﴿ بسم الله ﴾ المحيط بالكمال ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ برحمته الناس بالإرسال ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص من بين أهل الدعوة من شاء بمحاسن الأعمال.
ﰡ
وعن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال :«أمرت أن أتلو القرآن على الجنّ، فمن يذهب ؟ فسكتوا ثم قال الثانية، فسكتوا ثم قال الثالثة، فقلت : أنا أذهب معك يا رسول الله. قال : فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب بن أبي ذئب خط عليّ خطاً فقال : لا تجاوزه ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل كأنهم رجال الزط قال ابن الأثير في النهاية : الزط قوم من السودان والهنود، وكأنّ وجوههم المكاكي، يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه فغاب عن بصري فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس ثم تلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ولصقوا بالأرض حتى صرت لا أراهم ». وفي رواية أخرى «قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أنت ؟ قال : أنا نبي. قالوا : فمن يشهد لك على ذلك، فقال : هذه الشجرة تعالي يا شجرة، فجاءت تجرّ عروقها، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه، فقال : على ماذا تشهدين فيّ ؟ قالت : أشهد أنك رسول الله، قال : اذهبي، فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت. قال ابن مسعود : فلما عاد إليّ قال : أردت أن تأتيني قلت : نعم يا رسول الله. قال : ما كان ذلك لك هؤلاء الجنّ أتوا يستمعون القرآن ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزوّدتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أي يستنجي أحدكم بعظم ولا بعر » وفي رواية :«أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ، فقال : هل من وضوء ؟ قال : لا إلا أنّ معي إداوة نبيذ فقال : هل هو إلا تمر وماء فتوضأ منه ».
قال الرازي : وطريق الجمع بين رواية ابن عباس ورواية ابن مسعود من وجوه :
أحدها : لعل ما ذكره ابن عباس وقع أوّلاً، فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورة، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روي عن ابن مسعود أي فالواقعة متعدّدة.
ثانيها : أنها واقعة واحدة إلا أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولا عرف ماذا قالوا ولا أيّ شيء فعلوا، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وكذا وفعلوا كذا وكذا.
ثالثها : أنها كانت واحدة وأنه صلى الله عليه وسلم رآهم وسمع كلامهم وهم آمنوا به ثم رجعوا إلى قومهم قالوا لهم على سبيل الحكاية ﴿ إنا سمعنا قرآناً عجباً ﴾ وكان كذا وكذا فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ما قالوه لقومهم.
قال ابن عربي : ابن مسعود أعرف من ابن عباس لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة. وقال القرطبي : إنّ الجنّ أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم دفعتين إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية : بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. وقال البيهقي : الذي حكاه ابن مسعود إنما هو في أوّل ما سمعت الجنّ قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه ابن عباس، ثم أتاه داعي الجنّ مرّة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه ابن مسعود.
وقال القشيري : لما رجم إبليس بالشهب فرّق إبليس جنوده لعلم ذلك فأتى سبعة منهم بطن نخلة فاستمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا، ثم أتوا قومهم فقالوا :﴿ إنا سمعنا قرآناً عجباً ﴾ يعني ولم يرجعوا إلى إبليس لما علموه من كذبه وسفاهته، وجاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في سبعين من قومه فأسلموا فذلك قوله تعالى :﴿ وإذ صرفنا إليك نفراً ﴾ [ الأحقاف : ٢٩ ] الآيات.
﴿ فقالوا ﴾ أي : فتسبب عن استماعهم أن قالوا ﴿ إنا سمعنا ﴾ أي : حين تعمدنا الإصغاء وألقينا إليه أفهامنا ﴿ قرآنا ﴾ أي : كلاماً هو في غاية الانتظام في نفسه والجمع لجميع ما يحتاج إليه، وقرأ ابن كثير بالنقل وقفاً ووصلاً وحمزة في الوقف دون الوصل والباقون بغير نقل وقفاً ووصلاً. ثم وصفوا القرآن بالمصدر مبالغة في أمره فقالوا :﴿ عجباً ﴾ أي : بديعاً خارجاً عن عادة أمثاله من جميع الكتب الإلهية فضلاً عن جميع الناس في جلالة النظم وإعجاز التركيب.
