ﰡ
﴿ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ﴾؛ أي فأَتَاهم أمرُ اللهِ من حيث لم يظُنُّوا أن ينْزِل بهم ما نزلَ من قتلِ كعب ابن الأشرف وقَتلِهم وإجلائِهم ونصرِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم من حيث لم يتوهَّمَ القومُ.
﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ ﴾؛ بقتلِ سيِّدِهم كعبَ بن الأشرف، وكان ذلك أعظمُ شيءٍ عليهم إذ أتاهم ما لم يظُنُّوه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ وذلك أنَّهم لَمَّا أيقَنُوا بالجلاءِ حَسَدُوا المسلمين أن يَسكُنوا منازلَهم، فجعلوا يُخَرِّبونَها من داخلِ، والمسلمون يُخرِّبونَها من خارجِ. وَقِيْلَ: إنَّهم كانوا يَهدِمُونَها من داخلِ بأيديهم ليَرمُوا المسلمين بأحجَارها، ويَهدِمُها المؤمنون ليتمَكنَّوا من قتالِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ ﴾؛ معناه: فَليَعتَبرْ بما أصابَ بني النضير كلُّ مَن له بصرٌ بأمرِ الله، ولينظر إلى عاقبةِ الكُفرِ والغدر والطَّعنِ في النبُوَّة، وليحذرْ كلُّ قومٍ من الكفَّار مثلَ صنيعِ بني النضير. والمعنى: تدبَّرُوا وانظروا فيما صنع، نزلَ بهم يا أهلَ البيتِ والعقل والبصائرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ ﴾، قرأ العامَّة بالتخفيفِ من الإخْرَاب؛ أي يَهِدِمُونَها، وقرأ الحسنُ وأبو عمرٍو (يُخَرِّبُونَ) بالتشديد من التَّخريب، قال أبو عمرٍو: وإنما اخترتُ التشديدَ؛ لأنَّ الإخرابَ تركُ الشيءِ خَراباً بغيرِ ساكنٍ، وبنو النضير لم يترُكوا منازلَهم فيرتَحِلُوا عنها، ولكنَّهم خرَّبُوهَا بالنقض والهدمِ. وقال بعضُهم: التخريبُ والإخرابُ بمعنى، قال الزهريُّ: (وَذلِكَ أنَّهُمْ لَمَّا أيْقَنُوا بالْخُرُوجِ كَانُوا يَهْدِمُونَ أعْمِدَةَ بُيُوتِهِمْ وَيَنْتَزِعُونَ الْخَشَبَ وَالاَلاَتِ وَيَنْقُضُونَ السُّقُوفَ وَيَنْقُبُونَ الْجِدَارَاتِ وَيَقْتَلِعُونَ الْخَشَبَ حَتَّى الأَوْتَادَ لِئَلاَّ يَسْكُنَهَا الْمُسْلِمُونَ حَسَداً وَبَغْضَاءً، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخَرِّبُونَ مَا بَقِيَ مِنْ بنَائِهِمْ). وقولهُ تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾؛ معناهُ: لولا أنْ قضَى اللهُ عليهم في اللَّوح المحفوظِ بالانتقال والخروجِ من أوطانِهم إلى الشَّام وخيبرَ لعَذبَهم في الدُّنيا بالقتلِ والسَّبي كما فعلَ ببني قُريظة.
﴿ وَلَهُمْ ﴾؛ مع ما أصابَهم في الدُّنيا.
﴿ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ ﴾؛ ولكنْ عَلِمَ اللهُ أن الجلاءَ أصلحُ. وقولهُ تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾؛ أي ذلكَ الجلاءُ والعذابُ بأنَّهم خالَفُوا أولياءَ اللهِ وأخذُوا في شِقٍّ غيرِ شِقِّ أولياءِ الله ورسولهِ.
﴿ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ ﴾؛ ومَن يخالفِ اللهَ ورسولَهُ في الدِّين ففَعَلَ فِعْلَ هؤلاءِ.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾؛ له في الدُّنيا والآخرةِ.
﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ إنما كان ذلك بتسليطِ الله تعالى نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم، واللهُ يُمَكِّنُ رُسُلَهُ صلواتُ الله عليهم من أعدائهِ بغيرِ قتالٍ، واللهُ على كلِّ شيءٍ من النَّصرِ والغنيمةِ قادرٌ. والضميرُ في قوله ﴿ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ أي على ما أفاءَ اللهُ، والإيجافُ الإسراعُ والإزعاجُ للسَّير، يقالُ: أوجفَ السَّيرَ، وأوْجَفْتُهُ أنَا، والوَجِيفُ: نوعٌ من السَّيرِ فوق التَّقريب، ويقال: وَجَفَ الفرسُ والبعير يَجِفُ وَجْفاً إذا أسرعَ السَّيرَ، وأوْجَفَهُ صاحبهُ إذا حملَهُ على السَّير السريعِ. ومعنى الآية: ﴿ وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ﴾ من مالِ بني النَّضيرِ ﴿ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ أي فما وضَعتُم عليه من خيلٍ ولا إبل ولم تنَالُوا فيه مشقَّةً ولم تلقَوا حَرباً وإنما مَشَيتُم إليه مَشْياً، إلاَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه رَكِبَ جَملاً فافتَتَحها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأجْلاَهُم وأخذ أموالَهم. فسألَ المسلمون النبيَّ صلى الله عليه وسلم في القِسْمَةِ في تلك الأموالِ، فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ، فجعلَ أموالَ بني النضير خاصَّة لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يضعُها حيث يشاء، فقسَمَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرِين ولم يُعْطِ الأنصارَ منها شيئاً، إلاَّ ثَلاثةَ نفرٍ كانت لهم حاجةٌ، وهم: أبُو دُجَانَةَ؛ وسَهلُ بن حنيف؛ والحارثُ بن الصِّمَّةِ. وعن عمرَ رضي الله عنه: (أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أهْلِهِ مِنْ مَالِ بَنِي النَّضِيرِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكِرَاعِ وَالسِّلاَحِ عُدَّةً فِي سَبيلِ الله؛ لأَنَّهُ مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَلَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ بخَيْلٍ وَلاَ ركَابٍ، فَكَانَ خَالِصاً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم). وأرادَ بهذا ما كان يحصلُ من غُلَّةِ أراضِيهم في كلِّ سنةٍ. وفي هذه الآيةِ دلالةٌ على أنَّ كلَّ مالٍ من أموالِ أهلِ الشِّرك لم يغلِبْ عليه المسلمون عُنوَةً وإنما أُخِذ صُلْحاً أنْ يُوضَعَ في بيتِ مالِ المسلمين ويُصرَفَ إلى الوجُوهِ التي تُصرَفُ فيها الجزيةُ والْخَرَاجُ؛ لأن ذلك بمنْزِلَة أموالِ بني النضيرِ.
﴿ فَخُذُوهُ ﴾؛ فهو حلالٌ لكم.
﴿ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ ﴾؛ أي عن أخذهِ.
﴿ فَٱنتَهُواْ ﴾؛ وهذا نازلٌ في أمرِ الفيءِ، ثم هو عامٌّ في كلِّ ما أمَرَ اللهُ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم ونَهى عنه، قال الحسنُ في قولهِ: ﴿ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ﴾: (يَعْنِي مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنَ الْغَلُولِ). وقولهُ تعالى: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾؛ معناهُ: اتَّقوا عذابَ اللهِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾؛ إذا عاقبَ فعقوبتهُ شديدةٌ.
﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي رزْقاً يأتيهم.
