وهنا نقف أمام سورة يونس المكية، وأطلق عليها هذا الاسم، بمناسبة ورود آية فيها عن قوم يونس إذ قال تعالى :﴿ فلولا كانت قرية –آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ﴾.
وسبق ذكر يونس عليه السلام في سورة النساء ﴿ وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ﴾.
وفي سورة الأنعام ﴿ وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا، وكلا فضلنا على العالمين ﴾.
ومن المناسبات الطريفة الموجودة بين نهاية سورة التوبة وبداية سورة يونس أنهما يشتركان معا في الحديث عن خاتم الأنبياء والمرسلين، وتوجيه الأنظار إلى الرسالة التي فضله الله بها على العالمين.
فمن قوله تعالى في خاتمة سورة التوبة :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رءوف رحيم ﴾ |الآية : ١٢٨|.
ﰡ
في المصحف الكريم
من شأن الإنسان العادي وغير المهذب، إذا أصابه الضجر وأثاره الغضب، أن يدعو على نفسه وأهله وولده وماله بدعاء الشر، ومن شأنه أيضا إذا هدأت أعصابه واطمأن قلبه أن يدعو لنفسه وأهله وولده بدعاء الخير، غير أن الله تعالى الذي هو مجيب الدعاء، والذي يرتبط بإرادته المطلقة مصير دعاء الداعين، إن شاء أجابه، وإن شاء لم يجبه، تكرم على خلقه، رحمة بهم، وإحسانا إليهم، في فترات ضعفهم، وهيجان غضبهم، بأن لا يجيب دعاءهم إذا كان ذلك الدعاء يتضمن شرا، وصادرا عن مجرد الغضب والضجر، لأن في إجابة هذا النوع من الدعاء هلاكا لهم محققا.
وهذه المنة الربانية التي من الله بها على عباده، بعدم إجابته دعاء الشر، هي التي تتضمنها أول آية في هذا الربع، حيث قال الله تعالى :﴿ ولو يعجل الله للناس استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ﴾ أي لو أن الله استجاب للناس كلما دعوا دعاء الشر لأهلكهم. قال مجاهد في تفسير هذه الآية : " دعاء الشر هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه : " اللهم لا تبارك فيه والعنه " فلو يعجل الله لهم الاستجابة في ذلك، كما يستجاب لهم في الخير، لأهلكهم. قال صلى الله عليه وسلم :( لا يدعون أحدكم على نفسه، فربما صادف ساعة لا يسأل الله فيها أحد إلا أعطاه إياها ). وروى البزار في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا تدعوا على أنفسكم. لا تدعوا على أولادكم. لا تدعوا على أموالكم. لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم ) وإلى مثل هذا المعنى يشير قوله تعالى في آية أخرى :﴿ ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير، وكان الإنسان عجولا ﴾. |الإسراء : ١١|.
أما دعوة المظلوم على ظالمه ولو كانت دعوة شر على الظالم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، كما جاء في الحديث الشريف.
والمراد بالإسراف هنا الإسراف في ارتكاب الذنوب، والإقبال على المعاصي بنهم وشهية وضراوة، حتى يصبح المذنب متبلد الإحساس، فاقدا للشعور، مطبوعا على قلبه، مغضوبا عليه من ربه.
وهكذا بينت الآيات الكريمة أن الذكر الحكيم والقرآن الكريم إنما هو كتاب الله المطابق لما في اللوح المحفوظ، منه بدأ وإليه يعود، وليس كتاب رسوله حتى يكون للرسول فيه دخل من قريب أو بعيد، كما بينت الآيات الكريمة أن الرسول إنما يتلقى الوحي عن الله في الوقت الذي يريد الله أن يوحي إليه، وأن الوحي الذي يتلقاه من عند الله لا يملك له الرسول تبديلا ولا تغييرا، وأن دور الرسول الوحيد هو أن يبلغه إلى الناس كما أنزل، وأن تلاوة الرسول للقرآن على الناس إنما هي بأمر الله وتيسيره، ولولا اصطفاؤه للرسالة وتيسيره لها لما استطاع أن يتخطى المستوى الذي كان عليه قبلها، فقد قضى الرسول بين ظهراني قومه أربعين سنة، دون أن ينبس من هذا النوع المعجز ببنت شفة، حتى جاءه الله بالرسالة، وأكرمه بالوحي، وأنزل عليه القرآن وكلفه بالتبليغ والبيان، فكان ما كان، مما تناقلته الركبان، واستدار له الزمان، ﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم ﴾ |العلق : ١، ٢، ٣، ٤، ٥|، ﴿ ورتل القرآن ترتيلا ﴾ |المزمل : ٤|.
وهكذا بينت الآيات الكريمة أن الذكر الحكيم والقرآن الكريم إنما هو كتاب الله المطابق لما في اللوح المحفوظ، منه بدأ وإليه يعود، وليس كتاب رسوله حتى يكون للرسول فيه دخل من قريب أو بعيد، كما بينت الآيات الكريمة أن الرسول إنما يتلقى الوحي عن الله في الوقت الذي يريد الله أن يوحي إليه، وأن الوحي الذي يتلقاه من عند الله لا يملك له الرسول تبديلا ولا تغييرا، وأن دور الرسول الوحيد هو أن يبلغه إلى الناس كما أنزل، وأن تلاوة الرسول للقرآن على الناس إنما هي بأمر الله وتيسيره، ولولا اصطفاؤه للرسالة وتيسيره لها لما استطاع أن يتخطى المستوى الذي كان عليه قبلها، فقد قضى الرسول بين ظهراني قومه أربعين سنة، دون أن ينبس من هذا النوع المعجز ببنت شفة، حتى جاءه الله بالرسالة، وأكرمه بالوحي، وأنزل عليه القرآن وكلفه بالتبليغ والبيان، فكان ما كان، مما تناقلته الركبان، واستدار له الزمان، ﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم ﴾ |العلق : ١، ٢، ٣، ٤، ٥|، ﴿ ورتل القرآن ترتيلا ﴾ |المزمل : ٤|.
