ﰡ
عبادة الله وتسبيحه في جميع الأوقات
تسبيح الله تعالى: وهو التّنزيه عما لا يليق بالله، المعروف في قولهم: «سبحان الله» : هو حقيقة ثابتة مستقرة في الكون والإنسان والحياة، يعلنها الواقع، ويفرضها المنطق، لأن الله سبحانه هو الخالق الرازق، المحيي والمميت، فيكون التسبيح من السماوات والأرض وما فيهما دائما مستمرا، لأن الله تعالى هو الحقيقة الأبدية، والمهيمن على كل شيء في الوجود، والعالم بكل شيء في السماء والأرض، وإليه المرجع والحساب، ويسيّر الكون، ويوجد تعاقب الليل والنهار، وهو على كل شيء قدير. وهذا ما قررته الآيات الآتية في مطلع سورة الحديد المدنيّة بالإجماع:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الحديد: ٥٧/ ١- ٦].
(٢) هو بالغلبة والقهر المستمرّين بالقدرة.
(٣) يدخل.
(٤) يصعد.
(٥) يدخل أحدهما في زمن الآخر.
ولله تعالى المالك المطلق للسماوات والأرض، يتصرّف فيهما وحده، وله السلطان التام، وهو نافذ الأمر، وهو الذي يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، وهو تامّ القدرة على كل شيء، لا يعجزه شيء، كائنا ما كان.
والله هو الأول: الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة، والآخر: الذي ليس له نهاية منقضية، والظاهر: بالأدلة ونظر العقول في صنعته، والباطن: بلطفه وغوامض حكمته، وباهر صفته التي لا تصل إلى معرفتها على ما هي عليه الأوهام والتصورات، وهو بكل شيء عالم علما تامّا، وعموما شاملا.
والله هو الذي أبدع السماوات والأرض في ستة أيام، والأصوب أنها من أيام الدنيا، وأكثر الناس على أن بدء الخلق في يوم الأحد. وعند مسلم: أن البداية في يوم السبت. ثم استوى على العرش استواء يليق بذاته، على نحو يريده، مما لا يعلم به إلا هو، بالقهر والغلبة المستمرين بالقدرة، والعرش، أي الكرسي أعظم المخلوقات، وليس فيه تحديد بمكان أو جهة، ويعلم الله كل شيء، يدخل في الأرض من مطر وأموات وغير ذلك، ويخرج منها من نبات ومعادن وغير ذلك، وما ينزل من السماء من مطر وملائكة وغير ذلك، وما يصعد إلى السماء من الملائكة وأعمال العباد
والله مالك السماوات والأرض، والدنيا والآخرة، وترجع إليه جميع الأمور، وهذا خبر يعمّ جميع الموجودات. وقوله: لَهُ مُلْكُ مكرر مع الآية السابقة للتأكيد.
والأمور ليست جمع المصدر، بل هي جميع الموجودات، لأن الأمر والشيء والموجود أسماء شائعة في جميع الموجودات أعراضها وجواهرها.
والله المتصرّف في الخلق، يقلّب الليل والنهار، ويقدرهما بحكمته كما يشاء، فتارة يطول الليل، ويقصر النهار، وتارة على العكس، وتارة يجعلهما معتدلين متساويين، وتتوالى الفصول الأربعة، بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه، وهو سبحانه يعلم السرائر وضمائر الصدور ومكنوناتها، وإن خفيت، لا يخفى عليه من ذلك خافية، سواء الظاهر منها والباطن. وقوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ تنبيه على العبرة فيما يتفاوت فيه الليل والنهار من الطول والقصر، وذلك متشعب مختلف حسب اختلاف الأقطار والأزمان الأربعة، وذلك بحر من بحار الفكر والتأمل لمن يتأمله.
ويُولِجُ معناه: يدخل، وبِذاتِ الصُّدُورِ ما فيها من الأسرار والمعتقدات، وذلك أغمض ما يكون. وهذا كله حثّ على التأمّل في ملكوت الله، وعلى الشكر على ما أنعم الله، وعلى وجوب تنزيه الله عن كل ما لا يليق بالله.
والخلاصة: هذه الآيات إخبار بتسبيح الله من كل شيء، وبيان موجبات التسبيح وأسبابه، فما أعظم التأمل بالخالق الموجود، وبالكون المخلوق الدّال على الخالق، وما أسعد الإنسان الذي يفكّر في هذا الوجود ليستدلّ به على الرّب المعبود!!