﴿ ولن نشرك بربنا أحداً ﴾ أي : لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، وهذا يدل على أنّ أولئك الجنّ كانوا مشركين. قال الرازي : واعلم أنّ قوله تعالى :﴿ قل ﴾ أمر لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يظهر لأصحابه ما أوحي إليه في واقعة الجنّ وفيه فوائد : أحدها : أن يعرفوا بذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجنّ كما بعث إلى الإنس. ثانيها : أن تعلم قريش أنّ الجنّ مع تمرّدهم لما سمعوا القرآن وعرفوا إعجازه آمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثالثها : أن يعلم القوم أنّ الجنّ مكلفون كالإنس. رابعها : أن يعلم أنّ الجنّ يستمعون كلاماً تفهمه من لغتنا. خامسها : أن يظهر المؤمن منهم بدعوى غيره من الجنّ إلى الإيمان، وفي هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.
تنبيهات :
أحدها : اختلف العلماء في أصل الجنّ فروي عن الحس البصري أنّ الجنّ ولد إبليس والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس أنّ الجنّ هم ولد الجان وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. وروي أنّ ذلك النفر كانوا يهوداً. وذكر الحسن أنّ منهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين.
ثانيها : اختلفوا في دخول الجنّ الجنة على حسب الاختلاف في أصلهم، فمن زعم أنهم من الجانّ لا من ذرية إبليس قال : يدخلون الجنة بإيمانهم، ومن قال إنهم من ذرّية إبليس فلهم فيهم قولان : أحدهما وهو قول الحسن : يدخلونها. والثاني وهو رواية مجاهد : لا يدخلونها.
ثالثها : قال القرطبي : قد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجنّ، وقالوا : إنهم بسائط ولا يصح طعامهم اجتراء على الله تعالى والقرآن والسنة يردّان عليهم، وليس في المخلوقات بسيط بل مركب مزدوج، إنما الواحد الواحد سبحانه وغيره مركب ليس بواحد، وليس بممتنع أن يراهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة، وأكثر ما يتصوّرون لنا في صور الحيات.
ولما وصفوه بهذا التعالي الأعظم المستلزم للغنى المطلق والتنزه عن كل شائبة نقص بينوه بنفي ما ينافيه من قولهم إبطالاً للباطل ﴿ ما اتخذ صاحبة ﴾ أي : زوجة ؛ لأن الصاحبة لا بدّ وأن تكون من نوع صاحبها، ومن له نوع فهو مركب تركيباً عقلياً من صفة مشتركة وصفة مميزة ﴿ ولا ولداً ﴾ لأنّ الولد لا بدّ وأن يكون جزءاً منفصلاً عن والده ومن له أجزاء فهو مركب تركيباً حسياً، ومن المقطوع به أنّ ذلك لا يكون إلا لمحتاج وأن الله تعالى متعال عن ذلك من تركيب حسي أو عقلي. قال القشيري : ويجوز إطلاق لفظ الجدّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم فتجنبه أولى. أي : لأنه قيل إنهم عنوا بذلك الجدّ الذي هو أبو الأب ويكون ذلك من قول الجنّ. قال ابن جعفر الصادق : ليس لله تعالى جدّ وإنما قاله الجنّ للجهالة فلم يؤاخذوا به. وقال القرطبي : معنى الآية ﴿ وأنه تعالى جدّ ربنا ﴾ أن يتخذ ولداً أو صاحبة للاستئناس بهما أو الحاجة إليهما، والرب تعالى عن ذلك كما تعالى عن الأنداد والنظراء.
وقال كرم بن أبي السائب الأنصاري : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أوّل ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملاً من الغنم فوثب الراعي وقال : يا عامر الوادي جارك فنادى منادٍ لا نراه يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة، فكان ذلك فتنة للإنس باعتقادهم في الجن غير ما هم عليه، فتبعوهم في الضلال وفتنة للجن بأن يغتروا بأنفسهم ويقولوا سدنا الإنس والجن فيَضلوا ويُضلوا ولذلك سبب عنه قوله تعالى :﴿ فزادوهم ﴾ أي : الإنس والجن باستعاذتهم ﴿ رهقاً ﴾ أي : ضيقاً وشدّة وغشياناً، فجاءهم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منها الضيق والشدّة وقال مجاهد : الرهق : الإثم وغشيان المحارم ورجل رهق إذا كان كذلك. ومنه قوله تعالى :﴿ وترهقهم ذلة ﴾ [ يونس : ٢٧ ] وقال الأعشى :
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها | هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا |
تنبيه : قوله تعالى :﴿ من الإنس ﴾ صفة لرجال وكذا قوله ﴿ من الجنّ ﴾.