وهكذا بينت الآيات الكريمة أن الذكر الحكيم والقرآن الكريم إنما هو كتاب الله المطابق لما في اللوح المحفوظ، منه بدأ وإليه يعود، وليس كتاب رسوله حتى يكون للرسول فيه دخل من قريب أو بعيد، كما بينت الآيات الكريمة أن الرسول إنما يتلقى الوحي عن الله في الوقت الذي يريد الله أن يوحي إليه، وأن الوحي الذي يتلقاه من عند الله لا يملك له الرسول تبديلا ولا تغييرا، وأن دور الرسول الوحيد هو أن يبلغه إلى الناس كما أنزل، وأن تلاوة الرسول للقرآن على الناس إنما هي بأمر الله وتيسيره، ولولا اصطفاؤه للرسالة وتيسيره لها لما استطاع أن يتخطى المستوى الذي كان عليه قبلها، فقد قضى الرسول بين ظهراني قومه أربعين سنة، دون أن ينبس من هذا النوع المعجز ببنت شفة، حتى جاءه الله بالرسالة، وأكرمه بالوحي، وأنزل عليه القرآن وكلفه بالتبليغ والبيان، فكان ما كان، مما تناقلته الركبان، واستدار له الزمان، ﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم ﴾ |العلق : ١، ٢، ٣، ٤، ٥|، ﴿ ورتل القرآن ترتيلا ﴾ |المزمل : ٤|.
وهذه الصور التي وصفها كتاب الله تنطبق كل الانطباق على كثير من الناس في القديم والحديث، ولاسيما أولئك المذبذبين الذين لا إيمان لهم، ولا صبر عندهم، من ضعفاء النفوس الغافلين، والحيارى التائهين.
أما الذين رزقهم الله الإيمان والصبر فصلتهم بالله قائمة على الدوام، لا فرق عندهم بين السراء والضراء، والشدة والرخاء، وقد عبر عن حالتهم أصدق تعبير نص الحديث النبوي الشريف المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء فصبر، فكان خيرا له، وإن أصابته سراء فشكر، كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ).
وهذه الصور التي وصفها كتاب الله تنطبق كل الانطباق على كثير من الناس في القديم والحديث، ولاسيما أولئك المذبذبين الذين لا إيمان لهم، ولا صبر عندهم، من ضعفاء النفوس الغافلين، والحيارى التائهين.
أما الذين رزقهم الله الإيمان والصبر فصلتهم بالله قائمة على الدوام، لا فرق عندهم بين السراء والضراء، والشدة والرخاء، وقد عبر عن حالتهم أصدق تعبير نص الحديث النبوي الشريف المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء فصبر، فكان خيرا له، وإن أصابته سراء فشكر، كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ).
في نهاية الربع الماضي وجه كتاب الله دعوة عامة إلى كافة الأنام، لاستقبالهم في دار السلام، وهي جنة النعيم، التي لا لغو فيها ولا تأثيم، فقال تعالى :﴿ والله يدعوا إلى دار السلام ﴾. والمغزى الذي يرمي إليه كتاب الله من وراء هذه الدعوة العامة الكريمة أن يكفي الناس أنفسهم مؤونة التكلف في البحث عن منهج نافع وصالح للحياة دون جدوى، وأن يتقبلوا بكلتا اليدين، منهج ربهم الذي وضعه لحياتهم، ورسمه لسعادتهم، عن علم تام بمصالحهم وحاجياتهم، وفي انسجام تام مع طاقتهم وملكاتهم، وبذلك يختصرون الطريق إلى الحياة السعيدة في الدنيا، والحياة السعيدة في الآخرة.
وبعدما وجه كتاب الله هذه الدعوة العامة التي لم يميز فيها طائفة عن أخرى، ولا جيلا عن جيل، ولا سلالة عن سلالة، بين الحق سبحانه وتعالى أن الذين يلبونها ويستجيبون لها، ويلتزمون السير بمقتضى صراط الله، ومنهجه في الحياة، هم الذين يهتدون ولا يضلون، ويسيرون سيرا حثيثا إلى دار السلام، ثم يصلون إليها في أمن وسلام، فقال تعالى :﴿ ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾
وختم هذا الربع بالدعوة إلى دار السلام، التي لا باب لها ولا مفتاح إلا التمسك بمبادئ الإسلام، فقال تعالى :﴿ والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾.
في المصحف الكريم
في نهاية الربع الماضي وجه كتاب الله دعوة عامة إلى كافة الأنام، لاستقبالهم في دار السلام، وهي جنة النعيم، التي لا لغو فيها ولا تأثيم، فقال تعالى :﴿ والله يدعوا إلى دار السلام ﴾. والمغزى الذي يرمي إليه كتاب الله من وراء هذه الدعوة العامة الكريمة أن يكفي الناس أنفسهم مؤونة التكلف في البحث عن منهج نافع وصالح للحياة دون جدوى، وأن يتقبلوا بكلتا اليدين، منهج ربهم الذي وضعه لحياتهم، ورسمه لسعادتهم، عن علم تام بمصالحهم وحاجياتهم، وفي انسجام تام مع طاقتهم وملكاتهم، وبذلك يختصرون الطريق إلى الحياة السعيدة في الدنيا، والحياة السعيدة في الآخرة.
