تفسير سورة طه

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة طه من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة طه
وهي مكية
وفي بعض الغرائب من الأخبار برواية أبي هريرة، أن النبي : قال :«إن الله تعالى قرأ سورة طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فقالت الملائكة : طوبى لأمة نزل عليهم هذا، وطوبى لقلوب حملت هذه، وطوبى لألسن تكلمت بهذا »( ١ ).
١ - رواه الدارمي (٢/٥٤٧-٥٤٨ رقم ٣٤١٤)، وابن أبي عاصم في السنن (١/٢٦٩ رقم ٦٠٧)، وابن خزيمة في التوحيد ص ١٦٦، والطبراني في الأوسط – كما في مجمع البحرين (٦/٥٤ رقم ٣٣٦٤)، والعقيلي في الضعفاء (١/٦٦)، وابن عدي في الكامل (١/٢١٦)، وابن حبان في المجروحين (١/١٠٨)، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (٢/١٤١)، والبيهقي في الشعب (٥/٣٨٤-٣٨٥ رقم ٢٢٢٥)، وتمام الرازي في الفوائد (١/١٣٢-١٣٣ رقم ٣٠٣-٣٠٥) وابن الجوزي في الموضوعات (١/١٠٩-١١٠) واستنكر ابن عدي هذا الحديث في ترجمة إبراهيم بن مهاجر وقال: لم أجد له حديثا أنكر من هذا، وقال ابن حبان: متن موضوع، وقال ابن كثير في تفسيره (٣/١٤١): هذا حديث غريب وفيه نكارة وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم فيهما..

قَوْله تَعَالَى: ﴿طه﴾ رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَن رجلا اقْرَأ عَلَيْهِ: " طه " - بالإمالة - فَقَالَ: اقْرَأ ﴿طه﴾، فَقَالَ الرجل: أَلَيْسَ مَعْنَاهُ طَيء الأَرْض بقدميك؟ فَقَالَ: " هَكَذَا أَقْرَأَنِيهِ رَسُول الله ".
وَاخْتلفت الْأَقَاوِيل فِي معنى طه، فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ بالسُّرْيَانيَّة: يَا رجل. وَنقل الْكَلْبِيّ: أَنه يَا إِنْسَان بلغَة عك. قَالَ الشَّاعِر:
(إِن السفاهة طه من خليقتكم لَا قدس الله أَرْوَاح الملاعين)
وَقَالَ آخر:
318
﴿طه (١) مَا أنزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن لتشقى (٢) إِلَّا تذكرة لمن يخْشَى (٣) تَنْزِيلا﴾
وَيُقَال: إِن طه اسْم للسورة، وَقيل: إِنَّه قسم أقسم الله بِهِ.
وَمن الْمَعْرُوف أَن مَعْنَاهُ: طىء الأَرْض بقدميك، وَهَذَا مَنْقُول عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا، وَسَببه أَن النَّبِي اجْتهد فِي الْعِبَادَة حَتَّى جعل يراوح بَين الرجلَيْن، فَيقوم على وَاحِد، وَيرْفَع وَاحِدًا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَنقل بَعضهم: أَنه قَامَ بمفرد قدم.
وَمِنْهُم من قَالَ: إِن الطَّاء من الطَّهَارَة، وَالْهَاء من الْهِدَايَة، فالطاء: إِشَارَة إِلَى طَهَارَة قلبه من غير الله، وَالْهَاء: إِشَارَة إِلَى اهتداء قلبه إِلَى الله.
319
وَقَوله: ﴿مَا أنزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن لتشقى﴾ أَي: لتتعب وتنصب، وَرُوِيَ أَنه لما اجْتهد فِي الْعِبَادَة، قَالَ الْمُشْركُونَ: يَا مُحَمَّد، مَا أنزل الْقُرْآن إِلَّا لشقاوتك، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَمَعْنَاهُ: اجْتهد، وَلَا كل هَذَا التَّعَب حَتَّى تنْسب إِلَى الشقاوة.
وَقَوله: ﴿إِلَّا تذكرة لمن يخْشَى﴾ مَعْنَاهُ: لَكِن تذكرة، أَي: تذكيرا ووعظا لمن يخْشَى، والخشية وَالْخَوْف بِمَعْنى وَاحِد، وَفرق بَعضهم بَينهمَا، فَقَالَ: الخشية مَا لَا يعرف سَببه، وَالْخَوْف مَا يعرف سَببه، وَهُوَ ضَعِيف.
وَذكر الْأَزْهَرِي أَن تَقْدِير الْآيَة: مَا أنزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن لتشقى مَا أنزلنَا إِلَّا تذكرة لمن
319
﴿مِمَّن خلق الأَرْض وَالسَّمَوَات العلى (٤) الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى (٥) لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَمَا بَينهمَا﴾ يخْشَى.
320
وَقَوله: ﴿تَنْزِيلا﴾ أَي: منزل تَنْزِيلا من الله (الَّذِي) ﴿خلق الأَرْض وَالسَّمَوَات العلى﴾ والعلى: جمع الْعليا.
وَقَوله: ﴿الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى﴾ اعْلَم أَن مخارج الاسْتوَاء فِي اللُّغَة كَثِيرَة: وَقد يكون بِمَعْنى الْعُلُوّ، وَقد يكون بِمَعْنى الِاسْتِقْرَار، وَقد يكون بِمَعْنى الِاسْتِيلَاء - على بعد - وَقد يكون بِمَعْنى الإقبال.
وَالْمذهب عِنْد أهل السّنة أَنه يُؤمن بِهِ وَلَا يكيف، وَقد [رووا] عَن جَعْفَر بن عبد الله، وَبشر الْخفاف قَالَا: كُنَّا عِنْد مَالك، فَأَتَاهُ رجل وَسَأَلَهُ عَن قَوْله: ﴿الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى﴾ كَيفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالك مَلِيًّا، وعلاه الرحضاء، ثمَّ قَالَ: الكيف غير مَعْقُول، والاستواء مَجْهُول، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب، وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة، وَمَا أَظُنك إِلَّا ضَالًّا، ثمَّ أَمر بِهِ فَأخْرج.
وَنقل أهل الحَدِيث عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَاللَّيْث بن سعد، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعبد الله بن الْمُبَارك أَنهم قَالُوا فِي الْآيَات المتشابهة: أمروها كَمَا جَاءَت.
وَقَالَ بَعضهم: تَأْوِيله الْإِيمَان بِهِ، وَأما تَأْوِيل الاسْتوَاء بالاستقبال، فَهُوَ تَأْوِيل الْمُعْتَزلَة.
وَذكر الزّجاج، والنحاس، وَجَمَاعَة [من] النُّحَاة من أهل السّنة: أَنه لَا يُسمى الاسْتوَاء اسْتِيلَاء فِي اللُّغَة إِلَّا إِذا غلب غَيره عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يجوز على الله تَعَالَى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَمَا بَينهمَا﴾ أَي: علم مَا فِي السَّمَوَات، وَمَا فِي الأَرْض، وَمَا بَينهمَا.
320
﴿وَمَا تَحت الثرى (٦) وَإِن تجْهر بالْقَوْل فَإِنَّهُ يعلم السِّرّ وأخفى (٧) الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى (٨) ﴾
وَقَوله: ﴿وَمَا تَحت الثرى﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الثرى هِيَ الأَرْض السَّابِعَة، وَالْآخر: أَن الثرى هُوَ التُّرَاب المبتل، وَهَذَا مَعْرُوف فِي اللُّغَة.
وَحكى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْأَرْضين على ظهر الْحُوت، والحوت على الْبَحْر، وَالْبَحْر على الصَّخْرَة، والصخرة على قرن ثَوْر، والثور على الثرى، وَمَا تَحت الثرى لَا يُعلمهُ إِلَّا الله.
321
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن تجْهر بالْقَوْل فَإِنَّهُ يعلم السِّرّ وأخفى﴾ مَعْنَاهُ: إِن جهرت أَو أسررت فَلَا يغيب عَن علمه. وَاخْتلف الْأَقْوَال فِي قَوْله: ﴿وأخفى﴾ فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " السِّرّ " مَا تحدث بِهِ غَيْرك، " وأخفى " مَا تحدث بِهِ نَفسك. وَفِي الْآيَة تَقْدِير، وَمَعْنَاهُ: وأخفى مِنْهُ، أَي: من السِّرّ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " السِّرّ " مَا تحدث بِهِ نَفسك، " وأخفى " مَا يلقيه الله تَعَالَى فِي قَلْبك من بعد وَلم تحدث بِهِ نَفسك.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن السِّرّ هُوَ الْعَزِيمَة، وأخفى هُوَ دون الْعَزِيمَة، كَأَنَّهُ مَا يخْطر على الْقلب، وَلم تعزم عَلَيْهِ.
وَالْقَوْل الرَّابِع: يعلم السِّرّ وأخفى، أَي: والخفي. قَالَ الشَّاعِر:
(هَتَفت بطه فِي الْقِتَال فَلم يجب فَخفت عَلَيْهِ أَن يكون مواليا)
(تمنى رجال أَن أَمُوت وَإِن أمت فَتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوحد)
أَي: بِالْوَاحِدِ.
وَالْقَوْل الْخَامِس: يعلم السِّرّ وأخفى، أَي: أخْفى سره من عباده، وَهَذَا قَول ابْن زيد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى﴾ قيل: فِيهِ إِضْمَار، وَمَعْنَاهُ: فَادعوا الله بهَا. وَقَالَ: الْحسنى للأسماء هُوَ جمع، وَالْحُسْنَى صفة الْوَاحِد، وَذَلِكَ لِأَن
321
﴿وَهل أَتَاك حَدِيث مُوسَى (٩) إِذْ رأى نَارا فَقَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا لعَلي آتيكم مِنْهَا بقبس أَو أجد على النَّار هدى﴾ هَذِه تتَنَاوَل الْأَسْمَاء لِأَنَّهَا جمع، كَمَا تتَنَاوَل الْوَاحِدَة من المؤنثات، يُقَال: هَذِه أَسمَاء؛ فَلذَلِك صَحَّ أَن يُقَال: حسنى، وَلم يقل: حسان، وَهَكَذَا قَوْله تَعَالَى: ﴿مآرب أُخْرَى﴾ وَلم يقل: آخر.
322
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَهل أَتَاك حَدِيث مُوسَى﴾ مَعْنَاهُ: وَقد أَتَاك حَدِيث مُوسَى، وَهُوَ اسْتِفْهَام بِمَعْنى التَّقْرِير.
وَقَوله: ﴿إِذْ رأى نَارا﴾ فِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ رجلا غيورا، فَكَانَ يصحب الرّفْقَة بِاللَّيْلِ، ويتنحى عَنْهُم بِالنَّهَارِ؛ لِئَلَّا ترى امْرَأَته، فَأَخْطَأَ مرّة الطَّرِيق - لما كَانَ فِي علم الله تَعَالَى - فَكَانَ لَيْلًا مظلما، فَرَأى نَارا من بعيد ﴿فَقَالَ لأَهله امكثوا﴾ أَي: أقِيمُوا.