بعد أن أثبت الله تعالى في أوائل سورة الحديد وحدانيته وعلمه وقدرته، بمشاهد السماوات والأرض والأنفس، أعقبها بالأمر ببعض الواجبات، فأمر بالإيمان الخالص بالله تعالى وبرسوله، ثم أوجب على المؤمنين الإنفاق في سبيل الله، وحثّ عليه بمضاعفة الأجر أو الثواب عليه. وأعلمنا بأن آياته الدينية والكونية تخرج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وأن أهل الإيمان يسعى نورهم بين أيديهم إلى جنان الخلد التي تبشّرهم بها الملائكة، كما يتّضح من هذه الآيات:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٧ الى ١٢]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الحديد: ٥٧/ ٧- ١٢].
مطلع الآيات: أمر للمؤمنين بالثبوت على الإيمان والإنفاق في سبيل الله، أي صدّقوا بالله إلها واحدا، وبرسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم رسولا من عند الله، وداوموا على الإنفاق من الأموال، مما جعلكم خلفاء في التّصرف فيه، من غير تملّكه حقيقة،
(٢) آيات واضحات هي آي القرآن.
(٣) هو فتح مكة على المشهور. [.....]
(٤) أي الجنة.
(٥) أي ينفق في سبيل الله تعالى.
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنّسائي وأحمد عن مطرف عن أبيه قال: أتيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يقرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) [التكاثر: ١٠٢/ ١] قال:
يقول ابن آدم، مالي مالي، قال: وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت».
ثم وبّخ الله تعالى على ترك الإيمان بقوله: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ.. أي ما الذي يمنعكم عن الإيمان، والرسول محمد معكم يدعوكم إلى ذلك، فتصدقوا بربّكم، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به، وقد أخذ العهد عليكم في عالم الذّر حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم، إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال، فالآن آمنوا، أو إذا دمتم على ما بدأتم به.
والغاية من إنزال القرآن: أن الله هو الذي أراد بإنزال الآيات الواضحات في القرآن وغيره، أن يخرجكم من ظلمات الجهل والكفر والتناقض، إلى نور الهدى واليقين والسعادة، وإن الله لكثير الرأفة والرحمة بعباده، حيث أنزل الكتب، وبعث الرسل، لهدايتهم.
وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في طاعة الله ومرضاته والجهاد لأجل إعلاء كلمته؟
وكل الأموال والثروات صائرة إلى الله تعالى، إن لم تنفقوها في حياتكم، كرجوع الميراث إلى الوارث، ولا يبقى لكم منه شيء، فالمال مال الله، ولا تساوي بين من أنفق في سبيل الله قبل فتح مكة وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، أولئك الأولون أعظم درجة من الآخرين، لأن حاجة الناس كانت حينئذ أكثر، والعدد أقل
ذكر الواحدي عن الكلبي: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه.
وثمرة الإنفاق تبدو في مضاعفة الثواب، فمن الذي ينفق ماله في سبيل الله، محتسبا أجره عند ربّه؟ فإنه كمن يقرضه قرضا حسنا، والله يضاعف له ذلك القرض، فيجعل له الحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، وله بعد ذلك ثواب كثير الخير والنفع، وهو الجنة.
وحال المؤمنين المنفقين يوم القيامة هو: اذكر أيها النّبي ذلك اليوم حين تنظر المؤمنين والمؤمنات يسعى الضياء الذي يرونه على الصراط يوم القيامة أمامهم، وهو نور حقيقة يعطونه، وتكون كتبهم بأيمانهم، أي أعمالهم الصالحة سببا لنجاتهم، وهدايتهم إلى الجنة، وتبشّرهم الملائكة بالجنات (البساتين) التي تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها على الدوام، تكريما لهم، وذلك هو النجاح العظيم الذي لا مثيل له. فللمؤمنين نور حقيقة يوم القيامة يمنحهم الله إياه، وهذا النور من جميع جهاتهم، فهو كاف بين أيديهم، وعن أيمانهم، وكائن بسبب إيمانهم على قراءة إيمانهم.
