ﰡ
ولما كان هذا عندنا في درجة اليقين لأنه قائم على واقع متفق عليه فقد رأينا أن نخلّ بالترتيب الذي تابعنا فيه المصحف الذي اعتمدناه وجلّ روايات الترتيب معا، فنجعل سورة الحشر بعد آل عمران بدلا من سورة الممتحنة ونقدم سورة الفتح التي يؤخرها الرواة كثيرا حتى يجعلوها الثانية والعشرين أو السادسة والعشرين والتي نزلت في حادث صلح الحديبية بدون أي مبرر ثم نجعل بعدها سورة الممتحنة لأن ذلك يتسق مع التسلسل الزمني لوقائع السيرة النبوية. وهو الذي قصدنا إليه حينما اعتزمنا على جعل تفسيرنا للسور وفق روايات ترتيب النزول.
هذا، ويسمي المفسرون سورة الحشر باسم بني النضير عزوا إلى ابن عباس وغيره «٢» لأنها نزلت في صدد وقعتهم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤). (١) من حيث لم يحتسبوا: من حيث لم يظنوا ويحسبوا حسابه.
(٢) انظر تفسيرها في تفسير البغوي وابن كثير والخازن.
وقد تضمنت الآيات تقرير ما يلي:
١- إن الله الذي يسبح له ما في السموات والأرض القوي الجانب الحكيم التقدير هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من موطنهم لأول الحشر في حين لم يكن المؤمنون يظنون أن يتم ذلك وكان المخرجون يظنون أن حصونهم ما نعتهم من الله. ولكن بلاء الله أتاهم من حيث لم يخطر ببالهم ويحسبوا حسابه وقذف في قلوبهم الرعب حتى إنهم خربوا أو هدموا بيوتهم بأيديهم فضلا عن أيدي المؤمنين. وإن في ذلك لعبرة يعتبر بها أولو الأبصار والعقول.
٢- لقد اقتضت حكمة الله أن يكتفى بإخراجهم وجلائهم مع أنهم مستحقون لعذاب أشدّ في الدنيا. ولسوف يكون لهم في الآخرة عذاب النار. وذلك بسبب ما كان منهم من مشاقة لله ورسوله ومناوأة وعداء، ومن يفعل ذلك يتعرض لغضب الله الشديد العقاب.
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة وحادث إجلاء بني النضير
والمفسرون وكتّاب السيرة «١» متفقون على أن هذه الآيات نزلت في صدد إجلاء يهود بني النضير الذين كانوا مقيمين في إحدى ضواحي المدينة. وعلى أن الحادث كان بعد وقعة أحد وقبل وقعتي الأحزاب وبني قريظة.
وأسلوب الآيات يدل على أنها جاءت للعظة والعبرة وتذكير المسلمين بما
ويتضمن هتاف الآيات فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) بشرى ربانية تمدّ المسلمين بالروح والقوة والأمل في ظرفهم الحاضر المشابه للظروف الذي كان فيه المسلمون تحت راية الرسول صلى الله عليه وسلم. حيث يحتلّ الذين كفروا من أهل الكتاب الصهيونيون اليهود جميع فلسطين عدوانا واغتصابا بعد أن شرّدوا معظم أهلها عنها بمساعدة وتأييد طواغيت الاستعمار الطامعين بالسيطرة على بلاد العرب وثرواتها.
فالمسلمون الآن يظنون كما كان يظن المسلمون الأولون أنهم غير قادرين على استرداد الأرض المغتصبة. والمغتصبون يظنون أنهم لن يغلبوا ولن يقدر المسلمون على استرداد ما اغتصبوه منهم بسبب ما هم عليه من قوة تمدهم بها أميركا طاغوت الاستعمار الأكبر اليوم وبسبب تأييد هذا الطاغوت لهم. ولكن الله أتى الذين كفروا من أهل الكتاب الأعداء من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب وجعلهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وأجلاهم عن الأرض المقدسة. وهو قادر على أن يفعل ذلك مع الصهيونية وأنصارهم الطغاة المعتدين. ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن على المسلمين أن يقوموا بما أوجبه عليهم كتاب الله في آيات عديدة أخرى فيتضامنوا أشد تضامن ويتخلوا عن ما هم فيه من تمزّق وتخاذل وتهاون وكل هذا مما مكّن عدوهم وأنصاره من بلادهم ولا يهنوا في كفاحه ويعدوا له كل ما يستطيعون من قوة وقد منحهم الله نعمه العظيمة التي فيها قوّة عظمى لو عرفوها وقدروها واستعملوها حق معرفتها وقدرها واستعمالها.
أما حادث إجلاء بني النضير فخلاصة ما ذكرته روايات السيرة والتفسير «١»
الجزة السابع من التفسير الحديث ٢٠
وفي آيات آتية من السورة إشارة إلى ما كان من قطع النبي لبعض نخيلهم وإلى ما كان من مواقف المنافقين حلفائهم حيث يتسّق ذلك مع الروايات التي أوجزناها.
