ﰡ
كما هُو المشهورُ كأنه قيلَ ذلك المنعوتُ بالعزةِ والحكمةِ الذي أخرجَ الخ ففيهِ إشعارٌ بأن في الإخراجِ حكمةً باهرةً وقوله تعالَى ﴿لأَوَّلِ الحشر﴾ أيْ في أولِ حشرِهم إلى الشام وكانوا من سبطٍ لم يصبهم جلاءٌ قط وهم أولُ من أخرجَ من جزيرةِ العربِ إلى الشامِ أو هذا أولُ حشرِهم وآخرُ حشرِهم إجلاء عمر رضي الله عنه أيَّاهم من خيبرَ إلى الشام وقيل آخر حشرهم حشرُ يومِ القيامةِ لأنَّ المحشرَ يكونُ بالشامِ ﴿مَا ظَنَنتُمْ﴾ أيها المسلمون ﴿أَن يَخْرُجُواْ﴾ من ديارِهم بهذا الذلِّ والهوانِ لشدةِ بأسهِم وقوةِ منعتِهم ﴿وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله﴾ أيْ ظنواً أنَّ حصونهم تمنعهم أو ما نعتهم من بأس الله تعالى وتغييرُ النظم بتقديم الخبر وإسنادُ الجملةِ إلى ضميرِهم للدلالةِ على كمالِ وثوقِهم بحصانةِ حصونِهم واعتقادهم في أنفسهم أنهم في غرة ومنعةٍ لا يُبَالى معها بأحدٍ يتعرضُ لهم أو يطمعُ في مُعازّتهم ويجوزُ أن يكون ما نعتهم خبراً لأنَّ وحصونُهم مرتفعاً على الفاعليةِ ﴿فاتاهم الله﴾ أي أمرُ الله تعالى وقدرُه المقدورُ لهم ﴿مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ﴾ ولم يخطرْ ببالِهم وهو قتلُ رئيسهم كعبِ بنِ الأشرفِ فإنه
مما أضعفَ قوتَهُم وفلَّ شوكتَهم وسلب قلوبَهم الأمنَ والطمأنينة وقيل الضميرُ في أتاهُم ولم يحتسبوا للمؤمنينَ أى فأتاهم نصرُ الله وقُرِىءَ فتاهم أي فآتاهُم الله العذابَ أو النصرَ {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب﴾ أيْ أثبتَ فيها الخوفَ الذي يرعبُها أي يملؤُها ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ﴾ ليسدُّوا بما نقضُوا منها من الخشبِ والحجارةِ أفواهَ الأزقةِ ولئلا يبقى بعد جلائهم مساكنُ للمسلمينَ ولينقلُوا معهم بعضَ آلاتِها المرغوبِ فيها مما يقبلُ النقلَ ﴿وَأَيْدِى المؤمنين﴾ حيثُ كانوا يخربونَها إزالةً لمتحصَّنِهم ومتمنعهم وتوسعا لمجالِ القتالِ ونكايةً لهمْ وإسناد هذا إليهم لما أنهمُ السببُ فيه فكأنَّهم كلَّفوهم إيَّاه وأمرُوهم به قيلَ الجملةُ حالٌ أو تفسيرٌ للرعبِ وقُرِىءَ يخَرِّبُونَ بالتشديدِ للتكثيرِ وقيلَ الإخرابُ التعطيلُ أو تركُ الشيءِ خراباً والتخريبُ النقض والهدم ﴿فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾ فاتعظُوا بمَا جَرى عليهمْ من الأمورِ الهائلةِ على وجهٍ لا يكادُ يهتدِي إليه الأفكارُ واتَّقوا مباشرةَ ما أدَّاهُم إليه منَ الكفرِ والمعاصي أو انْتَقَلُوا من حالِ الفريقينِ إلى حالِ أنفسِكم فلا تُعوِّلوا على تعاضُدِ الأسبابِ بل توكَّلُوا على الله عزَّ وجلَّ وقدِ استدلَّ به على حجيةِ القياسِ كما فُصِّل في موقِعِه
