تفسير سورة الفتح

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾؛" وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إلَى مَكَّةَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ، وَتَجَهَّزَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أصْحَابهِ وَمَعَهُمُ الْهَدْي يَسُوقُونَهَا مَعَ أنْفُسِهِمْ، فَبَلَغَ ذلِكَ قُرَيْشاً فَاسْتَعَدُّواْ لِيَصُدُّوهُ وَأصْحَابَهُ، فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالْحُدَيْبيَةِ، فَزِعَ الْمُشْرِكُونَ بنُزُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثُوا إلَيْهِ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيّ لِيَأْتِيَهُمْ بالْخَبَرِ، فَلَمَّا أتَاهُمْ عُرْوَةُ أبْصَرَ قَوْماً عُمَّاراً لَمْ يَأْتُواْ لِلْقِتَالِ، فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ وَأخْبَرَهُمْ بذلِكَ وَهُوَ كَارهٌ لِصَدِّهِمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكَعْبَةِ، فَشَتَمُوهُ وَاتَّهَمُوهُ. ثُمَّ بَعَثُوا رَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " ابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وُجُوهِهِمَا وَلَبُّوا " فَلَمَّا رَجَعَ الرَّجُلاَنِ إلَيْهِمْ قَالاَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ عُرْوَةُ. فَبَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو أحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، قَالَ صلى الله عليه وسلم حِينَ أبْصَرَهُ: " هَذا رَجُلٌ فَاجِرٌ، وَمَا أرَى إلاَّ قَدْ سَهُلَ أمْرُكُمْ ". فَلَمَّا أتَاهُمْ سُهَيْلُ تَذاكَرُواْ الْمُهَادَنَةَ وَالْمُوَادَعَةَ. فَلَمَّا كَانَ فِي وَسَطِ النَّهار، أمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالْبَيْعَةِ، فَنَادَى مُنَادِيهِ فِي الْعَزْمِ: " الآنَ رُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ عليه السلام نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ بالْبَيْعَةِ " فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ جَلَسَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَبَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وكَادَتْ تِلْكَ الْبَيْعَةُ فِي صُدُور الْمُشْرِكِينَ. فَلَمَّا أمْسَوا وَهُمْ عَلَى ذلِكَ، رَمَى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ باللَّيلِ فِي أصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ بالْحِجَارَةِ فَرَمَواْ أعْدَاءَ اللهِ حَتَّى أدْخَلُوهُمُ الْبُيُوتَ وَهَزَمُوهُمْ بإذْنِ اللهِ. وَأقْبَلَ أشْرَافُهُمْ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ هَذا لَمْ يَكُنْ عَنْ رضًى مِنَّا وَلاَ مُمَالأَةً، وَإنَّمَا فَعَلَهُ سُفَهَاؤُنَا، وَعَرَضُوا الصُّلْحَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَبلَهُ، وَلَمْ يُعْطِهِمُ الْمُشْرِكُونَ الصُّلْحَ حَتَّى قَهَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي غَيْرِ قِتَالٍ بالرَّمْيِ بالْحِجَارَةِ. فَاصْطَلَحَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أنْ يَتَوَادَعُوا سِنِينَ، عَلَى أنْ يَرْجِعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابُهُ تِلْكَ السَّنَةَ، فَمَنْ لَحِقَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَقْبَلْهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، وَمَنْ لَحِقَ بالْمُشْرِكِينَ مِنْ أصْحَاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِنْهُمْ. عَلَى أنَّ الْمُسْلِمِينَ إذا شَاؤُا اعْتَمَرُوا الْعَامَ الْقَابلَ فِي هَذا الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِيْهِ، عَلَى أنْ لاَ يَحْمِلُواْ بأَرْضِهِمْ سِلاَحاً. فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذلِكَ، وَكَتَبُواْ كِتَابَ الْقَضِيَّةَ بَيْنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَهُمْ، فَوَجَدَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذلِكَ الشَّرْطِ وَجْداً شديداً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَنْ لَحِقَ بنَا مِنْهُمْ لَمْ نَقْبَلْهُ، وَمَنْ لَحِقَ بهِمْ مِنَّا فَهُوَ مِنْهُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أمَّا مَنْ لَحِقَ بهِمْ مِنَّا فَأَبْعَدَهُمُ اللهُ، وَأمَّا مَنْ أرَادَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ مَخْرَجاً، وَإنْ يَعْلَمِ اللهُ مِنْهُ الصِّدْقَ يُنَجِّيهِ مِنْهُمْ ". فَلَمَّا فَرَغُواْ مِنْ كِتَاب الْقَضِيَّةِ، أقْبَلَ جَنْدَلُ بْنُ سُهَيْلٍ وَهُوَ يَرْشِفُ فِي قُيُودِهِ، وَكَانَ أبُوهُ قَدْ أوْثَقَهُ حِينَ خَشِيَ أنْ يَذْهَبَ إلَى رَسُولِ اللهِ، فَجَاءَ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَ ظَهْرَانِ المُسْلِمِينَ؛ وَقَالَ: إنِّي مِنْكُمْ وَإنِّي أعُوذُ باللهِ أنْ تُرْجِعُونِي إلَى الْكُفَّار. فَأَرَادَ رجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أنْ يَمْنَعُوهُ، وَنَاشَدَهُمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " خَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ؛ فَسَيُنَجِّيهِ اللهُ مِنْهُمْ ". فَانْطَلَقَ بهِ أبُوهُ، وَكَانَ مَاءُ الْحُدَيْبيَةِ قَدْ قَلَّ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأُتِيَ بدَلْوٍ مِنَ الْمَاءِ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَمَضْمَضَ ثُمَّ مَجَّهُ فِي الدَّلْوِ، ثُمَّ أمَرَهُمْ أنْ يَجْعَلُوهُ فِي الْبئْرِ، فَامْتَلأَتِ الْبئْرُ مَاءً حَتَّى جَعَلُواْ يَغْرِفُونَ مِنْهُ وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى شَفَةِ الْبئْرِ، وََكَانَ هَذا شَأْنُ الْحُدَيْبيَةِ. ولَبثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهراً وَصَيْفاً فوعَدَهم اللهُ خَيراً أنْ يفتحَها لَهم، فلَمَّا رجعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾، والفتحُ الْمُبينُ: ما كان من استعلاءِ المسلمين عليهم حتى غلَبُوهم بالحجارةِ وأدخَلُوهم بيوتَهم، وتيسير الصلحِ أيضاً من الفتحِ المبين وظهور النبيِّ صلى الله عليه وسلم على خَيبرَ من الفتحِ. قال: (وَأنْجَى اللهُ أبَا جَنْدَلَ بْنَ سُهَيْلٍ مِنْ أيْدِيهِمْ، وَخَرَجَ مِنْهُمْ وَاجْتَمَعَ إلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلاً كَرِهُواْ أنْ يَقْعُدُواْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَعَلِمُواْ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَقْبَلُهُمْ حَتَّى تَنْقَضِي الْمُدَّةُ، فَجَعَلُواْ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلَ الْمُشْرِكُونَ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يُنَاشِدُونَهُ أنْ يَقْبضَهُمْ إلَيْهِ، وَقالُواْ: أنْتَ فِي حِلٍّ مِمَّنِ اخْتَارَكَ عَلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ؛ فَإنَّهُمْ إنْ يَكُونُوا مَعَكَ كَانَ أهْوَنَ عَلَيْنَا، فَلَحِقُوا بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم) ". وعن قتادة قال: (بُشِّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذلِكَ الْوَقْتِ بفْتَحِ مَكَّةَ). ومعنى قولهِ تعالى: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾ يعني صُلحَ الحديبيةِ، وكان