أظهرهما أنها متعدية لواحد لأنّ معناها أصبنا وصادفنا، وعلى هذا فالجملة من قولهم ﴿ ملئت ﴾ في موضع نصب على الحال على إضمار قد.
والثاني : أنها متعدّية لاثنين فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني ويكون ﴿ حرساً ﴾ منصوباً على التمييز، نحو : امتلأ الإناء ماء، والحرس اسم جمع لحارس نحو : خدم لخادم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع ويجمع تكسيراً على أحراس، والحارس الحافظ الرقيب، والمصدر الحراسة و ﴿ شديداً ﴾ صفة لحرس على اللفظ، ولو جاء على المعنى لقيل شداداً بالجمع لأن المعنى ملئت ملائكة شداداً كقولك : السلف الصالح، يعني الصالحين. قال القرطبيّ : ويجوز أن يكون حرساً مصدراً على معنى حرست حراسة شديدة ﴿ وشهباً ﴾ جمع شهاب ككتاب وكتب وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم المانع لهم عن استراق السمع.
تنبيه : اختلفوا هل كانت الشياطين تقذف قبل البعث أو ذلك أمر حدث بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال قوم : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث منعوا من السماوات كلها وحرست بالملائكة والشهب، وقال عبد الله بن عمر : لما كان اليوم الذي نبئ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين ورموا بالشهب، قال الزمخشري : والصحيح أنه كان قبل البعث وقد جاء شعره في أهل الجاهلية، قال بشر بن أبي حازم :
والعير يرهقها الغبار وجحشها | ينقض خلفها انقضاض الكوكب |
وعن معمر قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية ؟ قال : نعم. قلت : أرأيت قوله تعالى :﴿ وأنا كنا نقعد منها مقاعد ﴾ ؟ قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال :«بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال :«ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية » ؟ فقالوا : كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال صلى الله عليه وسلم «إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء، فتسأل أهل السماء حملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم وتخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى أهل هذه السماء ». وهذا يدل على أنّ هذه الشهب كانت موجودة قال ابن عادل : وهذا قول الأكثرين.
فإن قيل : كيف تتعرّض الجنّ لاحتراق أنفسها بسبب سماع خبر بعد أن صار ذلك معلوماً لهم ؟ أجيب : بأنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة. قال القرطبي : والرصد قيل من الملائكة أي ورصداً من الملائكة، والرصد الحافظ للشيء والجمع أرصاد، وقيل : الرصد هو الشهاب، أي : شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو فعل بمعنى مفعول.
قال القرطبي : والأوّل أحسن لأنه كان في الجنّ من آمن بموسى وعيسى، وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا :﴿ إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه ﴾ [ الأحقاف : ٣٠ ] وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة.
تنبيه : القدد جمع قدة والمراد بها الطريقة وأصلها السيرة، يقال : قدة فلان حسنة، أي : سيرته وهو من قدّ السير، أي : قطعه، فاستعير للسيرة المعتدلة. قال الشاعر :
القابض الباسط الهادي بطلعته | في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد |
لم تبلغ العين كل نهمتها | يوم تمشي الجياد بالقدد |
تنبيه : أطلقوا الظنّ على العلم إشارة إلى أنّ العاقل ينبغي له أن يتجنب ما يتخيله ضاراً ولو بأدنى أنواع التخيل، فكيف إذا تيقن. وقولهم ﴿ في الأرض ﴾ حال، وكذلك هرباً في قولهم ﴿ ولن نعجزه ﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿ هرباً ﴾ فإنه مصدر في موضع الحال تقديره لا نفوته كائنين في الأرض أو هاربين منها إلى السماء، فليس لنا مهرب إلا في قبضته فأين أم إلى أين المهرب.
﴿ فمن يؤمن بربه ﴾ أي : المحسن إليه منا ومن غيرنا ﴿ فلا ﴾ أي : فهو خاصة لا ﴿ يخاف بخساً ولا رهقاً ﴾ قال ابن عباس : لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته لأن البخس النقصان والرهق العدوان وغشيان المحارم.