وبعدما وجه كتاب الله هذه الدعوة العامة التي لم يميز فيها طائفة عن أخرى، ولا جيلا عن جيل، ولا سلالة عن سلالة، بين الحق سبحانه وتعالى أن الذين يلبونها ويستجيبون لها، ويلتزمون السير بمقتضى صراط الله، ومنهجه في الحياة، هم الذين يهتدون ولا يضلون، ويسيرون سيرا حثيثا إلى دار السلام، ثم يصلون إليها في أمن وسلام، فقال تعالى :﴿ ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾
وفي بداية هذا الربع مضى كتاب الله في نفس السياق يتمم الحديث عن الذين لبوا دعوة الله، واستجابوا لما يحييهم حياة باقية، فقال تعالى :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾. والذين أحسنوا هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، نية واعتقادا، قولا وعملا، فكانت نياتهم حسنة، ومعتقداتهم حسنة، وأعمالهم حسنة، وأقوالهم حسنة، وهم قدوة حسنة في الهداية والاهتداء، وعنصر خير وصلاح في الظاهر والباطن. ﴿ والحسنى ﴾ التي بشرهم الله بها هي أحسن الجزاء وأعلاه درجة عند الله. ﴿ والزيادة ﴾ هي مضاعفة ثواب الحسنة من عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ورضوان الله أكبر. ﴿ والقتر ﴾ هو ما يعلو وجوه الفجرة والكفرة من اكفهرار الوجه وكدر اللون في عرصات المحشر، من شدة هول الموقف، وما فيه من كرب وحزن وضيق. ﴿ والذلة ﴾ هي ما يلحق الفجار والكفار من هوان وصغار في تلك الدار، جزاء ما كانوا عليه من الطغيان والاستكبار في هذه الدار. وكما تعهد كتاب الله للذين أحسنوا بأن لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، تعهد لهم في آيات أخرى بنضارة الوجوه وفرح القلوب، فقال تعالى :﴿ وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة ﴾ |القيامة : ٢٢، ٢٣|، وقال تعالى :﴿ فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا ﴾ |الإنسان : ١١|.
﴿ أم يقولون افتراه، قل فاتوا بسورة مثله، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ﴾، إذ جاءهم كتاب الله بما لم يعتادوه من الحقائق والمعاني والأساليب، وبما لم يسمعوا به من العقائد والشعائر والشرائع، فتنكروا له في بداية الأمر، جهلا منهم، ونفورا عن غير المألوف ﴿ ولما يأتهم تأويله ﴾ أي أن كثيرا من الحقائق والبشائر والإنذارات التي تضمنها كتاب الله كانت وقتئذ لم تبرز بعد إلى حيز الوجود، فاستعجلوا ظهورها، وطال عليهم أمد انتظارها، وداخلهم الشك في صحتها، فظنوا بالله الظنون ﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ﴾.
وها نحن في هذا القرن الرابع عشر الهجري قد رأينا من تأويل آياته البينات الشيء الكثير، وستحمل القرون القادمة في طياتها من تأويل آياته وتفسير معجزاته ما هو أكثر وأكبر وأبهر، ﴿ كذلك كذب الذين من قبلهم، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾.
﴿ أم يقولون افتراه، قل فاتوا بسورة مثله، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ﴾، إذ جاءهم كتاب الله بما لم يعتادوه من الحقائق والمعاني والأساليب، وبما لم يسمعوا به من العقائد والشعائر والشرائع، فتنكروا له في بداية الأمر، جهلا منهم، ونفورا عن غير المألوف ﴿ ولما يأتهم تأويله ﴾ أي أن كثيرا من الحقائق والبشائر والإنذارات التي تضمنها كتاب الله كانت وقتئذ لم تبرز بعد إلى حيز الوجود، فاستعجلوا ظهورها، وطال عليهم أمد انتظارها، وداخلهم الشك في صحتها، فظنوا بالله الظنون ﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ﴾.
وها نحن في هذا القرن الرابع عشر الهجري قد رأينا من تأويل آياته البينات الشيء الكثير، وستحمل القرون القادمة في طياتها من تأويل آياته وتفسير معجزاته ما هو أكثر وأكبر وأبهر، ﴿ كذلك كذب الذين من قبلهم، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾.
في المصحف الكريم
في نهاية الربع الماضي وصفت الآيات الكريمة مشهد الخليقة بكافة أممها وشعوبها، وهي تعرض أمام الله، الواحدة تلو الأخرى، كل أمة بمحضر رسولها، شاهدا لها أو عليها، ﴿ ولكل أمة رسول، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ﴾.
وفي بداية هذا الربع تذكير من الله لرسوله، وتلقين له وللمؤمنين، أن الرسول على جلالة قدره عند الله، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا عن أن يملك لغيره من أفراد أمته نفعا أو ضرا، وأن الرسول على شدة قربه من الله خاضع كل الخضوع لمشيئة الله المطلقة، لا يفلت منها في شيء، وذلك قوله تعالى :﴿ قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ﴾.
