تفسير سورة الحجر

الصحيح المسبور
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور المعروف بـالصحيح المسبور .
لمؤلفه حكمت بشير ياسين .

سورة الحجر
قوله تعالى (الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ)
انظر سورة القصص آية (٢).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وقرآن مبين) قال: تبين والله هداه ورشده وخيره.
قوله تعالى (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين)
قال الحاكم: أخبرنا الشيخ أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أنبأ علي بن الحسين ابن علي بن الجنيد، ثنا أبو الشعثاء، ثنا خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من أهل القبلة من شاء الله قالوا: ما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار. قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فسمع الله ما قالوا قال: فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا فيقول الكفار يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما أخرجوا قال وقرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) مثقلة.
(المستدرك ٢/٢٤٢- ك التفسير) وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضا ابن أبي عاصم في (السنة ح ٨٤٣) من طريق أبي الشعثاء به، وقال الألباني: حديث صحيح رجاله ثقات رجال مسلم غير خالد بن نافع، وهو الأشعري من أولاد أبي موسى - رضي الله عنه -، وفيه ضعف ثم ذكر شواهد تقوية (ظلال الجنة عقب ح ٨٤٣ و٨٤٤) وله شاهد في تفسير الطبري بسند حسن عن ابن عباس، وله شاهد آخر كما يلي:
قال ابن حبان: أخبرنا محمد بن الحسين بن مُكرم، قال: حدثنا عبد الله ابن عمر بن أبان بن صالح، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي رَوق، قال: حدثنا صالح بن أبي طَريف، قال: قلتُ لأبي سعيد الخدري: أسمعتَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في هذه الآية (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) الحجر: ٢ فقال: نعم، سمعته يقول: "يُخرج الله أُناسا من المؤمنين من النار بعد ما يأخذ نقمته
منهم، قال: لمّا أدخلهم الله النارَ مع المشركين، قال المشركون: أليس كنتم تزعمون في الدنيا أنكم أولياء، فما لكم معنا في النار؟ فإذا سمع الله ذلك منهم، أذن في الشفاعة، فيتشفع لهم الملائكة والنبيون حتى يُخرجوا بإذن الله، فلما أخرجوا، قالوا: يا ليتنا كنا مثلهم، فتدركنا الشفاعة فنخرَجُ من النار، فذلك قول الله جلّ وعلا: (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين). قال: فيُسمّون في الجنة الجهنميين من أجل سواد في وجوههم، فيقولون: ربنا أذهب عنّا هذا الاسم، قال: فيأمرهم فيغتسلون في نهر في الجنة، فيذهب ذلك منهم".
(الإحسان ١٦/٤٥٧-٤٥٨ ح ٧٤٣٢ قال محققه: حديث صحيح. وله شواهد عدة منها: حديث أبي موسى الأشعري، أخرجه الحاكم ٢/٢٤٢ وصححه ووافقه الذهبي. ومنها: حديث جابر أخرجه النسائي في التفسير (ح ٢٩١) وصحح إسناده السيوطي في الدر (٤/٩٢) وحسن إسناده محقق تفسير النسائي، عزاه الهيثمي للطبراني في الأوسط وقال. ورجاله رجال الصحيح غير بسام الصيرفي، وهو ثقة (مجمع البحرين ٤٨٢٠) وصحح إسناده الألباني (ظلال الجنة ح ٨٤٤). وينظر تخريجه وذكر شواهده مفصلا في حاشية الإحسان في الموضع المذكور).
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا عرفوا حقيقة الأمر تمنوا أنهم كانوا في دار الدنيا مسلمين، وندموا على كفرهم، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) وقوله: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) الآية، وقوله: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون)
قال الشيخ الشنقيطي: هدد الله تعالى الكفار في هذه الآية الكريمة بأمره نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتركهم يأكلون ويتمتعون فسوف يعلمون حقيقة ما يئول إليه الأمر من شدة تعذيبهم وإهانتهم وهددهم هذا النوع من التهديد في مواضع أخر كقوله: (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) وقوله: (كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون).
قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سفيان قال: حدثني أبي، عن منذر، عن ربيع بن خثيم، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: خطّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به -أو قد أحاط به- وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخُطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن اخطأه هذا نهشه هذا".
(الصحيح ١١/٢٣٩-٢٤١ ح ٦٤١٧) ك الرقاق، ب في الأمل وطوله). وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري (١١/٢٣٧) بعض الرسوم ثم قال: فالإشارة بقوله: "هذا الإنسان" إلى النقطة الداخلة، وبقوله: "أجله محيط به" إلى المربع، وبقوله: "وهذا الذي هو خارج أمله" إلى المستطيل المنفرد.
قوله تعالى (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (٤) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ)
قال ابن كثير: يقول تعالى أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها، وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكها عن ميقاتهم ولا يتقدمون عن مدتهم، وهذا تنبيه لأهل مكة وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم فيه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك. اهـ ويشهد لهذا التفسير قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا... ) سورة الإسراء آية: ١٥-١٦. وانظر سورة يونس آية (٤٩).
قوله تعالى (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ)
انظر سورة الأعراف آية (٦٣) قول الشيخ الشنقيطي.
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن كفرهم وعتوهم وعنادهم في قولهم (يا أيها الذي نزل عليه الذكر) أي الذي تدعي ذلك (إنك لمجنون) أي في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا (لو ما) أي هلا (تأتينا بالملائكة) أي يشهدون لك بصحة ما جئت به إن كنت من الصادقين، كما قال فرعون: (فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين)، (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيراً).
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (ما ننزل الملائكة إلا بالحق) قال: بالرسالة والعذاب.
انظر سورة الإسراء آية (٩٢).
قوله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي أنزل القرآن العظيم وأنه حافظ له من أن يزاد فيه أو ينقص أو يتغير منه شئ أو يبدل، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيل من حكيم حميد) وقوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه) إلى قوله: (ثم إن علينا بيانه) وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية أن الضمير في قوله: (وإنا له لحافظون) راجع إلى الذكر الذي هو القرآن.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (وإنا له لحافظون) قال: عندنا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) قال في آية أخرى: (لا يأتيه الباطل) والباطل: إبليس (من بين يديه ولا من خلفه) فأنزله الله ثم حفظه، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولا ينتقص منه حقاً، حفظه الله من ذلك.
قوله تعالى (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين) يقول أمم الأولين.
قوله تعالى (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) لا يؤمنون به، قال: إذا كذبوا سلك الله في قلوبهم أن لا يؤمنوا به.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين) وقائع الله فيمن خلا قبلكم من الأمم.
قوله تعالى (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون) كان الحسن يقول: لو فعل هذا ببني آدم فظلوا فيه يعرجون أي يختلفون (لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون).
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (سكرت أبصارنا) قال: سدت.
قوله تعالى (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد، في قوله: (ولقد جعلنا في السماء بروجا) قال: كواكب.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وزيناها للناظرين) صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه زين السماء للناظرين وبين في مواضع أخر أنه زينها بالنجوم، وأنها السماء الدنيا كقوله: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) الآية، وقوله: (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب).
قوله تعالى (وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين)
قال الشيخ الشنقيطي: صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه حفظ السماء من كل شيطان رجيم وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: (وحفظا من كل شيطان مارد) وقوله: (وجعلناها رجوما للشياطين) وقوله: (فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) وقوله (إنهم عن السمع لمعزولون) وقوله (أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين) إلى غير ذلك من الآيات، والاستثناء في هذه الآية الكريمة في قوله: (إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين).
قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان عن عَمْرو عن عكرمة عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضَرَبَت الملائكة بأجنحتها خُضعانا لقوله كالسلسلة على صفوان، قال عليّ: وقال غيره: صفوان ينفذهم ذلك. فإذا فزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحقّ وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع، هكذا واحد فوق آخر. ووصف سفيان بيده وفرّج بين أصابع يده اليمنى، نصبها
بعضها فوق بعض، فربما أدرك الشهابُ المستمع قبل أن يرمِي بها إلى صاحبه، فيُحرقه. وربما لم يُدركه حتي يرمى بها إلى الذي يليه، إلى الذي هو أسفل منه، حتى يُلقوها إلى الأرض -وربما قال سفيان: حتى تنتهي إلى الأرض- فتلقى على فم الساحر، فيكذب معها مائة كذبة، فيصدق، فيقولون: ألم يُخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقاً؟ للكلمة التي سُمعت من السماء".
(صحيح البخاري ٨/٢٣١- ك التفسير- سورة الحجر، ب (الآية) ح/٤٧٠١).
قال البخاري: حدثنا محمد، حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا الليث، حدثنا ابن أبي جعفر عن محمد بن عبد الرحمن عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن الملائكة تنزل في العنان -وهو السحاب- فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون منها مائة كِذْبة من عند أنفسهم".