ومما روته الروايات أن بني النضير أرادوا إظهار الزهو والخيلاء وهم يخرجون حيث كانت قيانهم يعزفن وأصحاب الدفوف والمزامير يضربون بدفوفهم ومزاميرهم وأنهم هدموا بيوتهم وحملوا سقفها وعضائدها وأبوابها وأن اثنين منهم أسلما فبقيا حيث هم سالمة لهم أموالهم وأن منهم من ذهب إلى بلاد الشام ومنهم من ذهب إلى خيبر فأقام مع يهودها، ومن هؤلاء زعماؤهم الذين تزعموا يهود خيبر. وقد هدموا بيوتهم ونزعوا الأعمدة والأبواب الخشبية منها وحملوها لئلا ينتفع بها المسلمون، جاء المسلمون فأتموا تخريب هذه البيوت وهذا ما تضمنته جملة بُيُوتَهُمْ
على ما رواه المفسرون.
ومما روته الروايات كذلك أن النبي ﷺ احتاز من سلاحهم ثلاثمائة وأربعين سيفا وخمسين درعا وخمسين بيضة.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين ورواياتهم لجملة لِأَوَّلِ الْحَشْرِ «١» فقيل إنهم سألوا النبي إلى أين نخرج فقال لهم إلى أول الحشر في الشام وقيل إن معناها (هذا هو الحشر الأول أي الجلاء الأول ويعقبه حشر ثان وهو ما تمّ في زمن عمر بن الخطاب) وقيل إن معناها أنهم لم يلبثوا أن استسلموا وقبلوا الخروج لأول ما حشر النبي عليهم واستعدّ لقتالهم. ولعلّ التأويل الأخير هو الأوجه لأنه لم يقع قتال بينهم وبين المسلمين، وهو المتّسق مع روحه الآية الثانية التي هي بسبيل تقرير ما كان من تيسير الله بخروجهم بسهولة وسرعة لم تكونا متوقعتين لأحد. وتأويل الجملة بأنها أول جلاء يهودي يتناقض مع ما هو متفق عليه من أن بني قينقاع كانوا أول من أجلي من اليهود على ما شرحناه في سياق سورة الأنفال.
وجملة ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ واسعة المدى والشمول وتدل على أنه كان من يهود بني النضير مواقف عديدة مؤذية ومزعجة تجاوزت مواقف الجدل والمناظرة في شؤون الدعوة بل وتجاوزت مواقف التشكيك والاستهتار والاستخفاف والطعن وأن محاولتهم اغتيال النبي كانت السبب المباشر. ولقد كان كعب بن الأشرف منهم وكان شاعرا فكان يهجو النبي والمسلمين بقصائده المقذعة ويشبّب بنسائهم حتى إن النبي انتدب المسلمين إلى اغتياله فلبّى الطلب بعضهم وذهبوا فاغتالوه. وكان ذلك قبل هذه الوقعة «٢».
(٢) ابن سعد ج ٣ ص ٧٠- ٧٢، وابن هشام ج ٢ ص ٤٣١ وما بعدها.
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٥]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥). (١) لينة: نخلة، وقيل إنها نوع خاص من جيد النخل. وقيل إنها غرسة النخل الفتية.
الخطاب في الآية موجّه إلى النبي والمؤمنين على سبيل تبرير ما فعلوه من قطع بعض نخيل بني النضير لإرهابهم وإرغامهم. فهي تقرر أن ما قطعوه إنما قطعوه بإذن الله وما أبقوه إنما أبقوه بإذن الله. وما كان من إذن الله إنما كان لخزي العاصين المتمردين وإرغامهم.
والآية استمرار للسياق السابق كما هو المتبادر. وقد روي أن بني النضير عيّروا النبي بتقطيعه النخل وأن المنافقين من حلفائهم شاركوهم في هذا التعبير فاقتضت حكمة التنزيل إنزالها لتثبّت النبي والمسلمين وللردّ على اليهود والمنافقين. وقد يكون في التبرير القرآني إجازة لأي عمل من نوعه يؤدي إلى إرغام العدو حينما تقوم حالة حرب وعداء بين الكفار والمسلمين والله تعالى أعلم.
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٦ الى ٧]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧)
. (١) أفاء: جعله فيئا أو ساقه.
(٢) أوجفتم: هيّأتم، ومعنى جملة فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ
(٣) كيلا يكون دولة بين الأغنياء: لئلا يكون المال العائد من هذا الفيء مما يصحّ أن يتداوله الأغنياء.
تضمنت الآيات:
١- مقدمة تبريرية لتشريع الفيء. فأملاك وبساتين اليهود المجليين إنما هي هبة الله وتيسيره لرسوله. ولم يكن على المسلمين في إحرازها مشقة وكلفة من حرب وإعداد خيل ومؤونة، وقد مكّن الله رسوله من ذلك وهو الذي يسلط رسله على من يشاء وهو القدير على كل شيء.