حال المنافقين في الآخرة
يظهر الفرق واضحا في الآخرة بين المؤمنين، حيث يعطى كل مؤمن مظهر ومبطن للإيمان نورا، وبين المنافقين حيث يطفى نور كل منافق، ويبقى نور المؤمنين، فيلتمس أهل النفاق عون المؤمنين ومساعدتهم لهم، فيجابون بالخيبة واليأس، لأن النار
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٣ الى ١٥]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [الحديد: ٥٧/ ١٣- ١٥].
يوم يقول المنافقون: متعلّق بآخر الآية السابقة، فالعمل فيه هو قوله تعالى:
ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ «٩»، كأنه تعالى يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا، وهو عند انطفاء أنوارهم، فيقولون للمؤمنين: انتظرونا حتى نتّبعكم ولعلنا نستضيء بنوركم، ونخرج من هذا الظلام الدامس، فيجابون بما يخيب الآمال ويقال لهم من قبل الملائكة أو من المؤمنين:
ارجعوا إلى الدنيا التي تركتموها وراءكم، فالتمسوا النور بما التمسناه به، من الإيمان والعمل الصالح، وهذا تهكّم بهم واستهزاء بطلبهم. وينتهي الحوار بأن يضرب بين المؤمنين وبين المنافقين سور أو حاجز، باطنه، أي جانبه الذي يلي أهل الجنة: فيه الرحمة، وهي الجنة ونعيمها، وظاهره البادي، أي جانبه الذي يلي المنافقين أهل النار، من جهته عذاب جهنم. فالرحمة: الجنة، والعذاب: جهنم.
(٢) نستضيء بنوركم.
(٣) حائط حاجز بين الجنة والنار.
(٤) امتحنتموها بالنفاق وأهلكتموها بالمعاصي.
(٥) توقعتم الدواهي، وشككتم في أمر الله تعالى.
(٦) طول الأمل وامتداد الأجل.
(٧) الشيطان.
(٨) مكان إيوائكم النار هي أولى بكم.
(٩) وقال الزمخشري في الكشاف ٣/ ٢٠١: يوم يقول: بدل من: يوم ترى. وهذا أصوب في تقديري.
ففي هذا اليوم لا يقبل منكم أيها المنافقون فدية تفدون بها أنفسكم من النار أو العذاب، ولا أيضا من الذين كفروا بالله ظاهرا وباطنا، منزلكم الذي تأوون إليه النار، هي أولى بكم من كل منزل، وبئس المصير الذي تصيرون إليه، وهو النار.
وقوله: هِيَ مَوْلاكُمْ قال المفسّرون: معناه: هي أولى بكم، وهذا تفسير بالمعنى، وإنما هي- كما قال ابن عطية- استعارة، لأنها من حيث تضمّهم وتباشرهم هي تواليهم، وتكون لهم مكان المولى، أي الناصر والعون. وعلى هذا، فتكون كلمة مَوْلاكُمْ ظرف مكان بمعنى أنه مكانكم الذي يقال فيه: إنه أولى بكم.
إن هذا الحوار أو النقاش السابق وصفه في الدنيا قبل الآخرة إعجاز قرآني، وإنذار موجه لخير الإنسان، لأنه يبين نوع الجزاء المؤلم، وسببه الذي أدى إليه، فلا يبقى هناك مجال للوم أو الاعتذار، فمن أنذر فقد أعذر، وأدى ما عليه ليتجنب الأسباب المؤدية إلى الهلاك والخسران، في يوم لا تغيير فيه ولا تبديل في القضاء والحكم الحاسم.
الحضّ على خشية الله والصدقات
لا تكفي المقارنة الوصفية أحيانا بين الأشياء والأحوال المتضادّة، مثل وصف جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، لذا كان المولى يتعهد أهل الإيمان بمزيد من التوجيه والنصح والإرشاد والتربية الفاضلة، ليكونوا دائما عنوانا مشرّفا على رسالة الإسلام العظيمة، رسالة الخير والإنقاذ والنجاة للبشرية جمعاء. ومن هذا التوجيه القرآني للمؤمنين: حثّ المؤمنين على ملازمة الخشوع وخشية القلب لمواعظ الله تعالى، وتحذيرهم من التشبه ببعض قساة القلوب الذين قطعوا صلتهم بأنبيائهم، وأهملوا أوامر دينهم ونواهيه، كما يتبين في هذه الآيات:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٦ الى ١٩]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [الحديد: ٥٧/ ١٦- ١٩].