(صحيح البخاري ٦/٣٥٠-٣٥١- ك بدء الخلق، ب ذكر الملائكة ح/٣٢١٠) وأخرجه مسلم في صحيحه -السلام- باب تحريم الكهانة ٤/١٧٥٠ ح ٢٢٢٨).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (إلا من استرق السمع) وهو نحو قوله: (إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب).
قوله تعالى (والأرض مددنها وألقينا فيها رواسي وأنبتا فيها من كل شيء موزون)
انظر سورة النحل آية (١٥) وفيها رواية الطبري عن قتادة عن الحسن.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وأنبتنا فيها من كل شئ موزون)، يقول: معلوم.
قوله تعالى (وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين)
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (ومن لستم له برازقين) الدواب والأنعام.
قوله تعالى (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وأرسلنا الرياح لواقح) يقول: لواقح للسحاب، وإن من الريح عذاباً، وإن منها رحمة.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه)
بين تعالى في هذه الآية الكريمة عظيم منته بإنزال الماء من السماء وجعله إياه عذبا صالحاً للسقيا وبين ذلك أيضاً في مواضع أخر كقوله: (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون) وقوله: (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات) وقوله: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيراً) إلى غير ذلك من الآيات.
قال البخاري: حدثنا أحمد بن أبي بكر، قال: حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن يزيد عن سلمة قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اشتدت الريح يقول: "اللهم لاقحا لاعقيما".
(الأدب المفرد ح ٧١٨). وأخرجه أيضاً أبو يعلى (كما في المطالب العالية المسندة ق ١٢٢أ)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (رقم ٣٠٠)، وابن حبان في صحيحه (الإحسان ٣/٢٨٨ ح ١٠٠٨) والطبراني في الكبير (٧/٣٧ رقم ٦٢٩٦)، والحاكم في المستدرك (٤/٢٨٥-٢٨٦) من طرق عن مغيرة ابن عبد الرحمن به، وقال الحاكم: إسناد صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي والمغيرة لم يروي له مسلم، كما ذكر الألباني في صحيحه (٥/٩١) وليس عند البخاري سوى حديث قد توبع فيه (انظر هدى الساري ص ٤٤٥) وقال الهيثمي في المجمع (١٠/١٣٥) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير مغيرة بن عبد الرحمن وهو ثقة. قلت: تقدم أن البخاري روى له متابعة، وقد اختلف فيه، وقال الحافظ: صدوق فقيه كان يهم (التقريب ص ٥٤٣)، قال الألباني: فحسب حديث مثله يكون حسنا أما الصحة فلا (الصحيحه ٥/٩١ ح ٢٠٥٨) ومع ذلك فقد أورده في صحيح الأدب المفرد (٥٥٣/٧١٨) وقال صحيح. وحكى محقق المطالب العالية (٣/٢٣٩) عن البوصيري أنه قال: رجاله ثقات).
153
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وما أنتم له بخازنين) فيه للعلماء وجهان من التفسير كلاهما يشهد له قرآن الأول: أن معنى (وما أنتم له بخازنين) أي ليست خزانته عندكم بل نحن الخازنون له ننزله متى شئنا وهذا الوجه تدل عليه آيات كقوله: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) وقوله: (ولله خزائن السموات والأرض) الآية، ونحو ذلك من الآيات.
الوجه الثاني: أن معنى (وما أنتم له بخازنين) بعد أن أنزلناه عليكم أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والعيون والغدران بل نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض) وقوله (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) وقوله (أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا) وقوله (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض) الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ)
قال الشيخ الشنقيطي:... بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه الوارث ولم يبين الشيء الذي يرثه وبين في مواضع أخر أنه يرث الأرض ومن عليها كقوله (إلا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون) وقوله (ونرثه ما يقول ويأتينا فردا)...
قوله تعالى (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين) قال المستقدمون آدم ومن بعده، حتى نزلت هذه الآية.
والمستأخرون قال: كل من كان من ذريته.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: المستقدمين منكم، قال: القرون الأول، والمستأخرين: أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
154
قوله تعالى (وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وإن ربك هو يحشرهم) قال: أي الأول والآخر.
قوله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون)
قال الطبري: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، قالا: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير.
عن ابن عباس، قال: خلق آدم من صلصال من حمأ ومن طين لازب، وأما اللازب: فالجيد، وأما الحمأ: فالحماة. وأما الصلصال: فالتراب المرقق، وإنما سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي.
