تفسير سورة الحج

تفسير ابن جزي
تفسير سورة سورة الحج من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي .
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
سورة الحج مدنية إلا الآيات ٥٢ و ٤٥ و ٥٥ فبين مكة والمدينة وآياتها ٧٨ نزلت بعد النور.

سورة الحج
مدنية إلا الآيات ٥٢ و ٥٣ و ٥٤ و ٥٥ فبين مكة والمدينة وآياتها ٧٨ نزلت بعد النور بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الحج) اتَّقُوا رَبَّكُمْ تكلمنا على التقوى في أول البقرة إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ أي شدّتها وهولها كقوله: وزلزلوا، أو تحريك الأرض حينئذ كقوله: إذا زلزلت الأرض زلزالها، والجملة تعليل للأمر بالتقوى، واختلف هل الزلزلة والشدائد المذكورة بعد ذلك في الدنيا بين يدي القيامة، أو بعد أن تقوم القيامة، والأرجح أن ذلك قبل القيامة، لأن في ذلك الوقت يكون ذهول المرضعة، ووضع الحامل لا بعد القيامة يَوْمَ تَرَوْنَها
العامل في الظرف تذهل، والضمير للزلزلة، وقيل: الساعة، وذلك ضعيف لما ذكرنا إلا أن يريد ابتداء أمرها تَذْهَلُ
الذهول هو الذهاب عن الشيء مع دهشة مُرْضِعَةٍ
إنما لم يقل مرضع، لأن المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها للصبي، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقال: مرضعة ليكون ذلك أعظم في الذهول، إذ تنزع ثديها من فم الصبي حينئذ وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
تشبيه بالسكارى من شدّة الغمّ وَما هُمْ بِسُكارى
نفي لحقيقة السكر، وقرأ [حمزة والكسائي] سكرى والمعنى متفق.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ نزلت في النضر بن الحارث، وقيل في أبي جهل، وهي تتناول كل من اتصف بذلك شَيْطانٍ مَرِيدٍ أي شديد الإغواء، ويحتمل أن يريد شيطان الجن أو الإنس كُتِبَ تمثيل لثبوت الأمر كأنه مكتوب، ويحتمل أن يكون بمعنى قضى، كقولك: كتب الله أنه في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله وفي أنه عطف عليه وقيل: تأكيد مَنْ تَوَلَّاهُ أي تبعه أو اتخذه وليا، والضمير في عليه، وفي أنه في الموضعين، وفي تولاه، للشيطان، وفي يضله، ويهديه، للمتولي له، ويحتمل أن تكون تلك الضمائر أولا لمن يجادل.
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ الآية: معناها إن شككتم في البعث الأخروي فزوال ذلك الشك أن تنظروا في ابتداء خلقتكم فتعلموا أن الذي قدر على أن خلقكم أول مرة: قادر على أن يعيدكم ثاني مرة، وأن الذي قدر على إخراج النبات من الأرض بعد موتها: قادر على أن يخرجكم من قبوركم خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ إشارة إلى خلق آدم، وأسند ذلك إلى الناس لأنهم من ذريته وهو أصلهم مِنْ عَلَقَةٍ العلقة قطعة من دم جامدة مِنْ مُضْغَةٍ أي قطعة من لحم مُخَلَّقَةٍ المخلقة التامة الخلقة، وغير المخلقة الغير التامة: كالسقط، وقيل: المخلقة المسوّاة السالمة من النقصان لِنُبَيِّنَ لَكُمْ اللام تتعلق بمحذوف تقديره: ذكرنا ذلك لنبين لكم قدرتنا على البعث وَنُقِرُّ فعل مستأنف إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني وقت وضع الحمل وهو مختلف وأقله ستة أشهر إلى ما فوق ذلك نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أفرده لأنه أراد الجنس، أو أراد نخرج كل واحد منكم طفلا لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ هو كمال القوّة والعقل والتمييز. وقد اختلف فيه من ثماني عشرة سنة إلى خمس وأربعين أَرْذَلِ الْعُمُرِ ذكر في [النحل: ٧٠] هامِدَةً يعني لا نبات فيها اهْتَزَّتْ تحركت بالنبات وتخلخلت أجزاؤها لما دخلها الماء وَرَبَتْ انتفخت زَوْجٍ بَهِيجٍ أي صنف عجيب.
