تفسير سورة النّور

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة النور من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة النور.
في السورة فصول عديدة في التشريع والتأديب حيث تتضمن تشريعات بشأن جريمة الزنا والقذف. وإشارة إلى حادث الإفك الذي قذفت به أم المؤمنين عائشة وآثاره ومواعظ وتنديدات وتنبيهات في سياقه. ودعوة إلى التعفف وتجنب أسباب الفتنة. وتعليمات في آداب الدخول على البيوت. واحتشام النساء في اللباس والتزين وتوقي أسباب الإغراء. وحثا على تزويج العزاب من الرجال والنساء والمماليك. وتقريرات لعظمة الله وآثاره ونوره وهداه. وتنويها بالمخلصين المهتدين وتنديدا بالكافرين وما يرتكسون فيه من الظلمات التي تحبط أعمالهم.
وتنديدا بمواقف مرضى القلوب في التحاكم إلى النبي والدعوة إلى الجهاد والاستخفاف بمجالسه ودعوته وإنذارا لهم. وتوطيدا لسلطان النبي السياسي والقضائي ووعدا بنصر الله وتمكينه في الأرض لمن آمن وأخلص وأحسن العمل.
وتعليمات في آداب الأكل وتيسيرا فيها.
وفصول السورة على تعددها مترابطة ترابطا موضوعيا أو زمنيا. وهذا يسوغ القول : إنها نزلت في ظروف متقاربة ورتبت على الوجه الذي جاءت عليه في السورة بسبب ذلك. هذا مع احتمال أن يكون بعض فصولها نزلت قبل بعض فصول في سور متقدمة عليها في الترتيب ؛ حيث روي أن وقعة المريسيع مع بني المصطلق التي كان حديث الإفك في مناسباتها وقعت قبل وقعة الخندق مع أن وقعة الخندق أو الأحزاب ذكرت في سورة الأحزاب١ وحيث يمكن أن يقال إذا صحت تواريخ الوقائع : إن فصول السورة قد رتبت متأخرة نوعا ما والله أعلم.
وترتيب السورة في المصحف الذي اعتمدناه يأتي بعد سورة الحشر، ولما كنا رجحنا نزول السورة الحشر قبل سورة الأحزاب وقدمناها عليها فقد صار ترتيبها بعد سورة البينة مباشرة على أننا نقول مع ذلك كله إنه ليس هناك قرينة قوية تسمح بترجيح كون أي فصل من فصول السيرة نزل بعد وقعة الخندق أو الأحزاب. وإن هذا قد يسيغ احتمال أن تكون فصول السيرة كلها نزلت قبل سورة الأحزاب وفي ظروف وقعة المريسيع وبني المصطلق وبعدها أيضا والله تعالى أعلم.
١ انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٠٤ و ١٠٨ وما بعدهما.

فرضناها : فرضنا أحكامها أو أجبناها.
بسم الله الرحمان الرحيم.
﴿ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ١ ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢ ) ﴾
مطلع السورة فريد، وقد احتوت الآية الأولى تنويها بالسورة وما فيها من أحكام فرضها الله استهدافا لتذكير المخاطبين الذين هم المسلمون على ما هو المتبادر وتبصيرهم أما الآية الثانية فقد احتوت تشريعا في حد الزنا فأوجبت جلد الزانية والزاني مائة جلدة، في مشهد علني يشهده فريق من المؤمنين وشددت في عدم التهاون في إقامة هذا الحد وفي طريقة تنفيذه وعدم الرأفة بالمجرمين وجعلت ذلك دليلا على إيمان المؤمنين بالله واليوم الآخر بسبيل توكيده.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:فرضناها : فرضنا أحكامها أو أجبناها.
بسم الله الرحمان الرحيم.
﴿ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ١ ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢ ) ﴾
مطلع السورة فريد، وقد احتوت الآية الأولى تنويها بالسورة وما فيها من أحكام فرضها الله استهدافا لتذكير المخاطبين الذين هم المسلمون على ما هو المتبادر وتبصيرهم أما الآية الثانية فقد احتوت تشريعا في حد الزنا فأوجبت جلد الزانية والزاني مائة جلدة، في مشهد علني يشهده فريق من المؤمنين وشددت في عدم التهاون في إقامة هذا الحد وفي طريقة تنفيذه وعدم الرأفة بالمجرمين وجعلت ذلك دليلا على إيمان المؤمنين بالله واليوم الآخر بسبيل توكيده.


تعليق على حد الزنا الوارد في الآية الثانية
وما ورد في ذلك مع تمحيص موضوع الرجم.
لم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيات ولقد ورد في الآيتين ( ١٥ / ١٦ ) من سورة النساء خطوة أولى في صدد الزناة على ما مر شرحه. والمتبادر أن حكمة التنزيل التي اقتضت أن تكون الخطوة الأولى ما ورد في تلك السورة رأت الوقت قد حان للخطوة الثانية التي احتوتها الآية الثانية. ولعل أحداثا وقعت فكان ذلك المناسبة ولقد كان النساء اللاتي يأتين الفاحشة يحسبن في بيوتهن وقتا للخطوة الأولى إلى أن يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا بناء على ما جاء في آيتي سورة النساء. ومن المحتمل أنه صار شيء من الحرج في صدد ذلك. وقد روى حديث نبوي سنورد نصه بعد قليل جاء فيه ( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا... ) مما قد يكون فيه تفسير أو تأييد لما نقول.
وجمهور المفسرين١ وأئمة الفقه مجمعون على أن الحد المذكور في الآية الثانية على العزاب غير المتزوجين مع زيادة مختلف عليها وهي ( نفي سنة ) حيث يأخذ بها بعضهم دون بعض. وأن الحد الشرعي على المحصنين المتزوجين هو الرجم حتى الموت مع زيادة مختلف عليها كذلك وهي مائة جلدة قبل الرجم.
ويستندون في ذلك إلى أحاديث عديدة. ومن جملتها أحاديث مروية عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه تفيد أن الرجم حكم قرآني نسخ تلاوة وبقي حكما.
من ذلك حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن عبادة ابن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أشرنا إليه قبل قليل قال :( خذوا عني خذوا عني. قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ) ٢ وحديث ثان رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلاه إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة ) ٣ وحديث ثالث رواه البخاري والنسائي عن زيد ابن خالد قال ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر في من زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام ) ٤ وحديث رابع رواه الخمسة جاء فيه ( إن ماعزا الأسلمي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنه قد زنى فأعرض عنه ثم جاء من شقه الآخر فقال : إنه قد زنى فأمر به في الرابعة فأخرج إلى الحرة فرجم بالحجارة. فلما وجد مس الحجارة فر يشتد، فلقيه رجل معه لحي فضربه به وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك للنبي فقال " هلا تركتموه وفي رواية قال له : أبك جنون ؟ قال : لا وفي أخرى لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت قال : لا قال : أأحصنت ؟ قال : نعم فأمر برجمه. وفي رواية فاختلفت فيه الصحابة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم٥.
وحديث خامس رواه الخمسة جاء فيه ( أن رجلا أعرابيا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله فقال الخصم وهو أفقه منه : نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، فأذن له فقال : إن بني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، وسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجل الرجم، فقال رسول الله : لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرجمها ) ٦ ومن الأحاديث المروية عن عمر حديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال ( قال عمر وهو على منبر رسول الله : إن الله قد بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، ورجم رسول الله ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ) ٧. وحديث ثان رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال ( خطب عمر ابن الخطاب فذكر الرجم فقال : إنا لا نجد من الرجم بدا، فإنه حد من حدود الله، ألا وإن رسول الله قد رجم ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائلون : إن عمر زاد في كتاب الله ما ليس فيه لكتبت في ناحية من المصحف ) ٨ وحديث ثالث رواه الإمام أحمد عن عمر أنه قال ( إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ) ٩ وحديث رابع رواه الحافظ أبو يعلى عن ابن عمر قال نبئت عن كثير ابن الصلت قال : كنا عند مروان وفينا زيد فقال زيد ابن ثابت : كنا نقرأ ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ) قال مروان ألا كتبتها في المصحف. قال ذكرنا ذلك وفينا عمر ابن الخطاب فقال : أنا أشفيكم من ذلك قال : قلنا : كيف ؟ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر كذا وكذا وذكر الرجم فقال : يا رسول الله اكتب لي آية الرجم قال : لا أستطيع الآن أو نحو ذلك ) ١٠ وقد روى الإمام أحمد في صدد نص آية الرجم، حديثا آخر عن أبي ذر قال ( قال لي أبي كعب كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها ؟ قال قلت ثلاثا وسبعين آية. فقال قط قد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ولقد قرأنا فيه ( الشيخ والشيخة، إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) ١١ وقد روى السيوطي في الإتقان عن الليث ابن سعد في سياق رواياته عن تدوين القرآن في خلافة أبي بكر أن زيد ابن ثابت كان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل، وأن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها ؛ لأنه كان وحده وأن أبا خزيمة ابن ثابت جاء بآخر سورة براءة ولم يكن معه شاهد فقبلها منه وقال : إن رسول الله جعل شهادته بشهادة رجلين١٢.
والذي نلحظ في صدد كون الرجم حكما قرآنيا نسخ تلاوة وبقي حكما وما ورد في ذلك :
أولا : إن نسخ حكم قرآني تلاوة مع بقائه حكما لا يمكن أن يفهم له حكمة وبخاصة في حد تشريعي خطير مثل حد الرجم.
ثانيا : إن النص المروي للآية مختلف فيه من جهة الرجم  والرجم فيه خاص بالشيخ والشيخة، ودون توضيح كونهما محصنين أو غير محصنين من جهة أخرى في حين أن أحاديث عمر تفيد أن الرجم عام على المحصن، وأن الأحاديث المروية عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم بعض الزنا المحصنين لا تخصص الشيوخ فقط بل وليس فيها شيوخ.
ثالثا : إن عمر أعدل من أن ترفض شهادته في صدد تدوين آية. وأقوى من أن يسكت عن ذلك. إذا كان متأكدا من قرآنيتها ومن كون النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم تنسخ تلاوة وحكما. وهو الذي اقترح كتابة المصحف من جديد على أبي بكر وكان المشرف على ذلك ما روته الروايات١٣.
وكل هذا يجعلنا نتوقف عن الأخذ بأن الرجم تشريع قرآني قائم الحكم بهذه الصفة كما قد تفيد الأحاديث المروية عن عمر رضي الله عنه إلا أن يقال : إن قرآنا نزل بالرجم ثم نسخ ثم بدا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يشرعه للجميع على المحصنين فلا يقتصر على الشيخ والشيخة ولا يبقى مطلقا بحيث يكون للمحصنين وغير المحصنين.
ويكون والحكمة هذه تشريعا نبويا. ويكون ما روي عن عمر هو باعتبار ما كان أصلا وثبته النبي بعد نسخ قرآنيته لأن هذا لم يكن واضحا وعاما لا باعتبار الحال الراهن الذي هو تشريع نبوي. وقد يصح الاستئناس بحديث الحافظ أبي يعلى الذي فيه خير عدم استجابة النبي صلى الله عليه وسلم لطلب كتابة آية الرجم في مجلس فيه عمر نفسه، وهو رواية حيث يكون في ذلك قرينة على أن آية الرجم بصيغتها المروية قد نسخت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك فهناك ما يمكن أن يقال أيضا : فإن آية النساء ( ٢٥ ) ذكرت أنم حد الأمة إذا زنت بعد إحصانها هو نصف حد المحصنة. وعبر عن الحد في هذه الآية ( بالعذاب ) ولما لم يرد في القرآن حد قابل للتصنيف إلا ما ذكر في آية النور فالمعقول أن تكون آية النساء قد نزلت بعد هذه الآية وعطفت عليها. والجمهور على أن حد الأمة المحصنة هو خمسون جلدة. وهذا ثابت في أحاديث أوردناها في سياق التفسير الآية المذكورة. وهذا يقتضي أن يكون ( الجلد مائة ) هو المحكم القرآني للزانية المحصنة الحرة. وما يجدر بالذكر أن الذين أجمعوا على صحة حكم الرجم وجدوا إشكالا في هذا الأمر فقالوا : إن حد الأمة المحصنة هو نصف الحد الوارد في آية النور وهو خمسون جلدة وعللوا ذلك بأن حد الرجم لا يتنصف. والتعليل وإن كان معقولا فإن النقطة التي تلفت النظر في الأمر هي أن حد الأمة مستند في أصله إلى تشريع قرآني قائم في آيتي النساء والنور. ومن ناحية ثانية، فإن المتبادر المعقول أن يكون حديث عبادة ابن الصامت قد صدر قبل نزول آية النور بإلهام رباني للإجابة على سؤال أو رفع الحرج وإنهائه عن إمساك النساء في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ؛ لأنه لا تفهم حكمة صدوره في نفس الوقت الذي نزلت فيه الآية ؛ لأنها احتوت الحكم الموعود. ولا تفهم حكمة الزيادة على ما احتوته. ولا تفهم حكمة صدوره بعبارته المروية بعد نزولها ؛ لأن ما أريد التنبيه إليه قد نزل قرآنا. فإذا صح ما نقول تكون الآية قد نسخت من التشريع النبوي السابق عليها ما زاد على ما احتوته من تشريع عام للزناة إطلاقا بدون تفريق بين المحصنين وأبكار وهو جلد مائة جلدة. دون تغريب سنة لغير المحصن والرجم للمحصن. وهذا ما قد يحمل على الظن بأن الأحاديث الأخرى التي تعين الرجم للزناة المحصنين والتي ذكرت بعض وقائع رجمهم هي الأخرى قد صدرت قبل آية النور. وفي حديث رجم ماعز نقطة هامة وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخبره بما كان من فراره وملاحقته وضربه حتى مات :( هلا تركتموه ) حيث يفيد هذا أنه كان يود لو اكتفى بما وقع عليه من رجم وتركه حينما فر دون أن يموت.
غير أن ما روته الروايات العديدة من أن حلفاء النبي رجموا الزناة المحصنين ومن ذلك حديث عمر الذي رواه الخمسة والذي جاء فيه ( رجم رسول الله ورجمنا بعده ) ثم ما أجمع عليه أئمة الفقه بناء على ذلك من أن عقوبة الزناة المحصنين هي الرجم يجعلنا نقول : إن خلفاء رسول الله لا يمكن أن يكونوا فعلوا ذلك لو لم يكونوا على يقين بأن النبي قد سن سنة الرجم وأمر بتنفيذها بعد نزول سورة النور ومات دون أن ينسخها وهي بعد لا تتناقض مع النص القرآني الذي جاء مطلقا، شأن سائر التشريعات النبوية في صدد ما سكت عنه القرآن أو ذكره مطلقا والله اعلم.
هذا، وبين المذاهب خلاف في جمع الجلد والتغريب لغير المحصنين والجلد والرجم للمحصن ؛ حيث يقول بعضهم بالجمع ولا يقول بذلك بعضهم.
وفي حديث ماعز لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلده وإنما أمر برجمه وهذا أيضا وارد في حديث رجم المرأة. وقد استند الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى ذلك في حق المحصن فقالوا بالرجم دون الجلد١٤ وشذ عنهم الحنبلي لأن الجلد حكم قرآني والرجم سنة نبوية والجمع بينهما واجب وقد ثبت عنده أن علي ابن أبي طالب جلد زانيا محصنا ثم رجمه وقال : جلدت بأمر القرآن ورجمت بالسنة النبوية١٥.
أما النفي سنة للعزاب بعد الجلد فقد أخذ به الشافعي والحنبلي دون أبي حنيفة الذي اعتبره على سبيل التعزير والتأديب من غير وجوب. وذهب المالكي إلى أن النفي للرجال دون النساء١٦.
وعلى كل حال فليس فيما ورد من النفي للعزاب بعد الجلد والجلد ثم الرجم لل
١ انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والنيسابوري والنسفي..
٢ التاج ج ٣ ص ١٧ و ٢٢.
٣ المصدر نفسه.
٤ التاج ج ٣ ص ١٧ و ٢٢.
٥ المصدر نفسه ص ٢٣.
٦ المصدر نفسه ص ٢٢.
٧ التاج ج ٣ ص ٢٣.
٨ عن ابن كثير في تفسير الآيات.
٩ المصدر نفسه.
١٠ المصدر نفسه.
١١ عن ابن كثير في مطلع تفسير سورة الأحزاب، وقد روى ذلك المفسر النسفي واسم القائل أبو ذر والراجح أن هذا هو الصحيح وأن ما جاء في ابن كثير تصحيف. انظر أيضا الإتقان للسيوطي ج ٢ ص ٢٦.
١٢ الإتقان ج ١ ص ٦٢.
١٣ انظر الإتقان للسيوطي ١ ص ٦٠ ـ ٦٣.
١٤ انظر تفسير الآية في ابن كثير..
١٥ المصدر نفسه..
١٦ تفسير الزمخشري للآية وتفسير ابن كثير للآيات (١٥ـ١٦) من سورة النساء..
الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ٣ }.
( ١ ) لا ينكح : لا يتزوج، وقد ورد هذا التعبير بهذا المعنى في آيات كثيرة مثل آية سورة البقرة ( ٢٢١ ) وآية سورة النساء ( ٢٢ ) وآية سورة الأحزاب ( ٤٩ ) بل ولم ترد في القرآن بغير معنى الزواج.
تعليق على الآية
﴿ الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ٣ ﴾.
روى المفسرون١ أن الآية نزلت في صدد الإجابة على استئذان بعض المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم في التزوج بنسوة كن معروفات بالزنا من أهل الشرك وكن أصحاب رايات يكرين أنفسهن في مكة وفي المدينة. ومنهن من كن يتعهدن بالإنفاق على من يتزوجهن. وذكروا بعض الأسماء. منها امرأة اسمها أم مهزول، ولم يذكروا اسم من أراد أن ينكحها. ومنها رجل اسمه مرثد كان له صديقة في الجاهلية اسمها عناق. وقصة مرثد وعناق رواها الترمذي عن مرثد نفسه قال ( كانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق، وكانت صديقة لي، فقابلتني بمكة ليلة فقالت : هلم فبت عندنا الليلة فقلت : يا عناق حرم الله الزنا، فلما قدمت المدينة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أنكح عناقا ؟ فأمسك ولم يرد علي شيئا حتى نزلت ﴿ { الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾فقال رسول الله : يا مرثد لا تنكحها ) ٢.
وقد روى الطبري الروايتين مع الأسماء، وروى أن الآية نزلت إجابة على سؤال السائلين.
والمتبادر أن الآية من السياق السابق وبمثابة تعقيب على الآية التي قبلها. وبسبيل التشديد في كراهية جريمة الزنا ومقترفيها. وإن كان هذا لا يمنع أن يكون بعض المسلمين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التزوج من بعض من عرفن بالبغاء في الجاهلية فمنعوا من ذلك بهذه الآية. وحديث الترمذي يفيد أن الآية لم تنزل جوابا على استئذان مرثد.
ومع ما يبدو في الآية من صراحة بتحريم نكاح الزانية وإنكاح الزاني على المؤمنين فقد تعددت أقوال المفسرين ورواياتهم في مدى حكمها ) ٣ فمن ذلك أن التحريم منصب على الزنا من قبيل تشنيعه ومن باب ﴿ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات ﴾ ( النور : ٢٦ ) وبسبيل تقرير كون الزنا لا يمكن أن يقع إلا بين زان وزانية إن كانا مسلمين أو بين زانية ومشرك أو زان ومشركة. ومنها قول معزو إلى عائشة، وهو أن الرجل إذا زنى بامرأة ليس له أن يتزوجها لهذه الآية. ومنها قول لابن مسعود أنه كان يحرم نكاح الزانية ويقول : إذا نكح الزاني الزانية أي تزوجها فهما زانيان أبدا. ومنها قول معزو إلى ابن عباس أنه كان يجيز التزوج بالزانية وتزويج الزاني. وقد أورد الزمخشري حديثا نبويا مؤيدا لهذا القول لم يرد في كتب الصحاح جاء فيه ( أن النبي سئل عن ذلك فقال : أوله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال ) ومنها قول معزو إلى سعيد ابن المسيب مفاده : أن الآية منسوخة بآية أخرى في سورة النور وهي ﴿ وانكحوا الأيامى منكم ﴾ ( ١٢٢ ) والبغايا من أيامى المسلمين. والنفس تطمئن بالقول الأول في صدد تأويل الآية ومفهومها العام. ووجاهة القول المعزو إلى ابن عباس ظاهرة، ولا سيما إذا صح الحديث الذي يورده الزمخشري والذي لا يتناقض مع التقريرات القرآنية العامة. فقد يتوب الزاني والزانية المسلمان ويصلحان. فلا يصح أن يحول ما حدث منهما قبل التوبة دون زواجهما زواجا شرعيا كما هو المتبادر. والتوبة الصادقة التي تفتح باب عفو الله ورحمته للكافر والمنافق والمحارب لله ورسوله والمفسد في الأرض والقاتل العمد على ما شرحناه في تعليقنا على موضوع التوبة في سورة البروج ونبهنا عليه في المناسبات العديدة السابقة تفتح بدون ريب هذا الباب أمام الزاني والزانية بدورهما. وهناك أحداث وأحاديث مؤيدة لذلك. فقد روى الطبري عن الحسن ( أن عمر بن الخطاب قال لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة فقال له أبي ابن كعب : يا أمير المؤمنين الشرك أعظم من ذلك وقد يقبل الله التوبة من المشرك إذا تاب ) وروى المفسر نفسه عن ثابت ابن عامر قال ( إن رجلا من أهل اليمن أصابت ابنة أخيه فاحشة فأمرت الشفرة على أوداجها فأدركت وعولج جرحها حتى برئت، ثم إن عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة فقرأت القرآن ونسكت حتى كانت من أنسك نسائهم فخطبت إلى عمها وكان يكره أن يدلسها ويكره أن يغشى على ابنة أخيه، فأتى عمر فذكر ذلك له فقال له : لو أغشيت عليها لعاقبتك، وإذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه ) وروى المفسر أيضا عن طارق ابن شهاب ( أن رجلا أراد أن يزوج أخته فقالت : إني أخشى أن أفضح أي فقد بغيت فأتى عمر فقال : أليس قد تابت، قال : بلى قال : فزوجها ) وفي الطبري أحداث وأحاديث أخرى من هذا الباب لم نر حاجة إلى إيرادها اكتفاء بما تقدم. وإذا كانت هذه الأحداث والأحاديث ذكرت حالات نساء زنين فتبن فشجع عمر على تزويجهن فإن ذلك ينطبق بطبيعة الحال على الرجال إذا زنوا ثم تابوا.
ومع ذلك كله فإننا نقول : إن الآية على أخف التأويلات انطوت على كراهية شديدة للتزوج بالزانية وتزويج الزاني وتشنيع على ذلك، وإن هذا ينبغي أن يكون واردا ولا سيما إذا كان أمر الزاني أو الزانية مشهورا. وإنه يحسن أن يلاحظ ذلك، ويؤخذ بالتلقين السامي القرآني ما أمكن لمنع تسهيل الغواية ولتأديب الغاوين معا إلا إذا كان في الحادث إنقاذ لرجل أو امرأة وحصل التأكد من توبتهما : أما القول إن الآية منسوخة بآية ﴿ وانكحوا الأيامى منكم ﴾ ( النور : ٣٢ ) فلا نرى مناسبة له في هذا المقام وإن كان يصح أن يقال : إن حكم هذه الآية يشمل كل أعزب وعزباء ومن جملتهم من كان اقترف جريمة الزنا ثم تاب وأصلح والله تعالى أعلم.
١ انظر الطبري والطبرسي والبغوي وابن كثير والخازن..
٢ التاج ج ٤ ص ١٦٤.
٣ انظر تفسير الطبري والزمخشري والبغوي والخازن وابن كثير..
( ١ ) يرمون : هنا بمعنى يتهمون بالزنا.
( ٢ ) المحصنات : من المفسرين من أولها بالمتزوجات ومنهم من أولها بالعفيفات.
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٤ ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥ ) ﴾
احتوت الآيتان تشريعا بحق من يقذف المحصنات بالزنا. ولم يثبتوا قولهم بأربعة شهداء حيث أوجبت عليهم حدا هو أن يجلدوا ثمانين جلدة ثم منعت قبول شهادتهم ووسمتهم بالفسق. مع استثناء الذين يندمون ويتوبون ويتلافون أمرهم بالإصلاح والصلاح فقد ينالون عفو الله الغفور الرحيم.
تعليق على الآية.
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ٤ ﴾ والآية التالية لها.
وقد روى الطبري أن الآيتين نزلتا في صدد ما كان من اتهام عائشة أم المؤمنين بما عرف في السيرة النبوية بحديث الإفك وما يأتي تفصيله بعد قليل.
وقد يكون هذا صحيحا، ومع ذلك فالمناسبة الموضوعية قائمة بين الآيتين وما سبقهما وما لحقهما، وهما في الوقت نفسه فصل تشريعي عام مستقل بذاته.
وظاهر النص هو إيجاب إقامة الحد على من يوجه تهمة الزنا إلى النساء، ولم يثبتها بأربعة شهداء. غير أن الجمهور على أن هذا يشمل من يوجه هذه التهمة إلى الرجال ولم يثبتها كذلك ؛ حيث روي أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أقام حد القذف على جماعة اتهموا رجلا بالزنا ولم يشهد أربعة على ذلك١.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إنه لا فرق في جريمة القذف بين أن يكون مرتكبها رجلا أو امرأة، فالقرآن لا يفرق بين الرجل والمرأة في هذه المسائل على ما نبهنا عليه في مختلف المناسبات٢.
وقد اختلف الأقوال في حد القاذف إذا كان مملوكا، فهناك من ذهب إلى أن الحد عليه هو نفس الحد على الحر، وهناك من ذهب إلى أن عليه نصف الحد٣.
ولم يورد القائلون أثرا نبويا أو راشديا ولم نطلع على ذلك. ونحن مع القول الأول ؛ لأن أثر الجريمة لا يتغير صفة مقترفها، وهذا غير متناقض مع آية سورة النساء ( ٢٥ ) التي تجعل حد الأمة المحصنة نصف حد الحرة. فهذه حالة أخرى كما هو المتبادر.
وبعض المفسرين قالوا : إن الحد إنما يجب على قاذف المحصن ( أي المتزوج ) وإن قاذف غير المحصن يعزر تعزيرا٤ والظاهر أن القائلين أولوا كلمة ﴿ المحصنات ﴾ في الآية بمعنى المتزوجات. وقد فسر بعضهم الكلمة بالعفيفات٥فيكون الحد بذلك واجبا على القاذف سواء أكان المقذوف متزوجا أم أعزب. والكلمة تتحمل المعنيين، فيكون القولان وجيهين، وإن كنا نرجح وجاهة القول الأول ؛ لأن القذف في المتزوجين أشد وقعا في حياة المقذوف الأسرية والاجتماعية كما هو المتبادر مع استثناء المرأة إذا كانت هي المقذوفة، ولا سيما إذا كانت بكرا.
ولقد قال بعضهم : إن قذف المشهورة بالزنا لا يستوجب حدا٦ وقد يكون هذا متسقا مع قول من قال : إن كلمة المحصنات بمعنى العفيفات فيكون القول وجيها. وقال بعضهم : إن المقذوف إذا اعترف بالتهمة سقط الحد عن القاذف٧.
وهذا ظاهرا الوجاهة أيضا.
والمستفاد من أقوال المفسرين٨ أن جرم القذف يتحقق سواء أبتوجيه التهمة قضائيا أي برفعها إلى ولي الأمر والحاكم أو بتوجيه الكلام في معرض الشتيمة في حضور المقذوف به أو في غيابه، أم في معرض الإخبار. وبكلمات صريحة أو بكلمات لا تفسر إلا بتهمة الزنا، وكل هذا وجيه ومتسق مع مضمون الآية وروحها.
والواقعة التي وقعت في عهد عمر، والتي ذكرناها في ذيل الصفحة ( ٣٦٩ ) تدل على أنه إذا شهد واحد أو اثنان أو ثلاثة فقط، ولم يشهد رابع عد الثلاثة قاذفين أيضا ووجب عليهم الحد، وهو ما عليه الجمهور، وهو حق وصواب. ويظهر من أقوال المفسرين أن الشاكي أو المتهم أو القاذف يصح أن يكون شاهدا من أربعة، وهذا وجيه أيضا ؛ لأن القضية ليست خصومة بين مدع ومدعى عليه.
وحكمة إيجاب الحد على القاذف ظاهرة كما أن الحكمة إناطة التهمة بأربعة شهداء متصلة بحكمة تعليق ثبوت الزنا على أربع شهادات كما هو المتبادر.
فأعراض الناس وكراماتهم من الأمور الجوهرية في الحياة الاجتماعية. ويترتب على القذف فيها نتائج خطيرة شخصية وأسرية واجتماعية. وفي إيجاب الحد على القاذف ردع عن التهجم على الأعراض والاستهانة بها. وفي إناطة ثبوت التهمة بأربعة شهداء وسيلة قوية لمنع الإرجاف وشيوع أخبار الفاحشة والسوء في الأوساط الاجتماعية، أما إذا استطاع القاذف أن يقيم البينة بأربع شهادات فتكون حالة المقذوف حالة استهتار بشع. ويكون موقف القاذف محقا ووسيلة للتنكيل بمن يرتكب الفاحشة بمثل هذا الاستهتار البشع.
وقد اختلفت الأقوال في مدى الاستثناء الذي احتوته الآية الثانية. فمنها أن التوبة لا تسقط الحد عن القاذف إن كانت قبل إيقاعه، ولا تجعل شهادته مقبولة، وكل أمرها أنها تسقط عنه صفة الفسق. ومنها أنها تجعل شهادته مقبولة أيضا. وقال القائلون بهذا : إن كلمة ( أبدا ) هي في حالة عدم التوبة وإصرار القاذف على ما قال في حق المقذوف، ومنها أن قبول شهادته بعد التوبة منوط بالاعتراف بأنه قال بهتانا. وهذه الأقوال معزوة إلى بعض العلماء التابعين وأئمة المذاهب الفقهية٩.
وهناك قول معزو إلى الشعبي - أحد علماء التابعين ـ وهو أن القاذف إذا تاب قبل الحد سقط عنه الحد أيضا١٠ وهناك قول معدل لهذا القول : وهو أن سقوط الحد عن القاذف التائب قبل تنفيذه منوط بعفو المقذوف قياسا على سقوط القصاص بعفو أهل القتيل١١، وهو ما نراه وجيها دون قول الشعبي المطلق ؛ لأن القذف ليس ذنبا نحو الله فقط، وإنما فيه حق المقذوف أيضا. ولم نطلع على أثر نبوي في هذه الصور.
والمتبادر الذي يلهمه نص الآية فيما نرى أن الرأي القائل : إن التوبة تجعل شهادة القاذف مقبولة بالإضافة إلى رفعها صفة الفسق عنه وهو الأوجه. ولا سيما إذا لوحظ أنه قد تكون حالة زنا صحيحة يعلمها شخص أو اثنان أو ثلاثة غير متهمين بعدالتهم وصدقهم، وأنه قد يكون من المتعذر دائما الإتيان بأربعة شهود. وأن الرأي القائل بأن التوبة قبل إيقاع الحد إذا اقترنت بعفو المقذوف تسقط الحد قياسا على سقوط القصاص عن القاتل بعفو أهل القتيل وهو وجيه أيضا ؛ لأن القذف ليس ذنبا نحو الله فقط، وإنما فيه حق المقذوف أيضا.
ومن العلماء من جعل صحة توبة التائب منوطة بإعلانه ندمه ورجوعه عن القذف وكذبه فيما قال، ومنهم من لم يربطها بمثل هذا الإعلان مكتفيا بما يظهر من صلاحه واستقامته١٢. وكلا القولين وجيه، وإن كنا نميل إلى ترجيح القول الأول ؛ لأن ذلك أدعى إلى حفظ كرامة المقذوف من جهة ووسيلة إلى معرفة التوبة لإفساح المجال للقاذف بأن تقبل شهادته، ولا يظل موسوما بسمة الفسق.
ويلحظ أن الآية لم تقيد الشهداء بصفة ما ؛ حيث استنتج بعضهم من ذلك جواز قبول الشهادة من أي كان. غير أن بعضهم منع قبول شهادة المعروف بالفسق استئناسا بآية سورة الحجرات هذه ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين٦ ﴾ وبعضهم جعل قيد الإسلام شرطا استئناسا بآية سورة النساء ( ١٥ ) ( وَاللَّاتِي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وهذا وذاك وجيهان كما هو ظاهر. والجمهور على أن شهادة الزنا والقذف محصورة بالرجال دون النساء على ما ذكرناه في سياق تفسير آية النساء المذكورة آنفا. ونكرر ما قلناه في سياق تفسير هذه الآية. وهو أن الآية لا تفيد هذا الحصر. وفرصة مشاهدة النساء لهذه الجريمة أكثر سنوحا منها بالنسبة للرجال. ولم نطلع على حديث نبوي وثيق برد شهادة النساء مطلقا في أي نوع من القضايا، وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود عين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ترد شهادتهم وهم ( الخائن والخائنة وذو الغمر على أخيه وشهادة التابع لأهل البيت وجوازها لغيرهم ) وفي رواية ( لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ) ١٣ ولم نر أحدا من المفسرين ذكر شيئا بشأن شهادة العبد. وليس في القرآن ما يمنع قبول شهادة العبد المسلم في كل ما تقبل به شهادة الحر المسلم.
ولم نطلع على حديث صحيح يمنع ذلك. ولقد أشار ابن القيم إلى هذه المسألة، وفند قول من يقول بعكس ذلك١٤.
ولم نر المفسرين ذكروا حالة ما إذا كان المقذوف عبدا أو أمة. وكل ما هناك أنهم قالوا في سياق تعريف ﴿ المحصنات ﴾ أنهم الحرائر العفيفات وقد أشار ابن القيم إلى هذه المسألة بما يفيد أنه ليس على قاذف العبد حد، وعلل ذلك بأن الله لم يجعل العبد كالحر لا قدرا ولا شرعا وأن هذا لا يتناقض مع تسويته في الثواب والعقاب في الآخرة ؛ لأنه لا يكون هناك إلا الإنسان وعمله١٥. ونحن نتوقف في هذا بعض الشيء فما دام الزاني والزانية من العبيد والإماء يوقع عليهما حد الزنا فلا يصح أن يعفى قاذفهما إذا لم يثبت التهمة عليهما من العقاب. وهذا متسق مع نص الآية وإطلاقها، وبخاصة مع التأويل الأكثر وجاهة لكلمة المحصنات وهو العفيفات والله تعالى أعلم.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١١ ﴾.
والآيات التي بعدها إلى آخر الآية ( ١٨ )، وخبر حديث الإفك الذي رميت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وما في ذلك من صور وتلقينات.
هذه الآيات تتضمن الإشارة إلى حادث قذف كاذب اتفق المفسرون والرواة على أنه في شأن عائشة أم المؤمنين وعرف في تاريخ السيرة النبوية باسم حديث الإفك اقتباسا من الآية الأولى فيما هو المتبادر وقد تضمنت تقرير ما يلي :
( ١ ) إن الذين أثاروا الحديث هم جماعة من المسلمين.
( ٢ ) وهم آثمون : كل بحسب ما كان منه من أثر فيه. والإثم الأكبر والعذاب الأعظم هو لمن تزعم الحركة وقاد الحملة.
( ٣ ) وعلى الذين لهم صلة به أن لا يحزنوا ولا يظنوا حينما سمعوا خبره أنه شر في حقهم بل إنه خير لهم في النتيجة.
( ٤ ) ولقد كان من الواجب على مثيريه أن يقيموا البينة على صحة ما قالوا، فيأتوا بأربعة شهداء ولكنهم إذا لم يفعلوا ذلك فهم كاذبون عند الله.
( ٥ ) ولقد كان الأولى بالمؤمنين حينما سمعوا الحديث أن يغلبوا حسن الظن بالمؤمنين والمؤمنات ويستنكروه ويقرروا أنه كذب واضح.
( ٦ ) ولولا أن الله قد رحمهم وشملهم بفضله في الدنيا والآخرة لنالهم عذاب عظيم فيهما عقوبة على ما كان منهم من الإفاضة في هذا الحديث والاشتغال به ؛ حيث أخذوا يتناقلونه ويتلقاه بعضهم عن بعض ويخوضون فيه بدون علم ويقين ولا ينتبهون إلى ما وقعوا فيه من الإثم وظنوه أمرا هينا مع أنه عظيم عند الله.
( ٧ ) ولقد كان الأجدر بهم أن يدركوا حينما سمعوه أنه افتراء عظيم، وأنه لا يجوز أن يخوضوا فيه، وأن يحولوا دون ذيوعه وتوسع الكلام عنه.
( ٨ ) وإن الله لينهاهم عن العودة إلى مثله أبدا إذا كانوا مؤمنين حقا، وإنه ليبين لهم الآيات ليتذكروا، وإنه لهو العليم بكل شيء الحكيم الذي يأمر بما فيه الحق والخير والمصلحة.
وهذا الحادث من الحوادث المهمة في تاريخ السيرة النبوية كان موضوع بحث وتمحيص وقيل وقال، ورويت فيه روايات عديدة وطويلة. وفي فصل التفسير في صحيح البخاري ومسلم والترمذي حديث طويل مروي عن عائشة أم المؤمنين احتوى تفصيل المسألة تفصيلا وافيا رأينا إيراده لما فيه من صور وفوائد. قالت ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين زوجاته فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت معه بعدما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذن بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع أظفار١ قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني٢ ابتغاؤه فأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوه هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني فنمت، وكان صفوان ابن المعطل السلمي الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه٣ حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك في شأني.
وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت٤شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل علي فيسلم ثم يقول : كيف تيكم ثم ينصرف ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.
فانطلقت أنا وأم مسطح ابن أثاثة وهي بنت أبي رهم ابن عبد مناف وأمها خالة أبي بكر الصديق، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت : تعس مسطح، فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا قالت : أي هنتاه ( يا هذه ) أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول الله ثم قال : كيف تيكم، قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي قالت وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله فجئت أبوي، فقلت لأمي : يا أمتاه ما يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن عليها، فقلت : سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا.
قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي، فدعا رسول الله علي ابن أبي طالب وأسامة ابن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله ( طلاقها ) فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال : يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، قالت : فدعا رسول الله بريرة أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله فاستعذر من عبد الله ابن أبي سلول فقال وهو على المنبر : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد ابن معاذ فقال : يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد ابن عبادة ( زعيم الخزرج ) وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد ابن حضير ( من زعماء الأوس ) فقال لسعد ابن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت، قالت : فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما، وهما يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها فجلست تبكي معي، قالت : فبينا نحن كذلك دخل علينا رسول الله فسلم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني فتشهد ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب عليه. فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي : أجب رسول الله فيما قال، قال : والله ما أدري ما أقول، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله قالت : ما أدري ما أقول لرسول الله فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله لقد علمت، لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به. فلئن قلت لكم : إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف قال ﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾ ( يوسف : ١٨ } ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا أعلم أني بريئة، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها. قالت : فوالله ما رام رسول الله ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء٥حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان٦ من العرق في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه، فلما سري عن رسول الله وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها : يا عائشة أما الله عز وجل فقد برأك فقالت أمي قومي إليه٧. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل.
فأنزل الله ﴿ إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ﴾ العشر الآيات كلها. فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعدما قال في عائشة، وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره فأنزل الله تعالى ﴿ ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولوا القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ٢٢ ﴾ قال أبو بكر : بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة : وكان رسول الله يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال : يا زينب ماذا علمت أو رأيت ؟ قالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيرا. قالت وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك٨. وقد روى الترمذي تتمة للقصة عن عائشة قالت :( لما نزل عذري قام رسول الله على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم ) ٩.
والحديث كما هو واضح قد صدر من عائشة بعد مدة طويلة من الحادث غير أن هذا ليس من شأنه أن يضعف من صحة جميع ما جاء فيه. وفي الروايات بعض تفصيلات لم ترد فيه، منها أن الغزوة التي وقع الحادث أثناءها هي غزوة بني المصطلق أو المريسيع١٠ وأن الذين خاضوا في الحديث أكثر من غيرهم، وأوقع النبي عليهم الحد حسان ابن ثابت ومسطح ابن أثاثة وحمنة بنت جحش. وهناك رواية تذكر أن الذي تولى كبره هو حسان بينما هناك رواية تذكر أنه عبد الله ابن أبي ابن سلول١١. ومن العجيب أن الروايات لم تذكر أن النبي أقام الحد على عبد الله ابن أبي ابن سلول. وحديث عائشة الذي رواه الترمذي يذكر أن الذين أقيم عليهم الحد رجلان وامرأة، فالظاهر أن عبد الله ابن أبي بن سلول لعب دوره بمهارة، وأن الذين تورطوا في الحديث هم الثلاثة المذكورون. ولقد روى المفسرون أن ابن سلول كان يجمع الكلام ويستوشيه حتى دخل في أذها
١ انظر ابن كثير والطبرسي والقاسمي، وقال ابن كثير: إن هذا هو إجماع العلماء. والحادث رواه الطبرسي والقاسمي وتفصيله أن جماعة اتهموا المغيرة بن شعبة بالزنا فشهد ثلاثة وهم شبل ابن معبد وأبو بكرة ونافع أنهم رأوه متبطنا المرأة، وكان ممن تقدم للشهادة زياد فلم يشهد شهادة مثل شهادتهم فاعتبر عمر الثلاثة قاذفين وأقام عليهم الحد..
٢ انظر ايضا تفسير الطبرسي..
٣ الطبرسي والخازن..
٤ البغوي والخازن..
٥ الخازن وابن كثير..
٦ القاسمي عزوا إلى السيوطي..
٧ القاسمي عزوا إلى ابن تيمية..
٨ انظر الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير والزمخشري الخ..
٩ انظر البغوي والخازن وابن كثير والطبري والطبرسي..
١٠ انظر القاسمي عزوا إلى ابن حجر والبغوي..
١١ انظر البغوي..
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( ٦ ) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ ( ٧ ) عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( ٨ )وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٩ ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ( ١٠ ) ﴾.
في الآيات الثلاث الأولى تشريع لحالة تهمة زوج لزوجته بالزنا، ولم يكن لديه شهود إلا نفسه فشهادته خمس مرات على الوارد في الآيتين الأولى والثانية تقوم مقام الشهود وتوجب حد الزنا على الزوجة. غير أن هذا الحد يسقط عنها إذا شهدت هي الأخرى بعده خمس شهادات على الوجه الوارد في الآيتين الثالثة والرابعة.
أما الآية الخامسة فإنها تنطوي على تلقين لما في هذا التشريع من حكمة سامية، وحل حكيم لموقف محرج وإشكال مزعج، فلولا فضل الله على المسلمين ورحمته ولولا أنه تواب عليم حكيم بهم كان في الموقف إزعاج وإحراج شديدان لهم.
تعليق على الآية
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ٦ ﴾.
والآيات الأربع التي بعدها
ولقد رويت في نزول الآيات روايات. منها ما رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس ( أن هلال ابن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سمحاء فقال النبي : البينة أو حد في ظهرك فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي يقول : البينة وإلا حد في ظهرك فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل بالآيات، فأرسل النبي إليهما فشهد هلال والنبي يقول : إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك ابن سمحاء، فجاءت به كذلك. فقال النبي : لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن. زاد في رواية : ثم قضى بالولد للمرأة وفرق بين المتلاعنين. ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها )١وهناك رواية أخرى تذكر أن سعد ابن عبادة زعيم الأنصار قال لرسول الله حينما نزلت الآية السابقة ( يا رسول الله لو أتيت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ الرجل من حاجته. فقال النبي : يا معشر الأنصار أما تسمعون ما يقول سيدكم. قالوا لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوج فينا قط إلا عذراء ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها، قال سعد : بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكني عجبت، فما لبثوا قليلا حتى جاء هلال يروي قصته لرسول الله فنزل الوحي بالآيات ) وهناك روايات أخرى فيه أسماء وأحداث أخرى يرويها المفسرون كسبب لنزول الآيات. منها صيغة حديث يرويه الإمام أحمد عن عبد الله قال ( كنا جلوسا عشية الجمعة في المسجد فقال رجل من الأنصار : أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا إن قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت على غيظ، والله لئن أصبحت صحيحا لأسألن رسول الله فسأله، وأعاد عليه ما قال ثم قال : اللهم احكم، فنزلت آية اللعان فكان ذلك الرجل أول ما ابتلى بها. ومنها رواية رواها الإمام أحمد كحديث مماثل للرواية السابقة مع ذكر اسم السائل وهو عويمر. ومنها كحديث رواه الحافظ البزار جاء فيه ( إن رسول الله قال لأبي بكر : لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به قال كنت والله فاعلا به شرا. قال : فأنت يا عمر ؟ قال كنت والله قاتله، كنت أقول لعن الله الأعجز فإنه خبيث فنزلت الآيات ) ٢.
والروايات تقضي أن تكون الآيات نزلت مستقلة عن سابقتها في حين أنها تبدو معطوفة عليها، وحلقة من سلسلة مشتركة في الموضوع، وليس ما يمنع أن تكون نزلت مستقلة وألحقت بالسياق للتناسب الموضوعي كما أنه ليس هناك ما يمنع أن تكون نزلت بعد سابقتها بناء على استفسار أو حادث كما روي، فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي، غير أنا نميل إلى القول : إن السلسلة نزلت دفعة واحدة بناء على استفسارات وحوادث وقعت قبلها ؛ لأننا نلتمس في الآيات العشر وحدة وانسجاما في النظم مع التشارك في الموضوع.
وهذه الشهادات المتقابلة بين الزوجين تسمى في الاصطلاح الفقهي بالملاعنة أو اللعان. ويترتب عليها التفريق بين الزوجين على ما جاء في حديث البخاري والترمذي، وقد اختلف الفقهاء في صفة الفرقة، فذهب أبو حنيفة إلى أنها فرقة طلاق بائن وأن الزوج إذا كذب نفسه جاز له أن ينكحها ثانية، وذهب الشافعي إلى أنها فرقة أبدية بل يستفاد من أقوال المفسرين أن هذا هو رأي أكثر العلماء٣، ومنهم الإمام مالك الذي زاد على ذلك فأوجب إقامة الحد على الزوج إذا كذب نفسه وإلحاق الولد له مع الفرقة الأبدية٤.
ومع أن المتبادر لنا أن التفريق الأبدي هو الأوجه والمستفاد من حديث ملاعنة هلال فإن رأي أبي حنيفة لا يتناقض معه ؛ لأنه فيه صراحة قطعية، ولا يخلو من جهة أخرى من وجاهة أيضا إذا تحقق شرطه، وهو تكذيب الزوج لنفسه ؛ حيث يكون في ذلك رد لكرامة الزوجة، وسمعتها غير أن الرأي الأول هو الأوجه.
ولا سيما إذا أخذ برأي الإمام مالك الوجيه، فأقيم حد القذف على الزوج وألحق به الولد ؛ فإن في ذلك ردا أقوى لكرامة الزوجة. والله تعالى أعلم.
واللعان كما هو واضح إجراء قضائي، وقد جرى على يد النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره وفي مشهد علني، وينبغي أن يكون كذلك على يد ولي الأمر من بعده أو من ينوب عنه بطبيعة الحال.
وواضح من فحوى الآيات أن اللعان إنما يكون في حالة تعذر إقامة البينة على الزوجة، وأنه ليس له محل في حالة إمكان ذلك حيث يقام عليها الحد.
والجمهور٥ على أن الزوجة إذا لم تشهد الشهادات الخمس بكذب زوجها أقيم عليها الحد وهذا متسق مع فحوى الآيات.
ولقد اختلفت الأقوال في صدد الزوج الذي يتهم زوجته ثم ينكل عن الشهادة فهناك من قال : إنه يعتبر قاذفا ويستوجب حد القذف وهناك من قال : إنه لا يحد وإنما يحبس حتى يلاعن٦ والرأي الأول هو الأوجه فيما هو المتبادر ومن الغريب أن هناك من قال٧ هذا في صدد الزوجة التي تمتنع عن الشهادة أيضا مع ما في الآيات من دلالة قطعية على أن نجاتها من العذاب أي الحد منوطة بشهاداتها الخمس.
وقد فرض الفقهاء حالة محتملة الوقوع. وهي أن تكون الزوجة المتهمة حاملا، وأن تكون تهمة الزوج شاملة لنفي الحمل عنه. فقالوا : إن عليه والحالة هذه أن يذكر في شهاداته نفيه للولد عنه، وحينئذ تذكر الزوجة في شهاداتها إثبات الولد إليه. ويترتب على ذلك عدم نسبة الولد إلى الزوج ونسبته إلى أمه دون أن يعتبر ولد زنا لما هناك من شبهة، ويحق له أن يرثها وترثه. وهذا مستمد من حديث هلال ومن زيادة وردت في رواية الطبري للحديث مفادها أن ابنها يرثها، وأن الولد يدعى لها ولا يرمى أي لا يقال له ولد زنا. وفي الموطأ قول للإمام مالك وهو أن ولد اللعان يرث إخوته لأمه أيضا٨ وهذا يتبع ذاك.
هذا، وظاهر من الآيات أن التشريع الذي احتوته خاص بتوجيه التهمة من الزوج إلى زوجته. وهنا محل تساؤل عن الحكم في حالة تهمة الزوجة لزوجها بالزنا. ولم نطلع على حديث أو قول في ذلك. ومما لا ريب فيه أن هناك فرقا واضحا يترتب عليه نتائج مختلفة بين الحالتين، ومن ذلك مسألة الأولاد الذين تلدهم المرأة حيث يكونون قد نسبوا زورا لغير أبيهم الحقيقي وورثوا إرثا لا يستحقونه عند الله. ولعل الحكمة في تخصيص التشريع هي بسبب هذا الفرق.
والمتبادر أن تهمة الزوجة لزوجها تكون في حكم القذف العادي. فإذا أثبتت الزوجة الزنا على زوجها بشهود أربعة استوجب حد الزنا وهو الرجم وإذا لم تثبته استوجبت هي حد القذف.
وفي صدد شمول اللعان للعبيد والذميين روى البغوي اجتهادين : واحدا معزوا إلى سعيد ابن المسيب والشافعي ومالك والثوري وقال : إن أكثر أهل العلم أخذوا به، وهو أن كل من صح يمينه صح لعانه حرا كان أم عبدا ومسلما أم ذميا.
وواحدا معزوا إلى الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو أن اللعان لا يجري إلا بين المسلمين حرين غير محدودين فإن كان الزوجان أو أحدهما رقيقا أو ذميا أو محدودا في قذف فلا لعان بينهما. وقد عقب البغوي على ذلك فقال : إن ظاهر الآية حجة لمن قال يجري اللعان بينهما ؛ لأن الله لم يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره ويتسق هذا مع القول الأول، وهو ما نراه الأوجه الأسد. والله تعالى أعلم.
١ التاج فصل التفسير ج٤ ص ١٦٤ ـ ١٦٥.
٢ انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي..
٣ انظر الطبري والخازن والطبرسي والزمخشري..
٤ الموطأ ج ٢ ص ٤٦..
٥ انظر تفسير الخازن والبغوي..
٦ المصدر نفسه..
٧ المصدر نفسه.
٨ الموطأ ج٢ ص ٤٧.
ويدرأ عنها العذاب : بمعنى ويسقط عنها الحد.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦:﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( ٦ ) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ ( ٧ ) عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( ٨ )وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٩ ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ( ١٠ ) ﴾.
في الآيات الثلاث الأولى تشريع لحالة تهمة زوج لزوجته بالزنا، ولم يكن لديه شهود إلا نفسه فشهادته خمس مرات على الوارد في الآيتين الأولى والثانية تقوم مقام الشهود وتوجب حد الزنا على الزوجة. غير أن هذا الحد يسقط عنها إذا شهدت هي الأخرى بعده خمس شهادات على الوجه الوارد في الآيتين الثالثة والرابعة.
أما الآية الخامسة فإنها تنطوي على تلقين لما في هذا التشريع من حكمة سامية، وحل حكيم لموقف محرج وإشكال مزعج، فلولا فضل الله على المسلمين ورحمته ولولا أنه تواب عليم حكيم بهم كان في الموقف إزعاج وإحراج شديدان لهم.
تعليق على الآية
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ٦ ﴾.
والآيات الأربع التي بعدها
ولقد رويت في نزول الآيات روايات. منها ما رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس ( أن هلال ابن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سمحاء فقال النبي : البينة أو حد في ظهرك فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي يقول : البينة وإلا حد في ظهرك فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل بالآيات، فأرسل النبي إليهما فشهد هلال والنبي يقول : إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك ابن سمحاء، فجاءت به كذلك. فقال النبي : لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن. زاد في رواية : ثم قضى بالولد للمرأة وفرق بين المتلاعنين. ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها )١وهناك رواية أخرى تذكر أن سعد ابن عبادة زعيم الأنصار قال لرسول الله حينما نزلت الآية السابقة ( يا رسول الله لو أتيت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ الرجل من حاجته. فقال النبي : يا معشر الأنصار أما تسمعون ما يقول سيدكم. قالوا لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوج فينا قط إلا عذراء ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها، قال سعد : بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكني عجبت، فما لبثوا قليلا حتى جاء هلال يروي قصته لرسول الله فنزل الوحي بالآيات ) وهناك روايات أخرى فيه أسماء وأحداث أخرى يرويها المفسرون كسبب لنزول الآيات. منها صيغة حديث يرويه الإمام أحمد عن عبد الله قال ( كنا جلوسا عشية الجمعة في المسجد فقال رجل من الأنصار : أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا إن قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت على غيظ، والله لئن أصبحت صحيحا لأسألن رسول الله فسأله، وأعاد عليه ما قال ثم قال : اللهم احكم، فنزلت آية اللعان فكان ذلك الرجل أول ما ابتلى بها. ومنها رواية رواها الإمام أحمد كحديث مماثل للرواية السابقة مع ذكر اسم السائل وهو عويمر. ومنها كحديث رواه الحافظ البزار جاء فيه ( إن رسول الله قال لأبي بكر : لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به قال كنت والله فاعلا به شرا. قال : فأنت يا عمر ؟ قال كنت والله قاتله، كنت أقول لعن الله الأعجز فإنه خبيث فنزلت الآيات ) ٢.
والروايات تقضي أن تكون الآيات نزلت مستقلة عن سابقتها في حين أنها تبدو معطوفة عليها، وحلقة من سلسلة مشتركة في الموضوع، وليس ما يمنع أن تكون نزلت مستقلة وألحقت بالسياق للتناسب الموضوعي كما أنه ليس هناك ما يمنع أن تكون نزلت بعد سابقتها بناء على استفسار أو حادث كما روي، فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي، غير أنا نميل إلى القول : إن السلسلة نزلت دفعة واحدة بناء على استفسارات وحوادث وقعت قبلها ؛ لأننا نلتمس في الآيات العشر وحدة وانسجاما في النظم مع التشارك في الموضوع.
وهذه الشهادات المتقابلة بين الزوجين تسمى في الاصطلاح الفقهي بالملاعنة أو اللعان. ويترتب عليها التفريق بين الزوجين على ما جاء في حديث البخاري والترمذي، وقد اختلف الفقهاء في صفة الفرقة، فذهب أبو حنيفة إلى أنها فرقة طلاق بائن وأن الزوج إذا كذب نفسه جاز له أن ينكحها ثانية، وذهب الشافعي إلى أنها فرقة أبدية بل يستفاد من أقوال المفسرين أن هذا هو رأي أكثر العلماء٣، ومنهم الإمام مالك الذي زاد على ذلك فأوجب إقامة الحد على الزوج إذا كذب نفسه وإلحاق الولد له مع الفرقة الأبدية٤.
ومع أن المتبادر لنا أن التفريق الأبدي هو الأوجه والمستفاد من حديث ملاعنة هلال فإن رأي أبي حنيفة لا يتناقض معه ؛ لأنه فيه صراحة قطعية، ولا يخلو من جهة أخرى من وجاهة أيضا إذا تحقق شرطه، وهو تكذيب الزوج لنفسه ؛ حيث يكون في ذلك رد لكرامة الزوجة، وسمعتها غير أن الرأي الأول هو الأوجه.
ولا سيما إذا أخذ برأي الإمام مالك الوجيه، فأقيم حد القذف على الزوج وألحق به الولد ؛ فإن في ذلك ردا أقوى لكرامة الزوجة. والله تعالى أعلم.
واللعان كما هو واضح إجراء قضائي، وقد جرى على يد النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره وفي مشهد علني، وينبغي أن يكون كذلك على يد ولي الأمر من بعده أو من ينوب عنه بطبيعة الحال.
وواضح من فحوى الآيات أن اللعان إنما يكون في حالة تعذر إقامة البينة على الزوجة، وأنه ليس له محل في حالة إمكان ذلك حيث يقام عليها الحد.
والجمهور٥ على أن الزوجة إذا لم تشهد الشهادات الخمس بكذب زوجها أقيم عليها الحد وهذا متسق مع فحوى الآيات.
ولقد اختلفت الأقوال في صدد الزوج الذي يتهم زوجته ثم ينكل عن الشهادة فهناك من قال : إنه يعتبر قاذفا ويستوجب حد القذف وهناك من قال : إنه لا يحد وإنما يحبس حتى يلاعن٦ والرأي الأول هو الأوجه فيما هو المتبادر ومن الغريب أن هناك من قال٧ هذا في صدد الزوجة التي تمتنع عن الشهادة أيضا مع ما في الآيات من دلالة قطعية على أن نجاتها من العذاب أي الحد منوطة بشهاداتها الخمس.
وقد فرض الفقهاء حالة محتملة الوقوع. وهي أن تكون الزوجة المتهمة حاملا، وأن تكون تهمة الزوج شاملة لنفي الحمل عنه. فقالوا : إن عليه والحالة هذه أن يذكر في شهاداته نفيه للولد عنه، وحينئذ تذكر الزوجة في شهاداتها إثبات الولد إليه. ويترتب على ذلك عدم نسبة الولد إلى الزوج ونسبته إلى أمه دون أن يعتبر ولد زنا لما هناك من شبهة، ويحق له أن يرثها وترثه. وهذا مستمد من حديث هلال ومن زيادة وردت في رواية الطبري للحديث مفادها أن ابنها يرثها، وأن الولد يدعى لها ولا يرمى أي لا يقال له ولد زنا. وفي الموطأ قول للإمام مالك وهو أن ولد اللعان يرث إخوته لأمه أيضا٨ وهذا يتبع ذاك.
هذا، وظاهر من الآيات أن التشريع الذي احتوته خاص بتوجيه التهمة من الزوج إلى زوجته. وهنا محل تساؤل عن الحكم في حالة تهمة الزوجة لزوجها بالزنا. ولم نطلع على حديث أو قول في ذلك. ومما لا ريب فيه أن هناك فرقا واضحا يترتب عليه نتائج مختلفة بين الحالتين، ومن ذلك مسألة الأولاد الذين تلدهم المرأة حيث يكونون قد نسبوا زورا لغير أبيهم الحقيقي وورثوا إرثا لا يستحقونه عند الله. ولعل الحكمة في تخصيص التشريع هي بسبب هذا الفرق.
والمتبادر أن تهمة الزوجة لزوجها تكون في حكم القذف العادي. فإذا أثبتت الزوجة الزنا على زوجها بشهود أربعة استوجب حد الزنا وهو الرجم وإذا لم تثبته استوجبت هي حد القذف.
وفي صدد شمول اللعان للعبيد والذميين روى البغوي اجتهادين : واحدا معزوا إلى سعيد ابن المسيب والشافعي ومالك والثوري وقال : إن أكثر أهل العلم أخذوا به، وهو أن كل من صح يمينه صح لعانه حرا كان أم عبدا ومسلما أم ذميا.
وواحدا معزوا إلى الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو أن اللعان لا يجري إلا بين المسلمين حرين غير محدودين فإن كان الزوجان أو أحدهما رقيقا أو ذميا أو محدودا في قذف فلا لعان بينهما. وقد عقب البغوي على ذلك فقال : إن ظاهر الآية حجة لمن قال يجري اللعان بينهما ؛ لأن الله لم يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره ويتسق هذا مع القول الأول، وهو ما نراه الأوجه الأسد. والله تعالى أعلم.
١ التاج فصل التفسير ج٤ ص ١٦٤ ـ ١٦٥.
٢ انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي..
٣ انظر الطبري والخازن والطبرسي والزمخشري..
٤ الموطأ ج ٢ ص ٤٦..
٥ انظر تفسير الخازن والبغوي..
٦ المصدر نفسه..
٧ المصدر نفسه.
٨ الموطأ ج٢ ص ٤٧.

