ﰡ
رُويَ أنَّ هذه السورة بأسرها نزلت في بني النضير، وهم رهط من اليهود، من ذرية هارون عليه السلام، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل لبعثته صلى الله عليه وسلم، وقيل : هم بقية الحبرْين اللذين كانا مع تُبع١، فنزلا المدينة انتظاراً له صلى الله عليه وسلم، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حين قَدِمَ المدينة صالحهم على ألاّ يكونوا عليه ولا له، فلما ظَهَرَ يوم بدر، قالوا : هو النبيّ الذي نعْتُه في التوراة : لا تُردُّ له رايةٌ، فلما كان يوم أُحُد ما كان، ارتابوا ونكثوا، فخرج كعبُ بن الأشرف في أربعين راكباً، فحالف أبا سفيان عند الكعبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر عليه السلام محمدَ بن مسلمة الأنصاري في فتية، فقتل كعباً غيلة، وكان أخاه من الرضاعة، وقد كان عليه السلام اطلع منهم على خائنةٍ ونقض عهدٍ، حين أتاهم ومعه أبو بكر وعمر وعليّ، ليستعينهم في دية الرجلين اللذَين قتلهما عَمرو بنُ أمية الضمري، غلطاً، فأجابوه على ذلك، وأجلسوه تحت الحِصن، وأمروا رجلاً منهم أن يطرح على النبي صلى الله عليه وسلم رَحىً، فنزل جبريلُ فأخذ بيده وأقامه، فرجع إلى المدينة، وأمر المسلمين بالخروج إلى بني النضير، وهم بقريةٍ يقال لها : زهرة، فأمرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخروج من المدينة، فاستمهلوه عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، فدسّ إليهم عبدُ الله بن أُبي وأصحابه من المنافقين : لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم، لا نخذلكم، ولئن خرجتم لَنَخْرُجنَّ معكم، فحصّنوا أسوارَهم، فحاصرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة، وأمر بقطع نخلهم، فلما قذف اللهُ في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين، طلبوا الصُلح، فأبى عليهم إلاّ الجلاء، على أن يَحْمِل كلُّ ثلاثة أبياتٍ على بعيرٍ ما شاؤوا من متاعهم، وللنبي صلى الله عليه وسلم ما بقي، فخرجوا إلى الشام، وإلى أذرعات وأريحا، إلاّ بيتين ؛ آل أبي الحقيق، وآل حُيَي بن أخطب، فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة، وذلك قوله تعالى :﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب مِن ديارهم ﴾.
وإياكَ والتنزيهَ فهو مُقيّدٌ | وإياك والتشبيهَ فهو مُخَادِعُ |
ثم قال تعالى :﴿ هو الذي أخرج ﴾ الخواطر الردية، والخبائث اليهودية، من ديار القلوب، عند أول حشرها إلى الحضرة، ما ظننتم أن يخرجوا، لتمكنها من النفس، وتمرُّنها معها، وظنوا أنهم مانعتهم حصونُهم من الله، حيث تحصّنوا بتمكن العوائد ورسوخها في النفس، ومخالطة الأحباب والعشائر، والرئاسة والجاه والمال، فأتاهم الله من حيث لم يحتسِبوا، حيث قيَّض لها شيخاً عارفاً، وقذف في القلب خوفاً مزعجاً، أو شوقاً مقلقاً، وقذف في قلوبهم الرعب، فخرجت تلك الخبائث قهراً، يُخربون بيوتهم، أي : بيوت ظواهرهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، أي : بإعانة المشايخ والإخوان، فطهَّروا بواطنهم من الخبائث، وخرّبوا ظواهرهم من زينة الحس، فحينئذ تعمّرت بواطنُهم بأسرار العلوم والمعارف، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وافعلوا مثل فعلهم، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء من القلوب ؛ لعذّبهم في الدنيا بالحرص والجزع والطمع، ولهم في الآخرة عذاب نار القطيعة، بعد إسدال الحجاب في الدنيا، ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ؛ إذ كل مخالفة إنما هي من النفس وجنودها في عالم الحكمة.
﴿ ما ظننتم أن يخرجوا ﴾، لشدة بأسهم، ومَنعَتهم، ووثاقة حصونهم، وكثرة عَددهم وعُدتهم، ﴿ وظنوا أنهم مانعتهم حُصُونُهم من الله ﴾ أي : ظنوا أنّ حصونهم تمنعهم من بأس الله. والفرق بين هذا التركيب والنظم الذي جاء عليه التنزيل : أنّ في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وُثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي مصير ضميرهم اسماً ل " أن "، وإسناد الجملة إليه، دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة، لا يُبالَى معها بأحد يتعرض لهم، أو يطمع في مغازيهم، وليس ذلك في قولك : وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم. ﴿ فأتاهم اللهُ ﴾ أي : أمره وعقابه ﴿ من حيث لم يحتسبوا ﴾ ؛ من حيث لم يظنوا، ولم يخطر ببالهم، حتى قُتل " كعب " رئيسهم على يد أخيه رضاعاً.