﴿ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾؛ رضَى ربهم حين خرَجُوا إلى دار الهجرة ينصرون الله ورسوله.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ ﴾؛ في إيمانِهم. والمعنى بقوله ﴿ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ ﴾ بيانُ المحتاجِين المذكورين في الآيةِ التي قبلَ هذه الآيةِ، كأنَّهُ قال: لهؤلاءِ الفقراء المحتاجِين ما تقدَّمَ ذِكرهُ من الفَيءِ، وكانوا نحواً من مائةِ رجُلٍ، وكانوا شَهِدُوا بَدراً أجمعين، ولذلك أثْنَى اللهُ عليهم بقوله ﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً ﴾ أي يطلُبون بتلك الهجرةِ ثوابَ الله ورضوانَهُ، وينصُرون بالسِّيف والجهادِ أولياءَ اللهِ وأولياءَ رسُولهِ.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ ﴾ في الإيمان وطلب الثَّواب.
﴿ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً ﴾؛ ضِيقاً وحسَداً.
﴿ مِّمَّآ أُوتُواْ ﴾؛ مما أُعطِيَ المهاجرين من الغنائِم. ومعنى الآيةِ: ﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ ﴾ يعني المدينةَ، وهي دارُ الهجرةِ، وتبَوَّأها الأنصارُ قبلَ المهاجرِين. وتقديرُ الآية: والَّذين تَبوَّءوا الدارَ مِن قبلِهم والإيمانَ؛ لأن الأنصارَ لم يُؤمِنوا قبلَ المهاجرِين، وعطفُ (الإيْمَانَ) على (الدَّارَ) في الظاهرِ لا في المعنى؛ لأنَّ الإيمان ليس بمكانِ تَبَوَّءٍ. والتقديرُ: وآثَرُوا الإيمانَ واعتقَدُوا الإيمانَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾؛ معناهُ: ويُؤثِرُون المهاجرِين على أنفُسِهم بأموالِهم ومنازلهم، ولو كان بهم فقرٌ وحاجة إلى الدار والنَّفقةِ، بيَّن اللهُ أن إيثارَهم لم يكن عن غِنًى عن المالِ ولكن عن حاجةٍ، فكان ذلك أعظمَ لأجرِهم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي؟ فَبَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى أحَدِ أزْوَاجِهِ: " هَلْ عِنْدَكُنَّ شَيْءٌ؟ " فَكُلُّهُنَّ قُلْنَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ مَا عِنْدَنَا إلاَّ الْمَاءُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا يُطْعِمُكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ " ثُمَّ قَالَ: " مَنْ يُضِيفُ هَذا هَذِهِ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ؟ ". فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ، - قالَ في صحيحِ مُسلم: هُوَ أبُو طَلْحَةَ، وَقِيْلَ: أبُو أيُّوبٍ، والضَّيْفُ أبُو هريرةَ - فَمَضَى بهِ إلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ لأَهْلِهِ: هَذا ضيْفُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكْرِمِيهِ وَلاَ تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئاً، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إلاَّ قُوتُ الصِّبْيَةِ، قَالَ: قُومِي فَعَلِّلِيهِمْ عَنْ قُوتِهِمْ حَتَّى يَنَامُوا، ثُمَّ أسْرِجِي وَأحْضِرِي الطَّعَامَ، فَإذا قَامَ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قُومِي كَأَنَّكِ تُصْلِحِينَ السِّرَاجَ فَأَطْفِئِيهِ، وَتَعَالَي نَمْضُغْ الْسِنَتَنَا لِضَيْفِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَشْبَعَ. فَقَامَتْ إلَى الصِّبْيَةِ فَعَلَّلَتْهُمْ حَتَّى نَامُوا وَلَمْ يَطْعَمُوا شَيْئاً، ثُمَّ قَامَتْ فَأَسْرَجَتْ، فَلَمَّا أخَذ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ السِّرَاجَ فَأَطْفَأَتْهُ، وَجَعَلاَ يَمْضُغَانِ ألْسِنَتَهُمَا، فَظَنَّ الضَّيْفُ أنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ مَعَهَُ، فَأَكَلَ الضَّيْفُ حَتَّى شَبعَ، وَبَاتَا طَوِيَّيْنِ. فَلَمَّا أصْبَحَا غَدَوا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِمَا تَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ: " لَقَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنَةٍ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ ". وقال أنسٌ رضي لله عنه: (أُهْدِيَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ رَأسَ شَاةٍ مَشْوِيَّةٍ وَكَانَ مَجْهُوداً، فَقَالَ: لَعَلَّ جَاري أحْوَجُ إلَيْهِ مِنِّي، فَبَعَثَ بهِ إلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ جَارَهُ قَالَ مِثْلَ ذلِكَ، فَوَجَّهَ بهِ إلَى جَارٍ لَهُ، فَتَدَاوَلَهُ تِسْعَةُ أنْفُسٍ حَتَّى رَجَعَ إلَى الأَوَّلِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ ). ويُحكى عن أبي الحسنِ الأنطاكيِّ: أنه اجتمعَ عندَهُ نَيِّفٌ وثلاثون رجُلاً بقريةٍ من قُرى الريِّ ومعَهم أرغفةٌ قليلة لم تُشبعْ جوعَتَهم، فكسَّروا الرِّغفَانَ وأطفَأُوا السِّراجَ وجلَسُوا ليأكلُوا، فلمَّا رفعَ فإذا الطعامُ بحالهِ لم يأكُلْ منه أحدٌ إيْثَاراً لصاحبهِ على نفسهِ. ويُحكى عن حذيفةَ العدويِّ قال: (انْطَلَقْتُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أطْلُبُ ابْنَ عَمٍّ لِي وَمَعِي شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَإذا أنَا بهِ فَقُلْتُ: أسْقِيكَ؟ فَأَشَارَ: أيْ نَعَمْ، فَإذا رَجُلٌ يَقُولُ: آهٍ، فَأَشَارَ ابْنُ عَمِّي أنْ انْطَلِقَ بهِ إلَيْهِ، فَإذا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، فَقُلْتُ: أسْقِيكَ؟ فَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ: آهٍ، فَأَشَارَ هِشَامُ: أنِ انْطَلِقْ بهِ إلَيْهِ، فَإذا هو قَدْ مَاتَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إلَى هِشَامٍ فَإذا هُوَ قَدْ مَاتَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إلَى ابْنِ عَمِّي فَإذا هُوَ قَدْ مَاتَ). ويحكى عن أبي يزيدٍ البسطاميِّ قال: " مَا غَلَبَنِي إلاَّ شَابٌّ مِنْ أهْلِ بَلَخٍ قَدِمَ عَلَيْنَا حَاجّاً، فَقَالََ لِي: يَا أبَا يَزِيدٍ مَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ؟ قُلْتُ: إذا وَجَدْنَا أكَلْنَا، وَإذا فَقَدَْنَا صَبَرْنَا. قَالَ: هَكَذا عِنْدَنَا كِلاَبُ بَلَخٍ! فَقُلْتُ: مَا حَدُّّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: إذا فَقَدْنَا صَبَرْنَا، وَإذا وَجَدْنَا آثَرْنَا). وسُئل ذو النونُ عن الزُّهد فقالَ: (ثَلاَثٌ: تَفْرِيقُ الْمَجْمُوعِ، وَتَرْكُ الْمَفْقُودِ، وَالإيْثَارُ عِنْدَ الْقُوتِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾؛ أي مَن يدفَعُ عنه غائلةَ نفسهِ وحرصَ النفسِ حتى تطيبَ نفسهُ بذلك، فأُولئك همُ النَّاجُونَ السُّعداء، الباقون في الآخرةِ. والشُّحُّ في الآخرة: منعُ النَّفعِ، وأمَّا في الدُّنيا فهو منعُ الواجب، وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:" بَرِئَ مِنَ الشُّحِّ مَنْ أدَّى زَكَاةَ مَالِهِ، وَأقْرَى الضَّيْفَ، وَأعْطََى فِي النَّائِبَةِ "وقال سعيدُ بن جبير: (شُحُّ النَّفْسِ هُوَ أخْذُ الْحَرَامِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ). وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقالَ: لَقَدْ خِفْتُ أنْ لاَ تُصِيبَنِي هَذِهِ الآيَةُ ﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾ وَاللهِ مَا أقْدِرُ أُعْطِي شَيْئاً أُطِيقُ مَنْعَهُ، فَقَالَ عَبْدُاللهِ: (إنَّمَا ذلِكَ الْبُخْلُ وَبئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلُ، وَلَكِنَّ الشُّحَّ أنْ تَأْخُذ مَالَ أخِيكَ بغَيْرِ حَقِّهِ). وعن أبي هريرةَ قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" لاَ يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإِيْمَانُ فِي قَلْب رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ مُسْلِمٍ قَطُّ ". واختلفَ العلماءُ في الشُّحِّ والبُخلِ، فقال بعضُهم: هما واحدٌ، وهو منعُ الفَضْلِ. وقال بعضُهم: بينهما فَرْقٌ، والبخلُ أنْ يبخلَ الرجلُ بما في يدهِ، والشحُّ أن يبخلَ بما في أيدِي الناسِ. وعن جابرِ بن عبدِالله قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" اتَّقُوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ أنْ سَفَكُوا الدِّمَاءَ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارمَهُمْ ". وعن أبي الْهَيَّاجِ الأسديِّ قال: " كُنْتُ أطُوفُ بالْبَيْتِ، فَرَأيْتُ رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي، لاَ يَزِيدُ عَلَى ذلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ فِي ذلِكَ، فَقَالَ: إذا وُقِيتُ شُحَّ نَفْسِي لَمْ أسْرِقْ وَلَمْ أزْنِ، وَإذا الرَّجُلُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ). ويُحكى أنَّ كسرَى قال لأصحابهِ ذاتَ يومٍ: أيُّ شيءٍ أضرُّ بابنِ آدمَ؟ قالوا: الْفَقْرُ، فقال كسرى: والشُّحُّ أضرُّ من الفقرِ؛ لأن الفقيرَ إذا وجدَ شَبعَ، وإن الشحيحَ لا يشبعُ أبداً.
﴿ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾؛ وهم بنُو قريظةَ وبنو النضِير، سَمَّاهم إخوَانَهم لأنَّهم كفارٌ مثلَهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ ﴾؛ أي لئن أخرِجتُم من دياركم؛ أي لغربة ﴿ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ﴾؛ أي لا نُسَاكِنُ مُحَمَّداً.
﴿ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً ﴾؛ ولا نطيعهُ على قتالِكم.
﴿ وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ﴾؛ فإنْ قاتَلَكم مُحَمَّدٌ وأصحابهُ، لنُعاونَنَّكم عليه حتى تكون أيدِينا يَداً واحدةً في المقاتَلة حتى نغلِبَهم، وعَدُوهُمْ أنَّهم ينصرونَهم، فكذبَهم اللهُ في ذلك بقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ في مُقاتَلتِهم، وقد بانَ كذِبهُم في ما نزلَ ببني النَّضيرِ من الجلاءِ وفيما أصابَ بني قريظةَ من القتلِ. ثم ذكرَ اللهُ أنَّهم يُخلِفُونَهم ما وَعَدُوهم من الخروجِ والنصرِ، فقال تعالى: ﴿ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ ﴾؛ فكان الأمرُ على ما ذكرَ اللهُ تعالى؛ لأنَّهم أُخرِجُوا من ديارهم فلم يخرُجْ معهم المنافقون، وقُوتِلُوا فلم يَنصُرونهم أظهرَ اللهُ كَذِبَهم وأبانَ صِدْقَ ما قَالَ اللهُ تَعَالَى. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾؛ معناهُ: ولئن قُدِّرَ وجودُ نصرِهم؛ لأن ما نفاهُ الله لا يجوزُ وجودهُ، قال الزجَّاجِيُّ: (مَعْنَاهُ: لَوْ قَصَدُوا نَصْرَ الْيَهُودِ لَوَلَّوا الأَدْبَارَ مَهْزُومِينَ). ﴿ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾ يَعْنِي بَنِي النَّضير لا يُصِيرون مَنصُورين إذا انْهزَمَ ناصِرُوهم.