( ١ ) الإفك : الخبر الكاذب المفترى
( ٢ ) عصبة منكم : جماعة منكم.
( ٣ ) تولي كبره : بمعنى تزعم حركة الخبر المفتري أو قاد حملته.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا ١ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ٢ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ٣ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١١ ) لَوْلَا ٤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ( ١٢ ) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( ١٣ )وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ ٥ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١٤ ) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ٦ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ( ١٥ ) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( ١٦ ) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧ )وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٨ ) ﴾.
( ٤ ) لولا : الأولى والثانية والرابعة بمعنى ( هلا ) وقد تكررت في القرآن بهذا المعنى، أما الثالثة فهي الشرطية المعتادة.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا ١ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ٢ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ٣ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١١ ) لَوْلَا ٤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ( ١٢ ) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( ١٣ )وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ ٥ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١٤ ) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ٦ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ( ١٥ ) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( ١٦ ) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧ )وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٨ ) ﴾.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا ١ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ٢ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ٣ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١١ ) لَوْلَا ٤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ( ١٢ ) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( ١٣ )وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ ٥ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١٤ ) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ٦ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ( ١٥ ) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( ١٦ ) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧ )وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٨ ) ﴾.
( ٥ ) أفضتم فيه : أوسعتم مجال الحديث فيه بينكم.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا ١ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ٢ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ٣ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١١ ) لَوْلَا ٤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ( ١٢ ) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( ١٣ )وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ ٥ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١٤ ) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ٦ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ( ١٥ ) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( ١٦ ) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧ )وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٨ ) ﴾.
( ٦ ) تلقونه : بمعنى تتناقلونه، أو يتلقاه بعضكم عن بعض.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا ١ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ٢ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ٣ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١١ ) لَوْلَا ٤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ( ١٢ ) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( ١٣ )وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ ٥ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١٤ ) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ٦ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ( ١٥ ) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( ١٦ ) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧ )وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٨ ) ﴾.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا ١ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ٢ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ٣ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١١ ) لَوْلَا ٤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ( ١٢ ) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( ١٣ )وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ ٥ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١٤ ) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ٦ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ( ١٥ ) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( ١٦ ) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧ )وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٨ ) ﴾.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا ١ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ٢ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ٣ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١١ ) لَوْلَا ٤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ( ١٢ ) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( ١٣ )وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ ٥ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١٤ ) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ٦ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ( ١٥ ) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( ١٦ ) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧ )وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٨ ) ﴾.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا ١ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ٢ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ٣ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١١ ) لَوْلَا ٤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ( ١٢ ) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( ١٣ )وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ ٥ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١٤ ) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ ٦ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ( ١٥ ) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( ١٦ ) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١٧ )وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٨ ) ﴾.
( ١ ) الفاحشة : هنا بمعنى الأمور القبيحة أو أخبار السوء.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ١ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ١٩ ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ( ٢٠ ) ﴾. [ ١٩- ٢٠ ]
الآيتان متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا ومعقبتان عليها كما هو المتبادر، وقد احتوت أولاهما تنديدا بالذين يحبون أن تنتشر أخبار السوء وأفعال القبح والفواحش في أوساط المؤمنين وإنذارا لهم، وإيعازا بوجوب تأديبهم في الدنيا بالإضافة إلى ما سوف يكون لهم من عذاب أليم في الآخرة، وإيذانا بأن الله يعلم كل شيء ومقتضيات الأمور، دون السامعين المخاطبين وهم المسلمون. واحتوت ثانيتهما تذكيرا بما شملهم الله به من فضله ورحمته بحيث كانت العواقب تسوء لولاهما، ولكن الله الرؤوف الرحيم قد تداركهم فانقضى الحادث على خير وسلام. كأنما تؤكد عليهم مرة أخرى بوجوب الحذر من التورط في مثله مرة أخرى.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن عائشة وأوردناه قبل خبر إقامة النبي صلى الله عليه وسلم على رجلين وامرأة حد القذف حيث يتبادر أن ذلك تنفيذ للإيعاز الذي احتوته الآية الأولى.
وأسلوب الآيتين تقريري عام ينطوي فيه تلقين قوي عام الشمول والاستمرار بوجوب الوقوف من مثل تلك الفئة التي تجب أن تشيع الفاحشة في أوساط المسلمين موقف الشدة والتأديب والتنكيل في كل ظرف ومكان، وفي هذا ما فيه من الحق والحكمة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا عن ثوبان أخرجه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته )١ حيث ينطوي فيه تلقين نبوي متساوق مع التلقين القرآني، وفيه تأديب وتحذير قويان لكل مسلم بل لكل إنسان.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ١ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ١٩ ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ( ٢٠ ) ﴾. [ ١٩- ٢٠ ]
الآيتان متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا ومعقبتان عليها كما هو المتبادر، وقد احتوت أولاهما تنديدا بالذين يحبون أن تنتشر أخبار السوء وأفعال القبح والفواحش في أوساط المؤمنين وإنذارا لهم، وإيعازا بوجوب تأديبهم في الدنيا بالإضافة إلى ما سوف يكون لهم من عذاب أليم في الآخرة، وإيذانا بأن الله يعلم كل شيء ومقتضيات الأمور، دون السامعين المخاطبين وهم المسلمون. واحتوت ثانيتهما تذكيرا بما شملهم الله به من فضله ورحمته بحيث كانت العواقب تسوء لولاهما، ولكن الله الرؤوف الرحيم قد تداركهم فانقضى الحادث على خير وسلام. كأنما تؤكد عليهم مرة أخرى بوجوب الحذر من التورط في مثله مرة أخرى.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن عائشة وأوردناه قبل خبر إقامة النبي صلى الله عليه وسلم على رجلين وامرأة حد القذف حيث يتبادر أن ذلك تنفيذ للإيعاز الذي احتوته الآية الأولى.
وأسلوب الآيتين تقريري عام ينطوي فيه تلقين قوي عام الشمول والاستمرار بوجوب الوقوف من مثل تلك الفئة التي تجب أن تشيع الفاحشة في أوساط المسلمين موقف الشدة والتأديب والتنكيل في كل ظرف ومكان، وفي هذا ما فيه من الحق والحكمة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا عن ثوبان أخرجه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته )١ حيث ينطوي فيه تلقين نبوي متساوق مع التلقين القرآني، وفيه تأديب وتحذير قويان لكل مسلم بل لكل إنسان.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا ١ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢١ ) ﴾.
( ١ ) ما زكى : ما طهرت سريرته وصفت نيته.
والآية متصلة أيضا بسابقاتها سياقا وموضوعا اتصال تعقيب وعظة وتنبيه على ما هو المتبادر. والخطاب فيها موجه للمؤمنين يحذرون فيه من اتباع خطوات الشيطان ووساوسه وهو إنما يأمر بالفحشاء والمنكر. ويذكرون فيه مرة أخرى بفضل الله ورحمته بهم اللذين لولاهما لما اهتدى وزكى أحد منهم أبدا وهو السميع لكل شيء، العليم بكل شيء، الذي يزكي من يشاء ممن علم صلاحهم وطيب سرائرهم وأهليتهم لتزكيته وفضله ورحمته. كأنما يهتف بهم بوجوب التمسك بأوامر الله والتزام حدوده والبعد عن المزالق والفتن والفحشاء والمنكر حتى يضمنوا لأنفسهم دوام فضله ورحمته.
ومع اتصال بموضوع حديث الإفك، فإن أسلوبها هي الأخرى تقريري عام، وما احتوته من نهي وتنبيه وتذكير وهتاف موجه للمسلمين في كل ظرف ومكان كما هو واضح.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية بعض الأحاديث منها عن أبي مجلز ( أن رجلا قال لابن مسعود : إني حرمت أن آكل طعاما وسماه فقال له : هذا من نزغات الشيطان. كفر عن يمينك وكل ) ومنها ( أن رجلا نذر ذبح ولده له الشعبي هذا من نزغات الشيطان ) ومنها عن أبي رافع قال :( غضبت أمي على امرأتي فقالت : هي يوم يهودية ويوم نصرانية، وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك.
فأتيت عبد الله بن عمر فقال إنما هذه من نزغات الشيطان ) وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة ( وأتيت عاصم ابن عمر فقال مثل ذلك ) وينطوي في هذه الأخبار صور لفهم أصحاب رسول الله وتابيعهم للآية وتطبيقاتها.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن هذه الصور ليست كل ما يمكن أن يكون من نزغات الشيطان، وإن كل انحراف ديني أو خلقي أو اجتماعي أو سلوكي وكل إثم وفحش وبغي يصبح ويمكن أن يكون من ذلك.
{ وَلَا يَأْتَلِ ١ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢٢ )
( ١ ) ولا يأتل : ولا يحلف من الإيلاء.
تنهي الآية الذين وسع الله عليهم الرزق والفضل عن الحلف بعدم الإنفاق على المحتاجين من ذوي قرباهم والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وتأمرهم بالعفو والصفح. وتسألهم سؤال حث وتحريض إذا لم يحبوا أن يغفر الله لهم. وتنبههم إلى صفتي الله الغفور الرحيم، كأنما تهيب بهم إلى التخلق بهما.
والمفسرون متفقون١ على أن الآية في صدد يمين حلفها أبو بكر الصديق بأن لا ينفق على قريبه مسطح الذي كان من العصبة التي جاءت بالإفك ولا ينفعه بشيء وقد ورد هذا في حديث عائشة الذي ذكرت فيه أنه كان سبب نزول الآية.
وهكذا تكون الآية متصلة بموضوع السياق السابق. ومن المحتمل أن تكون نزلت لحدتها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي، ومن المحتمل أن تكون نزلت مع السلسة التي نزلت كما يبدو واضحا من مضمونها وروحها بعد انتهاء قضية حديث الإفك على سبيل الإنذار والتنديد والتنويه والتبرئة والتهدئة، وهو ما نرجحه والله أعلم.
ولقد ذكرنا قبل أن المفسرين رووا أن مسطحا كان من جملة الذين أقام النبي صلى الله عليه وسلم عليهم حد القذف. وروح الآية تفيد أنه ندم وتاب فتاب الله عليه، واقتضت حكمة التنزيل بعد ذلك معالجة أمر قسم أبي بكر بالامتناع عن النفقة عليه فجاءت الآية بأسلوبها الرائع مما جرى عليه النظم القرآني في معالجة مثل هذه الحوادث وتهذيب نفوس أصحاب رسول الله في ظروفها وبث التسامح بينهم.
وقد روى المفسرون٢ أنا أبا بكر رضي الله عنه قال حينما نزلت الآية : إني والله لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح بنفقته التي كان ينفق عليه ؛ حيث ينطوي في هذا صورة لأخلاق أصحاب رسول الله وإذعانهم لأوامر الله وتوجاتهم وكبت غيظهم بسبيل ذلك.
وفي الآية بخاصة في أسلوبها المطلق الذي جاءت به تلقين جليل عام الشمول والاستمرار بوجوب تغليب عاطفة الرأفة والجنوح إلى العفو والصفح وكظم الغيظ وعدم منع المعونة عن المحتاج إليها إذا ما بدا منه بعض الهفوات والتصرفات الشاذة. فالله لا يمنع رحمته ويقفل باب غفرانه عن أحد وفي هذه لعباده الأسوة الحسنة.
١ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
٢ تفسير الطبري.
( ١ ) الغافلات : اللاتي لم يخطر الإثم في بالهن. أو سليمات النية والسريرة لسن داهيات ولا ماكرات.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ١ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٢٣ ) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٢٤ ) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( ٢٥ ) ﴾
إن الله هو الحق المبين : إنه ذو الحق المبين. أو ذو العدل المبين. أو الذي يتجسم في أعماله الحق المبين.
وهذه الآيات كسابقاتها معقبة على حادث الإفك ومتصلة بالسياق كما هو ظاهر، وقد احتوت إنذارا قاصما بلعنة الله في الدنيا والآخرة، وعذابه العظيم لمن يقذف المؤمنات العفيفات اللاتي تنزهن عن الفواحش والآثام ولم تخطر ببالهن وهن سليمات النية والسريرة. ولسوف تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم يوم القيامة بما كان منهم بسبيل ذلك فيوفيهم الله جزاءهم العادل وهو الذي يتجسم العدل في كل ما يأمر ويقضي ويريد.
وأسلوب الآيات يلهم أنها بسبيل الزجر والردع عن التعرض لأعراض النساء والتشديد فيه تعقيبا على ما كان من حادث قذف أم المؤمنين، وفيها توكيد ضمني بنزاهتها وبراءتها. وهي في ذات الوقت جاءت عامة التوجيه ليكون تلقينها الإنذاري والتأديبي مستمر المدى.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ١ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٢٣ ) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٢٤ ) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( ٢٥ ) ﴾
إن الله هو الحق المبين : إنه ذو الحق المبين. أو ذو العدل المبين. أو الذي يتجسم في أعماله الحق المبين.
وهذه الآيات كسابقاتها معقبة على حادث الإفك ومتصلة بالسياق كما هو ظاهر، وقد احتوت إنذارا قاصما بلعنة الله في الدنيا والآخرة، وعذابه العظيم لمن يقذف المؤمنات العفيفات اللاتي تنزهن عن الفواحش والآثام ولم تخطر ببالهن وهن سليمات النية والسريرة. ولسوف تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم يوم القيامة بما كان منهم بسبيل ذلك فيوفيهم الله جزاءهم العادل وهو الذي يتجسم العدل في كل ما يأمر ويقضي ويريد.
وأسلوب الآيات يلهم أنها بسبيل الزجر والردع عن التعرض لأعراض النساء والتشديد فيه تعقيبا على ما كان من حادث قذف أم المؤمنين، وفيها توكيد ضمني بنزاهتها وبراءتها. وهي في ذات الوقت جاءت عامة التوجيه ليكون تلقينها الإنذاري والتأديبي مستمر المدى.
دينهم : هنا بمعنى جزائهم.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ١ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٢٣ ) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٢٤ ) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( ٢٥ ) ﴾
إن الله هو الحق المبين : إنه ذو الحق المبين. أو ذو العدل المبين. أو الذي يتجسم في أعماله الحق المبين.
وهذه الآيات كسابقاتها معقبة على حادث الإفك ومتصلة بالسياق كما هو ظاهر، وقد احتوت إنذارا قاصما بلعنة الله في الدنيا والآخرة، وعذابه العظيم لمن يقذف المؤمنات العفيفات اللاتي تنزهن عن الفواحش والآثام ولم تخطر ببالهن وهن سليمات النية والسريرة. ولسوف تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم يوم القيامة بما كان منهم بسبيل ذلك فيوفيهم الله جزاءهم العادل وهو الذي يتجسم العدل في كل ما يأمر ويقضي ويريد.
وأسلوب الآيات يلهم أنها بسبيل الزجر والردع عن التعرض لأعراض النساء والتشديد فيه تعقيبا على ما كان من حادث قذف أم المؤمنين، وفيها توكيد ضمني بنزاهتها وبراءتها. وهي في ذات الوقت جاءت عامة التوجيه ليكون تلقينها الإنذاري والتأديبي مستمر المدى.
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( ٢٦ ) }.
وهذه الآية أيضا كالآيات السابقة متصلة بحادث الإفك اتصال تعقيب وبسبيل توكيد براءة أم المؤمنين والتسرية عنها مما نالها من أذى كما هو المتبادر.
فلا يمكن أن تكون إلا بريئة طيبة ؛ لأنها زوجة النبي البريء الطيب، ولا يمكن أن تكون زوجة النبي البريء الطيب إلا بريئة طيبة.
وقد جاءت آية بأسلوب مطلق ليكون تلقينها التهذيبي والأخلاقي شاملا مستمر المدى كذلك.
وهذه الآية هي آخر سلسلة الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل إنزالها في مناسبة حديث الإفك، ولما كانت الصلة وثيقة بين آيات هذه السلسلة فإننا نرجح أن هذه الآية والآيات الثلاث التي سبقتها قد نزلت هي الأخرى مع السلسلة مثل الآية ( ٢٢ ) بعد انتهاء قضية هذا الحديث إما دفعة واحدة وإما متتابعة.
( ١ ) حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها : أول بعضهم الجملة بمعنى حتى تعرفوا أن أهلها موجودون وتسلموا عليهم قبل الدخول ليأذنوا لكم بالدخول إذا شاؤوا. وروى الطبري مع ذلك أن ابن عباس وسعيد ابن جبير والأعمش كانوا يقرأون كلمة ﴿ تستأنسوا ﴾ بلفظ ( تستأذنوا ) ويقولون إنها غلط من الكاتب.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٢٧ ) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ( ٢ ) وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ٢٨ ) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( ٢٩ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون٢٧ ﴾ والآيتين التاليتين لها ومدى ما فيها من آداب سلوكية للرجال والنساء وما ورد في صدد ذلك.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت تشريعا في آداب الدخول على بيوت الغير وفي النطاق التالي :
أولا : لا يصح للمؤمنين الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات أن يدخلوا بيوتا غير بيوتهم إلا بعد الاستئذان والاستئناس بأن أهلها فيها، وبعد أن يأذنوا بدخولهم عليهم أن يحيوهم بالسلام قبل كل شيء، وإذا قيل لهم ارجعوا فليرجعوا فهذا هو الأطهر لهم المبعد عنهم قالة السوء.
وثانيا : لا يصح لهم أن يدخلوا كذلك بيوتا غير بيوتهم إذا لم يجدوا فيها أحدا من أصحابها إلا بإذن منهم باستثناء البيوت غير المسكونة إذا كان لهم في ذلك مصلحة وحاجة.
وقد نبهت مقاطع الآيات الثلاث الأخيرة إلى أن ما في ذلك من تذكير وتعليم، وإلى كون الله تعالى يعلم كل ما يفعلونه وكل ما يبدونه أو يكتمونه على سبيل التدعيم لما احتوته من تشريع والتشديد على وجوب اتباعه وعدم مخالفته.
وقد روى الطبري عن عدي ابن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال. فنزلت الآية الأولى. وروى الزمخشري أن أبا بكر قال : يا رسول الله إنه قد أنزل عليك آية بالاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن ؟ فنزلت الآية الثانية. وقال الخازن : لما نزلت آية الاستئذان قالوا : كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها ساكن يريدون المنازل المبنية للسابلة ليأووا إليها ويؤووا أمتعتهم فأنزل الله الآية الثالثة.
والرواية الأولى محتملة جدا دون الروايتين الثانيتين فيما يتبادران لنا ؛ لأن منازل السابلة في طريق مكة والمدينة والشام قد أنشئت في الدولة الإسلامية، وكان العرب يحملون خيامهم من الشعر أو الجلد فيأوون إليها حينما ينزلون منزلا في رحلاتهم الطويلة. وهذا لا يمنع أن يكون بعضهم استفتى النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت الآية الأولى عن أمر البيوت غير المسكونة فرفع الله في الآية الثالثة الحرج عن الناس. وعلى كل حال فالذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث فصل تشريعي يتمم بعضه بعضا.
ونلمح صلة ما بين هذه الآيات وبين موضوع السلسلة السابقة عند إنعام النظر، فالدخول إلى بيوت الناس بدون إذن مما يفسح المجال للقيل والقال وإشاعة أخبار السوء. وهذا مما حذرت منه الآيات السابقة، ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد تلك السلسلة فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي، أما إذا لم تكن نزلت بعدها مباشرة فيكون ترتيبها للتناسب الموضوعي الملموح.
ويظهر من فحوى الآيات وروحها أن الناس كانوا يدخلون بيوت بعضهم بدون استعلام واستئذان، وهذا مستفاد أيضا من آية سورة الأحزاب ( ٥٣ ) التي جاء فيها ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه... ﴾ ومن الأحاديث والروايات العديدة التي أوردها المفسرون منها ما أورده الطبري وأوردناه قبل عن عدي ابن ثابت كسبب لنزول الآية الأولى، ومنها حديث أورده الخازن جاء فيه ( قال كند ابن حنبل دخلت على النبي ولم أسلم ولم أستأذن فقال لي : ارجع فقل : السلام عليكم أأدخل ؟ فاحتوت الآيات كما هو ظاهر تأديبا رفيعا في هذا الشأن توخي فيه تنظيم السلوك الشخصي بين المسلمين تنظيما يجنبهم دواعي الريبة. وأخبار السوء وما يكون فيه للغير من أذى وتثقيل.
والخطاب في الآية عام للمسلمين، وليس فيه قرينة تخصص أنه خطاب للرجال دون النساء وحكمه يتناولهم في كل ظرف ومكان بطبيعة الحال. والروعة فيما احتوته أنه آداب من طبيعتها الخلود والاتساق مع الخلق الفاضل والذوق السليم في كل وقت ومكان.
والمتبادر أن الاستئناس والاستئذان والسلام هو بسبيل تنبيه أهل البيت حتى يتهيأ لقبول الزائر إذا لم يكن عندهم مانع ويأذنوا له. وأن فحوى الآيات وروحها يلهمان أن هذا التنبيه والتأديب عام للنساء والرجال على السواء وأنه ليس من جناح من دخول النساء على الرجال والرجال على النساء بعد صدور الإذن.
والحديث الذي رواه الطبري مما يؤيد ذلك، وقد روى مجاهد أن ابن عمر جاء من حاجة وقد آذاه الرمضاء فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ قال ادخل بسلام، فأعاد فأعادت، وهو يراوح بين قدميه قال قولي : ادخل قالت : ادخل فدخل )١ مما فيه تأييد لذلك. والآيات التالية لهذه الآيات ثم آيات أخرى في آخر هذه السورة مما يؤيده أيضا. وكل ما يجب استلهاما من الآيات التزام العفة وطهارة النية وستر المرأة زينتها ومفاتن جسدها أمام غير محارمها.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة فيها تتمة للأدب القرآني. منها حديث رواه الخمسة عن جابر قال :( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب فقال : من ذا فقلت : أنا، فقال : أنا أنا كأنه كرهها ) ٢ وروى أبو داود عن عبد الله ابن بشر قال ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ) ٣ وروى الأربعة عن سهل بنت سعد ( أن رجلا اطلع من جحر في باب النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي مدري يرجل به رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الله الإذن من أجل البصر ) ٤.
وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه ) ٥ وروى مسلم وأحمد عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح ) ٦. وروى الترمذي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من كشف سترا فأدخل بصره في البيت قبل أن يؤذن له فرأى عورة أهله فقد أتى حدا لا يحل له أن يأتيه لو أنه حين أدخل بصره استقبله رجل ففقأ عينه ما غيرت عليه، وإن مر الرجل على باب لا ستر له غير مغلق فنظر فلا خطيئة عليه إنما الخطيئة على أهل البيت ) ٧ وقد روى مالك في موطئه حديثا عن عطاء ابن يسار ( أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي ؟ قال : نعم قال : فقال الرجل إني معها في البيت فقال له : أتحب أن تراها عريانة ؟ قال : لا قال فاستأذن عليها ) ٨.
والالتزام ما احتوته الأحاديث من أدب رفيع واجب بدون ريب. وقد يتحمل الحديث الآخر استدراكا وتوضيحا. فهو أول حديث مرفوع وثانيا إن الاستئذان واجب على المرء بالنسبة لغير بيته. إلا أن تكون الأم في بيت خاص أو تكون في مخدعها فيكون من المحتمل أن تكون متبذلة أو عريانة فيكون إيجاب الاستئذان عليها من ابنها في محله.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في صدد عدم دخول الرجال على النساء وعدم الخلوة بهن نوردها ونعلق عليها بما يلي :
١ ـ روى الشيخان عن عقبة ابن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إياكم والدخول على النساء فقال رجل يا رسول الله أرأيت الحمو، قال : الحمو الموت ) ٩ ويتبادر لنا على ضوء الآية التي نحن في صددها أن النهي هو في صدد الدخول بدون استئذان وإذن، ولو كان الرجل قريبا للزوج أو الزوجة ؛ حيث يمكن أن يرى هذا بخاصة لنفسه في الدخول بدون استئذان وإذن، وأنه إذا وقع الاستئذان والإذن فلا يبقى مانع وبذلك يمكن التوفيق بين الحديث وبين الآية. وفي الحديث الذي رواه مجاهد عن ابن عمر وأوردناه قبل تأييد ما لذلك. وابن عمر من كبار أصحاب رسول الله وعلمائهم فلا يمكن أن يدخل على امرأة ما لم يكن يعرف أنه جائز إذا ما استأذن وأذنت له.
٢ ـ روى الترمذي عن جابر ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهم الشيطان ) ١٠ والحديث يحذر من خلوة رجل بامرأة على انفراد. وهذا أدب رفيع يجب الالتزام به ويمنع الغواية والإغراء عن الاثنين كما يمنع منهما سوء القالة.
والمتبادر أن التحذير ليس واردا إذا كان الاجتماع علنا أمام الناس وليس في خلوة أو كان المجتمعون مع بعضهم نساء ورجالا عديدين إذا ما تقيدوا بأدب العفة والطهارة وكان النساء ساترات لزينتهن ومفاتنهن، ويقال هذا أيضا بالنسبة لدخول عديد الرجال والنساء على بعضهم بعد الاستئذان والإذن.
٣ ـ روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم ) ١١ والحديث في مدى سابقه مع زيادة، وهي إجازة خلوة رجل بامرأة إذا كان معها محرم، وما قلناه في سياق الحديث السابق يورد هنا بتمامه.
٤ ـ روى الترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم ) ١٢ والمغيبات هن اللاتي يكون أزواجهن في غيبة طويلة على ما هو المتبادر وهدف الحديث درء الفتنة والوقوع في الإثم.
وهذا أدب رفيع يجب الالتزام به، ومع ذلك فالمتبادر أنه ليس في الحديث ما يمنع الدخول إطلاقا وفق القيود والتلقينات المشروحة سابقا.
ولقد روى الطبري حديثا ذا مغزى مهم جاء فيه ( إن عبد الرحمان ابن عوف قال للنبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن خلوة الرجال بالنساء إلا مع محرم وعن دخول الرجال في غيبة أزواجهن : يا رسول الله إنا نغيب ويكون أضياف فقال له : ليس أولئك عنيت، ليس أولئك عنيت ) حيث يستفاد من هذا أن النهي يستهدف المتهمين ودرء الفتنة والريب كما قلنا قبل.
٥ـ روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه ) ١٣ والشاهد في الحديث الفقرة الأخيرة. وهذا حق فالبيت مشترك والحياة الزوجية شركة، والوفاق والتفاهم واجبان فيها، ومخالفة هذا الأدب يثير الريب والشقاق.
ومع ذلك فليس في الحديث ما يمنع استقبال الزوجة للرجال وفق التقريرات المشروحة إذا ما حصلت على إذن زوجها. وقد علل الشراح الشطر الأول من الحديث بأن الصوم المنهي عنه صوم تطوعي، والرجل قد يحتاج إلى زوجته في النهار فيجب أن يكون صومها هذا بإذنه، وليس هذا واردا بالنسبة لصوم رمضان.
٦ ـ روى الترمذي حديثا عن الأحوص جاء فيه ( إن من حقكم على نسائكم ألا يوطئن فراشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون )١٤ والحظر هو إذن الزوجة لمن يكرهه زوجها وإجلاسه على فرشه، وليس مطلقا ك
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٢٧ ) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ( ٢ ) وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ٢٨ ) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( ٢٩ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون٢٧ ﴾ والآيتين التاليتين لها ومدى ما فيها من آداب سلوكية للرجال والنساء وما ورد في صدد ذلك.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت تشريعا في آداب الدخول على بيوت الغير وفي النطاق التالي :
أولا : لا يصح للمؤمنين الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات أن يدخلوا بيوتا غير بيوتهم إلا بعد الاستئذان والاستئناس بأن أهلها فيها، وبعد أن يأذنوا بدخولهم عليهم أن يحيوهم بالسلام قبل كل شيء، وإذا قيل لهم ارجعوا فليرجعوا فهذا هو الأطهر لهم المبعد عنهم قالة السوء.
وثانيا : لا يصح لهم أن يدخلوا كذلك بيوتا غير بيوتهم إذا لم يجدوا فيها أحدا من أصحابها إلا بإذن منهم باستثناء البيوت غير المسكونة إذا كان لهم في ذلك مصلحة وحاجة.
وقد نبهت مقاطع الآيات الثلاث الأخيرة إلى أن ما في ذلك من تذكير وتعليم، وإلى كون الله تعالى يعلم كل ما يفعلونه وكل ما يبدونه أو يكتمونه على سبيل التدعيم لما احتوته من تشريع والتشديد على وجوب اتباعه وعدم مخالفته.
وقد روى الطبري عن عدي ابن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال. فنزلت الآية الأولى. وروى الزمخشري أن أبا بكر قال : يا رسول الله إنه قد أنزل عليك آية بالاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن ؟ فنزلت الآية الثانية. وقال الخازن : لما نزلت آية الاستئذان قالوا : كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها ساكن يريدون المنازل المبنية للسابلة ليأووا إليها ويؤووا أمتعتهم فأنزل الله الآية الثالثة.
والرواية الأولى محتملة جدا دون الروايتين الثانيتين فيما يتبادران لنا ؛ لأن منازل السابلة في طريق مكة والمدينة والشام قد أنشئت في الدولة الإسلامية، وكان العرب يحملون خيامهم من الشعر أو الجلد فيأوون إليها حينما ينزلون منزلا في رحلاتهم الطويلة. وهذا لا يمنع أن يكون بعضهم استفتى النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت الآية الأولى عن أمر البيوت غير المسكونة فرفع الله في الآية الثالثة الحرج عن الناس. وعلى كل حال فالذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث فصل تشريعي يتمم بعضه بعضا.
ونلمح صلة ما بين هذه الآيات وبين موضوع السلسلة السابقة عند إنعام النظر، فالدخول إلى بيوت الناس بدون إذن مما يفسح المجال للقيل والقال وإشاعة أخبار السوء. وهذا مما حذرت منه الآيات السابقة، ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد تلك السلسلة فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي، أما إذا لم تكن نزلت بعدها مباشرة فيكون ترتيبها للتناسب الموضوعي الملموح.
ويظهر من فحوى الآيات وروحها أن الناس كانوا يدخلون بيوت بعضهم بدون استعلام واستئذان، وهذا مستفاد أيضا من آية سورة الأحزاب ( ٥٣ ) التي جاء فيها ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه... ﴾ ومن الأحاديث والروايات العديدة التي أوردها المفسرون منها ما أورده الطبري وأوردناه قبل عن عدي ابن ثابت كسبب لنزول الآية الأولى، ومنها حديث أورده الخازن جاء فيه ( قال كند ابن حنبل دخلت على النبي ولم أسلم ولم أستأذن فقال لي : ارجع فقل : السلام عليكم أأدخل ؟ فاحتوت الآيات كما هو ظاهر تأديبا رفيعا في هذا الشأن توخي فيه تنظيم السلوك الشخصي بين المسلمين تنظيما يجنبهم دواعي الريبة. وأخبار السوء وما يكون فيه للغير من أذى وتثقيل.
والخطاب في الآية عام للمسلمين، وليس فيه قرينة تخصص أنه خطاب للرجال دون النساء وحكمه يتناولهم في كل ظرف ومكان بطبيعة الحال. والروعة فيما احتوته أنه آداب من طبيعتها الخلود والاتساق مع الخلق الفاضل والذوق السليم في كل وقت ومكان.
والمتبادر أن الاستئناس والاستئذان والسلام هو بسبيل تنبيه أهل البيت حتى يتهيأ لقبول الزائر إذا لم يكن عندهم مانع ويأذنوا له. وأن فحوى الآيات وروحها يلهمان أن هذا التنبيه والتأديب عام للنساء والرجال على السواء وأنه ليس من جناح من دخول النساء على الرجال والرجال على النساء بعد صدور الإذن.
والحديث الذي رواه الطبري مما يؤيد ذلك، وقد روى مجاهد أن ابن عمر جاء من حاجة وقد آذاه الرمضاء فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ قال ادخل بسلام، فأعاد فأعادت، وهو يراوح بين قدميه قال قولي : ادخل قالت : ادخل فدخل )١ مما فيه تأييد لذلك. والآيات التالية لهذه الآيات ثم آيات أخرى في آخر هذه السورة مما يؤيده أيضا. وكل ما يجب استلهاما من الآيات التزام العفة وطهارة النية وستر المرأة زينتها ومفاتن جسدها أمام غير محارمها.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة فيها تتمة للأدب القرآني. منها حديث رواه الخمسة عن جابر قال :( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب فقال : من ذا فقلت : أنا، فقال : أنا أنا كأنه كرهها ) ٢ وروى أبو داود عن عبد الله ابن بشر قال ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ) ٣ وروى الأربعة عن سهل بنت سعد ( أن رجلا اطلع من جحر في باب النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي مدري يرجل به رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الله الإذن من أجل البصر ) ٤.
وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه ) ٥ وروى مسلم وأحمد عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح ) ٦. وروى الترمذي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من كشف سترا فأدخل بصره في البيت قبل أن يؤذن له فرأى عورة أهله فقد أتى حدا لا يحل له أن يأتيه لو أنه حين أدخل بصره استقبله رجل ففقأ عينه ما غيرت عليه، وإن مر الرجل على باب لا ستر له غير مغلق فنظر فلا خطيئة عليه إنما الخطيئة على أهل البيت ) ٧ وقد روى مالك في موطئه حديثا عن عطاء ابن يسار ( أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي ؟ قال : نعم قال : فقال الرجل إني معها في البيت فقال له : أتحب أن تراها عريانة ؟ قال : لا قال فاستأذن عليها ) ٨.
والالتزام ما احتوته الأحاديث من أدب رفيع واجب بدون ريب. وقد يتحمل الحديث الآخر استدراكا وتوضيحا. فهو أول حديث مرفوع وثانيا إن الاستئذان واجب على المرء بالنسبة لغير بيته. إلا أن تكون الأم في بيت خاص أو تكون في مخدعها فيكون من المحتمل أن تكون متبذلة أو عريانة فيكون إيجاب الاستئذان عليها من ابنها في محله.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في صدد عدم دخول الرجال على النساء وعدم الخلوة بهن نوردها ونعلق عليها بما يلي :
١ ـ روى الشيخان عن عقبة ابن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إياكم والدخول على النساء فقال رجل يا رسول الله أرأيت الحمو، قال : الحمو الموت ) ٩ ويتبادر لنا على ضوء الآية التي نحن في صددها أن النهي هو في صدد الدخول بدون استئذان وإذن، ولو كان الرجل قريبا للزوج أو الزوجة ؛ حيث يمكن أن يرى هذا بخاصة لنفسه في الدخول بدون استئذان وإذن، وأنه إذا وقع الاستئذان والإذن فلا يبقى مانع وبذلك يمكن التوفيق بين الحديث وبين الآية. وفي الحديث الذي رواه مجاهد عن ابن عمر وأوردناه قبل تأييد ما لذلك. وابن عمر من كبار أصحاب رسول الله وعلمائهم فلا يمكن أن يدخل على امرأة ما لم يكن يعرف أنه جائز إذا ما استأذن وأذنت له.
٢ ـ روى الترمذي عن جابر ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهم الشيطان ) ١٠ والحديث يحذر من خلوة رجل بامرأة على انفراد. وهذا أدب رفيع يجب الالتزام به ويمنع الغواية والإغراء عن الاثنين كما يمنع منهما سوء القالة.
والمتبادر أن التحذير ليس واردا إذا كان الاجتماع علنا أمام الناس وليس في خلوة أو كان المجتمعون مع بعضهم نساء ورجالا عديدين إذا ما تقيدوا بأدب العفة والطهارة وكان النساء ساترات لزينتهن ومفاتنهن، ويقال هذا أيضا بالنسبة لدخول عديد الرجال والنساء على بعضهم بعد الاستئذان والإذن.
٣ ـ روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم ) ١١ والحديث في مدى سابقه مع زيادة، وهي إجازة خلوة رجل بامرأة إذا كان معها محرم، وما قلناه في سياق الحديث السابق يورد هنا بتمامه.
٤ ـ روى الترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم ) ١٢ والمغيبات هن اللاتي يكون أزواجهن في غيبة طويلة على ما هو المتبادر وهدف الحديث درء الفتنة والوقوع في الإثم.
وهذا أدب رفيع يجب الالتزام به، ومع ذلك فالمتبادر أنه ليس في الحديث ما يمنع الدخول إطلاقا وفق القيود والتلقينات المشروحة سابقا.
ولقد روى الطبري حديثا ذا مغزى مهم جاء فيه ( إن عبد الرحمان ابن عوف قال للنبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن خلوة الرجال بالنساء إلا مع محرم وعن دخول الرجال في غيبة أزواجهن : يا رسول الله إنا نغيب ويكون أضياف فقال له : ليس أولئك عنيت، ليس أولئك عنيت ) حيث يستفاد من هذا أن النهي يستهدف المتهمين ودرء الفتنة والريب كما قلنا قبل.
٥ـ روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه ) ١٣ والشاهد في الحديث الفقرة الأخيرة. وهذا حق فالبيت مشترك والحياة الزوجية شركة، والوفاق والتفاهم واجبان فيها، ومخالفة هذا الأدب يثير الريب والشقاق.
ومع ذلك فليس في الحديث ما يمنع استقبال الزوجة للرجال وفق التقريرات المشروحة إذا ما حصلت على إذن زوجها. وقد علل الشراح الشطر الأول من الحديث بأن الصوم المنهي عنه صوم تطوعي، والرجل قد يحتاج إلى زوجته في النهار فيجب أن يكون صومها هذا بإذنه، وليس هذا واردا بالنسبة لصوم رمضان.
٦ ـ روى الترمذي حديثا عن الأحوص جاء فيه ( إن من حقكم على نسائكم ألا يوطئن فراشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون )١٤ والحظر هو إذن الزوجة لمن يكرهه زوجها وإجلاسه على فرشه، وليس مطلقا ك
( ٢ ) فيها متاع لكم : لكم في دخولها فائدة ومصلحة وحاجة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ٢٧ ) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ( ٢ ) وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( ٢٨ ) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( ٢٩ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون٢٧ ﴾ والآيتين التاليتين لها ومدى ما فيها من آداب سلوكية للرجال والنساء وما ورد في صدد ذلك.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت تشريعا في آداب الدخول على بيوت الغير وفي النطاق التالي :
أولا : لا يصح للمؤمنين الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات أن يدخلوا بيوتا غير بيوتهم إلا بعد الاستئذان والاستئناس بأن أهلها فيها، وبعد أن يأذنوا بدخولهم عليهم أن يحيوهم بالسلام قبل كل شيء، وإذا قيل لهم ارجعوا فليرجعوا فهذا هو الأطهر لهم المبعد عنهم قالة السوء.
وثانيا : لا يصح لهم أن يدخلوا كذلك بيوتا غير بيوتهم إذا لم يجدوا فيها أحدا من أصحابها إلا بإذن منهم باستثناء البيوت غير المسكونة إذا كان لهم في ذلك مصلحة وحاجة.
وقد نبهت مقاطع الآيات الثلاث الأخيرة إلى أن ما في ذلك من تذكير وتعليم، وإلى كون الله تعالى يعلم كل ما يفعلونه وكل ما يبدونه أو يكتمونه على سبيل التدعيم لما احتوته من تشريع والتشديد على وجوب اتباعه وعدم مخالفته.
وقد روى الطبري عن عدي ابن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال. فنزلت الآية الأولى. وروى الزمخشري أن أبا بكر قال : يا رسول الله إنه قد أنزل عليك آية بالاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن ؟ فنزلت الآية الثانية. وقال الخازن : لما نزلت آية الاستئذان قالوا : كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها ساكن يريدون المنازل المبنية للسابلة ليأووا إليها ويؤووا أمتعتهم فأنزل الله الآية الثالثة.
والرواية الأولى محتملة جدا دون الروايتين الثانيتين فيما يتبادران لنا ؛ لأن منازل السابلة في طريق مكة والمدينة والشام قد أنشئت في الدولة الإسلامية، وكان العرب يحملون خيامهم من الشعر أو الجلد فيأوون إليها حينما ينزلون منزلا في رحلاتهم الطويلة. وهذا لا يمنع أن يكون بعضهم استفتى النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت الآية الأولى عن أمر البيوت غير المسكونة فرفع الله في الآية الثالثة الحرج عن الناس. وعلى كل حال فالذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث فصل تشريعي يتمم بعضه بعضا.
ونلمح صلة ما بين هذه الآيات وبين موضوع السلسلة السابقة عند إنعام النظر، فالدخول إلى بيوت الناس بدون إذن مما يفسح المجال للقيل والقال وإشاعة أخبار السوء. وهذا مما حذرت منه الآيات السابقة، ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد تلك السلسلة فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي، أما إذا لم تكن نزلت بعدها مباشرة فيكون ترتيبها للتناسب الموضوعي الملموح.
ويظهر من فحوى الآيات وروحها أن الناس كانوا يدخلون بيوت بعضهم بدون استعلام واستئذان، وهذا مستفاد أيضا من آية سورة الأحزاب ( ٥٣ ) التي جاء فيها ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه... ﴾ ومن الأحاديث والروايات العديدة التي أوردها المفسرون منها ما أورده الطبري وأوردناه قبل عن عدي ابن ثابت كسبب لنزول الآية الأولى، ومنها حديث أورده الخازن جاء فيه ( قال كند ابن حنبل دخلت على النبي ولم أسلم ولم أستأذن فقال لي : ارجع فقل : السلام عليكم أأدخل ؟ فاحتوت الآيات كما هو ظاهر تأديبا رفيعا في هذا الشأن توخي فيه تنظيم السلوك الشخصي بين المسلمين تنظيما يجنبهم دواعي الريبة. وأخبار السوء وما يكون فيه للغير من أذى وتثقيل.
والخطاب في الآية عام للمسلمين، وليس فيه قرينة تخصص أنه خطاب للرجال دون النساء وحكمه يتناولهم في كل ظرف ومكان بطبيعة الحال. والروعة فيما احتوته أنه آداب من طبيعتها الخلود والاتساق مع الخلق الفاضل والذوق السليم في كل وقت ومكان.
والمتبادر أن الاستئناس والاستئذان والسلام هو بسبيل تنبيه أهل البيت حتى يتهيأ لقبول الزائر إذا لم يكن عندهم مانع ويأذنوا له. وأن فحوى الآيات وروحها يلهمان أن هذا التنبيه والتأديب عام للنساء والرجال على السواء وأنه ليس من جناح من دخول النساء على الرجال والرجال على النساء بعد صدور الإذن.
والحديث الذي رواه الطبري مما يؤيد ذلك، وقد روى مجاهد أن ابن عمر جاء من حاجة وقد آذاه الرمضاء فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ قال ادخل بسلام، فأعاد فأعادت، وهو يراوح بين قدميه قال قولي : ادخل قالت : ادخل فدخل )١ مما فيه تأييد لذلك. والآيات التالية لهذه الآيات ثم آيات أخرى في آخر هذه السورة مما يؤيده أيضا. وكل ما يجب استلهاما من الآيات التزام العفة وطهارة النية وستر المرأة زينتها ومفاتن جسدها أمام غير محارمها.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة فيها تتمة للأدب القرآني. منها حديث رواه الخمسة عن جابر قال :( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب فقال : من ذا فقلت : أنا، فقال : أنا أنا كأنه كرهها ) ٢ وروى أبو داود عن عبد الله ابن بشر قال ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ) ٣ وروى الأربعة عن سهل بنت سعد ( أن رجلا اطلع من جحر في باب النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي مدري يرجل به رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الله الإذن من أجل البصر ) ٤.
وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه ) ٥ وروى مسلم وأحمد عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح ) ٦. وروى الترمذي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من كشف سترا فأدخل بصره في البيت قبل أن يؤذن له فرأى عورة أهله فقد أتى حدا لا يحل له أن يأتيه لو أنه حين أدخل بصره استقبله رجل ففقأ عينه ما غيرت عليه، وإن مر الرجل على باب لا ستر له غير مغلق فنظر فلا خطيئة عليه إنما الخطيئة على أهل البيت ) ٧ وقد روى مالك في موطئه حديثا عن عطاء ابن يسار ( أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي ؟ قال : نعم قال : فقال الرجل إني معها في البيت فقال له : أتحب أن تراها عريانة ؟ قال : لا قال فاستأذن عليها ) ٨.
والالتزام ما احتوته الأحاديث من أدب رفيع واجب بدون ريب. وقد يتحمل الحديث الآخر استدراكا وتوضيحا. فهو أول حديث مرفوع وثانيا إن الاستئذان واجب على المرء بالنسبة لغير بيته. إلا أن تكون الأم في بيت خاص أو تكون في مخدعها فيكون من المحتمل أن تكون متبذلة أو عريانة فيكون إيجاب الاستئذان عليها من ابنها في محله.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في صدد عدم دخول الرجال على النساء وعدم الخلوة بهن نوردها ونعلق عليها بما يلي :
١ ـ روى الشيخان عن عقبة ابن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إياكم والدخول على النساء فقال رجل يا رسول الله أرأيت الحمو، قال : الحمو الموت ) ٩ ويتبادر لنا على ضوء الآية التي نحن في صددها أن النهي هو في صدد الدخول بدون استئذان وإذن، ولو كان الرجل قريبا للزوج أو الزوجة ؛ حيث يمكن أن يرى هذا بخاصة لنفسه في الدخول بدون استئذان وإذن، وأنه إذا وقع الاستئذان والإذن فلا يبقى مانع وبذلك يمكن التوفيق بين الحديث وبين الآية. وفي الحديث الذي رواه مجاهد عن ابن عمر وأوردناه قبل تأييد ما لذلك. وابن عمر من كبار أصحاب رسول الله وعلمائهم فلا يمكن أن يدخل على امرأة ما لم يكن يعرف أنه جائز إذا ما استأذن وأذنت له.
٢ ـ روى الترمذي عن جابر ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهم الشيطان ) ١٠ والحديث يحذر من خلوة رجل بامرأة على انفراد. وهذا أدب رفيع يجب الالتزام به ويمنع الغواية والإغراء عن الاثنين كما يمنع منهما سوء القالة.
والمتبادر أن التحذير ليس واردا إذا كان الاجتماع علنا أمام الناس وليس في خلوة أو كان المجتمعون مع بعضهم نساء ورجالا عديدين إذا ما تقيدوا بأدب العفة والطهارة وكان النساء ساترات لزينتهن ومفاتنهن، ويقال هذا أيضا بالنسبة لدخول عديد الرجال والنساء على بعضهم بعد الاستئذان والإذن.
٣ ـ روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم ) ١١ والحديث في مدى سابقه مع زيادة، وهي إجازة خلوة رجل بامرأة إذا كان معها محرم، وما قلناه في سياق الحديث السابق يورد هنا بتمامه.
٤ ـ روى الترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم ) ١٢ والمغيبات هن اللاتي يكون أزواجهن في غيبة طويلة على ما هو المتبادر وهدف الحديث درء الفتنة والوقوع في الإثم.
وهذا أدب رفيع يجب الالتزام به، ومع ذلك فالمتبادر أنه ليس في الحديث ما يمنع الدخول إطلاقا وفق القيود والتلقينات المشروحة سابقا.
ولقد روى الطبري حديثا ذا مغزى مهم جاء فيه ( إن عبد الرحمان ابن عوف قال للنبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن خلوة الرجال بالنساء إلا مع محرم وعن دخول الرجال في غيبة أزواجهن : يا رسول الله إنا نغيب ويكون أضياف فقال له : ليس أولئك عنيت، ليس أولئك عنيت ) حيث يستفاد من هذا أن النهي يستهدف المتهمين ودرء الفتنة والريب كما قلنا قبل.
٥ـ روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه ) ١٣ والشاهد في الحديث الفقرة الأخيرة. وهذا حق فالبيت مشترك والحياة الزوجية شركة، والوفاق والتفاهم واجبان فيها، ومخالفة هذا الأدب يثير الريب والشقاق.
ومع ذلك فليس في الحديث ما يمنع استقبال الزوجة للرجال وفق التقريرات المشروحة إذا ما حصلت على إذن زوجها. وقد علل الشراح الشطر الأول من الحديث بأن الصوم المنهي عنه صوم تطوعي، والرجل قد يحتاج إلى زوجته في النهار فيجب أن يكون صومها هذا بإذنه، وليس هذا واردا بالنسبة لصوم رمضان.
٦ ـ روى الترمذي حديثا عن الأحوص جاء فيه ( إن من حقكم على نسائكم ألا يوطئن فراشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون )١٤ والحظر هو إذن الزوجة لمن يكرهه زوجها وإجلاسه على فرشه، وليس مطلقا ك
﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا١ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( ٣٠ ) ﴾.
( ١ ) يغضوا : يخفضوا أو يصرفوا أبصارهم أو لا يطيلوا النظر.
في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالإيعاز للمؤمنين من الرجال بغض أبصارهم وحفظ فروجهم ؛ لأن ذلك أدعى إلى الطهارة والصيانة، وتنبيه إلى أن الله خبير بما يفعلونه وهو مراقبهم، وذلك بسبيل توطيد الأمر وتنفيذه.
تعليق على الآية
﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ﴾
ولم نطلع على مناسبة خاصة لهذه الآية. ومع أنها فصل جديد أو بداية فصل جديد فإن الصلة الموضوعية ملموحة بينها وبين الفصل السابق. فإذا لم تكن نزلت بعده فيكون ترتيبها في مكانها بسبب هذه الصلة كما هو المتبادر.
ومما قاله المفسرون في صدد ما احتوته الآية من الأمر بغض الأبصار وحفظ الفروج : إنه عدم التعمد في النظر إلى النساء وصرف البصر عنهن إذا وقع عليهن بدون عمد، والتعفف عن الزنا وعدم التبذل في الثياب بحيث تظهر من ذلك العورات، وعدم النظر إلى العورات في الوقت نفسه. وقد أوردوا أحاديث عديدة في ذلك. منها حديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رواه الترمذي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليس لك الآخرة ) ١. ومنها حديث رواه البغوي عن جرير ابن عبد الله قال ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظرة الفجأة فقال : اصرف بعدها بصرك )، ومنها حديث عن أبي سعيد الخدري قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد ) ٢. والذي يتبادر لنا أن جمع الأمر بغض الأبصار وحفظ الفروج في جملة واحدة قرينة قرآنية على أن القصد من الأمر بالغض هو عدم النظر إلى المرأة الأجنبية نظرة جنسية شهوانية. وأن الأحاديث هي في صدد ذلك من حيث الجوهر. ويلفت النظر إلى الحديث الذي ينهي عن اتباع النظرة بالنظرة فالنظرة الأولى تكون صدفة ومعفوا عنها، فإذا أتبعت بأخرى صارت نظرة مريبة آثمة. وفي الآية التالية التي تأتي بعد هذه الآية تسويغ لإسفار المرأة عن وجهها أمام الأجانب. هذا سواغ تبادل الكلام والنظر، وهذا ما كان جاريا من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن. وورد ذلك في أحاديث وروايات كثيرة وهو المعقول التعامل بدون انقطاع، وهو سائغ ما دام ليس شهوانيا آثما والله تعالى أعلم. وعلى كل حال فالآية هي بسبيل حث المؤمنين على التمسك بأهداب العفة وتوقي أسباب الفتنة والفاحشة وعلى عدم التبذل في كشف ما لا يأتلف مع الحياء من أجسادهم وعوراتهم. وكل هذا أدب رفيع متسق مع الذوق السليم والخلق الكريم في كل ظرف ومكان.
١ ابن كثير..
٢ البغوي. وبديهي أن النهي يكون أولى وأشد عن نظرة الرجل إلى عورة المرأة وعن نظر المرأة إلى عورة الرجل وعن إفضاء الرجل بثوب إلى المرأة وإفضاء المرأة بثوب إلى الرجل وعورة الرجل هي ما دون السرة وفوق الركبة كما جاء في حديث نبوي رواه أبو داود والبيهقي وعورة المرأة جميعا جسدها عدا وجهها ويديها انظر تفسير الآية و الآيات التالية في ابن كثير والخازن وانظر التاج ج ١ ص ١٣٩.
﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٣١ ) ﴾
( ١ ) زينتهن : المتبادر أنها الحلي : ويجوز أن يكون من مقاصد الكلمة ( مفاتن المرأة ) أي : نحورهن وظهورهن وصدورهن وسيقانهن وأذرعهن الخ، وهذا يتبادر أكثر من جملة ﴿ ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ﴾ الخ.
( ٢ ) خمرهن : جمع خمار، وهو غطاء كان النساء يتشحن أو يتقنعن به.
( ٣ ) جيوبهن : جمع جيب : وهو شق الثوب الذي يظهر منه عادة بعض أجزاء البدن كالصدر والظهر.
( ٤ ) نسائهن : النساء عامة في قول والنساء المسلمات خاصة في قول آخر.
( ٥ ) غير أولى الإربة من الرجال : غير القادرين على المباشرة الجنسية.
