تفسير سورة الحجرات

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الحجرات
في السورة فصول تأديبية وتعليمية وأخلاقية واجتماعية وسياسية وسلوكية فيما يجب على المسلمين تجاه النبي صلى الله عليه وسلم وتجاه بعضهم. وفيها مشهد من مشاهد الأعراب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتبجحهم بالإسلام. وميزان لصدق إيمان المؤمنين وإفساح المجال للأعراب لدخولهم حظيرة الإسلام والدولة الإسلامية.
والتساوق الموضوعي بين الفصول يسوغ ترجيح نزولها دفعة واحدة أو متتابعة، أما المناسبات المروية لنزول آياتها فالراجح أنها حدثت قبل نزول السورة فكانت وسيلة لنزول آياتها.
وليس في السورة ما يساعد على القول بصحة ترتيبها وعدمه. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أنها نزلت بعد سورة المجادلة ومعظم الترتيبات المروية مقاربة لذلك١ فجارينا رواية المصحف الذي اعتمدناه. والله أعلم.
١ انظر ترتيبات نزول السورة المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ١ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ( ٢ ) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٣ ) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ( ٤ ) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم١ ﴾
والآيات الأربع التالية لها وما فيها من صور وتلقين.
في الآية الأولى : نهي للمسلمين عن أن يسبقوا النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ما قولا أو عملا أو أن يبدو رأيا في أمر قبله انتظارا لما يكون من النبي صلى الله عليه وسلم من قول وعمل ورأي، والوقوف عنده مع حثهم على تقوى الله تعالى السميع لكل ما يقال العليم بكل شيء الذي يجب مراقبته وعدم الخروج عن أمره ونهيه.
وفي الآية الثانية : نهي لهم عن رفع أصواتهم في حضوره حتى تعلو على صوته. وعن مخاطبته بالأساليب التي يخاطب بها بعضهم بعضا وعن الجهر أمامه بقول لا يليق مما قد يجهر به بعضهم أمام بعض. وتنبيه لهم على أن مثل التصرف من شأنه أن يحبط ويضيع ثمرات أعمالهم الحسنة عند الله، من دون أن يشعروا على سبيل التحذير والعظة.
وفي الآية الثالثة : تنويه ( على سبيل توكيد النهي في الآية الثانية والدعوة إلى التأسي } بالذين يخفضون أصواتهم في حضور النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء قد طهر الله قلوبهم فجعلها تشعر بواجب تقوى الله والتأدب في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم. ولهم عند الله من أجل ذلك المغفرة وعظيم الأجر.
وفي الآيتين الرابعة والخامسة : تنديد بالذين ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته حينما لا يجدونه في المسجد، فأكثرهم جاهلون لا يعقلون، ولو أنهم انتظروا وصبروا حتى يخرج إليهم حين يحين وقت خروجه لكان خيرا وأفضل.
ومع ذلك فالله غفورا رحيم يشمل أصحاب هذه الهفوة التي تصدر عن جهل وحسن نية بغفرانه ورحمته.
والآيات احتوت ثلاثة مواضيع متجانسة وتأديبية نحو شخص النبي صلى الله عليه وسلم كما هو واضح، وقد روى المفسرون١ لكل موضوع مناسبة خاصة. بل منهم من روى لبعضها أكثر من رواية ومناسبة فرووا لمناسبة نزول الآية الأولى أو الموضوع الأول :
( ١ ) أن وفدا من بني تميم قدم إلى المدينة فاقترح أبو بكر تأمير شخص منهم عليهم واقترح عمر تأمير شخص آخر. فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي ونفى عمر ذلك وتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، وكان ذلك في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يسألهما رأيهما أو يبدي رأيه فكان ذلك سبب نزول الآية. وممن روى هذه الرواية البخاري عن عبد الله ابن الزبير٢.
( ٢ ) وأنها نزلت بمناسبة صيام بعض المسلمين قبل أن يثبت هلال رمضان ويعلن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الصوم.
( ٣ ) وأنها نزلت بمناسبة ذبح بعضهم يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم ورووا لمناسبة الآية الثانية أو الموضوع الثاني أنها نزلت في مسلم اسمه ثابت ابن قيس كان جهير الصوت، فكان صوته يعلو على صوت الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد روى الشيخان في فصل التفسير أنه لما نزلت الآية جلس في بيته منكسا رأسه فافتقده رسول الله فقال له رجل : أنا أعلم علمه فذهب إليه فسأله ما شأنك ؟ قال : شر، كان صوتي يرتفع فوق صوت رسول الله، فحبط عملي وصرت من أهل النار، فأتى الرجل النبي فأخبره فقال : اذهب إليه. فقل له : إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة٣.
ورووا لمناسبة الآيتين الرابعة والخامسة.
أن النبي بعث سرية إلى قوم فهرب رجالهم واستاقت السرية عيالهم سبيا. فلم يلبث رجالهم أن جاءوا إلى المدينة للتفاهم مع النبي وافتكاك السبي فدخلوا المسجد، فلما رآهم عيالهم أجهشوا بالبكاء، فأخذوا ينادون النبي من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته فنزلت. والرواية تروي أن النبي حكم في أمرهم رجلا مسلما من قومهم فاقترح أن يطلق النصف ويأخذ الفداء عن النصف فوافق النبي على ذلك.
وأنها نزلت في وفد تميم الذين قدموا إلى المدينة فلما لم يجدوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد أخذوا ينادونه من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته.
ومهما يكن من أمر فالمتبادر والمستلهم من مضمون الآيات وروحها أنها نزلت مستهدفة تأديب المسلمين وتعليمهم ما يجب عليهم من التكريم والتوقير لشخص النبي صلى الله عليه وسلم والاحتشام والأدب في حضرته في مناسبة حدوث ما روته الروايات من مناسبات، أو ما كان من بابها. والذي نرجحه استئناسا من تجانس المواضيع وتساوق الآيات حتى لكأنها وحدة تامة أنها نزلت دفعة واحدة. وأنها نزلت بعد المناسبات جميعها التي نزلت في صددها استهدافا لذلك التأديب والتعليم، بل إننا نرجح أن هذه الآيات ومعظم ما بعدها من آيات السورة قد نزل دفعة واحدة أو متتابعة ؛ لأنها تحتوي ما تحتويه هذه الآيات من تأديب وتعليم ويتألف من مجموعها سلسلة تأديبية رائعة ومتساوقة.
والآيات الخمس التي نحن في صددها قد تدل : أولا : على ما كان عليه العرب إجمالا من عدم التقيد بمثل هذه الآداب مهما كان الفارق بينهم، حيث كانوا يخاطبون الكبير والرئيس مخاطبة الند للند وبدون احتشام كبير. وثانيا : على أن الفريق المخلص من المؤمنين قد امتلأت نفسه بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم وحقه من التكريم، فكان يراعي نحوه ما يجب عليه من الأدب قبل نزول الآيات.
هذا، ومع تقرير كون واجب تكريم النبي صلى الله عليه وسلم ولاحتشام في حضوره ومخاطبته لا يدانيه واجب وكون الآيات خاصة بشخصه الكريم فإن هذا لا يمنع من أن يقال والله أعلم : إن التأديب الرفيع الذي احتوته الآيات يصح أن يكون أدبا عاما وطابعا من طوابع الأدب الإسلامي.
كلمة عن حجرات رسول الله صلى الله عليه وسلم
من المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم عقب حلوله في المدينة اشترى أرضا ومهدها وجعل لها سورا ذا أربعة أضلاع فيه أبواب، وجعل القسم الأكبر منه مسجدا للصلاة والاجتماع بالمسلمين والقضاء بينهم وحل مشاكلهم وتعليمهم ووعظهم والتداول في شؤون الإسلام والدعوة واستقبال الوفود الخ، وجعل له سقفا من سعف النخل مقاما على أعمدة من جذوع الشجر. وأنشأ في أحد أضلاعه حجرة لسكناه، ثم أخذ ينشئ إلى جانبها حجرات أخرى كلما زاد عدد زوجاته، وقد توفي صلى الله عليه وسلم في إحداها الخاصة بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ودفن فيها.
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير وابن الزمخشري، ومنهم من روى بعض الروايات، ومنهم من رواها جميعا أو معظمها.
٢ التاج فصل التفسير ج ٤ ص ٢١٣ ت ٢١٤.
٣ التاج ج ٤ ص ٢١٤ وفي التفسير رواية أخرى في نفس المآل، وإنما تختلف في الصورة فلم نر ضرورة لإيرادها اكتفاء برواية الشيخين الوثقى.
يغضون : هنا بمعنى يخفضون.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ١ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ( ٢ ) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٣ ) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ( ٤ ) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم١ ﴾
والآيات الأربع التالية لها وما فيها من صور وتلقين.
في الآية الأولى : نهي للمسلمين عن أن يسبقوا النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ما قولا أو عملا أو أن يبدو رأيا في أمر قبله انتظارا لما يكون من النبي صلى الله عليه وسلم من قول وعمل ورأي، والوقوف عنده مع حثهم على تقوى الله تعالى السميع لكل ما يقال العليم بكل شيء الذي يجب مراقبته وعدم الخروج عن أمره ونهيه.
وفي الآية الثانية : نهي لهم عن رفع أصواتهم في حضوره حتى تعلو على صوته. وعن مخاطبته بالأساليب التي يخاطب بها بعضهم بعضا وعن الجهر أمامه بقول لا يليق مما قد يجهر به بعضهم أمام بعض. وتنبيه لهم على أن مثل التصرف من شأنه أن يحبط ويضيع ثمرات أعمالهم الحسنة عند الله، من دون أن يشعروا على سبيل التحذير والعظة.
وفي الآية الثالثة : تنويه ( على سبيل توكيد النهي في الآية الثانية والدعوة إلى التأسي } بالذين يخفضون أصواتهم في حضور النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء قد طهر الله قلوبهم فجعلها تشعر بواجب تقوى الله والتأدب في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم. ولهم عند الله من أجل ذلك المغفرة وعظيم الأجر.
وفي الآيتين الرابعة والخامسة : تنديد بالذين ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته حينما لا يجدونه في المسجد، فأكثرهم جاهلون لا يعقلون، ولو أنهم انتظروا وصبروا حتى يخرج إليهم حين يحين وقت خروجه لكان خيرا وأفضل.
ومع ذلك فالله غفورا رحيم يشمل أصحاب هذه الهفوة التي تصدر عن جهل وحسن نية بغفرانه ورحمته.
والآيات احتوت ثلاثة مواضيع متجانسة وتأديبية نحو شخص النبي صلى الله عليه وسلم كما هو واضح، وقد روى المفسرون١ لكل موضوع مناسبة خاصة. بل منهم من روى لبعضها أكثر من رواية ومناسبة فرووا لمناسبة نزول الآية الأولى أو الموضوع الأول :
( ١ ) أن وفدا من بني تميم قدم إلى المدينة فاقترح أبو بكر تأمير شخص منهم عليهم واقترح عمر تأمير شخص آخر. فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي ونفى عمر ذلك وتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، وكان ذلك في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يسألهما رأيهما أو يبدي رأيه فكان ذلك سبب نزول الآية. وممن روى هذه الرواية البخاري عن عبد الله ابن الزبير٢.
( ٢ ) وأنها نزلت بمناسبة صيام بعض المسلمين قبل أن يثبت هلال رمضان ويعلن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الصوم.
( ٣ ) وأنها نزلت بمناسبة ذبح بعضهم يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم ورووا لمناسبة الآية الثانية أو الموضوع الثاني أنها نزلت في مسلم اسمه ثابت ابن قيس كان جهير الصوت، فكان صوته يعلو على صوت الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد روى الشيخان في فصل التفسير أنه لما نزلت الآية جلس في بيته منكسا رأسه فافتقده رسول الله فقال له رجل : أنا أعلم علمه فذهب إليه فسأله ما شأنك ؟ قال : شر، كان صوتي يرتفع فوق صوت رسول الله، فحبط عملي وصرت من أهل النار، فأتى الرجل النبي فأخبره فقال : اذهب إليه. فقل له : إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة٣.
ورووا لمناسبة الآيتين الرابعة والخامسة.
أن النبي بعث سرية إلى قوم فهرب رجالهم واستاقت السرية عيالهم سبيا. فلم يلبث رجالهم أن جاءوا إلى المدينة للتفاهم مع النبي وافتكاك السبي فدخلوا المسجد، فلما رآهم عيالهم أجهشوا بالبكاء، فأخذوا ينادون النبي من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته فنزلت. والرواية تروي أن النبي حكم في أمرهم رجلا مسلما من قومهم فاقترح أن يطلق النصف ويأخذ الفداء عن النصف فوافق النبي على ذلك.
وأنها نزلت في وفد تميم الذين قدموا إلى المدينة فلما لم يجدوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد أخذوا ينادونه من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته.
ومهما يكن من أمر فالمتبادر والمستلهم من مضمون الآيات وروحها أنها نزلت مستهدفة تأديب المسلمين وتعليمهم ما يجب عليهم من التكريم والتوقير لشخص النبي صلى الله عليه وسلم والاحتشام والأدب في حضرته في مناسبة حدوث ما روته الروايات من مناسبات، أو ما كان من بابها. والذي نرجحه استئناسا من تجانس المواضيع وتساوق الآيات حتى لكأنها وحدة تامة أنها نزلت دفعة واحدة. وأنها نزلت بعد المناسبات جميعها التي نزلت في صددها استهدافا لذلك التأديب والتعليم، بل إننا نرجح أن هذه الآيات ومعظم ما بعدها من آيات السورة قد نزل دفعة واحدة أو متتابعة ؛ لأنها تحتوي ما تحتويه هذه الآيات من تأديب وتعليم ويتألف من مجموعها سلسلة تأديبية رائعة ومتساوقة.
