تفسير سورة نوح

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني
تفسير سورة سورة نوح من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني .
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سورة نوح
مكية، وثمان أو تسع وعشرون آية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ... (١) بأن أنذر، حذف الجارّ وأوصل الفعل، أو أن مفسرة؛ لاشتمال معنى الإرسال على القول. (قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) الطوفان، أو عذاب يوم القيامة، والأول أوجه. (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) لاقتران قولي بالمعجزة.
(أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ... (٣) بأن اعبدوا اللَّه. (وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ... (٤) ما كان لكم من الذنوب أو بعضها. وهي التي تقدّمت الإيمان، " فإنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله ". (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو آخر الآجال. (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ) والتوفيق بينه وبين تأخير الأجل أنَّ القضاء معلّق ومبرم، فالتأخير بالنظر إلى الأول، وعدمه بالنظر إلى الثاني. أي: لو آمنوا عاشوا كذا، وإن لم يؤمنوا فكذا، وهذا معنى زيادة
الصدقة والصلة في العمر، وما في علمه تعالى لا يبدّل. (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جعلهم جاهلين بذلك لعدم جريهم على موجب العلم. (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) أي: دائماً.
(فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (٦) عن الإيمان. وإسناد الزيادة إلى الدعاء، إسناد إلى السبب.
(وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ... (٧) أي: ليؤمنوا فتغفر لهم، فذكر المسبب الذي هو حظهم؛ ليكون أدل على قبح إعراضهم. (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ) لئلا يسمعوا كلامي. المجعول في الآذان رؤوس الأنامل، وإطلاق الأصابع مجاز مبالغة. (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) تغطوا بها لئلا يروني، كراهة منهم لرؤيتي، أو لئلا أعرفهم فأدعوهم إلى الإيمان. والإتيان بصيغة الطلب للمبالغة، كأنهم طلبوا من الثياب أن تغشاهم. (وَأَصَرُّوا) على الكفر، من أصرّ الحمار على الأتان أذنيه يطردها للسفاد، وكفى بهذا التشبيه مزجرة. (وَاسْتَكْبَرُوا) عن اتباع الحق.
(اسْتِكْبَارًا) مفرطاً.
(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (٩) هذا دأب الناصح الشفوق، ينصح سراً، وإن لم ينجح يعلن بنصحه؛ لكي يساعده من له وعي، ثم يبالغ بالجمع بين السر والجهر. ونصب " جهاراً " على المصدر من غير فعله، أو على الحال.
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) تفسير لدعائه، وكأنهم كانوا يتعللون بما أسرفوا من الذنوب، فوعدهم المغفرة إن أتوا بما يَجُبُّها من الإيمان.
(يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) قيل: حبس اللَّه عنهم المطر أربعين ستة، وأعقم أرحام نسائهم، فوعدهم بإعادة الخصب إن تابوا. والسماء: المظلة أو السحاب، وإرسالها: إرسال المطر منها؛ دلالة على كثرته، أو المطر كقوله:
إذَا نزلَ السَّمَاءُ بأرْضِ قَومٍ
والمدرار. اسم فاعل كثير الدرور كالمضراب، يستوي فيه المذكر والمؤنث.
(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (١٢) جمع لهم في الوعد بين منافع الدارين. روي أنَّ رجلاً اشتكى إلى الحسن الجدب، فأمره بالاستغفار، والآخر الفقر، فأمره به، والآخر قلة ريع أرضه فقال: استغفر. فقال الربيع بن صبيح: شكوا إليك أبواباً وسألوك، والجواب واحد؟ فتلا عليه الآية. ولما استسقى عمر في خلافته لم يزد على الاستغفار بها فقيل له في ذلك؟ فقال: " لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر.
(مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣) أي: ما حصل لكم من الصارف حتى لا تكونوا على حالة ترجون من اللَّه تعظيماً؟، و " اللَّه " بيان. كأنه قيل: لمن التعظيم إيانا؟ فقيل: لله. ولو أخّر لكان صلة الوقار، ولا يتوهم ذلك مع التقديم، لأنَّ معمول المصدر لا يتقدم عليه فى الأكثر. والحث على الرجاء كناية عن الحث على الإيمان؛ لانعقاد أسبابه، أو لا تخافون للَّه عظمة، أو حلماً؛ لأنَّ الوقور معظم في النفوس، والحلم لا يفارقه. وتفسيره بالعاقبة كما نقل
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مأخوذ من الوقار بمعنى: الثبات؛ لأن العاقبة حال استقرار الثواب والعقاب.
ثم نبههم على النظر في أنفسهم؛ لأنها أقرب منظور بقوله:
(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤) على طريقة الحال. أي: خلقكم تراباً ثم نطفاً، ثم علقاً، ثم مضغاً، ثم لحماً، ثم عظاماً، ثم خلقاً آخر على النظر في الآفاق على وجه التعجيب من تغافلهم بقوله:
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥) علم ذلك بإخبار القرآن المعجز أو بالأرصاد. والطباق وهو كون بعضها فوق بعض لا يقتضي المماسة.