﴿ وقَذَفَ في قلوبهم الرُّعْبَ ﴾ ؛ الخوف والجزع، ﴿ يُخْربون بيوتَهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ﴾، فكانوا يُخربون بواطنَها، والمسلمون ظواهرَها، لِمَا أراد الله مِن استئصال شأفتهم، وألاَّ تبقى لهم بالمدينة دار، ولا منهم دَيَّار. والذي دعاهم إلى التخريب حاجتهم إلى الخشب والحجارة، ليسدُّوا بها أفواه الأزفَّة ولئلا يبقى بعد جلائهم مساكن للمسلمين، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيّد الخشب والساج، وأمّا المؤمنون فدعاهم إلى التخريب إزالة مُتحصّنهم، وأن تتسع لهم مجال الحرب. ومعنى تخريبهم إياها بأيدي المؤمنين : أنهم لما عرّضوهم بنكث العهد لذلك، وكان السبب فيه ؛ فكأنهم أمروهم به، وكلّفوهم إياه. ﴿ فاعتبِروا يا أُولي الأبصارِ ﴾ أي : فاتعِظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجهٍ لا تهتدي إليه الأفكار، أو : فتأملوا فيما نزل بهؤلاء، والسبب الذي استحقوا به ذلك، فاحذروا أن تفعلوا مثَل فعلهم، فتُعاقََبوا مثل عقوبتهم. قال البيضاوي : اتعِظوا بحالهم، فلا تغدروا، ولا تعتمدوا على غير الله. ه. وهذا دليل على جواز القياس.
وإياكَ والتنزيهَ فهو مُقيّدٌ | وإياك والتشبيهَ فهو مُخَادِعُ |
ثم قال تعالى :﴿ هو الذي أخرج ﴾ الخواطر الردية، والخبائث اليهودية، من ديار القلوب، عند أول حشرها إلى الحضرة، ما ظننتم أن يخرجوا، لتمكنها من النفس، وتمرُّنها معها، وظنوا أنهم مانعتهم حصونُهم من الله، حيث تحصّنوا بتمكن العوائد ورسوخها في النفس، ومخالطة الأحباب والعشائر، والرئاسة والجاه والمال، فأتاهم الله من حيث لم يحتسِبوا، حيث قيَّض لها شيخاً عارفاً، وقذف في القلب خوفاً مزعجاً، أو شوقاً مقلقاً، وقذف في قلوبهم الرعب، فخرجت تلك الخبائث قهراً، يُخربون بيوتهم، أي : بيوت ظواهرهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، أي : بإعانة المشايخ والإخوان، فطهَّروا بواطنهم من الخبائث، وخرّبوا ظواهرهم من زينة الحس، فحينئذ تعمّرت بواطنُهم بأسرار العلوم والمعارف، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وافعلوا مثل فعلهم، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء من القلوب ؛ لعذّبهم في الدنيا بالحرص والجزع والطمع، ولهم في الآخرة عذاب نار القطيعة، بعد إسدال الحجاب في الدنيا، ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ؛ إذ كل مخالفة إنما هي من النفس وجنودها في عالم الحكمة.
وإياكَ والتنزيهَ فهو مُقيّدٌ | وإياك والتشبيهَ فهو مُخَادِعُ |
ثم قال تعالى :﴿ هو الذي أخرج ﴾ الخواطر الردية، والخبائث اليهودية، من ديار القلوب، عند أول حشرها إلى الحضرة، ما ظننتم أن يخرجوا، لتمكنها من النفس، وتمرُّنها معها، وظنوا أنهم مانعتهم حصونُهم من الله، حيث تحصّنوا بتمكن العوائد ورسوخها في النفس، ومخالطة الأحباب والعشائر، والرئاسة والجاه والمال، فأتاهم الله من حيث لم يحتسِبوا، حيث قيَّض لها شيخاً عارفاً، وقذف في القلب خوفاً مزعجاً، أو شوقاً مقلقاً، وقذف في قلوبهم الرعب، فخرجت تلك الخبائث قهراً، يُخربون بيوتهم، أي : بيوت ظواهرهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، أي : بإعانة المشايخ والإخوان، فطهَّروا بواطنهم من الخبائث، وخرّبوا ظواهرهم من زينة الحس، فحينئذ تعمّرت بواطنُهم بأسرار العلوم والمعارف، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وافعلوا مثل فعلهم، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء من القلوب ؛ لعذّبهم في الدنيا بالحرص والجزع والطمع، ولهم في الآخرة عذاب نار القطيعة، بعد إسدال الحجاب في الدنيا، ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ؛ إذ كل مخالفة إنما هي من النفس وجنودها في عالم الحكمة.
والاقتصار على مشاققته لتضمنها مشاققته عليه السلام، وليوافق قوله تعالى :﴿ فإنَّ الله شديدُ العقاب ﴾، والجملة : إما نفس الجزاء على حذف العائد، أي : شديد العقاب له، أو : تعليل للجزاء المحذوف، أي : يُعاقبه لأنّ الله شديد العقاب.
