنْ تَأْمَّلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْأَمْرَيْنِ لِلْفَرِيقَيْنِ أَفَادَتْهُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ.
وَجُمْلَةُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ، أَيْ وَالْحَالُ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِتْيَان بضمير فَمَنْ هُوَ قائِمٌ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِظْهَارِ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُسَمَّى بِاسْمِهِ الْعَلَمِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ إِذْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الْإِيفَاءُ بِحَقِّ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى الْمَوْصُولِ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ فَتَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِلِاسْمِ الْعَلَمِ، وَلِيَكُونَ تَصْرِيحًا بِأَنَّهُ الْمُرَادُ مِنَ الْمَوْصُولِ السَّابِقِ زِيَادَةً فِي التَّصْرِيحِ بِالْحُجَّةِ.
وَجُمْلَةُ قُلْ سَمُّوهُمْ اسْتِئْنَافٌ أُعِيدَ مَعَهَا الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ لِاسْتِرْعَاءِ الْأَفْهَامِ لِوَعْيِ مَا سَيُذْكَرُ. وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، أَعْنِي جُمْلَةَ سَمُّوهُمْ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ رَدًّا عَلَيْهِمْ. فَالْمَعْنَى:
سَمُّوهُمْ شُرَكَاءَ فَلَيْسَ لَهُمْ حَظٌّ إِلَّا التَّسْمِيَةُ، أَيْ دُونَ مُسَمَّى الشَّرِيكِ، فَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْإِبَاحَةِ كِنَايَةً عَنْ قلَّة المبالاة بادعائهم أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ مِثْلَ قُلْ كُونُوا حِجارَةً [سُورَة
الْإِسْرَاء: ٥٠]، وَكَمَا تَقول للَّذي يخطىء فِي كَلَامِهِ: قُلْ مَا شِئْتَ. وَالْمَعْنَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا لَا مُسَمَّيَاتِ لَهَا بِوَصْفِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهَا حِجَارَةٌ لَا صِفَاتِ لَهَا مِنْ صِفَاتِ التَّصَرُّفِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا
151
أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [سُورَة يُوسُف: ٤٠] وَقَوْلُهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها [سُورَة النَّجْم: ٢٣]. وَهَذَا إِفْحَامٌ لَهُمْ وَتَسْفِيهٌ لِأَحْلَامِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَلَّهُوا مَا لَا حَقَائِقَ لَهَا فَلَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ [سُورَة الرَّعْد: ١٦]. وَقَدْ تَمَحَّلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ قُلْ سَمُّوهُمْ بِمَا لَا مُحَصِّلَ لَهُ مِنَ الْمَعْنَى.
ثُمَّ أُضْرِبَ عَنْ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ أَمْ الْمُنْقَطِعَةُ. وَدَلَّتْ أَمْ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا فِي مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ إِنْكَارِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ، أَيْ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ فَتَضَعُوا لَهُ شُرَكَاءَ لم ينبئكم لوجودهم، فَقَوْلُهُ: بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ الْمَوْجُودِ لِأَنَّ مَا لَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ إِذْ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَمْ يَخْفَ عَلَى عِلْمِ الْعَلَّامِ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَتَقْيِيدُ ذَلِكَ بِ الْأَرْضِ لِزِيَادَةِ تَجْهِيلِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَخْفَى عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ لِخَفِيَ عَنْهُ مَا لَا يُرَى وَلَمَا خَفِيَتْ عَنْهُ مَوْجُودَاتٌ عَظِيمَةٌ بِزَعْمِكُمْ.
وَفِي سُورَةِ يُونُسَ [١٨] قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ زِيَادَةٌ فِي التَّعْمِيمِ.
وأَمْ الثَّانِيَةُ مُتَّصِلَةٌ هِيَ مُعَادِلَةٌ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ الْمُقَدَّرَةَ فِي أَمْ تُنَبِّئُونَهُ. وَإِعَادَةُ الْبَاءِ لِلتَّأْكِيدِ بَعْدَ أَمْ الْعَاطِفَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَتُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ بَلْ أَتُنَبِّئُونَهُ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ.
وَلَيْسَ الظَّاهِر هُنَا مشتقا مِنَ الظُّهُورِ بِمَعْنَى الْوُضُوحِ بَلْ هُوَ مُشْتَقّ من الظور بِمَعْنَى الزَّوَالِ كِنَايَةً عَنِ الْبُطْلَانِ، أَي بِمُجَرَّد قبُول لَا ثَبَاتَ لَهُ وَلَيْسَ بِحَقٍّ، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
وَتِلْكَ شِكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا وَقَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ:
152
وَقَوْلُهُ: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ إِضْرَابٌ عَنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ بِإِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ
أَصْنَامِهِمْ إِلَى كَشْفِ السَّبَبِ، وَهُوَ أَنَّ أَيِمَّةَ الْمُشْرِكِينَ زَيَّنُوا لِلَّذِينِ كَفَرُوا مَكْرَهُمْ بِهِمْ إِذْ وَضَعُوا لَهُمْ عِبَادَتَهَا.
وَالْمَكْرُ: إِخْفَاءُ وَسَائِلِ الضُّرِّ. وَتَقَدَّمَ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٤]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٩٩]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٣٠].
وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ أَيِمَّةَ الْكُفْرِ مِثْلَ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وَضَعُوا لِلْعَرَبِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَحَسَّنُوهَا إِلَيْهِمْ مُظْهِرِينَ لَهُمْ أَنَّهَا حَقٌّ وَنَفْعٌ وَمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا قَادَةً لَهُمْ لِيَسُودُوهُمْ وَيُعَبِّدُوهُمْ.
فَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ الْمَبْنِيُّ لِلْمَجْهُولِ يَقْتَضِي فَاعِلًا مَنْوِيًّا كَانَ قَوْلُهُ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُوَّةِ قَوْلِكَ: زَيَّنَّ لَهُمْ مُزَيَّنٌ. وَالشَّيْءُ الْمُزَيَّنُ (بِالْفَتْحِ) هُوَ الَّذِي الْكَلَامُ فِيهِ وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ فَهِيَ الْمَفْعُولُ فِي الْمَعْنَى لِفِعْلِ التَّزْيِينِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَرْفُوعَ بَعْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ هُوَ الْمَفْعُولُ فِي الْمَعْنَى، فَلَا جَرَمَ أَنَّ مَكْرَهُمْ هُوَ الْمَفْعُولُ فِي الْمَعْنَى، فَتَعِيَّنَ أَنَّ الْمَكْرَ مُرَادٌ بِهِ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ. وَبِهَذَا يَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ إِضَافَةُ (مَكْرُ) إِلَى ضَمِيرِ الْكُفَّارِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَا هُوَ فِي قُوَّةِ الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمَجْرُورُ بِبَاءِ التَّعْدِيَةِ، أَيِ الْمَكْرِ بِهِمْ مِمَّنْ زَيَّنُوا لَهُمْ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الِاحْتِجَاجُ أَسَالِيبَ وَخُصُوصِيَّاتٍ:
أَحَدُهَا: تَوْبِيخُهُمْ عَلَى قِيَاسِهِمْ أَصْنَامَهُمْ عَلَى اللَّهِ فِي إِثْبَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لَهَا قِيَاسًا فَاسِدًا لِانْتِفَاءِ الْجِهَةِ الْجَامِعَةِ فَكَيْفَ يُسَوَّى مَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَنْ لَيْسُوا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
ثَانِيهَا: تَبْهِيلُهُمْ فِي جَعْلِهِمْ أَسْمَاءً لَا مُسَمَّيَاتِ لَهَا آلِهَةً.
ثَالِثُهَا: إِبْطَالُ كَوْنِ أَصْنَامِهِمْ آلِهَة بِأَن الله لَا يَعْلَمَهَا آلِهَةً، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنَ انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهَا.
153
رَابِعُهَا: أَنَّ ادِّعَاءَهُمْ آلِهَةً مُجَرَّدُ كَلَامٍ لَا انْطِبَاقَ لَهُ مَعَ الْوَاقِعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ.
خَامِسُهَا: أَنَّ ذَلِكَ تَمْوِيهٌ بَاطِلٌ رَوَّجَهُ فِيهِمْ دُعَاةُ الْكُفْرِ، وَهُوَ مَعْنَى تَسْمِيَتِهِ مَكْرًا فِي قَوْلِهِ: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ.
سَادِسُهَا: أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى.
وَعَطْفُ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ عَلَى جُمْلَةِ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِفَتْحِ الصَّادِ- فَهُوَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ مَضْمُونِ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ:
فَالْأَوْلَى بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمْ مَفْعُولَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمْ فَاعِلَيْنِ لِلصَّدِّ بَعْدَ أَنِ انْفَعَلُوا بِالْكُفْرِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ وَصُدُّوا- بِضَمِّ الصَّادِ- فَهُوَ كَجُمْلَةِ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فِي كَوْنِ مَضْمُونِ كِلْتَيْهِمَا جَعْلُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَفْعُولًا لِلتَّزْيِينِ وَالصَّدِّ.
وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ تَذْيِيلٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ.
وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَابْنِ كَثِيرٍ فِي إِثْبَاتِ يَاءِ هادٍ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فِي هَذِه السُّورَة [٧].
[٣٤]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣٤]
لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٣٤)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرَّعْد: ٣٣] لِأَن هَذَا التبديد يومىء إِلَى وَعِيدٍ يُسْأَلُ عَنْهُ السَّامِعُ. وَفِيهِ تَكْمِلَةٌ لِلْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ مَعَ زِيَادَةِ الْوَعِيدِ بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَتَنْكِيرُ عَذابٌ
لِلتَّعْظِيمِ، وَهُوَ عَذَابُ الْقَتْلِ وَالْخِزْيِ وَالْأَسْرِ. وَإِضَافَةُ عَذابٌ
إِلَى الْآخِرَةِ
عَلَى مَعْنَى فِي.
وَ (مِنَ) الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِتَعْدِيَةِ واقٍ.
وَ (مِنَ) الدَّاخِلَةُ عَلَى واقٍ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ.
وَالْوَاقِي: الْحَائِلُ دُونَ الضُّرِّ. وَالْوِقَايَةُ مِنَ اللَّهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ عَذَابِهِ بِقَرِينَةِ مَا ذكر قبله.
[٣٥]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ يَرْتَبِطُ بُقُولِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ [سُورَة الرَّعْد: ٢٩]. ذُكِرَ هُنَا بِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ ضِدِّهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
[الرَّعْد:
٣٤].
وَالْمَثَلُ: هُنَا الصِّفَةُ الْعَجِيبَةُ، قِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ مِنْ مَعَانِي الْمَثَلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النَّحْل: ٦٠]، وَقِيلَ: هُوَ مُسْتَعَارٌ مِنَ الْمَثَلِ الَّذِي هُوَ الشَّبِيهُ فِي حَالَةٍ عَجِيبَةٍ أُطْلِقَ عَلَى الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ غَيْرِ الشَّبِيهَةِ لِأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِالتَّشْبِيهِ بِهَا.
وَجُمْلَةُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خَبَرٌ عَنْ مَثَلُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مِنْ أَحْوَالِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَهِيَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُضَافِ لِشِدَّةِ الْمُلَابَسَةِ بَيْنَ الْمُتَضَايِفَيْنِ، كَمَا يُقَالُ: صِفَةُ زَيْدِ أَسْمَرُ.
وَجُمْلَةُ أُكُلُها دائِمٌ خَبَرٌ ثَانٍ، وَالْأُكُلُ بِالضَّمِّ: الْمَأْكُولُ، وَتَقَدَّمَ.
وَدَوَامُ الظِّلِّ كِنَايَةٌ عَنِ الْتِفَافِ الْأَشْجَارِ بِحَيْثُ لَا فَرَاغَ بَيْنِهَا تَنْفُذُ مِنْهُ الشَّمْسُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً [سُورَة النبأ: ١٦]، وَذَلِكَ مِنْ مَحَامِدِ الْجَنَّاتِ وَمَلَاذِّهَا.
وَجُمْلَةُ تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْجَنَّةِ بِصِفَاتِهَا بِحَيْثُ صَارَتْ كَالْمُشَاهَدَةِ، وَالْمَعْنَى: تِلْكَ هِيَ الَّتِي سَمِعْتُمْ أَنَّهَا عُقْبَى الدَّارِ لِلَّذِينِ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إِلَى قَوْله: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ- إِلَى قَوْلِهِ- فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [سُورَة الرَّعْد: ٢٤] هِيَ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَوَّلُ مَرَاتِبِ التَّقْوَى الْإِيمَانُ. وَجُمْلَةُ وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْمُنَاسَبَةِ بِالْمُضَادَّةِ. وَهِيَ كَالْبَيَانِ لِجُمْلَةِ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ.
[٣٦]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣٦]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦)
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ.
الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ. وَهَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ انْتُقِلَ بِهِ إِلَى فَضْلٍ لِبَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حُسْنِ تَلَقِّيهِمْ لِلْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ [سُورَة الرَّعْد: ٣٠] إِلَخَّ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ عَلَى أُسْلُوبِهَا فِي التَّعْقِيبِ بِجُمْلَةِ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ [سُورَة الرَّعْد: ٣٦].
وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ أَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ انْقَسَمُوا فِي التَّصْدِيقِ بِالْقُرْآنِ فِرَقًا فَفَرِيقٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَفَرِيقٌ كَفَرُوا بِهِ وَهُمْ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ [سُورَة الرَّعْد: ٣٠]، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمَفْهُومِينَ مِنَ الْمَقَامِ كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْقُرْآنِ.
وَهَذَا فَرِيقٌ آخَرُ أَيْضًا أَهْلُ الْكِتَابِ وَهُوَ مُنْقَسِمٌ أَيْضًا فِي تَلَقِّي الْقُرْآنِ فِرْقَتَيْنِ: فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ صَدَّقُوا بِالْقُرْآنِ وَفَرِحُوا بِهِ وَهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٨٣]، وَكُلُّهُمْ مِنَ النَّصَارَى مِثْلَ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ بَلَغَهُمُ الْقُرْآنُ أَيَّامَ مَقَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَهُمْ دَعْوَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْيَهُودَ
156
كَانُوا قَدْ سُرُّوا بِنُزُولِ الْقُرْآنِ مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ، وَكَانُوا يَحْسَبُونَ دَعْوَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُورَةً عَلَى الْعَرَبِ فَكَانَ الْيَهُودُ يَسْتَظْهِرُونَ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [سُورَة الْبَقَرَة: ٨٩]. وَكَانَ النَّصَارَى يَسْتَظْهِرُونَ بِهِ عَلَى الْيَهُودِ وَفَرِيقٌ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمُ الْفَرَحُ بِالْقُرْآنِ وَهُمْ مُعْظَمُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْبُعَدَاءُ عَنْ مَكَّةَ وَمَا كَفَرَ الْفَرِيقَانِ بِهِ إِلَّا حِينَ عَلِمُوا أَنَّ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ عَامَّةٌ.
وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَظْهَرُ بَلَاغَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِ يَفْرَحُونَ دُونَ يُؤْمِنُونَ. وَإِنَّمَا سَلَكْنَا هَذَا الْوَجْهَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ كَانَ نُزُولُهَا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَبَعْضُ نَصَارَى نَجْرَانَ وَبَعْضُ نَصَارَى الْيَمَنِ، فَإِنْ كَانَت السُّورَة مَدِينَة أَوْ كَانَ هَذَا مِنَ الْمَدَنِيِّ فَلَا إِشْكَالَ. فَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ الَّذِينَ أُوتُوهُ إِيتَاءً كَامِلًا، وَهُوَ الْمُجَرَّدُ عَنِ الْعَصَبِيَّةِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَعَنِ الْحَسَدِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٢١].
فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْزَابِ أَحْزَابُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٣٧]، أَيْ وَمِنْ أَحْزَابِهِمْ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَ الْقُرْآنِ، فَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ هُمْ خُبَثَاؤُهُمْ وَدُهَاتُهُمُ الَّذِينَ تَوَسَّمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ يُبْطِلُ شَرَائِعَهُمْ فَأَنْكَرُوا بَعْضَهُ، وَهُوَ مَا فِيهِ مِنِ الْإِيمَاءِ إِلَى ذَلِكَ مِنْ إِبْطَالِ أُصُولِ عَقَائِدِهِمْ مِثْلَ عُبُودِيَّةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالنِّسْبَةِ لِلنَّصَارَى، وَنُبُوءَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَهُودِ.
وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْأَحْزَابِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُتَحَزِّبُونَ الْمُتَصَلِّبُونَ لِقَوْمِهِمْ وَلِمَا كَانُوا عَلَيْهِ. وَهَكَذَا كَانَتْ حَالَةُ اضْطِرَابِ أهل الْكتاب عِنْد مَا دَمْغَتْهُمْ بَعْثَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ يَفْشُو.
157
قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ
أُمِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْلِنَ لِلْفَرِيقَيْنِ بِأَنَّهُ مَا أُمِرَ إِلَّا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [سُورَة آل عمرَان: ٦٤]، فَمَنْ فَرِحَ بِالْقُرْآنِ فَلْيَزْدَدْ فَرَحًا وَمَنْ أَنْكَرَ بَعْضَهُ فَلْيَأْخُذْ بِمَا لَا يُنْكِرُهُ وَهُوَ عَدَمُ الْإِشْرَاكِ. وَقَدْ كَانَ النَّصَارَى يتبرؤون مِنَ الشِّرْكِ وَيَعُدُّونَ اعْتِقَادَ بُنُوَّةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- غَيْرَ شِرْكٍ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُجَارَاةِ الْخَصْمِ وَاسْتِنْزَالِ طَائِرِ نَفْسِهِ كَيْلَا يَنْفِرَ مِنَ النَّظَرِ. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ مَوْقِعَ جُمْلَةِ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ بَعْدَ جُمْلَةِ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ وَأَنَّهَا جَوَابٌ لِلْفَرِيقَيْنِ.