(٢) تخشى وتخاف وتلين.
(٣) الزمن بينهم وبين أنبيائهم. [.....]
(٤) أصبحت قاسية صلبة.
(٥) خارجون عن حدود دينهم.
(٦) الذين قتلوا في سبيل الله، وتشهد لهم الملائكة بالجنة.
في هذه الآية معنى الحضّ والتقريع، قال ابن عباس رضي الله عنهما: عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. والخشوع: اللين والذّلّ لله تعالى، وهو هيئة تظهر في الجوارح (الأعضاء) متى كانت في القلب، فلذلك خصّ الله تعالى القلب بالذكر. والمعنى: ألم يحن الوقت لكي تلين قلوب المؤمنين وترق عند سماع تذكير الله ووحيه؟ أو لأجل ذكر الله وقرآنه، أو لأجل تذكير الله تعالى إياهم وأمره فيهم، فيفهمون المطلوب ويطيعون الآمر والنّاهي وهو الله تعالى.
ولا يتشبهوا بحملة الكتاب الإلهي من قبلهم قبل نزول القرآن، حين طال عليهم الزمان والفجوة بينهم وبين أنبيائهم، فقست قلوبهم بذلك السبب، حتى صاروا لا يتأثرون بالموعظة، ولا بالوعد والوعيد، وبدّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واتّبعوا أهواءهم، وكثير منهم خارجون عن حدود الله وأوامره ونواهيه، فصارت أعمالهم باطلة، وقلوبهم فاسدة.
ثم ضرب الله المثل في تأثير مواعظ القرآن، وهو كما أن الله يحيي الأرض بالنبات والغيث بعد جدبها، قادر على أن يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد الضلال، ببراهين القرآن وأدلته، فقد أوضحنا لكم الآيات والحجج، كي تتدبّروها، وتعقلوا ما فيها من المواعظ، وتعملوا بها.
والثواب كبير على الصدقة في سبيل الله، فإن المتصدقين والمتصدقات بأموالهم على ذوي الحاجة والفقر، ودفعوا المال بنيّة خالصة، ابتغاء رضوان الله، يضاعف لهم الثواب، فتكون الحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ولهم
والذين أقرّوا بوحدانية الله وصدقوا رسله، هم في منزلة الصّديقين، قال مجاهد:
كل من آمن بالله ورسله فهو صدّيق. والصواب أنهم الذين سبقوا إلى الإيمان ورسخوا فيه. والذين استشهدوا في سبيل الله، لإعلاء كلمته ودينه، ولرفع راية الحق والتوحيد وأهله، لهم الثواب العظيم عند ربّهم، والنور الموعود به الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. فقوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ خبر عن الشهداء فقط في قول، وخبر عن المؤمنين المذكورين في أول الآية في أكثر الأقوال. وهذا إشارة لصنفين من المؤمنين: وهم الشهداء والصّدّيقون، والصّنفان الآخران: الأنبياء والصّالحون، وهؤلاء الأربعة هم المذكورون في آية أخرى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النّساء: ٤/ ٦٩].
والصّدّيقون: مبالغة من الصّدق أو من التّصديق، وهم الذين سبقوا إلى الإيمان ورسخوا فيه.
والذين أنكروا وجود الله، وجحدوا وحدانيته، وكذبوا آياته وبراهينه الدالة على ألوهيته الحقّة، وصدق رسله، أولئك لا غيرهم أصحاب النار خالدين فيها أبدا.
وهذا حال الأشقياء، بعد التعرف على حال السعداء.
حال الدنيا وحقيقة الآخرة
زهّد القرآن الكريم بالدنيا حتى لا تطغى على العمل للآخرة، ولأنها فانية زائلة، وأوضح حقيقة الآخرة، حتى يقبل العالم على الإيمان بها والإعداد لها، ولأنها خلود دائمة، والخالد أبقى وأجدى، فيفضل على المؤقت الزائل، ويحرص العقلاء أهل
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الحديد: ٥٧/ ٢٠- ٢١].
هذه آية وعظ وتبيين لأمر الدنيا وضعة منزلتها، والتعريف بحقيقة الآخرة ورفعة مكانتها للمؤمنين العاملين، وشدة عذابها للأشقياء الضّالين.