وإياكَ والتنزيهَ فهو مُقيّدٌ | وإياك والتشبيهَ فهو مُخَادِعُ |
ثم قال تعالى :﴿ هو الذي أخرج ﴾ الخواطر الردية، والخبائث اليهودية، من ديار القلوب، عند أول حشرها إلى الحضرة، ما ظننتم أن يخرجوا، لتمكنها من النفس، وتمرُّنها معها، وظنوا أنهم مانعتهم حصونُهم من الله، حيث تحصّنوا بتمكن العوائد ورسوخها في النفس، ومخالطة الأحباب والعشائر، والرئاسة والجاه والمال، فأتاهم الله من حيث لم يحتسِبوا، حيث قيَّض لها شيخاً عارفاً، وقذف في القلب خوفاً مزعجاً، أو شوقاً مقلقاً، وقذف في قلوبهم الرعب، فخرجت تلك الخبائث قهراً، يُخربون بيوتهم، أي : بيوت ظواهرهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، أي : بإعانة المشايخ والإخوان، فطهَّروا بواطنهم من الخبائث، وخرّبوا ظواهرهم من زينة الحس، فحينئذ تعمّرت بواطنُهم بأسرار العلوم والمعارف، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وافعلوا مثل فعلهم، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء من القلوب ؛ لعذّبهم في الدنيا بالحرص والجزع والطمع، ولهم في الآخرة عذاب نار القطيعة، بعد إسدال الحجاب في الدنيا، ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ؛ إذ كل مخالفة إنما هي من النفس وجنودها في عالم الحكمة.
﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾.
﴿ ما قطعتم من لِّينَةٍ ﴾، قال القشيري : هو نوع من النخل ما عَدا العجوة والبَرْنِيّ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطعها من مال بني النضير، فقطع بعضها، فقالت اليهود : أي فائدة في هذا ؟ فبقي المسلمون في الجواب، فأنزل الله هذه الآية. ه. وأصلها : لونة، من الألوان، فقلبت ياء، وقيل : اللينة : النخلة الكريمة، كأنهم اشتقوها من اللين، أي : أيّ شيء قطعتم من لِينة ﴿ أو تركتموها قائمةً على أصولها ﴾ من غير أن تتعرضوا لها بشيء ﴿ فبإذن الله ﴾ ؛ فقطعها وتركها بإذن الله، ﴿ وليُخزي الفاسقين ﴾ أي : وليذل اليهود ويغيظهم أذِنَ في قطعها وقلعها وفي تركها، وأمر المؤمنين أن يتحكموا في أموالهم كيف شاؤوا. واستُدل به على جواز هدم ديار الكفرة، وقطع أشجارهم، وحرق زروعهم، إذا لم يُرج وكان فيه إنكاء للعدو. وتخصيص اللينة بالقطع ليكون غيظهم أشد.
الإشارة : قَطْعُ شجرة حب الدنيا من القلب واجب على المريد في بدايته، ولو أدّى إلى إفساد المال لإصلاح قلبه، ارتكاباً لأخف الضررين، ومنه : قضية الشبلي في إحراق ثوب المريد وقلنسوته، في حكاية التلميذ، فإذا تمكن من المعرفة خُيِّر، وله يقال :﴿ ما قطعتم من لينة أو تركتموها. . . ﴾ الآية. وقال القشيري بعد تفسير الظاهر : وفيه دليل على أن الشرع غير مُعَلل، فإذا جاء الأمر الشرعي بَطَلَ طلب التعليل، وسكتَت الألسن عن المطالبة ب " لِمَ " وخُطورُ الاعتراض والاستقباحِ بالبال خروج عن حدّ العرفان، والشيوخ قالوا : مَن قال لأستاذه :" لِمَ " لا يفلح، وكل مريدٍ يكون لأمثال هذه الخواطر جولان في قلبه لا يجيءُ منه شيء، ومَن لم يتجرّد قلبُه عن طلب الإعلال، ولم يباشِرْ حُسْنَ الرضا بكل ما يجري، واستحسانَ، كل ما يبدو من الغيب من الله سرّه وقلبَه فليس من الله في شيء. ه. ومثله قول الحِكَم :" ما ترك مِن الجهل شيئاً مَن أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهره الله فيه ".
﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾*﴿ مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
قلت : جملة ﴿ وما أفاء ﴾ : شرطية معطوفة على مثلها، وهو :﴿ ما قطعتم. . ﴾ الآية، وكلتاهما إخبار وإعلام، أي : اعلموا أن ذلك القطع والترك كان بإذن الله، وذلك الفيء كان بتسليط الله لا بسعيكم، لكنه لم يُعلم منه كيفية القسمة، فبيّنها بعدُ بقوله :﴿ وما أفاء الله على رسوله. . . ﴾ الخ، وقيل : غير ذلك على ما سيأتي.