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذلك المذكور من أمر الإنسان، والنبات حاصل، بأن الله هو الحق، هكذا قدره الزمخشري، والباء على هذا سببية، وبهذا المعنى أيضا فسّره ابن عطية، ويلزم على هذا أن لا يكون قوله: وأن الساعة آتية: معطوفا على ذلك، لأنه ليس بسبب لما ذكر، فقال ابن عطية قوله: أن الساعة ليس بسبب لما ذكر، ولكن المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض، أو على تقدير: والأمر أن الساعة وهذان الجوابان اللذان ذكر ابن عطية ضعيفان: أما قوله إن الأمر مرتبط بعضه ببعض، فالارتباط هنا إنما يكون بالعطف والعطف لا يصح، وأما قوله على تقدير الأمر: أن الساعة، فذلك استئناف وقطع للكلام الأول، ولا شك أن المقصود من الكلام الأول: هو إثبات الساعة فكيف يجعل ذكرها مقطوعا مما قبله، والذي يظهر لي أن الباء ليست بسببية، وإنما يقدر لها فعل تتعلق به ويقتضيه المعنى وذلك أن يكون التقدير: ذلك الذي تقدم من خلقة الإنسان والنبات شاهد بأن الله هو الحق، وأنه يحيى الموتى، وبأن الساعة آتية، فيصح عطف: وأن الساعة على ما قبله بهذا التقدير، وتكون هذه الأشياء المذكورة بعد قوله: ذلك مما استدل عليها بخلقة الإنسان والنبات.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت فيمن نزلت فيه الأولى وقيل الأخنس بن شريق ثانِيَ عِطْفِهِ كناية عن المتكبر المعرض لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ إن كانت في النضر بن الحارث: فالخزي أسره ثم قتله، وكذلك قتل أبي جهل ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ أي يقال له: ذلك بما فعلت وبعدل الله، لأنه لا يظلم العباد مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ نزلت في قوم من الأعراب، كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له ما يعجبه في ماله وولده قال: هذا دين حسن، وإن اتفق له خلاف ذلك تشاءم به وارتدّ عن الإسلام، فالحرف هنا كناية عن المقصد، وأصله من الانحراف عن الشيء، أو من الحرف بمعنى الطرف أي أنه في طرف من الدين لا في وسطه خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ خسارة الدنيا بما جرى عليه فيها، وخسارة الآخرة بارتداده وسوء اعتقاده ما لا يَضُرُّهُ يعني الأصنام، ويدعو بمعنى يعبد في الموضعين يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فيها إشكالان: الأول في المعنى وهو كونه وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ثم وصفها بأن ضرّها أقرب من نفعها، فنفى الضرّ ثم أثبته، فالجواب: أن الضر المنفي أولا يراد به ما يكون من فعلها وهي لا تفعل شيئا، والضر الثاني: يراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره، والأشكال الثاني: دخول اللام على من وهي في الظاهر مفعول، واللام لا تدخل على المفعول، وأجاب الناس عن ذلك بثلاثة أوجه: أحدها أن اللام مقدّمة على موضعها، كأن الأصل أن يقال: يدعو من لضره أقرب من نفعه، فموضعها الدخول على المبتدإ، والثاني: أن يدعو هنا كرر تأكيدا ليدعو الأول وتم الكلام عنده، ثم ابتدأ قوله: لمن ضرّه، فمن مبتدأ وخبره لبئس المولى، وثالثها:
أن معنى يدعو: يقول يوم القيامة هذا الكلام إذا رأى مضرة الأصنام، فدخلت اللام على مبتدإ في أول الكلام الْمَوْلى هنا بمعنى الولي الْعَشِيرُ الصاحب فهو من العشيرة.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية: لما ذكر أن الأصنام لا تنفع من عبدها، قابل ذلك بأن الله ينفع من عبده بأعظم النفع، وهو دخول الجنة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ السبب هنا الحبل، والسماء هنا سقف البيت وشبهه من الأشياء، التي
تعلق منها الحبال، والقطع هنا يراد به: الاختناق بالحبل، يقال: قطع الرجل إذا اختنق، ويحتمل أن يراد به قطع الرجل من الأرض بعد ربط الحبل في العنق، وربطه في السقف، والمراد بالاختناق هنا ما يفعله من اشتد غيظه وحسرته، أو طمع فيما لا يصل إليه، كقوله للحسود: مت كمدا، أو اختنق فإنك لا تقدر على غير ذلك، وفي معنى الآية قولان:
الأول أن الضمير في ينصره لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى على هذا: من كان من الكفار يظنّ أن لن ينصر الله محمدا فليختنق بحبل، فإن الله ناصره ولا بد على غيظ الكفار، فموجب الاختناق هو الغيظ من نصرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والقول الثاني أن الضمير في ينصره عائد على من، والمعنى على هذا من ظنّ بسبب ضيق صدره وكثرة غمه أن لن ينصره الله:
فليختنق وليمت بغيظه، فإنه لا يقدر على غير ذلك، فموجب الاختناق على هذا القنوط والسخط من القضاء، وسوء الظنّ بالله حتى ييأس من نصره، ولذلك فسر بعضهم أن لن ينصره الله بمعنى أن لن يرزقه، وهذا القول أرجح من الأول لوجهين: أحدهما أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف، لأنه إذا أصابته فتنة انقلب وقنط، حتى ظنّ أن الله لن ينصره، فيكون هذا الكلام متصلا بما قبله: ويدل على ذلك قوله قبل هذه الآية: إن الله يفعل ما يريد: أي الأمور بيد الله، فلا ينبغي لأحد أن يتسخط من قضاء الله، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة، والوجه الثاني، أن الضمير في ينصره على هذا القول يعود على ما تقدّمه، وأما على القول الأول فلا يعود على مذكور قبله لأن النبي ﷺ لم يذكر قبل ذلك بحيث يعود الضمير عليه، ولا يدل سياق الكلام عليه دلالة ظاهرة فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ الكيد هنا يراد به اختناقه، وسمي كيدا لأنه وضعه موضع الكيد، إذ هو غاية حيلته، والمعنى إذا خنق نفسه فلينظر هل يذهب ذلك ما يغيظه من الأمر، أي ليس يذهبه.