وَقَوله: ﴿إِنِّي آنست نَارا﴾ أَي: أَبْصرت نَارا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لعَلي آتيكم مِنْهَا بقبس﴾ القبس: كل مَا فِي رَأسه نَار من شعلة أَو فَتِيلَة.
وَقَوله: ﴿أَو أجد على النَّار هدى﴾ أَو أجد عِنْد النَّار من يهديني، ويدلني على الطَّرِيق، فَروِيَ أَنه لما توجه إِلَى النَّار رأى شَجَرَة خضراء، أطافت بِهِ النَّار، وَالنَّار كأضوء مَا يكون، والشجرة كأخضر مَا يكون، فَلَا ضوء النَّار يُغير خضرَة الشَّجَرَة، وَلَا خضرَة الشَّجَرَة تغير ضوء النَّار.
وَيُقَال: إِن الشَّجَرَة كَانَت شَجَرَة الْعنَّاب، وَيُقَال: شَجَرَة من عوسج، وَقيل: من العليق.
وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى أَخذ شَيْئا من الْحَشِيش الْيَابِس، ودنا من الشَّجَرَة، فَكَانَ كلما دنا من الشَّجَرَة نأت مِنْهُ النَّار، وَإِذا نأى هُوَ دنت النَّار، فَبَقيَ وَاقِفًا متحيرا،
322
﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي يَا مُوسَى (١١) إِنِّي أَنا رَبك فاخلع نعليك إِنَّك بالواد الْمُقَدّس طوى (١٢) وَأَنا اخْتَرْتُك فاستمع لما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني وأقم﴾ فَنُوديَ: يَا مُوسَى.
323
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي يَا مُوسَى﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿إِنِّي أَنا رَبك﴾ رُوِيَ أَن مُوسَى لما سمع قَوْله: ﴿يَا مُوسَى﴾ قَالَ: من الَّذِي يكلمني؟ قَالَ: ﴿إِنِّي أَنا رَبك﴾.
فَإِن قيل: بِمَ عرف كَلَام الله عز وَعلا؟ قُلْنَا: سمع كلَاما لَا يشبه كَلَام المخلوقين، وَرُوِيَ أَنه سمع من جَمِيع جوانبه.
وَقَوله: ﴿فاخلع نعليك﴾ اخْتلف القَوْل أَنه لم أمره بخلع نَعْلَيْه؟ وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: كَانَتَا من جلد حمَار ميت، وَهَذَا قَول كَعْب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه أمره بخلع نَعْلَيْه: ليباشر الْوَادي بقدميه، وَهَذَا قَول مُجَاهِد، وَقد جرت عَادَة الْمُسلمين أَنهم يخلعون نعَالهمْ إِذا بلغُوا الْمَسْجِد الْحَرَام لِلْحَجِّ، ويطوفون حُفَاة.
وَقَوله: ﴿إِنَّك بالوادي الْمُقَدّس﴾ أَي: المطهر، قَالَ الشَّاعِر:
(وَأَنت وُصُول للأقارب مَدَرَة ترَاءى من الْآفَات إِنِّي مقدس)
أَي: مطهر.
وَقيل: معنى الْمُقَدّس، أَي: الْمُبَارك فِيهِ.
وَقَوله: ﴿طوى﴾ عَامَّة الْمُفَسّرين أَنه اسْم الْوَادي، وَقيل: طوى أَي: قدس مرَّتَيْنِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنا اخْتَرْتُك﴾ أَي: اصطفيتك.
وَقَوله: ﴿فاستمع لما يُوحى﴾ أَي: لما يُوحى إِلَيْك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّنِي أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني﴾ أَي: لَا أحد يسْتَحق الْعِبَادَة سواي.
323
﴿الصَّلَاة لذكري (١٤) إِن السَّاعَة آتِيَة أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بِمَا تسْعَى (١٥) ﴾
وَقَوله: ﴿وأقم الصَّلَاة لذكري﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: لتذكرني فِيهَا. وَالْآخر: تذكرني، وَهُوَ قَوْله: الله أكبر. وَالثَّالِث: أقِم الصَّلَاة لذكري أَي: صل إِذا ذكرت الصَّلَاة، وَهَذَا قَول مَعْرُوف. روى حَمَّاد بن سَلمَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس، أَن النَّبِي قَالَ: " من نسي صَلَاة فليصلها إِذا ذكرهَا؛ فَإِن ذَلِك وَقتهَا، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وأقم الصَّلَاة لذكري﴾ ".
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن بن النقور، قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، قَالَ: حَدثنَا ابْن بنت منيع، قَالَ: حَدثنَا هدبة، عَن حَمَّاد بن سَلمَة.. الحَدِيث. خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح عَن هدبة.
324
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن السَّاعَة آتِيَة أكاد أخفيها﴾ فِي الْآيَة أَقْوَال، وَهِي مشكلة.
رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود، وَأبي بن كَعْب أَنَّهُمَا قرآ: " أكاد أخفيها من نَفسِي ". وَبَعْضهمْ نقل: " فَكيف أظهرها لكم " فَهَذَا هُوَ أحد الْأَقْوَال فِي معنى الْآيَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله " أكاد أخفيها من نَفسِي "؟ قُلْنَا: هَذَا على عَادَة الْعَرَب، وَالْعرب إِذا بالغت فِي الْإِخْبَار عَن إخفاء الشَّيْء، قَالَت: كتمته حَتَّى من نَفسِي. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿أكاد﴾ أَي: أُرِيد، وَمَعْنَاهُ: إِن السَّاعَة آتِيَة أُرِيد أخفيها. وَهَذَا قَول الْأَخْفَش. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن قَوْله: ﴿أكاد﴾ صلَة، وَمَعْنَاهُ: إِن السَّاعَة آتِيَة أخفيها. وَالْقَوْل الرَّابِع: إِن السَّاعَة آتِيَة أكاد، وَمعنى أكاد: تقريب الْوُرُود والإتيان، كَمَا قَالَ ضبائي البرجمي:
(هَمَمْت وَلم أفعل وكدت وليتني تركت على عُثْمَان تبْكي حلائله)
فَقَوله: كدت لتقريب الْفِعْل، ثمَّ اسْتَأْنف قَوْله: ﴿أخفيها لتجزى كل نفس بِمَا تسْعَى﴾ أَي: تَأْتيكُمْ بَغْتَة، لتجزى كل نفس بِمَا عملت من خير وَشر، هَذَا اختبار
324
﴿فَلَا يصدنك عَنْهَا من لَا يُؤمن بهَا وَاتبع هَوَاهُ فتردى (١٦) وَمَا تِلْكَ بيمينك يَا مُوسَى (١٧) قَالَ هِيَ عصاي أتوكأ عَلَيْهَا وأهش بهَا على غنمي ولي فِيهَا مآرب آخرى (١٨) ﴾ ابْن الْأَنْبَارِي.
وَالْقَوْل الْخَامِس: ﴿أكاد أخفيها﴾ أَي: أظهرها، وَقُرِئَ: " أخفيها " بِفَتْح الْألف. وَمعنى الْإِظْهَار فِي هَذِه الْقِرَاءَة أظهر فِي اللُّغَة. قَالَ الشَّاعِر:
(فَإِن تدفنوا الدَّاء لم نخفه وَإِن تأذنوا بِحَرب لَا نقعد)
وَمعنى لَا نخفه: لم نظهره.
325
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَا يصدنك عَنْهَا﴾ أَي: فَلَا يمنعنك عَن التَّصْدِيق بهَا. ﴿من لَا يُؤمن بهَا﴾ أَي: من لَا يصدق بهَا.
وَقَوله: ﴿وَاتبع هَوَاهُ فتردى﴾ أَي: تهْلك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا تِلْكَ بيمينك يَا مُوسَى﴾ هَذَا سُؤال تَقْرِير، وَلَيْسَ بسؤال اسْتِفْهَام، وَالْحكمَة فِيهِ تثبيته وتوثيقه على أَنَّهَا عَصا، حَتَّى إِذا قَلبهَا الله حَيَّة، يعلم أَنَّهَا معْجزَة عَظِيمَة. وَهَذَا قَول على عَادَة الْعَرَب أَيْضا؛ يَقُول الرجل لغيره: هَل تعرف هَذَا؟ وَهُوَ لَا يشك أَنه يعرفهُ، وَيُرِيد بِهِ أَن يَنْضَم إِقْرَاره بِلِسَانِهِ إِلَى مَعْرفَته بِقَلْبِه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ هِيَ عصاي أتوكأ عَلَيْهَا﴾ أَي: أعْتَمد عَلَيْهَا.
وَقَوله: ﴿وأهش بهَا على غنمي﴾ أَي: أخبط بهَا (ورق الشّجر؛ لترعاه غنمي، وَقَرَأَ عِكْرِمَة: " وأهش بهَا) على غنمي " بِالسِّين غير الْمُعْجَمَة، وَالْفرق بَين الهش والهس؛ أَن الهش هُوَ خبط الشّجر، وإلقاء الْوَرق عَنهُ، والهس زجر الْغنم.
وَقَوله: ﴿ولي فِيهَا مآرب أُخْرَى﴾ أَي: حاجات أخر، وَمن تِلْكَ الْحَاجَات؛ قَالَ
325
﴿قَالَ ألقها يَا مُوسَى (١٩) فألقاها فَإِذا هِيَ حَيَّة تسْعَى (٢٠) قَالَ خُذْهَا وَلَا تخف﴾ أهل الْمعَانِي: كَانَ يقتل بهَا الْحَيَّات، ويحارب بهَا السبَاع، وَيحمل بهَا الزَّاد وَالنَّفقَة، ويصل الْحَبل إِذا استقى من الْبِئْر، ويستظل بهَا إِذا قعد، وَعَن الضَّحَّاك: كَانَت تضئ لَهُ بِاللَّيْلِ بِمَنْزِلَة السراج، وَقَالَ وهب: كَانَت الْعَصَا من آس الْجنَّة، وطولها اثْنَا عشر ذِرَاعا، وَلها شعبتان، وَعَلَيْهَا محجن. وَعَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: كَانَ اسْم الْعَصَا مَا شَاءَ. وأنشدوا فِي الهش:
326
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ ألقها يَا مُوسَى﴾ أَي: انبذها.
وَقَوله: ﴿فألقاها﴾ أَي: نبذها.
وَقَوله: ﴿فَإِذا هِيَ حَيَّة تسْعَى﴾ أَي: تجئ وَتذهب، وَذكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام نظر فَإِذا الْعَصَا صَارَت حَيَّة من أعظم مَا يكون من الْحَيَّات، وَصَارَت شعبتاها شدقين، والمحجن صَار عرفا يَهْتَز كالبتارك وعيناها تتقدان كالنار، وَهِي تمر بِالْحجرِ كَالْجمَلِ البارك فتبتلعه، وَلها أَنْيَاب تقصف الشّجر، فَرَأى مُوسَى أمرا عَظِيما فهرب، ثمَّ تذكر أَمر ربه، فَوقف مستحيا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ خُذْهَا وَلَا تخف﴾ لما هرب مُوسَى، قَالَ الله تَعَالَى لَهُ: ﴿أقبل وَلَا تخف﴾، فَلَمَّا أقبل، قَالَ: ﴿خُذْهَا﴾.
وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ على مُوسَى مدرعة من صوف، قد خللها بعيدان، فَلَمَّا قَالَ الله لَهُ: ﴿خُذْهَا﴾، لف طرف كم المدرعة على يَده، فَأمره الله أَن يكْشف يَده، فكشف يَده، ووضعها فِي شدق الْحَيَّة، فَإِذا هِيَ عَصا كَمَا كَانَت، وَإِذا يَده فِي شعبتها.
وَذكر بَعضهم: أَنه لما لف كم المدرعة على يَده، قَالَ لَهُ ملك: أَرَأَيْت لَو أذن الله لمن تحذره، أَكَانَت تغني عَنْك مدرعتك؟ فَقَالَ أَنا ضَعِيف، خلقت من ضعف.
326
﴿سنعيدها سيرتها الأولى (٢١) واضمم يدك إِلَى جناحك تخرج بَيْضَاء من غير سوء آيَة أُخْرَى (٢٢) لنريك من آيَاتنَا الْكُبْرَى (٢٣) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى (٢٤) قَالَ﴾
وَقَوله: ﴿سنعيدها سيرتها الأولى﴾. إِلَى هيئتها الأولى، وَإِنَّمَا انتصب؛ لِأَن مَعْنَاهُ: إِلَى هيئتها الأولى، فَحذف إِلَى فانتصب.
327
قَوْله تَعَالَى: ﴿واضمم يدك إِلَى جناحك﴾. فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِلَى جَنْبك، وَالْآخر: إِلَى عضدك. والجناح هُوَ الْعَضُد إِلَى أصل الْإِبِط، قَالَ الشَّاعِر:
(أهش بالعصا على أغنامي من ناعم الْأَرَاك والبشام)
(خفضت لَهُم مني جنَاح مَوَدَّة على كتف عطفاه أهل ومرحب)
وَقَوله: ﴿تخرج بَيْضَاء من غير سوء﴾ أَي: نيرة مشرقة من غير مَكْرُوه وعيب، السوء هَا هُنَا بِمَعْنى البرص.
وَقَالَ قَتَادَة: كَانَت الْيَد لَهَا نور سَاطِع كضوء الشَّمْس وَالْقَمَر، تضئ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار.
وَقَوله: ﴿آيَة أُخْرَى﴾ أَي: دلَالَة أُخْرَى.
وَقَوله: ﴿لنريك من آيَاتنَا الْكُبْرَى﴾. أَي: الْكَبِيرَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: أكبر الْآيَتَيْنِ يَده؛ فَكَانَ إِذا أخرجهَا من تَحت عضده، رَأَوْا لَهَا شعاعا وضياء تحار الْأَعْين فِيهَا، فَإِذا ردهَا إِلَى إبطه، وأخرجها عَادَتْ إِلَى مَا كَانَت.
وَقَوله: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى﴾ أَي: جَاوز الْحَد فِي الْعِصْيَان والتمرد، وَيُقَال: كَانَ اسْمه: وليد بن مُصعب، وَكَانَ أغْنى الفراعنة الَّذين كَانُوا بِمصْر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ رب اشرح لي صَدْرِي﴾ أَي: وَسعه للحق، وَكَانَ مُوسَى يخَاف من فِرْعَوْن خوفًا شَدِيدا؛ لشدَّة شوكته، وَكَثْرَة جنده، فَضَاقَ قلبه لما بعث إِلَى فِرْعَوْن من الْخَوْف؛ فَسَأَلَ الله تَعَالَى أَن يُوسع قلبه للحق؛ فَيعلم أَنه لَا يقدر أحد أَن يعْمل بِهِ شَيْئا إِلَّا بِإِذن الله، أَو يَنَالهُ بمكروه إِلَّا بمشيئته.
وَقَوله: ﴿وَيسر لي أَمْرِي﴾ أَي: سهل عَليّ الْأَمر الَّذِي بعثتني لَهُ.
327
﴿رب اشرح لي صَدْرِي (٢٥) وَيسر لي أَمْرِي (٢٦) واحلل عقدَة من لساني (٢٧) يفقهوا قولي (٢٨) وَاجعَل لي وزيرا من أَهلِي (٢٩) هرون أخي (٣٠) اشْدُد بِهِ أزري (٣١) وأشركه فِي أَمْرِي (٣٢) كي نسبحك كثيرا (٣٣) ونذكرك كثيرا (٣٤) إِنَّك﴾
328
قَوْله: ﴿واحلل عقدَة من لساني﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَت على لِسَان مُوسَى عقدَة من أَخذه الْجَمْر، وَوَضعه إِيَّاه فِي فَمه، وَسَببه أَن أمْرَأَة فِرْعَوْن جَاءَت بمُوسَى إِلَى فِرْعَوْن، فَوَضَعته فِي حجره، فَأخذ بلحية فِرْعَوْن، وَفِي رِوَايَة: لطم وَجه فِرْعَوْن لطمة، فَغَضب فِرْعَوْن، وَقَالَ: هَذَا هُوَ عدوي، وَأَرَادَ أَن يقْتله، فَقَالَت امْرَأَة فِرْعَوْن: إِنَّه صبي، لَا يعقل وَلَا يُمَيّز، وَهُوَ لَا يُمَيّز بَين الْجَوْهَر والجمر، فدعي لَهُ بطبق من جمر، وطبق من جَوْهَر، فَأخذ الْجَمْر، وَوَضعه فِي فِيهِ، فَاحْتَرَقَ لِسَانه، وَصَارَت عَلَيْهِ عقدَة. وَذكر بَعضهم: أَنه أَرَادَ أَن يَأْخُذ الْجَوْهَر، فصرف جِبْرِيل يَده إِلَى الْجَمْر.
وَقَوله: ﴿يفقهوا قولي﴾ أَي: يفهموا قولي.
﴿وَاجعَل لي وزيرا من أَهلِي﴾ الْوَزير من يؤازرك على الشئ، أَي: يعينك، ويتحمل عَنْك بعض ثقله، ووزير الْأَمِير من يتَحَمَّل عَنهُ بعض مَا عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿هَارُون أخي﴾ كَانَ هَارُون أكبر مِنْهُ بِأَرْبَع سِنِين، فَكَانَ أفْصح مِنْهُ لِسَانا، وأجمل مِنْهُ وَجها، وأوسم وأبيض، وَكَانَ مُوسَى أَدَم، أقنى جَعدًا.
وَقَوله ﴿اشْدُد بِهِ أزري﴾ أَي: قو بِهِ ظَهْري، وَيُقَال: إِنَّه لم يكن أحد على أَخِيه أسعد ولأخيه أَنْفَع من مُوسَى لهارون.
وَقَوله: ﴿وأشركه فِي أَمْرِي﴾ أَي: النُّبُوَّة وَأَدَاء الرسَالَة.
وَقَوله: ﴿كي نسبحك كثيرا﴾ أَي: نصلي لَك كثيرا.
﴿ونذكرك كثيرا﴾ نتعاون على ذكرك.
﴿إِنَّك كنت بِنَا بَصيرًا﴾ أَي: خَبِيرا عليما.
328
﴿كنت بِنَا بَصيرًا (٣٥) قَالَ قد أُوتيت سؤلك يَا مُوسَى (٣٦) وَلَقَد مننا عَلَيْك مرّة أُخْرَى (٣٧) إِذْ أَوْحَينَا إِلَى أمك مَا يُوحى (٣٨) أَن اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فليلقه اليم بالسَّاحل يَأْخُذهُ عَدو لي وعدو لَهُ وألقيت عَلَيْك محبَّة مني ولتصنع على عَيْني﴾
329
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ قد أُوتيت سؤلك يَا مُوسَى﴾ أَي: أَعْطَيْت جَمِيع مَا سَأَلت.
وَقَوله: ﴿وَلَقَد مننا عَلَيْك مرّة أُخْرَى﴾ أَي: أنعمنا عَلَيْك مرّة أُخْرَى سوى هَذِه الْمرة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ أَوْحَينَا إِلَى أمك مَا يُوحى﴾ ذكر نعمه وعددها عَلَيْهِ؛ ليعرفها، وَيزِيد فِي شكره.
وَقَوله: ﴿إِذْ أَوْحَينَا إِلَى أمك مَا يُوحى﴾ أَي: ألهمنا أمك مَا يُوحى، أَي: مَا يلهم.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿أَن اقذفيه﴾ أَي: ألهمناها أَن أقذفيه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فِي التابوت﴾ هُوَ شَيْء يتَّخذ من الْخشب.
وَقَوله: ﴿فاقذفيه فِي اليم﴾ اليم: هُوَ الْبَحْر، وَيُقَال: إِن اليم هَا هُنَا هُوَ النّيل، وَالْعرب تسمي المَاء الْكثير بحرا.
رُوِيَ أَن الْمُسلمين لما وصلوا إِلَى دجلة يَوْم فتحُوا الْمَدَائِن، فَقَالُوا: كَيفَ نَفْعل، وَهَذَا الْبَحْر بَيْننَا وَبينهمْ؟ ثمَّ إِنَّهُم ارتطموا دجلة بخيولهم، وخاضوا الْقِصَّة إِلَى آخرهَا.
وَقَوله: ﴿فليلقه اليم بالسَّاحل﴾ فِي الْقِصَّة: أَن المَاء أَلْقَاهُ إِلَى مشرعة دَار فِرْعَوْن، وَرُوِيَ أَنَّهَا ألقته فِي النّيل، وألقاه النّيل فِي الْبَحْر، ثمَّ إِن الْبَحْر أَلْقَاهُ بالسَّاحل.
وَقَوله: ﴿وألقيت عَلَيْك محبَّة مني﴾ قَالَ عِكْرِمَة: لم يره أحد إِلَّا أحبه، وَقَالَ قَتَادَة: ملاحة فِي عَيْنَيْهِ تَأْخُذ (بالقلوب).
وَقَوله: ﴿ولتصنع على عَيْني﴾ أَي: تربى وتغذى على نظر مني، وَهُوَ مثل قَوْله
329
( ﴿٣٩) إِذْ تمشي أختك فَتَقول هَل أدلكم على من يكفله فرجعناك إِلَى أمك كي تقر عينهَا وَلَا تحزن وَقتلت نفسا فنجيناك من الْغم وَفَتَنَّاك فُتُونًا﴾ تَعَالَى: ﴿واصنع الْفلك بأعيننا﴾ فَإِن قيل: مَا من أحد فِي الْعَالم إِلَّا وَهُوَ يربى وَيغدى بمرأى من الله وَنظر مِنْهُ، فَأَي معنى لتخصيص مُوسَى؟ وَالْجَوَاب: أَن الله تَعَالَى فعل فِي اللطف فِي تربية مُوسَى مَا لم يفعل فِي تربية غَيره، فالتخصيص إِشَارَة إِلَى ذَلِك اللطف.