ثم بيّن قسمة الفيء، فقال :﴿ ما أفاء اللهُ على رسوله من أهل القُرى ﴾، فلم يدخل العاطف ؛ لأنَّ الجملة بيان للأولى، وقيل : الأولى نزلت في أموال بني النضير، وقد جعلها الله لرسوله خاصة، فقسمها على المهاجرين، ولم يُعط الأنصارَ منها، إلاّ لثلاثة، لفقرهم، أبو دُجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة، والثانية : نزلت في كل قريةٍ فُتحت عنوة، وهو الظاهر، فقال في بيان مصرف الفيء :﴿ فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾. واختلف في قسمته، فقيل : يُسدس لظاهر الآية، ويُصرف سهم الله إلى عمارة الكعبة وسائر المساجد، وقيل : يُخمس، وذكر الله للتعظيم، ويُصرف سهم الرسول للإمام على قولٍ، وإلى العساكر والثغور على قولٍ، وإلى مصالح المسلمين على قولٍ. وقد تقدّم في سورة الأنفال تحقيقه١. وإنما بيّنا قسمته، ﴿ كي لا يكون دُولَة ﴾ أي : كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يكون للفقراء يعيشون به ﴿ دُولة بين الأغنياء منكم ﴾ أي : يتداوله الأغنياء بينهم، ويختصُّون به. والدولة : ما يدول للإنسان، أي : ما يدور له من الغنى والجدّ والغلبة وغيرها، وقيل : الدولة - بالفتح - من المُلك، وبالضم من المِلك - بالكسر-.
﴿ وما آتاكم الرسولُ ﴾ أي : ما أعطاكموه من الفيء أو من الأمر، ﴿ فَخُذوه ﴾ فاقبلوه، أو : افعلوه، فإنه واجب، ﴿ وما نهاكم عنه ﴾ أي : عن أخذه، أو عن تعاطيه ﴿ فانتهوا ﴾ عنه، ولا تطلبوه، أو : لا تفعلوه، لَمَّا خصّ عليه السلام المهاجرين بفيء بني النضير وما حولها من القرى، قالت الأنصار : لنا معهم سهم، فنزلت ﴿ واتقوا الله ﴾ في مخالفته عليه السلام، ﴿ إنَّ الله شديدُ العقاب ﴾ لمَن خالف رسولَه صلى الله عليه وسلم، والأحسن : أن يكون عاماً في كل ما جاء به الرسول، والفيء داخل في العموم.
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾*﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾*﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾.
قلت :" للفقراء " يتعلق بمحذوف، أي : يعطي، أو : اعْجَبوا، على أنه استئناف، وقيل : بدل من " ذي القربى ".
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ للفقراءِ ﴾ أي : يعطى الفيء للفقراء ﴿ المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالِهم ﴾ حيث اضطرهم كفارُ مكة إلى الخروج من مكة، وكانوا مائة رجل. وفيه دليل على أنّ الكفار يملكون ما استولوا عليه من أموال المسلمين ؛ لأنّ الله تعالى سمّاهم فقراء، مع أنهم كانت لهم ديار وأموال بمكة، فخرجوا ﴿ يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ﴾ أي : طالبين منه تعالى رزقاً في الدنيا، ورضا في الآخرة، أو : يطلبون الجنة ورضوان الله أو : زيادة في الإيمان والرضوان، ﴿ وينصرون اللهَ ورسولَه ﴾ أي : ناوين نصرة دين الله وإعانة رسوله، ﴿ أولئك ﴾ الموصوفون بما فصّل من الصفات الحميدة ﴿ هُم الصادقون ﴾ ؛ الراسخون في الصدق، حيث ظهر ذلك عليهم ؛ بما فعلوا من مفارقة الأوطان والأهل والولدان.
وقوله تعالى :﴿ ويُؤثرون على أنفسهم... ﴾ الخ، بعد أن وَصَفَهم بقطع الطمع والحرص، والزهد فيما لم يملكوا بقوله :﴿ ولا يجدون في صدورهم حاجة ﴾ وَصَفَهم بالإيثار فيما ملكوا، وبذلك يتم تحقيق خروج الدنيا من قلوبهم، بحيث لا يتعلق القلب بما فات منها، ولا يُمسك ما وجد منها، بل يُؤثر به مع الحاجة إليه، فالآية تشير إلى سلامة الصدور، وسخاوة الأنفس، وهذا كان وصف الصحابة - رضي الله عنهم - وبهذين الخصلتين فاقوا جميعَ الناس، وهي أخلاق الصوفية - رضي الله عنهم - قال الشيخ أبو يزيد : ما غلبني أحد غير شاب من بَلْخ، قَدِمَ حاجًّا، فقال : يا أبا يزيد، ما الزهد عندكم ؟ فقلت : إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال : هكذا عندنا الكلاب ببلخ، فقلت : وما الزهد عندكم ؟ فقال : إذا وجدنا آثرنا، وإذا فقدنا شكرنا. هـ. وسُئل ذو النون : ما حد الزاهد المشروح صدره ؟ فقال : ثلاثة ؛ تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت. هـ.