ومغزى هذه الآية الكريمة تذكير المؤمنين بأنه لا ينبغي لهم أن يتركوا " الوسيلة " الشرعية إلى رضا الله والقرب منه، وهي إتباع الأوامر واجتناب النواهي، والتزام التقوى، والتمسك بالاستقامة سرا وعلنا، وأنه لا ينبغي لهم أن يتكاسلوا عن الأعمال الصالحة، ويتكلوا كل الاتكال على مجرد رحمة الله وعفوه، وما يتفرع عنهما من شفاعة في العصاة والمذنبين بعد التعذيب والتأديب، وأنه لأكرم للمؤمن، وأوفق بإيمانه ومحبته لله والرسول –إن كان صادق المحبة لهما- أن يكون من أهل الحسنى وزيادة، لا من أهل السوأى، أو من أهل السوأى وزيادة، فشعار هذا الدين : " اعملوا ولا تتكلوا ".
ومن هنا انتقل كتاب الله إلى تقرير حقيقة دينية وكونية طالما قررها وكررها، ألا وهي أن الأمم نفسها لها أعمار وآجال كالأفراد، وأن كل أمة لها أجلها الذي تستوفيه إذا لم تبق صالحة للحياة، وأنه إذا حل هذا الأجل لم تبق أمامها أية فرصة للنجاة والخلاص، فما على كل أمة تريد البقاء إلا أن تحسن التصرف فيما آتاها الله، وأن تبتعد كل البعد عن موجبات سخط الله، وفقا للرسالة الإلهية التي تلقتها من رسول الله، أما إذا خانت العهد، وأخلفت الوعد، وتصرفت تصرف السفهاء الخائنين، فإنها لا بد أن تقضي نحبها، وتدخل في عداد الغابرين.
ودخولها في عداد الغابرين إما أن يكون باستئصالها وإبادتها بالمرة من خريطة العالم كعاد وثمود، وغيرهما من شعوب العالم القديم، وإما أن يكون بالإدالة منها وإنزالها إلى درجة العبودية لغيرها، والتبعية الدائمة لسواها، فتصبح ذنبا من الأذناب، ولا يحسب لها بين الأمم أي حساب، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا :﴿ لكل أمة أجل، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾. أخرج أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل : من قلة نحن يومئذ ؟ قال : لا بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قيل وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت ).
ولا شك أن كتاب الله شفاء لما في النفوس والأرواح من الأمراض الباطنة، وشفاء لما في العقول والأفكار من الشكوك الكامنة، فهو الترياق المجرب في الخلوات والجلوات، وهو الإكسير الذي لا يماثله إكسير لعلاج جميع الأزمات.
ولا شك أن كتاب الله شفاء لما في النفوس والأرواح من الأمراض الباطنة، وشفاء لما في العقول والأفكار من الشكوك الكامنة، فهو الترياق المجرب في الخلوات والجلوات، وهو الإكسير الذي لا يماثله إكسير لعلاج جميع الأزمات.
وأخيرا طبع كتاب الله بخاتم القدرة الأزلية على وعد الله لأوليائه، بأنه وعد نافذ لا يلحقه إخلاف ولا تغيير، فقال تعالى :﴿ لا تبديل لكلمات الله ﴾ أي أن هذا الوعد مقرر وثابت وكائن لا محالة، بفضل الله وكرمه.
ووعد له هذه القوة وهذا التأكيد من الله تعالى هو أحق الوعود بأن يقال فيه بدءا وختاما ﴿ ذلك هو الفوز العظيم ﴾.
في المصحف الكريم
في هذا الربع تناول كتاب الله من بين قصص الأنبياء السابقين قصة نوح وقصة موسى عليهما السلام، تذكيرا لمشركي قريش ومن في معناهم من الغافلين الضالين، بما آل إليه أمر قوم نوح، وأمر فرعون وملائه، من جراء إصرارهم على الباطل، ورفضهم لقبول الرسالة الإلهية رفضا باتا، وتحذيرا لهم من أن ينالهم من العذاب ما نال الأمم الغابرة، إذا أصروا على رفض الدعوة الإلهية ولم يستجيبوا لله وللرسول.
فعن قصة نوح عليه السلام نبه كتاب الله إلى أن نوحا بعدما طالت إقامته بين قومه، وطال تذكيره لهم دون جدوى دعاهم إلى اتخاذ موقف صريح وحاسم تجاه الدعوة التي جاءهم بها، وأشعرهم بأنه لا ينبغي لهم الاستمرار على التردد والغموض، فإما أن يعلنوا قبول دعوته نهائيا، على أساس أن دعوته حق وصدق، وإما أن يعلنوا رفضها بالمرة، ويتحملوا جميع النتائج الناشئة عن وقوفهم في وجهها، وأخبرهم نوح عليه السلام أنه لا يتهيب أي موقف يتخذونه ضده، فهو متوكل على الله، معتصم بحبله، ممتثل لأمره، وأكد أنه لا يرمي من وراء دعوتهم إلى الله إلى أي مغنم مادي أو فائدة شخصية، بل إن كل همه منحصر في هدايتهم إلى الله تعالى، وكل أمله معلق على ثواب الله، وذلك قوله تعالى :﴿ واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي ﴾ أي إقامتي بين أظهركم ﴿ وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت، فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ﴾ أي لا تتركوا أمركم في التباس وغموض، بل افصلوا حالكم معي ﴿ ثم اقضوا إلي ولا تنظرون، فإن توليتم ﴾ أي رفضتم دعوة الله ولم تقبلوا طاعته ﴿ فما سألتكم من أجر ﴾ أي أنني لم أطلب منكم مقابل نصحي أي عوض من أي نوع كان، بل هو نصح خالص لله ولكم ﴿ إن أجري إلا على الله ﴾.