صُلحاً بغيرِ قتالٍ، قال الفرَّاء: (وَالْفَتْحُ قَدْ يَكُونُ صُلْحاً). ومعنى الفَتْحِ في اللُّغة: فتحُ الْمُغْلَقِ، والصُّلح الذي حصلَ مع المشركين بالحديبيةِ كان مَسْدُوداً متَعَذِّراً حتى فتحَ اللهُ. قال جابرُ: (مََا كُنَّا نَعُدُّ فَتْحَ مَكَّةَ إلاَّ يَوْمَ الْحُدَيْبيَةِ). وقال الزهريُّ: (لَمْ يَكُنْ فَتْحٌ أعْظَمُ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبيَةِ، وَذلِكَ أنَّ الْمُشْرِكِينَ اخْتَلَطُواْ بالْمُسْلِمِينَ وَسَمِعُواْ كَلاَمَهُمْ فَتَمَكَّنَ الإسْلاَمُ فِي قُلُوبهِمْ). ويجوزُ أن يكون معنى الفتحِ: الإكرامُ بالنبوَّة والإسلامِ والأمرُ بدعوةِ الخلقِ إليهما. وَقِيْلَ: معنى ﴿ فَتَحْنَا لَكَ ﴾ أي قضَينا لكَ بالنصرِ، ومنه المفتاحُ وهو القاضِي، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ ﴾[الأعراف: ٨٩] أي اقْضِ بَيننا. وذهب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ المرادَ بالآيةِ فتحُ مكَّة بالغَلبَةِ والقهرِ؛ لأنَّ الصُّلح لا يسمَّى فتحاً على الإطلاقِ، قال الشعبيُّ: (بُويعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذلِكَ الْوَقْتِ بَيْعَةَ الرُّضْوَانِ، فَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَى خَيْبَرَ فِي مُنْصَرَفِهِ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارسَ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ)، والفتحُ في اللغة: هو الفَرَجُ المزيلُ لِلْهَمِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾؛ قال ابنُ الأنباريِّ: (سَأَلْتُ أبَا عَبَّاسٍ عَنِ اللاَّمِ فِي قَوْلِهِ ﴿ لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ ﴾، فَقَالَ: هُوَ لاَمُ كَيْ، مَعْنَاهَا: إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبيْناً لِكَيْ يَجْتَمِعَ لَكَ مَعَ الْمَغْفِرَةِ تَمَامُ النِّعْمَةِ فِي الْفَتْحِ، فَلَمَّا انْضَمَّ إلَى الْمَغْفِرَةِ حادثٌ واقعٌ حَسُنَ مَعْنَى (كي). وقولهُ تعالى: ﴿ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ المرادُ بالذنب ها هُنا الصغائرُ، فأما الكبائرُ فالأنبياء معصُومون منها أبداً؛ لأنَّهم الأُمَناء على الوحيِ والرسالةِ. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال:" كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ حَتَّى تَدْمَى قَدَمَاهُ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أتَصْنَعُ هَذا وَقَدْ جَاءَكَ مِنَ اللهِ أنْ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ: أفَلاَ أكُونُ عَبْداً شَكُوراً ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾؛ أي بالنبوَّة والمغفرةِ، والمعنى ليجتمعَ لكَ مع الفتحِ تَمامُ النِّعمة بالمغفرةِ والهداية إلى صراطٍ مستقيم وهو الإسلامُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ﴾؛ أي ينصُرَك بالحجَّةِ والسيفِ على عدُوِّك نصراً قوياً لا ذُلَّ معه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ قِيْلَ: السَّكينةُ هي ما أسكنَ اللهُ قلوبَهم من التَعظُّيم للهِ ولرسولهِ والوَقَار لئَلاَّ تُزعَجَ نفوسُهم لِمَا يَرِدُ عليهم. وقوله تعالى: ﴿ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ ﴾؛ أي ليَزدَادُوا تَصديقاً إلى تصدِيقهم السابقِ. قال الكلبيُّ: (لَمَّا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فَصَدَّقُوا بَها ازْدَادُواْ تَصْدِيقاً إلَى تَصْدِيقِهِمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ أي جُمُوعُ أهلِ السَّماوات والأرضِ، يعني الملائكةَ والجنَّ والإنس والشياطين.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً ﴾؛ بمصالِحِ خَلقهِ.
﴿ حَكِيماً ﴾؛ فيما يأمُرهم به وينهاهُم عنه. قال ابنُ عبَّاس: (فَلَمَّا نَزَلَ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾[الفتح: ١-٢] قَالَ الصَّحَابَةُ: هَنِيئاً لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا أعْطَاكَ اللهُ، فَمَا لَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ ٱللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً ﴾؛ أي نجاةً عظيمةً من النار وظَفَراً بالجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ ﴾؛ معناهُ: إنَّا فتَحنا لكَ ليُدخِلَ اللهُ المؤمنين والمؤمناتِ جنَّاتٍ تجري من تحتِها الأنْهارُ ولِيُعَذِّبَ المنافقين من الرِّجال والمنافقاتِ من النساءِ، وهُم أظهَرُوا الإيمانَ باللِّسان وأسَرُّوا الكفرَ من أهلِ المدينة.
﴿ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ ﴾؛ مِن أهلِ مكَّة.
﴿ ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ ﴾؛ ومعنى ظنُّهم السوءَ: أنَّهم ظَنُّوا أن مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم لا يُنصَرُ عليهم وأنَّهم هم الذين ينصرُهم اللهُ على رسولهِ، وذلك قبيحٌ لا يجوز في صفةِ الله تعالى: وقوله: ﴿ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ ﴾؛ أي العذابُ والهلاكُ.
﴿ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ﴾ أي وطردَهم عن رحمتهِ.
﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ﴾؛ في الآخرةِ.
﴿ وَسَآءَتْ مَصِيراً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ وليس على وجهِ التِّكرار؛ لأنَّ الأولَ في أعانةِ المؤمنين، وهذا متَّصلٌ بذكرِ المنافقين في الانتقامِ منهم، ومعنى ذلك: أنَّ في الأولِ ﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ فاللهُ قادرٌ على أن يُسَخِّرهم لينتقمَ بهم من أعدائهِ مِن كلِّ ما دبَّ ودرجَ من ذلك حتى البرغوث والعقربَ؛ لأنَّ اللهَ لم يأمُرِ المسلمين بالقتالِ لأجلِ هلاك المشركين، وإنما أمَرَهم بالقتالِ ليُعوِّضَهم بذلكَ جزيلَ الثواب الذي لا يُنَالُ إلاَّ بالقتالِ، وها هنا متَّصل ذكرُ الانتقامِ من المنافقين. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾؛ أي لم يَزَلْ مَنِيعاً مستغنياً من الكفَّار، حَكِيماً في أمرهِ وقضائه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾؛ معناهُ: إنا أرسلناكَ يا مُحَمَّدُ شَاهداً على أُمَّتِكَ بتبليغِ الرسالة، وَقِيْلَ: شاهدٌ على أقوالِهم وأفعالهم فإنَّها تُعرَضُ عليه.
﴿ وَمُبَشِّراً ﴾ بالجنةِ للمطيعين.
﴿ وَنَذِيراً ﴾ أي مُخَوِّفاً بالنار لِمَن عصَى اللهَ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾؛ أي قُرِئ بالتاءِ في الأربعةِ على معنى قولِهم: لتُؤمِنَ باللهِ ورسوله، وقُرئ بالياءِ في الأربعة أيضاً؛ يعني: مَن آمنَ به وصدَّقَهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتُعَزِّرُوهُ ﴾ راجعٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أي يُعِينُوهُ ويَنصرُونَهُ بالسَّيْفِ واللسان، وقرأ محمَّد بن السُّمَيقِعِ: (وَتُعَزِّزُوهُ) بزائين، وقولهُ ﴿ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ أي وتُعَظِّموهُ وتُبجِّلوهُ، وهذا وقفٌ تامٌّ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَتُسَبِّحُوهُ ﴾؛ أي وتسَبحون اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
﴿ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾؛ أي يُصَلُّونَ له بالغَداةِ والعشِيِّ، وفي قراءةِ ابن عبَّاس: (وَتُسَبحُوا اللهَ بُكْرَةً وَأصِيلاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ ﴾، يعني بيعةَ الرِّضوان بالحديبيةِ.