( ٦ ) الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء : بمعنى الأطفال الذين لم يبلغوا سن الشهوة والرغبة الجنسية.
( ٧ ) ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن : المتبادر أن المقصد هو الخلخال الذي يوضع في الرجل للزينة حيث يرن صوته إذا ضربت المرأة برجلها.
تعليق على الآية
﴿ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن... ﴾الخ
ومدى ما فيها من آداب وبحث في سفور المرأة ونشاطها في مختلف الميادين.
عبارة الآية واضحة. وهي والآية السابقة لها تؤلفان فصلا واحدا كما هو المتبادر، وقد أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يوعز إلى النساء أيضا بما أوعز به إلى الرجال من غض الأبصار وحفظ الفروج مضافا إلى ذلك ما هو متصل بطبيعتهن الجنسية من عدم إبداء ما يمكن إخفاؤه من الزينة. وستر شقوق ثيابهن التي تظهر منها مفاتن أجسادهن بأوشحتهن أو خمرهن. ومن إخفاء ما يجب إخفاؤه من زينتهن ومفاتنهن عن غير المذكور في الآية. ومن عدم تحريك أرجلهن بقصد إظهار ما هو خاف من زينتهن وحليهن فيها. وانتهت الآية بالهتاف بالمؤمنين جميعا بالتوبة إلى الله وطاعته لضمان الفوز والفلاح لأنفسهم
وواضح أن هدف الآية هو تنبيه النساء المسلمات إلى وجوب الغض من أبصارهن نحو الرجال بسبيل تجنب الإغراء والتورط في الإثم وإلى الاحتشام في اللباس وعدم التبذل في كشف ما لا يأتلف مع واجب الحياء، وفيه إغراء للرجال وتوريط أمام غير المحارم.
وهكذا تكون الآية قد احتوت تقرير كون المرأة في الخطاب القرآني التشريعي الاجتماعي والتأديبي أيضا طرفا مسؤولا مثل الرجل كما هو شأنها في الخطاب التشريعي المالي والسياسي والتعبدي والقضائي والشخصي. وما قلناه في سياق الآية السابقة من سواغ تبادل النظر والكلام وكون القصد من جميع الأمر بالغض وحفظ الفروج هو النهي عن النظرة الأثيمة الشهوانية قال هنا أيضا فلا حاجة إلى التكرار.
وجملة ﴿ إلا ما ظهر منها ﴾ تعني كما هو المتبادر ما جرت العادة على ظهوره مثل الوجه والكفين على ما قاله بعض المفسرين، ومثل الخاتم والخضاب والكحل والثياب وظهر الكفين بالإضافة إلى الوجه والكفين على ما قاله بعض آخر عزوا إلى بعض أصحاب رسول الله والتابعين.
وليس بين هذا وبين ما جاء في سورة الأحزاب من تناقض سواء منه ما كان في حق نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بما في ذلك تعبير ( من وراء حجاب } أم ما كان في حق جميع نساء المسلمين من الأمر بإدناء الجلابيب على ما شرحناه في سياق السورة المذكورة.
ولعل في أمر الرجال في الآية السابقة بالغض من أبصارهم دلالة قوية على ما كان جاريا سائغا وعلى ما في الآية من مفهوم وتسويغ ببروز المرأة سافرة الوجه واليدين أمام الناس زائرة ومزورة وساعية في أسباب الرزق والعمل والتصرفات المباحة لها والواجبات المطلوبة منها. والعلماء متفقون على أن وجه المرأة ويديها ليست عورة استدلالا من هذه الآية. وليس هناك أي أثر نبوي بستر المرأة لوجهها ويديها في الصلاة أو غيرها، وهناك نهي نبوي عن ذلك في إحرامها على ما جاء في حديث ابن عمر الذي أوردناه قبل.
وهناك بعض أحاديث مؤيدة لذلك. منها حديث رواه الطبري عن عائشة جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها، وإلا ما دون هذا وقبض على ذراع نفسه فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى ) ومنها حديث آخر رواه الطبري كذلك جاء فيه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للمرأة أن تبدي من ذراعها إلى قدر النصف ) بالإضافة إلى وجهها وكفيها.
والمحارم المذكرون في الآية الذين أذن للمرأة إبداء زينتها أمامهم قد ذكروا في آية سورة الأحزاب ( ٥٥ ) بزيادة آباء الأزواج وأبنائهم والتابعين غير أولي الإربة من الرجال. ولم يذكر الأعمام والأخوال هنا أيضا ومهما تكن الحكمة خافية في عدم ذكرهم هنا أيضا فإن نص آية سورة النساء ( ٢٤ ) صريحة بأنهم من محارم المرأة المحرمة عليهم على ما ذكرناه أيضا في سياق آية الأحزاب المذكورة.
ووصف الرجال غير ذوي الإربة بالتابعين هو على ما يبدو لإخراج غير التابعين من النطاق حيث يتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك حتى لا تتبذل المرأة أمام غير محرم لا صلة لها به، ولو كان غير ذي إربة.
ولقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أن المقصود بهؤلاء الناس رجال كانوا يتبعون الناس للأكل ولا يكون لهم أرب في النساء فيأمن جانبهم ولا يتهربن منهم كما رووا عن بعض المؤولين سواغ دخول الحمقى والمغفلين والعنينين إطلاقا في نطاق الإباحة التي تضمنتها العبارة القرآنية. ونرى هذا وذاك مخالفين لتحديد الآية وهو ( التابعون ) الذي نعتقد أنهم الخدم، وأن ما عداهم محظور عليهم الدخول على النساء في حالة تبذلهن ولو كانوا غير أولى قدرة جنسية وهذا ينطبق على المغفلين والحمقى والعنينين، ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمنع دخول المخنثين على النساء كما جاء في حديث رواه الشيخان عن أم سلمة قالت ( إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وفي البيت مخنث فقال المخنث لأخي أم سلمة : إن فتح الله لكم الطائف غدا أدلك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال النبي : لا يدخل عليكم١.
ولقد قلنا إن هناك من يؤول ( نسائهن ) بعموم النساء ومن يؤولها بالنساء المسلمات، وهذا التعبير جاء في آية سورة الأحزاب المذكورة أيضا، وقد رجحنا أنها تعني عموم النساء والله تعالى أعلم. أما إباحة ظهور المرأة بزينتها أمام ملك يمينها من الرجال فهي بسبب كونها محرمة عليهم فيعدون من محارمها وفي هذه السورة استدراك في شأن الأطفال وملك اليمين في أوقات التبذل في المخادع سنشرح مداه في مناسبته.
وفي صدد الأمر بضرب الخمر على الجيوب نقول : إن المتبادر أن الخمار مما كانت المرأة تستعمله في التقنع وتغطية الرأس والعنق فأمرت الآية بضربه على شقوق ثوبها لإخفاء مفاتن جسدها، وإن الأمر على كل حال بسبيل فرض إخفاء هذه المفاتن، وليس بسبيل فرض زي خاص. فإذا أخفيت هذه المفاتن بزي آخر حصل المقصود، وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) ٢ وقد يفيد هذا أن خمار الرأس واجب ديني في الصلاة، وليس كذلك في غيرها والله تعالى أعلم.
وبمناسبة هذه الآية نقول : إنه كما أنه ليس في القرآن ولا في الأحاديث ما يمنع النساء والرجال من الدخول على بعضهم في نطاق التلقينات والرسوم المشروحة سابقا فإنه ليس فيهما ما يمنع المرأة من أن تكون سافرة الوجه واليدين أمام الرجال غير المحارم إذا ما كانت ساترة لمفاتنها وغير مبدية لزينتها ومن أن تخرج من بيتها كذلك لقضاء حاجاتها وممارسة شؤونها على اختلاف أنواعها مما يدخل فيه تلقي العلم وغشيان المدارس والمساجد وشهود الاجتماعات العامة والاتجار والتكسب والعمل والمشاركة في الأعمال والواجبات الرسمية وغير الرسمية والاستمتاع بنعم الطبيعة، وهو ما قرره لها القرآن حين قرر لها الأهلية السياسية والشخصية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والمشاركة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والتكافل والتضامن وخاطبها بكل ما خاطب به الرجل من تفكر وتعقل وتدبر في كتاب الله وآياته وكونه وكلفها بكل ما كلف به الرجل من واجبات وتكاليف إيمانية وتعبدية واقتصادية وسياسية وعقلية واجتماعية وشخصية ورتب لها وعليها كل ما رتب للرجل وعليه من النتائج الدنيوية والأخروية على قدم المساواة مما مرت مؤيداته وشرحه في مناسبات كثيرة سابقة ومما يأتي أيضا في مناسبات آتية.
وكل هذا في نطاق مدى هذه الآية وروحها وما احتوته من فكرة وهدف وتلقين من احتشام وبعد عن مواقف الريبة ودواعي الإغراء والفتنة والإثم والأمور والأعمال والمظاهر والأماكن غير المباحة في الشرع والأخلاق الكريمة مما هو محظور على الرجل والمرأة على السواء.
ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الترمذي عن ميمونة بنت سعد قالت ( قال النبي صلى الله عليه وسلم الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلة يوم القيامة لا نور لها ) وفي الحديث تأييد ما لإباحة بروز المرأة في غير أهلها في نطاق الاحتشام وكون المحظور عليها هو إبداء زينتها ومفاتنها على غير محارمها. وأورد حديثا آخر رواه أبو داود والترمذي جاء فيه ( كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية ) وهذا الحديث كسابقه لا يمنع المرأة من الخروج. والترائي للناس وإنما الذي يمنعه هو دواعي الفتنة والإغراء.
ويسوق بعضهم آية سورة الأحزاب ﴿ وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ﴾ وهذه الآية من آيات موجهة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بدون أي لبس ولا تعميم. ومع ذلك فهناك أحاديث عديدة تفيد أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن لحاجتهن بإذن النبي ويخرجن في صحبته للغزوات والحج وينشطن في ميدان المعركة ويشهدن المساجد والمجالس. وظل أمرهن على ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث يمكن القول : إن الأمر في الآية هو في صدد الإكثار في الخروج والتبرج لضرورة وغير ضرورة، ويصح أن يكون في هذا للمسلمات أسوة وتلقين، ولا يتعارض مع ما قررناه آنفا.
ونستطرد إلى ما يقال ويثار حول اشتراك المرأة في الانتخابات والمجالس النيابية وما يدخل في بابها فنقول : إن هذا مما يتسق مع ما ذكرناه من أهليتها وحقوقها السياسية والاجتماعية واستقلال شخصيتها وشركتها مع الرجل في الإنسانية وواجباتها وأمانتها التي قررها لها القرآن، وهي نصف المجتمع، وكل ما يتقرر في هذه المجالس يتناولها كما يتناو
١ التاج ج ٢ ص ٣٠١ ونرجح أن النبي قصد بالنهي دخول المخنث على النساء في حالة تبذلهن وإنه لا حرج في غير هذه الحالة إذا ما كان وفق التلقينات القرآنية والنبوية المشروحة سابقا..
٢ التاج ج ١ ص ١٤٠.
﴿ وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٣٢ ) ﴾.
الأيامى : غير المتزوجين وتشمل الكلمة الذكور والإناث والأبكار والثيبات.
( ٢ ) الصالحين : المتبادر أنها هنا بمعنى الصالحين للزواج، القادرين على القيام بحقوقه.
عبادكم : الرجال من الرقيق.
في الآية حث للمسلمين على تزويج الذين لا أزواج ولا زوجات لهم من الرجال والنساء وعلى تزويج الصالحين للزواج من رقيقهم رجالا كانوا أم نساء.
وفيها وصية ضمنية بأن لا يكون الفقر مانعا من ذلك، فإذا كانوا فإن الله قادر على إغنائهم من فضله، وهو ذو الفضل الواسع العليم بمقتضيات الأمور.
تعليق على الآية
﴿ وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ٣٢ ﴾. وما فيها من أحكام وتلقين.
والآية تحتوي موضوعا مستقلا عن الفصل السابق كما يبدو. غير أن التناسب الموضوعي غير مفقود، ولم نطلع على رواية في نزول الآية. وقد أورد المفسرون في سياقها حديثا نبويا عن ابن مسعود قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )١ وهذا الحديث يجعل بين هذه الآية والفصل السابق صلة تعقيبية على اعتبار أن المتزوجين أبعد عن الافتنان وأقدر على العفة واجتناب مزالق الفاحشة، وهذا مما استهدفه الفصل السابق كما لا يخفى، ولفظ الحديث متصل بما جاء في الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون الآية قد نزلت مع الفصل السابق أو عقبه فوضعت في ترتيبها، وإلا فيكون ذلك بسبب التناسب الموضوعي. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الأمر على سبيل الندب والحث والاستحباب٢. كما ذهب بعضهم إلى أنه على الوجوب على كل قادر٣، وأسلوب الآية ينطوي على تلقين قوي بوجوب الزواج بصورة عامة حتى ليشمل الرقيق، وحتى لينهي عن أن يكون الفقر أو ضيق الرزق عثرة في سبيله أمام الراغبين في الزواج والصالحين له من النساء والرجال بما فيهم العبيد والإماء، ولاسيما أن أكثر حالات الفقر ليست انعدام القدرة بالمرة، وإنما هي ضيق رزق مع القدرة على المهر والنفقة في نطاق الاعتدال أو الكفاف والكسب وهذا منطو في مضمون الآية، ويؤيده أن الآية التالية ذكرت عدم الاستطاعة بالمرة، وفي كل هذا حكم اجتماعية وأخلاقية وإنسانية رائعة.
والمتبادر أن الأمر موجه بنوع خاص إلى أولياء الفتيات ومالكي الرقيق ؛ لأنهم هم الذين قد يكون المنع من جانبهم. ولعل مما ينطوي فيها إيجاب الاعتدال في المهور وعدم الشطط أمام حالة ضيق الرزق التي هي حالة الجمهور الأعظم من الناس. ولا تخلو في الوقت نفسه من حث جمهور المسلمين على المساعدة على تحقيق ما أمرت به الآية، وبخاصة الفقرة الأخيرة المشجعة التي جاءت في آخرها.
وهذا وذاك من جملة تلك الحكم البليغة السامية.
ولقد أورد البغوي في سياق هذه الآية حديثا نبويا مشهورا على ألسنة المسلمين جاء فيه ( تناكحوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم ) وحديثا آخر ورد في حديث طويل رواه الشيخان والنسائي جاء فيه ( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت النبي يسألون عن عبادته، فلما أخبروه كأنهم تقالوها، قالوا : وأين نحن من رسول الله فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر : أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله إليهم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ٤ وأورد ابن كثير حديثا رواه الترمذي والنسائي والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه ( ثلاثة حق على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله ) ٥ وفي الأحاديث تساوق مع التلقين القرآني في الحث على الزواج وعلى المساعدة فيه كما هو المتبادر.
١ البغوي والخازن وابن كثير والباءة هنا: بمعنى الزواج و النكاح وكلمة (وجاء) بمعنى وقاء والحديث رواه الخمسة (انظر التاج ج ٣ ٢ ص ٢٥٣ ـ ٢٥٤).
٢ البغوي.
٣ ابن كثير.
٤ التاج ج ٢ ص ٢٥٤ وتقالوا: يعني أنهم رأوا ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم قليلا....
٥ المصدر نفسه، والمكاتب هو الرقيق الذي يتفق مع مالكه على شراء نفسه بنفسه وهذا مما سيأتي الكلام عنه في آية تأتي بعد هذه الآية..
﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا ١ حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ ٢ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ٣ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣٣ ) ﴾.
١ نكاحا : هنا بمعنى قدرة مادية على الزواج.
٢ الكتاب : بمعنى المكاتبة وهي اصطلاح يراد به افتداء العبد نفسه بمال يتعهد بأدائه لسيده، فإذا أداه أصبح حرا. ولعلها تنطوي على معنى التعاقد بين السيد وعبده.
٣ خيرا : هنا بمعنى الصلاح والقابلية وحسن الخلق والقصد والصدق والوفاء.... الخ.
هذه الآية احتوت ثلاثة أمور :
الأول : تنبيه للذين لا يقدرون ماديا على التزوج إلى واجب التزام العفة حتى يغنيهم الله من فضله وتجنب الإثم ومزالقه.
الثاني : أمر لمالكي الرقيق بمكاتبة رقيقهم إذا طلبوا ذلك، وكانوا صالحين له مع حث المالكين وغيرهم على التصدق عليهم من مال الله الذي آتاهم.
الثالث : نهي عن إكراه الفتيات على البغاء إذا أردن التحصن ابتغاء المال وعرض الدنيا مع الإنذار للمكرهين والوعد بالمغفرة للمكرهات.
تعليق على الآية
﴿ وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا ﴾الخ.
وما فيها من أحكام وتلقين
روى المفسرون أن الأمر الثاني في الآية نزل في حق عبد لحويطب ابن عبد العزى طلب من سيده المكاتبة فأباها، فشكا أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أمر الله بذلك أمره النبي بمكاتبه على مائة دينار، وأن الأمر الثالث نزل في حق عبد الله ابن أبي سلول الذي كان يجبر أمتين له على التكسب من البغاء وإعطائه ما تكسبان، فشكتا أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمنع بالأمر القرآني. وهذه الرواية رويت بطرق عديدة، وفي حديث رواه مسلم عن جابر قال ( كان لعبد الله ابن أبي بن سلول جاريتان إحداهما تسمى مسيكة وأخرى تسمى أميمة فكان يكرههما على الزنا فشكتا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ﴿ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ﴾ الآية... ) ١ ولم يرو المفسرون رواية عن نزول الفقرة الأولى. والروايات قد تقتضي أن تكون الآية نزلت مجزأة وفي أوقات متباعدة فيما يبدو غريبا.
ونلاحظ :
( ١ ) أن الفقرة الأولى من الآية متصلة اتصالا تاما بموضوع الآية السابقة.
( ٢ ) أن الموضوع الثالث يحتمل معنى آخر معنى التكسب بالبغاء، وهو النهي عن عدم تزويج الفتيات أو الامتناع عن تزويجهن لأسباب مادية إذا ما أظهرن رغبة في الزواج توكيدا لاتباع فحوى الآية السابقة وتفاديا من التورط في الإثم.
وقد عبر عن الرغبة في الزواج بجملة ﴿ عن أردن تحصنا ﴾ وقد جاء في هذا المعنى في آيات عديدة من ذلك آية سورة النساء ( ٢٤ ) التي فيها تحريم ﴿ والمحصنات من النساء ﴾ بمعنى المتزوجات وآية سورة النساء ( ٢٥ ) التي فيها جملة ﴿ فإذا أحصن ﴾ بمعنى إذا تزوجن بل نحن نرى أن هذا المعنى هو الذي يستقيم أكثر من معنى الإجبار على البغاء لأخذ أجرته.
( ٣ ) أنه ليس من المستعبد أن تكون المكاتبة التي يحث عليها الأمر الثاني متصلة بتزويج العبيد الذي حثت عليه الآية السابقة ؛ لأن معقول أن يرى العبد حرصا من الزواج مع العبودية أو مانعا بسببها فيطلب التحرر قبل الإقدام عليه.
فإذا صحت هذه الملاحظات فتكون الآية كلها متصلة بالآية السابقة سياقا وموضوعا وتكون فقراتها الثلاث وحدة متوافقة، وهذا لا يمنع من أن يكون واحد من العبيد أبى سيده عليه المكاتبة فشكا أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن بعض الفتيات راجعن النبي صلى الله عليه وسلم بسبب امتناع ذويهن أو مالكيهن من تزويجهن وإكراههن على البغاء نتيجة لذلك اقتضت حكمة التنزيل التنبيه على ما يجب في الأمرين في سياق التعقيب على الآية السابقة ليكون الحكم عاما والله تعالى أعلم.
ويبدو أن حث غير القادرين على الزواج على التعفف متصل بما يبرره الأعزب لنفسه وبما تبرره له الطبيعة، وبسبيل التنبيه على ما في الزنا من إثم عظيم على كل حال. وواضح أنه ليس من تناقض بين الفقرة الأولى من الآية وبين ما في الآية السابقة من الحث على الزواج وعدم جعل الفقر عثرة في سبيله فما لا ريب فيه أنه قد يكون حالات من الفقر والعسر تحول دون الزواج. والمتبادر أن حكمة التنزيل قد لحظت هذه الحالات فأمرت في الفقرة الأولى بالتزام العفة فيها، ولقد لحظت حكمة التنزيل في آية سورة النساء ( ٢٥ ) حالة عجز الحر عن التزوج بالحرة لأسباب مادية فأذنت له بالتزوج من أمة ؛ لأن ذلك أقل حيث يبدو أن الحالة الملحوظة هنا هي خاصة بمن لا يستطيع ماديا التزوج مطلقا من حرة أو أمة على السواء.
والجملة الأخيرة من الآية متسقة مع التلقينات القرآنية والنبوية في شأن عفو الله وغفرانه لمن يكره على اقتراف إثم ما على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
ولعلها في مقامها تنطوي على تلقين بعدم التزمت في التزوج من المكرهات على البغاء أو المعتدى على أعراضهن من الفتيات إذا ما تبن وأظهرن الصلاح وأردن التحصن والتعفف.
مدى حث القرآن على مكاتبة المماليك
وكونها وسيلة من وسائل تحريرهم وما ورد في ذلك.
والمكاتبة وسيلة من وسائل تحرير الرقيق، وصيغة الآية قد تلهم أنها كانت جارية قبل نزولها أيضا كما هو شأن عتق الرقاب فأكدها القرآن ؛ لأنها مما يتسق مع ما حث عليه في مختلف المواضيع والمناسبات. وما تضمنته الآية من الحث على التصدق على المكاتبين ينطوي على توكيد وجوب تسهيل تحريرهم وعتقهم كما هو المتبادر. وفي الحديث الذي رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة وأوردناه قبل تدعيم حيث جاء فيه أن المكاتب الذي يريد الأداء من الذين حق على الله عونهم.
وفي كتب التفسير٢أحاديث وأقوال في أحكام المكاتبة صارت مستندات لمذاهب فقهية بالإضافة إلى محتوى الجملة.
فأولا : هناك خلاف فيما إذا كان الأمر بالمكاتبة هو على سبيل الإيجاب أم الاستحباب، وقد استند الذين قالوا بالإيجاب إلى ظاهر الآية التي تأمر بالمكاتبة إذا ما طلبها المملوك وإلى حديث رواه قتادة عن أنس بن مالك مفاده أن مملوكه سيرين طلب المكاتبة فتلكأ، فشكاه إلى عمرابن الخطاب فأمره بمكاتبته، وفي رواية علاه بالدرة على تلكؤه. وقد يكون هذا الرأي هو الأوجه المتسق مع روح التلقين القرآني العام بتحرير الرقاب إطلاقا. وإن كان يرد أن جملة ﴿ إن علمتم فيهم خيرا ﴾ في الجملة تجعل الأمر منوطا بتقدير المالك وتضعف قوة الإيجاب. على أن ما روي في سبب نزولها ومداخلة النبي بعد نزولها، وما روي من مداخلة عمر قد يسوغ القول عن ولي الأمر يمكن أن يكون مرجعا في هذا التقرير ونافذ الأمر في القضية والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق جملة ﴿ إن علمتم فيهم خيرا ﴾ حديثا مرسلا رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه تفسير لها ونصه ( وإن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلابا على الناس } وروى الطبري أقوالا لعلماء تابعين تفيد أنها تعني القوة على الأداء وقوة الاحتراف والاكتساب أو الصدق والوفاء والأمانة والصلاح، وكل هذا أيضا مما تتحمله الجملة.
وثانيا : هناك توسيع وتضييق في هوية المخاطب بجملة ﴿ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ﴾ ؛ حيث قيل إنهم مالكو العبيد كما قيل : إنهم الميسورون عامة. والقول الثاني هو الأوجه على ما هو المتبادر ؛ لأن به مساعدة على تحقيق أمر الله أكثر. والأمر على كل حال في الجملة قوي اللهجة في صدد مساعدة المكاتب على أداء بدل كتابته. ومن الجدير بالذكر أن تحرير الرقاب من جملة المصارف التي عينها القرآن للزكاة على ما سوف نشرحه في سياق الآية ( ٦٠ ) من سورة التوبة.
وثالثا : لقد استنبط المؤولون والفقهاء من الجملة القرآنية ﴿ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ﴾ أن المملوك بمجرد أن يكاتب أي يتفق مع مالكه على شراء نفسه يصبح صاحب حق في كسبه وأهلا للزكاة من مالكه وغيره والتصرف فيهما نتيجة لذلك. والجمهور على أن مولى المكاتب بعد الاتفاق يفقد حق العودة عن مكاتبته والتصرف في مملوكه وأولاده تصرفه الأول من هبة وبيع واستغلال إلا إذا نكث ولم يف بما تعهد من أداء الأقساط حيث ينفسخ الاتفاق ويعود حق المالك على المملوك وأولاده كما كان، وتظل صفة المملوكية نتيجة لذلك قائمة إلى أن يتم أداء بدل المكاتبة، وحينما يتم يتحرر المملوك هو وأولاده.
ولقد روى أصحاب السنن حديثا نبويا جاء فيه ( أيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد ) ٣ وليس من تناقض بين هذا وبين ما تقدم كما هو ظاهر. ولقد روى أصحاب السنن حديث نبويا آخر عن أم سلمة قالت :( قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان لإحداكن مكاتب عنده ما يؤديه فلتحتجب منه ) ٤ حيث ينطوي في هذا : أن المكاتبة تخرج المملوك من صفة العبودية المطلقة بمجرد الاتفاق عليها فلا تعود مالكة المكاتب محرمة عليه، ويكون عليها أن لا تبدي زينتها ومفاتنها أمامه ؛ لأن آية النور ( ٣١ ) أباحت لها ذلك أمام مملوكها.
ورابعا : هناك اختلاف في المكاتب المتوفى قبل أداء جميع ما عليه، وكان له مال. فقد قال بعضهم : إن المكاتبة تنفسخ ويكون ما تركه من مال وأولاد ملكا لسيده. وقال بعضهم : إنها لا تنفسخ، وإنه ليس للمالك إلا استيفاء ما بقي له من ماله ويكون أولاده أحرارا ويرثون ما فضل من مال أبيهم. والحق والوجاهة والاتساق مع هدف التشريع القرآني في جانب القول الثاني كما هو المتبادر، ولقد أصبح المكاتب أهلا لكسبه وللزكاة والتصرف فيهما على ما شرحناه في الفقرة الثالثة.
١ التاج ج ٤ ص ١٧١ و ١٧٢ وانظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي..
٢ انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي في صدد جميع ما جاء في هذه النبذة..
٣ التاج ج ٢ص ٢٤٩.
٤ المصدر نفسه..
﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( ٣٤ ) ﴾.
عبارة الآية واضحة، ولم نطلع على رواية ما في مناسبتها. ويتبادر لنا أنها معقبة على الآيات السابقة جميعها أو القريبة منها، وبسبيل تنبيه المسلمين إلى ما يجب عليهم من التزام أحكام الله وتعاليمه وأوامره ونواهيه المبينة في الآيات السابقة، فالله قد أنزل إليهم آيات واضحات فيها بيان ما يجب عليهم من الأحكام وواجبات السلوك، كما أنزل إليهم أخبارا من الأمم السابقة وما حل في الذين خالفوا أحكام الله وانحرفوا عن حدوده ؛ ليكون ذلك مثلا وعظة يتمثل ويتعظ بها الذين يخافون الله ويتقونه ويراقبونه.
وهذا النوع من الآيات كثير في النظم القرآني، وقد مرت منه أمثلة كثيرة.
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٣٥ ) ﴾.
مشكاة : قيل إنها الكوة غير النافذة في الجدار التي يوضع فيها السراج.
وقيل : هي القنديل الذي يوضع فيه السراج والمادة الدهنية التي يغمس فيها الفتيل أو الحدائد التي يعلق بها القنديل. وقيل : إنها معربة. وقيل : إن لها أصلا في الفصحى وهو الشكوة بمعنى القربة. ومقامها يلهم أنها آنية صافية، أو أنها القنديل الذي يعلق في السقف وهذا هو الذي تعرف به الآن.
مصباح " قيل : إنه السراج وقيل : إنه القنديل وقيل : إنه الفتيلة المضيئة، ونرجح القول الأخير استلهاما من روح العبارة ومداها.
دري : نسبة إلى الدر وهو اللؤلؤ بقصد تشبيه اللون والصفاء واللمعان، وكان العرب يسمون النجم الشديد اللمعان والسطوع كوكبا دريا وجمعه دراري.
قد تكون هذه الآية بدء فصل جديد لا صلة له بالسابق. وقد تكون متصلة بالآية السابقة بسبيل التنويه بنور الله الساطع فيما أنزله من الآيات. ونحن نميل إلى ترجيح الاحتمال الثاني استلهاما من المناسبة.
وقد احتوت كما يتبادر لنا :
تقريرا بأن الله هو نور السماوات والأرض جميعا، أي منورهما بنوره.
وتمثيلا لنوره بما يمكن أن يفهمه الناس من مشاهد الدنيا وأمثلتها تقريبا لأذهانهم، فنوره مثل نور زيت شجرة الزيتون المباركة التي نبتت في أحسن البقاع وأكثرها اعتدالا، فليست في أقصى الشرق فتشتد عليها حرارة الشمس ولا في أقصى الغرب فتشتد عليها البرودة، فجاء زيتها نقيا صافيا، وقد وضع في زجاجة صافية بيضاء لامعة كأنها كوكب دري. وقد وضع المصباح في الزجاجة ووضعت الزجاجة في مشكاة. والمصباح يوقد من ذلك الزيت النقي الصافي الذي يكاد يضيء، ولو لم نمسسه نار ويكون نورا لغيره الموضوع في تلك الزجاجة التي كأنها كوكب دري بلمعانها وصفائها، وهذا مثل نور الله هو نور في ذاته ونور لغيره.
وتعقيبا على هذا التمثيل بأن الله إنما يهدي لنوره من يشاء وأنه يضرب الأمثال للناس ليتدبروها، وأنه العليم بكل شيء ومقتضيات كل شيء.
والمتبادر لنا كذلك أن الآية من حيث الإجمال أسلوب من أساليب تقريرات القرآن لعظمة ذات الله وآثاره الباهرة الظاهرة في السماوات والأرض. وقد استهدفت تقرير كون نور الله وهداه في آياته قد بلغا من الظهور والسطوع والصفاء والسناء أقصى الغايات، فإذا لم يهتد بهما أحد ما فلن يكون ذلك بسبب غموض أو خفاء أو ضعف نور وجلاء فيهما، وإنما يكون بسبب قصور فيه. فالله إنما يهدي لنوره من يشاء ممن حسنت نياتهم وطابت سرائرهم ولم يتعمدوا الضلال والغواية. أما خبثاء النية والطوية المعاندون المكابرون فهم عمي لا يبصرون نورا الله فلا يهتدون به. ولعل في الآيات التالية قرائن مؤيدة لهذا التوجيه إن شاء الله.
ولقد صرف بعض المؤولين من التابعين على ما ورد في بعض كتب التفسير الضمير الغائب في ( نوره ) إلى المؤمن وقالوا : إن الآية مثل ضربه الله للمؤمن ولكن الجمهور على أنه نور الله تعالى، وهذا هو الأوجه المتسق مع نص الآية.
ولقد أورد المفسرون تأويلات عديدة للآية. منها أنها مثل ضربه الله لتبيين هدى نور الله وأثره. ومنها أنها مثل ضربه الله لنبيه. فالمشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح النبوة والشجرة المباركة هي شجرة إبراهيم الحنيف المسلم لا شرقية ولا غربية أي لا يهودية ولا نصرانية. ومنها أنها مثل ضربه الله لطاعته فسماها نورا، وأضاف هذا النور إلى نفسه تفضلا. ونلمح في هذه التأويلات شيئا من التكلف ونرجو أن يكون كما تبادر لنا هو الصواب١.
وفي كتب تفسير الشيعة روايات معزوة إلى أئمتهم في تأويل الآية فعن الرضا قوله ( نحن المشكاة والمصباح فيها محمد يهدي لولايتنا من أحب } وعن أبي جعفر قوله ( نور العلم في صدر النبي المصباح في زجاجة. والزجاجة صدر علي فصار علم النبي إلى صدر علي، ومعنى يكاد زينتها يضيء ولو لم تمسسه نار أي يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل. ومعنى نور على نور أي إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمد مثله. فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله خلفاء في أرضه وحجته على خلقه لا تخلو الأرض في كل عصر من واحد منهم كما لا تخلو السماوات والأرض من نور الله ) ٢ والتكلف والهوى الحزبي ظاهران في هذه الروايات.
١ انظر الأقوال والتأويلات في كتب الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي وهناك أقوال وتأويلات أخرى من بابها لم نر ضرورة لإيرادها..
٢ انظر تفسير الطبرسي وهو من معتدليهم.
﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ( ٣٦ ) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ( ٣٧ ) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٨ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال ٣٦ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما ورد في صدد فضل المساجد وآدابها.
قال بعض المفسرين : إن ﴿ في ﴾ متعلقة بمحذوف تقديره ( سبحوا ) أي سبحوا الله في بيوت أذن الله أن ترفع١ وهذا يجعل الآيات فصلا جديدا متصلا بما بعده غير أن معظم المفسرين قالوا : إنها متعلقة بالمشكاة التي مثل الله نوره في الآية السابقة بنورها. على اعتبار أن مشاكي بيوت العبادة أكبر المشاكي ونورها أقوى الأنوار٢. ونحن نرجح هذا على القول الأول ؛ لأنه متسق مع معنى الآيات ومداها. وبذلك تكون هذه الآيات بمثابة استطراد وانتقال لتقرر أن نور الله قوي هاد كنور المشكاة الكبيرة ذات النور الساطع التي تكون في بيوت العبادة التي أمر الله برفع أركانها وتكريمها بذكر اسمه والتي يسبح له فيها عباده المهتدون بنوره الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، حاسبين حساب اليوم الآخر الذي تضطرب فيه القلوب وتزيغ الأبصار. ولسوف يجزيهم الله جزاء يتكافأ مع أحسن أعمالهم ويزيدهم من فضله أيضا. وهو الواسع الفضل إذا أعطى أحدا فإنه يعطيه بدون حساب.
والمعنى مستقيم بهذا الشرح كما هو واضح، ومع أن ذكر بيوت الله جاء إتماما لمدى تمثيل نور الله بالمشكاة فالمتبادر أن ذكر عباد الله قد جاء بمثابة استطراد، وليس هذا غريبا في النظم القرآني، وقد تضمن الاستطراد في الوقت نفسه تنويها ببيوت العبادة وإيجاب تكريمها وتطهيرها. وبعباد الله المخلصين واهتدائهم بنور الله وما يسره لهم هذا النور من السير في الطريق القويم الذي نجحوا به وسعدوا.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن نص الآيات وروحها يلهمان أن المقصود من البيوت هي التي يذكر فيها اسم الله عز وجل ويعبد دون غيره ودون ما شائبة واختصاص أو تأويل أو غموض. وهذه الأوصاف عدت بعد البعثة المحمدية منحصرة في مساجد المسلمين التي يذكر فيها ويعبد رب العالمين جميعا، المتصف بجميع صفات الكمال الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
هذا ويحسن أن ننبه على أمر في هذا المقام، وهو أن ما احتوته الآيات من التنويه بعباد الله الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله لا ينفي أن يؤخذ على أنه تنويه بالذين هم منقطعون لذكر الله ولا يتعاطون تجارة ولا بيعا. ولا على أنه تنديد بالمشتغلين بالتجارة والبيع وأمور الدنيا. ففي العبارة القرآنية نفسها ما يفيد أن التنديد يكون لمن يشغله ذلك عن واجباته نحو الله والناس وحسب، وأنه لا يتوجه إلى من يشتغل بأمور الدنيا دون أن يشغله ذلك عن هذه الواجبات. وفي القرآن آيات كثيرة مرت أمثلة منها مكية ومدنية فيها تسويغ لابتغاء فضل الله وحث على السعي في مناكب الأرض. مما هو بديهي وفيه قوام الحياة. ومتسق مع مقاصد القرآن. وفي آية سورة الجمعة هذه ﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ١٠ ﴾ تفسير صريح للمراد من هذا الشرح والتنبيه.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث عديدة في فضل بناء المساجد وآدابها منها ما ورد في الكتب الخمسة. فمن ذلك حديث رواه الخمسة إلا أبا داود عن عثمان ابن عفان قال ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة وفي رواية بيتا في الجنة ) ٣ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة قالت ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب ) ٤.
وروى الشيخان وأبو داود عن أنس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فحكها بيده ورؤي منه كراهية وقال : إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربه فلا يبزقن في قبلته ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه ورد بعضه على بعض وقال يفعل هكذا ) ٥ وروى مسلم عن أبي هريرة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل : لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا ) ٦ وروى الخمسة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدا، وفي رواية : فلا يقربن مساجدنا، حتى يذهب ريحها ) ٧ وروى الترمذي والنسائي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة ) ٨ وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى لله عليه وسلم قال ( ما أمرت بتشييد المساجد ) وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس ( لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى ) ٩ وروى مسلم والنسائي عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك ) ١٠ وروى الترمذي عن ابن عمر قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي في سبع مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله الحرام ) ١١.
وروى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة ) ١٢ وروى الخمسة إلا أبا داود عن أبي هريرة حديثا عن النبي جاء فيه ( وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ) ١٣.
وروى الشيخان وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله. وزاد ولكن يخرجن وهن تفلات ) ١٤ وروى الخمسة عن عباد ابن تميم عن عمه ( أنه رأى رسول الله مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى ) ١٥ وروى الثلاثة عن أبي هريرة قال ( بعث الله خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة ابن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد ) ١٦ وروى ابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تتخذ المساجد طريقا ولا يشهر فيها سلاح ولا ينبض فيها بقوس ولا ينثر فيها نبل ولا يضرب فيها حد ولا تتخذ سوقا ) ١٧ وروى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح ) ١٨ وروى الخمسة إلا أبا داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا عن سبعة يظلهم الله في ظله منهم ( رجل قلبه معلق في المساجد ) ١٩ وروى مسلم والنسائي والترمذي عن أبي هريرة كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة ) ٢٠.
وليس ما أوردناه هو كل ما هناك من أحاديث في المساجد فاكتفينا بما تقدم.
وهناك أحاديث كثيرة تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الوفود في مسجده ويتناظر معهم ويتبادل معهم العهود، ويراجعه الناس في مسجده بمشاكلهم المتنوعة ويقضي بينهم، ويعقد لقواده الرايات. ولقد أصيب سعد ابن معاذ بسهم في واقعة الخندق فضرب النبي عليه خيمة في مسجده يعوده من قريب٢١ وجعل له امرأة تعالجه. هذا فضلا عن مجالسه الوعظية التي كان يتحلق فيها حوله أصحابه يسمعونه منه ويسألونه ؛ حيث يفيد كل هذا ما كان مسجد رسول الله يتسع له من نشاط ديني ودنيوي معا. وفي سورة المائدة هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ١٠٦ ﴾ حيث ينطوي فيها صورة مجلس قضائي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده، ولقد سار خلفاء النبي والراشدون على هذا. فكان المسجد دار خلافة ونشاط سياسي وديني معا. وإذا كان أولو أمر المسلمين أخذوا يتخذون دورا غير المسجد للحكم فإن المساجد كانت وظلت منه الصدر الإسلامي مكان علم وتعليم لطلاب العلم بالإضافة إلى كونها مكان وعظ ودرس علم لسواد المسلمين وبالتالي ظلت تتسع لشؤون عامة غير الصلاة أيضا.
١ انظر الزمخشري والنسفي.
٢ انظر الطبري والنيسابوري والبغوي والخازن وابن كثير. والزمخشري والنسفي قد أوردا القول الثاني أيضا..
٣ التاج ج ١ ص ٢٠٥ و ٢١٣.
٤ المصدر نفسه، وحديث عائشة يفيد أنه يحسن بالمسلم أن يكون في بيته ركن خاص يكون بمثابة مسجد له ويعنى بنظافته وتطييبه..
٥ التاج ج ١ ص ٢٠٥ و ٢١٣.
٦ المصدر نفسه ص ٢١٥ و ٢١٩.
٧ المصدر نفسه.
٨ المصدر نفسه.
٩ المصدر نفسه.
١٠ المصدر نفسه، وننبه على أن النهي هو عن أن يكون مكان ما قبرا لصالح أو نبي ثم يتخذ مسجدا وفرق بين هذا وبين أن يكون المكان في الأصل مسجدا ثم يدفن في طرف منه صالح أو نبي وقبر النبي وصاحبيه من هذا الباب لا من الأول..
١١ المصدر نفسه ص ٢٢٠.
١٢ التاج ج ١ ص ٢١٩.
١٣ التاج ج ١ ص ٢٠٥ وكلمة مسجد في هذا الحديث تعني مكان سجود؛ حيث يجوز المسلم أن يصلي في أي مكان طاهر..
١٤ المصدر نفسه ص ٢١١ ومعنى تفلات: أي غير متعطرات..
١٥ المصدر نفسه ص ٢١٤.
١٦ المصدر نفسه.
١٧ من تفسير ابن كثير.
١٨ التاج ج ١ ص ٢٠٦ و ٢٠٧.
١٩ المصدر نفسه.
٢٠ المصدر نفسه.
٢١ انظر التاج ج ٤ ص ٣٧٧.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ( ٣٦ ) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ( ٣٧ ) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٨ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال ٣٦ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما ورد في صدد فضل المساجد وآدابها.
قال بعض المفسرين : إن ﴿ في ﴾ متعلقة بمحذوف تقديره ( سبحوا ) أي سبحوا الله في بيوت أذن الله أن ترفع١ وهذا يجعل الآيات فصلا جديدا متصلا بما بعده غير أن معظم المفسرين قالوا : إنها متعلقة بالمشكاة التي مثل الله نوره في الآية السابقة بنورها. على اعتبار أن مشاكي بيوت العبادة أكبر المشاكي ونورها أقوى الأنوار٢. ونحن نرجح هذا على القول الأول ؛ لأنه متسق مع معنى الآيات ومداها. وبذلك تكون هذه الآيات بمثابة استطراد وانتقال لتقرر أن نور الله قوي هاد كنور المشكاة الكبيرة ذات النور الساطع التي تكون في بيوت العبادة التي أمر الله برفع أركانها وتكريمها بذكر اسمه والتي يسبح له فيها عباده المهتدون بنوره الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، حاسبين حساب اليوم الآخر الذي تضطرب فيه القلوب وتزيغ الأبصار. ولسوف يجزيهم الله جزاء يتكافأ مع أحسن أعمالهم ويزيدهم من فضله أيضا. وهو الواسع الفضل إذا أعطى أحدا فإنه يعطيه بدون حساب.
والمعنى مستقيم بهذا الشرح كما هو واضح، ومع أن ذكر بيوت الله جاء إتماما لمدى تمثيل نور الله بالمشكاة فالمتبادر أن ذكر عباد الله قد جاء بمثابة استطراد، وليس هذا غريبا في النظم القرآني، وقد تضمن الاستطراد في الوقت نفسه تنويها ببيوت العبادة وإيجاب تكريمها وتطهيرها. وبعباد الله المخلصين واهتدائهم بنور الله وما يسره لهم هذا النور من السير في الطريق القويم الذي نجحوا به وسعدوا.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن نص الآيات وروحها يلهمان أن المقصود من البيوت هي التي يذكر فيها اسم الله عز وجل ويعبد دون غيره ودون ما شائبة واختصاص أو تأويل أو غموض. وهذه الأوصاف عدت بعد البعثة المحمدية منحصرة في مساجد المسلمين التي يذكر فيها ويعبد رب العالمين جميعا، المتصف بجميع صفات الكمال الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
هذا ويحسن أن ننبه على أمر في هذا المقام، وهو أن ما احتوته الآيات من التنويه بعباد الله الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله لا ينفي أن يؤخذ على أنه تنويه بالذين هم منقطعون لذكر الله ولا يتعاطون تجارة ولا بيعا. ولا على أنه تنديد بالمشتغلين بالتجارة والبيع وأمور الدنيا. ففي العبارة القرآنية نفسها ما يفيد أن التنديد يكون لمن يشغله ذلك عن واجباته نحو الله والناس وحسب، وأنه لا يتوجه إلى من يشتغل بأمور الدنيا دون أن يشغله ذلك عن هذه الواجبات. وفي القرآن آيات كثيرة مرت أمثلة منها مكية ومدنية فيها تسويغ لابتغاء فضل الله وحث على السعي في مناكب الأرض. مما هو بديهي وفيه قوام الحياة. ومتسق مع مقاصد القرآن. وفي آية سورة الجمعة هذه ﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ١٠ ﴾ تفسير صريح للمراد من هذا الشرح والتنبيه.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث عديدة في فضل بناء المساجد وآدابها منها ما ورد في الكتب الخمسة. فمن ذلك حديث رواه الخمسة إلا أبا داود عن عثمان ابن عفان قال ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة وفي رواية بيتا في الجنة ) ٣ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة قالت ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب ) ٤.
وروى الشيخان وأبو داود عن أنس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فحكها بيده ورؤي منه كراهية وقال : إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربه فلا يبزقن في قبلته ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه ورد بعضه على بعض وقال يفعل هكذا ) ٥ وروى مسلم عن أبي هريرة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل : لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا ) ٦ وروى الخمسة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدا، وفي رواية : فلا يقربن مساجدنا، حتى يذهب ريحها ) ٧ وروى الترمذي والنسائي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة ) ٨ وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى لله عليه وسلم قال ( ما أمرت بتشييد المساجد ) وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس ( لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى ) ٩ وروى مسلم والنسائي عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك ) ١٠ وروى الترمذي عن ابن عمر قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي في سبع مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله الحرام ) ١١.
وروى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة ) ١٢ وروى الخمسة إلا أبا داود عن أبي هريرة حديثا عن النبي جاء فيه ( وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ) ١٣.
وروى الشيخان وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله. وزاد ولكن يخرجن وهن تفلات ) ١٤ وروى الخمسة عن عباد ابن تميم عن عمه ( أنه رأى رسول الله مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى ) ١٥ وروى الثلاثة عن أبي هريرة قال ( بعث الله خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة ابن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد ) ١٦ وروى ابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تتخذ المساجد طريقا ولا يشهر فيها سلاح ولا ينبض فيها بقوس ولا ينثر فيها نبل ولا يضرب فيها حد ولا تتخذ سوقا ) ١٧ وروى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح ) ١٨ وروى الخمسة إلا أبا داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا عن سبعة يظلهم الله في ظله منهم ( رجل قلبه معلق في المساجد ) ١٩ وروى مسلم والنسائي والترمذي عن أبي هريرة كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة ) ٢٠.
وليس ما أوردناه هو كل ما هناك من أحاديث في المساجد فاكتفينا بما تقدم.
وهناك أحاديث كثيرة تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الوفود في مسجده ويتناظر معهم ويتبادل معهم العهود، ويراجعه الناس في مسجده بمشاكلهم المتنوعة ويقضي بينهم، ويعقد لقواده الرايات. ولقد أصيب سعد ابن معاذ بسهم في واقعة الخندق فضرب النبي عليه خيمة في مسجده يعوده من قريب٢١ وجعل له امرأة تعالجه. هذا فضلا عن مجالسه الوعظية التي كان يتحلق فيها حوله أصحابه يسمعونه منه ويسألونه ؛ حيث يفيد كل هذا ما كان مسجد رسول الله يتسع له من نشاط ديني ودنيوي معا. وفي سورة المائدة هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ١٠٦ ﴾ حيث ينطوي فيها صورة مجلس قضائي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده، ولقد سار خلفاء النبي والراشدون على هذا. فكان المسجد دار خلافة ونشاط سياسي وديني معا. وإذا كان أولو أمر المسلمين أخذوا يتخذون دورا غير المسجد للحكم فإن المساجد كانت وظلت منه الصدر الإسلامي مكان علم وتعليم لطلاب العلم بالإضافة إلى كونها مكان وعظ ودرس علم لسواد المسلمين وبالتالي ظلت تتسع لشؤون عامة غير الصلاة أيضا.
١ انظر الزمخشري والنسفي.
٢ انظر الطبري والنيسابوري والبغوي والخازن وابن كثير. والزمخشري والنسفي قد أوردا القول الثاني أيضا..
٣ التاج ج ١ ص ٢٠٥ و ٢١٣.
٤ المصدر نفسه، وحديث عائشة يفيد أنه يحسن بالمسلم أن يكون في بيته ركن خاص يكون بمثابة مسجد له ويعنى بنظافته وتطييبه..
٥ التاج ج ١ ص ٢٠٥ و ٢١٣.
٦ المصدر نفسه ص ٢١٥ و ٢١٩.
٧ المصدر نفسه.
٨ المصدر نفسه.
٩ المصدر نفسه.
١٠ المصدر نفسه، وننبه على أن النهي هو عن أن يكون مكان ما قبرا لصالح أو نبي ثم يتخذ مسجدا وفرق بين هذا وبين أن يكون المكان في الأصل مسجدا ثم يدفن في طرف منه صالح أو نبي وقبر النبي وصاحبيه من هذا الباب لا من الأول..
١١ المصدر نفسه ص ٢٢٠.
١٢ التاج ج ١ ص ٢١٩.
١٣ التاج ج ١ ص ٢٠٥ وكلمة مسجد في هذا الحديث تعني مكان سجود؛ حيث يجوز المسلم أن يصلي في أي مكان طاهر..
١٤ المصدر نفسه ص ٢١١ ومعنى تفلات: أي غير متعطرات..
١٥ المصدر نفسه ص ٢١٤.
١٦ المصدر نفسه.
١٧ من تفسير ابن كثير.
١٨ التاج ج ١ ص ٢٠٦ و ٢٠٧.
١٩ المصدر نفسه.
٢٠ المصدر نفسه.
٢١ انظر التاج ج ٤ ص ٣٧٧.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ( ٣٦ ) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ( ٣٧ ) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٣٨ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال ٣٦ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما ورد في صدد فضل المساجد وآدابها.
قال بعض المفسرين : إن ﴿ في ﴾ متعلقة بمحذوف تقديره ( سبحوا ) أي سبحوا الله في بيوت أذن الله أن ترفع١ وهذا يجعل الآيات فصلا جديدا متصلا بما بعده غير أن معظم المفسرين قالوا : إنها متعلقة بالمشكاة التي مثل الله نوره في الآية السابقة بنورها. على اعتبار أن مشاكي بيوت العبادة أكبر المشاكي ونورها أقوى الأنوار٢. ونحن نرجح هذا على القول الأول ؛ لأنه متسق مع معنى الآيات ومداها. وبذلك تكون هذه الآيات بمثابة استطراد وانتقال لتقرر أن نور الله قوي هاد كنور المشكاة الكبيرة ذات النور الساطع التي تكون في بيوت العبادة التي أمر الله برفع أركانها وتكريمها بذكر اسمه والتي يسبح له فيها عباده المهتدون بنوره الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، حاسبين حساب اليوم الآخر الذي تضطرب فيه القلوب وتزيغ الأبصار. ولسوف يجزيهم الله جزاء يتكافأ مع أحسن أعمالهم ويزيدهم من فضله أيضا. وهو الواسع الفضل إذا أعطى أحدا فإنه يعطيه بدون حساب.
والمعنى مستقيم بهذا الشرح كما هو واضح، ومع أن ذكر بيوت الله جاء إتماما لمدى تمثيل نور الله بالمشكاة فالمتبادر أن ذكر عباد الله قد جاء بمثابة استطراد، وليس هذا غريبا في النظم القرآني، وقد تضمن الاستطراد في الوقت نفسه تنويها ببيوت العبادة وإيجاب تكريمها وتطهيرها. وبعباد الله المخلصين واهتدائهم بنور الله وما يسره لهم هذا النور من السير في الطريق القويم الذي نجحوا به وسعدوا.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن نص الآيات وروحها يلهمان أن المقصود من البيوت هي التي يذكر فيها اسم الله عز وجل ويعبد دون غيره ودون ما شائبة واختصاص أو تأويل أو غموض. وهذه الأوصاف عدت بعد البعثة المحمدية منحصرة في مساجد المسلمين التي يذكر فيها ويعبد رب العالمين جميعا، المتصف بجميع صفات الكمال الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
هذا ويحسن أن ننبه على أمر في هذا المقام، وهو أن ما احتوته الآيات من التنويه بعباد الله الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله لا ينفي أن يؤخذ على أنه تنويه بالذين هم منقطعون لذكر الله ولا يتعاطون تجارة ولا بيعا. ولا على أنه تنديد بالمشتغلين بالتجارة والبيع وأمور الدنيا. ففي العبارة القرآنية نفسها ما يفيد أن التنديد يكون لمن يشغله ذلك عن واجباته نحو الله والناس وحسب، وأنه لا يتوجه إلى من يشتغل بأمور الدنيا دون أن يشغله ذلك عن هذه الواجبات. وفي القرآن آيات كثيرة مرت أمثلة منها مكية ومدنية فيها تسويغ لابتغاء فضل الله وحث على السعي في مناكب الأرض. مما هو بديهي وفيه قوام الحياة. ومتسق مع مقاصد القرآن. وفي آية سورة الجمعة هذه ﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ١٠ ﴾ تفسير صريح للمراد من هذا الشرح والتنبيه.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث عديدة في فضل بناء المساجد وآدابها منها ما ورد في الكتب الخمسة. فمن ذلك حديث رواه الخمسة إلا أبا داود عن عثمان ابن عفان قال ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة وفي رواية بيتا في الجنة ) ٣ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة قالت ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب ) ٤.
وروى الشيخان وأبو داود عن أنس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فحكها بيده ورؤي منه كراهية وقال : إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربه فلا يبزقن في قبلته ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه ورد بعضه على بعض وقال يفعل هكذا ) ٥ وروى مسلم عن أبي هريرة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل : لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا ) ٦ وروى الخمسة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدا، وفي رواية : فلا يقربن مساجدنا، حتى يذهب ريحها ) ٧ وروى الترمذي والنسائي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة ) ٨ وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى لله عليه وسلم قال ( ما أمرت بتشييد المساجد ) وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس ( لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى ) ٩ وروى مسلم والنسائي عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك ) ١٠ وروى الترمذي عن ابن عمر قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي في سبع مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله الحرام ) ١١.
وروى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة ) ١٢ وروى الخمسة إلا أبا داود عن أبي هريرة حديثا عن النبي جاء فيه ( وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ) ١٣.
وروى الشيخان وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله. وزاد ولكن يخرجن وهن تفلات ) ١٤ وروى الخمسة عن عباد ابن تميم عن عمه ( أنه رأى رسول الله مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى ) ١٥ وروى الثلاثة عن أبي هريرة قال ( بعث الله خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة ابن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد ) ١٦ وروى ابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تتخذ المساجد طريقا ولا يشهر فيها سلاح ولا ينبض فيها بقوس ولا ينثر فيها نبل ولا يضرب فيها حد ولا تتخذ سوقا ) ١٧ وروى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح ) ١٨ وروى الخمسة إلا أبا داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا عن سبعة يظلهم الله في ظله منهم ( رجل قلبه معلق في المساجد ) ١٩ وروى مسلم والنسائي والترمذي عن أبي هريرة كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة ) ٢٠.
وليس ما أوردناه هو كل ما هناك من أحاديث في المساجد فاكتفينا بما تقدم.
وهناك أحاديث كثيرة تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الوفود في مسجده ويتناظر معهم ويتبادل معهم العهود، ويراجعه الناس في مسجده بمشاكلهم المتنوعة ويقضي بينهم، ويعقد لقواده الرايات. ولقد أصيب سعد ابن معاذ بسهم في واقعة الخندق فضرب النبي عليه خيمة في مسجده يعوده من قريب٢١ وجعل له امرأة تعالجه. هذا فضلا عن مجالسه الوعظية التي كان يتحلق فيها حوله أصحابه يسمعونه منه ويسألونه ؛ حيث يفيد كل هذا ما كان مسجد رسول الله يتسع له من نشاط ديني ودنيوي معا. وفي سورة المائدة هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ١٠٦ ﴾ حيث ينطوي فيها صورة مجلس قضائي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده، ولقد سار خلفاء النبي والراشدون على هذا. فكان المسجد دار خلافة ونشاط سياسي وديني معا. وإذا كان أولو أمر المسلمين أخذوا يتخذون دورا غير المسجد للحكم فإن المساجد كانت وظلت منه الصدر الإسلامي مكان علم وتعليم لطلاب العلم بالإضافة إلى كونها مكان وعظ ودرس علم لسواد المسلمين وبالتالي ظلت تتسع لشؤون عامة غير الصلاة أيضا.
١ انظر الزمخشري والنسفي.
٢ انظر الطبري والنيسابوري والبغوي والخازن وابن كثير. والزمخشري والنسفي قد أوردا القول الثاني أيضا..
٣ التاج ج ١ ص ٢٠٥ و ٢١٣.
٤ المصدر نفسه، وحديث عائشة يفيد أنه يحسن بالمسلم أن يكون في بيته ركن خاص يكون بمثابة مسجد له ويعنى بنظافته وتطييبه..
٥ التاج ج ١ ص ٢٠٥ و ٢١٣.
٦ المصدر نفسه ص ٢١٥ و ٢١٩.
٧ المصدر نفسه.
٨ المصدر نفسه.
٩ المصدر نفسه.
١٠ المصدر نفسه، وننبه على أن النهي هو عن أن يكون مكان ما قبرا لصالح أو نبي ثم يتخذ مسجدا وفرق بين هذا وبين أن يكون المكان في الأصل مسجدا ثم يدفن في طرف منه صالح أو نبي وقبر النبي وصاحبيه من هذا الباب لا من الأول..
١١ المصدر نفسه ص ٢٢٠.
١٢ التاج ج ١ ص ٢١٩.
١٣ التاج ج ١ ص ٢٠٥ وكلمة مسجد في هذا الحديث تعني مكان سجود؛ حيث يجوز المسلم أن يصلي في أي مكان طاهر..
١٤ المصدر نفسه ص ٢١١ ومعنى تفلات: أي غير متعطرات..
١٥ المصدر نفسه ص ٢١٤.
١٦ المصدر نفسه.
١٧ من تفسير ابن كثير.
١٨ التاج ج ١ ص ٢٠٦ و ٢٠٧.
١٩ المصدر نفسه.
٢٠ المصدر نفسه.
٢١ انظر التاج ج ٤ ص ٣٧٧.