في المصحف الكريم
في هذا الربع تناول كتاب الله من بين قصص الأنبياء السابقين قصة نوح وقصة موسى عليهما السلام، تذكيرا لمشركي قريش ومن في معناهم من الغافلين الضالين، بما آل إليه أمر قوم نوح، وأمر فرعون وملائه، من جراء إصرارهم على الباطل، ورفضهم لقبول الرسالة الإلهية رفضا باتا، وتحذيرا لهم من أن ينالهم من العذاب ما نال الأمم الغابرة، إذا أصروا على رفض الدعوة الإلهية ولم يستجيبوا لله وللرسول.
فعن قصة نوح عليه السلام نبه كتاب الله إلى أن نوحا بعدما طالت إقامته بين قومه، وطال تذكيره لهم دون جدوى دعاهم إلى اتخاذ موقف صريح وحاسم تجاه الدعوة التي جاءهم بها، وأشعرهم بأنه لا ينبغي لهم الاستمرار على التردد والغموض، فإما أن يعلنوا قبول دعوته نهائيا، على أساس أن دعوته حق وصدق، وإما أن يعلنوا رفضها بالمرة، ويتحملوا جميع النتائج الناشئة عن وقوفهم في وجهها، وأخبرهم نوح عليه السلام أنه لا يتهيب أي موقف يتخذونه ضده، فهو متوكل على الله، معتصم بحبله، ممتثل لأمره، وأكد أنه لا يرمي من وراء دعوتهم إلى الله إلى أي مغنم مادي أو فائدة شخصية، بل إن كل همه منحصر في هدايتهم إلى الله تعالى، وكل أمله معلق على ثواب الله، وذلك قوله تعالى :﴿ واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي ﴾ أي إقامتي بين أظهركم ﴿ وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت، فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ﴾ أي لا تتركوا أمركم في التباس وغموض، بل افصلوا حالكم معي ﴿ ثم اقضوا إلي ولا تنظرون، فإن توليتم ﴾ أي رفضتم دعوة الله ولم تقبلوا طاعته ﴿ فما سألتكم من أجر ﴾ أي أنني لم أطلب منكم مقابل نصحي أي عوض من أي نوع كان، بل هو نصح خالص لله ولكم ﴿ إن أجري إلا على الله ﴾.
وقوله تعالى هنا على لسان نوح ﴿ وأمرت أن أكون من المسلمين ﴾ يؤكد الحقيقة الدينية والتاريخية الثابتة، وهي أن جميع الأنبياء والرسل قد بعثهم الله إلى عباده بنفس الدعوة، وبنفس العقيدة، والمراد " بالدعوة " الدعوة إلى الخير، و " بالعقيدة " عقيدة التوحيد، وهذه الدعوة وهذه العقيدة تتضمنهما معا كلمة " الإسلام " التي هي شعار دين الحق الوحيد المنزل من عند الله ﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ |آل عمران : ١٩|. ومصداقا لهذه الحقيقة ها هو كتاب الله يحكي لنا على لسان نوح :﴿ وأمرت أن أكون من المسلمين ﴾.
ويحكي لنا على لسان إبراهيم الخليل :﴿ إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين، وأوصى بها إبراهيم بنيه، ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ |البقرة : ١٣٢|.
ويحكي لنا على لسان يوسف :﴿ رب قد –آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ﴾ |يوسف : ١٠١|.
ويحكي لنا على لسان موسى :﴿ يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ﴾ |يونس : ٨٤|.
ويحكي لنا عن أنبياء بني إسرائيل :﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيئون الذين أسلموا ﴾ |المائدة : ٤٤|.
ويحكي لنا على لسان حواريي عيسى :﴿ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن –آمنوا بي وبرسولي، قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ﴾ |المائدة : ١١١|.
ويحكي لنا على لسان خاتم الأنبياء والمرسلين المسلم الأول في هذه الأمة :﴿ إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين ﴾ |الأنعام : ١٦٢، ١٦٣|.
ولعل من البديهي أن تكون عقيدة الإسلام واحدة ودعوته واحدة، رغما عن تباعد الأيام وتطاول القرون، وتعدد الأنبياء وكثرة الرسل، ما دام منبع الإسلام الأول والأخير منبعا وحيدا وواحدا لا يتعدد ولا يتبدل، ألا وهو الوحي الإلهي الصادر عن الله تعالى الواحد الأحد، خالق الكون ومدبر الأمر، الذي لا تبديل لكلماته، وكلماته كلها صدق وعدل ﴿ وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا ﴾ |الأنعام : ١١٥|.
ونبه كتاب الله إلى أن الحكمة في ذكر قصة نوح وما ماثلها إنما استخلاص العبرة، وضرب المثل بالواقع المحسوس، فقال تعالى :﴿ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ﴾.
والخطاب هنا وإن كان موجها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليطمئن إلى وعد الله، وإلى أن الله سينجي المؤمنين، وسيهلك المكذبين، هو موجه أيضا إلى مشركي قريش، وإلى كل من يسلك مسلكهم في التكذيب والعناد، والغفلة عن سلوك طريق الرشد، ليوقنوا بأن مصيرهم –إذا أصروا على ما هم عليه- هو الهلاك المحقق والعذاب الأليم، إذ ﴿ ما جرى على المثل يجري على المماثل ﴾.