اعلموا أيها الناس جميعا أن الحياة الدنيا مجرد لعب ليس فيها جدّ يدوم، ولهو يتلهى به ثم يزول، وزينة يتزين بها مؤقتا ثم يذهب، ومفخرة يتفاخر بها، وتكاثر في الأموال والأولاد ثم ينتهي من غير أثر. والحياة الدنيا في هذه الآية: عبارة عن الأشغال والتصرفات والأفكار المختصة بالدنيا، المجردة عن أي عمل صالح للآخرة.
واللعب واللهو شيء واحد، أو إن اللعب: ما لا فائدة فيه، واللهو: ما يشغل الإنسان عما يعنيه. والزينة: التحسين الخارج عن ذات الشيء. والتفاخر: التباهي بالأنساب والأموال وغيرها. والتكاثر: هو الرغبة في الدنيا ومظاهرها وألوانها وعددها، ليعتز بها الكاثر على من دونه.
والدنيا بهذه الأوصاف سبب البعد عن الدين، فهي التي يؤثرها ضعفاء النفوس
(٢) الزّراع.
(٣) يتحرك وينمو.
(٤) هشيما متكسّرا من اليبس.
(٥) تمتع الخديعة لمن أقبل عليها ونسي الآخرة.
والكفار هنا: الزّراع، لأنهم يكفرون، أي يسترون البذر في الأرض.
ونظير الآية كثير في القرآن، مثل قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ.. [يونس: ١٠/ ٢٤].
ثم حذّر القرآن من أمر الدنيا، ومن مخاطر ومهالك العذاب في الآخرة، ورغّب في الاستعداد للظفر بالجنة والمغفرة والرضوان، فليس في الآخرة إلا أمران: إما عذاب شديد لأعداء الله والرّسل، وإما مغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته. وما الحياة الدنيا إلا مجرد متاع يتمتع به، وخديعة لمن يغتر بها، ولم يعمل لآخرته. وقوله:
مَتاعُ الْغُرُورِ معناه الشيء الذي لا يعظّم الاستمتاع به إلا مغتر.
والآخرة: مجال التّسابق في الخيرات والمبرات، لذا قال الله تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ.. أي بادروا إلى ما يوجب المغفرة لكم من ربكم من الأعمال الصالحة والإيمان المنجي، وإلى ما يوصل إلى جنة عرضها مثل عرض السماء والأرض معا، وقد عبّر عن المساحة بالعرض، ولم يقصد أن طولها أكثر ولا أقل. وهذه الآية حجة عند جميع العلماء في الندب إلى الطاعات. وقوله: سابِقُوا معناه: كونوا في أول صف المسابقة في الجهاد وغيره من الطاعات والفرائض.
هذه الجنة أعدت وخلقت للذين صدقوا بالله ورسله، وعمل بما فرض الله عليه، واجتنب نهيه. وهذا دليل على أن الجنة مثل النار مخلوقة الآن معدّة لأهلها.
ألا إن الجنة غالية الثمن، وثمنها سهل بسيط وهو الإيمان والعمل الصالح والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، فتلك غراسها الطيبة.
المصيبة والقدر ونظام الحياة
الإسلام دين إيجابي وتنظيمي في آن واحد، وإيجابيته ظاهرة في العقيدة، خلافا لتصوّر الجهلة والعوام السّذّج، فإن من آمن بالقدر لا يعني اتّكاله على المقدّر، لأنه يجهل ذلك، وإنما يكون إيمانه بالقدر مبعث الإقدام والجرأة والشجاعة، فلا يهاب الموت إذا قاتل العدو، لأن الموت لا يتقدم ولا يتأخر، وأن الإقدام لا يقتل، وإذا أنفق في سبيل الله، فلا يخشى الفقر، لأنه يوقن بأن الرازق هو الله، وأن الجود أو السخاء لا يفقر. والحياة منظمة بقانون إلهي شامل مبني على العلم والوعي والتخطيط، وإعداد القوة، والعدل في الحكم، ومجاهدة النفس من أجل صلاح النفس والمجتمع، وجهاد العدو الخارجي الذي لا يفهم بغير القوة. وهذه آيات تدلّ على الإيجابية واحترام نظام الحياة:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٥]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥»
(٢) نخلقها.