330
وَقَوله: ﴿إِذْ تمشي أختك﴾ سنذكر هَذَا فِي سُورَة الْقَصَص، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿فَتَقول هَل أدلكم على من يكفله﴾ يَعْنِي: على امْرَأَة ترْضِعه، وتضمه إِلَيْهَا.
وَقَوله: ﴿فرجعناك إِلَى أمك﴾ أَي: فرددناك.
وَقَوله: ﴿إِلَى أمك كي تقر عينهَا﴾ قد بَينا معنى قُرَّة الْعين، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى فرحها وسرورها بِوُجُودِهِ.
وَقَوله: ﴿وَلَا تحزن﴾ أَي: يذهب عَنْهَا الْحزن.
وَقَوله: ﴿وَقتلت نفسا﴾ أَي: القبطي، وسنذكره من بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿فنجيناك من الْغم﴾ أَي: من الْقَتْل، وَقيل: من غم التابوت، وغم الْبَحْر.
وَقَوله: ﴿وَفَتَنَّاك فُتُونًا﴾ أَي: ابتليناك مرّة بعد مرّة، وَقيل: بلَاء بعد بلَاء، وَيُقَال: أخلصناك إخلاصا. من الْمَشْهُور الْمَعْرُوف أَن سعيد بن جُبَير، سَأَلَ عبد الله بن عَبَّاس عَن قَوْله: ﴿وَفَتَنَّاك فُتُونًا﴾ فَقَالَ: تَغْدُو على غَدا، فَلَمَّا جَاءَهُ من الْغَد، أَخذ مَعَه فِي قصَّة مُوسَى من أَولهَا، وَجعل يعد عَلَيْهِ شَيْئا فَشَيْئًا من وِلَادَته فِي سنة قتل الْأَبْنَاء، وَمن إلقائه فِي المَاء، وَجعله فِي التابوت، ووقوعه فِي يَد فِرْعَوْن، ولطمه وَجهه، وَأَخذه
330
﴿فَلَبثت سِنِين فِي أهل مَدين ثمَّ جِئْت على قدر يَا مُوسَى (٤٠) واصطنعتك لنَفْسي (٤١) اذْهَبْ أَنْت وأخوك بآياتي وَلَا تنيا فِي ذكري (٤٢) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى (٤٣) ﴾ الْجَمْرَة، ثمَّ من قَتله القبطي، ثمَّ فراره إِلَى مَدين... إِلَى آخر الْقِصَّة على مَا يرد، وَجعل يَقُول كلما ذكر شَيْئا من هَذَا: ذَلِك (من) الْفُتُون يَا ابْن جُبَير، حَتَّى عد عَلَيْهِ الْجَمِيع.
وَقَوله: ﴿فَلَبثت سِنِين فِي أهل مَدين﴾ يَعْنِي: تراعي الأغنام.
وَقَوله: ﴿ثمَّ جِئْت على قدر يَا مُوسَى﴾ أَي: على قدر النُّبُوَّة والرسالة. قَالَ ابْن عَبَّاس: وَلم يبْعَث الله نَبيا إِلَّا على رَأس أَرْبَعِينَ سنة، وَجَاء مُوسَى ربه، وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة؛ فنبأه الله وأرسله، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿ثمَّ جِئْت على قدر يَا مُوسَى﴾. وَقيل مَعْنَاهُ: جِئْت على موعد يَا مُوسَى، وَلم يكن هَذَا الْموعد مَعَ مُوسَى، وَإِنَّمَا كَانَ موعدا فِي تَقْدِير الله تَعَالَى. وَيُقَال: وافيت فِي الْوَقْت الَّذِي قدرت أَي: توافى فِيهِ، قَالَ الشَّاعِر:
331
وَقَوله: ﴿واصطنعتك لنَفْسي﴾ قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: اخْتَرْتُك لأمري، وجعلتك الْقَائِم بحجتي، والمخاطب بيني وَبَين خلقي، كَأَنِّي الَّذِي أَقمت عَلَيْهِم الْحجَّة وخاطبتهم، وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: استكفيتك طلب كِفَايَة أَمر من خَاص أَمْرِي، وصنيعة الْإِنْسَان خاصته وتربيته إِذا أعده لأمر من مُهِمّ أمره.
وَقَوله: ﴿اذْهَبْ أَنْت وأخوك بآياتي﴾ أَي: بدلائلي.
وَقَوله: ﴿وَلَا تنيا فِي ذكري﴾. أَي: وَلَا تضعفا فِي ذكري، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وَلَا تهنا فِي ذكري ".
وَقَوله: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فقولا لَهُ قولا لينًا﴾. مَعْنَاهُ: دارياه [بالرفق]، وارفقا مَعَه، وَيُقَال
331
﴿فقولا لَهُ قولا لينًا لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى (٤٤) قَالَا رَبنَا إننا نَخَاف أَن يفرط علينا أَو أَن﴾ مَعْنَاهُ: كنياه. وَاخْتلفُوا فِي كنيته: مِنْهُم من قَالَ: كنيته أَبُو الْوَلِيد، وَمِنْهُم من قَالَ: أَبُو مرّة وَمِنْهُم من قَالَ: أَبُو الْعَبَّاس، وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى﴾. أَي: يتعظ وَيخَاف. فَإِن قيل قَوْله ﴿لَعَلَّه﴾ تطميع، فَكيف يطمعهما فِي إِسْلَامه، وَقد قدر أَنه لَا يسلم؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ: اذْهَبَا على رجائكما وطمعكما، وَقَضَاء الله وَرَاء أمركما، وَقَالَ بَعضهم: قد تذكر وَخَافَ، إِلَّا أَنه حِين لم تَنْفَعهُ التَّذْكِرَة وَالْخَوْف، وَقد بَينا فِي سُورَة يُونُس.
وَفِي قَوْله: ﴿فقولا لَهُ قولا لينًا﴾ كَلِمَات مَعْرُوفَة؛ قَالَ بَعضهم: هَذَا رفقك بِمن يَقُول: أَنا الْإِلَه، فَكيف رفقك بِمن يَقُول: أَنْت الْإِلَه، وَهَذَا رفقك بالكفار، فَكيف رفقك بالأبرار؟ وَهَذَا رفقك بِمن جحدك، فَكيف رفقك بِمن وَحدك. وَهَذِه تحببك إِلَى من تعاديه، فَكيف إِلَى من تواليه وتناديه؟.
332
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَا رَبنَا إننا نَخَاف أَن يفرط علينا أَو أَن يطغى﴾ يَعْنِي: أَن يُبَادر ويعجل بعقوبتنا قبل أَن نريه الْآيَات. وَحكي عَن سعيد بن جُبَير أَنه قَالَ: كَانَ مُوسَى يخَاف من فِرْعَوْن خوفًا شَدِيدا، وَكَانَ إِذا دخل عَلَيْهِ، يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من شَره، وأدرأك فِي نَحره، فحول الله تَعَالَى ذَلِك الْخَوْف إِلَى فِرْعَوْن؛ فَكَانَ إِذا رأى مُوسَى بَال فِي ثِيَابه كَمَا يَبُول الْحمار.
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا دخل أحدكُم على سُلْطَان يخَاف تغطرسه، فَلْيقل: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من شَره، وَشر أحزابه؛ أَن يفرط أحد مِنْهُم عَليّ أَو يطغى، عز جَارك، وَجل ثناؤك، وَلَا إِلَه غَيْرك ".
332
﴿يطغى (٤٥) قَالَ لَا تخافا إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى (٤٦) فَأتيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولا رَبك فَأرْسل مَعنا بني إِسْرَائِيل وَلَا تُعَذبهُمْ قد جئْنَاك بِآيَة من رَبك وَالسَّلَام على من اتبع الْهدى (٤٧) إِنَّا قد أُوحِي إِلَيْنَا أَن الْعَذَاب على من كذب وَتَوَلَّى (٤٨) قَالَ فَمن رَبكُمَا﴾
333
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قَالَ لَا تخافا إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى﴾ أَي: أسمع دعاءكما فَأُجِيب، وَأرى أمركما مَعَ فِرْعَوْن فأدفعه عنكما.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأتيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولا رَبك فَأرْسل مَعنا بني إِسْرَائِيل﴾ أَي: خلهم، وأطلقهم من أعمالك، وَقد بَينا أَنه كَانَ يكلفهم الْأَعْمَال الشاقة، وَقد ضرب عَلَيْهِم الضرائب.
وَقَوله: ﴿وَلَا تُعَذبهُمْ﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿قد جئْنَاك بِآيَة من رَبك﴾ بِدلَالَة من رَبك.
وَقَوله: ﴿وَالسَّلَام على من اتبع الْهدى﴾. لَيْسَ المُرَاد مِنْهُ تَحِيَّة فِرْعَوْن، وَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهُ أَن من اتبع الْهدى فقد سلم من عَذَاب الله، وَمِنْهُم من قَالَ: مَعْنَاهُ: (من) أسلم سلم.
وَفِي بعض الْآثَار عَن السّديّ: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لفرعون: " آمن بِاللَّه، وَلَك شباب لَا تهرم فِيهِ، وَملك لَا ينْزع مِنْك، وَلَذَّة فِي الْمطعم وَالْمشْرَب والمنكح إِلَى أَن تَمُوت، ثمَّ إِذا مت دخلت الْجنَّة، فأعجبه هَذَا الْكَلَام، وَكَانَ لَا يقطع أمرا دون هامان، فَقَالَ: حَتَّى أنظر فِي ذَلِك؛ فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ هامان، قَالَ لَهُ: ألم تَرَ أَن هَذَا الرجل الَّذِي أَتَانَا قَالَ كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ قبل ذَلِك يُسَمِّيه السَّاحر، فَلم يسمه السَّاحر فِي ذَلِك الْيَوْم، فَقَالَ لَهُ هامان: كنت أَظن أَن لَك رَأيا وعقلا! تُرِيدُ أَن تصير مربوبا بعد أَن كنت رَبًّا، وعبدا بعد أَن كنت معبودا، فغلبه عَن رَأْيه، فَأبى على مُوسَى مَا أَرَادَ مِنْهُ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا قد أُوحِي إِلَيْنَا أَن الْعَذَاب على من كذب وَتَوَلَّى﴾. أَي: كذب بآيَات الله، وَتَوَلَّى عَن طَاعَة الله.
333
﴿يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبنَا الَّذِي أعْطى كل شَيْء خلقه ثمَّ هدى (٥٠) قَالَ فَمَا بَال الْقُرُون الأولى (٥١) قَالَ علمهَا عِنْد رَبِّي فِي كتاب لَا يضل رَبِّي وَلَا ينسى (٥٢) الَّذِي﴾
334
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ فَمن رَبكُمَا يَا مُوسَى﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قَالَ رَبنَا الَّذِي أعْطى كل شَيْء خلقه ثمَّ هدى﴾ قَالَ الْحسن: أعْطى كل شَيْء مَا يصلحه، ثمَّ هداه إِلَيْهِ. وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ أعْطى كل شَيْء صُورَة، ثمَّ هداه إِلَى مَنَافِعه من الْمطعم وَالْمشْرَب والمنكح.
