تفسير سورة المزّمّل

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة المزمل
وهي مكية كلها، ويرى بعضهم أنه يستثنى من ذلك آخرها، وعدد آياتها عشرون آية، وتشمل: إرشادات النبي صلّى الله عليه وسلّم لتقوية جسمه وروحه حتى يقوى على تحمل الرسالة، ثم أمره بالصبر وترك المشركين مع تهديدهم بأنواع التهديدات.
إرشادات إلهية لزعيم الدعوة الإسلامية [سورة المزمل (٧٣) : الآيات ١ الى ١٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩)
766
المفردات:
الْمُزَّمِّلُ: المتلفف بثيابه، يقال: تزمل وتدثر، ثم قلبت التاء زايا في المزمل.
ودالا في المدثر. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ المراد: اقرأ بتثبت وتؤدة. ثَقِيلًا: شاقّا.
ناشِئَةَ: ما يحدث فيه ويتجدد، مأخوذ من نشأ إذا حدث وتجدد. أَشَدُّ وَطْئاً: أصعب وقعا. وَأَقْوَمُ: أعدل. سَبْحاً طَوِيلًا: عملا كثيرا سريعا، وأصل السبح: العوم على وجه الماء، أو سرعة الجري، ثم استعمل في العمل السريع الكثير. وَتَبَتَّلْ، انقطع إليه انقطاعا. وَذَرْنِي: اتركني.
النَّعْمَةِ: التنعم والترفه. أَنْكالًا: جمع نكل وهو القيد الثقيل. ذا غُصَّةٍ: ما أعده الله في تلك الدار من طعام منكر فظيع. تَرْجُفُ الْأَرْضُ:
تضطرب وتتزلزل. كَثِيباً: تلّا من رمل متناثر جمعته الريح بعد تفرق.
مَهِيلًا: هو ما إذا تحرك أسفله سال من أعلاه وتتابع. وَبِيلًا: ثقيلا شديدا. مُنْفَطِرٌ: متصدع ومتشقق. تَذْكِرَةٌ: عبرة وعظة.
أعد الله نبيه الكريم لتحمل أضخم رسالة في الوجود، الرسالة العامة إلى جميع الخلق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكنه بشر بينه وبين الملك تنافر في الطبيعة المادية، لذلك اضطرب وخاف عند أول لقاء وذهب إلى خديجة كأنه محموم، وقال: زملوني زملوني!! وما علم أن هذا الذي لقيه في الغار هو جبريل الذي نزل على موسى وعيسى، وكانت هذه الرسالة إلى قوم وثنيين مشركين ومتعصبين مقلدين، وكان النبي يعرف عنهم ذلك فكان كأنه يخشاهم، ويشعر بخطورة هذه الدعوة في هذا المجتمع! فناداه الله بهذا النداء وبقوله في السورة الأخرى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ من باب الملاطفة والملاينة وتأنيسا على عادة العرب في اشتقاق اسم من صفة المخاطب التي هو
767
عليها، وكانت هاتان السورتان- المزمل والمدثر- من أوائل القرآن نزولا،
ويروى أن الوحى لما نزل على النبي للمرة الثانية وجده متزملا في قطيفة فقال له: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ وجاءه مرة أخرى وكان متدثرا فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ.
المعنى:
يا أيها المزمل- المتلفف بكساء وقد اضطجع في ركن داره- قم الليل إلا قليلا منه وهو نصفه «١» أو انقص منه قليلا بحيث يزيد على الثلث، أو زد عليه قليلا بحيث لا يزيد على الثلثين، فالنبي- عليه السلام- أمر بأن يقوم من الليل ساعات تتراوح بين الثلث والثلثين، وهو التهجد وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [سورة الإسراء آية ٧٩].
يا أيها المزمل: دع ما أنت فيه وانشط لقيام الليل والصلاة فيه، وقراءة القرآن وترتيله وتدبر معناه.
هذا خطاب للنبي ويدخل معه في ذلك أمته وخاصة أصحاب الدعوات والمبادئ والأفكار، والشارع الأعظم يقصد بهذه الإرشادات والتوجيهات التربية الإسلامية الكاملة، تربية الجسم وتعويده على تحمل المشاق والمكاره، وتربية النفس بسموها وبعدها عن شوائب المادة وقوتها بحيث تحكم على الجسم ونوازع الشر فيه، إذ لا شك أن قيام الليل شاق على النفس لكنه يؤدبها ويهذبها، ويعودها الصبر، وهو كذلك مما يقوى الأجسام ويساعدها على العمل والثبات في معترك الحياة.