والمهم من قصة موسى مع فرعون في هذا السياق هو تعريف المسلمين بأن السر في هلاك فرعون وقومه هو ما كان عليه فرعون من كبر واستعلاء، وما كان عليه هو وقومه من ظلم وإجرام، وما حاولوه من إخفاء الحق عن طريق السحر والشعوذة، مما جعلهم في عداد الهالكين الخاسرين، وأبقى قصتهم عبرة للأولين والآخرين، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملأه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين، فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين، قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ﴾ ؟. كما يشير إلى نفس المعنى قوله تعالى في نفس هذا الربع :﴿ وإن فرعون لعال في الأرض، وإنه لمن المسرفين ﴾.
والمهم من قصة موسى مع فرعون في هذا السياق هو تعريف المسلمين بأن السر في هلاك فرعون وقومه هو ما كان عليه فرعون من كبر واستعلاء، وما كان عليه هو وقومه من ظلم وإجرام، وما حاولوه من إخفاء الحق عن طريق السحر والشعوذة، مما جعلهم في عداد الهالكين الخاسرين، وأبقى قصتهم عبرة للأولين والآخرين، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملأه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين، فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين، قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ﴾ ؟. كما يشير إلى نفس المعنى قوله تعالى في نفس هذا الربع :﴿ وإن فرعون لعال في الأرض، وإنه لمن المسرفين ﴾.
والمهم من قصة موسى مع فرعون في هذا السياق هو تعريف المسلمين بأن السر في هلاك فرعون وقومه هو ما كان عليه فرعون من كبر واستعلاء، وما كان عليه هو وقومه من ظلم وإجرام، وما حاولوه من إخفاء الحق عن طريق السحر والشعوذة، مما جعلهم في عداد الهالكين الخاسرين، وأبقى قصتهم عبرة للأولين والآخرين، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملأه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين، فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين، قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ﴾ ؟. كما يشير إلى نفس المعنى قوله تعالى في نفس هذا الربع :﴿ وإن فرعون لعال في الأرض، وإنه لمن المسرفين ﴾.
والراجح أن فرعون موسى هو رمسيس الثاني من الأسرة التاسعة عشرة، الذي لا تزال جثته محفوظة حتى الآن، وهي معروضة في متحف الآثار بالقاهرة يشاهدها الزائرون ﴿ لتكون لمن خلفك آية، وإن كثيرا من الناس عن –آياتنا لغافلون ﴾.
والراجح أن فرعون موسى هو رمسيس الثاني من الأسرة التاسعة عشرة، الذي لا تزال جثته محفوظة حتى الآن، وهي معروضة في متحف الآثار بالقاهرة يشاهدها الزائرون ﴿ لتكون لمن خلفك آية، وإن كثيرا من الناس عن –آياتنا لغافلون ﴾.
والراجح أن فرعون موسى هو رمسيس الثاني من الأسرة التاسعة عشرة، الذي لا تزال جثته محفوظة حتى الآن، وهي معروضة في متحف الآثار بالقاهرة يشاهدها الزائرون ﴿ لتكون لمن خلفك آية، وإن كثيرا من الناس عن –آياتنا لغافلون ﴾.
عند تحليل أغلب الآيات الكريمة الواردة في هذا الربع ضمن القسم الأخير من سورة يونس المكية نجدها دائرة حول موضوع واحد هو موضوع الإيمان، وما يعترض طريقه من شك وتردد، وتعصب وجهل، وغفلة واستهتار، ونجد كتاب الله يوجه الخطاب إلى كل إنسان يشك في صدق الرسالة الإلهية، الموكول تبليغها إلى خاتم النبيئين والمرسلين، يدعوه إلى استفسار أهل العلم المطلعين على تاريخ الرسالات السابقة، فإنه إذا اطلع على تاريخها ومضمونها لم يجد أدنى صعوبة في تصديق " الرسالة الخاتمة " التي ختم الله بها جميع الرسالات، بل إنه ليقتنع بأنها لب اللباب من الرسالات كلها، وبأنها آخر مرحلة وأعلى قمة انتهى إليها الوحي الإلهي، لهداية البشرية في سيرها الحاضر والمستقبل، نحو الرقي الحقيقي، والتطور الشامل، والسعادة الكاملة.
وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى :﴿ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ﴾ أي إن كنت أيها الإنسان لا تزال في شك مما أنزلنا من القرآن لهدايتك وإرشادك ﴿ فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك، لقد جاءك الحق من ربك، فلا تكونن من الممترين ﴾ أي الشاكين، من " الامتراء " وهو الشك ﴿ ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ﴾.
فالخطاب في هذه الآية ليس موجها إلى الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، ولو على وجه الفرض والتقدير، إذ لا يتصور في حق الرسول أي شك أو امتراء أو تكذيب، ولذلك لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا أشك ولا أسأل ) كما روى ذلك قتادة بن دعامة، أي أنه عليه الصلاة والسلام غير داخل تحت هذا الخطاب مطلقا، وإنما الخطاب موجه إلى من يتصور فيه الشك والامتراء والتكذيب من المشركين والمنافقين وضعفاء الإيمان، وموجه كذلك إلى عامة اليهود والنصارى من أهل الكتاب الذين يجد أحبارهم ورهبانهم وصف الرسالة والرسول مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
وهؤلاء إما أن يكون شكهم تلقائيا صادرا عن مجرد الجهل، فهم مدعوون بهذا الخطاب إلى سؤال أهل العلم واستفسارهم، حتى يزول شكهم، على حد قوله تعالى في آية أخرى ﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾ |النحل : ٤٣| وبذلك يرتفع شكهم، ويتأكد إيمانهم.