وَفِيه قَول ثَالِث: وَهُوَ أَنه أعْطى كل حَيَوَان زوجه، ثمَّ هداه إِلَى مأتاه، وكل ذكر يَهْتَدِي كَيفَ يَأْتِي الْأُنْثَى. وَرُوِيَ عَن أبس سابط أَنه قَالَ: أبهمت الْبَهَائِم إِلَّا عَن أَربع: تعرف خَالِقهَا، وتطلب رزقها، وتدفع عَن نَفسهَا، وتعرف كَيفَ يَأْتِي (أنثاه).
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ فَمَا بَال الْقُرُون الأولى﴾ مَعْنَاهُ: فَمَا حَال الْقُرُون الأولى، وَأَرَادَ بِهِ مَا حَالهم فِيمَا دعوتني إِلَيْهِ؟
وَقيل: لما دَعَاهُ مُوسَى إِلَى الْإِقْرَار بِالْبَعْثِ سَأَلَ وَقَالَ: مَا حَال الْقُرُون الأولى فِي الْبَعْث؟ وَيُقَال: إِنَّه انْصَرف إِلَى هَذَا الْكَلَام تعنتا، وعدولا عَن الْجَواب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ علمهَا عِنْد رَبِّي﴾ أَي: علم الْقُرُون الأولى عِنْد رَبِّي.
[قَوْله: ﴿فِي كتاب﴾ قَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ].
وَقَوله: ﴿لَا يضل رَبِّي﴾ أَي: لَا يخطىء رَبِّي، وَقَالَ ثَعْلَب: لَا يذهب عَلَيْهِ مَوْضِعه، وَقيل: لَا يغيب عَن رَبِّي، وَقَرَأَ الْحسن: " لَا يضل رَبِّي " بِرَفْع الْيَاء، من الإضلال، وَيُقَال: لَا يضل رَبِّي: لَا يغْفل عَنهُ رَبِّي.
وَقَوله: ﴿وَلَا ينسى﴾ أَي: لَا يتْركهُ، فينتقم من الْكَافِر، ويجازي الْمُؤمن، وَيُقَال:
334
﴿جعل لكم الأَرْض مهدا وسلك لكم فِيهَا سبلا وَأنزل من السَّمَاء مَاء فأخرجنا بِهِ أَزْوَاجًا من نَبَات شَتَّى (٥٣) كلوا وارعوا أنعامكم إِن فِي ذَلِك لآيَات لأولي النهى (٥٤) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم وَمِنْهَا نخرجم تَارَة أُخْرَى (٥٥) وَلَقَد أريناه آيَاتنَا كلهَا فكذب وأبى (٥٦) قَالَ أجئتنا لتخرجنا من أَرْضنَا بسحرك يَا مُوسَى (٥٧) ﴾. هُوَ النسْيَان حَقِيقَة. وَقَرَأَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ: " وَلَا ينسى " على مَا لم يسم فَاعله.
335
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذِي جعل لكم الأَرْض مهادا﴾ وقرىء: " مهدا " إِلَى هَذَا الْموضع انْتهى كَلَام فِرْعَوْن مَعَ مُوسَى وَجَوَابه إِيَّاه. وَقَوله: ﴿الَّذِي جعل لكم الأَرْض مهدا﴾ ابْتِدَاء كَلَام من الله وَمَعْنَاهُ: مُسْتَقرًّا.
وَقَوله: ﴿وسلك لكم فِيهَا سبلا﴾ أَي: سهل ووطأ لكم فِيهَا طرقا.
وَقَوله: ﴿وَأنزل من السَّمَاء مَاء﴾ أَي: الْمَطَر.
وَقَوله: ﴿فأخرجنا بِهِ أَزْوَاجًا﴾ أَي: أصنافا: الْأَحْمَر، والأصفر، والأخضر.
وَقَوله: ﴿من نَبَات شَتَّى﴾ أَي: من نَبَات مُتَفَرِّقَة.
وَقَوله: ﴿كلوا وارعوا أنعامكم﴾ أَي: كلوا، وأسيموا أنعامكم ترعى.
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لأولي النهى﴾ قَالَ ثَعْلَب: لأولي الْعُقُول، وَقيل: للَّذين يَنْتَهِي إِلَى رَأْيهمْ، وَقيل: للَّذين يتناهون عَن الْمعاصِي وينزجرون عَنْهَا بعقولهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ﴾ أَي: من الأَرْض.
وَقَوله: ﴿وفيهَا نعيدكم﴾ أَي: عِنْد الْمَوْت.
وَقَوله: ﴿وَمِنْهَا نخرجكم تَارَة أُخْرَى﴾ أَي: عِنْد الْحَشْر. فَإِن قيل: فِي الِابْتِدَاء لم نخرج عَن الأَرْض، فَكيف قَالَ: ﴿تَارَة أُخْرَى﴾ ؟. قُلْنَا مَعْنَاهُ: وَمِنْهَا نخلقكم تَارَة أُخْرَى، فَيصح الْمَعْنى على هَذَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد أريناه آيَاتنَا كلهَا﴾ هِيَ الْآيَات التسع الَّتِي أعطيها مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: ﴿فكذب وأبى﴾ أَي: كذب بِالتَّوْحِيدِ، وأبى عَن الْإِيمَان.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ أجئتنا لتخرجنا من أَرْضنَا بسحرك يَا مُوسَى﴾ مَعْنَاهُ: لتأْخذ رمنا أَرْضنَا؛ فَيكون لَك الْملك وَالسُّلْطَان، وَتخرج من تشَاء، وَتدْخل من تشَاء.
335
﴿فلنأتينك بِسحر مثله فَاجْعَلْ بَيْننَا وَبَيْنك موعدا لَا نخلفه نَحن وَلَا أَنْت مَكَانا سوى (٥٨) قَالَ مَوْعدكُمْ يَوْم الزِّينَة وَأَن يحْشر النَّاس ضحى (٥٩) فَتَوَلّى فِرْعَوْن فَجمع كَيده ثمَّ أَتَى (٦٠) قَالَ لَهُم مُوسَى وَيْلكُمْ لَا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بِعَذَاب﴾
336
قَوْله: ﴿فلنأتينك بِسحر مثله﴾ يَعْنِي: مثل سحرك.
وَقَوله: ﴿فَاجْعَلْ بَيْننَا وَبَيْنك موعدا﴾ أَي: موعدا للاجتماع.
وَقَوله: ﴿لَا نخلفه نَحن وَلَا أَنْت﴾ أَي: لَا نتخلف نَحن وَلَا أَنْت.
وَقَوله: ﴿مَكَانا سوى﴾ قرىء بِالرَّفْع، وقرىء بِالْكَسْرِ. وَمَعْنَاهُ: مَكَانا عدلا، وَقيل: منصفا وَيُقَال: فِي مَكَان مستوى لَا يغيب عَن أحد فِيهَا مَا يفعل بَعْضنَا بِبَعْض.
قَالَ ابْن فَارس: وَهَذَا قَول الْحسن، وَيُقَال: مَكَانا سوى أَي: يَسْتَوِي فِي الْمسَافَة إِلَيْهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ مَوْعدكُمْ يَوْم الزِّينَة﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: يَوْم الزِّينَة يَوْم عيد لَهُم؛ كَانُوا يَجْتَمعُونَ لَهُ، وَيُقَال: يَوْم الفيروز. وَعَن عَطاء: أَنه كره الزِّينَة للأعياد؛ قَالَ: هُوَ من عمل الْكفَّار.
وَقَوله: ﴿وَأَن يحْشر النَّاس ضحى﴾ أَي: فِي صدر النَّهَار، وَقد جرت الْعَادة أَن الأعياد تكون فِي أول النَّهَار، وَكَذَلِكَ اجْتِمَاع النَّاس فِي الْأُمُور أَكثر مَا يكون فِي أول النَّهَار.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَتَوَلّى فِرْعَوْن﴾ مَعْنَاهُ: فَأَعْرض، وَقيل: ولى الْأَمر فِرْعَوْن.
وَقَوله: ﴿فَجمع كَيده﴾ أَي: مكره وحيلته.
وَقَوله: ﴿ثمَّ أَتَى﴾ أَي: ثمَّ أَتَى بالموعد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ لَهُم مُوسَى وَيْلكُمْ لَا تفتروا على الله كذبا﴾ قَالَ الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس: جمع فِرْعَوْن سبعين ألفا من السَّحَرَة، وَذكر مقَاتل: حمس عشرَة ألفا، وَذكر بَعضهم: نيفا وَسبعين رجلا، وَهُوَ قَول مَعْرُوف.
336
﴿وَقد خَابَ من افترى (٦١) فتنازعوا أَمرهم بَينهم وأسروا النَّجْوَى (٦٢) قَالُوا إِن﴾
وَقَوله: ﴿وَيْلكُمْ لَا تفتروا عَليّ كذبا﴾ أَي: لَا تختلقوا على الله كذبا، مَعْنَاهُ: لَا تكذبوا على الله.
وَقَوله: ﴿فيسحتكم بِعَذَاب﴾ بِنصب الْيَاء، وقرىء: " فيسحتكم " بِرَفْع الْيَاء، وَمَعْنَاهُ: الاستئصال أَي: يستأصلكم بِالْعَذَابِ، قَالَ الفرزدق شعرًا:
(نَالَ الْخلَافَة إِذْ كَانَت لَهُ قدرا كَمثل مُوسَى الَّذِي وافى على قدر)
(وعض زمَان يَا بن مَرْوَان لم يدع من المَال إِلَّا مسحتا أَو مجلف)
وَفرق بَعضهم بَين الرّفْع وَالْفَتْح؛ فَقَالَ: هُوَ بِالنّصب أَن لَا يبْقى شَيْء، وبالرفع أَن يبْقى بَقِيَّة، وَالأَصَح أَن لَا فرق. وَقيل: فيسحتكم، أَي: (شهد) لكم.
وَقَوله: ﴿وَقد خَابَ من افترى﴾ أَي: خسر وَهلك من افترى.
337
قَوْله تَعَالَى: ﴿فتنازعوا أَمرهم بَينهم وأسروا النَّجْوَى﴾ قَالَ قَتَادَة: هَذَا ينْصَرف إِلَى السَّحَرَة، وإسرارهم النَّجْوَى أَنهم قَالُوا: إِن كَانَ مَا يَأْتِي بِهِ مُوسَى سحرًا، فسنغلبه، وَإِن غلبنا فَلهُ أَمر، وَرُوِيَ أَنهم قَالُوا: إِن غلبنا اتبعناه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا إِن هَذَانِ لساحران﴾ اعْلَم أَن هَذِه الْآيَة مشكلة فِي الْعَرَبيَّة، وفيهَا ثَلَاث قراءات:
قَرَأَ أَبُو عَمْرو: " إِن هذَيْن لساحران "، وَقَرَأَ حَفْص: " إِن هَذَانِ لساحران "، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: " إِن هَذَانِ لساحران ".