وَأَفَادَتْ إِنَّما أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ إِلَّا بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا يُشْرِكَ بِهِ، أَيْ لَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ، فَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَجْمُوعَ شَيْئَيْنِ: عِبَادَةَ اللَّهِ، وَعَدَمَ الْإِشْرَاكِ بِهِ فِي ذَلِكَ آلَ الْمَعْنَى: أَنِّي مَا أُمِرْتُ إِلَّا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ.
وَمِنْ بَلَاغَةِ الْجَدَلِ الْقُرْآنِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ بَلْ أَتَى بِهِ مُتَدَرِّجًا فِيهِ فَقَالَ: أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ لِأَنَّهُ لَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُ وَلا أُشْرِكَ بِهِ لِإِبْطَالِ إِشْرَاكِ الْمُشْرِكِينَ وَلِلتَّعْرِيضِ بِإِبْطَالِ إِلَهِيَّةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّ ادِّعَاءَ بُنُوَّتِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَؤُولُ إِلَى الْإِشْرَاكِ.
وَجُمْلَة إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ، أَيْ أَنْ أَعْبُدَهُ وَأَنْ أَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَمُرَ بِذَلِكَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ اسْتُفِيدَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ.
158
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ أَدْعُو، أَيْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَإِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ مَئَابِي، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُرْجِعُونَ فِي مُهِمَّهُمْ إِلَى الْأَصْنَامِ يَسْتَنْصِرُونَهَا وَيَسْتَغِيثُونَهَا، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ هَذَا مَا يُنْكِرُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ إِذْ هُوَ مِمَّا كَانُوا فِيهِ سَوَاءً مَعَ الْإِسْلَامِ. عَلَى أَنَّ قَوْله: وَإِلَيْهِ مَآبِ يَعُمُّ الرُّجُوعَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْبَعْثُ.
وَهَذَا مِنْ وُجُوهِ الْوِفَاقِ فِي أَصْلِ الدِّينِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ.
وَحَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلّم من مآبي كَحَذْفِهَا فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ [الرَّعْد: ٣٠]، وَقَدْ مضى قَرِيبا.
[٣٧]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣٧]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧)
اعْتِرَاضٌ وَعَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الرَّعْد: ٣٦] لَمَّا ذَكَرَ حَالُ تَلَقِّي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ لِلْقُرْآنِ عِنْدَ نُزُولِهِ عَرَّجَ عَلَى حَالِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ بِسُوءِ تَلَقِّي مُشْرِكِيهِ لَهُ مَعَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِحُسْنِ تَلَقِّيهِ إِذْ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَتَنْوِيرُ عُقُولِهِمْ. وَقَدْ جُعِلَ أَهَمَّ هَذَا الْغَرَضِ التَّنْوِيهُ بِعُلُوِّ شَأْنِ الْقُرْآنِ لَفْظًا معنى. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ تَعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ.
وَالْقَوْلُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ [سُورَة الرَّعْد: ٣٠].
وَضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي أَنْزَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي قَوْله: يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ.
159
وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ نَائِبٌ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَالتَّقْدِيرُ أَنْزَلْنَاهُ إِنْزَالًا كَذَلِكَ الْإِنْزَالُ.
وحُكْماً عَرَبِيًّا حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ أَنْزَلْناهُ. وَالْحُكْمُ: هُنَا بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [سُورَة مَرْيَم: ١٢]. وَجُعِلَ نَفْسُ الْحُكْمِ حَالًا مِنْهُ مُبَالَغَةً.
وَالْمُرَادُ أَنَّهُ ذُو حُكْمٍ، أَيْ حِكْمَةٍ. وَالْحِكْمَةُ تَقَدَّمَتْ.
وعَرَبِيًّا حَالٌ ثَانِيَةٌ وَلَيْسَ صِفَةً لِ حُكْماً إِذِ الْحِكْمَةُ لَا تُوصَفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَمِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ حِكْمَةٌ مُعَبَّرٌ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي هِيَ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَجْمَلُهَا وَأَسْهَلُهَا، وَفِي ذَلِكَ إِعْجَازُهُ. فَحَصَلَ لِهَذَا الْكِتَابِ كِمَالَانِ: كَمَالٌ مِنْ جِهَةِ مَعَانِيهِ وَمَقَاصِدِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ حُكْمًا، وَكَمَالٌ مِنْ جِهَةِ أَلْفَاظِهِ وَهُوَ الْمُكَنَّى عَنْهُ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَذَلِكَ مَا لَمْ يَبْلُغْ إِلَيْهِ كِتَابٌ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ أَشْرَفُ الْمَعْقُولَاتِ فَيُنَاسِبُ شَرَفَهَا أَنْ يَكُونَ إِبْلَاغُهَا بِأَشْرَفِ لُغَةٍ وَأَصْلَحِهَا لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الْحِكْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [سُورَة الشُّعَرَاء: ١٩٢- ١٩٥].
ثُمَّ فِي كَوْنِهِ عَرَبِيًّا امْتِنَانٌ عَلَى الْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ ابْتِدَاءً بِأَنَّهُ بِلُغَتِهِمْ وَبِأَنَّ فِي ذَلِكَ
حُسْنَ سُمْعَتِهِمْ، فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَفْنِ رَأْيِ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ إِذْ لَمْ يَشْكُرُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ١٠]. قَالَ مَالِكٌ:
فِيهِ بَقَاءُ ذِكْرِكُمْ.
وَجُمْلَةُ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مُعْتَرِضَةٌ، وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقِسْمِ وَضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: أَهْواءَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ وُجِّهَ إِلَيْهِمُ الْكَلَامُ.
وَاتِّبَاعُ أَهْوَائِهِمْ يَحْتَمِلُ السَّعْيَ لِإِجَابَةِ طَلَبَتِهِمْ إِنْزَالَ آيَةٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهُ إِجَابَتَهُمْ لِمَا طَلَبُوهُ كَمَا قَالَ لِنُوحٍ- عَلَيْهِ السّلام- فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
160
وَمَعْنَى مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا بَلَغَكَ وَعُلِّمْتَهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَوْصُولِ الْقُرْآنُ تَنْوِيهًا بِهِ، أَيْ لَئِنْ شَايَعْتَهُمْ فسألتنا آيَة ير الْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ نُزِّلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، أَوْ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمْنَاكَ أَنَّا غَيْرُ مُتَنَازِلِينَ لِإِجَابَةِ مُقْتَرَحَاتِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ اتِّبَاعُ دِينِهِمْ فَإِنَّ دِينَهُمْ أَهْوَاءٌ وَيكون مَا صدق مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ.
وَالْوَلِيُّ: النَّصِيرُ. وَالْوَاقِي: الْمُدَافِعُ.
وَجُعِلَ نَفْيُ الْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ كِنَايَةً عَنِ الْجَوَابِ، وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ وَالْعُقُوبَةُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَرْكَنُوا إِلَى تَمْوِيهَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى دِينِهِمْ تَهْيِيجًا لِتَصَلُّبِهِمْ فِي دِينِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سُورَة الزمر: ٦٥]، وَتَأْيِيسُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الطَّمَعِ فِي مَجِيءِ آيَةٍ تُوَافِقُ مُقْتَرَحَاتِهِمْ.
ومِنَ الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ تَتَعَلَّقُ بِ وَلِيٍّ وواقٍ. ومِنَ الدَّاخِلَةُ عَلَى وَلِيٍّ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ تَنْصِيصًا عَلَى الْعُمُومِ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَابْنِ كَثِيرٍ فِي حَذْفِهِمْ يَاءَ واقٍ فِي حَالَتَيِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَإِثْبَاتِ ابْنِ كَثِيرٍ الْيَاءَ فِي حَالَةِ الْوَقْفِ دُونَ الْوَصْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فِي هَذِهِ السُّورَة [الرَّعْد: ٧].
[٣٨، ٣٩]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : الْآيَات ٣٨ الى ٣٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.
هَذَا عَوْدٌ إِلَى الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِنْكَارِهِمْ آيَةَ الْقُرْآنِ وَتَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِآيَةٍ مِنْ مُقْتَرَحَاتِهِمْ تُمَاثِلُ مَا يُؤْثَرُ مِنْ آيَاتِ مُوسَى وَآيَاتِ عِيسَى-
161
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- بِبَيَانِ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَأْتِي بِآيَاتٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَلَى مُقْتَرَحَاتِ الْأَقْوَامِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا [الرَّعْد: ٣٧].