﴿ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ ﴾ بايَعُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم على أنْ لا يفِرُّوا ويقاتِلُوا، بايعَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم تحتَ شجرةٍ استظلَّ بها بالحديبيةِ، وكان الذين بايعوهُ نحوَ ألفِ رجُلٍ وخمسمائة رجل، بايعوهُ على النُّصرَةِ والنُّصحِ والسمعِ والطاعة، وأن لا يفِرُّوا من العدوِّ. ومعنى الآيةِ: إنَّ الذين يُبايعونكَ يا مُحَمَّدُ بالحديبيةِ على أن لا يفِرُّوا، إنما يُبايعُون في ذاتِ الله، ليس أنتَ المرادُ بذلك، بل المرادُ به القيامُ بعبادةِ الله. وَقِيْلَ: المرادُ بذلك أنَّهم بَاعُوا اللهَ أنفُسَهم بالجنَّة. وقولهُ تعالى: ﴿ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾، أي نِعمَةُ اللهِ في الهدايةِ فوقَ أيديهم في الطاعة، يعني إحسانَ اللهِ إليهم بأن هدَاهُم للإيمانِ أبلغُ وأتَمُّ من إحسانِهم إليكَ بالنُّصرة والبيعةِ، وقال ابنُ كَيسان: (مَعْنَاهُ: قُوَّةُ اللهِ وَنُصْرَتُهُ فَوْقَ أيْدِيهِمْ وَنُصْرَتِهِمْ؛ أي اتَّقِ باللهِ وَنُصْرَتِهِ لَكَ لاَ بنُصْرَتِهِمْ، وَإنْ بَايَعُوكَ)، وقال: مَعْنَاهُ: يَدُ اللهِ فِي الثَّوَاب وَالْوَفَاءِ لَهُمْ فَوْقَ أيْدِيهِمْ في الوفاء، فَإنَّهُمْ لَوْ وَفَّوا بمَا ضَمِنُوا فَاللهُ أوْفَى بمَا ضَمِنَ، وَأقْدَرُ عَلَى ذلِكَ). واليدُ ها هنا هي القُدْرَةُ. قولهُ: ﴿ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ﴾؛ أي مَن نقضَ عقدَ البيعةِ فضررُ نقضهِ عائدٌ عليه، وليس له الجنَّةُ ولا كرامةٌ.
﴿ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ ﴾؛ مِن البيعة فتَمَّ على ذلك واستقامَ.
﴿ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾؛ فسيعطيهِ اللهُ في الآخرةِ ثَواباً عظيماً في الجنة. ورُوي أنَّ هؤلاء المبايعين لم ينقُضْ أحدٌ منهم البيعةَ؛ لأنَّهم كانوا مُخلِصين، ولذلك قالَ اللهُ﴿ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ ﴾[الفتح: ١٨] رضاهُ عنهم دليلٌ على أنَّهم كانوا مُؤمنين على الحقيقةِ، أولياءَ الله أهلَ النُّصرة، والذي لَمْ يدخُلْ معهم في البيعةِ يومئذٍ إلا رجلٌ من المنافقِين يقال له جَدُّ بن قيسٍ، اختبأ يومئذ تحتَ إبطِ بَعيرهِ ولم يدخُلْ في بيعتِهم، أماتَهُ اللهُ على نفاقهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا ﴾ أخبرَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا رجعَ من الحديبيةِ إلى المدينةِ، أتاهُ الأعرابُ الذين يخلِفُون عنه بغيرِ عُذرٍ، ولم يَخرُجوا معه وهم مُزَينَةُ وجُهَيْنَةُ وغطَفَانُ وقومٌ من الدَّيلِ، فيقولون له: شَغَلَتْنَا أموالُنا وأهلُونا عن الخروجِ معك يا محمد، أي شغلَتنا النساءُ والذراري فلم يكن لنا مَن يخلِفُنا فيهم.
﴿ فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا ﴾؛ من التخلُّفِ عنكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾؛ أي يسأَلُون المغفرةَ بأَلسِنَتِهم ﴿ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ يعني: لأنَّهم لا يُبَالُونَ أسْتَغْفَرْتَ لَهم أمْ لم تستغفِرْ لَهم. وقد كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أرَادَ الْمَسِيرَ إلَى مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبيَةِ، اسْتَنْفَرَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الأَعْرَاب وَأهْلِ الْبَوَادِي لِيَخْرُجُوا مَعَهُ حَذراً مِنْ قُرَيْشٍ أنْ يُحَاربُوهُ وَيَصْرِفُوهُ عَنِ الْبَيْتِ، وَأحْرَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالْعُمْرَةِ وَسَاقَ الْهَدْيَ لِيُعْلِمَ النَّاسَ أنَّهُ لاَ يُرِيدُ حَرْباً، فَتَثَاقَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الأَعْرَاب وَقَالُواْ: نَذْهَبُ مَعَهُ إلَى قَوْمٍ قَدْ جَاءُوا يَقْتُلُونَ أصْحَابَهُ فَيُقَاتِلُهُمْ، فَتَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَاعْتَلُّوا بالشُّغْلِ، فأنزلَ اللهُ تعالى: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا ﴾ الآيةُ. قًوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً ﴾؛ معناهُ: مَن يمنعُكم من عذاب الله إنْ أقَمتُم على الكفرِ والنفاق.
﴿ بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾؛ معناهُ: بل كان اللهُ عالِماً بتخلُّفِكم عن القتالِ من غير عُذرٍ. قرأ حمزةُ والكسائي وخلفٌ (ضُرّاً) بضم الضاد وهو سُوءِ الحالِ، وقرأ الباقون (ضَرّاً) بفتح الضادِ لأنه قابَله بالنفعِ، وأرادَ بالنفعِ الغنيمةَ. وذلك أنَّهم ظَنُّوا أن تَخلُّفَهم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم يدفعُ عنهم الضُّرَّ، ويعجِّلُ لهم النفعَ بالسلامةِ في أنفسهم وأموالِهم، فأخبرَهم اللهُ تعالى أنه إنْ أرادَ بهم شيئاً لم يقدِرْ أحدٌ على دفعهِ عنهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً ﴾ أظهرَ اللهُ نفاقَهم، وبيَّن أنَّ تخلُّفَهم عنه لم يكن بسبب أموالهم وأهلِيهم، ولكن كانوا يقُولون فيما بينهم: يَسْتَأْصِلُ مُحَمَّداً وأصحابَهُ عدُوُّهم في هذِه الكرَّة فلا يرجِعون إلى المدينةِ أبداً فنَستريحُ منهم. وقولهُ تعالى: ﴿ وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾؛ أي زَيَّنَ الشيطانُ لكم ذلك الظنَّ في قُلوبكم.
﴿ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ ﴾؛ أي ظنَنتُم نبيَّ اللهِ وأصحابَهُ أنَّهم لن يرجِعُوا من سفَرِهم هذا وأنَّهم سيهلَكُون. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً ﴾؛ أي هَلْكَى فاسدِي القلُوب لا تَصلُحون لخيرٍ، والبَوَارُ الهلاكُ، وما بعدَ هذا.
﴿ وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً * وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾، ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ ﴾؛ يعني هؤلاءِ المخَلَّفين سيقولون لرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ: ﴿ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ ﴾، خيرٍ.
﴿ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ﴾؛ نخرُجْ معَكم، فأمرَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَمنَعَهم من ذلك بعدَ تخلُّفهم من غزوةِ الحديبية. فلما رجعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الحديبيةِ وانطلقَ إلى خيبرَ، قال هؤلاءِ المخلَّفون ﴿ ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ﴾ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي أنَّ اللهَ تعالى خصَّ أهلَ الحديبيةِ بمغانمِ خَيبرَ، وأمرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن لا يَأْذنَ للمنافقين أن يُخرِجُوهم معهم إلاَّ متطوِّعين ليس لهم من المغانمِ شيءٌ. فأرادَ المنافقون أن يُشاركوا فيها ليُبطِلُوا حكمَ اللهِ تعالى: ﴿ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ ﴾؛ يعني: أمَرَ اللهُ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أنْ لا يُسَيِّرَ معه منهم أحداً. ومعنى قوله ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي قالَ اللهُ في ذلك بالحديبيةِ قبلَ خيبرَ، وقبلَ خروجنا إليكم: أنَّ غينمةَ خيبر لِمَن شَهِدَ الحديبيةَ.