أما قِرَاءَة أبي عَمْرو: فَهِيَ المستقيمة على ظَاهر الْعَرَبيَّة، وَزعم أَبُو عَمْرو أَن " هَذَانِ " غلط من الْكَاتِب فِي الْمُصحف.
337
وَعَن عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: أرى فِي الْمُصحف لحنا، (تستقيمه) الْعَرَب بألسنتها. وَمثله عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -.
وَأما قِرَاءَة حَفْص: فَهِيَ مُسْتَقِيمَة أَيْضا على الْعَرَبيَّة؛ لِأَن إِن مُخَفّفَة يكون مَا بعْدهَا مَرْفُوعا، وَمَعْنَاهُ: مَا هَذَانِ إِلَّا ساحران.
وَأما قِرَاءَة الْأَكْثَرين - وَهُوَ الْأَصَح - قَالَ الزّجاج: لَا نرضى قِرَاءَة أبي عَمْرو فِي هَذِه الْآيَة؛ لِأَنَّهَا خلاف الْمُصحف، وَأما وَجه قَوْله: ﴿إِن هَذَانِ﴾ فَلهُ وُجُوه فِي الْعَرَبيَّة: أما القدماء من النَّحْوِيين فَإِنَّهُم قَالُوا: " هُوَ على تَقْدِير: إِنَّه هَذَانِ، فَحذف الْهَاء، وَمثله كثير فِي الْعَرَبيَّة، وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن هَذَا لُغَة كنَانَة وخثعم (وزبيد)، وَقَالَ الْكسَائي: لُغَة بلحارث بن كَعْب من كنَانَة، وَأنْشد الْكسَائي شعرًا:
(تزَود مني بَين أذنَاهُ ضَرْبَة... دَعَتْهُ إِلَى هَذِه التُّرَاب عقيم)
وَأنْشد غَيره:
(إِن أَبَاهَا وَأَبا أَبَاهَا قد... بلغا فِي الْمجد غايتاها)
وأنشدوا أَيْضا:
(أَي قلُوص رَاكب ترَاهَا... طاروا علاهن فطر علاها)
أَي: عَلَيْهِنَّ.
قَالَ الْكسَائي: على هَذِه اللُّغَة يَقُولُونَ: أَتَانِي الزيدان، وَرَأَيْت الزيدان، ومررت بالزيدان، وَلَا يتركون ألف التَّثْنِيَة فِي شَيْء مِنْهَا.
وَأما الْوَجْه الثَّالِث، هُوَ أصح الْوُجُوه، فَإِن الْقُرْآن لَا يحمل على اللُّغَة الْبَعِيدَة؛ وَهُوَ أَن معنى قَوْله: ﴿إِن هَذَانِ﴾ أَي: نعم هَذَانِ، قَالَ الشَّاعِر:
(بكر العواذل فِي الصَّباح... يلمنني وألومهن)
(وَيَقُلْنَ شيب قد علاك... وَقد كَبرت فَقلت إِنَّه)
338
﴿هَذَانِ لساحران يُريدَان أَن يخرجاكم من أَرْضكُم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى (٦٣) فَأَجْمعُوا كيدكم ثمَّ ائْتُوا صفا﴾
أَي: نعم
وَرُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا أَتَى عبد الله بن الزبير يطْمع شَيْئا، فَلم (يحصل) لَهُ طمعه، فَقَالَ الْأَعرَابِي: لعن الله نَاقَة حَملتنِي إِلَيْك، فَقَالَ ابْن الزبير: إِن، وصاحبها، أَي: نعم. وَفِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " إِن ذَاك إِلَّا ساحران "، وَهِي شَاذَّة.
وَقَوله: ﴿يُريدَان أَن يخرجاكم من أَرْضكُم بسحرهما﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿ويذهبا بطريقتكم المثلى﴾ أَي: بالطريقة المستقيمة الَّتِي أَنْتُم عَلَيْهَا، وَكَانُوا يظنون أَنهم على دين مُسْتَقِيم، والمثلى تَأْنِيث الأمثل. وَأما ابْن عَبَّاس قَالَ: بطريقتكم المثلى أَي: الرِّجَال الْأَشْرَاف.
وَقَالَ قَتَادَة: أَرَادَ بِهِ بني إِسْرَائِيل، وَكَانُوا أهل يسَار (وَعزة).
فَقَالُوا: يُريدَان أَن يذهبا بهؤلاء. وَالْعرب تَقول: هَؤُلَاءِ طَريقَة الْقَوْم أَي: أَشْرَافهم.
وَمِنْهُم من قَالَ: مَعْنَاهُ أهل طريقتكم المثلى.
339
وَقَوله: ﴿فَأَجْمعُوا كيدكم﴾ وقرىء بالوصل: " فاجمعوا ". أما قَوْله: ﴿فَأَجْمعُوا﴾ بِالْقطعِ فَمَعْنَاه: الْعَزِيمَة والإحكام. قَالَ الْأَزْهَرِي: تَقْدِيره: اعزموا كلكُمْ على كَيده مُجْتَمعين لَهُ، وَلَا تختلفوا فيختل أَمركُم. وَأما قَوْله: " فاجمعوا " بالوصل، مَعْنَاهُ: جيئوا بِكُل كيد لكم؛ لتعارضوا مُوسَى.
وَقَوله: ﴿ثمَّ ائْتُوا صفا﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مصطفين، وَقَالَ غَيره: الصَّفّ هُوَ
339
﴿وَقد أَفْلح الْيَوْم من استعلى (٦٤) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تلقي وَإِمَّا أَن نَكُون أول من ألْقى (٦٥) قَالَ بل ألقوا فَإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى (٦٦) فأوجس فِي نَفسه خيفة مُوسَى (٦٧) [الْمصلى]، وَمَعْنَاهُ: ثمَّ ائْتُوا الْمَكَان الْمَوْعُود.
وَقَوله: {وَقد أَفْلح الْيَوْم من استعلى﴾
أَي: سعد وفاز من كَانَت لَهُ الْغَلَبَة فِي الْيَوْم.
340
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تلقي وَإِمَّا أَن نَكُون أول من ألْقى﴾ مَعْنَاهُ: اختر، إِمَّا أَن تلقي أَنْت أَولا، أَو نلقي نَحن أَولا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ بل ألقوا﴾ يَعْنِي: ابتدءوا أَنْتُم بالإلقاء. فَإِن قَالَ قَائِل: إلقاؤهم كَانَ كفرا وسحرا، فَهَل يجوز أَن يَأْمُرهُم مُوسَى بالإلقاء الَّذِي هُوَ سحر وَكفر؟ الْجَواب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن هَذَا أَمر بِمَعْنى الْخَبَر، وَمَعْنَاهُ: إِن كَانَ إلقاؤكم عنْدكُمْ حجَّة فَألْقوا، وَالثَّانِي: أَنه أَمرهم بالإلقاء على قصد إبِْطَال سحرهم بِمَا يلقى من عَصَاهُ، وَهَذَا جَائِز.
وَقَوله: ﴿فَإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى﴾ وقرىء بِالْيَاءِ وَالتَّاء " تخيل "، فَمن قَرَأَ بِالتَّاءِ، فَهُوَ رَاجع إِلَى العصي والحبال، فأنثت لِأَنَّهَا جمع، وَأما بِالْيَاءِ فَيَنْصَرِف إِلَى الْإِلْقَاء. وَفِي الْقِصَّة: أَنهم لما ألقوا الحبال والعصي رأى مُوسَى وَالْقَوْم كَأَن الأَرْض امْتَلَأت حيات، وَهِي تسْعَى أَي: تذْهب وتجيء. وَاعْلَم أَن التخايل مَا لَا أصل لَهُ. وَيُقَال: إِنَّهُم أخذُوا بأعين النَّاس، فظنوا وَحَسبُوا أَنَّهَا حيات، وَقيل: إِن حبالهم وعصيهم أخذت ميلًا من هَذَا الْجَانِب، وميلا من ذَلِك الْجَانِب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأوجس فِي نَفسه خيفة مُوسَى﴾ أَي: وجد فِي نَفسه خيفة، وَاخْتلفُوا فِي هَذَا الْخَوْف على قَوْلَيْنِ:
340
﴿قُلْنَا لَا تخف إِنَّك أَنْت الْأَعْلَى (٦٨) وألق مَا فِي يَمِينك تلقف مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كيد سَاحر وَلَا يفلح السَّاحر حَيْثُ أَتَى (٦٩) فألقي السَّحَرَة سجدا قَالُوا آمنا بِرَبّ﴾
أَحدهمَا: أَنه خوف البشرية، وَالْآخر: خَافَ على الْقَوْم أَن يلتبس عَلَيْهِم الْأَمر، فَلَا يُؤمنُوا، وَيُقَال: خَافَ على قومه أَن يشكوا، فيرجعوا عَن الْإِيمَان.
341
قَوْله تَعَالَى: ﴿قُلْنَا لَا تخف إِنَّك أَنْت الْأَعْلَى﴾ أَي: الْغَلَبَة وَالظفر لَك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وألق مَا فِي يَمِينك تلقف مَا صَنَعُوا﴾ أَي: تلتقم وتبتلع.
وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا فتحت فاها، فابتلعت كل مَا كَانَ يمر من العصي والحبال، وَفرْعَوْن يضْحك ويظن أَنه سحر، ثمَّ قصدت قبَّة فِرْعَوْن، وَكَانَ طولهَا فِي الْهَوَاء [أَرْبَعِينَ] ذِرَاعا، ففتحت فاها على قدر ثَمَانِينَ ذِرَاعا، وأرادت أَن تلتقم الْقبَّة، فَنَادَى فِرْعَوْن: يَا مُوسَى، بِحَق التربية، قَالَ: فجَاء فَأَخذهَا، فَعَادَت عَصا على مَا كَانَت.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا صَنَعُوا كيد سَاحر﴾ قرىء " سَاحر "، وقرىء " سحر "، فَقَوله: ﴿كيد سَاحر﴾ أَي: حِيلَة سَاحر.
وَقَوله: ﴿كيد سحر﴾ أَي: حِيلَة من سحر.
وَقَوله: ﴿وَلَا يفلح السَّاحر حَيْثُ أَتَى﴾ فِي التَّفْسِير أَن مَعْنَاهُ: أَيْن وجد قتل.
وَفِي بعض المسانيد عَن جُنْدُب بن عبد الله، أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا أَخَذْتُم السَّاحر فَاقْتُلُوهُ، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا يفلح السَّاحر حَيْثُ أَتَى﴾ ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿فألقي السَّحَرَة سجدا﴾ قد بَينا من قبل.
وَقَوله: ﴿قَالُوا آمنا بِرَبّ هَارُون ومُوسَى﴾ أَي: بإله هَارُون ومُوسَى، وَقدم هَارُون على مُوسَى على وفْق رُءُوس الْآي.