والآيات الخمس التي نحن في صددها قد تدل : أولا : على ما كان عليه العرب إجمالا من عدم التقيد بمثل هذه الآداب مهما كان الفارق بينهم، حيث كانوا يخاطبون الكبير والرئيس مخاطبة الند للند وبدون احتشام كبير. وثانيا : على أن الفريق المخلص من المؤمنين قد امتلأت نفسه بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم وحقه من التكريم، فكان يراعي نحوه ما يجب عليه من الأدب قبل نزول الآيات.
هذا، ومع تقرير كون واجب تكريم النبي صلى الله عليه وسلم ولاحتشام في حضوره ومخاطبته لا يدانيه واجب وكون الآيات خاصة بشخصه الكريم فإن هذا لا يمنع من أن يقال والله أعلم : إن التأديب الرفيع الذي احتوته الآيات يصح أن يكون أدبا عاما وطابعا من طوابع الأدب الإسلامي.
كلمة عن حجرات رسول الله صلى الله عليه وسلم
من المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم عقب حلوله في المدينة اشترى أرضا ومهدها وجعل لها سورا ذا أربعة أضلاع فيه أبواب، وجعل القسم الأكبر منه مسجدا للصلاة والاجتماع بالمسلمين والقضاء بينهم وحل مشاكلهم وتعليمهم ووعظهم والتداول في شؤون الإسلام والدعوة واستقبال الوفود الخ، وجعل له سقفا من سعف النخل مقاما على أعمدة من جذوع الشجر. وأنشأ في أحد أضلاعه حجرة لسكناه، ثم أخذ ينشئ إلى جانبها حجرات أخرى كلما زاد عدد زوجاته، وقد توفي صلى الله عليه وسلم في إحداها الخاصة بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ودفن فيها.
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير وابن الزمخشري، ومنهم من روى بعض الروايات، ومنهم من رواها جميعا أو معظمها.
٢ التاج فصل التفسير ج ٤ ص ٢١٣ ت ٢١٤.
٣ التاج ج ٤ ص ٢١٤ وفي التفسير رواية أخرى في نفس المآل، وإنما تختلف في الصورة فلم نر ضرورة لإيرادها اكتفاء برواية الشيخين الوثقى.

الحجرات : جمع حجرة، وهي الغرفة والمقصود هنا مساكن النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت في جانب مسجده.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ١ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ( ٢ ) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٣ ) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ( ٤ ) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم١ ﴾
والآيات الأربع التالية لها وما فيها من صور وتلقين.
في الآية الأولى : نهي للمسلمين عن أن يسبقوا النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ما قولا أو عملا أو أن يبدو رأيا في أمر قبله انتظارا لما يكون من النبي صلى الله عليه وسلم من قول وعمل ورأي، والوقوف عنده مع حثهم على تقوى الله تعالى السميع لكل ما يقال العليم بكل شيء الذي يجب مراقبته وعدم الخروج عن أمره ونهيه.
وفي الآية الثانية : نهي لهم عن رفع أصواتهم في حضوره حتى تعلو على صوته. وعن مخاطبته بالأساليب التي يخاطب بها بعضهم بعضا وعن الجهر أمامه بقول لا يليق مما قد يجهر به بعضهم أمام بعض. وتنبيه لهم على أن مثل التصرف من شأنه أن يحبط ويضيع ثمرات أعمالهم الحسنة عند الله، من دون أن يشعروا على سبيل التحذير والعظة.
وفي الآية الثالثة : تنويه ( على سبيل توكيد النهي في الآية الثانية والدعوة إلى التأسي } بالذين يخفضون أصواتهم في حضور النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء قد طهر الله قلوبهم فجعلها تشعر بواجب تقوى الله والتأدب في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم. ولهم عند الله من أجل ذلك المغفرة وعظيم الأجر.
وفي الآيتين الرابعة والخامسة : تنديد بالذين ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته حينما لا يجدونه في المسجد، فأكثرهم جاهلون لا يعقلون، ولو أنهم انتظروا وصبروا حتى يخرج إليهم حين يحين وقت خروجه لكان خيرا وأفضل.
ومع ذلك فالله غفورا رحيم يشمل أصحاب هذه الهفوة التي تصدر عن جهل وحسن نية بغفرانه ورحمته.
والآيات احتوت ثلاثة مواضيع متجانسة وتأديبية نحو شخص النبي صلى الله عليه وسلم كما هو واضح، وقد روى المفسرون١ لكل موضوع مناسبة خاصة. بل منهم من روى لبعضها أكثر من رواية ومناسبة فرووا لمناسبة نزول الآية الأولى أو الموضوع الأول :
( ١ ) أن وفدا من بني تميم قدم إلى المدينة فاقترح أبو بكر تأمير شخص منهم عليهم واقترح عمر تأمير شخص آخر. فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي ونفى عمر ذلك وتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، وكان ذلك في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يسألهما رأيهما أو يبدي رأيه فكان ذلك سبب نزول الآية. وممن روى هذه الرواية البخاري عن عبد الله ابن الزبير٢.
( ٢ ) وأنها نزلت بمناسبة صيام بعض المسلمين قبل أن يثبت هلال رمضان ويعلن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الصوم.
( ٣ ) وأنها نزلت بمناسبة ذبح بعضهم يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم ورووا لمناسبة الآية الثانية أو الموضوع الثاني أنها نزلت في مسلم اسمه ثابت ابن قيس كان جهير الصوت، فكان صوته يعلو على صوت الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد روى الشيخان في فصل التفسير أنه لما نزلت الآية جلس في بيته منكسا رأسه فافتقده رسول الله فقال له رجل : أنا أعلم علمه فذهب إليه فسأله ما شأنك ؟ قال : شر، كان صوتي يرتفع فوق صوت رسول الله، فحبط عملي وصرت من أهل النار، فأتى الرجل النبي فأخبره فقال : اذهب إليه. فقل له : إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة٣.
ورووا لمناسبة الآيتين الرابعة والخامسة.
أن النبي بعث سرية إلى قوم فهرب رجالهم واستاقت السرية عيالهم سبيا. فلم يلبث رجالهم أن جاءوا إلى المدينة للتفاهم مع النبي وافتكاك السبي فدخلوا المسجد، فلما رآهم عيالهم أجهشوا بالبكاء، فأخذوا ينادون النبي من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته فنزلت. والرواية تروي أن النبي حكم في أمرهم رجلا مسلما من قومهم فاقترح أن يطلق النصف ويأخذ الفداء عن النصف فوافق النبي على ذلك.
وأنها نزلت في وفد تميم الذين قدموا إلى المدينة فلما لم يجدوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد أخذوا ينادونه من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته.
ومهما يكن من أمر فالمتبادر والمستلهم من مضمون الآيات وروحها أنها نزلت مستهدفة تأديب المسلمين وتعليمهم ما يجب عليهم من التكريم والتوقير لشخص النبي صلى الله عليه وسلم والاحتشام والأدب في حضرته في مناسبة حدوث ما روته الروايات من مناسبات، أو ما كان من بابها. والذي نرجحه استئناسا من تجانس المواضيع وتساوق الآيات حتى لكأنها وحدة تامة أنها نزلت دفعة واحدة. وأنها نزلت بعد المناسبات جميعها التي نزلت في صددها استهدافا لذلك التأديب والتعليم، بل إننا نرجح أن هذه الآيات ومعظم ما بعدها من آيات السورة قد نزل دفعة واحدة أو متتابعة ؛ لأنها تحتوي ما تحتويه هذه الآيات من تأديب وتعليم ويتألف من مجموعها سلسلة تأديبية رائعة ومتساوقة.
والآيات الخمس التي نحن في صددها قد تدل : أولا : على ما كان عليه العرب إجمالا من عدم التقيد بمثل هذه الآداب مهما كان الفارق بينهم، حيث كانوا يخاطبون الكبير والرئيس مخاطبة الند للند وبدون احتشام كبير. وثانيا : على أن الفريق المخلص من المؤمنين قد امتلأت نفسه بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم وحقه من التكريم، فكان يراعي نحوه ما يجب عليه من الأدب قبل نزول الآيات.
هذا، ومع تقرير كون واجب تكريم النبي صلى الله عليه وسلم ولاحتشام في حضوره ومخاطبته لا يدانيه واجب وكون الآيات خاصة بشخصه الكريم فإن هذا لا يمنع من أن يقال والله أعلم : إن التأديب الرفيع الذي احتوته الآيات يصح أن يكون أدبا عاما وطابعا من طوابع الأدب الإسلامي.
كلمة عن حجرات رسول الله صلى الله عليه وسلم
من المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم عقب حلوله في المدينة اشترى أرضا ومهدها وجعل لها سورا ذا أربعة أضلاع فيه أبواب، وجعل القسم الأكبر منه مسجدا للصلاة والاجتماع بالمسلمين والقضاء بينهم وحل مشاكلهم وتعليمهم ووعظهم والتداول في شؤون الإسلام والدعوة واستقبال الوفود الخ، وجعل له سقفا من سعف النخل مقاما على أعمدة من جذوع الشجر. وأنشأ في أحد أضلاعه حجرة لسكناه، ثم أخذ ينشئ إلى جانبها حجرات أخرى كلما زاد عدد زوجاته، وقد توفي صلى الله عليه وسلم في إحداها الخاصة بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ودفن فيها.
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير وابن الزمخشري، ومنهم من روى بعض الروايات، ومنهم من رواها جميعا أو معظمها.
٢ التاج فصل التفسير ج ٤ ص ٢١٣ ت ٢١٤.
٣ التاج ج ٤ ص ٢١٤ وفي التفسير رواية أخرى في نفس المآل، وإنما تختلف في الصورة فلم نر ضرورة لإيرادها اكتفاء برواية الشيخين الوثقى.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( ٦ ) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( ٧ ) فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٨ ) ﴾.
في الآيات :
( ١ ) أمر للمسلمين بالتثبت فيما يأتيهم من الأخبار وبخاصة من طريق الفاسقين المتهمين بصدقهم وإخلاصهم فلا يستعجلوا في التصديق والحكم فيتهموا أناسا أبرياء من غير يقين ويصيبوهم بالأذى فيصبحوا نادمين تظهر براءتهم.
( ٢ ) وتنبيه تعقيبي على هذا الأمر، فعلى المسلمين أن يعتبروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الموجود بينهم، فلو أنه يصدق كثيرا مما يقال له ويأخذ به لنالهم شدائد ومشاق كثيرة. وأن الله قد من عليهم أيضا بفضله ونعمته، فحبب إليهم الإيمان وزينه وكره إليهم الكفر والعصيان لأوامر الله ورسوله والانحراف عن ذلك، ومن يتحقق فيه ذلك فهم الراشدون والله عليم بكل شيء حكيم في ما يأمر به ويقرره.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا... ﴾
إلى نهاية الآية الثامنة وما فيها من تلقين
لقد روى المفسرون١روايات مختلفة الصيغ متفقة المدى للمناسبة التي نزلت فيها الآيات. منها رواية يرويها الطبري عن أم سلمة قالت : إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قليل من عودته من غزوة بني المصطلق التي كان من نتائجها المباركة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ببنت زعيمهم ودخولهم في الإسلام أن بعث رجلا لجباية صدقاتهم، فهرعوا إلى مقابلته تعظيما لرسول الله، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم منعوا الصدقات وأرادوا قتله فغضب رسول الله واعتزم على إرسال بعث عليهم وبلغ القوم، فأتوه ووجدوه يصلي الظهر، فتصافوا أمامه وصاروا يقولون : نعوذ بالله من سخط الله ورسوله بعثت إلينا مصدقا فسررنا وقرت أعيننا، ثم رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ورسوله، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال وأذن لصلاة العصر فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق… ﴾ الخ وروى الطبري وغيره صيغا أخرى فيها اسم الرجل الذي بعثه رسول الله، وهو الوليد بن عقبة ابن أبي معيط وإنه قال لرسول الله : إن بني المصطلق ارتدوا عن الإسلام وأرادوا قتلي مع أنهم رجعوا وسلموه صدقاتهم، وإن كان بينه وبينهم إحنة في الجاهلية، فأراد أن يضربهم بمن قاله عنهم. وإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خالد ابن الوليد ينظر في أمرهم وينكل بهم وأوصاه بالتثبت وعدم التعجل. فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فرجعوا فأخبروه أن الجماعة متمسكون بالإسلام وأنهم سمعوا أذانهم وصلاتهم. فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي أعجبه فرجع إلى رسول الله فأخبره الخبر فأنزل الله الآية.
والروايات لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة والذي نلحظه أن الآيات نعتت المخبر بالفاسق. ويصعب أن يصدق هذا على رسول وثق به النبي صلى الله عليه وسلم، ولاسيما أنه من المهاجرين وابن رجل كان شديد المناوأة للنبي فانفصل عن أبيه والتحق بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ومهما يكن من أمر فالآيات تلهم أنها نزلت في حادث ما أخبر به مخبر غير موثوق به لو صدقه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون لترتب عليه ظلم أناس أبرياء. على أن الإطلاق في الآية الأولى أولا، ومجيئها بعد الآيات التأديبية والتعليمية السابقة ثانيا، يجعل من المحتمل أن يكون بينها وبين سابقاتها صلة نزول ووحدة سياق. ويسوغ التخمين أن الحادث قد وقع قبل نزول السورة، فكان وسيلة للتنبيه والتحذير في سياق فصول التعليم والتأديب التي احتوتها السورة.
والآيات تحتوي بطبيعة الحال تعليما وتأديبا عامين مستمري التلقين والشمول وذوي خطورة عظيمة أخلاقية واجتماعية لا تخفى. ولعل في الآيتين الثانية والثالثة توكيدا لهذه الخطورة وتلقينها ؛ لأن التثبت يكون أوجب وأوكد في الظروف التي لا يكون فيها نبي مشمول برعاية الله تعالى وتسديده وإلهامه ووحيه، وذو نفوذ روحي عظيم على أتباعه. ولقد روى الترمذي ( أن أبا سعيد الخدري قرأ ﴿ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ﴾ ثم قال : هذا نبيكم يوحي إليه وأخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتم فكيف بكم اليوم ) ٢ مما فيه تدعيم للتلقين الذي نوهنا به آنفا. ولقد روى المفسر القاسمي أن قتادة قال ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول التثبت من الله، والعجلة من الشيطان } مما فيه تلقين متسق مع التلقين القرآني.