(وسنده صحيح على شرط مسلم).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال) قال: والصلصال: التراب اليابس الذي يسمع له صلصلة.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (من حمأ مسنون) قال: منتن.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (من حمأ مسنون)، يقول: من طين رطب.
قوله تعالى (والجان خلقناه من قبل من نار السموم)
قال مسلم: حدثنا محمد بن رافع وعبد بن حميد قال: عَبْد، أخبرنا، وقال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خُلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخُلق آدم مما وُصف لكم".
(صحيح مسلم ٤/٢٢٩٤- ك الزهد والرقائق، ب في أحاديث متفرقة ح/٢٩٩٦).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (والجان خلقناه من قبل) وهو إبليس خلق قبل آدم وإنما خلق آدم آخر الخلق فحسده عدو الله إبليس على ما أعطاه الله من كرامة فقال: أنا نارى وهذا طينى فكانت السجدة لآدم والطاعة لله تعالى ذكره (قال فاخرج منها فإنك رجيم).
قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)
انظر سورة البقرة آية (٣٠-٣٤) وتفسيرها، وانظر آية (٢٦) من السورة نفسها.
قال الشيخ الشنقيطي: بين في هذه الآية الكريمة أن إبليس أبي أن يسجد لآدم وبين في مواضع أخر أنه تكبر عن امتثال أمر ربه كقوله في سورة البقرة: (إلا إبليس أبى واستكبر) الآية، وقوله في سورة ص: (إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) وأشار إلى ذلك هنا بقوله: (قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون)، كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى (قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين)
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه سأل إبليس سؤال توبيخ وتقريع عن الموجب لامتناعه من السجود لآدم الذي أمره به ربه جل وعلا وبين أيضاً في الأعراف وص أنه وبخه أيضاً بهذا السؤال قال في الأعراف (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) الآية، وقال في ص: (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) الآية، وناداه باسمه إبليس في الحجر وص ولم يناده به في الأعراف.
قوله تعالى (قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون)
انظر الآية (٢٦) من السورة نفسها.
قال الشيخ الشنقيطي: هذا القول الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن إبليس لعنه الله أنه لم يكن ليسجد لبشر مخلوق من الطين مقصوده به أنه خير من آدم لأن آدم خلق من الطين وهو خلق من النار كما يوضحه قوله تعالى: (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين).
قوله تعالى (قال فاخرج منها فإنك رجيم)
قال الشيخ الشنقيطي: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أمر إبليس بالخروج من الجنة مؤكدا أنه رجيم وبين في الأعراف أنه خروج هبوط وأنه يخرج متصفا بالصغار والذل والهوان بقوله: (قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (فإنك رجيم)، الرجيم: الملعون.
قوله تعالى (وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين)
انظر سورة الفاتحة آية (٣).
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) بين في هذه الآية الكريمة أن اللعنة على إبليس إلى يوم الدين وصرح في ص بأن لعنته جل وعلا على إبليس إلى يوم الدين بقوله: (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين). ا. هـ.
وانظر سورة الفاتحة لبيان يوم الدين: يوم الحساب.
قوله تعالى (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)
انظر سورة الأعراف وتفسيرها من الآية (١٤-١٧) وقول الشيخ الشنقيطي فيها.
قوله تعالى (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبليس أخبر أنه سيبذل جهده في إضلال بنى آدم حتى يضل أكثرهم وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) وقوله: (وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا) الآية، وقوله: (قال أرأيتك هذا الذي
كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً) وهذا قاله إبليس قبل أن يقع ظنا منه أنه يتمكن من إضلال أكثر بنى آدم وقد بين تعالى أنه صدق ظنه هذا بقوله: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) وكل آية ذكر فيها ذكر إضلال إبليس لبنى آدم بين فيها إبليس وجميع من تبعه جميعاً في النار كما قال هنا (وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب) الآية، وقال في الأعراف (قال أخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) وقال في سورة بنى إسرائيل (قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً) وقال في ص (قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين).
قوله تعالى (إلا عبادك منهم المخلصين)
قال الشيخ الشنقيطي: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الشيطان لما أوعد بأنه سيضل أكثر بني آدم استثنى من ذلك عباد الله المخلصين معترفا بأنه لا قدرة له على إضلالهم ونظيره قوله في ص أيضاً (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) وعباد الله المخلصون هم المرادون بالاستثناء في قوله في بني إسرائيل (لأحتنكن ذريته إلا قليلاً) وقوله في سبأ (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) وهم الذين احترز منهم بقوله: (ولا تجد أكثرهم شاكرين) وبين تعالى في مواضع أخر أن الشيطان لا سلطان له على أولئك المخلصين كقوله: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) الآية...