وَأُدْمِجَ فِي هَذَا الرَّدِّ إِزَالَةُ شُبْهَةٍ قَدْ تَعْرِضُ أَوْ قَدْ عَرَضَتْ لِبَعْضِ الْمُشْرِكِينَ فَيَطْعَنُونَ أَوْ طعنوا فِي نبوءة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَأَنَّ شَأْنَ النَّبِيءِ أَنْ لَا يَهْتَمَّ بِالنِّسَاءِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ وَقِيلَ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَيْسَتْ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا فِي النِّسَاءِ اه. فَتَعَيَّنَ إِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّ الْقَائِلِينَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ إِذْ هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ لِلْيَهُودِ حَدِيثٌ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَا كَانَ مِنْهُمْ فِي مَكَّةَ أَحَدٌ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا نَازِلًا عَلَى سَبَبٍ. وَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ ثُمَّ سَوْدَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي مَكَّةَ فَاحْتَمَلَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا قَالَةَ إِنْكَارٍ تَعَلُّقًا بِأَوْهَنِ أَسْبَابِ الطَّعْنِ فِي النُّبُوءَةِ. وَهَذِهِ شُبْهَةٌ تَعْرِضُ لِلسُّذَّجِ أَوْ لِأَصْحَابِ التَّمْوِيهِ، وَقَدْ يُمَوِّهُ بِهَا الْمُبَشِّرُونَ مِنَ النَّصَارَى عَلَى ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ فَيُفَضِّلُونَ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ عِيسَى لَمْ يَتَزَوَّجِ النِّسَاءَ. وَهَذَا لَا يَرُوجُ عَلَى الْعُقَلَاءِ لِأَنَّ تِلْكَ بَعْضُ الْحُظُوظِ الْمُبَاحَةِ لَا تَقْتَضِي تَفْضِيلًا. وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ فِي كُلِّ عَمَلٍ بِمَقَادِيرِ الْكِمَالَاتِ الدَّاخِلَةِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ. وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ الْحِكْمَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا لَمْ يَتَزَوَّجْ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- امْرَأَةً. وَقَدْ كَانَ يَحْيَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَصُورًا فَلَعَلَّ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَدْ كَانَ مِثْلَهُ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُهُ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَبِمَا لَمْ يُكَلِّفْ بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَأَمَّا وَصْفُ اللَّهِ يَحْيَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ: وَحَصُوراً فَلَيْسَ مَقْصُودًا مِنْهُ أَنَّهُ فَضِيلَةٌ وَلَكِنَّهُ أَعْلَمَ أَبَاهُ زَكَرِيَّاءَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ نَسْلٌ لِيَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ أَجَابَ دَعْوَتَهُ فَوَهَبَ لَهُ يَحْيَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَرَامَةً لَهُ، ثُمَّ قَدَّرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ نَسْلٌ إِنْفَاذًا لِتَقْدِيرِهِ فَجَعَلَ امْرَأَتَهُ عَاقِرًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَدْ
162
كَانَ لِأَكْثَرِ الرُّسُلِ أَزْوَاجٌ وَلِأَكْثَرِهِمْ ذَرِّيَّةٌ مِثْلَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَمُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-.
وَالْأَزْوَاجُ: جَمَعُ زَوْجٍ، وَهُوَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، فَقَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ الرُّسُلِ زَوْجَةٌ وَاحِدَةٌ مِثْلَ: نُوحٍ وَلُوطٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، وَقَدْ يَكُونُ لِلْبَعْضِ عِدَّةُ زَوْجَاتٍ مِثْلَ:
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الرَّدِّ هُوَ عَدَمُ مُنَافَاةِ اتِّخَاذِ الزَّوْجَةِ لِصِفَةِ الرِّسَالَةِ لَمْ يَكُنْ دَاعٍ إِلَى تَعْدَادِ بَعْضِهِمْ زَوْجَاتٍ كَثِيرَةً.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الزَّوْجِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٥].
وَالذُّرِّيَّةُ: النَّسْلُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤].
وَجُمْلَةُ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ هِيَ الْمَقْصُودُ وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ. وَتَرْكِيبُ مَا كانَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١١٦]. وَالْمَعْنَى: أَنَّ شَأْنَكَ شَأْنُ مَنْ سَبَقَ مِنَ الرُّسُلِ لَا يَأْتُونَ مِنَ الْآيَاتِ إِلَّا بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ.
وَإِذْنُ اللَّهِ: هُوَ إِذْنُ التَّكْوِينِ لِلْآيَاتِ وَإِعْلَامُ الرَّسُولِ بِأَنْ سَتَكُونُ آيَةً، فَاسْتُعِيرَ الْإِتْيَانُ لِلْإِظْهَارِ، وَاسْتُعِيرَ الْإِذْنُ لِلْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ.
163
لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩).
تَذْيِيلٌ لِأَنَّهُ أَفَادَ عُمُومَ الْآجَالِ فَشَمِلَ أَجَلَ الْإِتْيَانِ بِآيَةٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَذَلِكَ إِبْطَالٌ لِتَوَهُّمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ تَأَخُّرَ الْوَعِيدِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِدْقِهِ. وَهَذَا يُنْظِرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ [سُورَة العنكبوت: ٥٣] فَقَدَ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ الْآيَة [سُورَة الْأَنْفَال: ٣٢].
وَإِذْ قَدْ كَانَ مَا سَأَلُوهُ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَاتِ وَكَانَ مَا وَعَدُوهُ آيَةً عَلَى صِدْقِ الرِّسَالَةِ نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ هُنَا أَنَّ تَأْخِيرَ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ حُصُولِهِ، فَإِنَّ لِذَلِكَ آجَالًا أَرَادَهَا اللَّهُ وَاقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِخَلْقِهِ وَشُؤُونِهِمْ وَلَكِنَّ الْجَهَلَةَ يَقِيسُونَ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ بِمِثْلِ مَا
تَجْرِي بِهِ تَصَرُّفَاتُ الْخَلَائِقِ.
وَالْأَجَلُ: الْوَقْتُ الْمُوَقَّتُ بِهِ عَمَلٌ مَعْزُومٌ أَوْ مَوْعُودٌ.
وَالْكِتَابُ: الْمَكْتُوبُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّحْدِيدِ وَالضَّبْطِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُرَادُ تَحَقُّقُهَا أَنْ تُكْتَبَ لِئَلَّا يُخَالَفَ عَلَيْهَا. وَفِي هَذَا الرَّدِّ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ. وَالْمَعْنَى: لِكُلِّ وَاقِعٍ أَجَلٌ يَقَعُ عِنْدَهُ، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، أَيْ تَعْيِينٌ وَتَحْدِيدٌ لَا يَتَقَدَّمُهُ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنهُ.
وَجُمْلَة يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ جُمْلَةَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ تَقْتَضِي أَنَّ الْوَعِيدَ كَائِنٌ وَلَيْسَ تَأْخِيرُهُ مُزِيلًا لَهُ. وَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ تَأْيِيسٌ لِلنَّاسِ عَقَّبَ بِالْإِعْلَامِ بِأَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ وَبِإِحْلَالِ الرَّجَاءِ مَحَلَّ الْيَأْسِ، فَجَاءَت جملَة يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ احْتِرَاسًا.
وَحَقِيقَةُ الْمَحْوِ: إِزَالَةُ شَيْءٍ، وَكَثُرَ فِي إِزَالَةِ الْخَطِّ أَوِ الصُّورَةِ، وَمَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى عَدَمِ الْمُشَاهَدَةِ، قَالَ تَعَالَى: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ
164
مُبْصِرَةً [سُورَة الْإِسْرَاء:
١٢]. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى تَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ وَتَبْدِيلِ الْمَعَانِي كَالْأَخْبَارِ وَالتَّكَالِيفِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَإِنَّ لَهَا نَسَبًا وَمَفَاهِيمَ إِذَا صَادَفَتْ مَا فِي الْوَاقِعِ كَانَتْ مُطَابَقَتُهَا إِثْبَاتًا لَهَا وَإِذَا لَمْ تَطَابِقْهُ كَانَ عَدَمُ مُطَابَقَتِهَا مَحْوًا لِأَنَّهُ إِزَالَة لمدلولاتها.
والتثبت: حَقِيقَتُهُ جَعْلُ الشَّيْءِ ثَابِتًا قَارًّا فِي مَكَانٍ، قَالَ تَعَالَى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [سُورَة الْأَنْفَال: ٤٥]. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى أَضْدَادِ مَعَانِي الْمَحْوِ الْمَذْكُورَةِ. فَيَنْدَرِجُ فِي مَا تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ عِدَّةُ مَعَانٍ: مِنْهَا أَنَّهُ يُعْدِمُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَيُبْقِي مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَيَعْفُو عَمَّا يَشَاءُ مِنَ الْوَعِيدِ وَيُقْرِرُ، وَيَنْسَخُ مَا يَشَاءُ مِنَ التَّكَالِيفِ وَيُبْقِي مَا يَشَاءُ.