والنبي- عليه السلام- تنتظره في دعوته مشاق ومتاعب وتكاليف، ودرعه الواقي في ذلك هو تعويد جسمه على تحمل المشاق، وتقوية روحه بالعمل الصالح وتلاوة القرآن، يا ليت قومي يعلمون ذلك فيعملون على تحقيقه، ويفرحون لإرادة الله ذلك لهم.
(١) - هذه إشارة إلى أن (نصفه) بدل من (قليلا) ووصفه بالقلة إشارة إلى أن النصف الذي أحياه بمنزلة الكل.
768
يا أيها المزمل: قم الليل إلا نصفه أو قلل منه قليلا أو زد عليه قليلا، ورتل القرآن في تهجدك ترتيلا، واقرأه بتثبت وتدبر، وتؤدة وتأن فإن القرآن جلاء القلوب، وحياة النفوس.
ولقد امتثل النبي أمر ربه، وتأدب بأدب القرآن، وسهر الليل وجاهد النفس واقتدى به أصحابه حتى شحبت ألوانهم وضعفت أجسامهم وتورمت أقدامهم حتى كأنهم تخطوا الحدود المرسومة فأنزل الله طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى.
ولقد أخذ القرآن يذكر سبب هذا الأمر فقال ما معناه: يا محمد إنك تحمل أكبر رسالة، وتدعو الناس إلى أضخم دعوة: دعوة الحق والحرية والكرامة. وسيكون لك أعداء، وسيكون لمن يدعو بدعوتك أعداء، لهذا أمرناك بإعداد نفسك وجسمك إلى تحمل هذه الرسالة، إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا وقعه شديدا وطؤه على الكفار والمشركين، ولا ينفع هذا إلا تقوية الجسم والروح، وتدبر القرآن وتفهم معناه.
وكأن سائلا سأل شاكا في أن قيام الليل وتدبر القرآن مما يساعد على تحمل مشاق الدعوة، فقال: إن ما حدث في الليل من قيام وصلاة وقراءة قرآن وتدبر له هو أشد وطئا، وأصعب على النفس الإنسانية، وهذا بلا شك مما يساعدها على تحمل المشاق ويقويها فتصبر على المكروه ولا شك أن الليل حيث السكون والصفاء مما يساعد على تدبر القرآن وتفهم معناه.
إن لك في النهار عملا كثيرا متواصلا سريعا فلم يبق إلا الليل، فاغتنم جزءا منه يكن لك خير كثير وفضل كبير.
واذكر اسم ربك وتوكل عليه وحده، وانقطع عما سواه فلن ينفعك غيره، وهكذا المؤمن الكامل لا يتوكل إلا عليه ولا يعتمد على سواه، ولا ينقطع عن كل ذلك لأنه رب المشرق والمغرب وما بينهما، لا إله غيره، وكيف يكون غير ذلك؟! وكل ما في الكون شرقه وغربه شاهد عدل على وحدانية الله، وأنه لا إله غيره، ولا معبود سواه، إذا كان الأمر كذلك فاتخذه وكيلا، واعتمد عليه وحده في دعوتك الخلق إلى الإسلام..
769
وسيصادفك- وكل من يدعو بدعوتك إلى يوم الدين- ما تكره من أذى الناس والعلاج في ذلك هو الصبر- إنه سلاح المؤمن وعدة المسلم- والهجر الجميل وانظر إلى علاج القرآن حيث جعل دعامته الصبر والسلوان والهجر الجميل.
أما المكذبون المغرورون أولو النعمة والترف فالله يقول فيهم: ذرني والمكذبين أولى النعمة والترف وأمهلهم قليلا فإن للكون سنة لا تختلف، إن عاقبة هؤلاء المكذبين المغرورين سيئة، والله يمهل قليلا ولا يهمل. هذا في الدنيا أما في الآخرة فالله يقول: إن لدينا أنكالا وقيودا ثقالا، وجحيما أعدت لهم وطعاما ذا غصة وهو طعام الزقوم، الطعام البشع الكريه التي تغص منه النفوس، وبعد هذا كله فهناك عذاب أليم لهم للغاية.
اذكر يوم ترجف الأرض وتضطرب وتتزلزل الجبال وتتحرك حتى تكون تلّا من الرمل كثيبا مهيلا، وليس هذا الاضطراب في الأرض فقط بل فيها وفي السماء إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ «١»، إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ «٢».