قوله تعالى (قال هذا صراط علي مستقيم)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد قوله: (هذا صراط علي مستقيم)
قال: الحق يرجع إلى الله، وعليه طريقه، لا يعرج على شيء.
قوله تعالى (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) انظر سورة النحل تفسير آية (٩٩) وسورة الإسراء آية (٦٥).
قوله تعالى (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)
قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن قال: قال قتادة: سمعت أبا نضرة يحدث عن سمرة؛ أنه سمع نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه. ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى عنقه".
(الصحيح ٤/٢١٨٥ ك الجنة وصفة نعيمها... ، ب في شدة حر نار جهنم.... ح ٢٨٤٥).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) وهي والله منازل بأعمالهم.
قوله تعالى (إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين)
قال الشيخ الشنقيطي: بين في هذه الآية الكريمة أن المتقين يوم القيامة في جنات وعيون، ويقال لهم يوم القيامة: ادخلوها بسلام آمنين وذكر في مواضع أخر صفات ثوابهم وربما بين بعض تقواهم التي نالوا بها هذا الثواب الجزيل كقوله في الذاريات (إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) وقوله في الدخان (إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم).
قوله تعالى (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين)
قال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد: حدثنا يزيد بن زريع (ونزعنا ما في صدورهم من غل) قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي المتوكل الناجي أن أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقص لبعضهم من بعض مظالم كانت
بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة. فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا".
(الصحيح ١١/٤٠٣ ح ٦٥٣٥- ك الرقاق، ب القصاص يوم القيامة..).
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (على سرر متقابلين) بين في هذه الآية الكريمة أن المتقين الذين هم أهل الجنة يوم القيامة يكونون على سرر وأنهم متقابلون ينظر بعضهم إلى وجه بعض ووصف سررهم بصفات جميلة في غير هذا الموضع منها أنها منسوجة بقضبان من الذهب وهي الموضونة قال في الواقعة (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين) وقيل الموضونة المصفوفة كقوله: (على سرر مصفوفة) الآية، ومنها أنها مرفوعة كقوله في الغاشية (فيها سرر مرفوعة) الآية، وقوله في الواقعة (وفرش مرفوعة) وقوله: (متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان).
قوله تعالى (لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (لا يمسهم فيها نصب) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يمسهم فيها نصب وهو التعب والإعياء وقوله نصب نكرة في سياق النفي فتعم كل نصب فتدل الآية على سلامة أهل الجنة من جميع أنواع التعب والمشقة وأكد هذا المعنى وقوله تعالى (الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) لأن اللغوب هو التعب والإعياء أيضاً وقد صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب".
وقوله تعالى (وما هم منها بمخرجين) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يخرجون منها وأكد نفي إخراجهم منها بالباء في قوله: (بمخرجين) فهم دائمون في نعيمها أبدا بلا انقطاع. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (١٠٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) وقوله: (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا) وقوله: (عطاء غير مجذوذ) وقوله: (إن هذا لرزقنا ماله من نفاد) إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم)
انظر الحديث المتقدم عند قوله تعالى: (الرحمن الرحيم) في سورة الفاتحة.
وانظر سورة البقرة آية (١٠) وفيها أليم: موجع.
قوله تعالى (ونبئهم عن ضيف إبراهيم)
قال الشيخ الشنقيطي: بين في مواضع أخر أن ضيف إبراهيم المذكورين في هذه الآية أنهم الملائكة كقوله في هود (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) كما تقدم وقوله: (قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين).
قوله تعالى (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون)
قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة لرد إبراهيم عليه السلام على الملائكة أولا لأنه لم يذكر هنا رده السلام عليهم وإنما قال عنه إنه قال لهم: إنا منكم وجلون وبين في هود (قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) وقوله في الذاريات (قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين) وبين أن الوجل المذكور هنا هو الخوف لقوله في القصة بعينها في هود (وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف) وقوله في الذاريات (فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف).