وَكُلُّ ذَلِكَ مَظَاهِرٌ لِتَصَرُّفِ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَإِذْ قَدْ كَانَتْ تَعَلُّقَاتُ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ جَارِيَةً عَلَى وَفْقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مَا فِي عِلْمِهِ لَا يَتَغَيَّرُ فَإِنَّهُ إِذَا أَوْجَدَ شَيْئًا كَانَ عَالِمًا أَنَّهُ سَيُوجِدُهُ، وَإِذَا أَزَالَ شَيْئًا كَانَ عَالِمًا أَنَّهُ سَيُزِيلُهُ وَعَالِمًا بِوَقْتِ ذَلِكَ.
وَأُبْهِمُ الْمَمْحُوُّ وَالْمُثَبَّتُ بِقَوْلِهِ: مَا يَشاءُ لِتَتَوَجَّهَ الْأَفْهَامُ إِلَى تَعَرُّفِ ذَلِكَ وَالتَّدَبُّرِ فِيهِ لِأَن تَحت ذَا الْمَوْصُولِ صُوَرًا لَا تُحْصَى، وَأَسْبَابُ الْمَشِيئَةِ لَا تُحْصَى.
وَمِنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَحْوَ الْوَعِيدِ أَنْ يُلْهِمَ الْمُذْنِبِينَ التَّوْبَةَ وَالْإِقْلَاعَ وَيَخْلُقَ فِي قُلُوبِهِمْ دَاعِيَةَ الِامْتِثَالِ. وَمِنْ مَشِيئَةِ التَّثْبِيتِ أَنْ يَصْرِفَ قُلُوبَ قَوْمٍ عَنِ النَّظَرِ فِي تَدَارُكِ أُمُورِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعَكْسِ مِنْ تَثْبِيتِ الْخَيْرِ وَمَحْوِهِ.
وَمِنْ آثَارِ الْمَحْوِ تَغَيُّرُ إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَشْخَاصِ، فَبَيْنَمَا تَرَى الْمُحَارِبَ مَبْحُوثًا عَنْهُ مَطْلُوبًا لِلْأَخْذِ فَإِذَا جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ وَرُفِعَ عَنْهُ ذَلِكَ الطَّلَبُ، وَكَذَلِكَ إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا آمَنُوا وَدَخَلُوا تَحْتَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ.
وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي ظُهُورِ آثَارِ رِضَى اللَّهِ أَوْ غَضَبِهِ عَلَى الْعَبْدِ فَبَيْنَمَا تَرَى
165
أَحَدًا مَغْضُوبًا عَلَيْهِ مَضْرُوبًا عَلَيْهِ الْمَذَلَّةُ لِانْغِمَاسِهِ فِي الْمَعَاصِي إِذَا بِكَ تَرَاهُ قَدْ أَقْلَعَ وَتَابَ فَأَعَزَّهُ اللَّهُ وَنَصَرَهُ.
وَمِنْ آثَارِ ذَلِكَ أَيْضًا تَقْلِيبُ الْقُلُوبِ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ الْبَغْضَاءَ مَحَبَّةً، كَمَا قَالَتْ هِنْدُ بنت عتبَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَتْ: «مَا كَانَ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يُذِلِّوُا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ وَالْيَوْمَ أَصْبَحْتُ وَمَا أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يُعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ».
وَقَدْ مَحَا اللَّهُ وَعِيدَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَرَفَعَ عَنْهُمُ السَّيْفَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا مُسْلِمِينَ، وَلَوْ شَاءَ لَأَمَرَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْتِئْصَالِهِمْ حِينَ دُخُولِهِ مَكَّةَ فَاتِحًا.
وَبِهَذَا يَتَحَصَّلُ أَنَّ لَفْظَ مَا يَشاءُ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَشَاؤُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ مُجْمَلٌ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ بِالْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ، وَذَلِكَ لَا تَصِلُ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ إِلَى بَيَانِهِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْأَخْبَارِ الْمَأْثُورَةِ مَا يُبَيِّنُهُ إِلَّا الْقَلِيلُ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي صِحَّةِ أَسَانِيدِهِ. وَمِنَ الصَّحِيحِ فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا»
. وَالَّذِي يَلُوحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ مَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَا يَقْبَلُ مَحْوًا، فَهُوَ ثَابِتٌ وَهُوَ قَسِيمٌ لِمَا يَشَاءُ اللَّهُ مَحْوَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ هُوَ عَيْنُ مَا يَشَاءُ اللَّهُ مَحْوَهُ أَوْ إِثْبَاتَهُ سَوَاءً كَانَ تَعْيِينًا بِالْأَشْخَاصِ أَوْ بِالذَّوَاتِ أَوْ بِالْأَنْوَاعِ وَسَوَاءً كَانَتِ الْأَنْوَاعُ مِنَ الذَّوَاتِ أَوْ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَأَنَّ جُمْلَةَ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أَفَادَتْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
166
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ مُرَادًا بِهِ الْكُتَّابُ الَّذِي كُتِبَتْ بِهِ الْآجَالُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ، وَأَنَّ الْمَحْوَ فِي غَيْرِ الْآجَالِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُمُّ الْكِتَابِ مُرَادًا بِهِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ يَمْحُو وَيُثْبِتُ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ الشَّيْءَ سَيُمْحَى أَوْ يُثْبَتُ.
وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ إِلَّا السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ وَالْمَوْتَ». وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ
. وَرُوِيَ عَنِ ابْن عَبَّاس يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ إِلَّا أَشْيَاءَ الْخَلْقَ- بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ- وَالْخُلُقَ- بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ- وَالْأَجَلَ وَالرِّزْقَ وَالسَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ. قُلْتُ: وَقَدْ تَفَرَّعَ عَلَى هَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ: إِنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ لَا يَتَبَدَّلَانِ خِلَافًا لِلْمَاتُرِيدِيِّ.
وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ يَقْبَلَانِ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ.
فَإِذَا حُمِلَ الْمَحْوُ عَلَى مَا يَجْمَعُ مَعَانِيَ الْإِزَالَةِ، وَحُمِلَ الْإِثْبَاتُ عَلَى مَا يَجْمَعُ مَعَانِيَ الْإِبْقَاءِ، وَإِذَا حُمِلَ مَعْنَى أُمُّ الْكِتابِ عَلَى مَعْنَى مَا لَا يَقْبَلُ إِزَالَةَ مَا قُرِّرَ أَنَّهُ حَاصِلٌ أَوْ أَنَّهُ مَوْعُودٌ بِهِ وَلَا يَقْبَلُ إِثْبَاتَ مَا قُرِّرَ انْتِفَاؤُهُ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَخْبَارُ وَالْأَحْكَامُ، كَانَ مَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ قَسِيمًا لِمَا يُمْحَى وَيُثْبَتُ.
وَإِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّ مَا يَقْبَلُ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ مَعْلُومٌ لَا يَتَغَيَّرُ عِلْمُ اللَّهِ بِهِ كَانَ مَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ تَنْبِيهًا على أَن التغييرات الَّتِي تَطْرَأُ عَلَى الْأَحْكَامِ أَوْ عَلَى الْأَخْبَارِ مَا هِيَ إِلَّا تغييرات مُقَرَّرَةٌ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّمَا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِيجَادِهَا أَوْ عَنْ إِعْدَامِهَا مُظْهِرًا لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي وَقْتٍ مَا.
وأُمُّ الْكِتابِ لَا مَحَالَةَ شَيْءٌ مُضَافٌ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ. فَإِنَّ طَرِيقَةَ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ أَنْ تَكُونَ
167
الْمُعَادَةُ عَيْنَ الْأُولَى بِأَنْ يُجْعَلَ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، أَيْ وَعِنْدَهُ أُمُّ ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَهُوَ كِتَابُ الْأَجَلِ.