ولقد أخذ القرآن يهددهم بما حل بغيرهم وكانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فقال: إنا أرسلنا إلى فرعون رسولا هو موسى، فعصى فرعون وقومه رسولهم فأخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر. حيث أغرقهم ونجى موسى ومن معه.
إذا كان الأمر كذلك فكيف تتقون- إن دمتم على كفركم- يوما شديد الهول: يوما يجعل الولدان من شدة أهواله شيبا، والسماء في هذا اليوم تنفطر وتتشقق بعد أن كانت آية في الإحكام والدقة ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ «٣» كل ذلك كان وعده مفعولا.
إن هذه الإرشادات والتوجيهات التي سيقت في تلك الآيات تذكرة وعظة، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا هو الإيمان والتمسك بالقرآن، وتعود الصبر والسلوان...
(١) - سورة التكوير الآيتان ١ و ٢.
(٢) - سورة الانشقاق الآية الأولى
(٣) - سورة الملك آية ٣.
770
ذلك تخفيف من ربكم ورحمة [سورة المزمل (٧٣) : آية ٢٠]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)
المفردات:
أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ المراد: أقل منه. لَنْ تُحْصُوهُ: تطيقوه. فَتابَ عَلَيْكُمْ: رجع بالتيسير عليكم.
المعنى:
هذه الآية ترجع إلى أول السورة حيث كان الأمر فيها للنبي- وكذلك صحبه- بأن يقوم ساعات طوالا من الليل تتراوح بين الثلث والثلثين، وقد امتثل النبي لذلك بل وبولغ في هذا كما سبق، وبعد عشر سنين من هذا الأمر نزل التخفيف على الأمة وانتقل الأمر من الواجب إلى المباح، فلقد خفف الله عن الأمة الإسلامية حيث اتسع العدد وأصبح فيها المريض وذو الحاجة والمسافر والمقاتل، وهؤلاء بلا شك لا يطيقون القيام فجعله الله مندوبا، من شاء فعله فاستحق ثوابه، ومن شاء ترك هذا الفضل الكبير والله هو العالم بكل شيء.
771
إن ربك يعلم أنك قمت وامتثلت أمر ربك أنت وطائفة من قومك. قمتم أدنى من ثلثى الليل، وقمتم نصفه، وثلثه، وكان معك صحبك، والمراد بالعلم أن الله سيجازيك على ذلك أحسن الجزاء.
والله وحده هو الذي يقدر الليل والنهار، وهو الذي يعلم المصلحة، وقد علم أن المدة السابقة كافية للتربية الإسلامية، وقد جاء معكم ناس لا يستطيعون ذلك العمل، فالله علم أنكم كجماعة لن تطيقوا قيام الليل على سبيل الواجب، أما كأفراد فمنكم من يقدر وأكثركم لا يقدر، والأحكام الشرعية تبنى على الأعم الأغلب.
فالله قد رجع عليكم بالتيسير والتخفيف منذ أن رجعتم إليه بالشكوى والدعاء، فاقرأوا ما تيسر من القرآن في قيام الليل أو في الصلاة في ساعة من ساعات الليل. علم الله أن الحال والشأن سيكون منكم مرضى ضعاف، لا يستطيعون قيام الليل، وآخرون منكم مسافرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله بالتجارة والسعى على تحصيل الرزق من طريق الحلال، وآخرون يقاتلون في سبيل الله، هؤلاء وهؤلاء لا يستطيعون قيام الليل، فالله خفف عنكم فاقرأوا ما تيسر منه، وأقيموا الصلاة كاملة الأركان مستوفاة الشروط، وآتوا الزكاة، أى: الزكاة الواجبة بناء على أن هذه الآية نزلت بالمدينة أو هي زكاة الفطر، أو مطلق إنفاق على أن السورة مكية، وأقرضوا الله قرضا حسنا فالله غنى قادر سيجازيكم على الدرهم عشرا بل ربما ضاعفه إلى سبعمائة ضعف، فأقرضوه يكن خيرا لكم وأفضل، وما تقدموا لأنفسكم من خير مطلقا تجدوا ثوابه عند الله كاملا، وتجدوه عند الله هو خيرا مطلقا من العمل مهما كان صعبا، وأعظم أجرا، واستغفروا الله على ما فرط منكم فإن من أمراض القلوب الرياء وحب السمعة، وكثيرا ما كان ذلك في الصدقة، فاستغفروا الله مما يكون قد حصل إن الله غفور رحيم.
772
Icon