٢- تشريعا بشأن هذه الأملاك والبساتين: فما أفاء الله على رسوله والحالة هذه فهو لله والرسول وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وليس للأغنياء فيه نصيب حتى لا تبقى الثروة محصورة التداول بين الأغنياء.
٣- تدعيما لهذا التشريع: فعلى المؤمنين أن يسمعوا ويطيعوا. فما آتاهم الرسول أخذوه. وما نهاهم عنه ومنعهم منه وجب عليهم أن ينتهوا عنه ويمتنعوا.
وعليهم بتقوى الله والوقوف عند أوامره. فإنه شديد العقاب على من يخالف ويتجاوز حدوده المرسومة. والجملة الأخيرة تتضمن تقرير كون ما يفعله الرسول من مثل ذلك هو من وحي الله وأمره.
تعليق على الآية وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ | إلخ والآية التالية لها وتشريع الفيء |
والرواية محتملة الصحة كما هو ظاهر مع التنبيه إلى أن أسلوبها القوي الحاسم الذي تضمن فيما تضمنته إنذارا شديدا يدل على أن الذين طالبوا بالقسمة كانوا متشددين في موقفهم. وفي ذلك مشهد من مشاهد السيرة النبوية والتشريع القرآني وظروفه. بل وأنه ليتبادر لنا والله أعلم أن جميع هذا الفصل بل السورة جميعها نزلت بسبيل ذلك.
وأسلوب الآية الثانية يجعل التشريع فيها عاما شاملا لكل ما يدخل في حوزة رسول الله وخلفائه من بعده بالتبعية من أموال العدو بدون تكلّف المسلمين نفقة ومشقة ليكون لبيت المال وينفق على مصالح الإسلام والمسلمين العامة وعلى فقراء المسلمين ومحتاجيهم معا.
وهذا ثاني تشريع قرآني مالي ورسمي بعد تشريع الغنائم الحربية. وقد عرف باسم الفيء اقتباسا من نصّ الآيات وروحها. ولقد نبهنا على ما في تشريع الغنائم من خطورة وجلال. وتشريع الفيء أعظم خطورة وأبعد مدى لأنه يتضمن تخصيص جميع ما يأتي من هذا المورد للصالح العام وفقراء المسلمين.
والجهات والفئات التي خصص لها الفيء هي التي خصص لها خمس الغنائم في آية سورة الأنفال [٤١] ولقد كتبنا تعليقا وافيا على آية سورة الأنفال وأوردنا الأحاديث والروايات التي أورد المفسرون كثيرا منها أيضا في سياق آيات الفيء هذه. وكل ما ذكرناه في تعليقنا المذكور يصح أن يساق هنا فلا نرى ضرورة إلى الإعادة والزيادة.
مع أن هذه الجملة جاءت لتدعم تشريع الفيء الذي احتوته الجملة السابقة لها ثم لتوطيد سلطة النبي ﷺ في ذلك فإنها جاءت في صيغة مطلقة فصارت تشريعا عام الشمول بوجوب اتباع أوامر النبي ﷺ ونواهيه وسننه القولية والفعلية كجزء من العقيدة الإسلامية. وقد أكد هذا في آية أقوى في سورة النساء وهي: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) بالإضافة إلى آيات أخرى فيها تدعيم مثل آيات آل عمران [٣١ و ٣٢] والنساء [٥٩ و ٦٨] والنور [٥٢] والأحزاب [٧١] والفتح [١٧]. والجملة التي نحن في صددها والآيات التي أوردناها أو أشرنا إلى أرقامها تتضمن إيذانا من الله عزّ وجلّ بعصمة النبي ﷺ فيما يأمر به وينهى عنه عن الأمر إلّا بما هو صالح وخير وعن النهي إلّا بما هو ضارّ وباطل.
وتنبيه على أن هذا ليس من شأنه أن يتناقض مع ما تضمنته بعض الآيات من عتاب للنبي ﷺ على بعض ما فعله. فهذا كان منه اجتهادا بأنه خير وصالح. ولم يكن يعلم ما هو الأولى في علم الله بدون وحي. ولقد كان النبي ﷺ يأمر وينهى كثيرا باجتهاد منه فكان القرآن يسكت عن ذلك مقرّا أو يؤيده نصّا أو يعاتب عليه ويوحي بما هو الأولى حسب مقتضى حكمة الله على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
وهناك أحاديث نبوية رواها أصحاب الصحاح في دعم ذلك وتوضيحه.
من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي وأورده الأئمة والمفسرون في سياق الجملة التي نحن في صددها قال: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم
. وحديث أورده الخازن في سياق الجملة جاء فيه: «قال رسول الله ﷺ لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول ما أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» «٢».
والأمر في حياة النبي ﷺ ميسور بالاستماع منه والرجوع إليه شخصيا. أما بعد وفاته فقد أصبح السير واجبا وفق ما روي وصحّ عنه من أوامر ونواه وسنن قولية وفعلية.