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ الضمير للقرآن، أي مثل هذا أنزلنا القرآن كله آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ قال ابن عطية: أن في موضع خبر الابتداء والتقدير الأمر أن الله، وهذا ضعيف. لأن فيه تكلف إضمار وقطع للكلام عن المعنى الذي قبله، وقال الزمخشري:
التقدير: لأن الله يهدي من يريد أنزلناه كذلك آيات بينات، فجعل أن تعليلا للإنزال، وهذا ضعيف للفصل بينهما بالواو. والصحيح عندي: أن قوله: وأن الله معطوف على آيات بينات، لأنه مقدر بالمصدر، فالتقدير أنزلناه آيات بينات وهدى لمن أراد الله أن يهديه
وَالصَّابِئِينَ ذكر في [البقرة: ٦٢] وكذلك الذين هادوا وَالْمَجُوسَ هم الذين يعبدون النار، ويقولون: إن الخير من النور والشر من الظلمة وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا هم الذين يعبدون الأصنام من العرب وغيرهم إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ هذه الجملة هي خبر إن الذين آمنوا والذين هادوا الآية، وكررت مع الخبر للتأكيد، وفصل الله بينهم بأن يبين لهم أن الإيمان هو
35
الحق، وسائر الأديان باطلة، وبأن يدخل الذين آمنوا الجنة ويدخل غيرهم النار يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ دخل في هذا من في السموات من الملائكة، ومن في الأرض من الملائكة، والجنّ ولم يدخل الناس في ذلك لأنه ذكرهم في آخر الآية، إلا أن يكون ذكرهم في آخرها على وجه التجريد، وليس المراد بالسجود هنا السجود المعروف، لأنه لا يصح في حق الشمس والقمر وما ذكر بعدهما، وإنما المراد به الانقياد ثم إن الانقياد يكون على وجهين: أحدهما الانقياد لطاعة الله طوعا، والآخر الانقياد لما يجري الله على المخلوقات في أفعاله وتدبيره شاؤوا أو أبوا وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لطاعة الله، فيكون كثير من الناس معطوفا على ما قبله من الأشياء التي تسجد ويكون قوله: وكثير حق عليه العذاب مستأنفا يراد به من لا ينقاد للطاعة، ويوقف على قوله: وكثير من الناس، وهذا القول هو الصحيح وإن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لقضاء الله وتدبيره فلا يصح تفضيل الناس على ذلك إلى من يسجد ومن لا يسجد لأن جميعهم يسجد بذلك المعنى، وقيل: إن قوله: وكثير من الناس معطوف على ما قبله ثم عطف عليه وكثير حق عليه العذاب فالجميع على هذا يسجد وهذا ضعيف لأن قوله: حق عليه العذاب يقتضي ظاهره أنه إنما حق عليه العذاب بتركه للسجود، وتأوله الزمخشري على هذا المعنى، بأن إعراب كثير من الناس فاعل بفعل مضمر تقديره يسجد سجود طاعة أو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف تقديره مثاب وهذا تكلف بعيد.
هذانِ خَصْمانِ الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم، ويدل على ذلك ما ذكر قبلها من اختلاف الناس في أديانهم، وهو قول ابن عباس، وقيل: نزلت في على ابن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين برزوا يوم بدر لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فالآية على هذا مدنية إلى تمام ست آيات، والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة، والمراد به هنا الجماعة والإشارة بهذان إلى الفريقين اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي في دينه وفي صفاته، والضمير في اختصموا لجماعة الفريقين فَالَّذِينَ كَفَرُوا الآية: حكم بين الفريقين، بأن جعل للكفار النار وللمؤمنين الجنة المذكورة بعد هذا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أي فصلت على قدر أجسادهم، وهو مستعار من تفصيل الثياب الْحَمِيمُ الماء الحارّ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ أي يذاب، وذلك أن الحميم إذا صب على رؤوسهم وصل حره إلى بطونهم، فأذاب ما فيها، وقيل:
معنى يصهر ينضج مَقامِعُ جمع مقمعة أي مقرعة مِنْ حَدِيدٍ يضربون بها، وقيل: هي
36
السياط
مِنْ غَمٍّ بدل من المجرور قبله وَذُوقُوا التقدير يقال لهم ذوقوا مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ من لبيان الجنس أو للتبعيض وفسرنا الأساور في [الكهف: ٣١] وَلُؤْلُؤاً بالنصب مفعول بفعل مضمر أي يعطون لؤلؤا، أو معطوف على موضع من أساور إذ هو مفعول، وبالخفض معطوف على أساور أو على ذهب الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ قيل: هو لا إله إلا الله، واللفظ أعم من ذلك صِراطِ الْحَمِيدِ أي صراط الله، فالحميد اسم الله، ويحتمل أن يريد الصراط الحميد، وأضاف الصفة إلى الموصوف كقولك: مسجد الجامع إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا خبره محذوف يدل عليه قوله نذقه من عذاب أليم، وقيل: الخبر يصدون على زيادة الواو، وهذا ضعيف، وإنما قال: يصدون بلفظ المضارع ليدل على الاستمرار على الفعل سَواءً بالرفع «١» مبتدأ وخبره مقدر، والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا، وقرأ حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني والعاكف فاعل به الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ العاكف المقيم في البلد: والبادي «٢» القادم عليه من غيره، والمعنى: أن الناس سواء في المسجد الحرام، لا يختص به أحد دون أحد وذلك إجماع، وقال أبو حنيفة: حكم سائر مكة في ذلك كالمسجد الحرام، فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء، وليس لأحد فيها ملك، والمراد عنده بالمسجد الحرام جميع مكة، وقال مالك وغيره: ليست الدور في ذلك كالمسجد، بل هي متملكة بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ الإلحاد الميل عن الصواب، والظلم هنا عام في المعاصي من الكفر إلى الصغائر، لأن الذنوب في مكة أشدّ منها في غيرها، وقيل: هو استحلال الحرام، ومفعول يرد محذوف تقديره: من يرد أحدا أو من يرد شيئا، وبإلحاد بظلم: حالان مترادفان، وقيل: المفعول قوله بإلحاد على زيادة الباء.
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ العامل في إذ مضمر تقديره اذكر وبوأنا أصله من باء بمعنى رجع، ثم ضوعف ليتعدى، واستعمل بمعنى أنزلنا في الموضع كقوله: تبوئ المؤمنين، إلا أن هذا المعنى يشكل هنا لقوله لإبراهيم لتعدّى الفعل باللام، وهو يتعدّى بنفسه حتى قيل:
اللام زائدة، وقيل: معناه هيأنا، وقيل: جعلنا، والبيت هنا الكعبة، وروى أنه كان آدم يعبد الله فيه، ثم درس بالطوفان، فدل الله إبراهيم عليه السلام على مكانه، وأمره ببنيانه أَنْ لا تُشْرِكْ أن
(١). قرأ حفص وحده بالنصب والباقون بالرفع.