﴿ والذين تبوؤوا الدارَ والإِيمانَ ﴾، هذا استئناف مسوق لمدح الأنصار بخصال حميدة، من جملتها : محبتهم للمهاجرين، ورضاهم باختصاصهم بالفيء أكمل رضا، أي : اتخذوا المدينة والإيمان مباءة وسكناً وتمكّنوا فيهما أشد تمكين، ﴿ مِن قبلهم ﴾ أي : من قبل هجرة المهاجرين، أو تبوؤوا الدار ولزموا الإيمان، ولزومه : إخلاصه وظهور شعائره وأحكامه، ولا ريب في تقدُّم الأنصار في ذلك على المهاجرين ؛ لأنّ المهاجرين لم يتأتَّ لهم إظهاره قبل الهجرة، فتقدمهم في إظهاره فقط، لا في إخلاصه ؛ إذ لا يتصور تقدمهم عليهم في ذلك.
﴿ يُحبون مَنْ هاجر إليهم ﴾ حتى شاطروهم أموالهم، وأنزلوهم منازلهم، ونزل مَن كانت له امرأتان عن إحداهما ليتزوجها المهاجري، ومحبتهم للمهاجرين من حيث هجرتهم لنصرة الدين لشدة محبتهم للإيمان، ﴿ ولا يجدون في صُدورهم ﴾ ؛ في نفوسهم ﴿ حاجةً ﴾ أي : شيئاً محتاجاً إليه، يقال : خذ منه حاجتك، أي : ما تحتاج إليه، يعني : أنّ نفوسهم لم تتبع ما أوتوا من الفيء، ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه، وقيل : حاجة : حسداً أو كزازة، مما أُعطي المهاجرون من الفيء، حيث خصّهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم به.
﴿ ويُؤثرون على أنفسهم ﴾ أي : يُقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من أسباب المعاش، ﴿ ولو كان بهم خصاصةٌ ﴾ أي : حاجة وخلّة، وأصلها : خُصاص البيت، أي : فروجه. والجملة : حال، أي : يُؤثرون في حال خصاصتهم. قال ابن عباس : لما ظفر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأموال بني النضير، قال للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة، فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نُشاركهم فيها، فنزلت. وهذا صريح في أنَّ قوله تعالى :﴿ والذين تبوؤوا الدار ﴾ استئناف غير معطوف على الفقراء المهاجرين، نعم يجوز عطفه عليهم باعتبار شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق، دون الفيء، فيكون قوله تعالى :﴿ يُحبون ﴾ وما عطف عليه استئنافاً مقرراً لصدقهم، أو حال. قاله أبو السعود.
قلت : إذا جعلنا قولَه تعالى :﴿ ما أفاء اللهُ على رسوله مِن أهل القُرى ﴾ استئنافاً غير مُبيّنِ لِما قبله، بل في كل فيء يأتي بعد بني النضير، صحّ عطف الأنصار على فقراء المهاجرين في كل شيء، وكذا قوله :﴿ والذين جاؤوا مِن بعدهم ﴾ عطف عليهم، فيكون المعنى : يقسم الفيء للفقراء المهاجرين، وللذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم، وللذين جاؤوا مِن بعدهم. ويؤيد هذا ما رُوي أنّ عمر رضي الله عنه لمّا قرأ هذه الآية إلى آخرها قال : هذه الآية استوعبت المسلمين، ما على وجه الأرض مسلم إلاَّ وله في هذا الفيء حق، إلا ما ملكت أيْمَانهم. ه.
وقيل : نزلت في ضيفٍ نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم يجد عنده شيئاً، فقال صلى الله عليه وسلم :" مَن يُضيف هذا ؟ " فقال : رجلٌ من الأنصار - قيل : أبو طلحة، أنا يا رسول الله، فلم يجد من الطعام إلاّ ما يكفي الصبية، فقال لامرأته : نوّمي الصبيان، وأطِفئي السراج، وقرّبي الطعام، فنظهر للضيف أنَّا نأكل معه، ونمضغ ألسنتنا ليأكل، فأكل الضيف وحده، فلما أصبح قال صلى الله عليه وسلم للرجل :" إنَّ الله ضحك مِن فعلكما ". عن أنس : أُهدي لبعضهم رأس مشويّ، وهو مجهود، فَوَجَّهه إلى جارِه، وجارُه وَجَّهَه إلى جارِه، فتداولته تسعةُ أنْفُس، حتى عاد إلى الأول.