وإما أن يكون شكهم صادرا عن تعمد الإنكار والإصرار، فيكون الخطاب موجها إليهم على وجه الزجر والتقريع، لأنهم يجادلون في أمر ثابت لا محل فيه للجدل والمراوغة ﴿ قل ما كنت بدعا من الرسل ﴾ |الأحقاف : ٩|.
عند تحليل أغلب الآيات الكريمة الواردة في هذا الربع ضمن القسم الأخير من سورة يونس المكية نجدها دائرة حول موضوع واحد هو موضوع الإيمان، وما يعترض طريقه من شك وتردد، وتعصب وجهل، وغفلة واستهتار، ونجد كتاب الله يوجه الخطاب إلى كل إنسان يشك في صدق الرسالة الإلهية، الموكول تبليغها إلى خاتم النبيئين والمرسلين، يدعوه إلى استفسار أهل العلم المطلعين على تاريخ الرسالات السابقة، فإنه إذا اطلع على تاريخها ومضمونها لم يجد أدنى صعوبة في تصديق " الرسالة الخاتمة " التي ختم الله بها جميع الرسالات، بل إنه ليقتنع بأنها لب اللباب من الرسالات كلها، وبأنها آخر مرحلة وأعلى قمة انتهى إليها الوحي الإلهي، لهداية البشرية في سيرها الحاضر والمستقبل، نحو الرقي الحقيقي، والتطور الشامل، والسعادة الكاملة.
وقوله تعالى في هذا السياق ﴿ إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ﴾ ليس المراد منه أن الله سبحانه وتعالى يحول بين فريق من الناس وبين الإيمان، فالله تعالى قد هدى الإنسان النجدين، وعرفه طريق الخير من طريق الشر، ومكنه من جميع الوسائل لتمييز الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وأعطاه من القدرة والإرادة ما يستطيع بواسطتهما أن يرجح كفة على أخرى، وأن يختار الطريق الذي يريد سلوكه، وأن يفضل من الأعمال والتصرفات ما يرغب في تفضيله، وذلك هو محور التكليف، ومناط الثواب والعقاب.
وإنما المراد بهذه الآية وما ماثلها أن هناك طائفة من الناس قد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، فلم ينفع فيهم ترغيب ولا ترهيب، واختاروا عن عمد وإصرار طريق الهلاك والبوار، فلم يبق في قلوبهم –بعدما خيم عليها الظلام- أي منفذ للنور، وأصبحت الموعظة بالنسبة إليهم كالضرب في حديد بارد لا أثر لها ولا نفع، فهؤلاء ﴿ لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ﴾ لأنهم يكذبون بالآيات جميعها، ويسخرون منها كلها، وإنما يؤمنون في حالة واحدة وعن اضطرار، لا عن اقتناع، وذلك عندما يرون عذاب الله نازلا بساحتهم، وهو منهم قاب قوسين أو أدنى، فهم لا يؤمنون ﴿ حتى يروا العذاب الأليم ﴾. غير أن هذا النوع من الإيمان الاضطراري في آخر لحظة لا ينفع أصحابه، ومثله التوبة عند الاحتضار وغرغرة الموت لا تنفع صاحبها، كما لم ينفع فرعون إيمانه عندما أدركه الغرق :﴿ الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ﴾.
والمهم من قصة موسى مع فرعون في هذا السياق هو تعريف المسلمين بأن السر في هلاك فرعون وقومه هو ما كان عليه فرعون من كبر واستعلاء، وما كان عليه هو وقومه من ظلم وإجرام، وما حاولوه من إخفاء الحق عن طريق السحر والشعوذة، مما جعلهم في عداد الهالكين الخاسرين، وأبقى قصتهم عبرة للأولين والآخرين، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملأه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين، فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين، قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ﴾ ؟. كما يشير إلى نفس المعنى قوله تعالى في نفس هذا الربع :﴿ وإن فرعون لعال في الأرض، وإنه لمن المسرفين ﴾.
ومضى كتاب الله في نفس السياق يتحدث عن الأمم الغابرة التي كذبت بآيات الله، فأخذها الله أخذا وبيلا، ولم ينفعها إيمانها الاضطراري في آخر لحظة، عند نزول العقاب، وحلول العذاب، اللهم إلا قوم يونس، فإنهم –بمجرد ما فقدوا نبيهم- إذ ذهب مغاضبا لهم- أحسوا بأن عذاب الله قد أخذ يقترب من ساحتهم، فبادروا بالتوبة إلى الله توبة نصوحا، بصدق وندم، قبل أن يدركهم العذاب، والتجأوا إلى الله أربعين ليلة يرتجون عفوه، ويسألون لطفه، خاشعين مهطعين، فلم يصبهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم يونس من قبل، لأنهم تداركوا أمره بالتوبة دون تأخير، وما كاد يونس يعود إليهم حتى وجدهم قد تابوا وآمنوا ﴿ فآمنوا فمتعناهم إلى حين ﴾ |الصافات : ١٤٨| وذلك قوله تعالى في هذا الربع ﴿ فلولا كانت قرية –آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا ﴾ أي لما آمنوا في الوقت المناسب قبل نزول العذاب ﴿ كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ﴾ أي حلنا بينهم وبين العذاب، بسبب إيمانهم وتوبتهم قبل حلول العذاب، وذلك على خلاف ما فعله غيرهم، حيث لم يؤمنوا إلا عند حلول العذاب لا قبله، فلم ينفعهم إيمانهم في اللحظة الأخيرة، لأنه إيمان مطعون فيه صادر عن اضطرار وإجبار، لا عن اقتناع واختيار ﴿ ومتعناهم إلى حين ﴾ أي متعنا قوم يونس إلى حين انتهاء آجالهم.