قوله تعالى (قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم) ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أولئك الضيف الكرام الذين هم ملائكة بشروا إبراهيم بغلام موصوف بالعلم ونظير ذلك قوله تعالى أيضاً في الذاريات (قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم) وهذا الغلام بين تعالى أنه هو إسحاق كما يوضح ذلك قوله في الذاريات (وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك أنه هو الحكيم العليم) لأن كونها أقبلت في صرة أي صيحة وضجة وصكت وجهها أي لطمته قائلة إنها عجوز عقيم يدل على أن الولد المذكور هي أمه كما لا يخفى ويزيده إيضاحا تصريحه تعالى بشارتها هي بأنها تلده مصرحا باسمه واسم
ولده يعقوب وذلك في قوله تعالى في هود في القصة بعينها (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب) وأما الغلام الذي بشر به إبراهيم الموصوف بالحلم المذكور في الصافات في قوله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام إني أذبحك) الآية، فهو إسماعيل لا إسحاق على وجه قاطع للنزاع.
قوله تعالى (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) قال: عجب من كبره، وكبر امرأته.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال إنه وقت البشرى بإسحاق مسه الكبر وبين في هود بأن امرأته أيضا قالت إنه شيخ كبير في قوله عنها (وهذا بعلي شيخا) كما صرح عنها هي أنها وقت البشرى عجوز كبيرة السن وذلك كقوله في هود (يا ويلتى أألد وأنا عجوز) الآية، وقوله في الذاريات (فصكت عن وجهها وقالت عجوز عقيم) وبين في موضع آخر عن نبيه إبراهيم أنه وقت هبة الله له ولده إسماعيل أنه كبير السن أيضاً وذلك قوله تعالى: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء).
قوله تعالى (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط) الآية أشار في هذه الآية الكريمة إلى أن المراد بهؤلاء القوم المجرمين قوم لوط الذين أرسل إليهم فكذبوه ووجه إشارته تعالى لذلك استثناء لوط غير امرأته في قوله: (إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته) الآية وصرح بأنهم قوم لوط
في هود في القصة بعينها (قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) الآية وصرح في الذاريات بأنهم أرسلوا إلى هؤلاء القوم المجرمين ليرسلوا عليهم حجارة من طين في قوله: (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين) وصرح في العنكبوت أنهم قالوا إنهم مهلكوهم بسبب ظلمهم ومنزلون عليهم رجزا من السماء بسبب فسقهم وذلك في قوله تعالى: (ولا جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها) الآية وقوله: (قالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) وقوله: (إلا آل لوطٍ إنا لمنجوهم أجمعين) بين في هذه الآية الكريمة أنه استثنى آل لوط من ذلك العذاب النازل بقومه وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كما تقدم في هود في قوله: (قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) الآية وقوله في العنكبوت (وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك) الآية...
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة في قوله تعالى (إنها لمن الغابرين) قال: ممن غبر فهلك.
قوله تعالى (فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن لوطا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءه الملائكة المرسلون لإهلاك قومه قال لهم إنكم قوم منكرون. وصرح في مواضع أخر أنه حصلت له مساءة بمجيئهم وأنه ضاق ذرعا بذلك كقوله في هود: (ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب) وقوله في العنكبوت (ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا)
الآية وذكر تعالى في الذاريات أن نبيه إبراهيم قال لهم أيضا قوم منكرون كما ذكر عن لوط هنا وذلك في قوله: (قال سلام قوم منكرون).
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (قال إنكم قوم منكرون) قال: أنكرهم لوط. وقوله (بما كانوا فيه يمترون) قال: بعذاب قوم لوط.
قوله تعالى (فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تأمرون)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (واتبع أدبارهم) قال: أمر أن يكون خلف أهله، يتبع أدبارهم في آخرهم إذا مشوا.
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (ولا يلتفت منكم أحد) لا يلتفت وراءه أحد، ولا يعرج.
قوله تعالى (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)
انظر سورة هود آية (٨٠-٨٣) لبيان تفصيل تدميرهم مصبحين وكذا في هذه السورة في الآيات التالية.
قوله تعالى (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وجاء أهل المدينة يستبشرون) سبب استبشار قوم لوط أنهم ظنوا الملائكة شبابا من بني آدم فحدثتهم أنفسهم بأن يفعلوا بهم فاحشة اللواط كما يشير لذلك قوله تعالى (إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون) وقوله تعالى (ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم) الآية، وقوله (وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (وجاء أهل المدينة يستبشرون) استبشروا بأضياف نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوط، حين نزلوا لما أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر.
قوله تعالى (قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله (أو لم ننهك عن العالمين) قال: ألم ننهك أن تضيف أحدا؟.
قوله تعالى (قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين) : أمرهم نبي الله لوط أن يتزوجوا النساء.
قوله تعالى (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون)، وهي كلمة من كلمات العرب لفي سكرتهم: أي في ضلالهم يعمهون: أي يلعبون.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (لعمرك) يقول: لعيشك (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال: يتمادون.
قوله تعالى (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة عن عكرمة (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) أي من طين.
قوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال: للمتفرسين.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)، يقول: للناظرين.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (للمتوسمين) قال: للمعتبرين.
قوله تعالى (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ)
قال الشيخ الشنقيطي، قوله تعالى (وإنها لبسبيل مقيم) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن ديار قوم لوط وآثار تدمير الله لها بسبيل مقيم أي بطريق ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد، يمر بها أهل الحجاز في ذهابهم إلى الشام، والمراد أن آثار تدمير الله لهم التي تشاهدون في أسفاركم فيها لكم عبرة ومزدجر يوجب عليكم الحذر من أن تفعلوا كفعلهم لئلا ينزل الله لكم مثل ما أنزل بهم وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله (وإنكم لترون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون) وقوله (أفلم يسيروا
في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها) وقوله فيها وفي ديار أصحاب الأيكة (وإنهما لبإمام مبين).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة (وإنها لبسبيل مقيم) يقول: بطريق واضح.
وانظر سورة هود من الآية (٦٩) إلى الآية (٨٣) في قصة قوم لوط.
قوله تعالى (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقما منهم وإنهما لبإمام مبين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم) ذكر جل وعلا في هذه الآية أن أصحاب الأيكة كانوا ظالمين وأنه جل وعلا انتقم منهم بسبب ظلمهم وأوضح هذه القصة في مواضع أخر كقوله في الشعراء (كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولاتعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) فبين في هذه الآية أن ظلمهم هو تكذيبهم رسولهم وتطفيفهم في الكيل وبخسهم الناس أشياءهم وأن انتقامه منهم بعذاب يوم الظلة وبين أنه عذاب يوم عظيم والظلة سحابة أظلتهم فأضرمها الله عليهم نارا فأحرقتهم.
وانظر سورة الشعراء آية (١٧٦) رواية الطبري عن ابن عباس وسورة الأعراف (٨٥-٩٤) وسورة هود (٨٤-٩٥) وسورة ص آية (٩٣).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (وإنهما لبإمام مبين) يقول: على الطريق.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (وإنهما لبإمام مبين) قال: طريق واضح.
قوله تعالى (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ)
قال ابن كثير: أصحاب الحجر هم ثمود الذين كذبوا صالحاً نبيهم عليهم السلام، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين، ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين، وذكر تعالى أنه أتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء، وكانت تسرح في بلادهم لها شرب ولهم شرب يوم معلوم، فلما عتوا وعقروها قال لهم: (تمنعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب).
قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا معن، قال: حدثني مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحاب الحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يُصيبكم مثلُ ما أصابهم".
(صحيح البخاري ٨/٢٣٢- ك التفسير- سورة الحجر، ب (الآية) ح/٤٧٠٢) أخرجه مسلم- الزهد والرقائق ٤/٢٢٨٥ ح ٢٩٨٠)
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة (أصحاب الحجر)، قال: أصحاب الوادي.
قوله تعالى (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين)
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح كانوا آمنين في أوطانهم، وكانوا ينحتون الجبال بيوتا. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله تعالى: (أتتركون فيما ها هنا آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) وقوله تعالى: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله..) الآية، وقوله: (وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي) أي قطعوا الصخر بنحته بيوتا.
قوله تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق) ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق أي ليدل بذلك على أنه المستحق لأن يعبد وحده، وإنه يكلف الخلق ويجازيهم على أعمالهم. فدلت الآية على أنه لم يخلق الخلق عبثا ولا لعبا ولا باطلا. وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة كقوله: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) وقوله: (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) وقوله: (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق... ) الآية.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (فاصفح الصفح الجميل) ثم نسخ ذلكم بعد، فأمره الله تعالى ذكره بقتالهم، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، لا يقبل منهم غيره.
قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)
قال ابن كثير: وقوله (إن ربك هو الخلاق العليم) تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق ما يشاء، وهو العليم بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض، كقوله: (أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون).
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إن ربك هو الخلاق العليم) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه الخلاق العليم والخلاق والعليم: كلاهما صيغة مبالغة.
والآية تشير إلى أنه لا يمكن أن يتصف الخلاق بكونه خلاقا إلا وهو عليم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء، إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه أن يخلقه. وأوضح هذه المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم).