﴿ ومَن يُوق شُحَّ نفسه ﴾ أي : مَن يقيه الله شحَّ نفسه حتى يغالبها فيما يغلب عليها، مِن حب المال وبُغضَ الإنفاق، ﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾ ؛ الفائزون بكل مطلوب، والناجون من كل مرهوب. والشح - بالضم والكسر - : اللُّؤم، وأن تكون نفس الرجل كزّةً حريصة على المنع. وإضافته إلى النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه، وقيل : الشُح : أكل مال أخيك ظلماً، والبخل : منع مالك، وقيل : الشُح : منع ما عندك والطمع في غيرك، والبُخل : منع مالك من غير طمع، فالشُح أقبح من البخل.
والجملة : اعتراض وارد لمدح الأنصار بالسخاء، بعد مدحهم بالإيثار. وجميع الإشارة باعتبار " مَن " لأنها واقعة على الجمع.
وقوله تعالى :﴿ ويُؤثرون على أنفسهم... ﴾ الخ، بعد أن وَصَفَهم بقطع الطمع والحرص، والزهد فيما لم يملكوا بقوله :﴿ ولا يجدون في صدورهم حاجة ﴾ وَصَفَهم بالإيثار فيما ملكوا، وبذلك يتم تحقيق خروج الدنيا من قلوبهم، بحيث لا يتعلق القلب بما فات منها، ولا يُمسك ما وجد منها، بل يُؤثر به مع الحاجة إليه، فالآية تشير إلى سلامة الصدور، وسخاوة الأنفس، وهذا كان وصف الصحابة - رضي الله عنهم - وبهذين الخصلتين فاقوا جميعَ الناس، وهي أخلاق الصوفية - رضي الله عنهم - قال الشيخ أبو يزيد : ما غلبني أحد غير شاب من بَلْخ، قَدِمَ حاجًّا، فقال : يا أبا يزيد، ما الزهد عندكم ؟ فقلت : إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال : هكذا عندنا الكلاب ببلخ، فقلت : وما الزهد عندكم ؟ فقال : إذا وجدنا آثرنا، وإذا فقدنا شكرنا. هـ. وسُئل ذو النون : ما حد الزاهد المشروح صدره ؟ فقال : ثلاثة ؛ تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت. هـ.
وقوله تعالى :﴿ ويُؤثرون على أنفسهم... ﴾ الخ، بعد أن وَصَفَهم بقطع الطمع والحرص، والزهد فيما لم يملكوا بقوله :﴿ ولا يجدون في صدورهم حاجة ﴾ وَصَفَهم بالإيثار فيما ملكوا، وبذلك يتم تحقيق خروج الدنيا من قلوبهم، بحيث لا يتعلق القلب بما فات منها، ولا يُمسك ما وجد منها، بل يُؤثر به مع الحاجة إليه، فالآية تشير إلى سلامة الصدور، وسخاوة الأنفس، وهذا كان وصف الصحابة - رضي الله عنهم - وبهذين الخصلتين فاقوا جميعَ الناس، وهي أخلاق الصوفية - رضي الله عنهم - قال الشيخ أبو يزيد : ما غلبني أحد غير شاب من بَلْخ، قَدِمَ حاجًّا، فقال : يا أبا يزيد، ما الزهد عندكم ؟ فقلت : إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال : هكذا عندنا الكلاب ببلخ، فقلت : وما الزهد عندكم ؟ فقال : إذا وجدنا آثرنا، وإذا فقدنا شكرنا. هـ. وسُئل ذو النون : ما حد الزاهد المشروح صدره ؟ فقال : ثلاثة ؛ تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت. هـ.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾*﴿ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾*﴿ لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾*﴿ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ألم تَرَ إلى الذين نافقوا ﴾ أي : ألم ترَ يا محمد، أو : يا مَن يسمع، إلى عبد الله بن أُبيّ وأشياعه ؟ حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين، من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة، بعد حكاية محاسن أقوال المؤمنين، وأحوالهم الحميدة، على اختلاف طبقاتهم. وقوله تعالى :﴿ يقولون ﴾ استئناف لبيان المتعجب منه، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم، أو : لاستحضار صورته. واللام في قوله :﴿ لإِخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ﴾ للتبليغ، والمراد بالأخوة : أخوة الكفر، واللام في قوله :﴿ لئن أُخرجتم ﴾ موطئة للقسم، و﴿ لنَخَرُجَنَّ ﴾ جوابه، أي : والله لئن أُخرجتم من دياركم ﴿ لنَخْرُجَنَّ معكم ﴾، رُوي أن ابن أُبي وأصحابه دسُّوا إلى بني النضير، حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم : لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم، لا نخذلكم، ولئن أُخرجتم لنخرُجن معكم، ﴿ ولا نُطيعُ فيكم ﴾ ؛ في قتالكم ﴿ أحداً أبداً ﴾، يعني رسول الله والمسلمين، أو : لا نُطيع في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة أحداً، وإن طال الزمان، ﴿ وإن قُوتلتم لننصرنكم ﴾، قال تعالى في تكذيبهم :﴿ واللهُ يشهد إنهم لكاذبون ﴾ في مواعدهم المؤكدة بأيمانهم الفاجرة.