﴿ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ﴾؛ أي سيقُولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يأمُرْكم اللهُ بذلك، ولكن تحسُدُونَنا أن نُشاركَكم في الغنيمةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾؛ أي لا يعلَمُون عن اللهِ ما لهم وعليهم مِن الدين إلاَّ قليلاً منهم، وهو مَن صدَّقَ الرسول ولم يُنافِقْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ ﴾؛ أي قُل لهؤلاء المخلَّفين عن الحديبيةِ: ﴿ سَتُدْعَوْنَ ﴾؛ بعدَ موتِ النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ إِلَىٰ ﴾؛ قتالِ؛ ﴿ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾؛ أي أهلِ اليمَامَةِ، قال الزهريُّ: (هُمْ أهْلُ الْيَمَامَةِ بَنُو حَنِيفَةَ أتْبَاعُ مُسَيْلَمَةَ، فَأَتَاهُ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه)، قال رافعُ بن خَديج: (كُنَّا نَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ وَلاَ نَعْلَمُ مَنْ هُمْ حَتَّى دَعَا أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ فَعَلِمْنَا أنَّهُمْ هُمْ). وقال ابنُ جُريج: (سَيَدْعُوكُمْ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى قِتَالِ فَارسَ وَالرُّومَ) ﴿ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ﴾؛ معناهُ: تُقاتِلُوهم أن يكون منهم الإسلام.
﴿ فَإِن تُطِيعُواْ ﴾؛ أبَا بكرٍ وعمر.
﴿ يُؤْتِكُمُ ٱللَّهُ أَجْراً حَسَناً ﴾؛ عَظيماً في الجنَّة.
﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ ﴾؛ عن طاعةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في المسيرِ إلى الحديبية.
﴿ يُعَذِّبْكُمْ ﴾؛ في الآخرةِ.
﴿ عَذَاباً أَلِيماً ﴾؛ شَديداً. قرأ أُبَيُّ (أوْ يُسْلِمُوا) بحذفِ النُّون؛ أي حتى يُسلِمُوا، وكقولِ امرئِ القيسِ: (أوْ نَمُوتَ)، وقرأ الكافَّة بإثباتِ النُّون في محل الرفعِ عطفاً على ﴿ تُقَاتِلُونَهُمْ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ ﴾؛ أي ليس على هؤلاءِ إثْمٌ في قُعودِهم عن القتالِ لعَجزِهم عنه.
﴿ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ ﴾؛ عائدٌ إلى مَن يلزمهُ الجهادُ.
﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ﴾؛ عن الجهادِ مع قُدرتهِ عليه.
﴿ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ ﴾؛ يعني بيعةَ الرُّضوانِ بالحديبيةِ، وإنما سُميت بيعةُ الرضوانِ بهذه الآية، وكان سببُ هذه البيعةِ:" أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَارَ يُرِيدُ مَكَّةَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحُدَيْبيَةَ وَقَفَتْ نَاقَتُهُ، فَزَجَرَهَا فَلَمْ تَنْزَجِرْ وَبَرَكَتْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَا هَذا بعَادَةٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابسُ الفِيْلِ ". وَدَعَا عُمَرَ رضي الله عنه لِيُرْسِلَهُ إلَى أهْلِ مَكَّةَ، فَيَأْذنُوا لَهُ بأَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَيُحِلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ وَيَنْحَرَ هَدْيَهُ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَا لِي بهَا حَمِيمٌ وَلَيْسَ بمَكَّةَ مِنْ بَنِي عَدِيُّ بْنُ كَعْبٍ يَمْنَعُنِي، وَإنِّي أخَافُ قُرَيْشَ عَلَى نَفْسِي لأَنَّهَا قَدْ عَلِمَتْ عَدَاوَتِي إيَّاهَا، وَلَكِنْ أدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أعَزُّ بهَا مِنِّي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانٍ، قالَ: " صَدَقْتَ ". فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُثْمَانَ بْنُ عَفَّانٍ فَأَرْسَلَهُ. فَجَاءَ الشَّيْطَانُ وَصَاحَ فِي عَسْكَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بأَنَّ أهْلَ مَكَّة قَتَلُواْ عُثْمَانَ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الشَّجَرَةِ فَاسْتَنَدَ إلَيْهَا، وَبَايَعَ النَّاسَ عَلَى قِتَالِ أهْلِ مَكَّةَ. قَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ مَعْقِلٍ: كُنْتُ قَائِماً عَلَى رَأسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذلِكَ الْيَوْمَ، وَبيَدِي غُصْنٌ مِنَ الشَّجَرَةِ أذبُّ بهِ عَنْهُ وَهُوَ يُبَايعُ النَّاسَ، كَانَ أوَّلُ مَنْ بَايَعَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أسَدٍ يُقَالُ لَهُ أبُو سِنَانِ بْنِ وَهَبٍ ". واختلَفُوا في عددِ أهلِ البيعة، فقال قتادةُ: (كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً)، وقال ابنُ عبَّاس: (كَانُوا ألْفاً وَخَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ)، وقال جابرُ: (كَانُوا ألفاً وَأرْبَعَمِائَةٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾؛ أي فعَلِمَ اللهُ ما في قلوبهم من الصِّدق والوفاءِ والإخلاصِ والعزمِ على القتال.
﴿ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ﴾؛ يعني الطُّمَأنِينَةَ والصبرَ والرضا حين بايَعُوا على أن يُقاتِلوا ولا يفِرُّوا.
﴿ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ﴾؛ أي وأعطَاهم فتحَ خيبرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا ﴾؛ معناهُ: ومغانِمَ كثيرةً يأخذُونَها من أموالِ يهود خيبرَ، وكانت خيبرُ ذات عقارٍ وأموالٍ.
﴿ وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً ﴾؛ أي غَالباً.