إما على الاكتفاءِ من الواوِ بالضمِّ أو على أنَّه جمعُ كرُهُنٍ وقُرِىءَ قائماً على أصُولِهِ ذهاباً إلى لفظِ مَا ﴿فَبِإِذْنِ الله﴾ فذاكَ أي قطعُهَا وتركُهَا بأمرِ الله تعالى ﴿وَلِيُخْزِىَ الفاسقين﴾ أي وليذلَّ اليهودَ ويغيظَهُمْ أَذِنَ في قطعِهَا وتركِهَا لأنهُم إذا رأَوا المؤمنينَ يتحكمونَ في أموالِهِمْ كيفَ أحبُّوا ويتصرفونَ فيها حسبما شاؤا من القطعِ والتركِ يزدادونَ غيظاً ويتضاعفونَ حسرةً واستُدلَّ بهِ على جوازِ هدمِ ديارَ الكفرةِ وقطعِ أشجارِهم وإحراقِ زروعِهِم زيادةً لغيظِهِم وتخصيصُ اللينةِ بالقطعِ إنْ كانت من الألوانِ لاستبقاءِ العجوةِ والبَرْنيةِ اللتينِ هما كرامُ النخيلِ وإن كانتْ هي الكرامَ ليكونَ غيظُهُم أشدَّ وقولُهُ تعالى
مالعقاراتهم ﴿فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾ اختُلفَ في قسمةِ الفيءِ فقيلَ يُسدَّسُ لظاهرِ الآيةِ ويصرفُ سهمُ الله إلى الكعبةِ وسائرِ المساجدِ وقيلَ يُخَمَّسُ لأن ذكرَ الله للتعظيمِ ويصرفُ الآنَ سهمُ الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الإمامِ على قولٍ وإلى العساكرِ والثغورِ على قولٍ وإلى مصالحِ المسلمينَ على قول وقيل يُخَمَّسُ خمسةً كالغنيمةِ فإنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان يُقسِّمُ الخمسَ كذلكَ ويصرفُ الأخماسَ الأربعةَ كما يشاءُ والآنَ على الخلافِ المذكورِ ﴿كَىْ لاَ يَكُونَ﴾ أي الفيءُ الذي حقُّه أن يكونَ للفقراءِ يعيشونَ به ﴿دُولَةً﴾ بضمِّ الدالِ وقُرِىءَ بفتحِهَا وهيَ ما يدولُ الإنسان أيْ يدورُ من الغِنى والجِدِّ والغلبةِ وقيلِ الدَّولة بالفتح من المِلكِ بكسرِهَا أو بالضَمِّ في المالِ وبالفتحِ في النصرةِ أي كيلا يكونَ جِدَّاً ﴿بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ﴾ يتكاثرونَ به أو كيلاَ يكونَ دولةً جاهليةً بينكُمْ فإنَّ الرؤساءَ منهُم كانُوا يستأثرونَ بالغنيمةِ ويقولونَ مَنْ عَزَّ بَزَّ وقيلَ الدُّولةُ بالضمِّ ما يُتداولُ كالغُرفةِ اسمُ مَا يُغترفُ فالمَعنى كيلا يكونَ الفيْءُ شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعارونه فلا يصيب الفقراء والداولة بالفتحِ بمعنى التداولِ فالمعنَى كيلا يكونَ ذَا تداولٍ بينَهُم أو كيلا يكونَ إمساكُهُ تداولاً بينَهُم لا يخرجونَهُ إلى الفقراءِ وقُرِىءَ دولةٌ بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ أيْ كيلاَ يقعَ دولةٌ على ما فُصِّل منَ المعانِي ﴿وَمَا آتاكم الرسول﴾ أي ما أعطاكُمُوه من الفيءِ أو منَ الأمرِ ﴿فَخُذُوهُ﴾ فإنه حقُّكم أو فتمسكُوا به فإنه واجبٌ عليكم ﴿وَمَا نهاكم عَنْهُ﴾ عن أخذِهِ أو عنْ تعاطيهِ ﴿فانتهوا﴾ عنْهُ ﴿واتقوا الله﴾ في مخالفَتِهِ عليه الصلاة والسلام ﴿أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ فيعاقبُ مَنْ يخالفُ أمرَهُ ونهيَهُ