(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا... (١٦) أي: في السماء الدنيا، نُسِبَ إلى الكل؛ لملابسة بينهما. (وَجَعَلَ الشَمْسَ سِرَاجًا) كالسراج في إزاحة ظلمة الليل كقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا).
(وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧) أنشأكم، استعار الإنبات له؛ لأنّه أدلّ على الحدوث والتكون من الأرض. والأصل: أنبتكم فنبتم نباتاً كقولك: كسرته فانكسر. أو نصب بـ أنبتكم؛ لأن الفعل والانفعال واحد حقيقة، والاختلاف بالنسبة إلى القابل والفاعل.
(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا... (١٨) بعد الموت (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) لا محالة؛ ولذلك أكده بالمصدر كالأول، إشارة إلى اتحاد الرتبة، وكونهما في قرن.
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (١٩) مبسوطة تتقلبون عليها تقلب الرجل على فراشه (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (٢٠) طرقاً واسعة، و " مِن "؛ لتضمن الفعل معنى الاتخاذ.
(قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي... (٢١) في الأمر بعبادة اللَّه واتقائه بعدما تلوتُ عليهم آيات الآفاق والأنفس. وصرّح باسم نوح؛ لطول الفصل، ولم يعطفه؛ لأنه تفصيل لقوله: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا) (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا) أي: رؤسائهم المتقدمين بالأموال والأولاد. وأشار إلى أنَّ ذلك -وإن كان في الظاهر سبباً للتقدم- في الحقيقة ليس سبباً إلا للبوار.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي " وُلْدَه " جمع ولد، كأُسْد وأسد.
(وَمَكَرُوا... (٢٢) عطف على (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ)، والجمع باعتبار معنى " من ".
(مَكْرًا كُبَّارًا) غاية في الكبر، بأنواع الأذى، وتسليط السفهاء عليه، أبلغ من الكُبَار مخففاً، وهو من الكبير أبلغ.
(وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ... (٢٣) عبادتها (وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) أفردها بالذكر كأنها كانت كبار آلهتهم وأشرافها. أسماء رجال صالحين، فلما هلكوا وسوس الشيطان إلى قومهم أن صوروا صورهم حتى يتبركوا بها ويبقى تذكرة، فلما انقرضوا أولئك وسوس إلى أولادهم أن آباءكم كانوا يعبدونها، فعبدوها من دون اللَّه. روى البخاري عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما " أنَّ هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح عليه السلام انتقلت إلى العرب، أما وَدٌّ كَانَتْ بِدومَةِ الْجَنْدَلِ لكلب وسُوَاعٌ كَانت لِهُذَيْلٍ
ويَغوثُ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيفٍ بِالْجُرُفِ ويَعُوقُ لِهَمْدانَ ونَسْر لِحِمْيَرَ لِآلِ الْكَلَاعِ ".
(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا... (٢٤) الضمير للروساء أو للأصنام. كقوله: (رَبِّ إِنَّهنَّ أَضلَلْنَ كَثِيرًا). (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا) اللام للعهد. وهم أولئك الذين آيس من
إيمانهم، والرضاء بكفر العدو مع اسقباحه قصداً إلى زيادة عذابه لا غرو فيه. ألا يُرى قول موسى: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ). وقيل: أراد في ترويح مكرهم، أو الضياع، والهلاك. كقوله: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ).
(مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ... (٢٥) أي: لأجل خطيئاتهم. و " ما " مزيدة للتوكيد. (أُغْرِقُوا) بالطوفان، وقرأ أبو عمرو: خطاياهم، وهذا أحسن؛ لأنه جمع الكثرة، والأولى تحتاج إلى التأويل. (فَأُدْخِلُوا نَارًا) أي: تعقب الغرق دخول النار من غير تراخ. والمراد: عذاب القبر؛ لأنها روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران. والتنكير؛ للتعظيم أو النوع (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) دون عذابه (أَنْصَارًا) كما كانوا يزعمون النصر من الآلهة.
(وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) " دياراً " من الألفاظ المستعملة في النفي العام. يقال: " ما في الدار ديار " أي: أحد من الدور، أو من الدار. فيعال قلبت واوه ياء، وأدغمت الأولى، ولو كان فعالاً لكان دوّارا.
(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧) قال ذلك بعد ما أوحى اللَّه تعالى إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)، وأيضاً جربهم ألف سنة إلا
خمسين عاماً، وكانوا يتواصون بعدم الإيمان ويقولون لذريتهم: إياكم وهذا الشيخ، ومضى على هذا جيل بعد جيل، والفاجر الكفار للمولود باعتبار المآل. كقوله: " من قتل قتيلاً ".
(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ... (٢٨) كان أبوه لمك بن متوشلخ، وأمه شمخاء بنت أنوش. (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا) أو مسجدي، أو سفينتي. (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) من مضى منهم، ومن هو آتٍ، (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) هلاكاً وبواراً.
* * *
تمّت سورة نوح، والحمد لمن بيده الخيرات والفتوح، والصلاة على السيد النصوح، وآله وصحبه كل مساء وصبوح.
* * *
Icon