والجملة الأخيرة من الآية الثانية جديرة بالتنويه ؛ حيث انطوى فيها تنويه بالذين تتحقق فيهم الصفات المذكورة قبلها، والتي تمنع صاحبها من الفسق والكفر والعصيان، وحيث ينطوي في هذا التنويه حث على هذه الصفات والتزامها.
ولقد أورد ابن كثير في سياقها حديثا رواه الإمام احمد عن ابن رفاعة الزرقي قال ( لما انكفأ المشركون يوم أحد قال رسول الله استووا حتى أثني على ربي عز وجل فصاروا خلفه صفوفا فقال : اللهم لك الحمد كله. اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت. ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إلاه الحق } حيث ينطوي في الحديث موقف دعائي جامع من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تعليم وأسوة للمسلمين فيما تمناه وسأله وعاذ منه. ومن جملة ذلك الاتصاف بالصفات التي احتوتها الجملة المذكورة.
هذا، وجملة ﴿ إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ﴾ مستند قرآني لاشتراط العدالة في المخبر والراوي والشاهد، ووجوب رد من عرف بفسقه. والفسق كلمة عامة تعني الانحراف أو التمرد عن كل ما أمر الله ورسوله به ونهيا عنه ورسماه من حدود إيمانية وتعبدية وأخلاقية واجتماعية.
وبين العلماء خلاف في أمر مجهول الحال٣. أي الذي لم يعرف فسقه ولا صلاحه فقال بعضهم : برده لاحتمال فسقه، وقال آخرون بقبوله ؛ لأن القرآن إنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق. والمجهول ليس محقق الفسق. ويتبادر لنا أن الرأي الثاني هو الأوجه. والله أعلم.
ولقد درج القضاة الشرعيون على استشهاد عدول على عدالة الشاهد بحيث يوجبون شهادة عدلين متحققة عدالتهما عندهم على عدالة الشاهد. ومن المعتاد أن يفعلوا ذلك سرا، ثم يقرر القاضي في أمر الشاهد حسب ما سمعه من العدلين. وهذا سديد مستلهم من روح الآية. وإذا لم يشهد عدلان بعدالته رده القاضي. وبعض القضاة يردون مجهول الحال. والقوانين تمنح للمدعي عليه حق الطعن بالشاهد وتحميه في الوقت نفسه فعلى الطاعن أن يثبت صدق طعنه وإن لم يثبت عد قاذفا عليه العقاب، وهذا عدل وسديد ومتسق مع التلقين القرآني.
١ انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.
٢ التاج ج ٤ ص ٢١٥.
٣ انظر تفسير القاسمي.
عنتم : شق عليكم
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( ٦ ) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ( ٧ ) فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٨ ) ﴾.

في الآيات :

( ١ ) أمر للمسلمين بالتثبت فيما يأتيهم من الأخبار وبخاصة من طريق الفاسقين المتهمين بصدقهم وإخلاصهم فلا يستعجلوا في التصديق والحكم فيتهموا أناسا أبرياء من غير يقين ويصيبوهم بالأذى فيصبحوا نادمين تظهر براءتهم.
( ٢ ) وتنبيه تعقيبي على هذا الأمر، فعلى المسلمين أن يعتبروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الموجود بينهم، فلو أنه يصدق كثيرا مما يقال له ويأخذ به لنالهم شدائد ومشاق كثيرة. وأن الله قد من عليهم أيضا بفضله ونعمته، فحبب إليهم الإيمان وزينه وكره إليهم الكفر والعصيان لأوامر الله ورسوله والانحراف عن ذلك، ومن يتحقق فيه ذلك فهم الراشدون والله عليم بكل شيء حكيم في ما يأمر به ويقرره.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا... ﴾
إلى نهاية الآية الثامنة وما فيها من تلقين
لقد روى المفسرون١روايات مختلفة الصيغ متفقة المدى للمناسبة التي نزلت فيها الآيات. منها رواية يرويها الطبري عن أم سلمة قالت : إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قليل من عودته من غزوة بني المصطلق التي كان من نتائجها المباركة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ببنت زعيمهم ودخولهم في الإسلام أن بعث رجلا لجباية صدقاتهم، فهرعوا إلى مقابلته تعظيما لرسول الله، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم منعوا الصدقات وأرادوا قتله فغضب رسول الله واعتزم على إرسال بعث عليهم وبلغ القوم، فأتوه ووجدوه يصلي الظهر، فتصافوا أمامه وصاروا يقولون : نعوذ بالله من سخط الله ورسوله بعثت إلينا مصدقا فسررنا وقرت أعيننا، ثم رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ورسوله، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال وأذن لصلاة العصر فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق… ﴾ الخ وروى الطبري وغيره صيغا أخرى فيها اسم الرجل الذي بعثه رسول الله، وهو الوليد بن عقبة ابن أبي معيط وإنه قال لرسول الله : إن بني المصطلق ارتدوا عن الإسلام وأرادوا قتلي مع أنهم رجعوا وسلموه صدقاتهم، وإن كان بينه وبينهم إحنة في الجاهلية، فأراد أن يضربهم بمن قاله عنهم. وإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل خالد ابن الوليد ينظر في أمرهم وينكل بهم وأوصاه بالتثبت وعدم التعجل. فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فرجعوا فأخبروه أن الجماعة متمسكون بالإسلام وأنهم سمعوا أذانهم وصلاتهم. فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي أعجبه فرجع إلى رسول الله فأخبره الخبر فأنزل الله الآية.
والروايات لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة والذي نلحظه أن الآيات نعتت المخبر بالفاسق. ويصعب أن يصدق هذا على رسول وثق به النبي صلى الله عليه وسلم، ولاسيما أنه من المهاجرين وابن رجل كان شديد المناوأة للنبي فانفصل عن أبيه والتحق بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ومهما يكن من أمر فالآيات تلهم أنها نزلت في حادث ما أخبر به مخبر غير موثوق به لو صدقه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون لترتب عليه ظلم أناس أبرياء. على أن الإطلاق في الآية الأولى أولا، ومجيئها بعد الآيات التأديبية والتعليمية السابقة ثانيا، يجعل من المحتمل أن يكون بينها وبين سابقاتها صلة نزول ووحدة سياق. ويسوغ التخمين أن الحادث قد وقع قبل نزول السورة، فكان وسيلة للتنبيه والتحذير في سياق فصول التعليم والتأديب التي احتوتها السورة.
والآيات تحتوي بطبيعة الحال تعليما وتأديبا عامين مستمري التلقين والشمول وذوي خطورة عظيمة أخلاقية واجتماعية لا تخفى. ولعل في الآيتين الثانية والثالثة توكيدا لهذه الخطورة وتلقينها ؛ لأن التثبت يكون أوجب وأوكد في الظروف التي لا يكون فيها نبي مشمول برعاية الله تعالى وتسديده وإلهامه ووحيه، وذو نفوذ روحي عظيم على أتباعه. ولقد روى الترمذي ( أن أبا سعيد الخدري قرأ ﴿ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ﴾ ثم قال : هذا نبيكم يوحي إليه وأخيار أئمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتم فكيف بكم اليوم ) ٢ مما فيه تدعيم للتلقين الذي نوهنا به آنفا. ولقد روى المفسر القاسمي أن قتادة قال ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول التثبت من الله، والعجلة من الشيطان } مما فيه تلقين متسق مع التلقين القرآني.
والجملة الأخيرة من الآية الثانية جديرة بالتنويه ؛ حيث انطوى فيها تنويه بالذين تتحقق فيهم الصفات المذكورة قبلها، والتي تمنع صاحبها من الفسق والكفر والعصيان، وحيث ينطوي في هذا التنويه حث على هذه الصفات والتزامها.
ولقد أورد ابن كثير في سياقها حديثا رواه الإمام احمد عن ابن رفاعة الزرقي قال ( لما انكفأ المشركون يوم أحد قال رسول الله استووا حتى أثني على ربي عز وجل فصاروا خلفه صفوفا فقال : اللهم لك الحمد كله. اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت. ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إلاه الحق } حيث ينطوي في الحديث موقف دعائي جامع من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تعليم وأسوة للمسلمين فيما تمناه وسأله وعاذ منه. ومن جملة ذلك الاتصاف بالصفات التي احتوتها الجملة المذكورة.
هذا، وجملة ﴿ إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ﴾ مستند قرآني لاشتراط العدالة في المخبر والراوي والشاهد، ووجوب رد من عرف بفسقه. والفسق كلمة عامة تعني الانحراف أو التمرد عن كل ما أمر الله ورسوله به ونهيا عنه ورسماه من حدود إيمانية وتعبدية وأخلاقية واجتماعية.
وبين العلماء خلاف في أمر مجهول الحال٣. أي الذي لم يعرف فسقه ولا صلاحه فقال بعضهم : برده لاحتمال فسقه، وقال آخرون بقبوله ؛ لأن القرآن إنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق. والمجهول ليس محقق الفسق. ويتبادر لنا أن الرأي الثاني هو الأوجه. والله أعلم.
ولقد درج القضاة الشرعيون على استشهاد عدول على عدالة الشاهد بحيث يوجبون شهادة عدلين متحققة عدالتهما عندهم على عدالة الشاهد. ومن المعتاد أن يفعلوا ذلك سرا، ثم يقرر القاضي في أمر الشاهد حسب ما سمعه من العدلين. وهذا سديد مستلهم من روح الآية. وإذا لم يشهد عدلان بعدالته رده القاضي. وبعض القضاة يردون مجهول الحال. والقوانين تمنح للمدعي عليه حق الطعن بالشاهد وتحميه في الوقت نفسه فعلى الطاعن أن يثبت صدق طعنه وإن لم يثبت عد قاذفا عليه العقاب، وهذا عدل وسديد ومتسق مع التلقين القرآني.
١ انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.
٢ التاج ج ٤ ص ٢١٥.
٣ انظر تفسير القاسمي.

حتى تفيء إلى أمر الله : حتى ترجع عن بغيها وتقبل حكم الله وما رسمه من حدود.
﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٩ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ١٠ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ وإن طائفتان ومن المؤمنين فأصلحوا بينهما ﴾
والآية التالية لها، وما فيها من أحكام وتلقين، وما ورد في صددها وفي صدد الأخوة بين المسلمين من أحاديث، ومدى هذه الأخوة والخطة الرائعة المرسومة فيها لما يجب أن يكون عليه الأمر بين الدول الإسلامية
عبارة الآيتين واضحة. وفيهما تعليم للمسلمين بما يجب عليهم إذا اقتتلت طائفتان منهم ؛ حيث عليهم أن يبادروا إلى الإصلاح بينهما. فإن لم تكف إحداهما وتجنح إلى الصلح وظهر منها بغي وظلم للأخرى، فعليهم أن ينصروا المبغى عليها ويقاتلوا الباغية إلى أن ترتدع وتقبل حكم الله وتقف عند حدوده، فإذا ما أذعنت فعليهم أن يصلحوا بين المتنازعين بالحق والعدل فينال كل حقه والله يحب المقسطين، وفي الآية الثانية تعقيب تدعيمي قوي : فالمؤمنون إخوة ويجب أن يكون السلم والصلح موطدين بينهم. فإذا ما شجر بين بعضهم خلاف ونزاع فيجب على الآخرين المسارعة إلى الإصلاح بين المتنازعين مع مراقبة الله وتقواه حتى ينالوا رحمته.
ولقد روى المفسرون١ روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات. منها رواية رواها مسلم في صحيحه عن أنس قال :( قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لو أتيت عبد الله ابن أبي، فركب النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وانطلق إليه مع بعض المسلمين. وكانت الأرض سبخة، فلما أتاه قال له : إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، فكان بينهم ضرب بالأيدي والجريد النعال قال : فبلغنا أنه نزلت فيهم { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا... ) ٢ ومنها رواية رواها الطبري الذي روى أيضا الرواية السابقة جاء فيها ( إن امرأة من الأنصار يقال لها : أم زيد كانت تحت رجل فكان بينها وبينه شيء، فضربها فجاء قومها وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال، فبلغ ذلك النبي، فنزلت الآية وجاء النبي فأصلح بينهم ). ومنها رواية الطبري كذلك جاء فيها : أن الآية نزلت في رجلين من الأنصار وكانت بينهما مشادة على حق لأحدهما على الآخر فقال صاحبه : لآخذنه عنوة لكثرة عشيرته، فدعاه الآخر إلى نبي الله ليحاكمه فأبى واشتد الأمر بينهم، فتدافعوا وتناول بعضهم بعض بالأيدي والنعال فأنزل الله الآية.
ويلحظ أن في الآية ما يفيد أن القتال على أمور وحقوق خاصة يجب إقرارها بالعدل، وهذا ما يجعلنا نتوقف في الرواية الأولى ولو كان يرويها مسلم. ولاسيما أنها لا تجزم أن الآية نزلت في الحادث الذي ذكر فيها. وإيراد المفسرين لروايات أخرى قد يفيد أنهم لم يأخذوا بها كسبب لنزول الآية. ونرجح أنها نزلت في مناسبة حادث من باب الرواية الثانية. وإلى هذا فإننا نرجح استلهاما من تجانس المواضيع التأديبية في السورة أن الحادث الذي قد تكون الآيتان نزلت في صدده كان سابقا لنزول السورة فكان وسيلة لتضمنها فصلا تعليميا في ما يجب على المسلمين عند حدوث حادث مماثل.