وعن سعيد بن جبير : أنّ الحجاج قال له حين أراد قتله : ما تقول فيّ ؟ قال : قاسط عادل. فقال القوم : ما أحسن ما قال، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل. فقال الحجاج : يا جهلة إنما سماني ظالماً مشركاً وتلا لهم قوله تعالى :﴿ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً ﴾. ﴿ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾ [ الأنعام : ١ ].
﴿ فمن أسلم ﴾ أي : أوقع الإسلام كله بأن أسلم ظاهره وباطنه من الجن وغيرهم ﴿ فأولئك ﴾ أي : العالو الرتبة ﴿ تحرّوا ﴾ أي : توخوا وقصدوا مجتهدين ﴿ رشداً ﴾ أي : صواباً عظيماً وسداداً كان لما عندهم من النقائص شارداً عنهم، فعالجوا أنفسهم حتى ملكوه فجعلوه لهم منزلاً.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ فكانوا ﴾، أي : في علم الله عز وجلّ. فإن قيل : لم ذكروا عقاب القاسطين ولم يذكروا ثواب المسلمين ؟ أجيب : بأنهم في مقام الترهيب فذكروا ما يحذر وطووا ما يحب للعلم به لأنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً بل لا بد أن يزيد عليه تسعة أضعافه وعنده المزيد أو أنهم ذكروه بقولهم ﴿ تحرّوا رشداً ﴾ أي : تحرّوا رشداً عظيماً لا يعلم كنهه إلا الله تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا في الثواب.
فإن قيل : إنّ الجنّ مخلوقون من النار فكيف يكونون حطباً للنار ؟ أجيب : بأنهم وإن خلقوا منها لكنهم يغيرون عن تلك الكيفية فيصيرون لحماً ودماً هكذا قيل وهذا آخر كلام الجن.
قال الرازي : وهذا بعدما حبس عنهم المطر سنين ا. ه. قال الجلال المحلي : سبع سنين. وقال عمر رضي الله تعالى عنه : أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. وقال الحسن وغيره : كانوا سامعين مطيعين، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر ففتنوا بها فوثبوا بإمامهم فقتلوه يعني عثمان رضي الله تعالى عنه. قال البقاعي : ويجوز أن يكون مستعاراً للعلم وأنواع المعارف الناشئة عن العبادات التي هي للنفوس كالنفوس للأبدان، وتكون الفتنة بمعنى التخليص من الهموم والرذائل في الدنيا والنعم في الآخرة من فتنت الذهب، إذا : خلصته من غشه.
﴿ ومن يعرض ﴾ أي : إعراضاً مستمراً إلى الموت ﴿ عن ذكر ربه ﴾ أي : مجاوزاً عن عبادة المحسن إليه المربي له الذي لا إحسان عنده من غيره. وقيل : المراد بالذكر القرآن، وقيل : الوحي. وقيل : الموعظة. ﴿ نسلكه ﴾ أي : ندخله ﴿ عذاباً ﴾ يكون مظروفاً فيه كالخيط في ثقب الخرزة في غاية الضيق ﴿ صعداً ﴾ أي : شاقاً شديداً يعلوه ويغلبه ويصعد عليه، ويكون كل يوم أعلى مما قبله جزاء وفاقاً. وقال ابن عباس : هو جبل في جهنم. قال الخدري : كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ابن عباس : أنّ المعنى مشقة من العذاب، لأنّ الصعد في اللغة هو المشقة، تقول : تصعدني الأمر إذا شق عليك، ومنه قول عمر : ما تصعدني شيء ما تصعدني في خطبة النكاح، يريد ما شق علي وما غلبني والمشي في الصعود يشق.
وقال عكرمة : هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم. وقال الكلبي : يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلاً في النار من صخرة ملساء يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة، فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أيضاً الصعود فذاك دأبه أبداً وهو قوله تعالى :﴿ سأرهقه صعوداً ﴾ [ المدثر : ١٧ ] وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية على الغيبة لإعادة الضمير على الله تعالى والباقون بالنون على الالتفات وهذا كما في قوله تعالى :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً ﴾ [ الإسراء : ١٠ ] ثم قال :﴿ باركنا حوله لنريه من آياتنا ﴾ [ الإسراء : ١ ].