﴿ حَكِيماً ﴾؛ في أمرهِ، حكَمَ لهم بالغنيمةِ، ولأهلِ خيبرَ بالسَّبي والهزيمةِ. وعن أنسٍ رضي الله عنه:" وأنَا رَدِيفَ أبي طَلْحَةَ يَوْمَ أتَيْنَا إلَى خَيْبَرَ، فَصَبَّحَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أخَذُواْ مَسَاحِيهِمْ وَفُؤُوسَهُمْ وَغَدَوا عَلَى حُرُوثِهِمْ، فَلَمَّا رَأوْنَا ألْقَواْ ما بأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " اللهُ أكْبَرُ، خَرِبَتْ خيْبَرُ، إنَّا إذا نَزَلْنَا بسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذرينَ " ". وعن عبدِاللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبيِهِ قَالَ:" خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى خَيْبَرَ، سَرَيْنَا لَيْلاً وَعَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ مَعَنَا وَكَانَ شَاعِراً، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: ألاَ تُسْمِعُنَا يَا عَامِرُ، فَنَزَلَ يَحْدُوا بالْقَوْمِ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ لَوْلاَ أنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا   وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَاهُمُ الَّذِينَ بَغَواْ عَلَيْنَا   وَنَحْنُ مِنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَافَاغْفِرْ بفَضْلِكَ مَا أتَيْنَا   وَثَبتِ الأَقْدَامَ إنْ لاَقَيْنَاوَألْقِيَنَّ السَّكِينَةَ عَلَيْنَا   " قَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ هَذا؟ " قَالُوا: عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ، قَالَ: " قَدْ غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ يَا عَامِرُ " فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ أمْتَعْتَنَا بهِ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم). وإنما قالَ ذلكَ؛ لأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما استغفرَ لرجُلٍ قطُّ إلاَّ استُشهِدَ. قالَ: (فَلَمَّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ وَتَصَافَّ الْقَوْمُ، خَرَجَ يَهُودِيٌّ فَخَرَجَ إلَيْهِ عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ وَهُوَ يَقُولُ: "قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أنِّي عَامِرُ   شَاكِي السِّلاَحِ بَطَلٌ مُغَامِرُ" وَاخْتَلَفَا بضَرْبَتَيْنِ، فَوَقَعَ سَيْفُ الْيَهُودِيِّ فِي تِرْسِ عَامِرٍ، وََوَقَعَ سَيْفُ عَامِرٍ عَلَى رُكْبَةِ نَفْسِهِ وَسَاقِهِ فَمَاتَ مِنْهَا. قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ: فَمَرَرْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ يَقُولُونَ: بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ، فَأَتَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَأنَا أبْكِي فَأَخْبَرْتُهُ بذلِكَ، فَقَالَ: " كَذبَ مَنْ قَالَ ذلِكَ، بَلْ لَهُ أجْرُهُ مَرَّتَيْنِ ". ثُمَّ عَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيّاً رضي الله عنه وَكَانَ حِيْنَئِذٍ أرْمَدَ قَدْ عَصَبَ عَيْنَهُ بشِِقِّ بُرْدٍ، قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ: فَجِئْتُ بهِ أقُودُهُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا لَكَ يَا عَلِيُّ؟ " قَالَ: رَمَدْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " أُدْنُ مِنِّي " فَدَنَا مِنْهُ، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرِئَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَمَا وُجِعَتْ عَيْنَاهُ بَعْدَ ذلِكَ أبَداً حَتَّى مَضَى سَبيلُهُ. ثُمَّ أعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّايَةَ فَهَدَى بهَا وَعَلَيْهِ حُلَّةُ أُرْجُوَانٍ حَمْرَاءُ، فَأَتَى مَدِينَةَ خَيْبَرَ، فَخَرَجَ مَرْحَبُ صَاحِبُ الْحِصْنِ وَعَلَيْهِ مِغْفَرٌ وَحَجَرٌ قَدْ ثَقَبَهُ مِثْلَ الْبَيْضَةِ عَلَى رَأسِهِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: "قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أنِّي مَرْحَبُ   شَاكِي السِّلاَحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُأطْْعَنُ أحْيَاناً وَحِينَا أضْرِبُ   إذا الْحُرُوبُ أقْبَلَتْ نَلْتَهِبُكَانَ حِمَايَا مَانِعاً لاَ يَقْرَبُ   " فَبَرَزَ إلَيْهِ عَلِيٌّ رضي الله عنه، وَقَالَ: "أنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهُ   كَلَيْثِ غَابَاتٍ شَدِيدٍ قَسْوَرَهْأكِيلُكُمْ بالسَّيْفِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ   " فَاخْتَلَفَا بضَرْبَتَيْنِ، فَبَدَرَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه بالضَّرْبَةِ فَقَدَّ الْحَجَرَ وَالْمِغْفَرَ وَفَلَقَ رَأسَهُ فَوَقَعَ مَيِّتاً، وَكَانَ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ). ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَرْحَبَ أخُوهُ يَاسِرُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: "قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أنِّي يَاسِرَهْ   شَاكِي السِّلاَحِ بَطَلٌ مُعَاقِرَهْإذا اللُّيُوثُ أقْبَلَتْ مُبَادِرَهْ   إنَّ سِلاَحِي فِيْهِ مَوْتٌ حَاضِرَهْ" فَخَرَجَ إلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رضي الله عنه وَهُوَ يَقُولُ: "قَدْ عَلِمْتَ أنِّي زُبَارُ   قَوْمٍ لِقَوْمٍ غَيْرُ نَاكِثٍ فَرَّارابْنُ حُمَاةِ الْمَجَدِ وابْنُ الأَخْيَار   يَاسِرُ لاَ يَغْرُرْكَ جَمْعُ الْكُفَّارفَجَمْعُهُمْ مِثْلُ السَّرَاب جَار   " فَقَالَتْ أُمُّهُ صَفِيَّةُ بنْتُ عَبْدِالْمُطَّلِب: أيُقْتَلُ ابْنِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " ابْنُكِ يَقْتُلُهُ ". ثُمَّ الْتَقَيَا فَقَتَلَهُ زُبَيْرٌ. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَحُ الْحُصُونَ حِصْناً حِصْناً، وَيَحُوزُ الأَمْوَالَ، فَلَمَّا أمْسَى النَّاسُ أوْقَدَ نِيرَاناً كَثِيراً، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " عَلَى أيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ؟ " قَالُوا: عَلَى لَحْمِ الْحُمُرِ الإِنْسِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أهْرِقُوهَا وَاكْسِرُوا الْقُدُورَ " فَقَالُوا: نُهدِيكَ الْقُدُورَ وَنَغْسِلُهَا، فَقَالَ: " هِيَ أوْ ذاكَ ". ثُمَّ أتِيَ رَسُولُ اللهِ بصَفِيَّةَ بنْتِ حَييِّ بْنِ أخْطَبَ وَبأُخْرَى مَعَهَا، أتَى بهِمَا بلاَلٌ رضي الله عنه، فَلَمَّا رَأتِ الْمَرْأةُ الَّتِي مَعَ صَفِيَّةَ الْقَتْلَى مِنَ الْيَهُودِ صَرَخَتْ وَصَكَّتْ وَجْهََهَا وَحَسَتِ التُّرَابَ عَلَى رَأسِهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " إعْزِلُوا عَنِّي هَذِهِ الشَّيْطَانَةَ " وَأمَرَ بصَفِيَّةَ فَأُجْلِسَتْ خَلْفَهُ وَألْقَى عَلَيْهَا ردَاءَهُ، فَعَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أنَّ رَسُولَ اللهِ أصْفَاهَا لِنَفْسِهِ. وَكَانَتْ قَدْ رَأتْ فِي مَنَامٍ وَهِيَ عَرُوسُ كِنَانَةَ بْنَ رَبيعٍ أنَّ قَمَراً وَقَعَ فِي حِجْرِهَا، فَقَصَّتْ رُؤْيَاهَا عَلَى زَوْجِهَا فَلَطَمَ وَجْهَهَا لَطْمَةً اخْضَرَّتْ عَيْنَاهَا مِنْهَا، وَقَالَ: إنَّكِ تَتَمَنِّينَ مَلِكَ الْحِجَاز مُحَمَّداً. فَلَمَّا رَأى رَسُولُ اللهِ خُضْرَةَ عَيْنِهَا سَأَلَهَا عَنْ ذلِكَ، فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ، فَأُوتِيَ مِنْ زَوْجِهَا كِنَانَةَ بْنِ الرَّبيعِ كَانَ عِنْدَهُ كَنْزُ بَنِي النَّضِيرِ، فَسَأَلَهُ إيَّاهُ فَجَحَدَهُ أنْ يَكُونَ عَالِماً بمَكَانِهِ. فَجَاءَ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: فَإنِّي قَدْ رَأيْتُ كِنَانَةَ يَطُوفُ بهَذِهِ الْخِرْبَةِ كُلَّ غَدَاةٍ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لِكِنَانَةَ: " أرَأيْتَ إنْ وَجَدْنَاهُ عِنْدَكَ أأقْتُلُكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالْخِرْبَةِ فَحُفِرَتْ، فَأُخْرِجَ مِنْهَا بَعْضُ كَنْزِهِمْ، ثُمَّ سَأَلَهُ مَا بَقِيَ فَأَبَى أنْ يُؤَدِّيَهُ، فَأَمَرَ بهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَضُرِبَ عُنُقُهُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ﴾؛ أي وعدَكم اللهُ في المستقبلِ من زمانٍ غنائمَ كثيرةً تأخُذونَها، قال مقاتلُ: (مَنْ قَاتَلَ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ﴿ فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ ﴾؛ يعني غنيمةَ خيبر.