﴿ تَحْسَبُهم ﴾ أي : المنافقين واليهود ﴿ جميعاً ﴾ أي : مجتمعين ذوي أُلفة واتحاد، ﴿ وقلوبُهم شَتَّى ﴾ ؛ متفرقة لا أُلفة بينها. قال ابن عطية : وهذه حالة الجماعة المتخاذلة. ه. يعني : أنّ بينهم إحناً وعداوات، فلا يتعاضدون حقَّ التناصر ولا ينصرون أبداً. قال القشيري : اجتماع النفوس مع تنافر القلوب أصلِ كل فساد، وموجب كل تخاذل، واتفاق القلوب، والاشتراك في الهمّة، والتساوي في القصد، يُوجب كلٍّ ظفرٍ وسعادة. ه. وما وصف به الحق تعالى المنافقين واليهود كله تجسير للمؤمنين، وتشجيع لقلوبهم على قتالهم. ﴿ ذلك ﴾ التفرُّق ﴿ بأنهم قوم لا يعقلون ﴾ شيئاً، حتى يعرفوا الحق ويتبعوه، وتطمئن به قلوبهم، وتتحد كلمتهم، ويَرمُوا عن قوس واحدة، لكن لمَّا جهلوا الحق تشتتت طُرُقهم، وتشتتت القلوب حسب تشتُّت الطُرق، وأما ما قيل من أنّ المعنى : لا يعقلون أنّ تشتيت القلوب مما يُوهن قلوبهم، فبعيد.
﴿ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾*﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِياءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾*﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله : مَثَلهم، أي : مثل اليهود في حلول البأس بهم ﴿ كَمَثَلِ الذين مِن قبلهم ﴾ وهم أهل بدر ﴿ قريبًا ﴾ أي : استقر مِن قبلهم زمنًا قريبًا، فكانت غزوة بني النضير على رأس ستة أشهر من بدر، كما صدر به البخاري عن الزهري. ثم قال : وجعله ابن إسحاق بعد بئر معونة وأُحد. ه. قلت : وهو الموافق لِما تقدم في صدر السورة، وهو المشهور، ﴿ ذاقوا وبالَ أمرِهم ﴾ أي : ذاقوا سوء عاقبة أمرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القتل في الدنيا، ﴿ ولهم ﴾ مع ذلك في الآخرة ﴿ عذابٌ أليمٌ ﴾.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾*﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾*﴿ لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ﴾ في كل ما تأتون وتذرون، ﴿ ولتنظرْ نَفْس ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ أي : أيّ شيء قدمت من الأعمال الصالحة ليوم القيامة. سمّاه باليوم الذي يلي يومك تقريبًا له، أو عبّر عن الآخرة بالغد، كأنّ الدنيا والآخرة نهاران يوم وغد، وتنكيره لتفخيمه وتهويله، كأنه قيل : لغد لا يعرف كنهه لغاية عِظمه. وعن مالك بن دينار : مكتوب على باب الجنة : وجدنا ما عملنا، ربحنا ما قدّمنا، خسرنا ما خلفنا. ﴿ واتقوا اللهَ ﴾، كرر تأكيدًا للأمر بالتقوى، أو الأول في أداء الواجبات، كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل، وهذا في ترك المعاصي، كما يؤذن به الوعيد في قوله :﴿ إِنَّ الله خبير بما تعملون ﴾ أي : من المعاصي.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن ﴾ العظيم الشأن، المنطوي على فنون القوارع، ﴿ على جبلٍ ﴾ من الجبال، مع كونه علَماً في القسوة وعدم التأثير بما يُصادمه، ﴿ لَرَأيته خاشعًا ﴾ ؛ خاضعًا متصدِّعًا متشققًا ﴿ من خشية الله ﴾ أي : من شأن القرآن وعظمته أنه لو جُعل في الجبل تمييز، ونزل عليه، لخضع وتطأطأ وتشقق من خشية الله، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن، وقوة تأثير ما فيه من المواعظ، كما ينطق به قوله تعالى :﴿ وتلك الأمثالُ نضربها للناس لعلهم يتفكرون ﴾، وهي إشارة إلى هذا المثل، وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل. والمراد : توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشُّعه عند تلاوة القرآن، وتدبُّر قوارعه وزواجره.