(٢). البادي: قرأها كذلك أبو عمرو وإسماعيل وورش بالياء في الوصل دون الوقف، وقرأها الباقون بدون ياء وقرأها ابن كثير بالياء وصلا ووقفا.
مفسرة، والخطاب لإبراهيم عليه السلام، وإنما فسرت تبوئة البيت بالنهي عن الإشراك، والأمر بالتطهير لأن التبوئة إنما قصدت لأجل العبادة التي تقتضي ذلك طَهِّرا بَيْتِيَ عام في التطهير من الكفر والمعاصي والأنجاس، وغير ذلك وَالْقائِمِينَ يعني المصلين.
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ خطاب لإبراهيم، وقيل: لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والأول هو الصحيح، روى أنه لما أمر بالأذان بالحج «١» : صعد على جبل أبي قبيس، ونادى: أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا، فسمعه كل من يحج إلى يوم القيامة، وهم في أصلاب آبائهم. وأجابه في ذلك الوقت كل شيء من جماد وغيره. لبيك اللهم لبيك، فجرت التلبية على ذلك يَأْتُوكَ رِجالًا جمع راجل أي ماشيا على رجليه وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ الضامر يراد به كل ما يركب من فرس وناقة وغير ذلك، وإنما وصفه بالضمور لأنه لا يصل إلى البيت إلا بعد ضموره، وقوله: وعلى كل ضامر حال معطوف على حال كأنه قال: رجالا وركبانا، واستدل بعضهم بتقديم الرجال في الآية على أن المشي إلى الحج أفضل من الركوب، واستدل بعضهم بسقوط ذكر البحر بهذه الآية، على أنه يسقط فرض الحج على من يحتاج إلى ركوب البحر يَأْتِينَ صفة لكل ضامر، لأنه في معنى الجمع مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي طريق بعيد مَنافِعَ لَهُمْ أي بالتجارة، وقيل: أعمال الحج وثوابه، واللفظ أعم من ذلك وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ يعني التسمية عند ذبح البهائم ونحرها وفي الهدايا والضحايا، وقيل: يعني الذكر على الإطلاق، وإنما قال: اسم الله، لأن الذكر باللسان إنما يذكر لفظ الأسماء فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ هي عند مالك: يوم النحر وثانيه وثالثه خاصة لأن هذه هي أيام الضحايا عنده، ولم يجز ذبحها بالليل لقوله في أيام وقيل: الأيام المعلومات: عشر ذي الحجة ويوم النحر والثلاثة بعده، وقيل: عشر ذي الحجة خاصة، وأما الأيام المعدودات، فهي الثلاثة بعد يوم النحر، فيوم النحر من المعلومات لا من المعدودات واليومان بعده من المعلومات والمعدودات ورابع النحر في المعدودات لا من المعلومات فَكُلُوا مِنْها ندب أو إباحة ويستحب أن يأكل الأقل من الضحايا ويتصدق بالأكثر الْبائِسَ الذي أصابه البؤس وقيل: هو المتكفف وقيل: الذي يظهر عليه أثر الجوع
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ التفث في اللغة الوسخ، فالمعنى ليقضوا إزالة تفثهم بقص الأظفار والاستحداد وسائر خصال الفطرة والتنظف بعد أن يحلّوا من الحج، وقيل: التفث أعمال الحج، وقرئ بكسر «٢» اللام وإسكانها، وهي لام الأمر وكذلك وليّوفوا وليطوّفوا.
(١). راجع الطبري وقد ذكره الحديث بسنده إلى ابن عباس.
(٢). ذكر ابن خالويه ذلك في كتابه الحجة وأن الكسر مع ثم أكثر. وقرأ بالكسر أبو عمرو ورش وابن عامر وقرأ الباقون بسكون اللام. [.....]
38
وَلْيَطَّوَّفُوا المراد هنا طواف الإفاضة عند جميع المفسرين وهو الطواف الواجب بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي القديم، لأنه أول بيت وضع للناس وقيل: العتيق الكريم، كقولهم:
فرس عتيق، وقيل أعتق من الجبابرة أي منع منهم، وقيل: العتيق هو الذي لم يملكه أحد قط ذلِكَ هنا وفي الموضع الثاني مرفوع على تقدير: الأمر ذلك كما يقدم الكاتب جملة من كتابه، ثم يقول هذا وقد كان كذا، وأجاز بعضهم الوقف على قوله: ذلك في ثلاثة مواضع من هذه السورة وهي هذا و «ذلك ومن يعظم شعائر الله» و «ذلك ومن يشرك بالله» لأنها جملة مستقلة أو هو خبر ابتداء مضمر، والأحسن وصلها بما بعدها عند شيخنا أبي جعفر بن الزبير، لأن ما بعدها ليس كلاما أجنبيا، ومثلها «ذلك ومن عاقب» و «ذلكم فذوقوه» في الأنفال، و «هذا وإن للطاغين» في ص: ٥٥ حُرُماتِ اللَّهِ جمع حرمة، وهو ما لا يحل هتكه من أحكام الشريعة، فيحتمل أن يكون هنا على العموم، أو يكون خاصا بما يتعلق بالحج لأن الآية فيه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أي التعظيم للحرمات خير إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني ما حرمه في غير هذا الموضع كالميتة الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ من لبيان الجنس كأنه قال: الرجس الذي هو الأوثان، والمراد النهي عن عبادتها أو عن الذبح تقربا إليها، كما كانت العرب تفعل قَوْلَ الزُّورِ أي الكذب، وقيل: شهادة الزور.
فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ الآية، تمثيل للمشرك بمن أهلك نفسه أشدّ الهلاك سَحِيقٍ أي بعيد شَعائِرَ اللَّهِ قيل: هي الهدايا في الحج وتعظيمها بأن تختار سمانا عظاما غالية الأثمان، وقيل: مواضع الحج، كعرفات ومنى والمزدلفة، وتعظيمها إجلالها وتوقيرها والقصد إليها، وقيل: الشعائر أمور الدين على الإطلاق، وتعظيمها القيام بها وإجلالها فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ الضمير عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام وهي مصدر يعظم، وقال الزمخشري: التقدير: فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات لَكُمْ فِيها مَنافِعُ من قال: إن شعائر الله هي الهدايا، فالمنافع بها شرب لبنها، وركوبها لمن اضطر إليها، والأجل المسمى نحرها. ومن قال إن شعائر الله مواضع الحج، فالمنافع التجارة فيها أو الأجر، والأجل المسمى: الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ من قال: إن شعائر الله الهدايا فمحلها موضع نحرها وهي منى ومكة، وخص البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي، وثم على هذا القول ليست للترتيب في
39
الزمان، لأن محلها قبل نحرها، وإنما هي لترتيب الجمل، ومن قال: إن الشعائر موضع الحج، فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم: أي أخر ذلك كله الطواف بالبيت يعني طواف الإفاضة إذ به يحل المحرم من إحرامه ومن قال: إن الشعائر أمور الدين على الإطلاق فذلك لا يستقيم مع قوله: محلها إلى البيت.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً أي لكل أمة مؤمنة، والمنسك اسم مكان أي موضعها لعبادتهم، ويحتمل أن يكون اسم مصدر بمعنى عبادة، والمراد بذلك الذبائح لقوله: «ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام» بخلاف ما يفعله الكفار من الذبح تقرّبا إلى الأصنام فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ في وجه اتصاله بما قبله وجهان: أحدهما أنه لما ذكر الأمم المتقدّمة خاطبها بقوله: فإلهكم إله واحد، أي هو الذي شرع المناسك لكم ولمن تقدّم قبلكم، والثاني:
أنه إشارة إلى الذبائح أي إلهكم إله واحد فلا تذبحوا تقربا لغيره الْمُخْبِتِينَ الخاشعين وقيل:
المتواضعين، وقيل: نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وكذلك قوله بعد ذلك: وبشر المحسنين واللفظ فيهما أعم من ذلك وَجِلَتْ خافت وَالْبُدْنَ جمع بدنة، وهو ما أشعر من الإبل، واختلف هل يقال للبقرة بدنة، وانتصابه بفعل مضمر مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ واحدها شعيرة، ومن للتبعيض، واستدل بذلك من قال: إن شعائر الله المذكورة أو على العموم في أمور الدين لَكُمْ فِيها خَيْرٌ قيل: الخير هنا المنافع المذكورة قبل، وقيل: الثواب، والصواب العموم في خير الدنيا والآخرة صَوافَّ معناه: قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهنّ، وهي منصوبة على الحال من الضمير المجرور، ووزنه فواعل، وواحده صافة وَجَبَتْ جُنُوبُها أي سقطت إلى الأرض عند موتها، يقال: وجب الحائط وغيره إذا سقط الْقانِعَ معناه السائل، هو من قولك قنع الرجل بفتح النون: إذا سأل، وقيل: معناه المتعفف عن السؤال، فهو على هذا من قولك: قنع بالكسر إذا رضي بالقليل وَالْمُعْتَرَّ المعترض بغير سؤال، ووزنه مفتعل، يقال: اعتررت بالقوم إذا تعرّضت لهم، فالمعنى: أطعموا من سأل ومن لم يسأل ممن تعرض بلسان حاله، وأطعموا من تعفف عن السؤال بالكلية، ومن تعرض للعطاء كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ أي كما أمرناكم بهذا كله سخرناها لكم، وقال الزمخشري: التقدير مثل التخيير الذي علمتم سخرناها لكم.
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها المعنى لن تصلوا إلى رضا الله باللحوم ولا بالدماء، وإنما تصلون إليه بالتقوى أي بالإخلاص لله، وقصد وجه الله بما تذبحون وتنحرون
من الهدايا، فعبر عن هذا المعنى بلفظ: ينال مبالغة وتأكيدا، لأنه قال: لن تصل لحومها ولا دماؤها إلى الله، وإنما تصل بالتقوى منكم، فإن ذلك هو الذي طلب منكم، وعليه يحصل لكم الثواب، وقيل: كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بالدماء فأراد المسلمون فعل ذلك فنهوا عنه ونزلت الآية كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ كرر للتأكيد لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ قيل: يعني قول الذابح: بسم الله والله أكبر، واللفظ أعم من ذلك.