سراب : هو الظاهرة التي تظهر في القيعان في ظروف طبيعية خاصة بمظهر الماء والبحيرات.
قيعة : قاع، وهي السهل الذي فيه شيء من الانخفاض.
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( ٣٩ ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ( ٤٠ ) ﴾.
في الآيات تنديد بالكفار مقابل التنويه بعباد الله الصالحين في الآيات السابقة جريا على الأسلوب القرآني في المناسبات المماثلة. وقد تضمنت تقرير ما يلي : أن الذين كفروا ولم يهتدوا بنور الله الساطع لن يكون لهم نور آخر يهتدون به. وأن أعمالهم لخاسرة حابطة مهما خيل لهم غير ذلك. وأن مثلهم كمثل ذلك الظمآن الذي رأى سرابا في قيعة فظنه ماء، فلما جاءه لم يجده شيئا فوقع في الخيبة المريرة أو كمثل الذي هو فوق بحر عميق تلاطمت حوله الأمواج الصاخبة فسدت عنه أفق الساحل وأدلهم وجه السماء بالسحب القائمة، وكان الوقت ليلا مظلما فاكتنفته هذه الظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض، حتى لا يكاد يرى يده لو رفعها فضلا عن الطريق أو الأمل بالنجاة. ولسوف يوفيهم الله هم الآخرون حسابهم الحق فليس عنده مطل ولا تسويف في توفية الحساب.
والتنديد والتمثيل قويان رهيبان : مستمدان من مشاهد الطبيعة الرهيبة. ومن شأنهما إثارة الخوف والإرعواء في السامعين من الكفار، وهذا مما استهدفت الآيات كما هو المتبادر.
ولقد روى البغوي عن مجاهد أن الآيات نزلت في عتبة بن عتبة بن أمية الذي كان يلتمس الدين في الجاهلية ويلبس المسوح فلما جاء الإسلام كفر. ويلحظ أن الآية معطوفة على ما قبلها عطف تعقيب وتمثيل ومقابلة. وقد قال البغوي راوي الرواية : إن الأكثر على أنها عامة في جميع الكفار وهو ما قاله جمهور المفسرين. ولعل بعضهم لما سمعها اعتبرها منطبقة على حالة عتبة فكان ذلك سبب الرواية.
لجي : عميق :
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٩:سراب : هو الظاهرة التي تظهر في القيعان في ظروف طبيعية خاصة بمظهر الماء والبحيرات.
قيعة : قاع، وهي السهل الذي فيه شيء من الانخفاض.
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( ٣٩ ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ( ٤٠ ) ﴾.
في الآيات تنديد بالكفار مقابل التنويه بعباد الله الصالحين في الآيات السابقة جريا على الأسلوب القرآني في المناسبات المماثلة. وقد تضمنت تقرير ما يلي : أن الذين كفروا ولم يهتدوا بنور الله الساطع لن يكون لهم نور آخر يهتدون به. وأن أعمالهم لخاسرة حابطة مهما خيل لهم غير ذلك. وأن مثلهم كمثل ذلك الظمآن الذي رأى سرابا في قيعة فظنه ماء، فلما جاءه لم يجده شيئا فوقع في الخيبة المريرة أو كمثل الذي هو فوق بحر عميق تلاطمت حوله الأمواج الصاخبة فسدت عنه أفق الساحل وأدلهم وجه السماء بالسحب القائمة، وكان الوقت ليلا مظلما فاكتنفته هذه الظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض، حتى لا يكاد يرى يده لو رفعها فضلا عن الطريق أو الأمل بالنجاة. ولسوف يوفيهم الله هم الآخرون حسابهم الحق فليس عنده مطل ولا تسويف في توفية الحساب.
والتنديد والتمثيل قويان رهيبان : مستمدان من مشاهد الطبيعة الرهيبة. ومن شأنهما إثارة الخوف والإرعواء في السامعين من الكفار، وهذا مما استهدفت الآيات كما هو المتبادر.
ولقد روى البغوي عن مجاهد أن الآيات نزلت في عتبة بن عتبة بن أمية الذي كان يلتمس الدين في الجاهلية ويلبس المسوح فلما جاء الإسلام كفر. ويلحظ أن الآية معطوفة على ما قبلها عطف تعقيب وتمثيل ومقابلة. وقد قال البغوي راوي الرواية : إن الأكثر على أنها عامة في جميع الكفار وهو ما قاله جمهور المفسرين. ولعل بعضهم لما سمعها اعتبرها منطبقة على حالة عتبة فكان ذلك سبب الرواية.