فَكَلِمَةُ أُمُّ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِيمَا يُشْبِهُ الْأُمَّ فِي كَوْنِهَا أَصْلًا لِمَا تُضَافُ إِلَيْهِ أُمُّ لِأَنَّ الْأُمَّ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْمَوْلُودُ فَكَثُرَ إِطْلَاقُ أُمِّ الشَّيْءِ عَلَى أَصْلِهِ، فَالْأُمُّ هَنَا مُرَادٌ بِهِ مَا هُوَ أَصْلٌ لِلْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ مَظَاهِرَ قَوْلِهِ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ، أَيْ لِمَا مَحْوُ وَإِثْبَاتُ الْمَشِيئَاتِ مَظَاهِرُ لَهُ وَصَادِرَةٌ عَنْهُ، فَأُمُّ الْكِتَابِ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا سَيُرِيدُ مَحْوَهُ وَمَا سَيُرِيدُ إِثْبَاتَهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ الِاسْتِئْثَارِ بِالْعِلْمِ وَمَا يَتَصَرَّفُ عَنْهُ، أَيْ وَفِي مِلْكِهِ وَعِلْمِهِ أُمُّ الْكِتَابِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ. وَلَكِنَّ النَّاسَ يَرَوْنَ مَظَاهِرَهَا دُونَ اطِّلَاعٍ عَلَى مَدَى ثَبَاتِ تِلْكَ الْمَظَاهِرِ وَزَوَالِهَا، أَيْ أَنَّ اللَّهَ الْمُتَصَرِّفُ بِتَعْيِينِ الْآجَالِ وَالْمَوَاقِيتِ فَجَعَلَ لِكُلِّ أَجَلٍ حَدًّا مُعِينًا، فَيَكُونُ أَصْلُ الْكِتَابِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ بِمَعْنَى كُلِّهِ وَقَاعِدَتِهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ فِي الْكِتابِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ أُمُّ أَصْلُ مَا يُكْتَبُ، أَيْ يُقَدَّرُ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الْحَوَادِثِ فَهُوَ الَّذِي لَا يُغَيَّرُ، أَيْ يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَفِي الْآثَارِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، وَعِنْدَهُ ثَابِتُ التَّقَادِيرِ كُلِّهَا غَيْرِ مُتَغَيِّرَةٍ.
وَالْعِنْدِيَّةُ عَلَى هَذَا عِنْدِيَّةُ الِاخْتِصَاصِ، أَيِ الْعِلْمُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ فِيمَا يُبَلِّغُ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا سَتَكُونُ عَلَيْهِ الْأَشْيَاءُ وَمَا تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ، فَاللَّهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْ سَيُؤْمِنُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا يُؤْمِنُ فَلَا يَفْجَؤُهُ حَادِثٌ. وَيَشْمَلُ ذَلِكَ نَسْخَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ فَهُوَ يُشَرِّعُهَا لِمَصَالِحَ ثُمَّ يَنْسَخُهَا لِزَوَالِ أَسْبَابِ شَرْعِهَا وَهُوَ فِي حَالِ شَرْعِهَا يعلم أَنَّهَا آئلة إِلَى أَنْ تُنْسَخَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيُثْبِتُ- بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ- مِنْ ثَبَّتَ الْمُضَاعَفِ. وَقَرَأَهُ
168
ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ وَيُثْبِتُ- بِسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيف الْمُوَحدَة-.
[٤٠]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٤٠]
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠)
عُطِفَ على جملَة يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ [الرَّعْد: ٣٩] بِاعْتِبَارِ مَا تُفِيدُهُ مِنْ إِبْهَامِ مُرَادِ اللَّهِ فِي آجَالِ الْوَعِيدِ وَمَوَاقِيتِ إِنْزَالِ الْآيَاتِ، فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِالِاشْتِغَالِ بِذَلِكَ وَلَا بِتَرَقُّبِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا يُحَاسِبُ بِهِ عِبَادَهُ سَوَاءٌ شَهِدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أَمْ لَمْ يَشْهَدْهُ.
وَجَعَلَ التَّوَفِّيَ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ رُؤْيَةِ حُلُولِ الْوَعِيدِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بُقُولِهِ: نُرِيَنَّكَ.
وَالْمَعْنَى: مَا عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ سَوَاءً رَأَيْتَ عَذَابَهُمْ أَمْ لَمْ تَرَهُ.
وَفِي الْإِتْيَانِ بِكَلِمَةِ بَعْضَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ يَرَى الْبَعْضَ. وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ لَهُمْ بِأَنَّ الْوَعِيدَ نَازِلٌ بِهِمْ وَلَوْ تَأَخَّرَ وَأَنَّ هَذَا الدِّينَ يَسْتَمِرُّ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَعِيدُ الَّذِي أَمَرَ بِإِبْلَاغِهِ وَاقِعًا وَلَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَبِالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ شَرْعُهُ الَّذِي لِأَجْلِهِ جَاءَ وَعِيدُ الْكَافِرِينَ بِهِ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا بَعْدَهُ، ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَسِيلَةَ لَا تَكُونُ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِأَشَدَّ مِنَ الْمَقْصِدِ الْمَقْصُودَةِ لِأَجْلِهِ.
وَتَأْكِيدُ الشَّرْطِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ وَمَا الْمَزِيدَةِ بَعْدَ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ مُرَادٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ الرَّبْطِ
بَيْنَ هَذَا الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَهُوَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ. عَلَى أَنَّ نُونَ التَّوْكِيدِ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا فِعْلُ الشَّرْطِ إِلَّا إِذَا زِيدَتْ مَا بَعْدَ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ فَتَكُونُ إِرَادَةُ التَّأْكِيدِ مُقْتَضِيَةً لِاجْتِلَابِ مُؤَكِّدَيْنِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِغَرَضِ تَأْكِيدٍ قَوِيٍّ.
وَقَدْ أرى الله نبيئه بَعْضَ مَا تَوَّعَدَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْهَلَاكِ بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ الْفَتْحِ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ وَغَيْرَهَا مِنْ أَيَّامِ الْإِسْلَامِ فِي حَيَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُرِهِ بَعْضَهُ مِثْلَ عَذَابِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فَإِنَّ مُعْظَمَهُمْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُبْطِنِينَ الْكُفْرَ مِثْلَ: مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.
وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي يَحِلُّ بِالْمُكَذِّبِينَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَذَابٌ قَاصِرٌ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ لَا يُصِيبُ غَيْرَ الْمُكَذِّبِ لِأَنَّهُ اسْتِئْصَالٌ بِالسَّيْفِ قَابِلٌ لِلتَّجْزِئَةِ وَاخْتِلَافُ الْأَزْمَانِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعَلى فِي قَوْلِهِ: عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ، وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ حَقِيقَةٌ وَفِي الثَّانِي مُجَازٌ فِي الْوُجُوبِ لِلَّهِ بِالْتِزَامِهِ بِهِ.
وَإِنَّمَا لِلْحَصْرِ، وَالْمَحْصُورُ فِيهِ هُوَ الْبَلَاغُ لِأَنَّهُ الْمُتَأَخِّرُ فِي الذِّكْرِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَدْخُولَةِ لِحَرْفِ الْحَصْرِ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلَيْكَ الْبَلَاغُ لَا غَيْرُهُ مِنْ إِنْزَالِ الْآيَاتِ أَوْ مِنْ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ، وَلِهَذَا قَدَّمَ الْخَبَرَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ لِتَعْيِينِ الْمَحْصُورِ فِيهِ.
وَجُمْلَةُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ عَلَيْكَ الْبَلاغُ فَهِيَ مَدْخُولَةٌ فِي الْمَعْنَى لِحَرْفِ الْحَصْرِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّمَا عَلَيْنَا الْحِسَابُ، أَيْ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ لَا غَيْرَ الْحِسَابِ مِنْ إِجَابَة مقترحاتهم.
[٤١]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٤١]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ [الرَّعْد: ٤٠] الْمُتَعَلِّقَةِ بِجُمْلَةِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ. عُقِّبَتْ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِإِنْذَارِ الْمُكَذِّبِينَ بِأَنَّ مَلَامِحَ نَصْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لَاحَتْ وَتَبَاشِيرُ ظَفَرِهِ قَدْ طَلَعَتْ لِيَتَدَبَّرُوا فِي
170
أَمْرِهِمْ، فَكَانَ تَعْقِيبُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمُوا أَنَّ الْعِقَابَ بَطِيءٌ وَغَيْرُ وَاقِعٍ بِهِمْ. وَهِيَ أَيْضًا بِشَارَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَّنَ اللَّهَ مُظْهِرُ نَصْرِهِ فِي حَيَاتِهِ وَقَدْ جَاءَتْ أَشْرَاطُهُ، فَهِيَ أَيْضًا احْتِرَاسٌ مِنْ أَنْ يَيْأَسَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رُؤْيَةِ نَصْرِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ مُتِمٌّ نُورَهُ بِهَذَا الدِّينِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا إِنْكَارِيٌّ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ الْعَائِدُ إِلَيْهِمْ
ضَمِيرُ نَعِدُهُمْ. وَالْكَلَامُ تَهْدِيدٌ لَهُمْ بِإِيقَاظِهِمْ إِلَى مَا دَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَشْبَاحِ الِاضْمِحْلَالِ بِإِنْقَاصِ الْأَرْضِ، أَيْ سُكَّانِهَا.
وَالرُّؤْيَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً. وَالْمُرَادُ: رُؤْيَةُ آثَارِ ذَلِكَ النَّقْصِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً، أَي ألم يعملوا مَا حَلَّ بِأَرْضِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ نَقْصِ.