والمعنى : أنّ هذه الأعضاء أنعم الله تعالى بها عليك فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله. قال عطاء : مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها، قال صلى الله عليه وسلم :«أمرت أن أسجد على سبعة أعظم » وذكر الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم :«إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب ». قال ابن الأثير : الآراب الأعضاء. وهذا القول اختاره ابن الأنباري. وقيل : بل جمع مسجد وهو مصدر بمعنى السجود ويكون الجمع لاختلاف الأنواع. وقال القرطبي : المراد بها البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة قال سعيد بن جبير : قالت الجنّ : كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك ؟ فنزلت ﴿ وأنّ المساجد لله ﴾ أي : بنيت لذكر الله تعالى وطاعته. وقال ابن عباس : المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسميت مكة مساجد لأنّ كل أحد يسجد إليها.
قال القرطبي : والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة أظهر الأقوال إن شاء الله تعالى وهو مروي عن ابن عباس، وإضافة المساجد إلى الله تعالى إضافة تشريف وتكريم وخص منها المسجد العتيق بالذكر فقال تعالى ﴿ وطهر بيتي ﴾ [ الحج : ٢٦ ] وهي وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً قد تنسب إلى غيره تعريفاً قال صلى الله عليه وسلم :«صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام » وفي رواية :«إن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا ». قال القرطبي : وهذا حديث صحيح. وفي حديث سَابَق صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، ويقال مسجد فلان لأنه حبسه ولا خلاف بين الأمّة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.
﴿ فلا تدعوا ﴾ أي : فلا تعبدوا أيها المخلوقون ﴿ مع الله ﴾ الذي له جميع العظمة ﴿ أحداً ﴾ وهذا توبيخ للمشركين في دعواهم مع الله تعالى غيره في المسجد الحرام، وقال مجاهد : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله تعالى نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها يقول : فلا تشركوا فيها صنماً أو غيره مما يعبد، وقيل : المعنى أفردوا المساجد لذكر الله تعالى ولا تجعلوا لغير الله تعالى فيها نصيباً وفي الصحيح :«من نشد ضالة في المسجد فقولوا : لا ردّها الله عليك، فإنّ المساجد لم تبن لهذا » وقال الحسن : من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول لا إله إلا الله ؛ لأنّ قوله تعالى :﴿ فلا تدعوا مع الله أحداً ﴾ في ضمنه أمر بذكر الله تعالى ودعائه، وروى الضحاك عن ابن عباس «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى، وقال :﴿ وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ﴾ اللهمّ عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور، فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار، فإذا خرج من المسجد قدّم رجله اليسرى، وقال : اللهمّ صب عليّ الخير صباً ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً ولا تجعل معيشتي كدّاً واجعل لي في الأرض جدّاً » أي : غنى.
فإن قيل : هلا قيل رسول الله أو النبي ؟ أجيب : بأنّ تقديره وأوحي، فلما كان واقعاً في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل أو لأنّ المعنى أنّ عبادة عبد الله ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر حتى تكونوا عليه لبداً، ومعنى ﴿ يدعوه ﴾ أي : يعبده وقال ابن جريج : يدعوه أي قام إليهم داعياً إلى الله تعالى، فهو في موضع الحال أي موحداً له ﴿ كادوا ﴾ أي : قرب الجنّ المستمعون لقراءته ﴿ يكونون عليه ﴾ أي : على عبد الله ﴿ لبداً ﴾ أي : متراكمين بعضهم على بعض من شدّة ازدحامهم حرصاً على سماع القرآن وقيل : كادوا يركبونه حرصاً قاله الضحاك. وقال ابن عباس : رغبة في سماع القرآن وروي عن مكحول أنّ الجنّ بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفاً، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر، وعن ابن عباس أيضاً أنّ هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود.