وهذا بطبيعة الحال يستتبع وجوب التثبيت فيما ينسب إليه من ذلك. ولقد يسّر الله رجالا مخلصين لله ورسوله محّصوا ما نسب إليه من أحاديث ودونوا ما صحّ عندهم منها فصارت مرجعا عظيما من مراجع التشريع الإسلامي. ومن أهم الضوابط التي وضعها العلماء أن لا يكون بين ما نسب إليه وبين أحكام ومبادئ القرآن الثابتة والمحكمة الواضحة تعارض وتناقض. لأن النبي ﷺ لا يمكن أن يأمر وينهى بما يتعارض مع الأحكام والمبادئ القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في شؤون وأحكام قرآنية تدور على الأغلب حول تخصيص ما فيه إطلاق، وتوضيح ما فيه غموض، وإتمام ما يحتاج إلى إتمام، وبيان ما سكت القرآن عن جزئياته وأشكاله وفروعه مثل عدد ركعات الصلوات وكيفياتها وأركانها ونصاب الزكاة على أنواع الأموال وبقية أنصبة الإرث التي تبقى في حالة وراثة النساء لآبائهن وإخوانهن وطقوس الحج إلخ.. إلخ.. وقد مرّ من ذلك أمثلة كثيرة وسيأتي أمثلة أخرى في المناسبات الآتية.
(٢) في التاج حديث فيه مثل هذا الحديث مع زيادة مهمة رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب عن النبي ﷺ جاء فيه: «ألا لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه. ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهلي. ولا كلّ ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلّا أن يستغني عنها صاحبها.
ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه»، التاج ج ٣ ص ٨٧.
هذه الجملة وإن كانت في صدد منع الأغنياء من نصيب من الفيء وتداول ما يفيئه الله تعالى على المسلمين من الأعداء بين الأغنياء والأقوياء وحسب، فإنها تنطوي فيما يتبادر لنا والله أعلم على معنى جليل بعيد المدى، وهو أنه لا ينبغي أن تكون الثروة محصورة التداول في أيدي فئة قليلة من الناس، وإن من حقّ السلطان الإسلامي أن يتخذ من التدابير ما يكفل توزيعها بين أكبر فئة منهم ولو بطريق تخصيص الفقراء ببعض موارد الثروة دون الأغنياء استئناسا بالآية التي فيها هذه الجملة حيث شاءت حكمة الله أن تخصص مورد الفيء جميعه لمصالح المسلمين العامة وفئاتهم المحتاجة دون الأغنياء. ولقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين» «١». وعمر رضي الله عنه كان من أقرب الناس إلى النبي ﷺ وبالتبعية من أكثرهم فهما لتوجيهات النبي ﷺ والقرآن وروحه. ولا شك في أنه صدر في قوله هذا عما اعتقد أنه يتسق مع ذلك. ولقد تواترت الروايات إلى حدّ اليقين بأنه رتّب المرتبات لمختلف فئات المسلمين وكان يهتم كثيرا لمساعدة ونجدة المحرومين والضعفاء والفقراء «٢» مما فيه توثيق لصحة صدور ذلك القول عنه.
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٨ الى ١٠]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠).
(٢) انظر تاريخ عمر بن الخطاب للإمام ابن الجوزي حيث استوعب كثيرا من أقواله وأفعاله في هذا الصدد.
(٢) لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا: الجمهور على أن الضمير في الكلمتين الأوليين عائد إلى الأنصار وفي كلمة أُوتُوا عائد إلى المهاجرين.
ومعنى الجملة لا يشعر الأنصار بحسد أو غيرة مما أوتي المهاجرون.
(٣) يؤثرون على أنفسهم: من الإيثار أي يؤثرون الغير على أنفسهم.
(٤) خصاصة: فاقة وحاجة.
تعليق على الآية لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة. وتبدو أنها بيان توضيحي للمستحقين للفيء من الفقراء حيث شمل أولا الفقراء المهاجرين الذين اضطروا إلى الخروج من ديارهم والتخلي عن أموالهم فيها ابتغاء فضل الله ورضوانه ونصرة دينه ورسوله. وثانيا فقراء الأنصار الذين آمنوا برسالة النبي في دار الهجرة قبل أن يأتي إليها المهاجرون ورحبوا بالذين هاجروا إليهم وأحبوهم والذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان
ولقد روى المفسرون «١» ما يفيد أن المهاجرين كانوا فقراء لا أرض ولا مورد لهم وكانوا عالة على الأنصار فلما فتح الله على النبي ويسّر له أموال بني النضير شاور الأنصار واسترضاهم في النزول عن حقهم فيها حتى يقسمها على المهاجرين فيكفوهم مؤونتهم وأن الأنصار رضوا بذلك عن طيب خاطر ولم يشعروا بحسد ولا غيرة مما اعتزمه النبيّ من توزيع الفيء على المهاجرين عدا الذين في قلوبهم مرض ونفاق. وأن النبي قسّم هذه الأموال على المهاجرين فقط ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة رجال فقراء منهم. وأن الآيات بسبيل تأييد ما فعله النبي إلهاما، والثناء على الأنصار الذين تنازلوا عن حقهم.