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا كان الكفار يؤذون المؤمنين بمكة، فوعدهم الله أن يدفع عنهم شرهم وأذاهم، وحذف مفعول يدافع ليكون أعظم وأعم «وقرئ يدافع بالألف، ويدفع بسكون الدال من غير الألف «١»، وهما بمعنى واحد، أجريت فاعل مجرى فعل من قولك عاقبة الأمر، وقال الزمخشري: يدافع: معناه يبالغ في الدفع عنهم، لأنه للمبالغة، وفعل المغالبة أقوى إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ الخوّان مبالغة في خائن، والكفور مبالغة في كافر، قال الزمخشري: هذه الآية علة لما قبلها أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ هذه أول آية نزلت في الإذن في القتال، ونسخت الموادعة مع الكفار، وكان نزولها عند الهجرة، وقرئ أذن «٢» بضم الهمزة على البناء لما لم يسم فاعله، وبالفتح على البناء للفاعل وهو الله تعالى، والمعنى أذن لهم في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه، وقرئ يقاتلون بفتح التاء «٣» وكسرها بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي بسبب أنهم ظلموا
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني الصحابة، فإن الكفار آذوهم وأضروا بهم حتى اضطروهم إلى الخروج من مكة، فمنهم من هاجر إلى أرض الحبشة، ومنهم من هاجر إلى المدينة ونسب الإخراج إلى الكفار لأن الكلام في معرض إلزامهم الذنب ووصفهم بالظلم إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ قال ابن عطية هو استثناء منقطع لا يجوز فيه البدل عند سيبويه، وقال الزمخشري: أن يقولوا في محل الجر على الإبدال من حق وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ الآية تقوية للإذن في القتال وإظهار للمصلحة التي فيه، كأنه يقول لولا القتال والجهاد لاستولى الكفار على المسلمين وذهب الدين، وقيل: المعنى لولا دفع ظلم الظلمة بعدل الولاة، والأول أليق بسياق الآية، وقرأ نافع: دفاع بالألف مصدر دافع، والباقون بغير ألف مصدر دفع لَهُدِّمَتْ قرأ نافع وابن كثير بالتخفيف والباقون بالتشديد للمبالغة صَوامِعُ جمع صومعة بفتح الميم وهي موضع
(١). قرأ ابن كثير وأبو عمرو: يدفع بدون ألف وقرأ الباقون بالألف: يدافع.
(٢). قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم بالضم وقرأ الباقون بالفتح.
(٣). قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح التاء والباقون بكسرها.
41
العبادة، وكانت للصابئين ولرهبان النصارى، ثم سمى بها في الإسلام موضع الأذان، والبيع جمع بيعة بكسر الباء وهي كنائس النصارى، والصلوات كنائس اليهود، وقيل: هي مشتركة لكل أمة، والمراد بها مواضع الصلوات، والمساجد للمسلمين، فالمعنى: لولا دفع الله لاستولى الكفار على أهل الملل المتقدمة في أزمانهم، ولاستولى المشركون على هذه الأمة فهدموا مواضع عباداتهم يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ الضمير لجميع ما تقدم من المتعبدات، وقيل: للمساجد خاصة وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي من ينصر دينه وأولياءه، وهو وعد تضمن الحض على القتال الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ الآية قيل: يعني أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: الصحابة، وقيل:
الخلفاء الأربعة لأنهم الذين مكنوا في الأرض بالخلافة ففعلوا ما وصفهم الله به.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ الآية ضمير الفاعل لقريش، والخطاب للنبي ﷺ على وجه التسلية له والوعيد لهم نَكِيرِ مصدر بمعنى الإنكار عَلى عُرُوشِها العروش السقف فإن تعلق الجار بخاوية: فالمعنى أن العروش سقطت ثم سقطت الحيطان عليها فهي فوقها، وإن كان الجار والمجرور في موضع الحال: فالمعنى أنها خاوية مع بقاء عروشها بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي لا يستقى الماء منها لهلاك أهلها، وروي أن هذه البئر هي الرس، وكانت بعدن لأمة من بقايا ثمود، والأظهر أنه لم يرد التعيين، لقوله: «كأين من قرية» وهذا اللفظ يراد به التكثير وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أي مبنى بالشيد وهو الجص، وقيل: المشيد المرفوع البنيان قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ دليل على أن العقل في القلب، خلافا للفلاسفة في قولهم: العقل في الدماغ «١» فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ أي لا تعمى الأبصار عمى يعتد به، وإنما العمى الذي يعتد به عمى القلوب، وإن هؤلاء القوم ما عميت أبصارهم ولكن عميت قلوبهم، فالمعنى الأول لقصد المبالغة، والثاني خاص بهؤلاء القوم الَّتِي فِي الصُّدُورِ مبالغة كقوله: يقولون بأفواههم.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ الضمير لكفار قريش وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ إخبار يتضمن الوعيد بالعذاب، وسماه وعدا لأن المراد به مفهوم وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ
(١). القلب هو مركز العواطف وأما الدماغ فمركز الإدارة العامة لجميع وظائف الأعضاء.
42
المعنى أن يوما من أيام الآخرة مقداره ألف سنة من أعوام الدنيا، ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف «١» يوم. وذلك خمسمائة سنة، وقيل: المعنى إن يوما واحدا من أيام العذاب كألف سنة لطول العذاب، فإن أيام البؤس طويلة، وإن كانت في الحقيقة قصيرة، وفي كل واحد من الوجهين تهديد للذين استعجلوا العذاب، إلا أن الأول أرجح، لأن الألف سنة فيه حقيقة، وقيل: إن اليوم المذكور في الآية هو يوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض.
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ذكر أولا القرى التي أهلكها بغير إملاء، وذكر هنا التي أهلكها بعد الإملاء، والإملاء هو الإمهال مع إرادة المعاقبة فيما بعد، وعطف هذه الجملة بالواو على الجمل المعطوفة قبلها بالواو، وقال في الأولى فكأين لأنه بدل من قوله: فكيف كان نكير سَعَوْا فِي آياتِنا أي سعوا فيها بالطعن عليها، وهو من قولك: سعى في الأمر إذا جد فيه لقصد إصلاحه أو إفساده مُعاجِزِينَ بالألف: أي مغالبين، لأنهم قصدوا عجز صاحب الآيات، والآيات تقتضي عجزهم، فصارت مفاعلة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد [معجّزين] من غير ألف ومعناه أنهم يعجزون الناس عن الإسلام أي يثبطونهم عنه مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ النبيّ أعم من الرسول، فكل رسول نبيّ وليس كل نبيّ رسولا، فقدم الرسول لمناسبة لقوله أرسلنا وأخر النبي لتحصيل العموم، لأنه لو اقتصر على رسول لم يدخل في ذلك من كان نبيا غير رسول إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ سورة والنجم بالمسجد الحرام بمحضر المشركين والمسلمين فلما بلغ إلى قوله: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان: تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى، فسمع ذلك المشركون ففرحوا به وقالوا: محمد يذكر آلهتنا بما نريد.