وقال الحسن وقتادة وابن زيد : يعني لما قام عبد الله محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجنّ على هذا الأمر ليبطلوه فأبى الله تعالى إلا أن ينصره ويتم نوره، واختار الطبري أن يكون كادت العرب يجتمعون على النبيّ صلى الله عليه وسلم ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به، وقرأ هشام بضم اللام والباقون بكسرها، فالأولى جمع لبدة بضم اللام نحو غرفة وغرف. وقيل : بل هو اسم مفرد صفة من الصفات، وعليه قوله تعالى :﴿ مالاً لبداً ﴾ [ البلد : ٦ ] وأمّا الثانية فجمع لبدة بالكسر نحو قربة وقرب واللبدة واللبدة الشيء الملبد أي المتراكب بعضه على بعض ومنه لبدة الأسد كقول زهير :
لدى أسد شاكي السلاح مقذف | له لبد أظفاره لم تقلم |
الثاني : أنه متصل وتأويله أنّ الاستجارة مستعارة من البلاغ إذ هو سببها وسبب رحمته تعالى والمعنى : لن أجد شيئاً أميل إليه واعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني، وإذا كان متصلاً جاز نصبه من وجهين :
أرجحهما أن يكون بدلاً من ﴿ ملتحداً ﴾ ؛ لأنّ الكلام غير موجب وهو اختيار الزجاج.
الثاني : أنه منصوب على الاستثناء.
لثالث : أنه مستثنى من قوله لا أملك، فإنّ التبليغ إرشاد وانتفاع وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة.
وقوله :﴿ من الله ﴾ أي : الذي أحاط بكلّ شيء قدرة وعلماً فيه وجهان أحدهما : أنّ من بمعنى عن لأن بلغ يتعدّى بها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «ألا بلغوا عني ». والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة لبلاغاً. قال الزمخشري : من ليست بصلة للتبليغ، وإنما هي بمنزلة من في قوله تعالى :﴿ براءة من الله ﴾ [ التوبة : ١ ] بمعنى بلاغاً كائناً من الله. وقوله ﴿ ورسالاته ﴾ فيه وجهان : أحدهما أنه منصوب نسقاً على بلاغاً كأنه قيل لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره. والثاني أنه مجرور نسقاً على الجلالة، أي : إلا بلاغاً عن الله تعالى وعن رسالاته، كذا قدره أبو حيان وجعله هو الظاهر. ويجوز فيه جعل من بمعنى عن، والتجوّز في الحروف مذهب كوفي ومع ذلك فغير منقاس عندهم.
﴿ ومن يعص الله ﴾ أي : الذي له العظمة كلها ﴿ ورسوله ﴾ الذي ختم به النبوّة والرسالة، فجعل رسالته محيطة بجميع الملل في التوحيد وغيره على سبيل الحجر ﴿ فإن له ﴾ أي : خاصة ﴿ نار جهنم ﴾ أي : التي تلقاه بالعبوسة والغيظ، وقوله تعالى :﴿ خالدين فيها أبداً ﴾ حال مقدّرة من الهاء في له. والمعنى : مقدّر خلودهم والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى من فعل ذلك، فوحد أوّلاً للفظ وجمع للمعنى. وأكد بقوله تعالى :﴿ فيها ﴾ ردًّا على من يدعي الانقطاع. قال البقاعي : وأمّا من يدعي أنها لا تحرق وأنّ عذابها عذوبة فليس أحد أجنّ منه إلا من تابعه على ضلاله وغيه ومحاله، وليس لهم دواء إلا السيف في الدنيا والعذاب في الآخرة بما سموه عذوبة وهم صائرون إليه وموقوفون عليه.
قال مقاتل : لما سمعوا قوله تعالى :﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً ﴾ قال النضر بن الحارث : متى يكون هذا الذي توّعدنا به، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ﴾.
فإن قيل : أليس إنه صلى الله عليه وسلم قال :«بعثت أنا والساعة كهاتين » فكان عالماً بقرب وقوع القيامة فكيف قال هاهنا لا أدري أقريب أم بعيد ؟ أجيب : بأنّ المراد بقرب وقوعه هو أنّ ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى، فهذا القدر من القرب معلوم، فأمّا معرفة مقدار القرب المرتب وعدم ذلك فغير معلوم.
تنبيه : أقريب خبر مقدّم وما توعدون مبتدأ مؤخر، ويجوز أن يكون قريب مبتدأ لاعتماده على الاستفهام، وما توعدون فاعل به، أي : أقريب الذي توعدون نحو : أقائم أبواك، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بسكونها.
وقال الزمخشري : في هذه الآية إبطال الكرامات لأنّ الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله تعالى الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وفيها إبطال الكهانة والتنجيم لأنّ أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط ا. ه. وإنكار الكرامات مذهب المعتزلة.