والطير صافات : باسطة أجنحتها في السماء.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( ٤١ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( ٤٢ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ( ٤٣ )يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ ( ٤٤ ) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤٥ ) ﴾
عبارة الآيات واضحة، وفيها تنبيه وتقرير بصيغة السؤال ولفت النظر إلى بعض مشاهد قدرة الله وملكوته ونواميس كونه وخضوع خلقه له، وتقرير كونه هو الذي يخلق كل شيء والقادر على كل شيء، والمحيط علمه بكل شيء وإليه مرجع كل شيء.
ولم يرو المفسرون رواية ما في نزولها، والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها، وبخاصة بآية النور اتصال تعقيب واستطراد، ففي ما جاء في الآيات من مظاهر قدرة الله ونواميسه الكونية وإحاطته بكل شيء من السماوات والأرض عبرة لأولي البصائر النيرة والعقول السليمة خلقة بأن تكون دافعة لهم إلى ذكر الله والاستشعار بعظمته وهيبته والاستمساك بحبله والدأب على القيام بواجبهم نحوه.
والمتبادر كذلك أن ما احتوته الآيات من نواميس كونية وتكوينية هو مما يقع تحت مشاهدات الناس ومداركهم، وأن القصد من ذلك هو إثارة الاعتبار فيهم، وجعلهم يعترفون بعظمة الله وقدرته ويخضعون له. وليس بسبيل شرح تلك النواميس شرحا فنيا إن صح التعبير. ومن الواجب أن يبقى هدف الآيات في هذا النطاق على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة الكثيرة.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( ٤١ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( ٤٢ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ( ٤٣ )يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ ( ٤٤ ) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤٥ ) ﴾
عبارة الآيات واضحة، وفيها تنبيه وتقرير بصيغة السؤال ولفت النظر إلى بعض مشاهد قدرة الله وملكوته ونواميس كونه وخضوع خلقه له، وتقرير كونه هو الذي يخلق كل شيء والقادر على كل شيء، والمحيط علمه بكل شيء وإليه مرجع كل شيء.
ولم يرو المفسرون رواية ما في نزولها، والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها، وبخاصة بآية النور اتصال تعقيب واستطراد، ففي ما جاء في الآيات من مظاهر قدرة الله ونواميسه الكونية وإحاطته بكل شيء من السماوات والأرض عبرة لأولي البصائر النيرة والعقول السليمة خلقة بأن تكون دافعة لهم إلى ذكر الله والاستشعار بعظمته وهيبته والاستمساك بحبله والدأب على القيام بواجبهم نحوه.
والمتبادر كذلك أن ما احتوته الآيات من نواميس كونية وتكوينية هو مما يقع تحت مشاهدات الناس ومداركهم، وأن القصد من ذلك هو إثارة الاعتبار فيهم، وجعلهم يعترفون بعظمة الله وقدرته ويخضعون له. وليس بسبيل شرح تلك النواميس شرحا فنيا إن صح التعبير. ومن الواجب أن يبقى هدف الآيات في هذا النطاق على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة الكثيرة.
يزجي : يسوق.
ركاما : متكاثفا أو متراكما بعضه على بعض.
الودق : قطرات المطر.
وينزل من السماء من جبال فيها من برد : أوجه تأويلات الجملة هو ( ينزل من السماء بردا قدرا الجبال ).
سنا : سناء وهو الضوء، أو لمعان الجسم المضيء.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( ٤١ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( ٤٢ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ( ٤٣ )يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ ( ٤٤ ) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤٥ ) ﴾
عبارة الآيات واضحة، وفيها تنبيه وتقرير بصيغة السؤال ولفت النظر إلى بعض مشاهد قدرة الله وملكوته ونواميس كونه وخضوع خلقه له، وتقرير كونه هو الذي يخلق كل شيء والقادر على كل شيء، والمحيط علمه بكل شيء وإليه مرجع كل شيء.
ولم يرو المفسرون رواية ما في نزولها، والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها، وبخاصة بآية النور اتصال تعقيب واستطراد، ففي ما جاء في الآيات من مظاهر قدرة الله ونواميسه الكونية وإحاطته بكل شيء من السماوات والأرض عبرة لأولي البصائر النيرة والعقول السليمة خلقة بأن تكون دافعة لهم إلى ذكر الله والاستشعار بعظمته وهيبته والاستمساك بحبله والدأب على القيام بواجبهم نحوه.
والمتبادر كذلك أن ما احتوته الآيات من نواميس كونية وتكوينية هو مما يقع تحت مشاهدات الناس ومداركهم، وأن القصد من ذلك هو إثارة الاعتبار فيهم، وجعلهم يعترفون بعظمة الله وقدرته ويخضعون له. وليس بسبيل شرح تلك النواميس شرحا فنيا إن صح التعبير. ومن الواجب أن يبقى هدف الآيات في هذا النطاق على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة الكثيرة.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( ٤١ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( ٤٢ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ( ٤٣ )يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ ( ٤٤ ) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤٥ ) ﴾
عبارة الآيات واضحة، وفيها تنبيه وتقرير بصيغة السؤال ولفت النظر إلى بعض مشاهد قدرة الله وملكوته ونواميس كونه وخضوع خلقه له، وتقرير كونه هو الذي يخلق كل شيء والقادر على كل شيء، والمحيط علمه بكل شيء وإليه مرجع كل شيء.
ولم يرو المفسرون رواية ما في نزولها، والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها، وبخاصة بآية النور اتصال تعقيب واستطراد، ففي ما جاء في الآيات من مظاهر قدرة الله ونواميسه الكونية وإحاطته بكل شيء من السماوات والأرض عبرة لأولي البصائر النيرة والعقول السليمة خلقة بأن تكون دافعة لهم إلى ذكر الله والاستشعار بعظمته وهيبته والاستمساك بحبله والدأب على القيام بواجبهم نحوه.
والمتبادر كذلك أن ما احتوته الآيات من نواميس كونية وتكوينية هو مما يقع تحت مشاهدات الناس ومداركهم، وأن القصد من ذلك هو إثارة الاعتبار فيهم، وجعلهم يعترفون بعظمة الله وقدرته ويخضعون له. وليس بسبيل شرح تلك النواميس شرحا فنيا إن صح التعبير. ومن الواجب أن يبقى هدف الآيات في هذا النطاق على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة الكثيرة.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( ٤١ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( ٤٢ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ( ٤٣ )يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ ( ٤٤ ) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤٥ ) ﴾
عبارة الآيات واضحة، وفيها تنبيه وتقرير بصيغة السؤال ولفت النظر إلى بعض مشاهد قدرة الله وملكوته ونواميس كونه وخضوع خلقه له، وتقرير كونه هو الذي يخلق كل شيء والقادر على كل شيء، والمحيط علمه بكل شيء وإليه مرجع كل شيء.
ولم يرو المفسرون رواية ما في نزولها، والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها، وبخاصة بآية النور اتصال تعقيب واستطراد، ففي ما جاء في الآيات من مظاهر قدرة الله ونواميسه الكونية وإحاطته بكل شيء من السماوات والأرض عبرة لأولي البصائر النيرة والعقول السليمة خلقة بأن تكون دافعة لهم إلى ذكر الله والاستشعار بعظمته وهيبته والاستمساك بحبله والدأب على القيام بواجبهم نحوه.
والمتبادر كذلك أن ما احتوته الآيات من نواميس كونية وتكوينية هو مما يقع تحت مشاهدات الناس ومداركهم، وأن القصد من ذلك هو إثارة الاعتبار فيهم، وجعلهم يعترفون بعظمة الله وقدرته ويخضعون له. وليس بسبيل شرح تلك النواميس شرحا فنيا إن صح التعبير. ومن الواجب أن يبقى هدف الآيات في هذا النطاق على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة الكثيرة.
﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ٤٦ ﴾
يحتمل أن يكون هذه الآية معقبة على الآيات السابقة. ويحتمل أن تكون مقدمة للآيات التالية. والاحتمال الأول هو الأرجح، ففي الآيات السابقة طائفة من البراهين على عظمة الله وقدرته سيقت ليعتبر بها أولو الأبصار ويهتدي بها من شاء الله له الهداية إلى الصراط المستقيم. وقد تكرر ما جاء في الآية كثيرا في المناسبات المماثلة وإطلاق الهداية لمن يشاء الله يفسر بما جاء في آيات عديدة أخرى مثل جملة ﴿ ويهدي إليه من أناب ﴾ في آية سورة الرعد ( ٢٧ ) وجملة ﴿ يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ﴾ في آية المائدة ( ١٦ ) أي أن الله يهدي من علم برغبته في الهداية وحسنت نيته على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة.
﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ ) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ( ٤٨ ) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( ٤٩ ) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٥٠ ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥١ ) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٥٢ ) ﴾.
الآيات احتوت :
حكاية حال من فريق من المسلمين كانوا يدعون أنهم مؤمنون بالله ورسوله مطيعون لأوامره ثم يناقضون أقوالهم بأفعالهم. وكان بعضهم إذا دعوا ليتحاكموا بين يدي رسول الله أبوا إذا تيقنوا أن الحكم سيكون لصالحهم وحينئذ فقط يأتون مسرعين طائعين.
وتنديدا بهم فإن حالتهم هذه إنما هي دليل مرض في قلوبهم أو ريبة وشك أو خوف من جور الله عليهم ورسوله في الحكم. وليست هذه حالة المؤمن المخلص الصادق وإنما هي حالة الباغي الظالم.
وبيانا لما يجب أن تكون عليه حالة المؤمنين المخلصين الصادقين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم حيث يلبون الدعوة بدون تردد، ويقولون سمعنا وأطعنا.
وتنويها بهؤلاء وأمثالهم فهم المفلحون حقا، وأن من يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقيه هم الفائزون حقا.
تعليق على الآية
﴿ ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ﴾ والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين.
الآيات فصل جديد وحرف الواو الذي بدأت به إما أن يكون إنشائيا أو يكون عطفا بيانيا على الآية السابقة التي يكون حينئذ مقدمة تمهيد وتذكير، وقد روى المفسرون أنها نزلت بمناسبة خلاف شجر بين المنافق ويهودي فأبى المنافق التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب التحاكم إلى كعب ابن الأشرف أحد طواغيت اليهود، كما رووا أنها نزلت في خصومة بين علي ابن أبي طالب والمغيرة ابن وائل، فأبى المغيرة التحاكم إلى النبي قائلا : إنه يبغضني وأخاف أن يحيف علي، أو في خصومة بين علي وعثمان فقال ابن عم عثمان له، لا تتحاكم إلى النبي فإنه سيحكم عليك لابن عمه١.
ونلاحظ أن الرواية الأولى قد رويت في مناسبة آيات سورة النساء ( ٦٠ ٦٥ } وأن كعب ابن الأشرف قد قتل على ما ترويه روايات السيرة في الشهر الخامس والعشرين من الهجرة النبوية إلى المدينة٢ بينما نخمن أن هذه الآيات نزلت بعد ذلك بمدة طويلة. والرواية الثالثة لا يمكن أن تصدق ؛ لأن عثمان أنزه وأجل من أن يسمع لابن عمه في النبي وعلي، أو أن يعرض عن التحاكم إلى النبي ويخاف حيفه، والآية تندد بالمعرض عن هذا التحاكم الذي لا يمكن أن يكون إلا منافقا. وهي بعد من مرويات الشيعة٣ الذين يجعلون عثمان في زمرة من يطعنون بهم ويجرحونهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
وتبقى الرواية الثانية التي قد تتسق مع فحوى الآيات على أنه يتبادر لنا مما تلهمه روح الآيات وفحواها أولا، وروح الآيات التالية وفحواها ثانيا أنها بسبيل التنديد بصورة عامة بفريق من المسلمين كان يبدو منه مواقف لا تتفق مع الإيمان والإخلاص أكثر منها بسبيل حكاية موقف أو حادث خاص. وهذا لا يمنع أن تكون حدثت حادثة من نوع ما روته الرواية الثانية فاتخذت وسيلة للتنديد القوي بهذا الفريق على مواقفه التي لا تصدر إلا من مرضى القلوب المرتابين في عدل الله ورسوله. ومع أنه لم يرد في الآيات لفظ ( المنافقين ) فالوصف يمكن أن ينصرف إليهم، وبخاصة إن تعبير ﴿ أفي قلوبهم مرض ﴾ استعمل في مناسبات عديدة في وصف المنافقين، أو جاء كمرادف لهذا الوصف على ما مر منه أمثلة عديدة.
والآيات وهي تندد بهذا الفريق وتذكر مواقفه المخامرة وتنوه بالمؤمنين المخلصين وواجبهم تستهدف كما هو المتبادر توطيد سلطان النبي صلى الله عليه وسلم القضائي والسياسي وتوطيد السمع والطاعة له على المسلمين في كل أمر وموقف. وهذا أسلوب قد تكرر وهدف قد استهدف بآيات مدنية عديدة على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. وقد احتوت كما هو واضح صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني والمشاكل التي كان يلقاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعالجاتها.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها احتوت تلقينا بليغا مستمر المدى في تقبيح مواقف مرضى القلوب والأنانيين الذين لا يرضخون للحق ويتهربون منه إذا كان عليهم. والذين لا يكون قصارى همهم إلا أنفسهم ومصالحهم الشخصية.
والذين يظاهرون بالإخلاص وقلوبهم خالية منه. ولا يتورعون عن الوقوف في مواقف مكذبة لهم. مزيفة لدعاواهم مما تكثر صوره في المجتمعات في كل ظرف. وهي في نفس الوقت ترسم للمؤمن الصالح الخطة التي تضمن له النجاح، والفلاح في كل زمن وهي طاعة الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه وجعل الحق والعدل رائدين له، سواء أكان له أم عليه، وخشية الله واتقائه في كل قول وعمل في السر والعلن.
١ انظر تفسير الزمخشري والطبرسي والخازن والبغوي..
٢ انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٧٠-٧٣..
٣ راويها الطبرسي وهو مفسر شيعي..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٧:﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ ) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ( ٤٨ ) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( ٤٩ ) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٥٠ ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥١ ) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٥٢ ) ﴾.