والآيتان احتوتا تعليما تام الأركان رائع المدى في شأن ما يقوم من نزاع وقتال بين فريقين من المسلمين. وموجها إلى الفريق الذي ليس طرفا في النزاع بين المسلمين، وموجبا عليه بأن لا يقف موقف الساكت المتفرج بل يسارع إلى التدخل والإصلاح بين الفريقين المتنازعين وإحقاق الحق لصاحبه بدون محاباة ونصرة المظلوم المبغى عليه بالسلاح إذا لم يرتدع الظالم، ويقف عند ما رسمه الله ورسوله من حدود الحق والعدل.
وإطلاق العبارة في الآيتين يجعل ما تحتويانه من تعليم عاما مستمر التلقين ويجعل واجب المسلمين المذكور فيهما لازما عليهم في كل وقت ومكان. وفيهما توطيد للأخوة والسلم بين المسلمين. وتقرير لمنافاة النزاع والبغي والظلم بينهم لمعنى الأخوة الإسلامية، وفي هذا من الروعة والجلال ما هو واضح.
وقد يصح أن يقال : إن طائفتي المسلمين يمكن أن تكونا قبيلتين أو أسرتين أو مدينتين في نطاق دولة واحدة، ويمكن أن تكونا جماعتين ليس لإحداهما سلطان على الأخرى أو دولتين كل منهما ذات سلطان مستقل.
وفي صدد التطبيق قد يكون الأمر بالنسبة للنزاع والقتال بين جماعتين ليس لإحداهما سلطان على الأخرى أو بين دولتين كل منهما مستقل السلطان هو الأكثر تواردا ؛ لأنه لا يبدو ضرورة لقتال الفريق الباغي كمن طرف ثالث ولو كان الأمر يظل دائما في نطاق خصومة عائلية في بلد ما أو قبيلة ما أو بين قبيلتين أو مدينتين في نطاق سلطان دولة واحدة ؛ لأن سلطان هذه الدولة يكون قادرا على الاقتصاص من الباغي وإلزامه حدود الله وصيانة حقوق الناس وحقن دمائهم وحماية أرواحهم.
ولا تعد حكومة هذه الدولة طرفا ثالثا بطبيعة الحال. وحتى لو كانت ظروف الدولة تتحمل مثل ذلك، فإن تناول حكم الآيتين لدولتين إسلاميتين أو لجماعتين إسلاميتين لا ترضخ إحداهما لسلطان الأخرى في نطاق دولة واحدة يظل قوي الورود.
ولعل ما كان من حوادث أليمة بين المسلمين بعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما كان من تكتلهم كتلا بعضهم ينصر فريقا أو إماما، وبعضهم ينصر فريقا أو إماما آخرا، ولا يخضع بعضهم لسلطان الآخر في نطاق دولة واحدة كان من هذا الباب ومن قبيل الاجتهاد في من هو الباغي وفي من هو المبغى عليه، أو من قبيل فرض السلطان مما لا يتحمل منهج التفسير تفصيله.
ونريد أن نستدرك أمرا في صدد احتمال قيام دول إسلامية عديدة. وهو أن القرآن قرر ضمنا واقع الأمر : من أن رئاسة النبي صلى الله عليه وسلم للدولة كانت شاملة لجميع المسلمين ومصالحهم، وكما قررت ذلك الأحاديث النبوية، وأن هذا استمر في عهد الخلفاء الراشدين وبعدهم إلى أمد غير قصير بحيث يسوغ القول : إن الأصل في الإسلام هو وحدة الدولة. وإن كان ذلك تقريرا لواقع ما كان دون أن يكون فيه شيء صريح وقطعي من قرآن وسنة.
ولقد روت الروايات أن فريقا من أصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم بذلوا جهودهم أولا في وقف ما كان من شقاق وحروب بين علي من جهة وعائشة وطلحة والزبير بعد مقتل عثمان رضي الله عنهم أجمعين. ثم بين علي من جهة ومعاوية من جهة رضي الله عنهما وإن صلحا تم بين علي ومعاوية نتيجة لهذه الجهود على أساس استقلال علي بحكم العراق وبعض البلاد واستقلال معاوية بحكم الشام وبعض البلاد٣ حيث كان هذا ظاهرة لتعدد الدولة الإسلامية في الصدر الإسلامي الأول مستساغة من أصحاب رسول الله، وعلى علم ومسمع ورضا من عدد كبير منهم كانوا ما يزالون أحياء.
ولقد كان في أواخر القرن الهجري الثاني ثلاث دول إسلامية كل منها مستقلة عن الأخرى كل الاستقلال وهي : العباسية في المشرق، والإدريسية في المغرب، والأموية في الأندلس. وفي أواخر القرن الثالث قامت الفاطمية في شمال إفريقية، ثم امتدت إلى مصر والشام. وكانت كل من الأموية في الأندلس والفاطمية والعباسية تتسم بسمة الخلافة وينعت رؤساؤها بنعت أمير المؤمنين، وكان القرآن والسنة مصدري حكمهم وشرائعهم، وساغ ذلك في نظر جمهور المسلمين. ثم استمر ظاهرة قيام الدولة الإسلامية مستقلة بعضها عن بعض والقرآن والسنة مصدرا تشريعها وحكمها وما تزال.
ونخلص من هذا إلى القول، إن حكم الآيتين وتلقينهما واجدان مجالهما الأوسع والألزم في حالة وجود دول إسلامية عديدة، بحيث يكون هو الضابط للعلاقات بينهما. ويكون الانحراف عنه إثما دينيا فضلا عن خطره عليها جميعا، وبحيث يقوم بينها تضامن تام في المنافع والمصالح والدفاع والتعاون في مختلف المجالات، وإذا نشب خلاف ونزاع وقتال بين دولتين أو أكثر منهما وجب على سائر الدول الإسراع إلى المداخلة وحل المشكل في نطاق ذلك الأساس والتضامن في فرض قبول الحل على المبطل، ولو أدى الأمر إلى الاجتماع على قتاله إلى أن يفيء لأمر الله ويخضع للحق. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. وخاصة إذا لاحظنا أن مثل هذا النظام هو أسمى ما يتوق إلى تحقيقه العالم، ويرى أساطينه أن لا سبيل إلى توطيد العدل والسلم والحق بين أمم الأرض ودولها إلا به ؛ حيث تبدو بذلك روعة الهدى القرآني ومعجزته الخالدة.
ومسألة تعيين الباغي في هذا الموقف مسألة دقيقة من دون ريب. ولاسيما إذا كانت الأسباب مختلفا فيها. وهذا ما يوجب على الطرف الثالث سواء أكان دولة أم جماعة التحري الشديد قبل الانتصار لمن يكون مبغيا عليه حقا. وقد يكون والله أعلم ما جاء في الآية الثانية من حث المؤمنين على تقوى الله هو بسبيل ذلك. ولقد كان هذا مما جعل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم يتحرجون على ما يتبادر لنا من الاندماج مع طرف من أطراف النزاع بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه على ما تواترت فيه الروايات.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات وبخاصة في صدد الإقساط والأخوة الإسلامية وواجباتها والتضامن الإسلامي أحاديث نبوية عديدة قوية التلقين والعظة.
منها حديث عن عبد الله ابن عمر جاء فيه ( إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمان عز وجل بما أقسطوا في الدنيا }٤ وروى لهذا الحديث صيغة أخرى بطريق آخر وهي ( المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا ) ٥.
ومنها حديث عن النعمان ابن بشير رواه الشيخان جاء فيه ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) ٦ ومنها حديث عن أبي موسى رواه الشيخان والترمذي جاء فيه ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه ) ٧ وهناك أحاديث صحيحة أخرى في هذا الباب. منها حديث عن أبي هريرة رواه الأربعة جاء فيه ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) ٨.
وحديث عن أبي هريرة رواه مسلم وأبو داود والترمذي جاء فيه ( تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال : انظروا هذين حتى يصطلحا ) ٩ وحديث عن أبي أيوب رواه الأربعة قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) ١٠.
وينطوي في تقرير الأخوة بين المسلمين في الآية والأحاديث تقرير المساواة بينهم كما هو ال
١ انظر الطبري وابن كثير والبغوي والخازن.
٢ التاج ج ٤ ص ٢١٥ والروايات رواها غير الطبري أيضا.
٣ خبر الصلح بين علي ومعاوية رضي الله عنهما واستقلال كل منهما في دولة وبلاد مذكور تاريخ الطبري ج ٣ ص ١٠٧ ـ ١٠٨ وقيام الدولة الإسلامية الأخرى واستقلالها عن بعضها في وقت واحد منذ القرن الهجري الثاني إلى الآن معروف مشهور ومستساغ.
٤ انظر ابن كثير والخازن والبغوي التاج ج ٥ ص ١٧.
٥ المصدر نفسه.
٦ المصدر نفسه.
٧ المصدر نفسه.
٨ التاج ج ٥ ص ٣٥.
٩ التاج ج ٥ ص ٣٥ ـ ٣٦ وقد روي هذا الحديث بصيغة أخرى وطريق آخر أيضا انظر المصدر نفسه.
١٠ التاج ج ٥ ص ٣٦ وكذلك روي هذا الحديث بصيغة أخرى وطريق آخر أيضا انظر المصدر نفسه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ١١ ) ﴾.
قوم : هنا بمعنى الرجال على ما عليه الجمهور.
لا تلمزوا : لا تعيبوا ولا تغمزوا ولا تطعنوا.
ولا تنابزوا بالألقاب : ولا تنعتوا بعضكم بأسماء وألقاب مكروهة.
في الآية :
( ١ ) نهي للمسلمين رجالهم ونسائهم عن سخرية بعضهم من بعض وتنبيه على سبيل توكيد النهي إلى أنه قد يكون المسخور به خيرا من الساخر.
( ٢ ) ونهي كذلك عن غمز بعضهم بعضا بما يسيئه أو تلقيب بعضهم بعضا بأسماء وألقاب مكروهة. وتنبيه على سبيل توكيد النهي إلى أن في ذلك فسقا. ولبئس الإنسان أن يفسق بعد الإيمان.
( ٣ ) وإنذار للذين لا يرتدعون ولا يتوبون فهم ظالمون باغون.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ﴾
وما فيها من تلقين وتأديب.
ولقد احتوت الآية أربعة نواه. وروى المفسرون١ لكل نهي مناسبة خاصة.
فالأول بسبب سخرية بعض الأغنياء أو الزعماء ببعض فقراء المسلمين ورثاثتهم، والثاني بسبب سخرية بعض زوجات النبي ببعض آخر منهن بسبب قصر قامتها وهي أم سلمة أو بسبب يهوديتها وهي صفية. والثالث بسبب غمز مسلم لمسلم آخر بأمه ؛ لأنه لم يفسح له مكانا للجلوس فيه قرب النبي صلى الله عليه وسلم، أو بسبب تسمية أشخاص بأسماء لهم غير مستحبة عندهم فيثيرون بذلك غضبهم، والرابع بسبب نعت بعض المسلمين بعض من أسلم من اليهود والنصارى باليهود والنصراني. والآية منسجمة الأجزاء والأسلوب متماثلة المواضيع إجمالا، ويتبادر لنا بالإضافة إلى ذلك أنها غير منقطعة وغير منفصلة عن مواضيع ما قبلها وما بعدها. فإذا كانت الحوادث المروية صحيحة، وهو محتمل فالراجح أنها وقعت قبل نزول الآية بل قبل نزول السورة فكانت وسيلة لنزول الآية في جملة آيات السورة التأديبية.
وعبارة الآية مطلقة من شأنها أن يكون ما احتوته تعليما وتأديبا عامين للمسلمين في كل وقت ومكان. وقد استهدفت توطيد الأخوة والمودة بينهم فالمنهيات مما يتنافى مع آداب السلوك الرفيعة. ومن شأنها إثارة العداء والبغضاء والأحقاد بين المسلمين بعد أن جمعت بينهم أخوة الإسلام العامة.
ولقد روى المفسرون عن ابن عباس وبعض علماء التابعين : أن النهي يتناول كل ما فيه نبز وسخرية وانتقاص وتحقير وإساءة، ومن ذلك نعت المرء لآخر بالفسق والكفر والنفاق وبالكلب والحمار. وهذا سديد ويمكن أن يقاس على هذا كل ما يكون من هذا الباب بطبيعة الحال غير ما ذكر.
ولسنا نرى محلا للاستشكال بسبب نهي الرجال عن السخرية من الرجال فقط والنساء عن السخرية من النساء. وبسبب تعليل النهي باحتمال أن يكون المسخور به خيرا من الساخر. فالتقريرات والمبادئ القرآنية عامة تمنع أن يفرض إجازة سخرية الرجال من النساء والنساء من الرجال وإجازة السخرية من أحد ما إطلاقا سواء أكان الساخر خيرا منه أم كان المسخور منه غير خير من الساخر.
وروح الآية وهدفها بالذات يلهمان أنها بسبيل تأديب المسلمين رجالهم ونسائهم جميعا، ويلهمان بالتالي أن كل ما نهي عنه فيها وارد بالنسبة للرجال والنساء على السواء وبصورة مطلقة، وعبارتها إنما جاءت كما جاءت للمناسبات وحسب.
ولقد أثرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة متساوقة في التلقين مع تلقين الآية مع شيء من التوضيح نكتفي منها بما ورد في الكتب الخمسة. منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه ) وحديث رواه الشيخان عن أبي ذر قال ( سمع النبي يقول : لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه، وإن لم يكن صاحبه كذلك ). وحديث رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم ) وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( اثنتان في الناس هما بهما كفر الطعن بالنسب والنياحة على الميت ) وحديث رواه الترمذي عن عبد الله قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء ) وحديث رواه أبو داود عن عائشة قالت ( اعتل بعير لصفية بنت حيي وعند زينب فضل ظهر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب : أعطها بعيرا. فقالت : أنا أعطي تلك اليهودية، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر ) وفي بعض الأحاديث التي أوردناها في الفقرة السابقة شيء متصل بهذه الآية ومنها الذي جاء فيه ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره }.
١ انظر التفسير البغوي والطبرسي والخازن والطبري وابن كثير.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ( ١٢ ) ﴾.