﴿ وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ ﴾؛ أي مَنَعَ أسَداً وغطفانَ من قتالِكم، وكانوا حُلفاء لأهلِ خيبرَ، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَصَدَ خَيْبَرَ وَحَاصَرَ أهْلََهَا، هَمَّتْ قَبَائِلُ مِنْ أسَدٍ وَغَطَفَانَ أنْ يُغِيرُواْ عَلَى عِيَالِ الْمُسْلِمِينَ وَذرَاريهِمْ بالْمَدِينَةِ، فَكَفَّ اللهُ أيْدِيَهُمْ بإلْقَاءِ الرُّعْب فِي قُلُوبهِمْ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي ولتكون غنيمةُ خيبرَ دلالةً على المؤمنين على صدقِكَ يا مُحَمَّدُ، حيث إنَّ اللهَ تعالى أخبرَ أنَّهم يُصيبونَها في المستقبلِ، ثم وجدَ المخبر على وفق الخبر، وقولهُ تعالى: ﴿ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾؛ أي ويُثِيبَكم على دينِ الإسلامِ، ويُرشِدَكم إلى الأدلَّة في الدينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا ﴾؛ أي وعدَكم فتحَ بلدةٍ أُخرى لم يقدِرُوا عليها الآن.
﴿ قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا ﴾؛ يفتَحُها عليكم، قال الفرَّاءُ: (حَفِظَهَا لَكُمْ وَمَنَعَهَا مِنْ غَيْرِكُمْ حَتَّى يَفْتَحَهَا لَكُمْ). واختلَفُوا فيها، فقالَ ابنُ عبَّاس وابن أبي ليلى والحسن ومقاتل: (هِيَ فَارسُ وَالرُّومُ) وَكَانَتِ الْعَرَبُ لاَ تَقْدِرُ عَلَى قِتَالِ فَارسَ وَالرُّومَ، وَفَتْحِ مَدَائِنِهَا حَتَّى قَدِرُواْ عَلَيْهَا بالإسْلاَمِ. وقال قتادةُ: (هِيَ مَكَّةُ)، وقال عكرمةُ: (هِيَ خَيْبَرُ). وقولهُ تعالى ﴿ قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا ﴾ أي أحاطَتْ قدرتهُ بها وبأهلِها.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ﴾؛ كلِّ شيءٍ من فتحِ القُرَى والنصرِ وغير ذلك قديرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ﴾؛ يعني أسَداً وغطفانَ الذين أرَادُوا نَهب ذراري المسلمين فانْهَزَمُوا عنكم لأنَّ الله ينصرُكم عليهم.
﴿ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾؛ قال ابنُ عباس: (مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ اللهِ خَذلَهُ اللهُ وَلَمْ يَنْصُرْهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ﴾؛ أي سُنة اللهِ التي قد خلَتْ من قبلُ في نَصرِ أوليائهِ وقهرِ أعدائه؛ أي هذه سُنَّتي في أهلِ طاعةٍ وأهلِ معصية أنصُر أوليائي وأخذلُ أعدائي.
﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ ﴾؛ لحكمِ الله.
﴿ تَبْدِيلاً ﴾؛ تغييراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾؛ أوَّلُ هذه الآيةِ يدلُّ على أنَّ اللهَ تعالى منعَ أيدِي أهلِ مكَّة يومَ الحديبيةِ عن قتالِ المسلمين بالرُّعب، ومنعَ أيدينا عن قتالِهم بالنَّهي. وَقِيْلَ: إنَّ المؤمنين لم يُنهَوا عن قتالِهم يومئذٍ، ولكن لم يقدِّرْ الله ذلك للمؤمنين إبقاءً للمؤمنين المستضعَفين الذين كانوا في أيدِي المشركين كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾.
وقولهُ تعالى: ﴿ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾، قال أنسُ رضي الله عنه: (وَذلِكَ أنَّ ثَمَانِينَ رَجُلاً مِنْ أهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ عِنْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ مُتَسَلِّحِينَ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبيَةِ، فَأَخَذهُمْ رَسُولُ اللهِ وَأعْتَقَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ) ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾.
وقال ابنُ عبَّاس: (بَعَثَتْ قُرَيْشُ أرْبَعِينَ رَجُلاً أوْ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنْهُمْ، وَأمَرُوهُمْ أنْ يَطُوفُواْ بعَسْكَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبيَةِ لِيُصِيبُوا لَهُمْ مِنْ أصْحَابهِ أحَداً، فَأُخِذُواْ فَأُتِيَ بهِمْ رَسُولُ اللهِ، فَعَفَا عَنْهُمْ وَخَلَّى سَبيلَهُمْ، وَقَدْ كَانُوا رَمَوا فِي عَسْكَرِ رَسُولِ اللهِ بالْحِجَارَةِ وَالنَّبْلِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ﴿ هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ أي همُ الذين كفَرُوا بمُحَمَّدٍ والقرآنِ، يعني كفَّارَ مكة، وصَدُّوكم عن المسجدِ الحرام أن تطُوفوا به للعُمرة ويحلوا من عمرتِكم. وقولهُ تعالى ﴿ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً ﴾ أي وصَدُّوا الهديَ مَمْنُوعاً أن يبلغَ مَحِلَّهُ الذي إذا صارَ إليه حلَّ نحرهُ وهو الحرمُ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ساقَ في ذلك العام سَبعين بَدْنَةً إلى مكَّة. ﴿ مَعْكُوفاً ﴾ في اللغة هو الممنوعُ عن الذهاب في جهته بالإقامةِ في مكانه، يقالُ: عَكَفَ على الأمر عكوفاً، واعْتَكَفَ في المسجدِ إذا أقامَ به. ومعنى الآيةِ: هم الذين كفَرُوا وصدُّوكم عن المسجدِ الحرام، وصدُّوا الهديَ وهي البُدْنُ التي ساقَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكانت سَبعين بَدْنَةً معكوفاً أي مَحْبُوساً أن يبلُغَ مَحِلَّهُ أي مسجدَهُ، وهذه الآيةُ دلالةٌ على أن محِلَّ الهدي الحرمُ، ولو كان محلهُ غيرُ الحرمِ لَمَا كان مَعْكُوفاً عن بلوغِ محلَّه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ ﴾؛ معناهُ: ولو تطَأُوا رجالاً مُؤمِنين ونساءً مُؤمِنات مُقِيمَات بمكَّة لم تعلَمُوهم فتقتلوهم.
﴿ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ ﴾؛ قِبَلَهم.
﴿ مَّعَرَّةٌ ﴾؛ أي عَيْبٌ ومسَبَّة في العرب بأنَّكم قتَلتُم أهلَ دينِكم، ويقالُ: أراد بالْمَعَرَّةِ الغَمَّ والجزعَ. وجوابُ (لَوْلاَ) محذوفٌ تقديرهُ: لولا ذلك لدَخلتُم على أهلِ مكَّة ولوطأتموهم لَيْلاً ولضَربتُم رقابَ المشركين بنَصرِنا إيَّاكم، ولكنَّ اللهَ منعَ من ذلك كراهةَ وطئِ المؤمنين المستضعَفين الذين كانوا بمكَّة، والمؤمناتِ بالقتلِ لأنَّهم لو دخَلُوا مكَّة لم يتميَّز لهم المؤمنون من الكفَّار، فلم يأْمَنوا أن يَقتُلوا المؤمنين. وَقِيْلَ: المراد بالْمَعَرَّةِ الإثْمُ والدِّية والكفَّارَةُ، إلا أن الصحيح ما ذكرناهُ من قبلُ؛ لأنه لا خلافَ بين العلماءِ أنَّ المسلمين إذا قصَدُوا حِصْناً من حُصونِ الكفار وقاتَلهم وأصَابُوا من في الحصنِ من أطفالِ الكفَّار ومن أسَارى المسلمين أنه لا إثمَ عليهم ولا ديَّة و لا كفارةَ، ولقد حاصرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أهلَ الطائفِ ورمَاهم بالمنجنيقِ مع نَهْيهِ عن قتلِ النساء والوِلدان. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾؛ موضعهُ التقديمُ، تقديرهُ: لولا أن تَطَأُوهم بغيرِ علم.