الآيات احتوت :

حكاية حال من فريق من المسلمين كانوا يدعون أنهم مؤمنون بالله ورسوله مطيعون لأوامره ثم يناقضون أقوالهم بأفعالهم. وكان بعضهم إذا دعوا ليتحاكموا بين يدي رسول الله أبوا إذا تيقنوا أن الحكم سيكون لصالحهم وحينئذ فقط يأتون مسرعين طائعين.
وتنديدا بهم فإن حالتهم هذه إنما هي دليل مرض في قلوبهم أو ريبة وشك أو خوف من جور الله عليهم ورسوله في الحكم. وليست هذه حالة المؤمن المخلص الصادق وإنما هي حالة الباغي الظالم.
وبيانا لما يجب أن تكون عليه حالة المؤمنين المخلصين الصادقين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم حيث يلبون الدعوة بدون تردد، ويقولون سمعنا وأطعنا.
وتنويها بهؤلاء وأمثالهم فهم المفلحون حقا، وأن من يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقيه هم الفائزون حقا.
تعليق على الآية
﴿ ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ﴾ والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين.
الآيات فصل جديد وحرف الواو الذي بدأت به إما أن يكون إنشائيا أو يكون عطفا بيانيا على الآية السابقة التي يكون حينئذ مقدمة تمهيد وتذكير، وقد روى المفسرون أنها نزلت بمناسبة خلاف شجر بين المنافق ويهودي فأبى المنافق التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب التحاكم إلى كعب ابن الأشرف أحد طواغيت اليهود، كما رووا أنها نزلت في خصومة بين علي ابن أبي طالب والمغيرة ابن وائل، فأبى المغيرة التحاكم إلى النبي قائلا : إنه يبغضني وأخاف أن يحيف علي، أو في خصومة بين علي وعثمان فقال ابن عم عثمان له، لا تتحاكم إلى النبي فإنه سيحكم عليك لابن عمه١.
ونلاحظ أن الرواية الأولى قد رويت في مناسبة آيات سورة النساء ( ٦٠ ٦٥ } وأن كعب ابن الأشرف قد قتل على ما ترويه روايات السيرة في الشهر الخامس والعشرين من الهجرة النبوية إلى المدينة٢ بينما نخمن أن هذه الآيات نزلت بعد ذلك بمدة طويلة. والرواية الثالثة لا يمكن أن تصدق ؛ لأن عثمان أنزه وأجل من أن يسمع لابن عمه في النبي وعلي، أو أن يعرض عن التحاكم إلى النبي ويخاف حيفه، والآية تندد بالمعرض عن هذا التحاكم الذي لا يمكن أن يكون إلا منافقا. وهي بعد من مرويات الشيعة٣ الذين يجعلون عثمان في زمرة من يطعنون بهم ويجرحونهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
وتبقى الرواية الثانية التي قد تتسق مع فحوى الآيات على أنه يتبادر لنا مما تلهمه روح الآيات وفحواها أولا، وروح الآيات التالية وفحواها ثانيا أنها بسبيل التنديد بصورة عامة بفريق من المسلمين كان يبدو منه مواقف لا تتفق مع الإيمان والإخلاص أكثر منها بسبيل حكاية موقف أو حادث خاص. وهذا لا يمنع أن تكون حدثت حادثة من نوع ما روته الرواية الثانية فاتخذت وسيلة للتنديد القوي بهذا الفريق على مواقفه التي لا تصدر إلا من مرضى القلوب المرتابين في عدل الله ورسوله. ومع أنه لم يرد في الآيات لفظ ( المنافقين ) فالوصف يمكن أن ينصرف إليهم، وبخاصة إن تعبير ﴿ أفي قلوبهم مرض ﴾ استعمل في مناسبات عديدة في وصف المنافقين، أو جاء كمرادف لهذا الوصف على ما مر منه أمثلة عديدة.
والآيات وهي تندد بهذا الفريق وتذكر مواقفه المخامرة وتنوه بالمؤمنين المخلصين وواجبهم تستهدف كما هو المتبادر توطيد سلطان النبي صلى الله عليه وسلم القضائي والسياسي وتوطيد السمع والطاعة له على المسلمين في كل أمر وموقف. وهذا أسلوب قد تكرر وهدف قد استهدف بآيات مدنية عديدة على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. وقد احتوت كما هو واضح صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني والمشاكل التي كان يلقاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعالجاتها.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها احتوت تلقينا بليغا مستمر المدى في تقبيح مواقف مرضى القلوب والأنانيين الذين لا يرضخون للحق ويتهربون منه إذا كان عليهم. والذين لا يكون قصارى همهم إلا أنفسهم ومصالحهم الشخصية.
والذين يظاهرون بالإخلاص وقلوبهم خالية منه. ولا يتورعون عن الوقوف في مواقف مكذبة لهم. مزيفة لدعاواهم مما تكثر صوره في المجتمعات في كل ظرف. وهي في نفس الوقت ترسم للمؤمن الصالح الخطة التي تضمن له النجاح، والفلاح في كل زمن وهي طاعة الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه وجعل الحق والعدل رائدين له، سواء أكان له أم عليه، وخشية الله واتقائه في كل قول وعمل في السر والعلن.
١ انظر تفسير الزمخشري والطبرسي والخازن والبغوي..
٢ انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٧٠-٧٣..
٣ راويها الطبرسي وهو مفسر شيعي..

مذعنين : خاضعين طائعين
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٧:﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ ) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ( ٤٨ ) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( ٤٩ ) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٥٠ ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥١ ) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٥٢ ) ﴾.

الآيات احتوت :

حكاية حال من فريق من المسلمين كانوا يدعون أنهم مؤمنون بالله ورسوله مطيعون لأوامره ثم يناقضون أقوالهم بأفعالهم. وكان بعضهم إذا دعوا ليتحاكموا بين يدي رسول الله أبوا إذا تيقنوا أن الحكم سيكون لصالحهم وحينئذ فقط يأتون مسرعين طائعين.
وتنديدا بهم فإن حالتهم هذه إنما هي دليل مرض في قلوبهم أو ريبة وشك أو خوف من جور الله عليهم ورسوله في الحكم. وليست هذه حالة المؤمن المخلص الصادق وإنما هي حالة الباغي الظالم.
وبيانا لما يجب أن تكون عليه حالة المؤمنين المخلصين الصادقين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم حيث يلبون الدعوة بدون تردد، ويقولون سمعنا وأطعنا.
وتنويها بهؤلاء وأمثالهم فهم المفلحون حقا، وأن من يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقيه هم الفائزون حقا.
تعليق على الآية
﴿ ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ﴾ والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين.
الآيات فصل جديد وحرف الواو الذي بدأت به إما أن يكون إنشائيا أو يكون عطفا بيانيا على الآية السابقة التي يكون حينئذ مقدمة تمهيد وتذكير، وقد روى المفسرون أنها نزلت بمناسبة خلاف شجر بين المنافق ويهودي فأبى المنافق التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب التحاكم إلى كعب ابن الأشرف أحد طواغيت اليهود، كما رووا أنها نزلت في خصومة بين علي ابن أبي طالب والمغيرة ابن وائل، فأبى المغيرة التحاكم إلى النبي قائلا : إنه يبغضني وأخاف أن يحيف علي، أو في خصومة بين علي وعثمان فقال ابن عم عثمان له، لا تتحاكم إلى النبي فإنه سيحكم عليك لابن عمه١.
ونلاحظ أن الرواية الأولى قد رويت في مناسبة آيات سورة النساء ( ٦٠ ٦٥ } وأن كعب ابن الأشرف قد قتل على ما ترويه روايات السيرة في الشهر الخامس والعشرين من الهجرة النبوية إلى المدينة٢ بينما نخمن أن هذه الآيات نزلت بعد ذلك بمدة طويلة. والرواية الثالثة لا يمكن أن تصدق ؛ لأن عثمان أنزه وأجل من أن يسمع لابن عمه في النبي وعلي، أو أن يعرض عن التحاكم إلى النبي ويخاف حيفه، والآية تندد بالمعرض عن هذا التحاكم الذي لا يمكن أن يكون إلا منافقا. وهي بعد من مرويات الشيعة٣ الذين يجعلون عثمان في زمرة من يطعنون بهم ويجرحونهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
وتبقى الرواية الثانية التي قد تتسق مع فحوى الآيات على أنه يتبادر لنا مما تلهمه روح الآيات وفحواها أولا، وروح الآيات التالية وفحواها ثانيا أنها بسبيل التنديد بصورة عامة بفريق من المسلمين كان يبدو منه مواقف لا تتفق مع الإيمان والإخلاص أكثر منها بسبيل حكاية موقف أو حادث خاص. وهذا لا يمنع أن تكون حدثت حادثة من نوع ما روته الرواية الثانية فاتخذت وسيلة للتنديد القوي بهذا الفريق على مواقفه التي لا تصدر إلا من مرضى القلوب المرتابين في عدل الله ورسوله. ومع أنه لم يرد في الآيات لفظ ( المنافقين ) فالوصف يمكن أن ينصرف إليهم، وبخاصة إن تعبير ﴿ أفي قلوبهم مرض ﴾ استعمل في مناسبات عديدة في وصف المنافقين، أو جاء كمرادف لهذا الوصف على ما مر منه أمثلة عديدة.
والآيات وهي تندد بهذا الفريق وتذكر مواقفه المخامرة وتنوه بالمؤمنين المخلصين وواجبهم تستهدف كما هو المتبادر توطيد سلطان النبي صلى الله عليه وسلم القضائي والسياسي وتوطيد السمع والطاعة له على المسلمين في كل أمر وموقف. وهذا أسلوب قد تكرر وهدف قد استهدف بآيات مدنية عديدة على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. وقد احتوت كما هو واضح صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني والمشاكل التي كان يلقاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعالجاتها.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها احتوت تلقينا بليغا مستمر المدى في تقبيح مواقف مرضى القلوب والأنانيين الذين لا يرضخون للحق ويتهربون منه إذا كان عليهم. والذين لا يكون قصارى همهم إلا أنفسهم ومصالحهم الشخصية.
والذين يظاهرون بالإخلاص وقلوبهم خالية منه. ولا يتورعون عن الوقوف في مواقف مكذبة لهم. مزيفة لدعاواهم مما تكثر صوره في المجتمعات في كل ظرف. وهي في نفس الوقت ترسم للمؤمن الصالح الخطة التي تضمن له النجاح، والفلاح في كل زمن وهي طاعة الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه وجعل الحق والعدل رائدين له، سواء أكان له أم عليه، وخشية الله واتقائه في كل قول وعمل في السر والعلن.
١ انظر تفسير الزمخشري والطبرسي والخازن والبغوي..
٢ انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٧٠-٧٣..
٣ راويها الطبرسي وهو مفسر شيعي..

يحيف : يجور
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٧:﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ ) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ( ٤٨ ) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( ٤٩ ) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٥٠ ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥١ ) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٥٢ ) ﴾.

الآيات احتوت :

حكاية حال من فريق من المسلمين كانوا يدعون أنهم مؤمنون بالله ورسوله مطيعون لأوامره ثم يناقضون أقوالهم بأفعالهم. وكان بعضهم إذا دعوا ليتحاكموا بين يدي رسول الله أبوا إذا تيقنوا أن الحكم سيكون لصالحهم وحينئذ فقط يأتون مسرعين طائعين.
وتنديدا بهم فإن حالتهم هذه إنما هي دليل مرض في قلوبهم أو ريبة وشك أو خوف من جور الله عليهم ورسوله في الحكم. وليست هذه حالة المؤمن المخلص الصادق وإنما هي حالة الباغي الظالم.
وبيانا لما يجب أن تكون عليه حالة المؤمنين المخلصين الصادقين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم حيث يلبون الدعوة بدون تردد، ويقولون سمعنا وأطعنا.
وتنويها بهؤلاء وأمثالهم فهم المفلحون حقا، وأن من يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقيه هم الفائزون حقا.
تعليق على الآية
﴿ ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ﴾ والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين.
الآيات فصل جديد وحرف الواو الذي بدأت به إما أن يكون إنشائيا أو يكون عطفا بيانيا على الآية السابقة التي يكون حينئذ مقدمة تمهيد وتذكير، وقد روى المفسرون أنها نزلت بمناسبة خلاف شجر بين المنافق ويهودي فأبى المنافق التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب التحاكم إلى كعب ابن الأشرف أحد طواغيت اليهود، كما رووا أنها نزلت في خصومة بين علي ابن أبي طالب والمغيرة ابن وائل، فأبى المغيرة التحاكم إلى النبي قائلا : إنه يبغضني وأخاف أن يحيف علي، أو في خصومة بين علي وعثمان فقال ابن عم عثمان له، لا تتحاكم إلى النبي فإنه سيحكم عليك لابن عمه١.
ونلاحظ أن الرواية الأولى قد رويت في مناسبة آيات سورة النساء ( ٦٠ ٦٥ } وأن كعب ابن الأشرف قد قتل على ما ترويه روايات السيرة في الشهر الخامس والعشرين من الهجرة النبوية إلى المدينة٢ بينما نخمن أن هذه الآيات نزلت بعد ذلك بمدة طويلة. والرواية الثالثة لا يمكن أن تصدق ؛ لأن عثمان أنزه وأجل من أن يسمع لابن عمه في النبي وعلي، أو أن يعرض عن التحاكم إلى النبي ويخاف حيفه، والآية تندد بالمعرض عن هذا التحاكم الذي لا يمكن أن يكون إلا منافقا. وهي بعد من مرويات الشيعة٣ الذين يجعلون عثمان في زمرة من يطعنون بهم ويجرحونهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
وتبقى الرواية الثانية التي قد تتسق مع فحوى الآيات على أنه يتبادر لنا مما تلهمه روح الآيات وفحواها أولا، وروح الآيات التالية وفحواها ثانيا أنها بسبيل التنديد بصورة عامة بفريق من المسلمين كان يبدو منه مواقف لا تتفق مع الإيمان والإخلاص أكثر منها بسبيل حكاية موقف أو حادث خاص. وهذا لا يمنع أن تكون حدثت حادثة من نوع ما روته الرواية الثانية فاتخذت وسيلة للتنديد القوي بهذا الفريق على مواقفه التي لا تصدر إلا من مرضى القلوب المرتابين في عدل الله ورسوله. ومع أنه لم يرد في الآيات لفظ ( المنافقين ) فالوصف يمكن أن ينصرف إليهم، وبخاصة إن تعبير ﴿ أفي قلوبهم مرض ﴾ استعمل في مناسبات عديدة في وصف المنافقين، أو جاء كمرادف لهذا الوصف على ما مر منه أمثلة عديدة.
والآيات وهي تندد بهذا الفريق وتذكر مواقفه المخامرة وتنوه بالمؤمنين المخلصين وواجبهم تستهدف كما هو المتبادر توطيد سلطان النبي صلى الله عليه وسلم القضائي والسياسي وتوطيد السمع والطاعة له على المسلمين في كل أمر وموقف. وهذا أسلوب قد تكرر وهدف قد استهدف بآيات مدنية عديدة على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. وقد احتوت كما هو واضح صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني والمشاكل التي كان يلقاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعالجاتها.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها احتوت تلقينا بليغا مستمر المدى في تقبيح مواقف مرضى القلوب والأنانيين الذين لا يرضخون للحق ويتهربون منه إذا كان عليهم. والذين لا يكون قصارى همهم إلا أنفسهم ومصالحهم الشخصية.
والذين يظاهرون بالإخلاص وقلوبهم خالية منه. ولا يتورعون عن الوقوف في مواقف مكذبة لهم. مزيفة لدعاواهم مما تكثر صوره في المجتمعات في كل ظرف. وهي في نفس الوقت ترسم للمؤمن الصالح الخطة التي تضمن له النجاح، والفلاح في كل زمن وهي طاعة الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه وجعل الحق والعدل رائدين له، سواء أكان له أم عليه، وخشية الله واتقائه في كل قول وعمل في السر والعلن.
١ انظر تفسير الزمخشري والطبرسي والخازن والبغوي..
٢ انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٧٠-٧٣..
٣ راويها الطبرسي وهو مفسر شيعي..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٧:﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ ) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ( ٤٨ ) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( ٤٩ ) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٥٠ ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥١ ) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٥٢ ) ﴾.

الآيات احتوت :

حكاية حال من فريق من المسلمين كانوا يدعون أنهم مؤمنون بالله ورسوله مطيعون لأوامره ثم يناقضون أقوالهم بأفعالهم. وكان بعضهم إذا دعوا ليتحاكموا بين يدي رسول الله أبوا إذا تيقنوا أن الحكم سيكون لصالحهم وحينئذ فقط يأتون مسرعين طائعين.
وتنديدا بهم فإن حالتهم هذه إنما هي دليل مرض في قلوبهم أو ريبة وشك أو خوف من جور الله عليهم ورسوله في الحكم. وليست هذه حالة المؤمن المخلص الصادق وإنما هي حالة الباغي الظالم.
وبيانا لما يجب أن تكون عليه حالة المؤمنين المخلصين الصادقين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم حيث يلبون الدعوة بدون تردد، ويقولون سمعنا وأطعنا.
وتنويها بهؤلاء وأمثالهم فهم المفلحون حقا، وأن من يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقيه هم الفائزون حقا.
تعليق على الآية
﴿ ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ﴾ والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين.
الآيات فصل جديد وحرف الواو الذي بدأت به إما أن يكون إنشائيا أو يكون عطفا بيانيا على الآية السابقة التي يكون حينئذ مقدمة تمهيد وتذكير، وقد روى المفسرون أنها نزلت بمناسبة خلاف شجر بين المنافق ويهودي فأبى المنافق التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب التحاكم إلى كعب ابن الأشرف أحد طواغيت اليهود، كما رووا أنها نزلت في خصومة بين علي ابن أبي طالب والمغيرة ابن وائل، فأبى المغيرة التحاكم إلى النبي قائلا : إنه يبغضني وأخاف أن يحيف علي، أو في خصومة بين علي وعثمان فقال ابن عم عثمان له، لا تتحاكم إلى النبي فإنه سيحكم عليك لابن عمه١.
ونلاحظ أن الرواية الأولى قد رويت في مناسبة آيات سورة النساء ( ٦٠ ٦٥ } وأن كعب ابن الأشرف قد قتل على ما ترويه روايات السيرة في الشهر الخامس والعشرين من الهجرة النبوية إلى المدينة٢ بينما نخمن أن هذه الآيات نزلت بعد ذلك بمدة طويلة. والرواية الثالثة لا يمكن أن تصدق ؛ لأن عثمان أنزه وأجل من أن يسمع لابن عمه في النبي وعلي، أو أن يعرض عن التحاكم إلى النبي ويخاف حيفه، والآية تندد بالمعرض عن هذا التحاكم الذي لا يمكن أن يكون إلا منافقا. وهي بعد من مرويات الشيعة٣ الذين يجعلون عثمان في زمرة من يطعنون بهم ويجرحونهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
وتبقى الرواية الثانية التي قد تتسق مع فحوى الآيات على أنه يتبادر لنا مما تلهمه روح الآيات وفحواها أولا، وروح الآيات التالية وفحواها ثانيا أنها بسبيل التنديد بصورة عامة بفريق من المسلمين كان يبدو منه مواقف لا تتفق مع الإيمان والإخلاص أكثر منها بسبيل حكاية موقف أو حادث خاص. وهذا لا يمنع أن تكون حدثت حادثة من نوع ما روته الرواية الثانية فاتخذت وسيلة للتنديد القوي بهذا الفريق على مواقفه التي لا تصدر إلا من مرضى القلوب المرتابين في عدل الله ورسوله. ومع أنه لم يرد في الآيات لفظ ( المنافقين ) فالوصف يمكن أن ينصرف إليهم، وبخاصة إن تعبير ﴿ أفي قلوبهم مرض ﴾ استعمل في مناسبات عديدة في وصف المنافقين، أو جاء كمرادف لهذا الوصف على ما مر منه أمثلة عديدة.
والآيات وهي تندد بهذا الفريق وتذكر مواقفه المخامرة وتنوه بالمؤمنين المخلصين وواجبهم تستهدف كما هو المتبادر توطيد سلطان النبي صلى الله عليه وسلم القضائي والسياسي وتوطيد السمع والطاعة له على المسلمين في كل أمر وموقف. وهذا أسلوب قد تكرر وهدف قد استهدف بآيات مدنية عديدة على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. وقد احتوت كما هو واضح صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني والمشاكل التي كان يلقاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعالجاتها.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها احتوت تلقينا بليغا مستمر المدى في تقبيح مواقف مرضى القلوب والأنانيين الذين لا يرضخون للحق ويتهربون منه إذا كان عليهم. والذين لا يكون قصارى همهم إلا أنفسهم ومصالحهم الشخصية.
والذين يظاهرون بالإخلاص وقلوبهم خالية منه. ولا يتورعون عن الوقوف في مواقف مكذبة لهم. مزيفة لدعاواهم مما تكثر صوره في المجتمعات في كل ظرف. وهي في نفس الوقت ترسم للمؤمن الصالح الخطة التي تضمن له النجاح، والفلاح في كل زمن وهي طاعة الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه وجعل الحق والعدل رائدين له، سواء أكان له أم عليه، وخشية الله واتقائه في كل قول وعمل في السر والعلن.
١ انظر تفسير الزمخشري والطبرسي والخازن والبغوي..
٢ انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٧٠-٧٣..
٣ راويها الطبرسي وهو مفسر شيعي..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٧:﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ ) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ( ٤٨ ) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ( ٤٩ ) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٥٠ ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥١ ) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٥٢ ) ﴾.

الآيات احتوت :

حكاية حال من فريق من المسلمين كانوا يدعون أنهم مؤمنون بالله ورسوله مطيعون لأوامره ثم يناقضون أقوالهم بأفعالهم. وكان بعضهم إذا دعوا ليتحاكموا بين يدي رسول الله أبوا إذا تيقنوا أن الحكم سيكون لصالحهم وحينئذ فقط يأتون مسرعين طائعين.
وتنديدا بهم فإن حالتهم هذه إنما هي دليل مرض في قلوبهم أو ريبة وشك أو خوف من جور الله عليهم ورسوله في الحكم. وليست هذه حالة المؤمن المخلص الصادق وإنما هي حالة الباغي الظالم.
وبيانا لما يجب أن تكون عليه حالة المؤمنين المخلصين الصادقين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم حيث يلبون الدعوة بدون تردد، ويقولون سمعنا وأطعنا.
وتنويها بهؤلاء وأمثالهم فهم المفلحون حقا، وأن من يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقيه هم الفائزون حقا.
تعليق على الآية
﴿ ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ﴾ والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين.
الآيات فصل جديد وحرف الواو الذي بدأت به إما أن يكون إنشائيا أو يكون عطفا بيانيا على الآية السابقة التي يكون حينئذ مقدمة تمهيد وتذكير، وقد روى المفسرون أنها نزلت بمناسبة خلاف شجر بين المنافق ويهودي فأبى المنافق التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب التحاكم إلى كعب ابن الأشرف أحد طواغيت اليهود، كما رووا أنها نزلت في خصومة بين علي ابن أبي طالب والمغيرة ابن وائل، فأبى المغيرة التحاكم إلى النبي قائلا : إنه يبغضني وأخاف أن يحيف علي، أو في خصومة بين علي وعثمان فقال ابن عم عثمان له، لا تتحاكم إلى النبي فإنه سيحكم عليك لابن عمه١.
ونلاحظ أن الرواية الأولى قد رويت في مناسبة آيات سورة النساء ( ٦٠ ٦٥ } وأن كعب ابن الأشرف قد قتل على ما ترويه روايات السيرة في الشهر الخامس والعشرين من الهجرة النبوية إلى المدينة٢ بينما نخمن أن هذه الآيات نزلت بعد ذلك بمدة طويلة. والرواية الثالثة لا يمكن أن تصدق ؛ لأن عثمان أنزه وأجل من أن يسمع لابن عمه في النبي وعلي، أو أن يعرض عن التحاكم إلى النبي ويخاف حيفه، والآية تندد بالمعرض عن هذا التحاكم الذي لا يمكن أن يكون إلا منافقا. وهي بعد من مرويات الشيعة٣ الذين يجعلون عثمان في زمرة من يطعنون بهم ويجرحونهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
وتبقى الرواية الثانية التي قد تتسق مع فحوى الآيات على أنه يتبادر لنا مما تلهمه روح الآيات وفحواها أولا، وروح الآيات التالية وفحواها ثانيا أنها بسبيل التنديد بصورة عامة بفريق من المسلمين كان يبدو منه مواقف لا تتفق مع الإيمان والإخلاص أكثر منها بسبيل حكاية موقف أو حادث خاص. وهذا لا يمنع أن تكون حدثت حادثة من نوع ما روته الرواية الثانية فاتخذت وسيلة للتنديد القوي بهذا الفريق على مواقفه التي لا تصدر إلا من مرضى القلوب المرتابين في عدل الله ورسوله. ومع أنه لم يرد في الآيات لفظ ( المنافقين ) فالوصف يمكن أن ينصرف إليهم، وبخاصة إن تعبير ﴿ أفي قلوبهم مرض ﴾ استعمل في مناسبات عديدة في وصف المنافقين، أو جاء كمرادف لهذا الوصف على ما مر منه أمثلة عديدة.
والآيات وهي تندد بهذا الفريق وتذكر مواقفه المخامرة وتنوه بالمؤمنين المخلصين وواجبهم تستهدف كما هو المتبادر توطيد سلطان النبي صلى الله عليه وسلم القضائي والسياسي وتوطيد السمع والطاعة له على المسلمين في كل أمر وموقف. وهذا أسلوب قد تكرر وهدف قد استهدف بآيات مدنية عديدة على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. وقد احتوت كما هو واضح صورة من صور السيرة النبوية في العهد المدني والمشاكل التي كان يلقاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعالجاتها.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها احتوت تلقينا بليغا مستمر المدى في تقبيح مواقف مرضى القلوب والأنانيين الذين لا يرضخون للحق ويتهربون منه إذا كان عليهم. والذين لا يكون قصارى همهم إلا أنفسهم ومصالحهم الشخصية.
والذين يظاهرون بالإخلاص وقلوبهم خالية منه. ولا يتورعون عن الوقوف في مواقف مكذبة لهم. مزيفة لدعاواهم مما تكثر صوره في المجتمعات في كل ظرف. وهي في نفس الوقت ترسم للمؤمن الصالح الخطة التي تضمن له النجاح، والفلاح في كل زمن وهي طاعة الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه وجعل الحق والعدل رائدين له، سواء أكان له أم عليه، وخشية الله واتقائه في كل قول وعمل في السر والعلن.
١ انظر تفسير الزمخشري والطبرسي والخازن والبغوي..
٢ انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٧٠-٧٣..
٣ راويها الطبرسي وهو مفسر شيعي..

﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ٥٣ ) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( ٥٤ ) ﴾
المتبادر من واو العطف الذي بدأت به الآية الأولى أن المقصود بالكلام هم الذين حكيت مواقفهم وندد فيهم في الآيات السابقة أي مرضى القلوب والمنافقين وقد احتوت الآيات :
حكاية لما كانوا يحلفون به للنبي من أوثق الإيمان على استعدادهم لتنفيذ أمره لو أمرهم بالخروج.
وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بأن لا يحلفوا، وأن المطلوب منهم هو الإذعان والطاعة في ما هو خير ومصلحة ومعروف، وأن الله خبير بأعمالهم ونياتهم.
وأمرا آخر للنبي بأن يؤكد عليهم وجوب الإخلاص في طاعة الله ورسوله وعدم الاكتفاء بالقول، ففي إخلاصهم هدى وخير ومصلحة لهم وإذا أعرضوا فكل مسؤول عن واجبه وعمله، فالرسول مسؤول عما أوجب الله عليه وحمله إياه وهو التبليغ والإرشاد وهم مسؤولون عما أوجب عليهم وحملهم إياه من الإخلاص والسمع والطاعة. وضرر تقصيرهم وعدم إخلاصهم عائد إليهم.
تعليق على الآية
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا معروفة إن الله خبير بما تعملون ٥٣ ﴾.
والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين
قال المفسرون : إن المنافقين لما صار القرآن يندد بإخلاصهم ويفضحهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحلفون له بأنهم مخلصون وأنهم مستعدون لتنفيذ كل ما يأمرهم به حتى لو أمرهم بالجلاء، أو يحلفون له على استعدادهم للجهاد حالما يدعوهم إليه١.
ولم يسند المفسرون أقوالهم بسند، والآيات تؤيد الأقوال. غير أن أسلوبها لا يدل على أنها نزلت مباشرة بسبب ذلك. ففيها حكاية لأقوالهم. وهي معطوفة على ما قبلها، وضمائر الجمع الغائب والجمع المخاطب فيها عائدة إلى الذين ندد بهم في الآيات السابقة، بحيث يمكن القول إنها متصلة بها سياقا وموضوعا. والذي يتبادر هو أنها والآيات السابقة نزلت معا لتحكي مواقف المنافقين المذكورة فيها وتندد بهم. وقد انطوت هذه الآيات كذلك على معنى عدم الثقة فيما يتظاهرون به ويحلفون عليه، واستهدفت ما استهدفته الآيات السابقة من توطيد الطاعة والإخلاص لله ورسوله.
ويلمح في الآيات طبيعة المنافقين في التظاهر والمواربة ومحاولة الإقناع بإخلاصهم. وهو ما يلمح في آيات كثيرة بعد هذه السورة أيضا. والسورة على الأرجح قد نزلت بعد قطع دابر اليهود في المدينة على ما مر ذكره في سور سابقة.
وهذا ما يسوغ القول : إن موقف المنافقين قد أخذ يتطور وحالتهم أخذت تضعف بعد ذلك فصار يبدو منهم ما حكته هذه الآيات وغيرها من التظاهر والانصياع.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها هي الأخرى تحتوي تلقينا عاما في تقبيح موقف مرضى القلوب في التظاهر بالإخلاص مع خلودهم منه والادعاء كذبا باستعدادهم للتضامن مع المسلمين ولاسيما في ظروف النضال التي يكون التضامن فيها واجبا عاما يصيبهم نفعه إذا قاموا به وينالهم ضرره إذا قصروا فيه.
١ انظر الطبرسي والخازن والبغوي.
فإن تولوا : هي الأرجح في مقام فإن تتولوا أي صيغة الجمع المخاطب وهو ما عليه الجمهور.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٣:﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ٥٣ ) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( ٥٤ ) ﴾
المتبادر من واو العطف الذي بدأت به الآية الأولى أن المقصود بالكلام هم الذين حكيت مواقفهم وندد فيهم في الآيات السابقة أي مرضى القلوب والمنافقين وقد احتوت الآيات :
حكاية لما كانوا يحلفون به للنبي من أوثق الإيمان على استعدادهم لتنفيذ أمره لو أمرهم بالخروج.
وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بأن لا يحلفوا، وأن المطلوب منهم هو الإذعان والطاعة في ما هو خير ومصلحة ومعروف، وأن الله خبير بأعمالهم ونياتهم.
وأمرا آخر للنبي بأن يؤكد عليهم وجوب الإخلاص في طاعة الله ورسوله وعدم الاكتفاء بالقول، ففي إخلاصهم هدى وخير ومصلحة لهم وإذا أعرضوا فكل مسؤول عن واجبه وعمله، فالرسول مسؤول عما أوجب الله عليه وحمله إياه وهو التبليغ والإرشاد وهم مسؤولون عما أوجب عليهم وحملهم إياه من الإخلاص والسمع والطاعة. وضرر تقصيرهم وعدم إخلاصهم عائد إليهم.
تعليق على الآية
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا معروفة إن الله خبير بما تعملون ٥٣ ﴾.
والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين
قال المفسرون : إن المنافقين لما صار القرآن يندد بإخلاصهم ويفضحهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحلفون له بأنهم مخلصون وأنهم مستعدون لتنفيذ كل ما يأمرهم به حتى لو أمرهم بالجلاء، أو يحلفون له على استعدادهم للجهاد حالما يدعوهم إليه١.
ولم يسند المفسرون أقوالهم بسند، والآيات تؤيد الأقوال. غير أن أسلوبها لا يدل على أنها نزلت مباشرة بسبب ذلك. ففيها حكاية لأقوالهم. وهي معطوفة على ما قبلها، وضمائر الجمع الغائب والجمع المخاطب فيها عائدة إلى الذين ندد بهم في الآيات السابقة، بحيث يمكن القول إنها متصلة بها سياقا وموضوعا. والذي يتبادر هو أنها والآيات السابقة نزلت معا لتحكي مواقف المنافقين المذكورة فيها وتندد بهم. وقد انطوت هذه الآيات كذلك على معنى عدم الثقة فيما يتظاهرون به ويحلفون عليه، واستهدفت ما استهدفته الآيات السابقة من توطيد الطاعة والإخلاص لله ورسوله.
ويلمح في الآيات طبيعة المنافقين في التظاهر والمواربة ومحاولة الإقناع بإخلاصهم. وهو ما يلمح في آيات كثيرة بعد هذه السورة أيضا. والسورة على الأرجح قد نزلت بعد قطع دابر اليهود في المدينة على ما مر ذكره في سور سابقة.
وهذا ما يسوغ القول : إن موقف المنافقين قد أخذ يتطور وحالتهم أخذت تضعف بعد ذلك فصار يبدو منهم ما حكته هذه الآيات وغيرها من التظاهر والانصياع.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها هي الأخرى تحتوي تلقينا عاما في تقبيح موقف مرضى القلوب في التظاهر بالإخلاص مع خلودهم منه والادعاء كذبا باستعدادهم للتضامن مع المسلمين ولاسيما في ظروف النضال التي يكون التضامن فيها واجبا عاما يصيبهم نفعه إذا قاموا به وينالهم ضرره إذا قصروا فيه.
١ انظر الطبرسي والخازن والبغوي.