ولا تجسسوا : ولا تبحثوا سرا عن عورات الناس وشؤونهم الخاصة لتطلعوا على مخفياتهم.
عبارة الآية واضحة وفيها :
( ١ ) أمر المسلمين باجتناب الظنون والتخمينات والأخذ بها والحكم على الأمور بموجبها، فإن من الظنون ما هو خطأ يجر صاحبه إلى الإثم.
( ٢ ) ونهي لهم عن البحث عن عورات بعضهم ومخفيات أمورهم وكشفها عن اغتياب بعضهم بعضا وذكره بالسوء في غيابه. وسؤال إنكاري على سبيل توكيد النهي عن الغيبة بخاصة عما إذا كان يحب أحدهم أن يأكل لحم أخيه ميتا وتقرير لما هو طبيعي من كراهية ذلك.
( ٣ ) وحث على تقوى الله ومراقبته والتوبة عن مثل هذه الأعمال البغيضة المكروهة المؤذية مع التنبيه على أن الله تعالى تواب يقبل توبة التائب يشمله برحمته.
تعليق على الآية.
﴿ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثير من الظن إن بعض الظن إثم ﴾ الخ
وما فيها من تلقين وما روي في صددها من أحاديث.
وقد روى المفسرون١ أن الآية نزلت أثناء غزوة غزاها النبي ؛ حيث ضم سلمان الفارسي إلى شخصين موسرين، وهذا من عادة النبي حينما يخرج إلى غزاة ليخدمهما ويأكل معهما فغلبته عيناه مرة، فلم يجهز لهما طعاما فأرسلاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسله إلى أسامة ابن زيد خازن المؤونة فقال له : ليس عندي شيء، فأرسله إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا. فقالوا له : لو أرسلناك إلى بئر سميحة لغار ماؤها، ثم انطلقا يتجسسان على أسامة ؛ ليعلما إن كان عنده طعام ومنعه، وأخذا يغمزان سلمان ويغتابان أسامة، فلما جاءا إلى رسول الله قال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ؟ قالا : والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا لحما قال : بل ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة فأنزل الله الآية.
ومع احتمال حدوث مناسبة مثل مناسبة المروية، فإن الاتصال والتساوق والتجانس بينها وبين آيات السورة قائم. وما قلناه في صدد سابقاتها من كون المناسبات قد حدثت قبل نزول السورة، فكانت وسيلة لما احتوته من تأديب وتعليم يقال هنا أيضا.
ولقد استهدفت الآية تنبيه المسلمين إلى وجوب رعاية حقوق بعضهم وأعراضهم في الغياب وتغليب حسن الظن في بعضهم وكبت غريزة الاستطلاع والتجسس على أسرار بعضهم ومخفياتهم وتلقينها عام مستمر المدى كسابقاتها.
وتعبير ﴿ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ﴾تعبير قوي لاذع بسبيل تعظيم إثم غيبة الناس واستنكارها.
وهكذا تتكامل سلسلة التأديبات الرفيعة ليكون المسلمون بها مثال مكارم الأخلاق منزهين عن سيئاتها ومكروهاتها الخاصة والعامة.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة قوية التلقين والعظة في صدد منهياتها منها حديث أخرجه ابن ماجه عن عبد الله ابن عمر قال ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول : ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك ماله ودمه، وأن يظن به إلا خيرا ) ٢ وحديث رواه البخاري وأبو داود جاء فيه ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ) ٣ وحديث رواه أبو داود عن معاوية قال ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أوكدت أن تفسدهم ) ٤ وحديث رواه أبو داود عن أبي برزة الأسلمي جاء فيه ( يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته ) ٥ وحديث أخرجه الإمام أحمد عن جابر ابن عبد الله قال ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فارتفعت ريح جيفة منتنة، فقال رسول الله : أتدرون ما هذه الريح. هذه ريح الذي يغتابون الناس ) ٦ وحديث أخرجه الإمام أحمد كذلك عن معاذ ابن أنس الجهني عن أبيه قال :( قال النبي صلى الله عليه وسلم من حمى مؤمنا من منافق يغتابه، بعث الله إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمنا بشيء يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال ) ٧ وحديث رواه أبو داود عن جابر ابن عبد الله وأبي طلحة ابن سهل الأنصاري قال ( سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته، وما من امرئ ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقض فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله عز وجل في مواطن يحب فيها نصرته ) ٨ وفي الحديثين الأخيرين إيجاب على كل مسلم أن يدافع عن أخيه المسلم إذا ما ذكر في مجلس سوء.
وهذه طائفة من أحاديث نبوية أخرى في صور من الاغتياب المكروهة التي نبه رسول الله عليها وندد بها ونهى عنها. منها أحاديث رواها الطبري بطرقه، وهو من أئمة الحديث ومن ذلك عن أبي هريرة جاء فيه ( إن رجلا قام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا : ما أعجز فلانا ؟ فقال رسول الله : أكلتم لحم أخيكم واغتبتموه ).
وحديث عن معاذ ابن جبل قال ( كنا عند رسول الله فذكر القوم رجلا، فقال : ما يأكل إلا ما أطعم، وما يرحل إلا ما يرحل له وما أضعفه، فقال رسول الله : اغتبتم أخاكم. فقالوا : يا رسول الله وغيبته أن نحدث ما فيه فقال : بحسبكم أن تحدثوا عن أخيكم بما فيه ) وحديث عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا ذكرت أخاك بما يكره، فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ) ٩ وحديث عن حسان ابن المخارق جاء فيه ( إن امرأة دخلت على عائشة، فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بعدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي : أنها قصيرة، فقال رسول الله : اغتبتها ) ١٠ وحديث رواه البغوي بطرقه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم ولحومهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل، فقال هؤلاء : الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم ) ١١.
وهناك حديث يرويه أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق ومن الكبائر السبتان بالسبة ) ١٢ وفي الأحاديث تعليم وتأديب نبويان واجبا الالتزام.
هذا، وهناك حديث صحيح استنبط منه العلماء جواز غيبة الفاسق. وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت :( استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، قلت : يا رسول الله، قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام. قال : أي عائشة إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه١٣ ).
وهناك حديثان نبويان فيهما صورة الأخلاق رسول الله متصلة بالموضوع الذي نحن فيه رواهما أبو داود والترمذي أحدهما عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا، فإن أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ) ١٤ وثانيهما عن عائشة قالت :( حكيت للنبي إنسانا فقال : ما أحب أني حكيت إنسانا، وأن لي كذا وكذا ) ١٥ حيث ينطوي فيهما تأديب نبوي للمسلمين أيضا الذين أمروا بأن يكون لهم رسول الله الأسوة الحسنة.
ولقد شرحنا كلمة ﴿ ولا تجسسوا ﴾ بما شرحناه ؛ لأن هذا هو ما يلهمه مقامها، والأحاديث التي أوردناها في صددها. ومن المعلوم أن هناك عملا آخر من أعمال التجسس وهو التجسس على الأعداء والتجسس لهم. والأول مبرر، وهناك حديث رواه أبو داود عن أنس في هذا جاء فيه ( بعث النبي صلى الله عليه وسلم بسيسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان ) ١٦ وحديث آخر رواه الشيخان والترمذي عن جابر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال الزبير : أنا. قالها ثلاثا ويجيبه الزبير، فقال النبي : لكل نبي حواري وحواريي الزبير ) ١٧ والثاني جريمة قد يكون ارتدادا ؛ لأن فيها توليا ونصرة للأعداء ومتولي الأعداء وناصرهم على المسلمين منهم، وليس من الله في شيء كما جاء في آية سورة آل عمران هذه ﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ﴾ ( ٢٨ ) وآية سورة المائدة هذه ﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾١٨.
وهناك حديثان يذكر أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل جاسوس من الأعداء، وذكر ثانيهما أن النبي أمر بقتال من قال عن نفسه : إنه مسلم وتجسس للأعداء. وقد روى أولهما البخاري وأبو داود عن سلمة ابن الأكوع قال ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر فجلس مع أصحابه يتحدث، ثم انفتل فقال النبي : اطلبوه فاقتلوه. قال فقتلته فنفلني سلبه )١٩ وروى ثانيهما أبو داود وأحمد جاء فيه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل فرات ابن حيان، وكان عينا لأبي سفيان، وكان حليفا لرجل من الأنصار، فمر بحلقة من الأنصار فقال : إني مسلم فقال النبي : إن منكم رجالا لا نكلهم إلى إيمانهم. منهم فرات ابن حيان٢٠.
ويرد على البال الجواسيس الذين تبثهم الحكومات بين رعاياها. فإن كان ذلك ضد المجرمين وجرائمهم حقا وصدقا فقد يكون مبررا، وإن كان لغير ذلك ليكون إثما عند الله وداخلا في نطاق النهي القرآني والنبوي. والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير البغوي والطبرسي والخازن وابن كثير.
٢ النصوص من تفسير ابن كثير، وقد أورد المفسر الحديث الأخير بصيغ ومن طرق أخرى مع خلاف يسير عن البراء ابن عازب وعن نافع وابن عمر، والمرجح أن الظن الذي وصفه الحديث الثاني بأكذب الحديث هو سوء الظن بالناس، وليس الظن إطلاقا والحديث الثاني رواه البخاري وأبو داود (انظر التاج / ٥ ص ٢٥) والحديثان الثالث والرابع رواهما أبو داود والترمذي (انظر المصدر نفسه ص ٢٨).
٣ المصدر نفسه.
٤ المصدر السابق نفسه.
٥ المصدر نفسه.
٦ النص من ابن كثير أيضا وقد أورد ابن كثير هذا الحديث بطريق أخرى مع خلاف يسير العبارة.
٧ النصوص من ابن كثير أيضا وقد أورد ابن كثير الحديث الأول من طريق أخرى بصيغة أخرى.
٨ المصدر نفسه.
٩ روى مسلم وأبو داود والترمذي مثل هذا الحديث بهذه الصيغة (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك ما يكره. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ إن كان ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته. التاج ج ٥ ص ٢٤ وبهته: معناه افتريت عليه وهذا أشد من الغيبة..
١٠ روى أبو داود والترمذي حديثا مقاربا بصيغة أخرى عن عائشة قالت (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا: يعني قصيرة. فقال: قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) التاج ج ٥ ص ٢٤.
١١ روى هذا الحديث أبو داود أيضا انظر التاج ج ٥ ص ٢٥.
١٢ التاج ج ٥ ص ٢٤.
١٣ التاج ج ٥ ص ٢٤.
١٤ التاج ج ٥ ص ٢٤.
١٥ المصدر السابق نفسه والمتبادر أن كلمة (حكيت) بمعنى قلدت ذلك الإنسان في عمله أو قوله ويكون ذلك القول أو العمل غير مستحب أو مثيرا للسخرية، وهذا من مألوفات ما يفعله الناس.
١٦ التاج ج ٤ ص ٣٦١.
١٧ المصدر نفسه.
١٨ هذه الآية في سلسلة فيها نهي عن اتخاذ الذين يتخذون دين المسلمين هزوا من أهل الكتاب والمشركين؛ حيث يكونون بذلك أعداء للمسلمين، وفي السلسلة نعت الذين يفعلون ذلك للارتداد أيضا.
١٩ التاج ج ٤ ص ٣٦٠.
٢٠ المصدر نفسه ص ٣٦٠ ذكر الشارح في ذيله أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل عن قتل فرات؛ لأن حليفه كفله وأنه تاب وحسن إسلامه، ولم يذكر سندا لذلك، فإذا صح ففيه سنة نبوية بطبيعة الحال.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( ١٣ ) ﴾.
( ١ ) شعوبا وقبائل : أوجه الأقوال في الكلمتين على ما تلهمه روح الآية وتقديم الأولى على الثانية أن ( الشعب ) هو الأصل البعيد الجامع وأنه سمي بذلك لأنه يتشعب إلى فروع، وأن ( القبيلة ) هي الأصل القريب المتفرع عن الشعب التي يتجمع فيها أفراد الفرع المنحدرين من أب أقرب.
( ٢ ) لتعارفوا : لتتعارفوا أي ليعرف بعضكم بعضا.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ﴾
وما فيها من تلقينات رائعة، وما ورد في صددها من أحاديث.
عبارة الآية واضحة، وفيها هتاف للناس جميعا بأن الله قد خلقهم متساوين من ذكر وأنثى. وأن تفرقهم إلى شعوب وقبائل للتعارف وليس للتفاضل. وأن أكرمهم عند الله هو أتقاهم بالإقبال على صالح العمل واجتناب الآثام وأن الله عليم خبير بأعمالهم وشؤونهم لا تخفى عليه منهم خافية.
وقد روى المفسرون أكثر من رواية لمناسبة نزول الآية. منها أن صحابيا اشترى عبد على شريطة عدم منعه من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فواظب على ذلك، وقد غاب فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : إنه محموم فعاده، ثم بلغه أنه يحتضر فحضر موته وتولى غسله ودفنه فدخل على الأنصار والمهاجرين من ذلك أمر عظيم فنزلت الآية لتهتف بما هتفت به١. ومنها أنها نزلت في ثابت ابن قيس ؛ حيث غمز رجل لم يفسح له في المجلس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انظر في وجوه القوم فنظر، فقال ما رأيت ؟ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود قال : فإنك لا تفضلهم إلا بالدين والتقوى٢. ومنها أن بلالا لما علا الكعبة ليؤذن عقب فتح مكة قال : الحارث ابن هشام أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا، فأخبر الله رسوله وأوحى بالآية لزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء٣.
والروايات غير موثقة الإسناد والرواية الأخيرة تقتضي أن تكون الآية نزلت عقب الفتح المكي وهو ما لا تطمئن النفس به. ولقد روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلاها في خطبته التي ألقاها على الناس عقب الفتح كآية كانت نازلة قبل ؛ حيث روي النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته ( يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها. فالناس رجلان بر تقي كريم على الله. وفاجر شقي هين على الله والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب. قال الله تعالى ﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى... ﴾ ٤ والرواية الأولى لا تتسق مع فحوى الآية.