قوله تعالى (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم)
قال البخاري: حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن حُبيب ابن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى قال: "مَرَّ بي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أصلي فدعاني، فلم آتهِ حتى صليت، ثم أتيتُ فقال: ما منعك أن تأتي؟ فقلت: كنتُ أصلي. فقال: ألم يقل الله (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) ؟ ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبلَ أن أخرج من المسجد؟ فذهب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليخرج فذكرته فقال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته".
(صحيح البخاري ٨/٢٣٢- ك التفسير- سورة الحجر، ب (الآية) ح/٤٧٠٣).
قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب، حدثنا سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أُمّ القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم".
(صحيح البخاري ٨/٢٣٢- ك التفسير- سورة الحجر ح/٤٧٠٤).
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد في قوله: (والقرآن العظيم) قال: سائره: يعني سائر القرآن مع السبع من المثاني.
قوله تعالى (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن مجاهد (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) : الأغنياء الأمثال الأشباه.
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولا تحزن عليهم) الصحيح في معنى هذه الآية الكريمة أن الله نهى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحزن على الكفار إذا امتنعوا من قبول الإسلام ويدل ذلك كثرة ورود هذا المعنى في القرآن العظيم كقوله (ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) وقوله (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) وقوله (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) وقوله (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) وقوله (وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين).
قوله تعالى (واخفض جناحك للمؤمنين)
قوله تعالى (واخفض جناحك للمؤمنين) فقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لين الجانب مع أصحابه رحيم بهم ورؤوف كما أخبر الله تعالى بذلك إذ قال (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) سورة التوبة: ١٢٨.
قوله تعالى (وقل إني أنا النذير المبين)
انظر سورة البقرة آية (١٢٠).
قوله تعالى (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ)
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس (كما أنزلنا على المقتسمين) قال: آمنوا ببعض وكفروا ببعض، اليهود والنصارى.
(التصحيح- التفسير- سورة الحجر، الآية ح ٤٧٠٦).
قال ابن كثير: وقوله (المقتسمين) أي المتحالفين، أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأداهم، كقوله تعالى إخبارا عن قوم صالح إنهم (قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) الآية، أي نقتلهم ليلاً.
قوله تعالى (الذين جعلوا القرآن عضين)
أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس (الذين جعلوا القرآن عضين) قال: هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
(الصحيح- التفسير- سورة الحجر، الآية ح ٤٧٠٥).
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (الذين جعلوا القرآن عضين) قال: فرقا.
أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (الذين جعلوا القرآن عضين) عضهوا كتاب الله، زعم بعضهم أنه سحر، وزعم بعضهم أنه شعر، وزعم بعضهم أنه كهان. وعضين: جمع عِضة، من عَضيت الشيء إذا فرقته وجعلته أعضاء (النهاية لابن الأثير ٣/٢٥٥).
أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجامد قوله (جعلوا القرآن عضين) قال: سحر أعضاء الكتاب كلها وقريش، فرقوا القرآن، قالوا: هو سحر.
قوله تعالى (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ثم قال (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه
إنس ولا جان) قال: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا، لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول لهم: لم عملتم كذا وكذا.
قوله تعالى (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)
أخرج الطبري بسنده الحسن عن ابن عباس قوله (فاصدع بما تؤمر) يقول: فامضه.
أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد (فاصدع بما تؤمر) قال: اجهر بالقرآن في الصلاة.
قوله تعالى (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إلها آخر فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)
قال ابن كثير: وقوله (وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين) أي بلغ ما انزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله (ودوا لو تدهن فيدهنون) ولا تخفهم فإن الله كافيك إياهم وحافظك منهم، كقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم نفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس).
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (إنا كفيناك المستهزئين) بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه كفى نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المستهزئين الذين كانوا يستهزءون به وهم قوم من قريش. وذكر في مواضع أخر أنه كفاه غيرهم؛ كقوله في أهل الكتاب: (فسيكفيكهم الله) الآية، وقوله: (أليس الله بكاف عبده..) الآية.
قوله تعالى (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون)
قال الشيخ الشنقيطي: قوله تعالى (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يعلم أن نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضيق صدره بما يقوله الكفار فيه: من الطعن والتكذيب، والطعن في القرآن وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر؛ كقوله: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) وقوله: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك).
قوله تعالى (واعبد ربك حتى يآتيك اليقين)
انظر حديث البخاري عن أم العلاء الآتي عند الآية (٩) من سورة الأحقاف.
أخرج عبد الرزاق بسنده الصحيح عن قتادة قوله (اليقين) : الموت.
Icon