لمدحِ الأنصارِ بخصالٍ حميدةٍ من جُملَتِها محبَّتُهُم للمهاجرينَ ورضاهم باختصاص الفئ بهم أحسنَ رِضا وأكملَهُ ومعنى تبوئِهِم الدارَ أنهم اتخذوا المدينةَ والإيمانَ مَبَاءةً وتمكَّنوا فيهما أشدَّ تمكنٍ على تنزيلِ الحالِ منزلةَ المكانِ وقيلَ ضُمِّنَ التبوؤُ ومعنى اللزوم وقيل تبوؤا الدارَ وأخلَصُوا الإيمانَ كقولِ من قال... علفتها تبنا وماءا بارِداً... وقيلَ المَعْنَى تبوؤُا دارَ الهجرةِ ودارَ الإيمانِ فحذف المضاف إليهِ منَ الأولِ وعَوِّضَ منه اللامُ وقيلَ سَمَّى المدينةَ بالإيمانِ لكونِهَا مظهَرَهُ ومنشأَهُ ﴿مِن قَبْلِهِمْ﴾ أيْ من قبلِ هجرةِ المهاجرينَ على المعانِي الأُوَلِ ومن قبلِ تبوؤِ المهاجرينَ على الأخيرينِ ويجوزُ أن يُجعلَ اتخاذُ الإيمانِ مباءةً ولزومُهُ وإخلاصُهُ على المعَانِي الأَوَلِ عبارةً عن إقامةِ كافَّةِ حُقوقِهِ التي من جُمْلَتِهَا إظهارُ عامَّةِ شعائرِه وأحكامِهِ ولا ريبَ في تقدمِ الأنصارِ في ذلك على المهاجرينَ لظهورِ عجزِهِم عن إظهارِ بعضِهَا لا عَنْ إخلاصِهِ قلباً واعتقاداً إذْ لا يُتصور تقدُّمهم عليهِمْ في ذلكَ ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ خبرٌ للموصولِ أي يحبونَهُم من حيثُ مهاجَرَتُهُم إليهم لمحبتِهِم الإيمانَ ﴿وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ﴾ أي في نفوسِهِم ﴿حَاجَةً﴾ أي شيئاً محتاجاً إليه يقالُ خُذْ منْهُ حاجتَكَ أي ما تحتاجُ إليهِ وقيلَ إثر حاجةٍ كالطلبِ والحرازة والحسدِ والغيظِ ﴿مّمَّا أُوتُواْ﴾ أى مما أوتى المهاجرون من الفئ وغيرَهِ ﴿وَيُؤْثِرُونَ﴾ أي يقدمونَ المهاجرينَ ﴿عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ في كل شئ من أسبابِ المعاشِ حتى إنَّ من كانَ عندهُ امرأتانِ كان ينزلُ عن إحداهُمَا ويزوجها واحداً منهُم ﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ أيْ حاجةٌ وخَلَّةٌ وأصلُهَا خَصَاصُ البيتِ وهي فُرجَهُ والجملةُ في حيزِ الحالِ وقدْ عرفتَ وجهَهُ مراراً وكان النبيُّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ قسَّم أموالَ بني النضيرِ على المهاجرين ولم يُعطِ الأنصارَ إلا ثلاثةً نفرٍ محتاجينَ أبا دُجَانَةَ سماكَ بنَ خَرَشَةَ وسهلَ بن حنيف والحرث بنَ الصِّمَّةِ وقالَ لهم إنْ شئتُمْ قسمتُم للمهاجرينَ من أموالِكُم وديارِكُم وشاركتُمُوهُم في هذه الغنيمةِ وإن شئتُم كانتْ لكُم ديارُكُم وأموالُكُم ولم يُقسم لكم شئ من الغنيمة فقالت الأنصارُ بلْ نقسمُ لهم من أموالِنَا وديارِنَا ونؤثرهُم بالغنيمةِ ولا نشاركهُم فيهَا فنزلتْ وهذا صريحٌ في أنَّ قولَهُ تعالَى والذينَ تبوؤُا الخ مستأنفٌ غيرُ معطوفٍ على الفقراءِ أو المهاجرينَ نعم يجوزُ عطفُه على أولئكَ فإنَّ ذلكَ إنما يستدْعِي شركةَ الأنصارِ للمهاجرينَ في الصدقِ دونَ الفيءِ فيكونُ قولُهُ تعالى يحبونَ وما عُطفَ عليهِ استئنافاً مقرراً لصدقِهِم أو حالاً من ضميرِ تبوؤُا ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ الشُّح بالضمِّ والكسرِ وقدْ قرئ بهِ أيضاً اللؤمُ وإضافتُهُ إلى النفسِ لأنَّه غريزةٌ فيها مقتضيةٌ للحرصِ على المنعِ الذي هو البخلُ أي ومن يُوقَ بتوفيقِ الله تعالى شُحَّها حتى يخالفَهَا فيما يغلبُ عليها من حُبِّ المالِ وبغضِ الإنفاقِ ﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارةٌ إلى مَنْ باعتبارِ معناها العامِّ المنتظمِ للمذكورينَ انتظاماً أولياً ﴿هم المفلحون﴾ الفائزون بكل مطلوب الناجون عن كل مكروهٍ والجملةُ اعتراضٌ واردٌ لمدحِ الأنصارِ والثناءِ عليهم وقرئ يوق بالتشديد
هاجرُوا بعد ما قَوِيَ الإسلامُ أو التابعونَ بإحسانٍ وهم المؤمنونَ بعد الفريقينِ إلى يومِ القيامةِ ولذلك قيلَ إن الآيةَ قد استوعبتْ جميعَ المؤمنينَ وأياً ما كان فالموصولُ مبتدأٌ وخبره {يَقُولُونَ﴾ الخ والجملةُ مسوقةٌ لمدحِهِم بمحبَّتِهِم لمنْ تقدَمَهُم من المؤمنينَ ومراعاتِهِم لحقوقِ الأخوةِ في الدينِ والسبقِ بالإيمانِ كما أنَّ ما عُطفتْ عليه من الجملةِ السابقةِ لمدحِ الأنصارِ أيْ يدعونَ لهم ﴿رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا﴾ أيْ في الدينِ الذي هُو أعزُّ وأشرفُ عندهُم من النسبِ ﴿الذين سَبَقُونَا بالإيمان﴾ وصفُوهُم بذلكَ اعترافاً بفضلِهِم ﴿وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ﴾ وقرئ غِمْراً وهُمَا الحقدُ ﴿لِلَّذِينَ آمنوا﴾ على الإطلاقِ ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ رؤوف رحيم﴾ أي مبالغ في الرأفةِ والرحمةِ فحقيقٌ بأنْ تجيبَ دُعاءَنَا
من أقوالِهِم على التفصيلِ بعدَ تكذيبِهِم في الكُلِّ على الإجمالِ {وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ﴾ وكانَ الأمرُ كذلك فإنَّ ابْنَ أُبيّ وأصحابَهُ أرسلُوا إلى بَنِي النضيرِ ذلكَ سراً ثم أخلفُوهُم وفيه حجةٌ بينةٌ لصحةِ النبوة وإعجازِ القرآنِ ﴿وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ﴾ على الفرضِ والتقديرِ ﴿لَيُوَلُّنَّ الأدبار﴾ فراراً ﴿ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾ أي المنافقونَ بعد ذلكَ أي يهلكهم الله ولا ينفهم نفاقُهُم لظهورِ كفرِهِم أو ليَهْزُمَنَّ اليهودُ ثم لا ينفعهم نصرة المنافين بعد ذلك
قولُه تعالى
هُمُ ﴿الفاسقون﴾ الكاملونَ في الفسوقِ
لغةٌ فيهِ ﴿السلام﴾ ذُو السلامةِ من كلِّ نقصٍ وآفةٍ مصدرٌ وصفَ بهِ للمبالغةِ ﴿المؤمن﴾ واهبُ الأمنِ وقُرِىءَ بالفتحِ بمَعْنَى المُؤْمَنُ بهِ على حذفِ الجارِّ ﴿المهيمن﴾ الرقيبُ الحافظُ لكلِّ شيءٍ مُفَيْعِلٌ منْ الأمن بقلبِ همزتِهِ هاءً ﴿العزيز﴾ الغالبُ ﴿الجبار﴾ الذي جبرَ خلقَهُ على ما أرادَ أو جبرَ أحوالَهُم أي أَصْلَحَها ﴿المتكبر﴾ الذي تكبرَ عن كلِّ ما يوجبُ حاجةً أو نُقصاناً أو البليغُ الكبرياءِ والعظمةِ ﴿سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ تنزيهٌ له تعالَى عمَّا يُشركونه به تعالى أو عن إشراكِهِم به تعالى إثرَ تعدادِ صفاتِهِ التي لا يمكِنُ أنْ يشارِكَهُ تعالَى في شيءٍ منها شيءٌ ما أصلاً