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار أجل من أن يداخلهم هم عظيم بسبب ما ظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم من بر وتكريم لمسلم، ولو كان عبدا وهو ما روته الرواية الأولى. وقد يكون في الرواية الثانية مناسبة ؛ لأنها فيها شيئا مما يتناسب مع الآية، ومع ذلك فإنه يتبادر لنا أنا الآية قد جاءت معقبة على الآيات السابقة وبخاصة على الآيتين ( ١١ و ١٢ ) اللتين نهتا المسلمين عن إساءة بعضهم لبعض وجاها وغيابا بسخرية وانتقاص أو نبز أو لمز أو سوء ظن أو غيبة أو تجسس وكشف عورة، على اعتبار أن فاعل ذلك إنما يفعله وهو يظن أنه أرفع وأفضل وأكرم من غيره. وإنها بالتالي جزء من سلسلة الآيات، وتتمة لما احتوته من تعليم وتأديب ساميين.
على أن الآية بما هتفت به الناس واستهدفته من تذكيرهم بمساواتهم لبعض في الأصل والطبيعة وحقوق الحياة. ومن تقرير كون التفاضل بينهم إنما يكون في العمل الصالح وتقوى الله. وكون الأكرم عند الله إنما هو الأتقى. هي جملة تامة لذاتها تقرر وجهة نظر الشريعة الإسلامية التي يمثلها القرآن في الدرجة الأولى. في مساواة الناس في الحقوق والواجبات العامة مساواة تامة. وفي هدم درجات التفاوت والطبقات في الإسلام ونسف امتيازاتها القائمة على الأنساب والأحساب والثروات، وما يماثلها من الأعراض وفي جعل التفاضل منوطا بالسلوك الشخصي الذي عبر عنه بتعبير ﴿ أتقاكم ﴾ والذي يدخل في نطاقه مراقبة الله في السر والعلن وابتغاء رضائه في الائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه، وقد أمر بكل ما فيه الحق والعدل والبر والتقوى وأداء الواجبات نحو الله والناس ونهى عن كل ما فيه إثم وبغي ومنكر وتقصير نحو الله والناس. وهي من أجل ذلك يصح أن تعتبر من روائع جوامع الكلم القرآنية وأقواها وأبعدها مدى وأثرا في الحياة الاجتماعية والسياسية والشخصية والإسلامية.
ويلفت النظر بخاصة إلى المخاطب في الآية. فبينما خاطبت الآيات السابقة لها المسلمين جاءت هذه الآية لتخاطب الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأنسابهم وأحسابهم وأديانهم ونحلهم خطابا مطلقا يمتد ما دامت الحياة الدنيا ؛ لأن الموضوع الخطير الذي تقرره هو الذي يتناسب مع هذا الخطاب أكثر. وفيها شيء من معنى التنديد اللاذع بما اعتاده الناس من التفاخر بالأحساب والأنساب والثروات وما يماثلها من الأعراض.
وهذه الدلالات قوية البروز في الخطبة الرائعة التي ألقاها السيد الرسول صلوات الله عليه بعد فتح مكة، وتلا فيها الآية والتي أوردنا خبرها قبل.
ولقد روى المفسرون في سياق هذه الآية وفي صددها أحاديث نبوية قوية التلقين والعظة. منها حديث رواه ابن ماجه عن أبي هريرة جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) ٥ وحديث أخرجه الطبراني عن محمد ابن حبيب بن خراش العصري عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى ) ٦ وحديث أخرجه أبو بكر البزار عن حذيفة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان ) ٧ وحديث رواه الطبري جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الناس لآدم وحواء طف الصاع لم يملؤوه إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا على أنسابكم يوم القيامة إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ٨ وحديث رواه الإمام أحمد عن عقبة ابن عامر قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنسابكم هذه ليست بحسبة على أحد، كلكم بنو آدم. طف الصاع لم يملؤوه، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى، وكفى بالرجل أن يكون بذيئا بخيلا فاحشا ) ٩ وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل : انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله ) ١٠.
ومن الجدير بالتذكير في هذا السياق آيات في سورة ( المؤمنون ) تحتوي التلقين الذي احتوته الأحاديث الشريفة وهي ﴿ فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ١٠١ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ١٠٢ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ١٠٣ ﴾.
١ انظر تفسير الزمخشري.
٢ انظر تفسير الخازن.
٣ المصدر نفسه.
٤ فصل التفسير في التاج ج ٤ ص ٢١٦ وعبية الجاهلية: فخرها وكبرها كما فسرها مؤلف التاج وقد روى ابن كثير والبغوي والخازن والقاسمي هذا الحديث وجاء في روايتهم كلمة (عيبة) بدلا من (عبية).
٥ النصوص من ابن كثير.
٦ المصدر نفسه.
٧ المصدر نفسه.
٨ النصوص من ابن كثير.
٩ المصدر نفسه.
١٠ المصدر نفسه.
( ١ ) لا يلتكم : لا ينقصكم.
﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٤ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ١٥ ) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٦ ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ١٧ ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٨ ) ﴾.
تعليق على الآية.
﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا... ﴾.
والآيات الثلاث التالية لها وما فيها من صور وأحكام وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وقد روى المفسرون١ أنها نزلت في مناسبة قدوم جماعة من أعراب بني أسد إلى المدينة في سنة جدب وإظهارهم الإسلام ومطالبتهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الصدقات، ومنهم عليه بدخولهم في الإسلام ومتابعتهم له عن طواعية في حين أن القبائل الأخرى عالنته العداء وحاربته.
وروح الآيات ومضمونها متسقان مع الرواية إجمالا كما هو واضح. وقد احتوت :
أولا : صورة من صور الأعراب ومدى تأثرهم بالإسلام لأول عهدهم به واتخاذهم التظاهر به وسيلة للغنم، ومنهم بما يتظاهرون به على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ردت عليهم الآيات ردا قويا لاذعا وآذنتهم أن الله يعلم سرائرهم، وأن الإسلام والإيمان هما لنجاتهم، وأن الله الذي هداهم هو الأولى بأن يمن عليهم بهما.
وثانيا : تسامح الله تعالى مع مثل هؤلاء وقبول الظاهر منهم مع ذلك إذا اقترن بطاعة الله ورسوله وتطمينهم بأن الله عز وجل في مثل هذه الحالة يجزيهم على أعمالهم دون نقص برغم علمه أن الإيمان لم يتمكن في قلوبهم وأن كل ما كان من أمرهم إعلان إسلامهم.
وثالثا : وصفا قويا رائعا وحاسما للمؤمن المخلص فيه معنى الحث على الاتصاف به.
ورابعا : فرقا بين معنى الإيمان ومداه ومعنى الإسلام ومداه بكون الأول لا يحتمل ترددا ولا ارتيابا، ولا أمل منفعة مادية دنيوية ولا قصدا لها. ويجعل المتحقق به يقدم على الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه، وتحمل التضحيات والمشقات برضاء نفس وطمأنينة قلب. وبكون الثاني هو إظهار الانقياد للدعوة وواجباتها رغبة أو رهبة دون أن يتمكن الإيمان في قلب من يعلن إسلامه. وهذه صفة الأعراب الذين حكت الآيات قصتهم وتعبير ﴿ الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾ ينطوي في الوقت نفسه على تنويه بالذين تمكن الإيمان في قلوبهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصف لهم.
ولقد كان تعبير ﴿ الإسلام ﴾ يأتي بمعنى النفس لله عز وجل وخضوع المرء وانقياده له، وبالتالي بمعنى الإخلاص لله في حين أن الآيات لم تعتبر قول الأعراب ﴿ أسلمنا ﴾ دليلا على إخلاصهم وصحة إيمانهم ؛ حيث يبدو من ذلك طور من أطوار استعمال هذه الكلمة في القرآن، ولقد صارت الكلمة عنوانا على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على ما جاء في الآية الثالثة من سورة المائدة ﴿ ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ فجملة ﴿ ولكن قولوا أسلمنا ﴾ في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها من مدى ذلك بمعنى ( قولوا اتخذنا الإسلام دينا } والله أعلم.
ولقد نبه بعض المفسرين٢ إلى أن الآيات لا تتضمن وصف الأعراب الذين حكت أقوالهم بالنفاق. وهذا صحيح ويستتبع هذا أن الله إنما وسع لهم رحمته وحكمته ؛ لأنهم كانوا يظنون أنهم بإظهارهم الإسلام قد فعلوا ما عليهم، وأن الآيات هي بسبيل إعلامهم حقيقة أمرهم وحقيقة الإيمان الصحيح والمتصفين به للتأديب والتنبيه والحث في مناسبة ما روى عنهم من منّ وتبجج، وقد يكون هذا حال معظم الذين أسلموا من جماهير العرب الذين كانت أكثريتهم من القبائل. بل قد يكون هذا الحال جماهير المسلمين في كل وقت. وهذا مؤيد في تقسيم القرآن للمؤمنين بالله فريق ﴿ والسابقون السابقون ﴾ ( ١٠ ) و ﴿ فأصحاب الميمنة ﴾ ( ٨ ) كما جاء في سورة الواقعة. وقد جعل لكل منهما ثوابه الأخروي بحسب ذلك على ما جاء في نفس السورة. وجاء في وصف السابقين ﴿ ثلة من الأولين ١٣ وقليل من الآخرين ١٤ ﴾ وفي وصف أصحاب الميمنة ﴿ ثلة من الأولين ٣٩ وثلة من الآخرين ٤٠ ﴾ وعلى ضوء هذا قد يصح أن يقال والله أعلم : إن في الآيات خطة شرعية سياسية مستمرة المدى. وهي قبول ظواهر الناس وتوسيع الدولة الإسلامية صدرها لمن يعلن إسلامه ويظهر انقياده وطاعته ويقوم بما يترتب عليه من واجبات نحو الله والدولة والناس، واعتباره من رعاياها المسلمين بقطع النظر عما إذا كان مؤمن القلب أم لا ؛ لأن ذلك مغيب عن غير الله عز وجل. وليس من شأن الدولة والناس أن يشقوا عن قلوب أمثاله ليتبينوا صدق إيمانه على حد تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي عنه في سياق آية النساء هذه ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا... ﴾ ( ٩٤ ) حيث قال لمن قتل حينما قال له إنه كان كاذبا في قوله :( هلا شققت عن قلبه ) ٣ على ما شرحناه في سياق تفسير هذه الآية.
ويحسن أن ننبه على أمر هام في هذا الصدد وهو أن من الأعراب الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل منهم ظواهرهم الإسلامية بناء على تلقينات القرآن من صار مخلصا في إيمانه وعمله على ما سجلته آية سورة التوبة هذه ﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم٩٩ ﴾ وقد جاءت هذه الآية بعد آيتين ذكر فيهما حالة الأعراب بصورة عامة ﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ٩٧ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ﴾ ( التوبة : ٩٧ـ ٩٨ } حيث تبدو خلال ذلك روعة الحكمة القرآنية فيما رسمته من خطة مثلى. وحيث يبدو أن ما جاء في الآية التي نحن في صددها هو بسبيل الواقع حيث نزولها.
هذا، ومع ما يبدو من كون الآيات فصلا مستقلا احتوى موضوعا خاصا فإن ما فيها من النهي عن المن بالإسلام وما ينطوي عليه من نهي عن زهو المرء بما ليس فيه في غير حق ومحل. ومن تقرير لصفة المؤمن الصادق وإخلاصه يجعل بينها وبين الفصول السابقة من السورة التي احتوت فصولا تأديبية متنوعة ومتساوقة صلة ما ؛ لأن فيها معنى من معاني التعليم والتأديب والتهذيب الخلقي والنفسي للمسلمين عامة في كل وقت مثلها. وإذا كانت نزلت لحدتها وفي ظرف غير ظرف نزول فصول السورة، فالراجح أن هذه الصلة هي سبب وضعها في ترتيبها. والله أعلم. ومن المحتمل مع ذلك أن يكون الحادث الذي نزلت في مناسبته سابقا لنزول السورة فاقتضت حكمة التنزيل أن يشار إليه في فصل من فصول السورة التأديبية والتعليمية. وإذا صح هذا الاحتمال فيكون هذا الفصل أيضا قد نزل مع الفصول السابقة التي يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. والله تعالى أعلم.
﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٤ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ١٥ ) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٦ ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ١٧ ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٨ ) ﴾.
تعليق على الآية.
﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا... ﴾.
والآيات الثلاث التالية لها وما فيها من صور وأحكام وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وقد روى المفسرون١ أنها نزلت في مناسبة قدوم جماعة من أعراب بني أسد إلى المدينة في سنة جدب وإظهارهم الإسلام ومطالبتهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الصدقات، ومنهم عليه بدخولهم في الإسلام ومتابعتهم له عن طواعية في حين أن القبائل الأخرى عالنته العداء وحاربته.
وروح الآيات ومضمونها متسقان مع الرواية إجمالا كما هو واضح. وقد احتوت :
أولا : صورة من صور الأعراب ومدى تأثرهم بالإسلام لأول عهدهم به واتخاذهم التظاهر به وسيلة للغنم، ومنهم بما يتظاهرون به على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ردت عليهم الآيات ردا قويا لاذعا وآذنتهم أن الله يعلم سرائرهم، وأن الإسلام والإيمان هما لنجاتهم، وأن الله الذي هداهم هو الأولى بأن يمن عليهم بهما.
وثانيا : تسامح الله تعالى مع مثل هؤلاء وقبول الظاهر منهم مع ذلك إذا اقترن بطاعة الله ورسوله وتطمينهم بأن الله عز وجل في مثل هذه الحالة يجزيهم على أعمالهم دون نقص برغم علمه أن الإيمان لم يتمكن في قلوبهم وأن كل ما كان من أمرهم إعلان إسلامهم.