(٣) تحزنوا.
(٤) متكبّر، مباه بماله أو جاهه.
(٥) بالحجج الواضحات والبراهين والمعجزات.
لا توجد مصيبة من خير أو شر في الدنيا، سواء في الأرض كالقحط والجدب، أو الغلاء وغير ذلك، أم في الأنفس كالأمراض والموت والفقر، وذهاب الأولاد وغير ذلك، إلا وهي مسطرة أو مدونة في اللوح المحفوظ، من قبل إيجاد الخليقة، إن ٧ ثباتها في اللوح المحفوظ مع كثرتها والعلم بها قبل وجودها سهل يسير على الله، غير عسير، لأن الله هو الخالق، وهو أعلم بما خلق، يعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون إلى يوم القيامة. وخصّ الكلام بالمصيبة لأنها أهم على البشر، وهي بعض الحوادث، فدلّ على أن جميع الحوادث خيرها وشرها معلوم عند الله، مدوّن في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، أي إن الكتاب السابق أزلي قبل هذه الأشياء كلها، وإن تحصيل هذه الأشياء كلها في كتاب.
أخبرناكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم في الدنيا، ولا تفرحوا فرح بطر وأشر بما هو آت، فلا تأسوا على ما فاتكم، لأنه لو قدّر شيء لكان، ولا تفرحوا بما جاءكم أو أعطاكم، فذلك كله من قدر الله ورزقه لكم، إن الله يعاقب كل مختال في نفسه، أي متكبّر، فخور على غيره، مباه بماله أو جاهه.
والمختال غالبا يكون بخيلا، لذا ذكر الله خصال البخلاء، فهؤلاء البخلاء الفخورون: هم الذين يبخلون عادة بأموالهم وإيمانهم وغير ذلك، فلا يؤدون حقّ الله فيها، ولا يواسون فقيرا، بل إنهم يطلبون من غيرهم إمساك المال، ويرغّبون الناس بالبخل بما يملكون، حتى يجعلوا لهم أشباها وأمثالا، ومن يعرض عن
(٢) الحق والتعادل.
إعراب: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ على مذهب الأخفش: صفة لكلمة كل في قوله: كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم الذين يبخلون، أو مبتدأ وخبره محذوف معناه الوعيد والذّم، وحذفه للإبهام.
ثم أوضح الله تعالى الغرض من بعثة الرّسل وهو تنظيم شؤون الحياة، فقال:
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ.. أي تالله لقد أرسلنا رسلنا الملائكة إلى الأنبياء بالوحي، وبعثنا الأنبياء بالمعجزات البيّنة والحجج الواضحات، وأنزلنا معهم الكتاب، أي جنس الكتاب الشامل لكل كتاب سماوي كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن، وأنزلنا معهم الميزان، أي العدل في الأحكام، أي أمرناهم به، ليتبع الناس ما أمروا به من الحق والعدل، وتقوم حياتهم عليه، فيتعاملوا بينهم بالإنصاف في جميع أمورهم الدينية والدنيوية.
وخلقنا الحديد وبقية المعادن، وجعلناه رادعا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه، ففيه قوة رادعة، وفيه منافع للناس ينتفعون به في كثير. من حاجاتهم ومعايشهم، كأدوات الطعام، ومرافق المنازل وحياة الإقتصاد، وصناعة السلم والحرب وغير ذلك.
وهناك مضمر بعد قوله: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ تقديره: لينتفع الناس، وذلك مقدمة لما أظهره بعدئذ وهو وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ليدلّ على أن هذا هو المقصود.
إنما شرع الله ذلك ليعلم علم مشاهدة ووجود من ينصر دينه ورسله بإخلاص، باستعمال الحديد في أسلحة الجهاد ومقاومة الأعداء، إن الله قوي قادر، عزيز قاهر غالب، يستطيع دفع عدوان الظالمين، وينصر رسله والمؤمنين من غير حاجة إليهم.
وحدة أصول الشرائع
أرسل الله تعالى الرسل بالبيّنات والمعجزات لمهام عظمي، لإقامة نظام المجتمع القوي المتين الفاضل، بالكتاب الإلهي، والعدل، وصلابة الموقف وازدهار الصناعة، ثم أتبع ذلك ببيان وحدة الرسالات الإلهية والنّبوات والشرائع في أصولها من عهد نوح وإبراهيم، ثم موسى وعيسى عليهم السّلام، إلى عهد خاتم النّبيين صلوات الله وسلامه عليه، وهذا واضح في الآيات الآتية:
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
«١» «٢» «٣» [الحديد: ٥٧/ ٢٦- ٢٩].