ونحن في حيرة من هذه الروايات التي رواها معظم المفسرين عزوا إلى ابن عباس لأننا نراها متناقضة مع تقرير الآيات السابقة التي شرّعت جميع الفيء للمصالح العامة والمحتاجين لأنه تيسر بدون إيجاف خيل وركاب فلم يستحق فيه المسلمون استحقاقا ملزما كاستحقاقهم في الغنائم التي يحوزون عليها بعد قتال وإيجاف خيل وركاب ومنعت قسمته على المسلمين الميسورين. بل وتتناقض مع روح الآيات نفسها التي جاءت مطلقة وبعضها معطوف على بعض بحيث تبدو بأسلوب قوي أنها أرادت فقراء الفئات الثلاث معا أي السابقين من المهاجرين والأنصار والذين آمنوا بعدهم واندمجوا فيهم.
وكل ما يمكن احتماله فيما نرى وفيه توفيق بين روح الآيات وخطوط الرواية أن تكون ما آلت إليه حالة المهاجرين الاقتصادية من ضيق وحرج قد ألهمت
ولقد روى الإمام أبو يوسف والإمام أبو عبيد أن المسلمين الذين فتحوا العراق طلبوا من عمر بن الخطاب أن يقسم أرض السواد العراقي عليهم فأبى وقال لهم إنه لجميع فقراء المسلمين في جميع أجيالهم حقا في ذلك استنادا إلى هذه الآيات. وأبقاها كذلك. يؤخذ ريعها من مستأجريها ويوزع على فقراء المسلمين حيث يمكن القول على ضوء هذه الرواية الواردة في أقدم كتابين وصلا إلينا لإمامين مشهورين أن عمر رضي الله عنه اعتبر الآيات توضيحا للمستحقين للفيء من فقراء المسلمين على اختلافهم سواء أكانوا من المهاجرين أم من الأنصار الأولين أم من الذين آمنوا بعد الرعيل الأول من هؤلاء وأولئك. ثم اعتبرها مستمرة الحكم بالنسبة لجميع أجيال المسلمين في مستقبل الأيام. وصيغة الآيات وعطف بعضها على بعض ومجيئها بعد ذكر مصارف الفيء وخاصة الفئات المحتاجة من المسلمين مما يدعم هذا الاعتبار.
ونقف إزاء تصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنقول إنه صورة من ما كان يفهم كبار أصحاب رسول الله من التوجهات القرآنية. وإنه عمل فريد رائع في بابه فيه تدشين لما يمكن أن يسمى أملاك الدولة التي ترصد على فقراء المسلمين تطبيقا عمليا لتشريع مساعدة هؤلاء الفقراء التي جعلت من نظام الدولة الإسلامية على ما تلهمه الآيات. وعلى ما شرحناه في سياق شرحنا آيات خمس
ويتبادر لنا أن عمر رضي الله عنه اعتبر فقراء المسلمين من الفئات الثلاث بمثابة (مساكين) في معنى الكلمة الذي جاء شرحها في حديث نبوي رواه الشيخان عن أبي هريرة «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكنه الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه ولا يقوم فيسأل الناس». ويتبادر لنا كذلك أن عمر رضي الله عنه لا بدّ من أنه لحظ جمع مصارف الفيء وكان ينفق من إيراد السواد العراقي عليها حسب ما تقتضيه المصلحة وأن ما روي إنما كان لتطبيق مدى الآية وعدم توزيع الأرض على الفاتحين وإبقائها بمثابة الفيء والمصارفة والله تعالى أعلم. والمستفاد مما ذكره أبو عبيد أيضا أن عمر رضي الله عنه سلك في أرض الشام المفتوحة ما سلكه في أرض العراق.
هذا، ووصف الفئات الثلاث المخلصة في حدّ ذاته وصف قوي محبب وجدير بالتأمل والإجلال ويدل على ما كان من قوة إخلاص السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لدين الله ورسوله وتحمّلهم معظم التضحيات في سبيلهما فاستحقوا ثناء الله العظيم في هذه الآيات وفي آية التوبة هذه وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) كما استحقوا ثناء رسوله ﷺ في أحاديث عديدة وردت في الكتب الخمسة منها حديث رواه مسلم عن أبي موسى جاء فيه: «أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتي أمتي ما يوعدون» «١». وحديث آخر رواه مسلم عن أبي موسى جاء فيه: «الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» «٢». وحديث رواه
(٢) المصدر نفسه.
وهذه الأحاديث خلاف أحاديث كثيرة في عدد كبير بأعيانهم من المهاجرين والأنصار.
ونقول استطرادا: أولا: إن كلمة (صحابي) مع أنها تطلق من قبل المسلمين على كل من رأى النبي ﷺ من المؤمنين فإن كلمة (أصحابي) في هذه الأحاديث تدلّ في مقامها على أن المقصود منهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وصحبوا النبي ﷺ في حياته رضي الله عنهم. وثانيا: إن
(٢) المصدر نفسه.