﴿ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ ﴾؛ اللامُ متعلِّقة بمحذوفٍ دلَّ عليه معنَى الكلامِ على تقديرِ: حالَ بينَكم وبينهم ﴿ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ يعني مَن أسلمَ مِن الكفَّار بعدَ الصُّلح، ورحمةُ الله جنَّتهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾؛ معناهُ: لو تَميَّزَ المؤمنون عن الكفَّار لعَذبنا الكفارَ عَذاباً ألِيماً يعني بالقتلِ والسَّبي بأيدِكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ﴾ قال مقاتلُ: (إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْحُدَيْبيَةَ وَمَعَهُ الْهَدْيُ، قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ: قَتَلَ مُحَمَّدٌ أبْنَاءَنَا وَإخْوَانَنَا، ثُمَّ أتَانَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا فِي مَنَازلِنَا، فَتُحَدِّثُ الْعَرَبُ أنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا عَلَى رَغْمِ آنَافِنَا، واللاَّتِ وَالعُزَّى لاَ يَدْخُلُ عَلَيْنَا. فَهَذِهِ الْحَمِيَّةُ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ قُلُوبَهُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ حتى لم يدخُلوا.
﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ ﴾؛ وهو كلمةُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، الكلمةُ التي يُتَّقَي بها من الشِّرك. والحميَّةُ في اللغة: هي الأَنَفَةُ التي تَحمِي الإنسانِ كأنَّ قُلوبَهم حَمِيَّةٌ لِمَعصِيَةِ اللهِ، فأنزلَ اللهُ بدلُّ ذلك على قلب نَبيِّهِ عليه السلام وعلى قلوب المؤمنين من الطُّمأنينةِ والسُّكون والوقَار والهيبةِ، وألزَمَهم توحيدَ اللهِ والإيمان برسولهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ﴾؛ أي كانُوا أحَقَّ بكلمةِ التوحيد من كفَّار مكَّة وكانوا أهلَها في علمِ الله تعالى مستحقِّين لها في الدُّنيا.
﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾؛ من أمرِهم.
﴿ عَلِيماً ﴾.
وعن عثمانِ بن عفان رضي الله عنه قال:" سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لاَ يَقُولُهَا عَبْدٌ حَقّاً مِنْ قَلْبهِ إلاَّ حَرَمَهُ عَلَى النَّار "، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: (أنَا أُحَدِّثُكَ بهَا، هِيَ كَلِمَةُ الإخْلاَصِ الِّتِي ألْزَمَهَا اللهُ مُحَمَّداً وَأصْحَابَهُ وَهِيَ كَلِمَةُ التَّقْوَى). وقال عطاءُ الخراساني: (هِيَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ). وعن عليٍّ رضي الله عنه أنْ سُئِلَ عَنْ كَلِمَةِ التَّقْوَى فَقَالَ: (هِيَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَاللهُ أكْبَرُ)، وهو قولُ ابنِ عمر. وقال عطاءُ بن رَباح: (هِيَ لاَ إلََهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وَقِيْلَ: إنَّ الْحَمِيَّةَ التي جعلَها الكفارُ في قلوبهم، هي مَا رُوي:" أنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَأَلُواْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَكْتُبَ لَهُمْ بكِتَاب الصُّلْحِ، قَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: " أكْتُبْ: بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: أمَّا الرَّحْمَنُ فَلاَ نَدْري مَا هُوَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: باسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللهِ لاَ يَكْتُبُهَا إلاَّ بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ: " أُكْتُبْ: باسْمِكَ اللَّهُمَّ، ثُمَّ اكْتُبْ: هَذا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ". فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: وَاللهِ لَوْ نَعْلَمُ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ، لَكِنِ اكْتُبْ باسْمِكَ وَاسْمِ أبيكَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " إنِّي لَرَسُولُ اللهِ وَلَقَدْ كَذبْتُمُونِي ". وَقَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: " أمْحُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم " فََقَالَ عَلِيٌّ: لاَ أمْحُوكَ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَحَاهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: " أكْتُبْ: هَذا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللهِ سُهَيْلَ ابْنَ عَمْرٍو عَلَى وَضْعِ الْحَرْب بَيْنَ النَّاسِ بكَفِّ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أنَّهُ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ مِنْ أصْحَاب مُحَمَّدٍ حَاجّاً أوْ مُعْتَمِراً أوْ يَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللهِ فَهُوَ آمِنٌ عَلَى دَمِهِ وَمَالِهِ. وَمَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ قُرَيْشٍ مُجْتَازاً إلَى مِصْرَ أو الشَّامِ فَهُوَ آمِنٌ عَلَى دَمِهِ وَمَالِهِ " ". فهذه الحميَّةُ التي في قلوبهم، يعني الأَنَفَةَ من الاستفتاح ببسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ومِن قولهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ ﴾؛ وذلك أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأى فِي الْمَنَامِ وَهُوَ بالْمَدِينَةِ قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ إلَى الْحُدَيْبيَةِ كَأَنَّهُ هُوَ وَأصْحَابُهُ حَلَقُواْ وَقَصَّرُواْ، فَأَخْبَرَ بذلِكَ أصْحَابَهُ فَفَرِحُوا وَحَسِبوا أنَّهُمْ دَاخِلُوا مَكَّةَ عَامَهُمْ ذلِكَ، وَقَالُواْ: إنَّ رُؤْيَةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ. فَلَمَّا رَجَعَ وَأصْحَابُهُ مِنَ الْحُدَيْبيَةِ وَلَمْ يَدْخُلُواْ مَكَّةَ، قَالَ الْمُنَافِقُونَ: وَاللهِ مَا حَلَقْنَا وَلاَ قَصَّرْنَا وَلاَ دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. فأنزلَ اللهُ الآيةَ وأخبرَ أنه أرَى رسولَ الله الصِّدقَ في منامهِ، وأنَّهم يدخلونَهُ فقالَ اللهُ: ﴿ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ ﴾؛ يعني العامَ المقبل.
﴿ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ﴾؛ قال أبو عُبيدة: (إنَّ مَعْنَى: إنْ شَاءَ اللهُ) حَيْثُ أُريَ رَسُولَ اللهِ فِي الْمَنَامِ. وقال أبو العبَّاس أحمدُ بن يحيى: (اسْتَثْنَى اللهُ فِيْمَا يَعْلَمُ، ليَسْتَثْنِي الْخَلْقُ فِيْمَا لاَ يَعْلَمُونَ). وَقِيْلَ: معناهُ: بمشيئةِ اللهِ، وقال بعضُهم: هذا اللفظُ حكايةُ الرُّؤيا التي رَآها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وذلك أنَّهُ رأى في المنامِ أنَّ ملَكاً يُنادي: ﴿ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ ﴾.
وَقِيْلَ: إنما كان ذلك تَأدِيباً للعبادِ ليَدخُلوا كلمةَ الاستثناءِ فيما يُخبرونَ عنه في المستقبلِ من نفيٍ وإثبات، قوله: ﴿ آمِنِينَ ﴾؛ أي آمِنين من العدوِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ﴾؛ قَريباً أنَّهم يدخُلون مكَّة إلى أنْ يبلُغوا آخرَ النُّسُكِ.
﴿ لاَ تَخَافُونَ ﴾؛ العدوَّ، بخلافِ عامِ الحديبية. فيه دليلٌ أن الحلقَ والتقصيرَ قُرْبَةٌ في الإحرامِ من حيث إن الإحلالَ يقعُ بهما، وفيه دليلٌ أن المحرِمَ بالخيار عند التحليلِ من الإحرام إنْ شاءَ حَلَقَ وإنْ شاء قصَّرَ. وفي الحديثِ:" أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلاَثاً، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ تَخَافُونَ ﴾ أي لا تخافُون من المشركين.
﴿ فَعَلِمَ ﴾؛ اللهُ ما في تأخيرِ الدُّخول عامَ الحديبيةِ من الخير والصَّلاحِ.