المعنى: تالله لقد بعثنا نوحا أبا البشر الثاني إلى قومه، وإبراهيم أبا الأنبياء إلى قوم
(٢) هي المبالغة في العبادة واعتزال الناس.
(٣) نصيبين وحظّين.
يعني الكتب الأربعة، فإنها جميعا في ذرّية إبراهيم عليه السّلام. وذكر نوح وإبراهيم تشريف لهما، وبيان نعم الله عليهما، ثم على ذرّيّتهما. ومع ذلك من ذرّيتهما من فسق وعاند، وهم الكثيرون، ومنهم المهتدون الطائعون. وهذا يدلّ على أن الانحراف عن جادة الحق، كان بعد التمكّن من معرفته.
ثم أتبعنا بعدهم في الزمان رسلنا، واحدا بعد الآخر، ثم خصّ الله تعالى عيسى ابن مريم بالاتباع تشريفا له، ولشهرته في عصر التنزيل القرآني، وأن الله آتاه الإنجيل، وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه، متضمنا أصول شرعه، ومكملا للتوراة، وموضحا حقيقة الشريعة. ومن صفات عيسى عليه السّلام: أن الله جعل في قلوب أتباعه الخلّص: وهم الحواريون وأنصارهم رقّة في الطبع، ورحمة بالخلق، خلافا لليهود القساة، لكنهم ابتدعوا الرهبانية من جهة أنفسهم: وهي الانقطاع للعبادة ورياضة الروح واعتزال الناس، ولم يشرعها الله لهم ولم يأمرهم بها، ولكنهم قصدوا من ذلك ابتغاء رضوان الله، وكان مآلهم أمرين: أولهما- أنهم ابتدعوا في دين الله ما لم يأمر الله به، والثاني- أنهم لم يقوموا بحقّ ما التزموه، ولم يراعوا كونه قربة لله عزّ وجلّ، ولم يرعوه حق الرعاية، بل غيّروا وبدّلوا، فأعطينا المؤمنين منهم إيمانا صحيحا ثوابهم الذي يستحقونه بالإيمان، وكثير من هؤلاء المترهبين فاسقون خارجون عن حدود الله وطاعته، يأكلون الأموال بالباطل، وينحرفون في سلوكهم.
وناسب ما ذكر: الاتّعاظ والإعتبار وبيان ثواب المؤمنين بعيسى ومحمد عليهما الصّلاة والسّلام، فقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ.. أي يا أيها الذين صدّقوا بوجود الله ووحدانيته، وصدّقوا رسوله من مؤمني أهل الكتاب:
اليهود والنصارى، خافوا الله تعالى، بترك ما نهاكم عنه، وأداء ما أمركم به، وآمنوا
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما نزلت: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص: ٢٨/ ٥٤] فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: لنا أجران، ولكم أجر، فاشتد ذلك على الصحابة، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ.. الآية، فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب، وزادهم النور.
ثم ردّ الله تعالى على اليهود الذين زعموا اختصاص النّبوة فيهم، فقال: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ.. أي اتّقوا الله وآمنوا، يؤتكم الأمور الثلاثة المتقدمة (وهي مضاعفة الأجر، وإيتاء النور، وغفران الذنوب) ليعلم ويتحقق الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على ردّ ما أعطى الله لرسوله، ولا إعطاء ما منع عنه، وهم عاجزون من أن ينالوا شيئا من فضل الله الذي تفضّل به على المستحقين له، كالنّبوة والرسالة وغيرهما، وأن الفضل محصور بيد الله، ومنه النّبوة والعلم والتقوى، يعطيه من يشاء، والله واسع الفضل، كثير العطاء والخير لمن يشاء من عباده. والمراد: أن إيمان أهل الكتاب بكتابهم ورسولهم لا يكفي، ما لم يؤمنوا بالنّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
أخرج ابن جرير عن قتادة قال: بلغنا أنه لما نزلت: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ حسد أهل الكتاب المسلمين عليها، فأنزل الله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الآية.