(٣) انظر التاج ج ٣ ص ٣٤١- ٣٤٤.
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) المصدر نفسه.
(٧) المصدر نفسه.
هذا، ولقد روى الشيخان والترمذي كسبب لنزول جملة وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النبيّ ﷺ فقال يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال ألا رجل يضيّفه هذه الليلة يرحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال أنا يا رسول الله فذهب إلى أهله فقال لامرأته ضيف رسول الله لا تدّخريه شيئا. قالت والله ما عندي إلّا قوت الصبية. قال فإذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم وتعالي فاطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة ففعلت ثم غدا الرجل على رسول الله فقال لقد عجب الله أو ضحك الله عزّ وجلّ من فلان وفلانة فأنزل الله الجملة» «١». والجملة جزء من آية والآية جزء من سياق. وكل ما يمكن أن يكون أن النبي تلا الآية حينما فعل الأنصاري وامرأته ما فعلاه فالتبس الأمر على الرواة.
ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن أنس قال: «قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير. فقد كفونا المئونة وأشركونا في المهنأ. حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كلّه». وروى البخاري عن أنس قال: «دعا النبيّ ﷺ الأنصار أن يقطع لهم البحرين
«قال رسول الله ﷺ إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم فقالوا أموالنا قطائع بيننا وبينهم. فقال رسول الله ﷺ أو غير ذلك قالوا وما ذاك يا رسول الله قال هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسموهم الثمر فقالوا نعم يا رسول الله». ولقد آخى رسول الله ﷺ بين رجال المهاجرين وبين رجال من الأنصار فكان مما فعله الأنصار تجاه من آخاهم معهم النبي من المهاجرين أن قاسموهم بيوتهم وأشركوهم في أعمالهم وأموالهم حتى لقد طلّق بعضهم بعض زوجاته لييسر لأخيه المهاجر التزوّج بها على ما جاء في كتب السيرة والتفسير. وكل هذا بوادر مؤيدة لما وصف الله به الأنصار في قوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ.
وفي صدد الجملة وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أورد ابن كثير حديثا عن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله ﷺ يقول لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنّم في جوف عبد أبدا. ولا يجتمع الشحّ والإيمان في قلب أبدا». وحديثا عن جابر بن عبد الله رواه مسلم أيضا قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياكم والظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة واتّقوا الشحّ فإنّه أهلك من كان قبلكم. حملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلّوا محارمهم». وهكذا يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر كما هو في كل أمر.
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١١ الى ١٧]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧)
(٢) بأسهم بينهم شديد: عداوتهم فيما بينهم شديدة.
(٣) تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى: تظنهم في ظاهرهم متّحدين مع أن قلوبهم متخالفة متفرّقة.
تعليق على الآية أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ... إلخ وما بعدها لغاية الآية [١٧]
في الآيات وصف لمشهد من مشاهد وقعة بني النضير وإجلائهم وموقف المنافقين حلفائهم في ذلك وحالة اليهود النفسية والاجتماعية:
١- فقد حاول المنافقون تشديد عزيمتهم ووعدوهم بعدم إطاعة أحد فيهم وبالقتال إذا قوتلوا وبالخروج معهم إذا أخرجوا. فاحتوت الآيات تكذيبا لهم فيما قالوه ووعدوا به، وقررت أنهم حتى لو قاتلوا معهم لولّوا الأدبار ولما انتصروا، وبأن مثلهم كمثل الشيطان الذي يزيّن للإنسان الكفر ثمّ يتخلّى عنه قائلا له إني بريء منك إني أخاف الله. وبأن عاقبة الفريقين النار خالدين فيها وهو جزاء الظالمين.
الجزء السابع من التفسير الحديث ٢١
والآيات تعقيب على ما كان في ظروف حادث بني النضير وموقف اليهود والمنافقين. بل المتبادر أن آيات السورة من مطلعها إلى آخر هذه الآيات قد نزلت بعد انتهاء الحادث تعقيبا عليه من جهة وتوضيحا لحالة اليهود والمنافقين من جهة، وتشريعا لما اقتضت حكمة التنزيل تشريعه من جهة، وتبريرا وتعليلا لكل ذلك من جهة في آن واحد. ويتبادر لنا أن بعض الأفعال التي جاءت في صيغة المضارع أو الاستقبال هي أسلوبية ولا تعني أن تكون الآيات قد نزلت قبل انتهاء الحادث.
ولقد قلنا قبل إن حلفاء بني النضير هم الخزرج أو قوم عبد الله بن أبي كبير المنافقين منهم. ولقد كان الجمهور الأكبر من الخزرج مخلصين مؤيدين للنبي ﷺ في موقفه من اليهود فكان في ذلك خذل وخزي لعبد الله بن أبي ومن تابعه من عشيرته في نفاقه وموقفه وصاروا كما حكت الآيات أعجز وأجبن من أن يفوا بوعودهم لليهود. وعاد تحريضهم وتثبيطهم على هؤلاء بخسارة أشدّ مما كان ينالهم لو لم يفعلوا.