واختلف في كيفية إلقاء الشيطان، فقيل: إن الشيطان هو الذي تكلم بذلك، وظن الناس أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم هو المتكلم به لأنه قرّب صوته من صوت النبيّ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، حتى التبس الأمر على المشركين، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي تكلم بذلك على وجه الخطأ والسهو لأن الشيطان ألقاه ووسوس في قلبه، حتى خرجت تلك الكلمة على لسانه من غير قصد، والقول الثاني أشهر عند المفسرين والناقلين لهذه القصة، والقول الأول أرجح لأن النبي صلى الله تعالى
(١). رواه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص ٥١٣.
عليه وعلى آله وسلم معصوم في التبليغ، فمعنى الآية: أن كل نبي وكل رسول قد جرى له مثل ذلك من إلقاء الشيطان، واختلف في معنى تمنى وأمنيته في هذه الآية فقيل: تمنى بمعنى تلا، والأمنية: التلاوة: أي إذا قرأ الكتاب ألقى الشيطان من عنده في تلاوته، وقيل: هو من التمني بمعنى حب الشيء، وهذا المعنى أشهر في اللفظ: أي تمنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقاربة قومه واستئلافهم، وألقى الشيطان ذلك في هذه الأمنية ليعجبهم ذلك فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي يبطله كقولك: نسخت الشمس الظل
لِيَجْعَلَ متعلق بقوله ينسخ ويحكم لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي أهل الشك وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ المكذبون، وقيل: الذين في قلوبهم مرض عامة الكفار، والقاسية قلوبهم أشدّ كفرا وعتّوا كأبي جهل وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ يعني بالظالمين المذكورين قبل، ولكنه جعل الظاهر موضع المضمر، ليقضي عليهم بالظلم، والشقاق: العداوة، ووصفه ببعيد، لأنه في غاية الضلال والبعد عن الخير الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قيل: يعني الصحابة، واللفظ أعم من ذلك.
أَنَّهُ الْحَقُّ الضمير عائد على القرآن، وقال الزمخشري: هو لتمكين الشيطان من الإلقاء فَتُخْبِتَ أي تخشع فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ الضمير للقرآن، أو للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أو للإلقاء يَوْمٍ عَقِيمٍ يعني يوم بدر، ووصفه بالعقيم لأنه لا ليلة لهم بعده ولا يوم، لأنهم يقتلون فيه، وقيل: هو يوم القيامة، والساعة مقدّماته، ويقوي ذلك قوله: الملك يومئذ لله، ثم قسم الناس إلى قسمين: أصحاب الجحيم وأصحاب النعيم قُتِلُوا أَوْ ماتُوا روى أن قوما قالوا: يا رسول الله قد علمنا ما أعطى الله لمن قتل من الخيرات، فما لمن مات معك؟ فنزلت الآية معلمة أن الله يرزق من قتل ومن مات معا، ولا يقتضي ذلك المساواة بينهم لأن تفضيل الشهداء ثابت رِزْقاً حَسَناً يحتمل أن يريد به الرزق في الجنة بعد يوم القيامة، أو رزق الشهداء في البرزخ، والأول أرجح، لأنه يعم الشهداء والموتى مُدْخَلًا يعني الجنة ذلِكَ تقديره هنا: الأمر ذلك كما يقول الكاتب هذا وقد كان كذا إذا أراد أن يخرج إلى حديث آخر.
وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ سمى الابتداء عقوبة باسم الجزاء عليها تجوّزا كما تسمى العقوبة أيضا باسم الذنب ووعد بالنصر لمن بغى عليه إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إن قيل
ما مناسبة هذين الوصفين للمعاقبة؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أن في ذكر هذين الوصفين إشعار بأن العفو أفضل من العقوبة، فكأنه حض على العفو، والثاني أن في ذكرهما إعلاما بعفو الله عن المعاقب حين عاقب، ولم يأخذ بالعفو الذي هو أولى
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ أي ذلك النصر بسبب أن الله قادر، ومن آيات قدرته أنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ومعنى الإيلاج هنا أنه يدخل ظلمة هذا في مكان ضوء هذا، ويدخل ضوء هذا مكان ظلمة هذا، وقيل: الإيلاج هو ما ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر.