341
﴿هرون ومُوسَى (٧٠) قَالَ آمنتم لَهُ قبل أَن آذن لكم إِنَّه لكبيركم الَّذِي علمكُم السحر فلأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل ولتعلمن أَيّنَا أَشد عذَابا وَأبقى (٧١) قَالُوا لن نؤثرك على مَا جَاءَنَا من الْبَينَات وَالَّذِي فطرنا فَاقْض مَا أَنْت﴾
342
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ آمنتم لَهُ قبل أَن آذن لكم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿إِنَّه لكبيركم الَّذِي علمكُم السحر﴾ أَي: معلمكم الَّذِي علمكُم السحر. وَحكى الْكسَائي أَن الْعَرَب تَقول: رجعت من عِنْد كبيري أَي: معلمي.
وَقَوله: ﴿فلأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل﴾ مَعْنَاهُ: على جُذُوع النّخل، وَذكر كلمة فِي؛ لِأَن المصلوب يصلب مستطيلا على الْجذع؛ فالجذع يشْتَمل عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿ولتعلمن أَيّنَا أَشد عذَابا وَأبقى﴾ أَي: أَنا أقوى أَو رب مُوسَى؟ وَذكر الْكَلْبِيّ: أَن فِرْعَوْن قطع أَيْديهم وأرجلهم وصلبهم، وَذكر غَيره: أَنه لم يقدر عَلَيْهِم، وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: ﴿لَا يصلونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتبعكما الغالبون﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا لن نؤثرك﴾ أَي: لن نختارك. ﴿على مَا جَاءَنَا من الْبَينَات﴾ أَي: الدلالات؛ وَكَانَ استدلالهم أَنهم قَالُوا: إِن كَانَ هَذَا سحر، فَأَيْنَ حبالنا وعصينا؟ وَقيل: من الْبَينَات أَي: الْيَقِين وَالْعلم.
وَقَوله: ﴿وَالَّذِي فطرنا﴾. فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: (وَقَوله) وَلنْ نؤثرك على الَّذِي فطرنا، وَالْآخر: أَنه قسم.
وَقَوله: ﴿فَاقْض مَا أَنْت قَاض﴾ أَي: فَاصْنَعْ مَا أَنْت صانع.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا تقضي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَي: أَمرك وسلطانك فِي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا، وسيزول عَن قريب.
342
﴿قَاض إِنَّمَا تقضي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا (٧٢) إِنَّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وَمَا أكرهتنا عَلَيْهِ من السحر وَالله خير وَأبقى (٧٣) إِنَّه من يَأْتِ ربه مجرما فَإِن لَهُ جَهَنَّم لَا يَمُوت فِيهَا﴾
343
وَقَوله: ﴿إِنَّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا﴾ أَي: ذنوبنا.
وَقَوله: ﴿وَمَا أكرهتنا عَلَيْهِ من السحر﴾ فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَقد جَاءُوا مختارين، وحلفوا بعزة فِرْعَوْن أَن لَهُم الْغَلَبَة على مَا ذكر فِي مَوضِع آخر؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: كَانَ فِرْعَوْن يجْبر قوما على تعلم السحر؛ لكيلا يذهب أَصله، وَكَانَ قد أكرههم فِي الِابْتِدَاء على تعلمه، فأرادوا بذلك.
وَقَوله: ﴿وَالله خير وَأبقى﴾ قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب مَعْنَاهُ: وَالله خير ثَوابًا إِن أطيع، وَأبقى عقَابا إِن عصي. يُقَال: إِن أَمر السُّلْطَان إِكْرَاه؛ فَلهَذَا قَالُوا: وَمَا أكرهتنا عَلَيْهِ من السحر، لما سجدوا أَرَاهُم الله تَعَالَى مواضعهم فِي الْجنَّة، وَمَا أعد لَهُم من الثَّوَاب والكرامة، فَلَمَّا رفعوا رُءُوسهم وَقد [رَأَوْا] قَالُوا مَا قَالُوا.
وَعَن عِكْرِمَة: أَصْبحُوا وهم سحرة، وأمسوا وهم شُهَدَاء.
وَرُوِيَ أَن الْحسن كَانَ إِذا بلغ إِلَى هَذِه الْآيَة قَالَ: عجبا لقوم كَافِرين سحرة من أَشد النَّاس كفرا، رسخ الْإِيمَان فِي قُلُوبهم حِين قَالُوا مَا قَالُوا، وَلم يبالوا بِعَذَاب فِرْعَوْن، وَترى الرجل من هَؤُلَاءِ يصحب الْإِيمَان سِتِّينَ سنة، ثمَّ يَبِيعهُ بِثمن يسير.
وَفِي الْقِصَّة: أَن امْرَأَة فِرْعَوْن كَانَت تستخبر فِي ذَلِك الْيَوْم لمن الْغَلَبَة، فَلَمَّا أخْبرت أَن الْغَلَبَة كَانَت لمُوسَى، أظهرت الْإِيمَان لله، فَذكر ذَلِك لفرعون، فَبعث قوما، وَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى أعظم صَخْرَة، فَإِن أصرت على قَوْلهَا، فَألْقوا عَلَيْهَا الصَّخْرَة، فأراها الله تَعَالَى موضعهَا من الْجنَّة، وَقبض روحها، فَجَاءُوا وألقوا الصَّخْرَة على جَسَد ميت.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّه من يَأْتِ ربه مجرما﴾ قَالَ بَعضهم: هَذَا من قَول السَّحَرَة، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ ابْتِدَاء كَلَام من الله تَعَالَى. قَوْله: ﴿مجرما﴾ أَي: مُشْركًا.
وَقَوله: ﴿فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى﴾ أَي: لَا يحيا حَيَاة ينْتَفع بهَا،
343
﴿وَلَا يحيى (٧٤) وَمن يَأْته مُؤمنا قد عمل الصَّالِحَات فَأُولَئِك لَهُم الدَّرَجَات العلى (٧٥) جنَّات عدن تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء من تزكّى (٧٦) وَلَقَد أَوْحَينَا إِلَى مُوسَى أَن أسر بعبادي فَاضْرب لَهُم طَرِيقا فِي الْبَحْر يبسا لَا﴾ وَلَا يَمُوت فيستريح، وَيُقَال: إِن أَرْوَاحهم تكون معلقَة بحناجرهم، لَا تخرج فيموتون، وَلَا تَسْتَقِر فِي موضعهَا فيحيون، قَالَ الشَّاعِر:
344
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن يَأْته مُؤمنا قد عمل الصَّالِحَات﴾ أَي: أدّى الْفَرَائِض. قَالَ الْحسن: من أدّى الفراض فقد اسْتكْمل الْإِيمَان، وَمن لم يؤد الْفَرَائِض فَلم يستكمل الْإِيمَان.
وَقَوله: ﴿فَأُولَئِك لَهُم الدَّرَجَات العلى﴾ جمع الْعليا، والعليا تَأْنِيث الْأَعْلَى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿جنَّات عدن﴾ قد بَينا هَذَا من قبل، وَفِي بعض التفاسير عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: جنَّة عدن قصر لَهُ عشرَة آلَاف بَاب، لَا يعلم سعتها إِلَّا الله وَيُقَال: نهر فِي الْجنَّة على حافتيه قُصُور الْجنان.
وَقَوله: ﴿تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿خَالِدين فِيهَا﴾ أَي: مقيمين فِيهَا.
وَقَوله: ﴿وَذَلِكَ جَزَاء من تزكّى﴾ أَي: تَطْهِير من الذُّنُوب، وَقيل: جَزَاء من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد أَوْحَينَا إِلَى مُوسَى أَن أسر بعبادي﴾ أَي: سر بهم لَيْلًا.
وَقَوله: ﴿فَاضْرب لَهُم طَرِيقا فِي الْبَحْر يبسا﴾ أَي: ذَا يبس، وَقيل: يَابسا، أَي: لَا ندوة فِيهِ، وَلَا بَلل.
344
﴿تخَاف دركا وَلَا تخشى (٧٧) فأتبعهم فِرْعَوْن بجُنُوده فغشيهم من اليم مَا غشيهم (٧٨) وأضل فِرْعَوْن قومه وَمَا هدى (٧٩) يَا بني إِسْرَائِيل قد أنجيناكم من عَدوكُمْ وواعدناكم جَانب الطّور الْأَيْمن ونزلنا عَلَيْكُم الْمَنّ والسلوى (٨٠) كلوا﴾
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لَا تخَاف دركا وَلَا تخشى﴾ رُوِيَ أَنهم لما بلغُوا الْبَحْر قَالُوا: يَا مُوسَى، هَذَا الْبَحْر أمامنا، وَفرْعَوْن وجنده وَرَاءَنَا، فَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿لَا تخَاف دركا وَلَا تخشى﴾. أَي: لَا تخَاف أَن يدركك فِرْعَوْن من ورائك، وَلَا تخشى أَن يغرقك الْبَحْر أمامك، وَقَرَأَ حَمْزَة: " وَلَا تخف " على الْأَمر.
345
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأتبعهم فِرْعَوْن بجُنُوده﴾ قرىء: " فأتبعهم "، وقرىء: " فاتبعهم " أما قَوْله: ﴿فأتبعهم﴾ أَي: بعث فِي إثرهم جُنُوده.
وَقَوله: ﴿فاتبعهم﴾ أَي: اتبعهم بجنده.
وَقَوله: ﴿فغشيهم من اليم مَا غشيهم﴾ مَعْنَاهُ: غشيهم من الْبَحْر مَا غرقهم، وَيُقَال: غشيهم من اليم مَا غشي قوم مُوسَى فنجا قوم مُوسَى، وغرقوا هم، وَيُقَال: غشيهم من اليم مَا أهلكهم.
وَقَوله: ﴿وأضل فِرْعَوْن قومه وَمَا هدى﴾ أَي: وَمَا أرشد، وَهُوَ جَوَاب لقَوْل فِرْعَوْن: ﴿وَمَا أهديكم إِلَّا سَبِيل الرشاد﴾.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿يَا بني إِسْرَائِيل قد أنجيناكم من عَدوكُمْ﴾ أَي: من أعدائكم، وَيُقَال: أَرَادَ بِهِ فِرْعَوْن وَحده.
وَقَوله: ﴿وواعدناكم جَانب الطّور الْأَيْمن﴾ فِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى وعد مُوسَى أَن يؤتيه كتابا من عِنْده، وَهُوَ التَّوْرَاة، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وواعدناكم جَانب الطّور الْأَيْمن﴾ أَي: لإعطاء الْكتاب.
وَقَوله: ﴿ونزلنا عَلَيْكُم الْمَنّ والسلوى﴾ قد بَيناهُ فِي سُورَة الْبَقَرَة.
وَقَوله: ﴿كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم﴾ أَي: من حَلَال مَا رزقناكم.