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٥٥ ) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٥٦ ) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٥٧ ) ﴾.
تعليق على الآية :
﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض…الخ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من دلالة على قيام الدولة
الإسلامية ومن تلقينات وحقائق اجتماعية خالدة ومن
معجزة تحققت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده.
عبارة الآيات واضحة. وفيها :
١ - إيذان بوعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات باستخلافهم في الأرض وجعلهم أصحاب السلطان والبسطة فيها كما استخلف أمثالهم من قبلهم. وبتوطيد دينهم الذي ارتضاه لهم والذي هو دين الله القويم وتمكينه ونشره وبإبدالهم بالأمن والطمأنينة بعد الخوف، على شرط أن يلتزموا الإخلاص في إيمانهم وأعمالهم فيعبدون الله وحده لا يشركون معه أحدا، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويطيعوا الرسول حيث يستحقون بذلك رحمة الله وفضله.
٢ وإنذار الكافرين فالذين يكفرون بعد ذلك هم الفاسقون المتمردون على الله. ولا يظنن أحد أنهم معجزون الله في الدنيا، فهو محيط بهم قادر على البطش بهم. ومأواهم في الآخرة عذاب النار وبئس هي من مصير.
وقد روى المفسرون أن بعض المسلمين- وقد أمروا بالهجرة والجهاد وكانوا لا يفارقون سلاحهم قالوا : أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فقال لهم رسول الله لن تصبروا إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة، ثم أنزل الله الآية الأولى. ١
والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بالآيات السابقة وبخاصة بالآيتين السابقتين مباشرة لها سياقا وموضوعا اتصالا وثيقا وأنها جاءت معقبة عليهما. فقد نددتا بمرضى القلوب، ودعتا إلى الإخلاص في السمع والطاعة والإيمان، وقررتا أن هذا هو لخير الناس ومصلحتهم فجاءت هذه الآيات تعد المخلصين بما تعدهم وتؤكد واجب الطاعة للرسول وما في ذلك من ضمان رحمة الله.
وهذا لا يمنع أن يكون بعض المسلمين تساءلوا في موقف ما مثل ما روته الرواية فاقتضت حكمة التنزيل تضمين الآيات جوابا لهم فيه البشرى المشروطة بالشروط التي احتوتها.
وإذا كان الخطاب في الآيات هو لسامعي القرآن مباشرة من المؤمنين الأولين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما تفيده كلمة ﴿ منكم ﴾ أيضا، فضلا عن ظروف نزولها فإن مداها عام لجميع المؤمنين الذي يعلمون الصالحات كما هو المتبادر. فكل خطاب مثل هذا الخطاب في القرآن هو عام شامل لكل المسلمين في كل ظرف على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن الآية الأولى وهي تعد المؤمنين الصالحين من لدن عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالاستخلاف في الأرض تنطوي على تقرير أن ذلك يكون في نطاق دولة ذات سلطان وبمعنى آخر قد انطوى فيها فكرة قيام الدولة في الإسلام مع التنبيه على أن هذا كان أمرا متحققا برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم، ومما انطوى في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي أمرت بإطاعة الله والرسول وأولى الأمر من المسلمين ورد الأمور إليهم، ووطدت سلطان النبي صلى الله عليه وسلم القضائي والسياسي والجهادي والتشريعي واحتوت فكرة الجهاد والدفاع وضمان حرية الدعوة وحماية المسلمين ودينهم والشورى ومسالمة المسالمين وعقد المواثيق بدون حرب أو بعد حرب وأخذ الجزية وإقامة الحدود وتنظيم شؤون الأسرة وتخصيص الزكاة والفيء وخمس الغنائم لبيت مال المسلمين ؛ ليتولى ولي أمرهم إنفاقها على مصالح المسلمين العامة والطبقات المعزوة الخ مما مر كثير منه ونبهنا عليه في سياق شرحه. ويضاف إليه الأحاديث النبوية الصحيحة والكثيرة جدا في كل شأن من هذه الشؤون التي أوردنا كثيرا منها في المناسبات السابقة.
ويحسن أن نقف عند تعبير ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ لنقول : عن عمل الصالحات الذي هو من شروط تحقيق البشرى والوعد الربانيين يشمل كما قلنا في المناسبات السابقة كل أنواع الخير والبر والواجب تعبديا كان أم غير تعبدي من عبادة الله وحده، وإسلام النفس إليه والإحسان والبر بالمحتاجين والرحمة بالضعفاء والجهاد في سبيل الله ومكافحة الظلم والظالمين والتضحية بالنفس والمال في ذلك والتزام الحق والعدل والإنصاف والصدق والأمانة والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر والرحمة والأعمال العامة التي فيها مصلحة المسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكسب الحلال وقيام المرء بواجباته نحو أسرته وبني ملته وقومه ومعاملة الناس بالحسنى.
وهكذا يبدو هذا الشرط الذي يتحقق به الوعد والبشرى الربانيان رائعا جليل المعنى والمدى. وفي الوقت نفسه ينطوي على حقيقة اجتماعية خالدة وهي أن السلطان والتمكن والفوز في الدنيا مضمون دائما للذين آمنوا وعملوا الصالحات ولدينهم ومنهجهم في كل وقت وزمان.
ولقد تحققت هذه البشرى والوعد المزدوجان أي الاستخلاف في الأرض وتمكين دين الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ؛ لأن شروطهما كانت متحققة في رجال العهدين رضي الله عنهم، فكان ذلك معجزة من معجزات القرآن ؛ حيث تبدل خوف المسلمين أمنا وضعفهم قوة، ومكن الله دينهم فلم يتوف نبيه إلا وهو منتشر في جمع أرجاء الجزيرة العربية، وأخذ يطرق أبواب الأقطار المجاروة، وصار للإسلام دولة نافذة الأمر والسلطان في الشؤون القضائية والتشريعية والجهادية والاقتصادية والتنظيمية تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم ثم تحت راية خلفائه الراشدين الذين ساروا على طريقته فظلت المعجزة مستمرة في عهدهم فانتشر الإسلام في جميع الأقطار المجاورة لجزيرة العرب من الشمال والجنوب وقام السلطان الإسلامي النافذ في تلك الشؤون قويا منصورا واندحرت أمامه قوى الظلم والطغيان. ثم ظل هذا مستمرا ما استمر حكام المسلمين ورجالهم على الطريقة حتى صار السلطان الإسلامي والدين الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى شاملين لمعظم ما كان معروفا من أرجاء المعمورة في مشارق الأرض ومغاربها من حدود الصين والهند شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا مع امتداد عظيم في الشمال والجنوب من هذه الساحة الشاسعة على اختلاف أجناس سكانها وألوانها وأديانهم.
ونحن مؤمنون بأن وعد الله المطلق يظل يتحقق للمؤمنين وللدين الإسلامي في كل زمان ومكان إذا ما تحققت فيهم الشروط التي احتوتها هذه الآيات. وساروا على ما رسمه الله ورسوله في الكتاب والسنة وأوجباه عليهم من خطط وأخلاق اجتماعية وسياسية وشخصية وجهادية وتضامنية وأسرية وتبشيرية وسلوكية وتنظيمية بكل إخلاص وجد.
الإيمان بهذا واجب على كل مسلم ؛ لأن الله لن يخلف ما وعده من النصر والتمكين في هذه الآيات وفي آيات كثيرة أخرى في سور عديدة مكية ومدنية.
ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية التي فيها أخبار بما سيكون من فتح للمسلمين والعرب وقوة وسلطان، منها حديث جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ) ٢، ومنها حديث روي عن عدي ابن حاتم جاء فيه ( قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد عليه : أتعرف الحيرة ؟ قال : لم أعرفها ولكن قد سمعت بها، قال : فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة وتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى ابن هرمز، قال : قلت له كنوز كسرى ابن هرمز ؟ قال نعم كسرى ابن هرمز وليذلن المال حتى لا يقبله أحد. قال عدي ابن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، وقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى ابن هرمز. والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها ) ٣.
ولقد قال المفسرون في تأويل جملة ﴿ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾ إنها تعني من كفر بنعمة الله من المسلمين وانحرف عن طاعة الله ورسوله٤. وهو وجيه متسق مع روح الجملة. وفي الجملة على ضوء هذا التأويل حقيقة اجتماعية خالدة أخرى، وهي أن ما يمكن أن يحل بالمسلمين من ذل وضعف واندحار وخذلان بعد أن يكونوا قد صاروا إلى ما صاروا إليه من ثروة وعزة وسؤدد وانتشار سلطان ودين إنما يكون بسبب انحرافهم عن الطريقة المثلى التي تحققت بها المعجزة القرآنية. وهذا مما كان وظل يتحقق في المسلمين وبلادهم حينما كانوا ينحرفون عن دينهم ويقصرون في ما أوجبه الله عليهم من عمل الصالحات على مداها الواسع الذي شرحناه.
ومع ذلك فهناك حديث يحسن أن يساق في هذا المساق أورده ابن كثير وهو من مرويات مسلم والترمذي وأبي داود ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله ) ٥.
وينطوي في الحديث بشرى عظيمة حتى في حال عدم تحقق الشرط في جمع المسلمين حيث يبشر رسول الله بأن هذا الشرط سيكون متحققا ولو في فئة منهم وسيجعلهم أعزاء ظاهرين على الحق وهو ما كان وما يزال يتحقق في مختلف البقاع والأزمان من لدن العهد النبوي كنتيجة لتحقق ذلك الشرط الرائع في فئة من المسلمين.
تأويل الشيعة لبعض الآيات السابقة والتعليق عليه
ولقد وقف مفسرو٦ الشيعة عند جملة ﴿ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾ فرووا عن أئمتهم : علي ابن الحسين وأبي جعفر وأبي عبد الله أنها في الذين وقفوا من أهل بيت النبي وشيعتهم موقف المناوأة والعداء، ثم رووا عن أئمتهم أن الآية الأولى تضمنت البشارة بظهور المهدي واستخلافه في الأرض، ورووا في صدده حديثا جاء فيه ( لو لم يبق في الدنيا إلا يوم واحد لطول ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمى، يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا ) ٧.
والهوى الشيعي ظاهر في تأويل الآيات وصرفها عن روعة مفهومها الشامل للمسلمين باستخلافهم في الأرض وتمكن دينهم إذا آمنوا وأخلصوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الرسول. وليس فيها أي شيء يبرر ذلك الصرف والتأويل.
١ انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي..
٢ النص المنقول من ابن كثير: وقد وصف الحديث الأول أنه صحيح ثابت. وقد روى البخاري الحديث الثاني بنص آخر جاء فيه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت لم أرها وقد أنبئت بها قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله. قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد. ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرىـ قلت كسرى ابن هرمز؟ قال: نعم. ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة فلا يجد من يقبله. وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فيقول له: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول بلى، فيقول ألم أعطك مالا وولدا وأفضل عليك؟ فيقول بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى جهنم. فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة. قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم التاج ج ٣ ص ٢٥٦ وهناك أحاديث عديدة من هذا الباب منها حديث رواه مسلم عن نافع بن عقبة جاء فيه أنه قد سمع رسول الله يقول: تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، وتغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله... التاج ج ٣ ص ٢٥٦ و ٢٥٧..
٣ المصدر نفسه.
٤ انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.
٥ التاج ج ٥ ص ٣١٣.
٦ انظر تفسير الطبرسي. وننبه على أن هذا المفسر أورد في الوقت نفسه تأويلات للآية متسقة مع تأويلات المفسرين السنيين ومع روح الآيات وفحواها..
٧ روى هذا الحديث بخلاف يسير أبو داود والترمذي (التاج ج ٥ ص ٣١١ و ٣١٢ ونحن نقف منه موقف التحفظ، ونرجح أن للهوى الشيعي أثرا ما فيه، ومع ذلك فإنه لا يساعد في أي حال على تأويل بما أولها به أئمة الشيعة أو مفسروهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٥:﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٥٥ ) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٥٦ ) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٥٧ ) ﴾.

تعليق على الآية :

﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض…الخ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من دلالة على قيام الدولة
الإسلامية ومن تلقينات وحقائق اجتماعية خالدة ومن
معجزة تحققت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده.

عبارة الآيات واضحة. وفيها :


١ -
إيذان بوعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات باستخلافهم في الأرض وجعلهم أصحاب السلطان والبسطة فيها كما استخلف أمثالهم من قبلهم. وبتوطيد دينهم الذي ارتضاه لهم والذي هو دين الله القويم وتمكينه ونشره وبإبدالهم بالأمن والطمأنينة بعد الخوف، على شرط أن يلتزموا الإخلاص في إيمانهم وأعمالهم فيعبدون الله وحده لا يشركون معه أحدا، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويطيعوا الرسول حيث يستحقون بذلك رحمة الله وفضله.
٢ وإنذار الكافرين فالذين يكفرون بعد ذلك هم الفاسقون المتمردون على الله. ولا يظنن أحد أنهم معجزون الله في الدنيا، فهو محيط بهم قادر على البطش بهم. ومأواهم في الآخرة عذاب النار وبئس هي من مصير.
وقد روى المفسرون أن بعض المسلمين- وقد أمروا بالهجرة والجهاد وكانوا لا يفارقون سلاحهم قالوا : أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فقال لهم رسول الله لن تصبروا إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة، ثم أنزل الله الآية الأولى. ١
والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بالآيات السابقة وبخاصة بالآيتين السابقتين مباشرة لها سياقا وموضوعا اتصالا وثيقا وأنها جاءت معقبة عليهما. فقد نددتا بمرضى القلوب، ودعتا إلى الإخلاص في السمع والطاعة والإيمان، وقررتا أن هذا هو لخير الناس ومصلحتهم فجاءت هذه الآيات تعد المخلصين بما تعدهم وتؤكد واجب الطاعة للرسول وما في ذلك من ضمان رحمة الله.
وهذا لا يمنع أن يكون بعض المسلمين تساءلوا في موقف ما مثل ما روته الرواية فاقتضت حكمة التنزيل تضمين الآيات جوابا لهم فيه البشرى المشروطة بالشروط التي احتوتها.
وإذا كان الخطاب في الآيات هو لسامعي القرآن مباشرة من المؤمنين الأولين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما تفيده كلمة ﴿ منكم ﴾ أيضا، فضلا عن ظروف نزولها فإن مداها عام لجميع المؤمنين الذي يعلمون الصالحات كما هو المتبادر. فكل خطاب مثل هذا الخطاب في القرآن هو عام شامل لكل المسلمين في كل ظرف على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن الآية الأولى وهي تعد المؤمنين الصالحين من لدن عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالاستخلاف في الأرض تنطوي على تقرير أن ذلك يكون في نطاق دولة ذات سلطان وبمعنى آخر قد انطوى فيها فكرة قيام الدولة في الإسلام مع التنبيه على أن هذا كان أمرا متحققا برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم، ومما انطوى في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي أمرت بإطاعة الله والرسول وأولى الأمر من المسلمين ورد الأمور إليهم، ووطدت سلطان النبي صلى الله عليه وسلم القضائي والسياسي والجهادي والتشريعي واحتوت فكرة الجهاد والدفاع وضمان حرية الدعوة وحماية المسلمين ودينهم والشورى ومسالمة المسالمين وعقد المواثيق بدون حرب أو بعد حرب وأخذ الجزية وإقامة الحدود وتنظيم شؤون الأسرة وتخصيص الزكاة والفيء وخمس الغنائم لبيت مال المسلمين ؛ ليتولى ولي أمرهم إنفاقها على مصالح المسلمين العامة والطبقات المعزوة الخ مما مر كثير منه ونبهنا عليه في سياق شرحه. ويضاف إليه الأحاديث النبوية الصحيحة والكثيرة جدا في كل شأن من هذه الشؤون التي أوردنا كثيرا منها في المناسبات السابقة.
ويحسن أن نقف عند تعبير ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ لنقول : عن عمل الصالحات الذي هو من شروط تحقيق البشرى والوعد الربانيين يشمل كما قلنا في المناسبات السابقة كل أنواع الخير والبر والواجب تعبديا كان أم غير تعبدي من عبادة الله وحده، وإسلام النفس إليه والإحسان والبر بالمحتاجين والرحمة بالضعفاء والجهاد في سبيل الله ومكافحة الظلم والظالمين والتضحية بالنفس والمال في ذلك والتزام الحق والعدل والإنصاف والصدق والأمانة والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر والرحمة والأعمال العامة التي فيها مصلحة المسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكسب الحلال وقيام المرء بواجباته نحو أسرته وبني ملته وقومه ومعاملة الناس بالحسنى.
وهكذا يبدو هذا الشرط الذي يتحقق به الوعد والبشرى الربانيان رائعا جليل المعنى والمدى. وفي الوقت نفسه ينطوي على حقيقة اجتماعية خالدة وهي أن السلطان والتمكن والفوز في الدنيا مضمون دائما للذين آمنوا وعملوا الصالحات ولدينهم ومنهجهم في كل وقت وزمان.
ولقد تحققت هذه البشرى والوعد المزدوجان أي الاستخلاف في الأرض وتمكين دين الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ؛ لأن شروطهما كانت متحققة في رجال العهدين رضي الله عنهم، فكان ذلك معجزة من معجزات القرآن ؛ حيث تبدل خوف المسلمين أمنا وضعفهم قوة، ومكن الله دينهم فلم يتوف نبيه إلا وهو منتشر في جمع أرجاء الجزيرة العربية، وأخذ يطرق أبواب الأقطار المجاروة، وصار للإسلام دولة نافذة الأمر والسلطان في الشؤون القضائية والتشريعية والجهادية والاقتصادية والتنظيمية تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم ثم تحت راية خلفائه الراشدين الذين ساروا على طريقته فظلت المعجزة مستمرة في عهدهم فانتشر الإسلام في جميع الأقطار المجاورة لجزيرة العرب من الشمال والجنوب وقام السلطان الإسلامي النافذ في تلك الشؤون قويا منصورا واندحرت أمامه قوى الظلم والطغيان. ثم ظل هذا مستمرا ما استمر حكام المسلمين ورجالهم على الطريقة حتى صار السلطان الإسلامي والدين الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى شاملين لمعظم ما كان معروفا من أرجاء المعمورة في مشارق الأرض ومغاربها من حدود الصين والهند شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا مع امتداد عظيم في الشمال والجنوب من هذه الساحة الشاسعة على اختلاف أجناس سكانها وألوانها وأديانهم.
ونحن مؤمنون بأن وعد الله المطلق يظل يتحقق للمؤمنين وللدين الإسلامي في كل زمان ومكان إذا ما تحققت فيهم الشروط التي احتوتها هذه الآيات. وساروا على ما رسمه الله ورسوله في الكتاب والسنة وأوجباه عليهم من خطط وأخلاق اجتماعية وسياسية وشخصية وجهادية وتضامنية وأسرية وتبشيرية وسلوكية وتنظيمية بكل إخلاص وجد.
الإيمان بهذا واجب على كل مسلم ؛ لأن الله لن يخلف ما وعده من النصر والتمكين في هذه الآيات وفي آيات كثيرة أخرى في سور عديدة مكية ومدنية.
ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية التي فيها أخبار بما سيكون من فتح للمسلمين والعرب وقوة وسلطان، منها حديث جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ) ٢، ومنها حديث روي عن عدي ابن حاتم جاء فيه ( قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد عليه : أتعرف الحيرة ؟ قال : لم أعرفها ولكن قد سمعت بها، قال : فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة وتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى ابن هرمز، قال : قلت له كنوز كسرى ابن هرمز ؟ قال نعم كسرى ابن هرمز وليذلن المال حتى لا يقبله أحد. قال عدي ابن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، وقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى ابن هرمز. والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها ) ٣.
ولقد قال المفسرون في تأويل جملة ﴿ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾ إنها تعني من كفر بنعمة الله من المسلمين وانحرف عن طاعة الله ورسوله٤. وهو وجيه متسق مع روح الجملة. وفي الجملة على ضوء هذا التأويل حقيقة اجتماعية خالدة أخرى، وهي أن ما يمكن أن يحل بالمسلمين من ذل وضعف واندحار وخذلان بعد أن يكونوا قد صاروا إلى ما صاروا إليه من ثروة وعزة وسؤدد وانتشار سلطان ودين إنما يكون بسبب انحرافهم عن الطريقة المثلى التي تحققت بها المعجزة القرآنية. وهذا مما كان وظل يتحقق في المسلمين وبلادهم حينما كانوا ينحرفون عن دينهم ويقصرون في ما أوجبه الله عليهم من عمل الصالحات على مداها الواسع الذي شرحناه.
ومع ذلك فهناك حديث يحسن أن يساق في هذا المساق أورده ابن كثير وهو من مرويات مسلم والترمذي وأبي داود ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله ) ٥.
وينطوي في الحديث بشرى عظيمة حتى في حال عدم تحقق الشرط في جمع المسلمين حيث يبشر رسول الله بأن هذا الشرط سيكون متحققا ولو في فئة منهم وسيجعلهم أعزاء ظاهرين على الحق وهو ما كان وما يزال يتحقق في مختلف البقاع والأزمان من لدن العهد النبوي كنتيجة لتحقق ذلك الشرط الرائع في فئة من المسلمين.
تأويل الشيعة لبعض الآيات السابقة والتعليق عليه
ولقد وقف مفسرو٦ الشيعة عند جملة ﴿ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾ فرووا عن أئمتهم : علي ابن الحسين وأبي جعفر وأبي عبد الله أنها في الذين وقفوا من أهل بيت النبي وشيعتهم موقف المناوأة والعداء، ثم رووا عن أئمتهم أن الآية الأولى تضمنت البشارة بظهور المهدي واستخلافه في الأرض، ورووا في صدده حديثا جاء فيه ( لو لم يبق في الدنيا إلا يوم واحد لطول ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمى، يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا ) ٧.
والهوى الشيعي ظاهر في تأويل الآيات وصرفها عن روعة مفهومها الشامل للمسلمين باستخلافهم في الأرض وتمكن دينهم إذا آمنوا وأخلصوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الرسول. وليس فيها أي شيء يبرر ذلك الصرف والتأويل.
١ انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي..
٢ النص المنقول من ابن كثير: وقد وصف الحديث الأول أنه صحيح ثابت. وقد روى البخاري الحديث الثاني بنص آخر جاء فيه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت لم أرها وقد أنبئت بها قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله. قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد. ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرىـ قلت كسرى ابن هرمز؟ قال: نعم. ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة فلا يجد من يقبله. وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فيقول له: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول بلى، فيقول ألم أعطك مالا وولدا وأفضل عليك؟ فيقول بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى جهنم. فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة. قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم التاج ج ٣ ص ٢٥٦ وهناك أحاديث عديدة من هذا الباب منها حديث رواه مسلم عن نافع بن عقبة جاء فيه أنه قد سمع رسول الله يقول: تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، وتغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله... التاج ج ٣ ص ٢٥٦ و ٢٥٧..
٣ المصدر نفسه.
٤ انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.
٥ التاج ج ٥ ص ٣١٣.
٦ انظر تفسير الطبرسي. وننبه على أن هذا المفسر أورد في الوقت نفسه تأويلات للآية متسقة مع تأويلات المفسرين السنيين ومع روح الآيات وفحواها..
٧ روى هذا الحديث بخلاف يسير أبو داود والترمذي (التاج ج ٥ ص ٣١١ و ٣١٢ ونحن نقف منه موقف التحفظ، ونرجح أن للهوى الشيعي أثرا ما فيه، ومع ذلك فإنه لا يساعد في أي حال على تأويل بما أولها به أئمة الشيعة أو مفسروهم.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٥:﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( ٥٥ ) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ٥٦ ) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٥٧ ) ﴾.

تعليق على الآية :

﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض…الخ ﴾
والآيتين التاليتين لها وما فيها من دلالة على قيام الدولة
الإسلامية ومن تلقينات وحقائق اجتماعية خالدة ومن
معجزة تحققت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده.

عبارة الآيات واضحة. وفيها :


١ -
إيذان بوعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات باستخلافهم في الأرض وجعلهم أصحاب السلطان والبسطة فيها كما استخلف أمثالهم من قبلهم. وبتوطيد دينهم الذي ارتضاه لهم والذي هو دين الله القويم وتمكينه ونشره وبإبدالهم بالأمن والطمأنينة بعد الخوف، على شرط أن يلتزموا الإخلاص في إيمانهم وأعمالهم فيعبدون الله وحده لا يشركون معه أحدا، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويطيعوا الرسول حيث يستحقون بذلك رحمة الله وفضله.
٢ وإنذار الكافرين فالذين يكفرون بعد ذلك هم الفاسقون المتمردون على الله. ولا يظنن أحد أنهم معجزون الله في الدنيا، فهو محيط بهم قادر على البطش بهم. ومأواهم في الآخرة عذاب النار وبئس هي من مصير.
وقد روى المفسرون أن بعض المسلمين- وقد أمروا بالهجرة والجهاد وكانوا لا يفارقون سلاحهم قالوا : أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فقال لهم رسول الله لن تصبروا إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة، ثم أنزل الله الآية الأولى. ١
والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بالآيات السابقة وبخاصة بالآيتين السابقتين مباشرة لها سياقا وموضوعا اتصالا وثيقا وأنها جاءت معقبة عليهما. فقد نددتا بمرضى القلوب، ودعتا إلى الإخلاص في السمع والطاعة والإيمان، وقررتا أن هذا هو لخير الناس ومصلحتهم فجاءت هذه الآيات تعد المخلصين بما تعدهم وتؤكد واجب الطاعة للرسول وما في ذلك من ضمان رحمة الله.
وهذا لا يمنع أن يكون بعض المسلمين تساءلوا في موقف ما مثل ما روته الرواية فاقتضت حكمة التنزيل تضمين الآيات جوابا لهم فيه البشرى المشروطة بالشروط التي احتوتها.
وإذا كان الخطاب في الآيات هو لسامعي القرآن مباشرة من المؤمنين الأولين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما تفيده كلمة ﴿ منكم ﴾ أيضا، فضلا عن ظروف نزولها فإن مداها عام لجميع المؤمنين الذي يعلمون الصالحات كما هو المتبادر. فكل خطاب مثل هذا الخطاب في القرآن هو عام شامل لكل المسلمين في كل ظرف على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن الآية الأولى وهي تعد المؤمنين الصالحين من لدن عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالاستخلاف في الأرض تنطوي على تقرير أن ذلك يكون في نطاق دولة ذات سلطان وبمعنى آخر قد انطوى فيها فكرة قيام الدولة في الإسلام مع التنبيه على أن هذا كان أمرا متحققا برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم، ومما انطوى في الآيات الكثيرة المكية والمدنية التي أمرت بإطاعة الله والرسول وأولى الأمر من المسلمين ورد الأمور إليهم، ووطدت سلطان النبي صلى الله عليه وسلم القضائي والسياسي والجهادي والتشريعي واحتوت فكرة الجهاد والدفاع وضمان حرية الدعوة وحماية المسلمين ودينهم والشورى ومسالمة المسالمين وعقد المواثيق بدون حرب أو بعد حرب وأخذ الجزية وإقامة الحدود وتنظيم شؤون الأسرة وتخصيص الزكاة والفيء وخمس الغنائم لبيت مال المسلمين ؛ ليتولى ولي أمرهم إنفاقها على مصالح المسلمين العامة والطبقات المعزوة الخ مما مر كثير منه ونبهنا عليه في سياق شرحه. ويضاف إليه الأحاديث النبوية الصحيحة والكثيرة جدا في كل شأن من هذه الشؤون التي أوردنا كثيرا منها في المناسبات السابقة.
ويحسن أن نقف عند تعبير ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ لنقول : عن عمل الصالحات الذي هو من شروط تحقيق البشرى والوعد الربانيين يشمل كما قلنا في المناسبات السابقة كل أنواع الخير والبر والواجب تعبديا كان أم غير تعبدي من عبادة الله وحده، وإسلام النفس إليه والإحسان والبر بالمحتاجين والرحمة بالضعفاء والجهاد في سبيل الله ومكافحة الظلم والظالمين والتضحية بالنفس والمال في ذلك والتزام الحق والعدل والإنصاف والصدق والأمانة والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر والرحمة والأعمال العامة التي فيها مصلحة المسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكسب الحلال وقيام المرء بواجباته نحو أسرته وبني ملته وقومه ومعاملة الناس بالحسنى.
وهكذا يبدو هذا الشرط الذي يتحقق به الوعد والبشرى الربانيان رائعا جليل المعنى والمدى. وفي الوقت نفسه ينطوي على حقيقة اجتماعية خالدة وهي أن السلطان والتمكن والفوز في الدنيا مضمون دائما للذين آمنوا وعملوا الصالحات ولدينهم ومنهجهم في كل وقت وزمان.
ولقد تحققت هذه البشرى والوعد المزدوجان أي الاستخلاف في الأرض وتمكين دين الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ؛ لأن شروطهما كانت متحققة في رجال العهدين رضي الله عنهم، فكان ذلك معجزة من معجزات القرآن ؛ حيث تبدل خوف المسلمين أمنا وضعفهم قوة، ومكن الله دينهم فلم يتوف نبيه إلا وهو منتشر في جمع أرجاء الجزيرة العربية، وأخذ يطرق أبواب الأقطار المجاروة، وصار للإسلام دولة نافذة الأمر والسلطان في الشؤون القضائية والتشريعية والجهادية والاقتصادية والتنظيمية تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم ثم تحت راية خلفائه الراشدين الذين ساروا على طريقته فظلت المعجزة مستمرة في عهدهم فانتشر الإسلام في جميع الأقطار المجاورة لجزيرة العرب من الشمال والجنوب وقام السلطان الإسلامي النافذ في تلك الشؤون قويا منصورا واندحرت أمامه قوى الظلم والطغيان. ثم ظل هذا مستمرا ما استمر حكام المسلمين ورجالهم على الطريقة حتى صار السلطان الإسلامي والدين الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى شاملين لمعظم ما كان معروفا من أرجاء المعمورة في مشارق الأرض ومغاربها من حدود الصين والهند شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا مع امتداد عظيم في الشمال والجنوب من هذه الساحة الشاسعة على اختلاف أجناس سكانها وألوانها وأديانهم.
ونحن مؤمنون بأن وعد الله المطلق يظل يتحقق للمؤمنين وللدين الإسلامي في كل زمان ومكان إذا ما تحققت فيهم الشروط التي احتوتها هذه الآيات. وساروا على ما رسمه الله ورسوله في الكتاب والسنة وأوجباه عليهم من خطط وأخلاق اجتماعية وسياسية وشخصية وجهادية وتضامنية وأسرية وتبشيرية وسلوكية وتنظيمية بكل إخلاص وجد.
الإيمان بهذا واجب على كل مسلم ؛ لأن الله لن يخلف ما وعده من النصر والتمكين في هذه الآيات وفي آيات كثيرة أخرى في سور عديدة مكية ومدنية.
ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية التي فيها أخبار بما سيكون من فتح للمسلمين والعرب وقوة وسلطان، منها حديث جاء فيه ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ) ٢، ومنها حديث روي عن عدي ابن حاتم جاء فيه ( قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد عليه : أتعرف الحيرة ؟ قال : لم أعرفها ولكن قد سمعت بها، قال : فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة وتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى ابن هرمز، قال : قلت له كنوز كسرى ابن هرمز ؟ قال نعم كسرى ابن هرمز وليذلن المال حتى لا يقبله أحد. قال عدي ابن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، وقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى ابن هرمز. والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها ) ٣.
ولقد قال المفسرون في تأويل جملة ﴿ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾ إنها تعني من كفر بنعمة الله من المسلمين وانحرف عن طاعة الله ورسوله٤. وهو وجيه متسق مع روح الجملة. وفي الجملة على ضوء هذا التأويل حقيقة اجتماعية خالدة أخرى، وهي أن ما يمكن أن يحل بالمسلمين من ذل وضعف واندحار وخذلان بعد أن يكونوا قد صاروا إلى ما صاروا إليه من ثروة وعزة وسؤدد وانتشار سلطان ودين إنما يكون بسبب انحرافهم عن الطريقة المثلى التي تحققت بها المعجزة القرآنية. وهذا مما كان وظل يتحقق في المسلمين وبلادهم حينما كانوا ينحرفون عن دينهم ويقصرون في ما أوجبه الله عليهم من عمل الصالحات على مداها الواسع الذي شرحناه.
ومع ذلك فهناك حديث يحسن أن يساق في هذا المساق أورده ابن كثير وهو من مرويات مسلم والترمذي وأبي داود ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله ) ٥.
وينطوي في الحديث بشرى عظيمة حتى في حال عدم تحقق الشرط في جمع المسلمين حيث يبشر رسول الله بأن هذا الشرط سيكون متحققا ولو في فئة منهم وسيجعلهم أعزاء ظاهرين على الحق وهو ما كان وما يزال يتحقق في مختلف البقاع والأزمان من لدن العهد النبوي كنتيجة لتحقق ذلك الشرط الرائع في فئة من المسلمين.
تأويل الشيعة لبعض الآيات السابقة والتعليق عليه
ولقد وقف مفسرو٦ الشيعة عند جملة ﴿ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾ فرووا عن أئمتهم : علي ابن الحسين وأبي جعفر وأبي عبد الله أنها في الذين وقفوا من أهل بيت النبي وشيعتهم موقف المناوأة والعداء، ثم رووا عن أئمتهم أن الآية الأولى تضمنت البشارة بظهور المهدي واستخلافه في الأرض، ورووا في صدده حديثا جاء فيه ( لو لم يبق في الدنيا إلا يوم واحد لطول ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمى، يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا ) ٧.
والهوى الشيعي ظاهر في تأويل الآيات وصرفها عن روعة مفهومها الشامل للمسلمين باستخلافهم في الأرض وتمكن دينهم إذا آمنوا وأخلصوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الرسول. وليس فيها أي شيء يبرر ذلك الصرف والتأويل.
١ انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي..
٢ النص المنقول من ابن كثير: وقد وصف الحديث الأول أنه صحيح ثابت. وقد روى البخاري الحديث الثاني بنص آخر جاء فيه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت لم أرها وقد أنبئت بها قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله. قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد. ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرىـ قلت كسرى ابن هرمز؟ قال: نعم. ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة فلا يجد من يقبله. وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فيقول له: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول بلى، فيقول ألم أعطك مالا وولدا وأفضل عليك؟ فيقول بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى جهنم. فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة. قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم التاج ج ٣ ص ٢٥٦ وهناك أحاديث عديدة من هذا الباب منها حديث رواه مسلم عن نافع بن عقبة جاء فيه أنه قد سمع رسول الله يقول: تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، وتغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله... التاج ج ٣ ص ٢٥٦ و ٢٥٧..
٣ المصدر نفسه.
٤ انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.
٥ التاج ج ٥ ص ٣١٣.
٦ انظر تفسير الطبرسي. وننبه على أن هذا المفسر أورد في الوقت نفسه تأويلات للآية متسقة مع تأويلات المفسرين السنيين ومع روح الآيات وفحواها..
٧ روى هذا الحديث بخلاف يسير أبو داود والترمذي (التاج ج ٥ ص ٣١١ و ٣١٢ ونحن نقف منه موقف التحفظ، ونرجح أن للهوى الشيعي أثرا ما فيه، ومع ذلك فإنه لا يساعد في أي حال على تأويل بما أولها به أئمة الشيعة أو مفسروهم.

وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة : حين تخلعون ثيابكم المعتادة للتخفف والتبذل وقت الظهر.
ثلاث عورات لكم : ثلاث أوقات هي لكم عورات. والعورة في أصلها الخلل والعيب في الشيء وفي المكان الذي يخشى دخول العدو منه. وهذا المعنى في جملة ﴿ إن بيوتنا عورة ﴾ في آية سورة الأحزاب ( ١٣ ) وأكثر ما تطلق على الشيء لا ينبغي أن تقع عليه الأبصار من جسم الإنسان، وهي هنا بهذا المعنى.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٥٨ ) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٥٩ ) ﴾.
في الآيتين :
أمر للمسلمين بأن لا يدخل عليهم الأولاد الذين هم دون سن الاحتلام ولا عبيدهم في ثلاثة أوقات إلا بعد الاستئذان والإذن. وهي وقت ما قبل الفجر، ووقت الظهر الذي يتخفف الناس فيه من ثيابهم وبعد صلاة العشاء وإباحة دخولهم عليهم بدون استئذان في غيرها.
وأمر آخر بعدم دخول الأولاد عليهم حينما يبلغون الحلم بدون استئذان في غير هذه الأوقات كما هو شأن سائر الرجال.
وتعقيب على هذا التأديب : فالله سبحانه حكيم عليم يأمر بما فيه الحكمة والصواب، ويعلم مقتضيات الأمور ويبين آياته للناس متسقة مع ذلك.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم... ﴾الخ
والتي بعدها وما فيهما من آداب وأحكام
والآيتان فصل جديد لا صلة له بالآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكونا نزلتا بعدها فوضعتا في ترتيبهما.
وقد روى المفسرون أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دخول غلام أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر ابن الخطاب وقت الظهيرة فرأى عمر في حالة كره رؤيته فيها رووا أنها نزلت في مناسبة دخول غلام لأسماء بنت مرثد عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله فقال : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها١.
والروايات محتملة الصحة ؛ لأن التشريع والتأديب القرآني كان ينزل في كثير من الظروف جوابا على الأسئلة والاستفتاءات والمراجعات على ما مر في مناسبات كثيرة، وعلى كل حال فالآيتان فصل تشريعي واحد احتوى ما شكى للنبي صلى الله عليه وسلم منه واحتوى تتمة له.
ولقد أباحت الآية ( ٣١ ) من هذه السورة للمرأة إبداء زينتها ومفاتنها للأطفال الذين لم يبلغوا سن الشهوة وللعبيد. فالظاهر أن هذه الإباحة استتبعت السماح باستمرار دخول هؤلاء على النساء في أي وقت وبدون استئذان فكانت المراجعة، فنزلت الآيات للاستدراك. وجاءت عبارتها مطلقة ليشمل التأديب الذي احتوته الرجال والنساء معا. وهو تأديب رفيع في التزام واجب الحشمة والحياء حتى أمام الأطفال والخدم.
والمتبادر من روح الآيات وفحواها أن إناطة الدخول في الأوقات الثلاثة بالاستئذان بالنسبة للمماليك والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم شاملة لأطفال المستأذن عليهم ومماليكهم وأطفال ومماليك غيرهم أيضا. وإن كلمة ﴿ منكم ﴾ الواردة بعد جملة ﴿ لم يبلغوا الحلم ﴾ في الآية الأولى وبعد كلمة ﴿ الأطفال ﴾ في الآية الثانية هما أسلوبيتان ؛ لأنه لا يصح أن تؤخذ الكلمة على أن المقصود هم أطفال ومماليك المستأذن عليهم فقط. فإذا كان هؤلاء يطلب منه الاستئذان قبل الدخول فيكون هذا بالنسبة للغرباء أولى.
وجملة ﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستئذنوا كما استئذن الذين من قبلهم ﴾ متساوقة مع الآية ( ٢٧ ) من السورة التي توجب الاستئناس والاستئذان على كل من يريد أن يدخل بيتا غير بيته والتي شرحناها قبل. وجملة ﴿ الذين من قبلهم ﴾ تعني الذين بلغوا الحلم قبلهم، وهم الذين أوجبت الآية ( ٢٧ ) عليهم الاستئذان سواء أكانوا رجالا أم نساء ومحارم وغير محارم على ما شرحناه قبل أيضا.
وقد يتبادر لأول وهلة أن جملة ﴿ والذين لم يبلغوا الحلم منكم ﴾ وجملة ﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم ﴾ تعنيان ذكور الأطفال غير أن التمعن في الموضوع يظهر أنها تشملان ذكور الأطفال وإناثهم فتعبير بلوغ الحلم يصح أن يستعمل لكلا الجنسين وإيجاب الاستئذان على إناث الأطفال في العورات الثلاث أمر بديهي بل أولى، وإيجاب الاستئذان على البالغات منهن في غير العورات الثلاث إذا أردن الدخول لغير بيوتهن داخل في متناول الآية ( ٢٧ ) التي أوجبت الاستئذان والاستئناس والإذن على من يريد الدخول على بيت غير بيته.
والمتبادر أن جملة ﴿ الذين ملكت أيمانكم ﴾ تعني المماليك فقط وليس الخدم إطلاقا. والمرأة الحرة محرمة على مملوكها ؛ ولذلك سمح لها في الآية ( ٣١ ) بإبداء زينتها أمامه على ما شرحناه قبل. ولقد سمح في هذه الآية أيضا للمرأة بإبداء زينتها أمام خدمها من الرجال إذا كانوا غير ذوي إربة فيكون شأنهم شأن المماليك أي : يجب عليهم الاستئذان في العورات الثلاث. أما الخدم والتابعون ذوو الإربة فليس للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم في الأوقات العادية أيضا. ومن باب أولى في العورات الثلاث. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن مماليك الغير وخدمهم هم أجانب وغير محارم التي ليسوا هم لها، وإن شأنهم في كل موقف شأن الأجانب وغير المحارم ولو كان خدم الغير غير ذوي إربة. وإذا كنا خصصنا المرأة بالذكر فلذلك بسبب حالتها الجنسية. والآيتان اللتان نحن في صددهما واللتان أوجبتا الاستئذان قبل الدخول على المماليك والأطفال في العورات الثلاث جاءتا بصيغة مطلقة بحيث يتناول حكمهما الرجال والنساء معا على ما ذكرناه قبل.
١ انظر تفسير الآيات في الزمخشري والبغوي والخازن.
جملة ﴿ فليستئذنوا كما استئذن الذين من قبلهم ﴾ هي : هنا بمعنى كما استأذن الذين بلغوا الحلم قبلهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٨:وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة : حين تخلعون ثيابكم المعتادة للتخفف والتبذل وقت الظهر.
ثلاث عورات لكم : ثلاث أوقات هي لكم عورات. والعورة في أصلها الخلل والعيب في الشيء وفي المكان الذي يخشى دخول العدو منه. وهذا المعنى في جملة ﴿ إن بيوتنا عورة ﴾ في آية سورة الأحزاب ( ١٣ ) وأكثر ما تطلق على الشيء لا ينبغي أن تقع عليه الأبصار من جسم الإنسان، وهي هنا بهذا المعنى.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٥٨ ) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٥٩ ) ﴾.