أما ما أشير إليه تلميحا في الآية [١٥] من المثال القريب الذي حلّ في غيرهم فهو حادث إجلاء بني قينقاع على ما ذكره بعض المفسرين عزوا إلى ابن عباس وقد قال بعض آخر إنه مثل ما حلّ بالمشركين في بدر «١». والقول الأول هو الأرجح بقرينة ضمير قَبْلِهِمْ العائد لبني النضير والذي يعني حادثا لليهود ولأن المشركين عادوا فكرّوا على المسلمين وأخذوا ثأرهم في وقعة أحد. ولقد شرحنا
وقد قال بعض المفسرين إن جملة لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى إنها في صدد اليهود والمنافقين معا «١». وقال بعضهم هي في صدد اليهود فقط «٢». وهذا هو الأوجه فيما نرى ولذلك صرفناها إلى اليهود فقط، فاليهود فقط هم الذين كانوا يقيمون في قرى محصنة في ضاحية منعزلة عن مساكن العرب.
وفي الجملة تأييد لما شرحناه في سياق تفسير الآيات [٨٤- ٨٥] من سورة البقرة وهو أن اليهود في المدينة لم يكونوا كتلة متضامنة وأن بعضهم كانوا أعداء لبعض. ولقد نكّل النبي ببني قينقاع حينما أسفروا عن عدائهم وعدوانهم فلم يتحرك بنو النضير وبنو قريظة لنصرتهم. ثم نكّل ببني النضير فلم يتحرك بنو قريظة مما فيه تأييد آخر من الوقائع.
والآيات وإن تكن في معرض مشهد من مشاهد السيرة فإن فيها تلقينات جليلة تظل مستمد إلهام وقوة للمخلصين من المسلمين تجاه أعدائهم وتجاه المخامرين منهم مع الأعداء إذا هم كانوا أشداء أقوياء القلوب والعزائم والإيمان لأن الأعداء والمخامرين في هذه الحالة لن يلبثوا أن يخزوا ويخذلوا إزاء مثل هذا الموقف. وتظل كذلك مستمد إلهام في تقبيح مواقف المخامرين والمنافقين والمتضامنين بأي أسلوب مع الأعداء وفي عدم قبول أي عذر لهم قد يعتذرون به باسم الصداقة والواقع أو المصلحة أو المحالفة. لأن المصلحة العامة العليا هي التي يجب أن يكون لها الاعتبار الأول.
ولقد ساق المفسرون «٣» قصصا مختلفة الصيغ والأسماء متفقة المغزى مسبهة
(٢) انظر الطبري والبغوي وابن كثير.
(٣) انظر ابن كثير والبغوي والخازن.
وقد تكون هذه القصص مما كان يتداوله الناس في عهد النبي ﷺ وعلى كل حال فالآية إنما جاءت في معرض التمثيل والتنديد والإفحام.
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)
. تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ... إلخ والآية التالية لها
لم يرو المفسرون مناسبة لنزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة التي ندّد فيها بالمنافقين ومواقفهم وباليهود الكافرين لتوصي المؤمنين المخلصين بتقوى الله ومراقبته والتكفير فيما يقدمونه لغدهم من أعمال يجزون عليها خيرا كانت أم شرا. وتحذرهم من أن يكون مثل أولئك الذين أهملوا تقوى الله وواجباتهم نحوه وتمردوا على أوامره وانحرفوا عن جادة الحق فأهملهم نتيجة لذلك ولم يوقفهم إلى ما ينجي أنفسهم فوقعوا في شرّ أعمالهم. وفيها
ولقد روى ابن كثير في سياق تفسير الآية الأولى حديثا أخرجه الإمام أحمد ومسلم جاء فيه: «أنه جاء إلى رسول الله قوم من مضر حفاة عراة شديدي العياء فتغير وجهه لما رأى بهم من الفاقة، فأمر بلالا فأذّن وأقام الصلاة فصلّى بالناس ثم خطبهم فقرأ آية سورة النساء هذه: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)، ثم قرأ الآية الأولى من هذه الآيات ثم وقف عند جملة وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وقال هو تصدّق الرجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع برّه من صاع تمره حتى قال ولو بشقّ تمرة، فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفّه تعجز عنها بل عجزت ثم تتابع الناس حتى تكوّم كومان من طعام وثياب فتهلّل وجه رسول الله ثم قال من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
حيث ينطوي في هذا الحديث الرائع كيف كان رسول الله ﷺ يستخرج العبرة والموعظة من الآيات ويوجّه الناس بها نحو الخير والبرّ ويشجع عليهما بمثل هذه القوة وكيف كان أصحاب رسول الله يسارعون في الاستجابة ابتغاء رضوان الله ورسوله رضي الله عنهم.
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)
(٢) السلام: المرجو للأمن والسلام.
(٣) المؤمن: واهب الأمن والطمأنينة. وقرئت (المؤمن) بمعنى المعتمد الذي يركن إليه ويؤمن له.