وَتَعْرِيفُ الْأَرْضَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ نَأْتِي أَيَّةَ أَرْضٍ مِنْ أَرْضِي الْأُمَمِ. وَأُطْلِقَتِ الْأَرْضُ هُنَا عَلَى أَهْلِهَا مَجَازًا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [سُورَة يُوسُف: ٨٢] بِقَرِينَةِ تَعَلُّقِ النَّقْصِ بِهَا، لِأَنَّ النَّقْصَ لَا يَكُونُ فِي ذَاتِ الْأَرْضِ وَلَا يُرَى نَقْصٌ فِيهَا وَلَكِنَّهُ يَقَعُ فَيِمَنْ عَلَيْهَا. وَهَذَا من بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [سُورَة مُحَمَّد: ١٠].
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَن المُرَاد ب الْأَرْضَ أَرْضُ الْكَافِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ فَيَكُونُ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، وَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، وَيَكُونُ ذَلِكَ إيقاظا لَهُم لما غَلَبَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ فَخَرَجَتْ مِنْ سُلْطَانِهِ فَتَنْقُصُ الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ فِي تَصَرُّفِهِمْ وَتَزِيدُ الْأَرْضُ الْخَاضِعَةُ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ الَّذِي حَمَلَ فَرِيقًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ سُورَةَ الرَّعْدِ مَدَنِيَّةٌ فَإِذَا اعْتُبِرَتْ مَدَنِيَّةً صَحَّ أَنْ تُفَسَّرَ الْأَطْرَافُ بِطَرَفَيْنِ وَهَمَا مَكَّةُ
171
وَالْمَدِينَةُ فَإِنَّهُمَا طَرَفَا بِلَادِ الْعَرَبِ، فَمَكَّةُ طَرَفُهَا مِنْ جِهَةِ الْيَمَنِ، وَالْمَدِينَةُ طَرَفُ الْبِلَادِ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ، وَلَمْ يَزَلْ عَدَدُ الْكُفَّارِ فِي الْبَلَدَيْنِ فِي انْتِقَاصٍ بِإِسْلَامِ كُفَّارِهَا إِلَى أَنْ تمحضت الْمَدِينَة لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ تَمَحَّضَتْ مَكَّةُ لَهُ بَعْدَ يَوْمِ الْفَتْحِ.
وَأَيًّا مَا كَانَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ وَسَبَبُ نُزُولِهَا وَمَكَانُهُ فَهِيَ لِلْإِنْذَارِ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى زَوَالٍ وَأَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ زَائِلُونَ، كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ٥١]، أَيْ مَا هُمُ الْغَالِبُونَ.
وَهَذَا إِمْهَالٌ لَهُمْ وَإِعْذَارٌ لَعَلَّهُمْ يَتَدَارَكُونَ أَمْرَهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [سُورَة الرَّعْد: ٤١] عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا مُؤَكِّدَةً لِلْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْوَعِيدِ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ، فَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِجُمْلَةِ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ثُمَّ بِجُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ ثُمَّ بِجُمْلَةِ وَاللَّهُ يَحْكُمُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعِقَابِ لَا يُبْطِلُهُ أَحَدٌ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ وَلَوْ تَأَخَّرَ.
وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهِيَ الْمُقَيِّدَةُ لِلْفِعْلِ الْمُرَادِ إِذْ هِيَ مَصَبُّ الْكَلَامِ إِذْ لَيْسَ الْغَرَضُ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ إِذْ لَا يَكَادُ يَخْفَى، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّهُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. وَأَفَادَ نَفْيُ جِنْسِ الْمُعَقِّبِ انْتِفَاءَ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ مُعَقِّبًا مِنْ شَرِيكٍ أَوْ شَفِيعٍ أَوْ دَاعٍ أَوْ رَاغِبٍ أَوْ مُسْتَعْصِمٍ أَوْ مُفْتَدٍ.
وَالْمُعَقِّبُ: الَّذِي يُعْقِبُ عَمَلًا فَيُبْطِلُهُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِبِ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ غَلَبَتْ حَتَّى صَارَتْ حَقِيقَةً. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّباتٌ [سُورَة الرَّعْد: ١١] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، كَأَنَّهُ يَجِيءُ عَقِبَ الَّذِي كَانَ عَمِلَ الْعَمَلَ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ بَعْدَ الْإِضْمَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ، وَلِلتَّذْكِيرِ بِمَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ الِاسْمُ الْعَظِيمُ مِنْ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ
172
وَالْوَحْدَانِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ عَدَمَ الْمُنَازِعِ، وَأَيْضًا لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ وَالْمَثَلِ.
وَجُمْلَةُ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَاللَّهُ يَحْكُمُ فَتَكُونُ دَلِيلًا رَابِعًا عَلَى أَنَّ وَعْدَهُ وَاقِعٌ وَأَنَّ تَأَخُّرَهُ وَإِنْ طَالَ فَمَا هُوَ إِلَّا سَرِيعٌ بِاعْتِبَارِ تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: يَحْكُمُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ حُكْمُهُ وَسَرِيعًا حِسَابُهُ. وَمَآلُ التَّقْدِيرَيْنِ وَاحِدٌ.
وَالْحِسَابُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ وَالسُّرْعَةُ: الْعَجَلَةُ، وَهِيَ فِي كُلِّ شَيْء بِحَسبِهِ.
[٤٢]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٤٢]
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢)
لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [سُورَة الرَّعْد:
٤١] تَهْدِيدًا وَإِنْذَارًا مِثْلَ قَوْلِهِ: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها [مُحَمَّد: ١٨] وَهُوَ إِنْذَارٌ بِوَعِيدٍ عَلَى تَظَاهُرِهِمْ بِطَلَبِ الْآيَاتِ وَهُمْ يُضْمِرُونَ التَّصْمِيمَ عَلَى التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَيْهِ. شُبِّهَ عَمَلُهُمْ بِالْمَكْرِ وَشُبِّهَ بِعَمَلِ الْمُكَذِّبِينَ السَّابِقِينَ كَقَوْلِهِ: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ٦]. وَفِي هَذَا التَّشْبِيهِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّ عَاقِبَتَهُمْ كَعَاقِبَةِ الْأُمَمِ الَّتِي عَرَفُوهَا. فَنَقْصُ أَرْضِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَطْرَافِهَا مِنْ مَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ جَزَاءُ مَكْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ أُعْقِبَ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ كَمَا مَكَرَ هَؤُلَاءِ. فَجُمْلَةُ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَالٌ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ.
وَجُمْلَةُ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرَّعْد: ٤١] وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرَّعْد: ٤١].
173
وَالْمَعْنَى: مَكَرَ هَؤُلَاءِ وَمَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَحَلَّ الْعَذَابُ بِالَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَكَرَ اللَّهُ بِهِمْ وَهُوَ يَمْكُرُ بِهَؤُلَاءِ مَكْرًا عَظِيمًا كَمَا مَكَرَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ مَكْرَهُ لَا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ فَمَكْرُ غَيْرِهِ كَلَا مَكْرٍ بِقَرِينَةِ أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُمْ مَكْرًا بُقُولِهِ: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
. وَهَذَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ.
وَأَكَّدَ مَدْلُولَ الِاخْتِصَاصِ بِقَوْلِهِ: جَمِيعاً وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمَكْرِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فِي [سُورَةِ يُونُسَ: ٤].
وَإِنَّمَا جُعِلَ جَمِيعُ الْمَكْرِ لِلَّهِ بِتَنْزِيلِ مَكْرِ غَيْرِهِ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ، فَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ ادِّعَائِيٌّ، وَالْعُمُومُ فِي قَوْلِهِ: جَمِيعاً تَنْزِيلِيٌّ.
وَجُمْلَةُ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ مِنْ ظَاهِرِ الْكَسْبِ وَبَاطِنِهِ كَانَ مَكْرُهُ أَشَدَّ مِنْ مَكْرِ كُلِّ نَفْسٍ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِمَّا تُضْمِرُهُ النُّفُوسُ مِنَ الْمَكْرِ فَيَبْقَى بَعْضُ مَكْرِهِمْ دُونَ مُقَابَلَةٍ بِأَشَدَّ مِنْهُ فَإِنَّ الْقَوِيَّ الشَّدِيدَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْغُيُوبَ قَدْ يَكُونُ عِقَابُهُ أَشَدَّ وَلَكِنَّهُ قَدْ يَفُوقُهُ الضَّعِيفُ بِحِيلَتِهِ.
وَجُمْلَةُ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً.
وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِ الْجِنْسُ، أَيِ الْكُفَّارُ، وعُقْبَى الدَّارِ تَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ سَيَعْلَمُ عُقْبَى الدَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا لِلْكَافِرِينَ، فَالْكَلَامُ تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَسَيَعْلَمُ الْكَافِرُ بِإِفْرَادِ الْكَافِرِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَالْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ سَوَاءٌ فِي الْمُعَرَّفِ بلام الْجِنْس.