في الآيتين :

أمر للمسلمين بأن لا يدخل عليهم الأولاد الذين هم دون سن الاحتلام ولا عبيدهم في ثلاثة أوقات إلا بعد الاستئذان والإذن. وهي وقت ما قبل الفجر، ووقت الظهر الذي يتخفف الناس فيه من ثيابهم وبعد صلاة العشاء وإباحة دخولهم عليهم بدون استئذان في غيرها.
وأمر آخر بعدم دخول الأولاد عليهم حينما يبلغون الحلم بدون استئذان في غير هذه الأوقات كما هو شأن سائر الرجال.
وتعقيب على هذا التأديب : فالله سبحانه حكيم عليم يأمر بما فيه الحكمة والصواب، ويعلم مقتضيات الأمور ويبين آياته للناس متسقة مع ذلك.
تعليق على الآية
﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم... ﴾الخ
والتي بعدها وما فيهما من آداب وأحكام
والآيتان فصل جديد لا صلة له بالآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكونا نزلتا بعدها فوضعتا في ترتيبهما.
وقد روى المفسرون أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دخول غلام أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر ابن الخطاب وقت الظهيرة فرأى عمر في حالة كره رؤيته فيها رووا أنها نزلت في مناسبة دخول غلام لأسماء بنت مرثد عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله فقال : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها١.
والروايات محتملة الصحة ؛ لأن التشريع والتأديب القرآني كان ينزل في كثير من الظروف جوابا على الأسئلة والاستفتاءات والمراجعات على ما مر في مناسبات كثيرة، وعلى كل حال فالآيتان فصل تشريعي واحد احتوى ما شكى للنبي صلى الله عليه وسلم منه واحتوى تتمة له.
ولقد أباحت الآية ( ٣١ ) من هذه السورة للمرأة إبداء زينتها ومفاتنها للأطفال الذين لم يبلغوا سن الشهوة وللعبيد. فالظاهر أن هذه الإباحة استتبعت السماح باستمرار دخول هؤلاء على النساء في أي وقت وبدون استئذان فكانت المراجعة، فنزلت الآيات للاستدراك. وجاءت عبارتها مطلقة ليشمل التأديب الذي احتوته الرجال والنساء معا. وهو تأديب رفيع في التزام واجب الحشمة والحياء حتى أمام الأطفال والخدم.
والمتبادر من روح الآيات وفحواها أن إناطة الدخول في الأوقات الثلاثة بالاستئذان بالنسبة للمماليك والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم شاملة لأطفال المستأذن عليهم ومماليكهم وأطفال ومماليك غيرهم أيضا. وإن كلمة ﴿ منكم ﴾ الواردة بعد جملة ﴿ لم يبلغوا الحلم ﴾ في الآية الأولى وبعد كلمة ﴿ الأطفال ﴾ في الآية الثانية هما أسلوبيتان ؛ لأنه لا يصح أن تؤخذ الكلمة على أن المقصود هم أطفال ومماليك المستأذن عليهم فقط. فإذا كان هؤلاء يطلب منه الاستئذان قبل الدخول فيكون هذا بالنسبة للغرباء أولى.
وجملة ﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستئذنوا كما استئذن الذين من قبلهم ﴾ متساوقة مع الآية ( ٢٧ ) من السورة التي توجب الاستئناس والاستئذان على كل من يريد أن يدخل بيتا غير بيته والتي شرحناها قبل. وجملة ﴿ الذين من قبلهم ﴾ تعني الذين بلغوا الحلم قبلهم، وهم الذين أوجبت الآية ( ٢٧ ) عليهم الاستئذان سواء أكانوا رجالا أم نساء ومحارم وغير محارم على ما شرحناه قبل أيضا.
وقد يتبادر لأول وهلة أن جملة ﴿ والذين لم يبلغوا الحلم منكم ﴾ وجملة ﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم ﴾ تعنيان ذكور الأطفال غير أن التمعن في الموضوع يظهر أنها تشملان ذكور الأطفال وإناثهم فتعبير بلوغ الحلم يصح أن يستعمل لكلا الجنسين وإيجاب الاستئذان على إناث الأطفال في العورات الثلاث أمر بديهي بل أولى، وإيجاب الاستئذان على البالغات منهن في غير العورات الثلاث إذا أردن الدخول لغير بيوتهن داخل في متناول الآية ( ٢٧ ) التي أوجبت الاستئذان والاستئناس والإذن على من يريد الدخول على بيت غير بيته.
والمتبادر أن جملة ﴿ الذين ملكت أيمانكم ﴾ تعني المماليك فقط وليس الخدم إطلاقا. والمرأة الحرة محرمة على مملوكها ؛ ولذلك سمح لها في الآية ( ٣١ ) بإبداء زينتها أمامه على ما شرحناه قبل. ولقد سمح في هذه الآية أيضا للمرأة بإبداء زينتها أمام خدمها من الرجال إذا كانوا غير ذوي إربة فيكون شأنهم شأن المماليك أي : يجب عليهم الاستئذان في العورات الثلاث. أما الخدم والتابعون ذوو الإربة فليس للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم في الأوقات العادية أيضا. ومن باب أولى في العورات الثلاث. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن مماليك الغير وخدمهم هم أجانب وغير محارم التي ليسوا هم لها، وإن شأنهم في كل موقف شأن الأجانب وغير المحارم ولو كان خدم الغير غير ذوي إربة. وإذا كنا خصصنا المرأة بالذكر فلذلك بسبب حالتها الجنسية. والآيتان اللتان نحن في صددهما واللتان أوجبتا الاستئذان قبل الدخول على المماليك والأطفال في العورات الثلاث جاءتا بصيغة مطلقة بحيث يتناول حكمهما الرجال والنساء معا على ما ذكرناه قبل.
١ انظر تفسير الآيات في الزمخشري والبغوي والخازن.

﴿ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٦٠ ) ﴾.
أن يضعن : أن يخلعن وهنا بمعنى أن يطرحن الزائد من ثيابهن.
التبرج : هو البروز والظهور، والجملة في الآية بمعنى النهي عن تعمد إظهار الزينة والمفاتن.
تعليق على الآية
﴿ والقواعد من النساء التي لا يرجون نكاحا... ﴾الخ.
وما فيها من أحكام وآداب..
في هذه الآية تجويز للنساء اللاتي قعدن في بيوتهن، ولم يكن لهن رجاء في زواج ولا يرغب في نكاحهم بطرح ثيابهن الزائدة وعدم التشدد في التستر على شرط أن لا يكون ذلك بقصد إبراز الزينة وأماكنها. وتقرير بأن احتشامهن في اللباس على كل حال هو خير لهن وأفضل. والله عليم بكل شيء، سميع لكل ما يقال. ولم نطلع على رواية خاصة لنزول الآية. والمتبادر أنها متصلة بالآيتين السابقتين، وبسبيل الاستدراك وبيان ما بقي غير واضح من الآداب التي أوجبتها الآية ( ٣١ ) فهذه الآية أمرت المرأة بتغطية أجزاء البدن التي ليس من العادة والطبيعة كشفها، والتي تظهر من شقوق الثوب، وعدم إظهار الزينة وأماكنها لغير المحارم فجاءت هذه الآية تستدرك بشأن النساء اللاتي لا يخاف من فتنتهن استدراك إجازة وتيسير مع التنبيه على وجوب الاحتشام وعدم التظاهر بالزينة على كل حال. والمقطع الأخير الذي انتهت به الآية يلهم أن هذا التنبيه لتفادي ما يمكن أن يجلبه التخفف من الثياب أكثر من المعقول على هؤلاء أيضا من النقد والتثريب.
وجمهور المفسرين على أن هذا الفريق من النساء هن اللاتي تقدمن في السن وتجاوزن حد الشهوة الجنسية. ولقد روى البغوي عن ربيعة الرأي أحد قدماء علماء الحديث : أنهن العجز اللاتي إذا رآهن الرجال استقذروهن، وإن التي فيها بقية من جمال وهي محل شهوة فلا تدخل في مدى هذه الآية. وليس بين القولين تعارض كما هو ظاهر، والمعنى مشترك هو أن لا يكن محل شهوة سنا وشكلا وبنية. وقد يصح أن يضاف إلى هؤلاء فريق المشوهات والدميمات أو المبتليات بعاهات وأمراض تجعلهن غير مرغوبات فيهن جنسيا، ولو لم يكن متقدمات في السن. وعلى كل حال فالآية متسقة في روحها ونصها مع الآيات الأخرى، ومع ما استهدفته من إيجاب الحشمة على المرأة وعدم التورط في أسبابا الفتنة والتعرض لأذى الألسنة. وهي من جهة أخرى مؤيدة لما استلهمناه من الآية ( ٣١ ) من أنها ليست بسبيل إيجاب التنقيب على المرأة وعدم بروزها وسفورها فالنساء فريقان : فريق مثار فتنة فهو مأمور بستر مفاتنه وزينته التي ليس من العادة والطبيعة ظهورهما، وفريق ليس كذلك فهو غير مأمور بالتشدد ولكنه مدعو على كل حال إلى الاحتشام والاعتدال.
﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ( ٦١ ) ﴾.
أو ما ملكتم مفاتحه : ما يكون في تصرفكم وملككم وجمهور المفسرين على أن ذلك يعني بيوت المماليك ومساكنهم، وقيل أيضا : إنهم وكلاء أصحاب المزارع والضياع والبساتين في مزارعهم وضياعهم وبساتينهم.
جميعا : مجتمعين
أشتاتا : متفرقين.
على أنفسكم : على بعضكم.
هذه الآية ترفع الحرج والاستشعار بالضيق عن الأعمى والأعرج والمريض، وعن المرء في أن يأكل من بيته أو بيت أبيه أو بيت أمه أو أخيه أو أخته أو عمه أو عمته أو خاله أو خالته أو صديقه أو مملوكه أو بيوت من هم تحت تصرفه من خدم وعمال في بساتينه وضياعه ومعامله. وترفع الحرج عن الناس في أن يأكلوا كما يريدون متفرقين أو مجتمعين، وتحثهم على تبادل السلام والدعاء لبعضهم بالحياة الطيبة المباركة، وتنبه المخاطبين الذين هم المسلمون بأن الله يبين آياته لهم، لعلهم يعقلون ما فيها من الحكمة والصواب.
تعليق على الآية
﴿ ليس على الأعمى حرج... ﴾الخ.
وما فيها من أحكام وآداب.
روى البغوي عن ابن عباس قال ( كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته، فيدعوه إلى طعامه فيقول : والله إني لأجنح أي أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير فنزلت الآية ) كما روي عن ابن عباس أيضا أنها نزلت في الحارث ابن عمر خرج غازيا مع رسول الله، وخلف مالك ابن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال : تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك. فنزلت الآية بالسماح. وروى المفسر نفسه عن قتادة ومجاهد أنها نزلت في بني ليث ابن بكر وهم حي من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه، فربما قعد والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح، وربما كانت معه الإبل الحفل ( أي المملوءة باللبن ) فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فإذا أيس ولم يجد أكل.
وإلى هذه الروايات روى المفسرون عن ابن عباس وغيره أقوالا في مدى الفترة الأولى من الآية نوع خاص. منها أن الأصحاء كانوا يتعززون أو يتقززون من الأكل مع المرضى والعميان والعرج. ومنها أن هؤلاء كانوا يتحرجون من الأكل مع الأصحاء تفاديا من التعزز والتقزز. ومنها أن الأصحاء حينما كانوا يخرجون إلى الجهاد يتركون مفاتيح بيوتهم مع هؤلاء الذي يتخلفون عادة عن الجهاد ويبيحون لهم الأكل مما في البيوت ولكنهم كانوا يتحرجون من ذلك فأنزل الله الآية يرفع الحرج.
والروايات لا تتسق تماما مع مفهوم ومدى الآية كلها، وإن كان بعض الأقوال تتسق مع بعض فقراتها.
والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وهي بسبيل تعليم آداب السلوك مثلها. ومن المحتمل أن يكون بعض المسلمين وقعوا في حرج ما بشؤون متصلة بما احتوته الآية فاستفتوا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث السابقة التي قبلها ؛ لأنها من موضوعها كما أن من المحتمل أن تكون نزلت عقبها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي. أو تكون نزلت في ظرف آخر فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي.
ولقد انطوى في الآية مبدأ قرآني جليل، وهو رفع الحرج عن المسلمين في هذه الأمور وأمثالها، وترك التصرف فيها إليهم وقعا لما تمليه الظروف وتطيب به النفوس بدون تقيد بأشكال وصور معينة مع التنبيه على حسن المعاشرة وتبادل السلام والتمنيات الطيبة ؛ لما في ذلك من توطيد المودة والألفة بينهم، ومع التنبيه كذلك على الرفق بالضعفاء والفقراء وأصحاب العاهات والأعذار وتطييب نفوسهم وتطييب النفوس إزاءهم، وكل هذا متسق مع التشريع القرآني العام.
والخطاب في الآية مطلق، وليس فيه ما يفيد تخصيص الرجال به بحيث يسوغ قول : إن ما احتوته من أدب وتأديب وتنبيه موجه إلى الجنسين معا.
واستتباعا لذلك يسوغ القول : إنه ليس من حرج في أن يتشارك الرجال والنساء معا في الأكل من مائدة واحدة سواء أكانوا أقارب ومحارم وتابعين أو أصدقاء أباعد إذا ما لزمت المرأة الاحتشام في اللباس على النحو الذي شرحناه قبل.
وهناك أحاديث نبوية فيها توضيح وتساوق مع الآية. من ذلك حديث رواه أبو داود جاء فيه ( قال جماعة : يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع قال : فلعلكم تفترقون. قالوا : نعم. قال : فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه١ وحديث رواه ابن ماجه عن عمر ابن الخطاب ( إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن البركة في الجماعة ) ٢ حيث ينطوي في الحديثين تشجيع على التآلف والتجمع في مناسبات الطعام لما في ذلك من توثيق المودة والمحبة، وأول ما ينصرف هذا التشجيع النبوي إلى تجمع الأسرة الواحدة على الطعام. وهناك أحاديث نبوية تفيد أن النساء كن يحضرن الطعام مع الرجال. منها حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن حذيفة قال ( كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاما لم نضع يدنا حتى يبدأ رسول الله، وإنا حضرنا معه مرة طعاما فجاءت جارية كأنها تدفع لتضع يدها في الطعام، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنه يدفع فأخذ بيده، فقال : إن الشيطان يستحل الطعام إلا بذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده : إن يده في يدي مع يدها ) وفي الحديث ما يفيد أن الإناث كن يحضرن الطعام مع الرجال، مع إفادته وجوب تسمية الله قبل الأكل. وقد أخذ النبي بيد الجارية والأعرابي ؛ لأنهما لم يسميا أي لم يذكرا اسم الله قبل الأكل.
وروى الشيخان عن أبي سعيد الساعدي ( إنه دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه، وكانت امرأته يومئذ خادمتهم وهي العروس، فلما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم سقته نقيع تمر كانت نقعته من الليل ) والحديث يفيد أن العروس كانت شاهدة الوليمة وخادمتها.
وحديث رواه مسلم والنسائي عن أنس جاء فيه ( أن جارا فارسيا للنبي صلى الله عليه وسلم صنع طعاما ولم يدع أم المؤمنين عائشة معه فلم يلب، ثم دعاه مرة ثانية فسأله أن يدعوها معه فدعاها فذهبا إلى بيت الجار وأكلا طعامهما معه ).
وجملة ﴿ فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة ﴾ تنطوي على تأديب رفيع حيث توجب على الداخلين على غيرهم أن يبادروهم بالتحية والسلام سواء أكانوا أهلهم أم غرباء عنهم.
هذا، وقد يكون ذكر بيوت الآباء والأمهات والأخوات والإخوان والأعمام والعمات والأخوال والخالات متصلا بما كان عليه الحال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كانوا يتفرقون في المساكن، غير أنه لا يخلو من تلقين مستمر المدى بهذا أيضا ؛ حيث يكون الولد المتزوج في بيت ووالده في بيت وإن كانت أمه أرملة في بيت وإن كانت أخواته عوانس أو أرامل في بيت... الخ وحيث يكون في ذلك الراحة والهدوء والبعد عن أسباب الخلاف والقيل والقال التي كثيرا ما تؤدي إلى تصدع بنيان الأسرة وتعكير صفوها. والله تعالى أعلم.
تعليق على مدى كلمة ( صديقكم } في الآية.
فرقت الآية فذكرت الصديق لحده، وذوي الأرحام والمماليك لحده. والمتبادر أن هذا طبيعي، فإن علاقة ذوي الأرحام ببعضهم وعلاقة مالكي المماليك بمماليكهم أشد من علاقة صداقة، فهي علاقة اقتصادية واجتماعية وإنسانية لا يمكن أن يستغنى عنها في حين أن كثيرا من الناس تكون علاقتهم ببعضهم عادية أو عابرة لا ترقى إلى درجة لاحمة.
والمتبادر أن كلمة ﴿ صديقكم ﴾ تشمل جميع الناس، بل ولا أرى مانعا من القول إنها تشمل غير المسلمين أيضا. فكلمة صديق ) هي مضادة، أو ضد كلمة ( عدو ) وكلمة عدو تطلق في الإسلام على من يعتدى على الإسلام والمسلمين بأسلوب ما، والمتبادر الواقع أن جمهورا عظيما من غير المسلمين ممن يعيشون في بلاد الإسلام أو بعيدا عنها لا يعتدون على الإسلام والمسلمين واقعيا، ومنهم من يكون مسالما وموادا. وفي القرآن آيات تشير إلى ذلك، وفيها توقع بانقلاب العداء بين المسلمين وغيرهم إلى مودة، وفيها أمر للمسلمين بالبر والإقساط والتعايش مع المسلمين وغيرهم الكافين يدهم ولسانهم عن المسلمين انظر آية سورة النساء ( ٨٩ ) وآيتي سورة الممتحنة ( ٦ ٧ }.
وفي صدد الصداقات بين المسلمين فيما بينهم نقول : إن القرآن وصف المسلمين بأنهم إخوة، وهذا الوصف قد يكون معنويا، ولكنه يفيد أن اللحمة بين المسلمين من غير ذوي الأرحام قوية إلى درجة تصل إلى شيء من قوة الأرحام والمسلمون يتشاركون في عقيدة الحلال والحرام في كل أنواع الطعام. ووصف الأخوة يجعل المسلمين أصدقاء بالتبعية، ولا يفرض أن يكون عداء بينهم بالتبعية يقال إن كل مسلم يستطيع أن يعتبر أن كل مسلم صديقا له أيضا ويتناول الطعام في بيته مجتمعا أو منفردا، وأما غير المسلم فقد قلنا إن احتمال الصداقات بين المسلمين وغير المسلمين واردة وقائمة ومحرض عليها. فيقال بالتبعية : إن للأصدقاء من المسلمين وغير المسلمين يمكن أن يتناولوا طعاما في بيوت بعضهم أيضا.
وهنا محل للاستدراك فقد حرم الله ورسوله على المسلمين محرمات معينة في المأكولات والمشروبات، وأباح لهم ما عداها. فيقال : إنه لا حرج على المسلم أن يأكل في بيت غير المسلم إذا قدم له هذا مأكولات غير محرمة عليه في القرآن الكريم والأحاديث النبوية. وهناك مأكولات لا تحصى مباحة مثل الحبوبات على أصنافها والخضروات والفواكه ومنتجات الحيوان كاللبن والحليب والزبدة والسمن وحيوانات الأنهار والبحار فيستطيع المسلم أن يأكل ما يقدمه غير المسلم من ذلك وما يطبخه بدون لحم مشتبه في طريقة ذبحه التي حرمتها الآيات والأحاديث، وإذا قدم غير المسلم لحما مذبوحا بيد المسلمين فليس عليه مانع من أكله إذا تيقن من ذلك، وننبه على أن في سورة المائدة هذه الآية ﴿ اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم آتيتموهن أجورهن ﴾
ويتبادر لنا والله اعلم هذه الآية ليست على سبيل الحصر بدليل أو قرينة سبحانه وتعالى حرم النساء المشركات على المؤمنين بنص قرآني. ولم يحرم طعام المشركين على المسلمين بنص قرآني، وإن كان لم يحله بحيث يمكن أن يقال : إن غير المسلمين الكتابيين إذا قدموا لأصدقائهم المسلمين مأكولات مباحة وغير محرمة عليهم في القرآن والأحاديث ساغ لهم أن يأكلوها أما طعام المسلمين لل
١ التاج ج ٣ ص ١١٨.
٢ أورد هذا الحديث ابن كثير في تفسير الآية، وهناك أحاديث أخرى من بابها أوردها آخرون في مجمع الزوائد.
أمر جامع : أمر ذو خطورة يستدعي اجتماع الناس وشهودهم إياه.
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٢ ) لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٦٣ ) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٦٤ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ﴾ الخ.
والآيتين التاليتين لها وما فيها من آداب وتلقين وصور.
عبارة الآيات واضحة. وفيها تأديب للمؤمنين إزاء مجالس الرسول ودعائه.
وتنويه بالذين يتصرفون في ذلك بما يليق بمركزه ومقامه فلا يتركون مجالسه إلا لعذر وبعد الاستئذان منه وإذنه، فهم المؤمنون حقا بالله ورسوله. وتنديد بالذين يتصرفون في ذلك تصرفا غير لائق فيتسللون من مجالسه وإنذار دنيوي وأخروي لهم.
روى البغوي أن الآية الأولى نزلت في ظروف حفر الخندق ووقعة الأحزاب ؛ حيث كان المنافقون ينسحبون تسللا وخفية من المعسكر، ولا ينفذون أوامر النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الطبري أنها نزلت في المنافقين الذين كان يثقل عليهم حديث النبي يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحاب رسول ويخرجون من المسجد متسللين بدون إذن من النبي، في حين كان المخلصون يستأذنون بالإشارة إذا كان لهم حاجة في الخروج فيأذن لهم بالإشارة، غير أن أكثر المفسرين قالوا : إن الآيات عامة في صدد مجالس النبي واجتماعاته يوم الجمعة معا. ويبدو لنا هذا القول أوجه لأن سورة الأحزاب قد احتوت ما اقتضت حكمة التنزيل ذكره من مشاهد وقعة الأحزاب والخندق ومواقف المنافقين، ولأن فحوى الآيات يلهم أنها أعم من اجتماعات يوم الجمعة وخطبتها.
وقد روى المفسرون١ عن ابن عباس ومجاهد ﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ﴾ في صدد الأمر بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ التوقير والتعظيم لا بالاسم والكنية فقط كما يخاطبون بعضهم كما رووا أنها في صدد النهي عن عمل ما يستوجب دعاء النبي عليهم ودعاؤه موجب مستجاب.
وروى بعضهم٢ أن الجملة في صدد التنبيه على ما يجب عليهم من تلقي دعوة النبي بالاهتمام، حين ما يدعوهم إلى اجتماع ؛ لأن دعوته ليست من قبل دعوة بعضهم لبعض.
وقد تكون رواية الزمخشري الأخيرة هي الأكثر اتساقا مع موضوع الآية الأولى، ومع الفقرة التي جاءت بعد الجملة التي نحن في صددها. وبهذا فقط يظهر الانسجام بين أجزاء الآيات.
والذي يتبادر لنا أن بعض المسلمين أو مرضى القلوب تلكأوا عن تلبية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتماع عام دعا إليه، وأن بعضهم تسللوا من مثل هذا الاجتماع فاقتضت الحكمة الإيحاء بالآيات بأسلوبها المطلق ؛ ليكون من تأديب عام للمؤمنين في صدد ذلك على النحو الذي شرحناه.
والآيات تبدو فصلا جديدا، ولكن ما احتوته من تأديب للمسلمين وتعليم لآداب السلوك في مجالس النبي قد يجعلها متصلة موضوعا بالفصول السابقة، فإذا لم تكن قد نزلت بعدها مباشرة فيكون وضعها في ترتيبها بسبب التناسب الموضوعي والإنذار المنطوي في جملة ﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ﴾ قوي رهيب، وقد جاء مطلقا هو الآخر ليكون مستمر المدى والشمول للذين يخالفون أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونواهيه وسنته الثابتة في كل وقت. وفي الجملة تأييد زجري للآيات العديدة التي أكدت وجوب طاعة رسول الله والوقوف عند ما يأمر وينهى عنه، وقررت أن اتباعه من وسائل رضاء الله ومحبته على ما جاء في آيات الأنفال ( ١ و ٢٠ و ٤٦ ) وآل عمران ( ٣١ و ٣٢ ) والنساء ( ٨٠ ) والحشر ( ٧ ) وقد علقنا على الموضوع ونبهنا على دواعيه المباشرة في العهد المدني. وقد أوردنا بعض الأحاديث في ذلك في سياق تفسير سورة الحشر أيضا فنكتفي بهذا التنبيه.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الجملة التي نحن في صددها حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا، فكلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها. قال : فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار فتغلبوني وتتقحمون فيها ) ٣.
والآيات مع خصوصيتها الزمنية والموضوعية تنطوي على تلقين تأديبي مستمر المدى بوجوب احترام المجالس العامة والاجتماعات العامة التي قد يعقدها، أو يدعو إليها الرؤساء والأمراء وذوو الشأن في المسلمين وعدم الاستخفاف بها وعدم تركها بدون استئذان، وبدون معذرة صحيحة بالإضافة إلى ما فيها من توكيد التزام سنة رسول الله وعدم مخالفتها على ما ذكرناه قبل.
يتسللون : يخرجون خفية ومسارقة، والسلة : هي السرقة.
لواذا : متسترين ببعض حتى لا يروا وهم يخرجون. ولاذ به بمعنى : استتر به، أو لجأ إليه أو انتحى نحوه.
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٢ ) لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٦٣ ) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٦٤ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ﴾ الخ.
والآيتين التاليتين لها وما فيها من آداب وتلقين وصور.
عبارة الآيات واضحة. وفيها تأديب للمؤمنين إزاء مجالس الرسول ودعائه.
وتنويه بالذين يتصرفون في ذلك بما يليق بمركزه ومقامه فلا يتركون مجالسه إلا لعذر وبعد الاستئذان منه وإذنه، فهم المؤمنون حقا بالله ورسوله. وتنديد بالذين يتصرفون في ذلك تصرفا غير لائق فيتسللون من مجالسه وإنذار دنيوي وأخروي لهم.
روى البغوي أن الآية الأولى نزلت في ظروف حفر الخندق ووقعة الأحزاب ؛ حيث كان المنافقون ينسحبون تسللا وخفية من المعسكر، ولا ينفذون أوامر النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الطبري أنها نزلت في المنافقين الذين كان يثقل عليهم حديث النبي يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحاب رسول ويخرجون من المسجد متسللين بدون إذن من النبي، في حين كان المخلصون يستأذنون بالإشارة إذا كان لهم حاجة في الخروج فيأذن لهم بالإشارة، غير أن أكثر المفسرين قالوا : إن الآيات عامة في صدد مجالس النبي واجتماعاته يوم الجمعة معا. ويبدو لنا هذا القول أوجه لأن سورة الأحزاب قد احتوت ما اقتضت حكمة التنزيل ذكره من مشاهد وقعة الأحزاب والخندق ومواقف المنافقين، ولأن فحوى الآيات يلهم أنها أعم من اجتماعات يوم الجمعة وخطبتها.
وقد روى المفسرون١ عن ابن عباس ومجاهد ﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ﴾ في صدد الأمر بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ التوقير والتعظيم لا بالاسم والكنية فقط كما يخاطبون بعضهم كما رووا أنها في صدد النهي عن عمل ما يستوجب دعاء النبي عليهم ودعاؤه موجب مستجاب.
وروى بعضهم٢ أن الجملة في صدد التنبيه على ما يجب عليهم من تلقي دعوة النبي بالاهتمام، حين ما يدعوهم إلى اجتماع ؛ لأن دعوته ليست من قبل دعوة بعضهم لبعض.
وقد تكون رواية الزمخشري الأخيرة هي الأكثر اتساقا مع موضوع الآية الأولى، ومع الفقرة التي جاءت بعد الجملة التي نحن في صددها. وبهذا فقط يظهر الانسجام بين أجزاء الآيات.
والذي يتبادر لنا أن بعض المسلمين أو مرضى القلوب تلكأوا عن تلبية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتماع عام دعا إليه، وأن بعضهم تسللوا من مثل هذا الاجتماع فاقتضت الحكمة الإيحاء بالآيات بأسلوبها المطلق ؛ ليكون من تأديب عام للمؤمنين في صدد ذلك على النحو الذي شرحناه.
والآيات تبدو فصلا جديدا، ولكن ما احتوته من تأديب للمسلمين وتعليم لآداب السلوك في مجالس النبي قد يجعلها متصلة موضوعا بالفصول السابقة، فإذا لم تكن قد نزلت بعدها مباشرة فيكون وضعها في ترتيبها بسبب التناسب الموضوعي والإنذار المنطوي في جملة ﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ﴾ قوي رهيب، وقد جاء مطلقا هو الآخر ليكون مستمر المدى والشمول للذين يخالفون أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونواهيه وسنته الثابتة في كل وقت. وفي الجملة تأييد زجري للآيات العديدة التي أكدت وجوب طاعة رسول الله والوقوف عند ما يأمر وينهى عنه، وقررت أن اتباعه من وسائل رضاء الله ومحبته على ما جاء في آيات الأنفال ( ١ و ٢٠ و ٤٦ ) وآل عمران ( ٣١ و ٣٢ ) والنساء ( ٨٠ ) والحشر ( ٧ ) وقد علقنا على الموضوع ونبهنا على دواعيه المباشرة في العهد المدني. وقد أوردنا بعض الأحاديث في ذلك في سياق تفسير سورة الحشر أيضا فنكتفي بهذا التنبيه.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الجملة التي نحن في صددها حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا، فكلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها. قال : فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار فتغلبوني وتتقحمون فيها ) ٣.
والآيات مع خصوصيتها الزمنية والموضوعية تنطوي على تلقين تأديبي مستمر المدى بوجوب احترام المجالس العامة والاجتماعات العامة التي قد يعقدها، أو يدعو إليها الرؤساء والأمراء وذوو الشأن في المسلمين وعدم الاستخفاف بها وعدم تركها بدون استئذان، وبدون معذرة صحيحة بالإضافة إلى ما فيها من توكيد التزام سنة رسول الله وعدم مخالفتها على ما ذكرناه قبل.
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٢ ) لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٦٣ ) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٦٤ ) ﴾.
تعليق على الآية
﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ﴾ الخ.
والآيتين التاليتين لها وما فيها من آداب وتلقين وصور.
عبارة الآيات واضحة. وفيها تأديب للمؤمنين إزاء مجالس الرسول ودعائه.
وتنويه بالذين يتصرفون في ذلك بما يليق بمركزه ومقامه فلا يتركون مجالسه إلا لعذر وبعد الاستئذان منه وإذنه، فهم المؤمنون حقا بالله ورسوله. وتنديد بالذين يتصرفون في ذلك تصرفا غير لائق فيتسللون من مجالسه وإنذار دنيوي وأخروي لهم.
روى البغوي أن الآية الأولى نزلت في ظروف حفر الخندق ووقعة الأحزاب ؛ حيث كان المنافقون ينسحبون تسللا وخفية من المعسكر، ولا ينفذون أوامر النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الطبري أنها نزلت في المنافقين الذين كان يثقل عليهم حديث النبي يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحاب رسول ويخرجون من المسجد متسللين بدون إذن من النبي، في حين كان المخلصون يستأذنون بالإشارة إذا كان لهم حاجة في الخروج فيأذن لهم بالإشارة، غير أن أكثر المفسرين قالوا : إن الآيات عامة في صدد مجالس النبي واجتماعاته يوم الجمعة معا. ويبدو لنا هذا القول أوجه لأن سورة الأحزاب قد احتوت ما اقتضت حكمة التنزيل ذكره من مشاهد وقعة الأحزاب والخندق ومواقف المنافقين، ولأن فحوى الآيات يلهم أنها أعم من اجتماعات يوم الجمعة وخطبتها.
وقد روى المفسرون١ عن ابن عباس ومجاهد ﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ﴾ في صدد الأمر بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ التوقير والتعظيم لا بالاسم والكنية فقط كما يخاطبون بعضهم كما رووا أنها في صدد النهي عن عمل ما يستوجب دعاء النبي عليهم ودعاؤه موجب مستجاب.
وروى بعضهم٢ أن الجملة في صدد التنبيه على ما يجب عليهم من تلقي دعوة النبي بالاهتمام، حين ما يدعوهم إلى اجتماع ؛ لأن دعوته ليست من قبل دعوة بعضهم لبعض.
وقد تكون رواية الزمخشري الأخيرة هي الأكثر اتساقا مع موضوع الآية الأولى، ومع الفقرة التي جاءت بعد الجملة التي نحن في صددها. وبهذا فقط يظهر الانسجام بين أجزاء الآيات.
والذي يتبادر لنا أن بعض المسلمين أو مرضى القلوب تلكأوا عن تلبية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتماع عام دعا إليه، وأن بعضهم تسللوا من مثل هذا الاجتماع فاقتضت الحكمة الإيحاء بالآيات بأسلوبها المطلق ؛ ليكون من تأديب عام للمؤمنين في صدد ذلك على النحو الذي شرحناه.
والآيات تبدو فصلا جديدا، ولكن ما احتوته من تأديب للمسلمين وتعليم لآداب السلوك في مجالس النبي قد يجعلها متصلة موضوعا بالفصول السابقة، فإذا لم تكن قد نزلت بعدها مباشرة فيكون وضعها في ترتيبها بسبب التناسب الموضوعي والإنذار المنطوي في جملة ﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ﴾ قوي رهيب، وقد جاء مطلقا هو الآخر ليكون مستمر المدى والشمول للذين يخالفون أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونواهيه وسنته الثابتة في كل وقت. وفي الجملة تأييد زجري للآيات العديدة التي أكدت وجوب طاعة رسول الله والوقوف عند ما يأمر وينهى عنه، وقررت أن اتباعه من وسائل رضاء الله ومحبته على ما جاء في آيات الأنفال ( ١ و ٢٠ و ٤٦ ) وآل عمران ( ٣١ و ٣٢ ) والنساء ( ٨٠ ) والحشر ( ٧ ) وقد علقنا على الموضوع ونبهنا على دواعيه المباشرة في العهد المدني. وقد أوردنا بعض الأحاديث في ذلك في سياق تفسير سورة الحشر أيضا فنكتفي بهذا التنبيه.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الجملة التي نحن في صددها حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا، فكلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها. قال : فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار فتغلبوني وتتقحمون فيها ) ٣.
والآيات مع خصوصيتها الزمنية والموضوعية تنطوي على تلقين تأديبي مستمر المدى بوجوب احترام المجالس العامة والاجتماعات العامة التي قد يعقدها، أو يدعو إليها الرؤساء والأمراء وذوو الشأن في المسلمين وعدم الاستخفاف بها وعدم تركها بدون استئذان، وبدون معذرة صحيحة بالإضافة إلى ما فيها من توكيد التزام سنة رسول الله وعدم مخالفتها على ما ذكرناه قبل.
Icon