﴿ ذَلِكَ ﴾؛ الخوفُ الذي بهم منكم دونَ اللهِ.
﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾؛ لاَ يعرِفُون اللهَ تعالى، ولو عَرفوهُ لعَلِمُوا أنَّ عقوبةَ اللهِ أعظمُ مما عساهُ يقع بهم من فعلِ المؤمنين. وفي هذه الآيةِ بيانُ أنَّهُ لا ينبغِي لأحدٍ أنْ يكون خَوفهُ من الناسِ أزيَدُ من خوفهِ من اللهِ تعالى، وإنَّ من زادَ خوفهُ من أحدٍ من الناسِ على خوفهِ من اللهِ فليس بفَقِيهٍ، إنما الفقيهُ من يخشَى اللهَ كما في آيةٍ أخرى﴿ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ ﴾[فاطر: ٢٨]، والفقهُ: الْعِلْمُ بمفهومِ الكلامِ في إدراكِ ظَاهرهِ بمضمونهِ، والناسُ يتفَاضَلون في الإدراكِ لاختلافِهم في جَوْدَةِ القريحةِ وسُرعَةِ الفطنةِ.
﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً ﴾؛ أي تحسَبُهم متَّفقين على أمرٍ واحد بنِيَّات مجتمعةٍ إذا قاتَلُوا المؤمنين.
﴿ وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ﴾؛ أي متفرِّقةٌ لا يتعاوَنون لمعاداةِ بعضهم بعضاً، وإنْ أظهَرُوا الموافقةَ، والمعنى: أنَّهم مختَلِفُون لا تستوِي قلوبُهم ولا نيَّاتُهم لأنَّ اللهَ خذلَهم.
﴿ ذَلِكَ ﴾؛ الاختلافُ.
﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾؛ ما فيه الحظُّ لهم ولا يعقِلُون الرُّشدَ من الغيِّ.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾؛ في الآخرةِ.
﴿ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ ثم ذهبَ عنه وتركَهُ فقُتِلَ. فضربَ اللهُ هذا مَثلاً لبني قريظةَ والنضير والمنافقين من أهلِ المدينة، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أمرَ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أن يُجْلِي بني النضِير فدسَّ إليهم المنافقون أن لا يُجِيبُوا مُحَمَّداً إلى ما دعَاكُم ولا تَخرُجوا من دياركم، فإن قاتَلُوكم كنَّا معَكم، وإنْ أخرَجَكم خَرَجنا معكم، فأطَاعُوهم فدَرَبوا على حُصونِهم وتحصَّنوا في دورهم، فجاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحارَبَهم فناصَبوهُ الحربَ يرجُونَ نُصرةَ المنافقين، فخذلُوهم وتبرَّؤُا منهم كما يترَّأ الشيطانُ من برصيصا وخذلَهُ.
﴿ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ أي وذلكَ عاقبةُ الكافرِين، فَلْيَحْذر امرِؤٌ أن يقعَ في مثلِ ما وقعَ فيه هذا الكافرُ، وقال مقاتلُ: (مَعْنَى الآيَةِ: فَكَانَ عَاقِبَةُ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ أنْ صَارُواْ إلَى النَّار وَذلِكَ جَزَاؤُهُمْ).
﴿ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾؛ أي ليومِ القيامةِ عَملاً صَالِحاً يُنجِيها أم عَملاً سَيِّئاً يُوبقُها، قال الحسنُ: (مَا زَالَ اللهُ يُقَرِّبُ السَّاعَةَ حَتَّى جَعَلَهَا كَغَدٍ). ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾.
﴿ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾؛ أي فخذلَهم حتى لم يَعْمَلُوا للهِ طاعةً، ويُقدِّموا خيراً لأنفسهم، قال ابنُ عبَّاس: (يُرِيدُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ) وباقِي الآيتَين.
﴿ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ * لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ ﴾، ظاهرُ المعنى.