(٤) المهيمن: المراقب والمسيطر على عباده.
(٥) الخالق: قيل إن معنى الكلمة المقدّر لما يوجده على ما اقتضته حكمته.
(٦) البارئ: قيل إن معناها الموجد لما يخلقه من العدم أو المنشئ له أو المميز لأنواعه.
تعليق على الآية لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ والآيتين التاليتين لها
لم يرو المفسرون مناسبة لنزول هذه الآيات أيضا والمتبادر أنها استمرار للتعقيب على الآيات السابقة وبقصد تقرير كون ما في القرآن من الآيات والمعاني والحكمة والموعظة والقوّة الروحانية والهداية لو نزل على جبل لخشي الله وتصدّع من خشيته. وكون الذي أنزله هو الله ذو الأسماء الحسنى الذي يسبّح له ما في السموات والأرض ويعنون لعظمته وقدرته، المقدّس المنزّه عن كل شائبة الذي لا يعزب عن علمه وإحاطته شيء ظاهر وخفي وحاضر وغائب، العظيم في رحمته واهب الأمن والسلام، القوي الذي أوجد كل شيء من العدم وميّز أنواعه. الذي لا يفعل إلّا ما فيه الحكمة. المتعالي عن كلّ شريك وندّ. وكون ذلك يستوجب تأثر الناس بالقرآن وخشيتهم وخضوعهم جميعا لله اعترافا وعبادة وطاعة. وكون ذلك مما ينبّه الله تعالى إليه الناس لعلّهم يتنبهون ويتفكرون فيما يجب عليهم نحوه ويؤدونه له.
ولقد احتوت الآيات مجموعة رائعة من أسماء الله الحسنى لم تجتمع في مجموعة قرآنية أخرى مع التنبيه على أنها وردت متفرقة في آيات متعددة. وأسلوبها نافذ من شأنه أن يثير في النفس الطيبة الشعور بهيبة الله وعظمته وقوّة القرآن الروحية.
ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا أخرجه الإمام أحمد عن معقل بن يسار عن النبي ﷺ أنه قال: «من قال حين يصبح- ثلاث مرات- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ الآيات الثلاث من آخر سورة الحشر وكّل الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا. ومن قالها حين يسمي كان بتلك المنزلة».
وفي الحديث تنويه قوي بفضل الآيات وقوّة روحانيتها. ولقد كان النبي ﷺ يخاطب بحديثه أصحابه المؤمنين المخلصين الصالحي الأعمال حيث يسوغ هذا أن يقال إن الشخص الذي يعمل به ويريد أن يحصل على المنزلة المذكورة فيه لا بد من أن يكون متحققا بالإيمان والإخلاص والصلاح في الوقت نفسه.
ولقد أورد المفسر نفسه في سياقها أيضا حديثا عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ فيه أسماء الله الحسنى أوردناه وأوردنا الأسماء الحسنى المذكورة فيه وعلقنا عليه في سياق تفسير الآية [١٨٠] من سورة الأعراف فنكتفي بهذا التنبيه.
هذه السورة فصلان. في أولهما تنديد باليهود بسبب تفاخرهم باختصاص الله إيّاهم بالفضل على غيرهم وتكذيبهم وتحدّ لهم. وبيان ما كان من فضل الله على العرب الأميين في إرسال نبي منهم إليهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وفي ثانيهما تنديد بفريق من المسلمين كانوا يتركون النبي يوم الجمعة وهو يخطب ويخرجون من المسجد إذا ما رأوا لهوا أو تجارة. وحظر للبيع في وقت صلاة الجمعة. وإيجاب للسعي إليها. وإباحة ابتغاء فضل الله بالتجارة بعدها.
ولا يبدو تناسب موضوعي وظرفي بين فصلي السورة مع اقتصارها عليهما.
ولا يبدو حكمة ذلك واضحة إلى أن يكون اليهود قد أنكروا بعث الله تعالى نبيّا من الأميين ثم فاخروا المسلمين بأن توراتهم احتوت تحديد يوم لله من أيام الأسبوع ثم تفاخروا بأنهم هم وحدهم أولياء الله. فأوحى الله بفصول السورة على سبيل الردّ والتنديد والتحدي. ولقد روى البخاري ومسلم حديثا عن أبي هريرة سنورده في سياق تفسير الآيات الأولى من السورة تفيد عبارته أن سورة الجمعة نزلت دفعة واحدة. وقد يدعم هذا ما خمنّاه وما هو نتيجة ذلك من ترابط فصلي السورة. والله تعالى أعلم.
وترتيب هذه السورة في ترتيب النزول الذي يرويه المصحف الذي اعتمدناه هو الرابع والعشرون. والتراتيب المروية الأخرى مقاربة لذلك «١». مع أن محتوى السورة يدل على أنها نزلت في وقت كان في المدينة فيه فريق من اليهود وكانوا على شيء من القوة والاعتداد. ولما كان يهود بني قريظة هم آخر من بقي من