﴿ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ ﴾؛ أنتم.
﴿ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ ﴾؛ أي من قبلِ الدُّخول.
﴿ فَتْحاً قَرِيباً ﴾؛ يعني فتحَ خيبر.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ ﴾؛ أي أرسلَ رسولَهُ بالطريقِ المؤدِّي إلى الجنَّة ودينِ الإسلامِ ليُظهِرَ دينَ الإسلامِ على الأديانِ كُلِّها بالحجَّة والغلَبَة.
﴿ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً ﴾؛ على نبُوَّتكَ ورسالتكَ إنْ لم يشهَدْ سُهَيلُ وأمثالهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ﴾؛ هذا مبتدأ وخبرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ ﴾؛ أي والَّذين معَهُ من المؤمنينِ أشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار، غِلاَظٌ عليهم، والأشِدَّاءُ جمعُ الشَّديدِ، وهو قويُّ في دينِ الله تعالى، القويُّ على أعداءِ الله، كانوا لا يَمِيلُونَ إلى الكفَّار لقَرابَةٍ ولا غيرِها، بل أظهَرُوا لهم العداوةَ في الدينِ، وكانوا على الكفَّار كالأَسَدِ على فرسهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾؛ أي مُتَوادِدُون فيما بينَهم، مُتعَاطِفُون حتى أنَّهم كانوا بعضَهم لبعضٍ كالوالدِ لولدهِ، والعبدِ لسيِّدهِ، وقولهُ تعالى: ﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ﴾؛ أي رَاكعين وساجِدين يُكثرون الصلاةَ للهِ.
﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً ﴾؛ يعني الجنَّةَ، ورضَى اللهِ تعالى. قولهُ: ﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ﴾؛ أي علامةُ التهَجُّد ظاهرةٌ على وجوهِهم من كَثرَةِ السُّجود بالليلِ، والمعنى يتبيَّن في وُجوهِهم أثرُ السَّهَرِ، قال الضحَّاك: (إذا سَهِرَ أصْبَحَ مُصْفَرّاً) وقال عطيَّةُ: (مَوَاضِعُ السُّجُودِ أشَدُّ بَيَاضاً فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ). وقال مجاهدُ: (يَعْنِي الأَثَرُ: الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ). وقال عكرمةُ: (هُوَ التُّرَابُ عَلَى الْجِبَاهِ لأَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَاب لاَ عَلَى الثِّبَاب). وقال الحسنُ في وصفِهم: (إذا رَأيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ مَرْضَى، وَمَا بالْقَوْمِ مَرَضٌ، وَيَقُولُ: لَعَلَّهُمْ خُولِطُواْ فِي عُقُولِهِمْ، وَاللهِ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أمْرٌ عَظِيمٌ). يريدُ بذلك ما في قلوبهم من خوفِ الآخرةِ. وقال بعضُهم: ﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ﴾ هو نورٌ يجعلهُ الله في وجوهِهم يومَ القيامةِ، يُعرَفون بتلك العلامةِ أنَّهم سجَدُوا في الدُّنيا كما قالَ اللهُ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾[آل عمران: ١٠٦]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" تُحْشَرُ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَار الْوُضُوءِ ". وقال منصورُ: (سَأَلْتُ مُجَاهِدَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ﴾ قَالَ: لَيْسَ هُوَ الأَثَرُ الَّذِي يَكُونُ فِي جَبْهَةِ الرَّجُلِ مِثْلَ رُكْبَةِ الْبَعِيرِ، فَقَدْ يَكُونُ ذلِكَ برَجُلٍ هُوَ أقْسَى قَلْباً مِنَ الْحِجَارَةِ، وَلَكِنْ هُوَ نُورٌ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ الْخُشُوعِ). وقال ابن جُريج: (هُوَ الْوَقَارُ)، وقال سَمُرة: (هُوَ الْبَهَاءُ)، وقال سفيانُ: (يُصَلُّونَ باللَّيْلِ، فَإذا أصْبَحُوا عُرِفَ ذلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ؛ بيانهُ قولهُ عليه السلام:" مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ باللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بالنَّهَار "ورُوي في بعضِ الأخبار:" أنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِِيَامَةِ: يَا نَارُ أنْضِجِي، يَا نَارُ أحْرِقِي وَمَوْضِعَ السُّجُودِ لاَ تقرَبي ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ ﴾؛ أي ذلك الَّذي ذكرَهُ في القرآنِ مَن وصفَهم هو ما وُصِفوا به في التَّوراةِ.
﴿ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ ﴾؛ أيضاً، ثم ذكَرَ اللهُ وَصْفَهم في الإنجيلِ: ﴿ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ﴾؛ أي سبيلَهُ، وقال ابنُ زيدٍ: (أوْلاَدَهُ). والشَّطْأُ: فِرَاخُ الزَّرعِ، يقالُ: الشَّطْأُ الزَّرْعُ أنْ يُخْرِجَ سَبْعاً أو ثَمَانياً أو عَشْراً، وهذا مثَلٌ ضربَهُ اللهُ لأصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، يعني أنَّهم يكُونون قَليلاً ثم يَزدَادون ويَكثَرون ويَقْوَوْنَ، قال قتادةُ: (مَكْتُوبٌ فِي الإنْجِيلِ: أنَّهُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ يَنْبُتُونَ نَبَاتَ الزَّرْعِ، يَأْمُرُونَ بالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). قرأ العامَّةُ (شِطْأَهُ) بإسكانِ الطَّاء، وقرأ بعضُ أهلِ مكَّة والشامِ بفَتحِها، وقرأ يحيى بن وثَّاب (شَطْأَهُ) مثل عصَاهُ، وقرأ الجحدري: (شِطْهُ) بلا همزةٍ، وكلُّها لغاتٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَآزَرَهُ ﴾؛ أي أعانَهُ الشَّطْأُ وقوَّاهُ وشَدَّهُ، مأخوذٌ من المؤازرةِ وهي المعاوَنَةُ، والأَزْرُ: الظاهرُ، والوزيرُ الْمُعِينُ، وأعانَهُ الزرعُ، الشطُّ أنْ يَخرُجَ من الشَّطْأ ثمانٌ وتسع وعشرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱسْتَغْلَظَ ﴾؛ أي غَلُظَ ذلك الزَّرعُ وتقَوَّى.
﴿ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ ﴾؛ أي قامَ على قَصَبهِ وسَاوَى الصِّغَارُ والكبارَ حتى استوَى بعضهُ مع بعضٍ، وصارَ الفرعُ مثلَ الأُمِّ. والسُّوقُ: جمعُ سَاقٍ، وهو قصبَةُ الزَّرعِ، وساقُ الشَّجرةِ حاملةُ الشَّجرةِ، ويجوزُ أن يكون المرادُ بالسَّاق: الكَعْبُ، وكلَّما ازدادَ الزَّرعُ كَعْباً ازدادَ قوَّةً، قَوْلُهُ تََعَالَى: ﴿ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ ﴾؛ أي يصيرُ بحالٍ يُعجِبُ الْحُرَّاثَ. وهذا مثَلٌ ضربَهُ اللهُ تعالى لِمُحَمَّدٍ وأصحابهِ، فالزَّرْعُ مُحَمَّدُ صلى الله عليه وسلم، والشَّطْأُ أصحابهُ والمؤمنون حولَهُ، وكانُوا في ضَعْفٍ وقلَّةٍ كما كان أوَّلُ الزرعِ دَقيقاً ثم غَلِظَ وقَوِيَ وتلاحَقَ، وكذلك المؤمنون قَوَّى بعضُهم بعضاً حتى استَغلَظُوا واستوَواْ على أمرِهم.
﴿ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ ﴾؛ أي إنَّما كثَّرَهم وقوَّاهُم ليكونوا غَيظاً للكافرين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾؛ قال الزجَّاجُ: (مِنْهُمْ) لِلْجِنْسِ وَلَيْسَ يُرِيدُ بَعْضَهُمْ، لأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ مُؤمِنُونَ، وَالأَجْرُ الْعَظِيمُ هُوَ الْجَنَّةُ).
Icon