وثالثا : وصفا قويا رائعا وحاسما للمؤمن المخلص فيه معنى الحث على الاتصاف به.
ورابعا : فرقا بين معنى الإيمان ومداه ومعنى الإسلام ومداه بكون الأول لا يحتمل ترددا ولا ارتيابا، ولا أمل منفعة مادية دنيوية ولا قصدا لها. ويجعل المتحقق به يقدم على الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه، وتحمل التضحيات والمشقات برضاء نفس وطمأنينة قلب. وبكون الثاني هو إظهار الانقياد للدعوة وواجباتها رغبة أو رهبة دون أن يتمكن الإيمان في قلب من يعلن إسلامه. وهذه صفة الأعراب الذين حكت الآيات قصتهم وتعبير ﴿ الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾ ينطوي في الوقت نفسه على تنويه بالذين تمكن الإيمان في قلوبهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصف لهم.
ولقد كان تعبير ﴿ الإسلام ﴾ يأتي بمعنى النفس لله عز وجل وخضوع المرء وانقياده له، وبالتالي بمعنى الإخلاص لله في حين أن الآيات لم تعتبر قول الأعراب ﴿ أسلمنا ﴾ دليلا على إخلاصهم وصحة إيمانهم ؛ حيث يبدو من ذلك طور من أطوار استعمال هذه الكلمة في القرآن، ولقد صارت الكلمة عنوانا على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على ما جاء في الآية الثالثة من سورة المائدة ﴿ ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ فجملة ﴿ ولكن قولوا أسلمنا ﴾ في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها من مدى ذلك بمعنى ( قولوا اتخذنا الإسلام دينا } والله أعلم.
ولقد نبه بعض المفسرين٢ إلى أن الآيات لا تتضمن وصف الأعراب الذين حكت أقوالهم بالنفاق. وهذا صحيح ويستتبع هذا أن الله إنما وسع لهم رحمته وحكمته ؛ لأنهم كانوا يظنون أنهم بإظهارهم الإسلام قد فعلوا ما عليهم، وأن الآيات هي بسبيل إعلامهم حقيقة أمرهم وحقيقة الإيمان الصحيح والمتصفين به للتأديب والتنبيه والحث في مناسبة ما روى عنهم من منّ وتبجج، وقد يكون هذا حال معظم الذين أسلموا من جماهير العرب الذين كانت أكثريتهم من القبائل. بل قد يكون هذا الحال جماهير المسلمين في كل وقت. وهذا مؤيد في تقسيم القرآن للمؤمنين بالله فريق ﴿ والسابقون السابقون ﴾ ( ١٠ ) و ﴿ فأصحاب الميمنة ﴾ ( ٨ ) كما جاء في سورة الواقعة. وقد جعل لكل منهما ثوابه الأخروي بحسب ذلك على ما جاء في نفس السورة. وجاء في وصف السابقين ﴿ ثلة من الأولين ١٣ وقليل من الآخرين ١٤ ﴾ وفي وصف أصحاب الميمنة ﴿ ثلة من الأولين ٣٩ وثلة من الآخرين ٤٠ ﴾ وعلى ضوء هذا قد يصح أن يقال والله أعلم : إن في الآيات خطة شرعية سياسية مستمرة المدى. وهي قبول ظواهر الناس وتوسيع الدولة الإسلامية صدرها لمن يعلن إسلامه ويظهر انقياده وطاعته ويقوم بما يترتب عليه من واجبات نحو الله والدولة والناس، واعتباره من رعاياها المسلمين بقطع النظر عما إذا كان مؤمن القلب أم لا ؛ لأن ذلك مغيب عن غير الله عز وجل. وليس من شأن الدولة والناس أن يشقوا عن قلوب أمثاله ليتبينوا صدق إيمانه على حد تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي عنه في سياق آية النساء هذه ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا... ﴾ ( ٩٤ ) حيث قال لمن قتل حينما قال له إنه كان كاذبا في قوله :( هلا شققت عن قلبه ) ٣ على ما شرحناه في سياق تفسير هذه الآية.
ويحسن أن ننبه على أمر هام في هذا الصدد وهو أن من الأعراب الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل منهم ظواهرهم الإسلامية بناء على تلقينات القرآن من صار مخلصا في إيمانه وعمله على ما سجلته آية سورة التوبة هذه ﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم٩٩ ﴾ وقد جاءت هذه الآية بعد آيتين ذكر فيهما حالة الأعراب بصورة عامة ﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ٩٧ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ﴾ ( التوبة : ٩٧ـ ٩٨ } حيث تبدو خلال ذلك روعة الحكمة القرآنية فيما رسمته من خطة مثلى. وحيث يبدو أن ما جاء في الآية التي نحن في صددها هو بسبيل الواقع حيث نزولها.
هذا، ومع ما يبدو من كون الآيات فصلا مستقلا احتوى موضوعا خاصا فإن ما فيها من النهي عن المن بالإسلام وما ينطوي عليه من نهي عن زهو المرء بما ليس فيه في غير حق ومحل. ومن تقرير لصفة المؤمن الصادق وإخلاصه يجعل بينها وبين الفصول السابقة من السورة التي احتوت فصولا تأديبية متنوعة ومتساوقة صلة ما ؛ لأن فيها معنى من معاني التعليم والتأديب والتهذيب الخلقي والنفسي للمسلمين عامة في كل وقت مثلها. وإذا كانت نزلت لحدتها وفي ظرف غير ظرف نزول فصول السورة، فالراجح أن هذه الصلة هي سبب وضعها في ترتيبها. والله أعلم. ومن المحتمل مع ذلك أن يكون الحادث الذي نزلت في مناسبته سابقا لنزول السورة فاقتضت حكمة التنزيل أن يشار إليه في فصل من فصول السورة التأديبية والتعليمية. وإذا صح هذا الاحتمال فيكون هذا الفصل أيضا قد نزل مع الفصول السابقة التي يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. والله تعالى أعلم.
﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٤ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ١٥ ) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٦ ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ١٧ ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٨ ) ﴾.
تعليق على الآية.
﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا... ﴾.
والآيات الثلاث التالية لها وما فيها من صور وأحكام وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وقد روى المفسرون١ أنها نزلت في مناسبة قدوم جماعة من أعراب بني أسد إلى المدينة في سنة جدب وإظهارهم الإسلام ومطالبتهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الصدقات، ومنهم عليه بدخولهم في الإسلام ومتابعتهم له عن طواعية في حين أن القبائل الأخرى عالنته العداء وحاربته.
وروح الآيات ومضمونها متسقان مع الرواية إجمالا كما هو واضح. وقد احتوت :
أولا : صورة من صور الأعراب ومدى تأثرهم بالإسلام لأول عهدهم به واتخاذهم التظاهر به وسيلة للغنم، ومنهم بما يتظاهرون به على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ردت عليهم الآيات ردا قويا لاذعا وآذنتهم أن الله يعلم سرائرهم، وأن الإسلام والإيمان هما لنجاتهم، وأن الله الذي هداهم هو الأولى بأن يمن عليهم بهما.
وثانيا : تسامح الله تعالى مع مثل هؤلاء وقبول الظاهر منهم مع ذلك إذا اقترن بطاعة الله ورسوله وتطمينهم بأن الله عز وجل في مثل هذه الحالة يجزيهم على أعمالهم دون نقص برغم علمه أن الإيمان لم يتمكن في قلوبهم وأن كل ما كان من أمرهم إعلان إسلامهم.
وثالثا : وصفا قويا رائعا وحاسما للمؤمن المخلص فيه معنى الحث على الاتصاف به.
ورابعا : فرقا بين معنى الإيمان ومداه ومعنى الإسلام ومداه بكون الأول لا يحتمل ترددا ولا ارتيابا، ولا أمل منفعة مادية دنيوية ولا قصدا لها. ويجعل المتحقق به يقدم على الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه، وتحمل التضحيات والمشقات برضاء نفس وطمأنينة قلب. وبكون الثاني هو إظهار الانقياد للدعوة وواجباتها رغبة أو رهبة دون أن يتمكن الإيمان في قلب من يعلن إسلامه. وهذه صفة الأعراب الذين حكت الآيات قصتهم وتعبير ﴿ الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾ ينطوي في الوقت نفسه على تنويه بالذين تمكن الإيمان في قلوبهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصف لهم.
ولقد كان تعبير ﴿ الإسلام ﴾ يأتي بمعنى النفس لله عز وجل وخضوع المرء وانقياده له، وبالتالي بمعنى الإخلاص لله في حين أن الآيات لم تعتبر قول الأعراب ﴿ أسلمنا ﴾ دليلا على إخلاصهم وصحة إيمانهم ؛ حيث يبدو من ذلك طور من أطوار استعمال هذه الكلمة في القرآن، ولقد صارت الكلمة عنوانا على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على ما جاء في الآية الثالثة من سورة المائدة ﴿ ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ فجملة ﴿ ولكن قولوا أسلمنا ﴾ في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها من مدى ذلك بمعنى ( قولوا اتخذنا الإسلام دينا } والله أعلم.
ولقد نبه بعض المفسرين٢ إلى أن الآيات لا تتضمن وصف الأعراب الذين حكت أقوالهم بالنفاق. وهذا صحيح ويستتبع هذا أن الله إنما وسع لهم رحمته وحكمته ؛ لأنهم كانوا يظنون أنهم بإظهارهم الإسلام قد فعلوا ما عليهم، وأن الآيات هي بسبيل إعلامهم حقيقة أمرهم وحقيقة الإيمان الصحيح والمتصفين به للتأديب والتنبيه والحث في مناسبة ما روى عنهم من منّ وتبجج، وقد يكون هذا حال معظم الذين أسلموا من جماهير العرب الذين كانت أكثريتهم من القبائل. بل قد يكون هذا الحال جماهير المسلمين في كل وقت. وهذا مؤيد في تقسيم القرآن للمؤمنين بالله فريق ﴿ والسابقون السابقون ﴾ ( ١٠ ) و ﴿ فأصحاب الميمنة ﴾ ( ٨ ) كما جاء في سورة الواقعة. وقد جعل لكل منهما ثوابه الأخروي بحسب ذلك على ما جاء في نفس السورة. وجاء في وصف السابقين ﴿ ثلة من الأولين ١٣ وقليل من الآخرين ١٤ ﴾ وفي وصف أصحاب الميمنة ﴿ ثلة من الأولين ٣٩ وثلة من الآخرين ٤٠ ﴾ وعلى ضوء هذا قد يصح أن يقال والله أعلم : إن في الآيات خطة شرعية سياسية مستمرة المدى. وهي قبول ظواهر الناس وتوسيع الدولة الإسلامية صدرها لمن يعلن إسلامه ويظهر انقياده وطاعته ويقوم بما يترتب عليه من واجبات نحو الله والدولة والناس، واعتباره من رعاياها المسلمين بقطع النظر عما إذا كان مؤمن القلب أم لا ؛ لأن ذلك مغيب عن غير الله عز وجل. وليس من شأن الدولة والناس أن يشقوا عن قلوب أمثاله ليتبينوا صدق إيمانه على حد تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي عنه في سياق آية النساء هذه ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا... ﴾ ( ٩٤ ) حيث قال لمن قتل حينما قال له إنه كان كاذبا في قوله :( هلا شققت عن قلبه ) ٣ على ما شرحناه في سياق تفسير هذه الآية.
ويحسن أن ننبه على أمر هام في هذا الصدد وهو أن من الأعراب الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل منهم ظواهرهم الإسلامية بناء على تلقينات القرآن من صار مخلصا في إيمانه وعمله على ما سجلته آية سورة التوبة هذه ﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم٩٩ ﴾ وقد جاءت هذه الآية بعد آيتين ذكر فيهما حالة الأعراب بصورة عامة ﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ٩٧ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ﴾ ( التوبة : ٩٧ـ ٩٨ } حيث تبدو خلال ذلك روعة الحكمة القرآنية فيما رسمته من خطة مثلى. وحيث يبدو أن ما جاء في الآية التي نحن في صددها هو بسبيل الواقع حيث نزولها.
هذا، ومع ما يبدو من كون الآيات فصلا مستقلا احتوى موضوعا خاصا فإن ما فيها من النهي عن المن بالإسلام وما ينطوي عليه من نهي عن زهو المرء بما ليس فيه في غير حق ومحل. ومن تقرير لصفة المؤمن الصادق وإخلاصه يجعل بينها وبين الفصول السابقة من السورة التي احتوت فصولا تأديبية متنوعة ومتساوقة صلة ما ؛ لأن فيها معنى من معاني التعليم والتأديب والتهذيب الخلقي والنفسي للمسلمين عامة في كل وقت مثلها. وإذا كانت نزلت لحدتها وفي ظرف غير ظرف نزول فصول السورة، فالراجح أن هذه الصلة هي سبب وضعها في ترتيبها. والله أعلم. ومن المحتمل مع ذلك أن يكون الحادث الذي نزلت في مناسبته سابقا لنزول السورة فاقتضت حكمة التنزيل أن يشار إليه في فصل من فصول السورة التأديبية والتعليمية. وإذا صح هذا الاحتمال فيكون هذا الفصل أيضا قد نزل مع الفصول السابقة التي يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. والله تعالى أعلم.
﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٤ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ١٥ ) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٦ ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ١٧ ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٨ ) ﴾.
تعليق على الآية.
﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا... ﴾.
والآيات الثلاث التالية لها وما فيها من صور وأحكام وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وقد روى المفسرون١ أنها نزلت في مناسبة قدوم جماعة من أعراب بني أسد إلى المدينة في سنة جدب وإظهارهم الإسلام ومطالبتهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الصدقات، ومنهم عليه بدخولهم في الإسلام ومتابعتهم له عن طواعية في حين أن القبائل الأخرى عالنته العداء وحاربته.