الإشارة : قال ابن عطاء : أشار إلى فضله على أوليائه وأهل معرفته، أنَّ شيئًا من الأشياء لا يقوم لصفاته، ولا يبقى مع تجلَّيه، إِلاّ مَن قوّاه الله على ذلك، وهو قلوب العارفين. ه. قلت : وهذا في تجلِّي الصفات، فما بالك بتجلِّي الذات ؟ ! فلا يطيقه إلاّ قلوب الراسخين المقربين، وقال العارف الورتجبي : لو كانت الجبالُ مقامَ الإنسان في الخطاب لتدكدكت الجبال، وتذرّرت، وانفلتت الصخور الصم، وانهدمت الشامخات العاليات، في سطوات أنواره، وهجوم سنا أقداره، وذلك بأنها عرفت حقيقةً، وأقرت بالعجز عن حمل هذا الخطاب العظيم حيث قال سبحانه :﴿ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ]. قلت : وكأنه يُشير إلى أن تجلي صفة كلامه من جملة الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبيْنَ أن يحملنها، وهذه الأمانة هي تجلِّي الذات وتجلِّي الصفات، فلم يطق حملها إلاَّ الإنسان الكامل، وهو العارف الحقيقي، أما عن تجلِّي الذات فقد أشفقت مِن حمله السمواتُ والأرضُ والجبالُ، حسبما تقدّم. أما تجلِّي الصفات ؛ فذكر هنا أنه لو تجلّت للجبل لخضع وتشقّق ولم يطق حملها، فلو زالت حُجب الغفلة عن القلوب لذابت من هيبة تجلِّي صفة كلامه وخطابه تعالى، إلاَّ أنَّ الله تعالى قَوَّى قلوب أوليائه حتى أطاقوا شهود ذاته، وسماع خطابه، بعد انقشاع الحُجب عن قلوبهم. ثم قال الورتجبي : ولا تخض يا أخي في بحر كلام المتكلمين أنَّ الجبال ليس لها عقل، فإِنَّ هناك أرواحًا وعقولاً لا يعلمها إلا الله ﴿ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ﴾ [ سبأ : ١٠ ] ولولا هناك ما يقبل الخطاب لما خاطبها، فإنَّ ببعض الخطاب ومباشرة الأمر تهبط من خشية الله، قال الله تعالى :﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٧٤ ] والخشية : مكان العلم بالله وبخطابه. ه. قلت : أسرار المعاني القائمة بالأواني سارية في الجمادات وغيرها، فهي عاقلة عالمة في باطن الأمر. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ هو اللهُ الذي لا إِله إِلاّ هو ﴾ وحده ﴿ عَالِمُ الغيبِ والشهادة ﴾ أي : ما غاب عن الحس من الأسرار القديمة، وما حضر له من الأجرام الحسية. قال الورتجبي : أي : عالم بالمعلومات الغيبية قبل وجودها، وبعد وجودها، لا يزيد علمه بالغيب علمه بالعلانية، لا علمه بالعلانية علمه بالغيب. ه. وتقديم الغيب على الشهادة لتقدُّمه في الوجود، وتعلُّق العلم القديم به، أو : المراد بالغيب : المعدوم، وبالشهادة : الموجود، أو السر والعلانية، ﴿ هو الرحمانُ الرحيم ﴾ أي : الرحمن بجلائل النِعم، والرحيم بدقائقها، أو : الرحمان بنعمة الإيجاد، والرحيم بنعمة الإمداد.
﴿ له الأسماءُ الحسنى ﴾ لدلالتها على المعاني الحسنة، وتقدم عدها في آخر الإسراء١. ﴿ يُسبح له ما في السمواتِ والأرض ﴾ ؛ ينطق بتنزيهه عن جميع النقائص تنزيهًا ظاهرًا، ﴿ وهو العزيزُ ﴾ لا يُغلب، ﴿ الحكيمُ ﴾ الذي لا يمكن الاعتراض عليه في شيء من تقديراته. ختم السورة بما بدأ به من التسبيح.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : سألت حبيبي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم ؟ فقال :" عليك بآخر الحشر، فأَكْثِر قراءته "، فأعدتُ عليه، فأعاد عليّ فأعدت عليه، فأعاد عليّ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَن قال حين يُصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكّلَ اللهُ سبعين ألف ملك يُصلُّون عليه حتى يُمسي، فإذا مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومَن قالها حين يُمسي كان بتلك المنزلة " ٢ رواه الترمذي. وأسند ابن جزي حديثًا إلى عبد الله بن مسعود : أنه قال : قرأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتهيت إلى آخر الحشر، قال :" ضع يدك على رأسك " قلت : ولِمَ ذلك يا رسول الله ؟ قال :" أقرأني جبريلُ القرآنَ، فلما انتهيت إلى آخر الحشر، قال : ضع يدك على رأسك يا محمد، قلت : ولمَ ذاك ؟ قال : إن الله تبارك وتعالى افتتح القرآن فضرب فيه، فلما انتهى إلى آخر الحشر، أمر الملائكة أن تضع يدها على رؤوسها، فقالت : يا ربنا ولِمَ ذلك ؟ قال : لأنه شفاء من كل داء إلا السام " ٣. وسمعتُ من شيخنا الفقيه الجنوي أنه حديث ضعيف، يعمل به الإنسان وحده، فإذا كان مع الناس تركه، لئلا تعتقد العامة أنه مندوب أو واجب. ه.
٢ أخرجه الترمذي في فضائل القرآن حديث ٢٩٢٢، والدارمي في فضائل القرآن حديث ٣٤٢٥، وأحمد في المسند ٣/٢١..
٣ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦/٢٩٩..