تفسير سورة القارعة

فتح البيان
تفسير سورة سورة القارعة من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة القارعة
وهي ثماني آيات، وقيل : إحدى عشرة آية، وقيل : عشر آيات. وهي مكية بلا خلاف. قال ابن عباس : نزلت بمكة.

(القارعة) هي من أسماء القيامة، قاله ابن عباس لأنها تقرع القلوب بالفزع، وتقرع أعداء الله بالعذاب. والعرب تقول قرعتهم القارعة إذا وقع بهم أمر فظيع. وقيل أصل القرع الصوت الشديد، ومنه قوارع الدهر، وسميت قارعة بصوت إسرافيل لأنه إذا نفخ في الصور مات جميع الخلائق من شدة صوت نفخته وهي مبتدأ وخبره
(ما القارعة).
قرأ الجمهور بالرفع وقريء بنصبها على تقدير احذروا القارعة، والإستفهام للتفخيم والتعظيم لشأنها كما تقدم بيانه في قوله (الحاقة ما الحاقة) وقيل معنى الكلام على التحذير.
قال الزجاج والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب، والحمل على معنى التفخيم والتعظيم أولى ويؤيده وضع الظاهر موضع المضمر، فإنه أدل على هذا المعنى ويؤيده أيضاًً قوله:
(وما أدراك ما القارعة) فإنه تأكيد لشدة هولها ومزيد فظاعتها حتى كأنها خارجة عن دائرة علوم الخلق بحيث لا تنالها دراية أحد منهم، وما الإستفهامية مبتدأ وإدراك خبرها، وما القارعة مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني، والمعنى وأي شيء أعلمك ما شأن القارعة.
359
ثم بين سبحانه متى تكون القارعة فقال
360
(يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) إنتصاب الظرف بفعل محذوف تدل عليه القارعة أي تقرعهم يوم يكون إلخ، ويجوز أن يكون منصوباً بتقدير أذكر.
وقال ابن عطية ومكي وأبو البقاء هو منصوب بنفس القارعة وقيل هو خبر مبتدأ محذوف وإنما نصب لإضافته إلى الفعل، فالفتحة فتحة بناء لا فتحة إعراب أي هي يوم يكون إلخ وقيل التقدير ستأتيكم القارعة يوم يكون إلخ.
وقرأ زيد بن على برفع يوم على الخبرية للمبتدأ المقدر. والفراش الطير الذي تراه يتساقط في النار والسراج، الواحدة فراشة كذا قال أبو عبيدة وغيره.
قال الفراء الفراش هو الطائر من بعوض وغيره ومنه الجراد قال وبه يضرب المثل في الطيش والهوج، يقال أطيش من فراشة.
والمراد بالمبثوث المتفرق المنتشر يقال بثه إذا فرقه. ومثل هذا قوله سبحانه في آية أخرى (كأنهم جراد منتشر).
وقال المبثوث ولم يقل مبثوثة لأن الكل جائز كما في قوله (أعجاز نخل منقعر) (أعجاز نخل خاوية) وقد تقدم بيان وجه ذلك.
وفي تشبيه الناس بالفراش مبالغات شتى منها الطيش الذي يلحقهم وإنتشارهم في الأرض وركوب بعضهم بعضاً. والكثرة والضعف والتذلل إجابة الداعي من كل جهة والتطاير إلى النار.
(وتكون الجبال) بعد أن تتفتت كالرمل السائل (كالعهن المنفوش) كالصوف الملون بالألوان المختلفة الذي نفش بالندف. والعهن عند أهل اللغة الصوف المصبوغ بالألوان المختلفة، وقد تقدم بيان هذا في سورة (سأل سائل) وقد ورد في الكتاب العزيز أوصاف للجبال يوم القيامة، وقد قدمنا بيان الجمع بينها.
360
ثم ذكر سبحانه أحوال الناس وتفرقهم فريقين على جهة الإجمال فقال: "
361
(فأما من ثقلت موازينه) " بإتباعه الحق، وقد تقدم القول في الميزان في سورة الأعراف وسورة الكهف وسورة الأنبياء، وقد اختلف فيها هنا فقيل هي جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، وبه قال الفراء وغيره وقيل هي جمع ميزان وهو الآلة التي توضع فيها صحائف الأعمال، وعبر عنه بلفظ الجمع كما يقال لكل حادثة ميزان. وقيل المراد بالموازين الحجج والدلائل.
(فهو في عيشة) " حياة " (راضية) " طيبة أو مرضية " فهو إسناد مجازي أو استعارة مكنية وتخييلية أو هي بمعنى المفعول على التجوز في الكلمة نفسها، قال الزجاج: أي ذات رضا يرضاها صاحبها يعني أنها للنسب.
وقيل المعنى فاعلة للرضاء وهو اللين والإنقياد لأهلها، والعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة.
(وأما من خفت موازينه) " أي رجحت سيئاته على حسناته أو لم تكن له حسنات يعتد بها "