وبهذا التفسير يتضح أن الاستثناء الوارد في قوله تعالى :﴿ إلا قوم يونس ﴾ هو من باب الاستثناء المنقطع بمعنى :﴿ ولكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم العذاب ﴾.
وقوله تعالى :﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ﴾ معناه أن الله تعالى لو أراد لحمل الناس على الإيمان واضطرهم إليه غاية الاضطرار، ولم يترك لهم في شأنه أي اختيار، ولجعل الإنسان كباقي الحيوانات العجماء مسوقا من ورائه بسوط القهر والإجبار، وحينئذ يصبح الإنسان مجبرا على الطاعة، مكرها على الإيمان، فاقدا لأخص خصائص الإنسان، لكن الله تعالى أراد أن يخلق الإنسان على خلاف غيره من الحيوانات، فخلقه حرا مختارا، وأعطاه من الأجهزة والملكات الخاصة به ما يمكنه من النظر والاختيار، ولا ينزل به إلى مستوى القهر والاضطرار، حتى يكون له في نظره الخاص ميزة، وفي اختياره الخاص فضل، وحتى يكون للتكليف والمسؤولية أساس مفهوم، ومبرر معقول، ومن أجل الملكة الإنسانية –ملكة التقدير الشخصي والاختيار الحر، التي ميز الله بها الإنسان عن باقي الحيوان- اختار بعض الناس الإيمان دون الكفر، واختار بعضهم العكس، ومن أجل ذلك كان جزاء حسن الاختيار الثواب العظيم، وجزاء سوء الاختيار العذاب الأليم.
وبهذا التفسير يتضح أيضا معنى قوله تعالى في آية أخرى ﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين ﴾ |هود : ١١٨| وذلك لاختلاف أفكارهم، وحسن أو سوء اختيارهم.
وقوله تعالى :﴿ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ﴾ خطاب من الله إلى رسوله، القصد منه تهدئة روعه وطمأنينة نفسه، فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق، إلى حد أنه كان يحزن أشد الحزن إذا لم تنفع في بعضهم الموعظة الحسنة، ولم تؤثر فيهم الحجة البالغة ﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ﴾ |الشعراء : ٣|.
وليس المراد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحاول فعلا إكراه غير المؤمنين على الإيمان، فهو أعلم الناس عن ربه بأنه ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ |البقرة : ٢٥٦|.
نعم في هذه الآية تلقين من الله لعباده المؤمنين أن يبينوا للناس ما نزل إليهم، ويمكنوهم من وسائل الإيمان حتى تقوم الحجة عليهم، ثم يتركوا لهم بعد ذلك الخيار، فإن أرادوا الإيمان أقبلوا عليه عن طواعية واختيار.
وتأكيدا لهذا المعنى وتركيزا له في الأذهان قال تعالى مخاطبا لرسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم ﴿ قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ﴾ فهو من جهة أولى يمتنع من أن يعبد آلهة لا يؤمن بوجودها فضلا عن أن يؤمن بأحقيتها للعبادة، وهو من جهة ثانية لا يترك دينه الذي وثق به كل الثقة واطمأن إليه كل الاطمئنان، من أجل أن الآخرين لا يزالون يشكون في صحته، فشك الشاك لا يبطل إيمان المؤمن ولا يؤثر عليه، لكنه من جهة ثالثة لم يفرض على الشاكين أن يؤمنوا بدينه قهرا وجبرا، وإنما لفت أنظارهم إلى أن الله الذي يعبده هو وحده الذي بيده أرواحهم، وهو الذي يتوفاهم متى شاء ﴿ ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم، وأمرت أن أكون من المؤمنين ﴾.
وزيادة في تأكيد مبدأ حرية الاعتقاد، وضمان هذه الحرية، بعد القيام بواجب الدعوة، وعلاوة على مضمون الآيات السابقة، وجه الحق سبحانه وتعالى في ختام هذه السورة –سورة يونس المكية- خطابه إلى نبيه ملقنا ومعلما له ولأمته ﴿ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل ﴾.
ويتفق مع هذا قوله تعالى في آية ثانية :﴿ فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر ﴾ |الغاشية : ٢١، ٢٢| وقوله تعالى في آية ثالثة :﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾ |الرعد : ٤٠|.
وقوله تعالى :﴿ واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين ﴾ وعد سابق من الله لرسوله وهو لا يزال بمكة يكافح الشرك والمشركين، بما سيناله دينه من الظهور على بقية الأديان، وبما سيناله أتباعه من نصر مؤزر وفتح قريب في مختلف الأقطار والبلدان. وقد حقق الله وعده، وهزم الأحزاب وحده، ومكن من مقاليد العالم جنده ﴿ أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون ﴾ |المجادلة : ٢٢|.
غير أن هذا الوعد الإلهي في أصله مشروط بثلاثة شروط :
الشرط الأول : إتباع الوحي الإلهي، وعدم التنكب عن طريقه أو الخروج عن هدايته ﴿ واتبع ما يوحى إليك ﴾.
والشرط الثاني : الصبر على تحمل متاعب الأمانة الإلهية والقيام بتكاليفها وأعبائها الثقيلة، عن وعي ويقظة، ودون هوادة ولا تهاون ﴿ واصبر ﴾.
والشرط الثالث : التأهب لاغتنام الفرصة المواتية، وعدم تضييعها متى حان أوان انتهازها ﴿ واصبر حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين ﴾.