وروح الآيات ومضمونها متسقان مع الرواية إجمالا كما هو واضح. وقد احتوت :
أولا : صورة من صور الأعراب ومدى تأثرهم بالإسلام لأول عهدهم به واتخاذهم التظاهر به وسيلة للغنم، ومنهم بما يتظاهرون به على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ردت عليهم الآيات ردا قويا لاذعا وآذنتهم أن الله يعلم سرائرهم، وأن الإسلام والإيمان هما لنجاتهم، وأن الله الذي هداهم هو الأولى بأن يمن عليهم بهما.
وثانيا : تسامح الله تعالى مع مثل هؤلاء وقبول الظاهر منهم مع ذلك إذا اقترن بطاعة الله ورسوله وتطمينهم بأن الله عز وجل في مثل هذه الحالة يجزيهم على أعمالهم دون نقص برغم علمه أن الإيمان لم يتمكن في قلوبهم وأن كل ما كان من أمرهم إعلان إسلامهم.
وثالثا : وصفا قويا رائعا وحاسما للمؤمن المخلص فيه معنى الحث على الاتصاف به.
ورابعا : فرقا بين معنى الإيمان ومداه ومعنى الإسلام ومداه بكون الأول لا يحتمل ترددا ولا ارتيابا، ولا أمل منفعة مادية دنيوية ولا قصدا لها. ويجعل المتحقق به يقدم على الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه، وتحمل التضحيات والمشقات برضاء نفس وطمأنينة قلب. وبكون الثاني هو إظهار الانقياد للدعوة وواجباتها رغبة أو رهبة دون أن يتمكن الإيمان في قلب من يعلن إسلامه. وهذه صفة الأعراب الذين حكت الآيات قصتهم وتعبير ﴿ الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾ ينطوي في الوقت نفسه على تنويه بالذين تمكن الإيمان في قلوبهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصف لهم.
ولقد كان تعبير ﴿ الإسلام ﴾ يأتي بمعنى النفس لله عز وجل وخضوع المرء وانقياده له، وبالتالي بمعنى الإخلاص لله في حين أن الآيات لم تعتبر قول الأعراب ﴿ أسلمنا ﴾ دليلا على إخلاصهم وصحة إيمانهم ؛ حيث يبدو من ذلك طور من أطوار استعمال هذه الكلمة في القرآن، ولقد صارت الكلمة عنوانا على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على ما جاء في الآية الثالثة من سورة المائدة ﴿ ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ فجملة ﴿ ولكن قولوا أسلمنا ﴾ في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها من مدى ذلك بمعنى ( قولوا اتخذنا الإسلام دينا } والله أعلم.
ولقد نبه بعض المفسرين٢ إلى أن الآيات لا تتضمن وصف الأعراب الذين حكت أقوالهم بالنفاق. وهذا صحيح ويستتبع هذا أن الله إنما وسع لهم رحمته وحكمته ؛ لأنهم كانوا يظنون أنهم بإظهارهم الإسلام قد فعلوا ما عليهم، وأن الآيات هي بسبيل إعلامهم حقيقة أمرهم وحقيقة الإيمان الصحيح والمتصفين به للتأديب والتنبيه والحث في مناسبة ما روى عنهم من منّ وتبجج، وقد يكون هذا حال معظم الذين أسلموا من جماهير العرب الذين كانت أكثريتهم من القبائل. بل قد يكون هذا الحال جماهير المسلمين في كل وقت. وهذا مؤيد في تقسيم القرآن للمؤمنين بالله فريق ﴿ والسابقون السابقون ﴾ ( ١٠ ) و ﴿ فأصحاب الميمنة ﴾ ( ٨ ) كما جاء في سورة الواقعة. وقد جعل لكل منهما ثوابه الأخروي بحسب ذلك على ما جاء في نفس السورة. وجاء في وصف السابقين ﴿ ثلة من الأولين ١٣ وقليل من الآخرين ١٤ ﴾ وفي وصف أصحاب الميمنة ﴿ ثلة من الأولين ٣٩ وثلة من الآخرين ٤٠ ﴾ وعلى ضوء هذا قد يصح أن يقال والله أعلم : إن في الآيات خطة شرعية سياسية مستمرة المدى. وهي قبول ظواهر الناس وتوسيع الدولة الإسلامية صدرها لمن يعلن إسلامه ويظهر انقياده وطاعته ويقوم بما يترتب عليه من واجبات نحو الله والدولة والناس، واعتباره من رعاياها المسلمين بقطع النظر عما إذا كان مؤمن القلب أم لا ؛ لأن ذلك مغيب عن غير الله عز وجل. وليس من شأن الدولة والناس أن يشقوا عن قلوب أمثاله ليتبينوا صدق إيمانه على حد تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي عنه في سياق آية النساء هذه ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا... ﴾ ( ٩٤ ) حيث قال لمن قتل حينما قال له إنه كان كاذبا في قوله :( هلا شققت عن قلبه ) ٣ على ما شرحناه في سياق تفسير هذه الآية.
ويحسن أن ننبه على أمر هام في هذا الصدد وهو أن من الأعراب الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل منهم ظواهرهم الإسلامية بناء على تلقينات القرآن من صار مخلصا في إيمانه وعمله على ما سجلته آية سورة التوبة هذه ﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم٩٩ ﴾ وقد جاءت هذه الآية بعد آيتين ذكر فيهما حالة الأعراب بصورة عامة ﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ٩٧ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ﴾ ( التوبة : ٩٧ـ ٩٨ } حيث تبدو خلال ذلك روعة الحكمة القرآنية فيما رسمته من خطة مثلى. وحيث يبدو أن ما جاء في الآية التي نحن في صددها هو بسبيل الواقع حيث نزولها.
هذا، ومع ما يبدو من كون الآيات فصلا مستقلا احتوى موضوعا خاصا فإن ما فيها من النهي عن المن بالإسلام وما ينطوي عليه من نهي عن زهو المرء بما ليس فيه في غير حق ومحل. ومن تقرير لصفة المؤمن الصادق وإخلاصه يجعل بينها وبين الفصول السابقة من السورة التي احتوت فصولا تأديبية متنوعة ومتساوقة صلة ما ؛ لأن فيها معنى من معاني التعليم والتأديب والتهذيب الخلقي والنفسي للمسلمين عامة في كل وقت مثلها. وإذا كانت نزلت لحدتها وفي ظرف غير ظرف نزول فصول السورة، فالراجح أن هذه الصلة هي سبب وضعها في ترتيبها. والله أعلم. ومن المحتمل مع ذلك أن يكون الحادث الذي نزلت في مناسبته سابقا لنزول السورة فاقتضت حكمة التنزيل أن يشار إليه في فصل من فصول السورة التأديبية والتعليمية. وإذا صح هذا الاحتمال فيكون هذا الفصل أيضا قد نزل مع الفصول السابقة التي يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. والله تعالى أعلم.
﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٤ ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ١٥ ) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٦ ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ١٧ ) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ١٨ ) ﴾.
تعليق على الآية.
﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا... ﴾.
والآيات الثلاث التالية لها وما فيها من صور وأحكام وتلقين
عبارة الآيات واضحة. وقد روى المفسرون١ أنها نزلت في مناسبة قدوم جماعة من أعراب بني أسد إلى المدينة في سنة جدب وإظهارهم الإسلام ومطالبتهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الصدقات، ومنهم عليه بدخولهم في الإسلام ومتابعتهم له عن طواعية في حين أن القبائل الأخرى عالنته العداء وحاربته.
وروح الآيات ومضمونها متسقان مع الرواية إجمالا كما هو واضح. وقد احتوت :
أولا : صورة من صور الأعراب ومدى تأثرهم بالإسلام لأول عهدهم به واتخاذهم التظاهر به وسيلة للغنم، ومنهم بما يتظاهرون به على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ردت عليهم الآيات ردا قويا لاذعا وآذنتهم أن الله يعلم سرائرهم، وأن الإسلام والإيمان هما لنجاتهم، وأن الله الذي هداهم هو الأولى بأن يمن عليهم بهما.
وثانيا : تسامح الله تعالى مع مثل هؤلاء وقبول الظاهر منهم مع ذلك إذا اقترن بطاعة الله ورسوله وتطمينهم بأن الله عز وجل في مثل هذه الحالة يجزيهم على أعمالهم دون نقص برغم علمه أن الإيمان لم يتمكن في قلوبهم وأن كل ما كان من أمرهم إعلان إسلامهم.
وثالثا : وصفا قويا رائعا وحاسما للمؤمن المخلص فيه معنى الحث على الاتصاف به.
ورابعا : فرقا بين معنى الإيمان ومداه ومعنى الإسلام ومداه بكون الأول لا يحتمل ترددا ولا ارتيابا، ولا أمل منفعة مادية دنيوية ولا قصدا لها. ويجعل المتحقق به يقدم على الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه، وتحمل التضحيات والمشقات برضاء نفس وطمأنينة قلب. وبكون الثاني هو إظهار الانقياد للدعوة وواجباتها رغبة أو رهبة دون أن يتمكن الإيمان في قلب من يعلن إسلامه. وهذه صفة الأعراب الذين حكت الآيات قصتهم وتعبير ﴿ الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾ ينطوي في الوقت نفسه على تنويه بالذين تمكن الإيمان في قلوبهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصف لهم.
ولقد كان تعبير ﴿ الإسلام ﴾ يأتي بمعنى النفس لله عز وجل وخضوع المرء وانقياده له، وبالتالي بمعنى الإخلاص لله في حين أن الآيات لم تعتبر قول الأعراب ﴿ أسلمنا ﴾ دليلا على إخلاصهم وصحة إيمانهم ؛ حيث يبدو من ذلك طور من أطوار استعمال هذه الكلمة في القرآن، ولقد صارت الكلمة عنوانا على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على ما جاء في الآية الثالثة من سورة المائدة ﴿ ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ فجملة ﴿ ولكن قولوا أسلمنا ﴾ في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها من مدى ذلك بمعنى ( قولوا اتخذنا الإسلام دينا } والله أعلم.
ولقد نبه بعض المفسرين٢ إلى أن الآيات لا تتضمن وصف الأعراب الذين حكت أقوالهم بالنفاق. وهذا صحيح ويستتبع هذا أن الله إنما وسع لهم رحمته وحكمته ؛ لأنهم كانوا يظنون أنهم بإظهارهم الإسلام قد فعلوا ما عليهم، وأن الآيات هي بسبيل إعلامهم حقيقة أمرهم وحقيقة الإيمان الصحيح والمتصفين به للتأديب والتنبيه والحث في مناسبة ما روى عنهم من منّ وتبجج، وقد يكون هذا حال معظم الذين أسلموا من جماهير العرب الذين كانت أكثريتهم من القبائل. بل قد يكون هذا الحال جماهير المسلمين في كل وقت. وهذا مؤيد في تقسيم القرآن للمؤمنين بالله فريق ﴿ والسابقون السابقون ﴾ ( ١٠ ) و ﴿ فأصحاب الميمنة ﴾ ( ٨ ) كما جاء في سورة الواقعة. وقد جعل لكل منهما ثوابه الأخروي بحسب ذلك على ما جاء في نفس السورة. وجاء في وصف السابقين ﴿ ثلة من الأولين ١٣ وقليل من الآخرين ١٤ ﴾ وفي وصف أصحاب الميمنة ﴿ ثلة من الأولين ٣٩ وثلة من الآخرين ٤٠ ﴾ وعلى ضوء هذا قد يصح أن يقال والله أعلم : إن في الآيات خطة شرعية سياسية مستمرة المدى. وهي قبول ظواهر الناس وتوسيع الدولة الإسلامية صدرها لمن يعلن إسلامه ويظهر انقياده وطاعته ويقوم بما يترتب عليه من واجبات نحو الله والدولة والناس، واعتباره من رعاياها المسلمين بقطع النظر عما إذا كان مؤمن القلب أم لا ؛ لأن ذلك مغيب عن غير الله عز وجل. وليس من شأن الدولة والناس أن يشقوا عن قلوب أمثاله ليتبينوا صدق إيمانه على حد تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي عنه في سياق آية النساء هذه ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا... ﴾ ( ٩٤ ) حيث قال لمن قتل حينما قال له إنه كان كاذبا في قوله :( هلا شققت عن قلبه ) ٣ على ما شرحناه في سياق تفسير هذه الآية.
ويحسن أن ننبه على أمر هام في هذا الصدد وهو أن من الأعراب الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل منهم ظواهرهم الإسلامية بناء على تلقينات القرآن من صار مخلصا في إيمانه وعمله على ما سجلته آية سورة التوبة هذه ﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم٩٩ ﴾ وقد جاءت هذه الآية بعد آيتين ذكر فيهما حالة الأعراب بصورة عامة ﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ٩٧ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ﴾ ( التوبة : ٩٧ـ ٩٨ } حيث تبدو خلال ذلك روعة الحكمة القرآنية فيما رسمته من خطة مثلى. وحيث يبدو أن ما جاء في الآية التي نحن في صددها هو بسبيل الواقع حيث نزولها.
هذا، ومع ما يبدو من كون الآيات فصلا مستقلا احتوى موضوعا خاصا فإن ما فيها من النهي عن المن بالإسلام وما ينطوي عليه من نهي عن زهو المرء بما ليس فيه في غير حق ومحل. ومن تقرير لصفة المؤمن الصادق وإخلاصه يجعل بينها وبين الفصول السابقة من السورة التي احتوت فصولا تأديبية متنوعة ومتساوقة صلة ما ؛ لأن فيها معنى من معاني التعليم والتأديب والتهذيب الخلقي والنفسي للمسلمين عامة في كل وقت مثلها. وإذا كانت نزلت لحدتها وفي ظرف غير ظرف نزول فصول السورة، فالراجح أن هذه الصلة هي سبب وضعها في ترتيبها. والله أعلم. ومن المحتمل مع ذلك أن يكون الحادث الذي نزلت في مناسبته سابقا لنزول السورة فاقتضت حكمة التنزيل أن يشار إليه في فصل من فصول السورة التأديبية والتعليمية. وإذا صح هذا الاحتمال فيكون هذا الفصل أيضا قد نزل مع الفصول السابقة التي يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. والله تعالى أعلم.
Icon