وأمّا مذهب أهل السنة فيثبتونها، فإنه يجوز أن يلهم الله تعالى بعض أوليائه وقوع بعض الوقائع في المستقبل فيخبر به وهو من إطلاع الله إياه على ذلك، ويدل على صحة ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء وإن يكن في أمّتي أحد فإنه عمر » أخرجه البخاري. قال ابن وهب : تفسير محدثون ملهمون ولمسلم عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول :«في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمّتي منهم أحد، فإنّ عمر بن الخطاب منهم » ففي هذا إثبات كرامات الأولياء.
فإن قيل : لو جازت الكرامة للولي لما تميزت معجزة النبي من غيرها وانسدّ الطريق إلى معرفة الرسول من غيره ؟ أجيب : بأنّ معجزة النبي أمر خارق للعادة مع عدم المعارضة مقترن بالتحدّي، ولا يجوز للولي أن يدّعي خرقاً للعادة مع التحدّي إذ لو ادعاه الولي لكفر من ساعته فبان الفرق بين المعجزة والكرامة. وأمّا الكهانة وما ضاهاها فقال القرطبي : إنّ العلماء قالوا لما تمدّح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصا وينظر في الكواكب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه.
قال بعض العلماء : وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفي الأحوال والرتب، فيهم الملك والسوقة والعالم والجاهل والغني والفقير والكبير والصغير مع اختلاف طوالعهم وتباين مواليدهم ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة، فإن قال قائل : إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه فيكون على مقتضى ذلك أنّ هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة إذاً في عمل المواليد ولا دلالة فيها على شقي وسعيد ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم، ولقد أحسن القائل :
حكم المنجم إن طالع مولدي | يقضي علي بميتة الغرق |
قل للمنجم صبحة الطوفان هل | ولد الجميع بكوكب الغرق |
﴿ فإنه ﴾ أي : الله سبحانه يظهر ذلك الرسول على ما يريد من ذلك الغيب، وذلك أنه إذا أراد إظهاره عليه ﴿ يسلك ﴾ أي : يدخل إدخال السلك في الجوهرة في تقوّمه ونفوذه من غير أدنى تعويج إلى غير المراد ﴿ من بين يديه ﴾ أي : الجهة التي يعلمها ذلك الرسول ﴿ ومن خلفه ﴾ أي : الجهة التي تغيب عن علمه، فصار ذلك كناية عن كل جهة. قال البقاعي : ويمكن أن يكون ذكر الجهتين دلالة على الكل، وخصهما لأنّ العدو متى أعريت واحدة منهما أتى منها، ومتى حفظتا لم يأت من غيرهما لأنه يصير بين الأوّلين والآخرين ﴿ رصداً ﴾ أي : حرساً من جنوده يحرسونه ويحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع من الملائكة ويحفظونه من الجنّ أن يسمعوا الوحي فيلقوه إلى الكهنة قبل الرسول، فيطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم حتى يبلغ ما يوحى إليه.
وقال مقاتل وغيره : كان الله إذا بعث رسولاً أتاه إبليس في صورة ملك بخبر، فبعث الله تعالى من بين يديه ومن خلفه رصداً من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان فاحذره، وإذا جاءه ملك قالوا له : هذا رسول ربك. وعن الضحاك : ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك.
﴿ وأحاط بما لديهم ﴾ أي : بما عند الرسل من الحكم والشرائع لا يفوته منها شيء ولا ينسى منها حرفاً، فهو مهيمن عليها حافظ لها ﴿ وأحصى ﴾ أي : الله سبحانه وتعالى ﴿ كل شيء ﴾ أي : من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحر وغير ذلك ﴿ عدداً ﴾ ولو على أقل المقادير الذرّ فيما لم يزل وفيما لا يزال فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه ؟ وقال ابن جبير رضي الله عنه : ليعلم الرسل أنّ ربهم قد أحاط بما لديهم فيبلغوا رسالاته.
تنبيه : هذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات وبجميع الموجودات.
و﴿ عدداً ﴾ يجوز أن يكون تمييزاً منقولاً من المفعول به، والأصل أحصى عدد كل شيء كقوله تعالى :﴿ وفجرنا الأرض عيوناً ﴾ [ القمر : ١٢ ] أي : عيون الأرض، وأن يكون منصوباً على الحال، أي : وضبط كل شيء معدوداً محصوراً وأن يكون مصدراً في معنى الإحصاء.