174

[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٤٣]

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)
عَطْفٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الرَّعْد: ٤٢] مِنْ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [سُورَة الْأَنْعَام: ٣٧] ضَرْبٌ مِنَ الْمَكْرِ بِإِظْهَارِهِمْ
أَنَّهُمْ يَتَطَلَّبُونَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُظْهِرِينَ أَنَّهُمْ فِي شكّ من صدقه وهم يبطنون التصميم على التَّكْذِيب. فَذكرت هَذِه الْآيَة أَنهم قَدْ أَفْصَحُوا تَارَاتٍ بِمَا أَبْطَنُوهُ فَنَطَقُوا بِصَرِيحِ التَّكْذِيبِ وَخَرَجُوا مِنْ طَوْرِ الْمَكْرِ إِلَى طَوْرِ الْمُجَاهَرَةِ بِالْكُفْرِ فَقَالُوا: لَسْتَ مُرْسَلًا.
وَقَدْ حُكِيَ قَوْلُهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَلِاسْتِحْضَارِ حَالِهِمْ الْعَجِيبَةِ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى التَّكْذِيبِ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا دَلَائِلَ الصِّدْقِ، كَمَا عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [سُورَة هود: ٣٨] وَقَوْلِهِ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [سُورَة هود: ١١].
وَلَمَّا كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ الْمَحْكِيَّةُ هُنَا صَرِيحَةً لَا مُوَارَبَةَ فِيهَا أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَابٍ لَا جِدَالَ فِيهِ وَهُوَ تَحْكِيمُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ.
وَقَدْ أَمر الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- بِأَنْ يُجِيبَهُمْ جَوَابَ الْوَاثِقِ بِصِدْقِهِ الْمُسْتَشْهِدِ عَلَى ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الصِّدْقِ مِنْ إِشْهَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِشْهَادِ الْعَالِمِينَ بِالْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ.
وَلَمَّا كَانَتِ الشَّهَادَة للرسول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- بِالصِّدْقِ شَهَادَةً عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ جُعِلَتِ الشَّهَادَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ.
وَإِشْهَادُ اللَّهِ فِي مَعْنَى الْحَلِفِ عَلَى الصِّدْقِ كَقَوْلِ هُودٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ [هود: ٥٤].
وَالْبَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الَّذِي هُوَ فَاعِلُ كَفى فِي الْمَعْنَى لِلتَّأْكِيدِ
175
وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: كَفَى اللَّهُ. وشَهِيداً حَالٌ لَازِمَةٌ أَوْ تَمْيِيزٌ، أَيْ كَفَى اللَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّاهِدِ.
وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ.
وَالْمَوْصُولُ فِي وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جِنْسُ مَنْ يَتَّصِفُ بِالصِّلَةِ.
وَالْمَعْنَى: وَكُلُّ مَنْ عِنْدَهُمْ عِلْمُ الْكِتَابِ. وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عِنْدَ لِمُرَاعَاةِ لَفْظِ مَنْ. وَتَعْرِيفُ الْكِتابِ تَعْرِيفٌ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ، أَيْ وَشَهَادَةُ عُلَمَاءِ الْكِتَابِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَسْتَظْهِرُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمَجِيءِ النَّبِيءِ الْمُصَدِّقِ لِلتَّوْرَاةِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ مُعَيَّنًا، فَهُوَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ إِذْ عَلِمَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنَّهُ شَهِدَ بِأَنَّ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى-
عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَمَا فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ فِي الصَّحِيحِ. وَكَانَ وَرَقَةُ مُنْفَرِدًا بِمَعْرِفَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَقَدْ كَانَ خبر قَوْله للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَهُ مَعْرُوفًا عِنْدَ قُرَيْشٍ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُنْحَصِرِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ.
وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ الَّذِي آمَنَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ.
وَيُبْعِدُهُ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَوَجْهُ شَهَادَةِ عُلَمَاءِ الْكِتَابِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِجْدَانُهُمُ الْبِشَارَةَ بِنَبِيءٍ خَاتَمٍ لِلرُّسُلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوِجْدَانُهُمْ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مُوَافِقًا لِسُنَنِ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَمُفَسِّرًا لِلرُّمُوزِ الْوَارِدَةِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي صِفَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَدَّقِ الْمَوْعُودِ بِهِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ التَّعْبِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ
دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ تَطْبِيقَ ذَلِكَ لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا عُلَمَاؤُهُمْ. قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [سُورَة الشُّعَرَاء: ٩٧].
176

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١٤- سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
أُضِيفَتْ هَذِهِ السُّورَةُ إِلَى اسْمِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَكَانَ ذَلِكَ اسْمًا لَهَا لَا يُعْرَفُ لَهَا غَيْرُهُ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى إِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهَا فِي كَلَامِ النَّبِيءِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا فِي كَلَامِ أَصْحَابِهِ فِي خَبَرٍ مَقْبُولٍ.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِهَذَا وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- جَرَى فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّورِ أَنَّهَا مِنَ السُّورِ ذَوَاتِ الر. وَقَدْ مُيِّزَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- الَّتِي جَاءَتْ قِصَصُهُمْ فِيهَا، أَوْ إِلَى مَكَانِ بِعْثَةِ بَعْضِهِمْ وَهِيَ سُورَةُ الْحِجْرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُضَفْ سُورَةُ الرَّعْدِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا متميزة بفاتحها بِزِيَادَةِ حَرْفِ مِيمٍ عَلَى أَلْفٍ وَلَامٍ وَرَاءٍ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَعَنْ قَتَادَةَ إِلَّا آيَتَيْ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً- إِلَى قَوْلِهِ- وَبِئْسَ الْقَرارُ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٢٨]، وَقِيلَ: إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ٣٠]. نَزَلَ ذَلِكَ فِي الْمُشْرِكِينَ فِي قَضِيَّةِ بَدْرٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا تَوَهُّمًا كَمَا سَتَعْرِفُهُ.
نَزَلَتْ هَذِهِ السُّوَرُ بَعْدَ سُورَةِ الشُّورَى وَقَبْلَ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ عُدَّتِ السَبْعِينَ فِي تَرْتِيبِ السُّوَرِ فِي النُّزُولِ.
وَعُدَّتْ آيَاتُهَا أَرْبَعًا وَخمسين عِنْد الْمَدَنِيين، وخمسا وَخَمْسِينَ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ، وَإِحْدَى وَخَمْسِينَ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَاثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ..
177
وَاشْتَمَلَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ على أَنَّهَا ابتدئت بِالتَّنْبِيهِ إِلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَبِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ، وَأَنَّهُ أُنْزِلَ لِإِخْرَاجِ النَّاسِ مِنَ الضَّلَالَةِ. وَالِامْتِنَانِ بِأَنْ جَعَلَهُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ. وَتَمْجِيدِ اللَّهِ
تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ وَوَعِيدِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ وبمن أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
وَإِيقَاظِ الْمُعَانِدِينَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ بِدَعًا مِنَ الرُّسُلِ. وَأَنَّ كَوْنَهُ بَشَرًا أَمْرٌ غَيْرُ مُنَافٍ لِرِسَالَتِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ.
وَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا بِرِسَالَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى فِرْعَوْنَ لِإِصْلَاحِ حَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَذْكِيرِهِ قَوْمَهُ بِنِعَمِ اللَّهِ وَوُجُوبِ شُكْرِهَا وَمَوْعِظَتِهِ إِيَّاهُمْ بِمَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَمَنْ بَعْدِهِمْ وَمَا لَاقَتْهُ رُسُلُهُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ.
وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ بِدَلَائِلَ مَصْنُوعَاتِهِ وَذِكْرِ الْبَعْثِ وَتَحْذِيرِ الْكُفَّارِ مِنْ تَغْرِيرِ قَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ بِهِمْ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَان وَكَيف يتبرأون مِنْهُمْ يَوْمَ الْحَشْرِ وَوَصْفِ حَالِهِمْ وَحَالِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ وَفَضْلِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَخُبْثِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ ثُمَّ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ قَوْمٍ كَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَأَوْقَعُوا مَنْ تَبِعَهُمْ فِي دَارِ الْبَوَارِ بِالْإِشْرَاكِ وَالْإِيمَاءِ إِلَى مُقَابَلَتِهِ بِحَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَعَدِّ بَعْضِ نِعَمِهِ على النَّاس تَفْضِيلًا ثُمَّ جَمْعِهَا إِجْمَالًا.
178
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
أَعَيَّرْتِنَا أَلْبَانَهَا ولحومها وَذَلِكَ عَارِيا يَا ابْنَ رَيْطَةَ ظَاهِرٌ