(فأمه هاوية) " أي فمسكنه جهنم وسماها أمه لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه، والهاوية من أسماء جهنم، وهي آخر الطبقات السبع وسميت هاوية لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها، والمهوى والمهواة ما بين الجبلين، وتهاوى القوم في المهواة إذا سقط بعضهم في إثر بعض.
قال قتادة يعني فمصيره إلى النار، قال عكرمة لأنه يهوي فيها على أم رأسه، قال الأخفش أمه مستقرة، قال ابن عباس هاوية كقوله هوت أمه، وعن عكرمة قال أم رأسه هاوية في جهنم.
قال الخطيب أي نار نازلة سافلة جداً فهو بحيث لا يزال يهوي فيها نازلاً فهو في عيشة ساخطة فالآية من الإحتباك: ذكر العيشة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً وذكر الأم ثانياً دليلاً على حذفها أولاً.
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
361
(إذا مات المؤمن تلقته أرواح المؤمنين يسألونه ما فعل فلان، ما فعلت فلانة فإذا كان مات ولم يأتهم قالوا خولف به إلى أمه الهاوية فبئست الأم وبئست المربية) وأخرج ابن مردويه من حديث أبي أيوب الأنصاري نحوه، وأخرج ابن المبارك من حديثه نحوه أيضاًً.
وبقي قسم ثالث غير مذكور في الآية وهو من استوت حسناته وسيئاته، قال المناوي من رجحت حسناته بسبب زيادتها على السيئات فهو في الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فيحاسب حساباً يسيراً، ومن رجحت سيئاته على حسناته أي بسبب زيادتها فيشفع فيه أو يعذب.
362
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ) هذا الإستفهام للتهويل والتفظيع ببيان أنها خارجة عن العهود بحيث لا تحيط بها علوم البشر، ولا تدري كنهها، والضمير يعود إلى الهاوية والهاء للسكت.
ثم بينها سبحانه بقوله
(نار حامية) أي قد انتهى حرها وبلغ في الشدة إلى الغاية، وارتفاع نار على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي نار حامية، نعوذ بالله منها.
362
سورة التكاثر
هي ثمان آيات وهي مكية عند الجميع وروى البخاري أنها مدنية: قال ابن عباس نزلت بمكة.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم "، قالوا ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم، قال " أما يستطيع أحدكم أن يقرأ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) " أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب، قال المنذري رجال إسناده ثقات إلاّ أن عقبة لا أعرفه.
وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " من قرأ في ليلة ألف آية لقي الله وهو ضاحك في وجهه قيل يا رسول الله ومن يقوى على ألف آية فقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) إلى آخرها ثم قال والذي نفسي بيده إنها لتعدل ألف آية " أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي.
وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عبد الله بن الشخير قال: " انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يقرأ
363
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)، وفي لفظ وقد أنزلت عليه (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) وهو يقول: " يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مال إلا ما أكلت فأفنيت " وأخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة ولم يذكر فيه قراءة هذه السورة ولا نزولها بلفظ " يقول العبد مالي مالي وإنما له من ماله ثلاثة ما أكل فأفنى وما لبس فأبلي وما تصدق فأبقى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ".
وعن جرير بن عبد الله قال: قال لنا رسول الله - ﷺ -: " إني قارئ عليكم سورة (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) فمن بكى فله الجنة " فقرأها فمنا من بكى، ومنا من لم يبك فقال الذين لم يبكوا قد جهدنا يا رسول الله أن نبكي فلم نقدر عليه، فقال " إني قارئها عليكم الثانية فمن بكى فله الجنة، ومن لم يقدر أن يبكي فليتباك " أخرجه البيهقي في الشعب وضعفه، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول.
364

بسم الله الرحمن الرحيم

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦)
365
Icon