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذلك الوصف الذي وصف الله به هو بسبب أنه الحق فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً تصبح هنا بمعنى تصير، وفهم بعضهم أنه أراد صبيحة ليلة المطر، فقال: لا تصبح الأرض مخضرة إلا بمكة، والبلاد الحارة، وأما على معنى تصير، فذلك عام في كل بلد، والفاء للعطف، وليست بجواب، ولو كانت جوابا لقوله: ألم تر لنصبت الفعل، وكان المعنى نفي خضرتها وذلك خلاف المقصود، وإنما قال تصبح بلفظ المضارعة ليفيد بقاءها كذلك مدة سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ يعني البهائم والثمار والمعادن وغير ذلك أَنْ تَقَعَ في موضع مفعول على تقدير عن أن تقع، وقال الزمخشري: كراهة أن تقع فهو مفعول من أجله إِلَّا بِإِذْنِهِ يحتمل أن يريد يوم القيامة، فجعل طي السماء كوقوعها أو يريد بإذنه لو شاء متى شاء أَحْياكُمْ أي أوجدكم بعد العدم، وعبّر عن ذلك بالحياة لأن الإنسان قبل ذلك تراب فهو جماد بلا روح، ثم أحياه بنفخ الروح ثُمَّ يُمِيتُكُمْ يعني الموت المعروف ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يعني البعث لَكَفُورٌ أي جحود للنعمة مَنْسَكاً هو اسم مصدر لقوله: ناسكوه ولو كان اسم مكان لقال ناسكون فيه فَلا يُنازِعُنَّكَ ضمير الفاعل للكفار، والمعنى: أنه لا ينبغي منازعة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسع النزاع فيه، فجاء الفعل بلفظ النهي والمراد غير النهي، وقيل:
إن المعنى لا تنازعهم فينازعوك، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، ويحتمل أن يكون نهيا لهم عن المنازعة على ظاهر اللفظ فِي الْأَمْرِ أي في الدين والشريعة أو في الذبائح وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي ادع الناس إلى عبادة ربك.
وَإِنْ جادَلُوكَ الآية: تقتضي موادعة منسوخة بالقتال إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ يعني اللوح المحفوظ، والإشارة بذلك إلى معلومات الله إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى كتب المعلومات في الكتاب، أو إلى الحكم في الاختلاف والأول أظهر ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً يعني الأصنام والسلطان هنا: الحجة والبرهان، وما ليس لهم به علم:
قيل: إنه يعني ما ليس لهم به علم ضروري، فنفى أولا البرهان النظري، ثم العلم الضروري، وليس اللفظ بظاهر في هذا المعنى، بل الأحسن نفي العلم الضروري والنظري معا تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أي الإنكار لما يسمعون فالمنكر مصدر: كالمكرم بمعنى الإكرام ويعرف ذلك في وجوههم بعبوسها وإعراضها يَسْطُونَ من السطوة وهي سرعة البطش النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ يحتمل أن تكون النار مبتدأ، ووعدها الله خبرا أو يكون النار خبر ابتداء مضمر كأنّ قائلا قال: ما هو، فقيل: هو النار، ويكون وعدها الله استئنافا وهذا أظهر ضُرِبَ مَثَلٌ أي ضربه الله لإقامة الحجة على المشركين لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً تنبيه بالأصغر على الأكبر من باب أولى وأحرى، والمعنى: أن الأصنام التي تعبدونها لا تقدر على خلق الذباب ولا غيره، فكيف تعبد من دون الله الذي خلق كل شيء، ثم أوضح عجزهم بقوله وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي لو تعاونوا على خلق الذباب لم يقدروا عليه وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ بيان أيضا لعجز الأصنام بحيث لو اختطف الذباب منهم شيئا لم يقدروا على استنقاذه منه على حال ضعفه، وقد قيل: إن المراد بما يسلب الذباب منهم الطيب الذي كانت تجعله العرب على الأصنام واللفظ أعم من ذلك ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ المراد بالطالب الأصنام وبالمطلوب الذباب، لأن الأصنام تطلب من الذباب ما سلبته منها. وقيل: الطالب الكفار والمطلوب الأصنام. لأن الكفار يطلبون الخير منهم.
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق تعظيمه اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ردّ على من أنكر أن يكون الرسول من البشر
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا في
46
هذه الآية سجدة عند الشافعي وغيره للحديث الصحيح الوارد في ذلك خلافا للمالكية وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ عموم في العبادة بعد ذكر الصلاة التي عبر عنها بالركوع والسجود، وإنما قدمها لأنها أهم العبادات وَافْعَلُوا الْخَيْرَ قيل: المراد صلة الرحم، وقال ابن عطية: هي في الندب فيما عدا الواجبات، واللفظ أعم من ذلك كله وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ يحتمل أن يريد جهاد الكفار، أو جهاد النفس والشيطان أو الهوى، أو العموم في ذلك حَقَّ جِهادِهِ قيل: إنه منسوخ كنسخ حق تقاته بقوله: ما استطعتم وفي ذلك نظر، وإنما أضاف الجهاد إلى الله ليبين بذلك فضله واختصاصه بالله اجْتَباكُمْ أي اختاركم من بين الأمم مِنْ حَرَجٍ أي مشقة، وأصل الحرج الضيق مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ انتصب ملة بفعل مضمر تقديره: أعني بالدين ملة إبراهيم أو التزموا ملة إبراهيم وقال الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف كأنه قال كملة، وقال الزمخشري: انتصب بمضمون ما تقدم: كأنه قال: وسع عليكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم، ثم خذف المضاف، فإن قيل: لم يكن إبراهيم أبا للمسلمين كلهم، فالجواب: أنه كان أبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبا لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده، ولذلك قرئ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: ٦]، وهو أب لهم، وأيضا فإن قريشا وأكثر العرب من ذرية إبراهيم، وهم أكثر الأمة فاعتبرهم دون غيرهم هُوَ سَمَّاكُمُ الضمير لله تعالى، ومعنى من قبل في الكتب المتقدمة. وفي هذا أي في القرآن، وقيل الضمير لإبراهيم والإشارة إلى قوله: ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، ومعنى من قبل على هذا: من قبل وجودكم، وهنا يتم الكلام على هذا القول ويكون قوله «وفي هذا» مستأنفا:
أي وفي هذا البلاغ، والقول الأول أرجح وأقل تكلفا، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب: الله سماكم المسلمين شَهِيداً عَلَيْكُمْ تقدم معنى هذه الشهادة في البقرة فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ الظاهر أنها المكتوبة لاقترانها مع الزكاة هُوَ مَوْلاكُمْ معناه هنا: وليكم وناصركم بدلالة ما بعد ذلك.
47
Icon