345
﴿من طَيّبَات مَا رزقناكم وَلَا تطغوا فِيهِ فَيحل عَلَيْكُم غَضَبي وَمن يحلل عَلَيْهِ غَضَبي فقد هوى (٨١) وَإِنِّي لغفار لمن تَابَ وآمن وَعمل صَالحا ثمَّ اهْتَدَى (٨٢) وَمَا أعجلك عَن قَوْمك يَا مُوسَى (٨٣) قَالَ هم أولاء على أثري وعجلت إِلَيْك رب﴾ وَقَوله: ﴿وَلَا تطغوا فِيهِ﴾. أَي: لَا تكفرُوا النِّعْمَة، وَيُقَال: لَا تخلطوا الْحَرَام بالحلال، وَعَن ابْن عَبَّاس: لَا تدخروا ثمَّ لَا تدخروا فتدود، وَلَوْلَا مَا صَامُوا لم يتود طَعَام.
وَقَوله: ﴿فَيحل عَلَيْكُم غَضَبي﴾ قرىء بِالْكَسْرِ وَالرَّفْع، أما بِالْكَسْرِ فَيجب، وَأما بِالرَّفْع فَينزل.
وَقَوله: ﴿وَمن يحلل عَلَيْهِ غَضَبي﴾ أَي: ينزل عَلَيْهِ، وقرىء: " وَمن يحلل " أَي: يجب.
وَقَوله: ﴿فقد هوى﴾ أَي: هلك، وَعَن شفي بن ماتع الأصبحي قَالَ: هوى وَاد فِي جَهَنَّم يهوي فِيهِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَمعنى الْآيَة أَي: وَقع فِيهِ.
346
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنِّي لغفار لمن تَابَ﴾ أَي: من الشّرك. ﴿وآمن﴾ أَي: آمن بِاللَّه.
وَقَوله: ﴿وَعمل صَالحا﴾ أَي: أدّى الْفَرَائِض.
وَقَوله: ﴿ثمَّ اهْتَدَى﴾ فِيهِ أَقْوَال: قَالَ ابْن عَبَّاس: لم يشك فِي إيمَانه وَعَن قَتَادَة قَالَ: مَاتَ على الْإِيمَان. وَعَن سعيد بن جُبَير: لزم السّنة وَالْجَمَاعَة. وَقَالَ بَعضهم: أخْلص، وَقَالَ بَعضهم: عمل (بِعَمَلِهِ) وَعَن ثَابت الْبنانِيّ قَالَ: تولى أهل الْبَيْت.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أعجلك عَن قَوْمك يَا مُوسَى﴾ فِي الْقِصَّة: أَنه لما جَاءَ مَعَ السّبْعين الميعاد تعجل بِنَفسِهِ، وَخلف السّبْعين وَرَاءه، فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ: ﴿وَمَا أعجلك عَن قَوْمك يَا مُوسَى﴾ أَي شَيْء حملك على العجلة؟
وَقَوله: ﴿قَالَ هم أولاء على أثري﴾ أَي: يأتوني خَلْفي.
وَقَوله: ﴿وعجلت إِلَيْك رب لترضى﴾ أَي: لتزداد رضَا، وَعَن بعض السّلف: أَنه
346
﴿لترضى (٨٤) قَالَ فَإنَّا قد فتنا قَوْمك من بعْدك وأضلهم السامري (٨٥) فَرجع مُوسَى إِلَى قومه غَضْبَان أسفا قَالَ يَا قوم ألم يَعدكُم ربكُم وَعدا حسنا أفطال عَلَيْكُم الْعَهْد أم أردتم أَن يحل عَلَيْكُم غضب من ربكُم فأخلفتم موعدي (٨٦) قَالُوا مَا﴾ تعجل شوقا.
347
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ فَإنَّا قد فتنا قَوْمك من بعْدك﴾ أَي: أوقعناهم فِي الْفِتْنَة.
قَوْله: ﴿وأضلهم السامري﴾ أَي: ضلوا بِسَبَبِهِ، وَقد بَينا طرفا من هَذِه الْقِصَّة فِي سُورَة الْأَعْرَاف. وَحكي عَن وهب بِإِسْنَادِهِ عَن رَاشد بن سعد أَن الله تَعَالَى لما قَالَ لَهُ هَذَا القَوْل قَالَ: يَا رب، من صاغ الْعجل؟ قَالَ: السامري، قَالَ: فَمن أَحْيَاهُ وَأظْهر مِنْهُ الخوار؟ قَالَ: أَنا، قَالَ: فَأَنت أضللتهم يَا رب، فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ: يَا (رَأس) النَّبِيين، أَنا رَأَيْت ذَلِك فِي قُلُوبهم فسهلته عَلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿فَرجع مُوسَى إِلَى قومه غَضْبَان أسفا﴾ أَي: شَدِيد الْحزن لما أصَاب قومه من الْفِتْنَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ يَا قوم ألم يَعدكُم ربكُم وَعدا حسنا﴾ مَعْنَاهُ: مَا وعد من إِنْزَال الْكتاب، وَمن التنجية من فِرْعَوْن وَقَومه، وَغير هَذَا مِمَّا وعد وحقق.
وَقَوله: ﴿أفطال عَلَيْكُم الْعَهْد﴾ كَانَ مُوسَى وعد أَن يعود بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا مَضَت عشرُون يَوْمًا، عدوا النَّهَار عشْرين، وَاللَّيْل عشْرين، وَقَالُوا قد مضى الْوَعْد.
وَقَوله: ﴿أم أردتم أَن يحل عَلَيْكُم غضب من ربكُم﴾. أَي: أردتم أَن تَفعلُوا فعلا يجب عَلَيْكُم الْغَضَب من ربكُم.
وَقَوله: ﴿فأخلفتم موعدي﴾ (أَو) وعدي.
347
﴿أخلفنا موعدك بملكنا وَلَكنَّا حملنَا أوزارا من زِينَة الْقَوْم فقذفناها فَكَذَلِك ألْقى﴾
348
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا مَا أخلفنا موعدك بملكنا﴾.
قرىء: " بملكنا "، وقرىء: " بمُلْكنا "؛ فَقَوله: " بمِلْكنا " أَي: بطاقتنا، وَقَوله: " بمُلْكنا " أَي: بسلطاننا. وَكَذَلِكَ " بمَلْكنا " بِفَتْح الْمِيم. وَأحسن مَا قيل فِي هَذَا هُوَ أَن الْمَرْء إِذا وَقع فِي البلية والفتنة لم يملك نَفسه. وَقد ثَبت عَن النَّبِي فِي بعض دعواته: " اللَّهُمَّ إِذا أردْت بِقوم فتْنَة فاقبضني إِلَيْك غير مفتون ".
وَقَوله: ﴿وَلَكنَّا (حملنَا﴾ ) وقرىء: " حملنَا ". فِي الْقِصَّة: أَنهم استعاروا حلي نسَاء القبط، ثمَّ لم يردوا حَتَّى خَرجُوا إِلَى جَانب الْبَحْر، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿حملنَا أوزارا من زِينَة الْقَوْم﴾. أَي: من حلي الْقَوْم، والأوزار: الأثقال، وسمى الْحلِيّ أوزارا، لأَنهم كَانُوا أخذوها على وَجه الْعَارِية، وَلم يردوها، فَكَانَت بِجِهَة الْخِيَانَة.
وَيُقَال: إِن الله تَعَالَى لما أغرقهم نبذ الْبَحْر حليهم، فَأَخذهَا، وَلم تكن الْغَنِيمَة حَلَالا لَهُم فِي ذَلِك الزَّمَان، فسماها أوزارا لهَذَا الْمَعْنى، وَقَالَ الشَّاعِر فِي الأوزار:
(أَلا من لنَفس تَمُوت فينقضي شقاها وَلَا تحيا حَيَاة لَهَا طعم)
(وأعددت للحرب أَوزَارهَا رماحا طوَالًا وخيلا ذُكُورا)
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فقذفناها﴾ (رُوِيَ أَن) هَارُون - عَلَيْهِ السَّلَام - أَمر أَن يحْفر حُفْرَة، ثمَّ أَمرهم أَن يلْقوا تِلْكَ الْحلِيّ فِيهَا، وأضرم عَلَيْهَا نَارا، وَفِي قَول آخر: أَن السامري أَمرهم بذلك، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿فقذفناها﴾.
وَقَوله: ﴿فَكَذَلِك ألْقى السامري﴾ يَعْنِي: ألْقى السامري أَيْضا مَا عِنْده من الْحلِيّ.
348
﴿السامري (٨٧) فَأخْرج لَهُم عجلا جسدا لَهُ خوار فَقَالُوا هَذَا إِلَهكُم وإله مُوسَى فنسي (٨٨) أَفلا يرَوْنَ أَلا يرجع إِلَيْهِم قولا وَلَا يملك لَهُم ضرا وَلَا نفعا (٨٩) ﴾
349
وَقَوله: ﴿فَأخْرج لَهُم عجلا جسدا لَهُ خوار﴾ فِي الْقِصَّة: أَن النَّار لما أخلصت الذَّهَب وَالْفِضَّة جَاءَ السامري، وَألقى فِيهِ قَبْضَة من التُّرَاب، أَخذهَا من تَحت حافر فرس جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقَالَ: كوني عجلا لَهُ خوار، فَصَارَ عجلا يخور.
وَقَوله: ﴿جسدا﴾ قيل: جسدا لَا رَأس لَهُ، وَقيل: جسدا لَا يضر وَلَا ينفع، وَقَالَ الْخَلِيل: الْعَرَب تسمي كل مَا لَا يَأْكُل وَلَا يشرب جسدا، وَكَانَ الْعجل لَا يَأْكُل وَلَا يشرب ويصيح، وَالْقَوْل الأول أَضْعَف الْأَقْوَال، وَاخْتلفُوا فِي الخوار: فالأكثرون أَنه صَوت عجل حَيّ، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَالْحسن، وَقَتَادَة وَجَمَاعَة، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ صَوت حفيف الرّيح، كَانَت تدخل فِي جَوْفه وَتخرج، وَهُوَ قَول ضَعِيف.
وَقَوله: ﴿فَقَالُوا هَذَا إِلَهكُم وإله مُوسَى فنسي﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن هَذَا إِلَهكُم وإله مُوسَى، تَركه مُوسَى هَاهُنَا، وَذهب يَطْلُبهُ.
وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: فنسي السامري الْإِيمَان بِاللَّه، أَي: ترك. وَقيل: فنسي مُوسَى أَن يذكر لكم أَن هَذَا هُوَ الْإِلَه.
وَقَوله: ﴿أَفلا يرَوْنَ أَلا يرجع إِلَيْهِم قولا﴾ فِي بعض التفاسير: أَن الْعجل خار خوارا وَاحِدًا، وَلم يعد، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿أَلا يرجع إِلَيْهِم قولا﴾ وَقَالَ بَعضهم: لَا يُجِيبهُمْ إِذا دَعوه.
وَقَوله: ﴿وَلَا يملك لَهُم ضرا وَلَا نفعا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
فَإِن قيل: السامري كَانَ كَافِرًا، وَهَذَا الَّذِي ظهر على يَده معْجزَة، فَكيف يجوز أَن تظهر المعجزة على يَد كَافِر؟ وَالْجَوَاب: أَن ذَلِك كَانَ لفتنة بني إِسْرَائِيل وابتلائهم.
وَعند أهل السّنة هَذَا جَائِز، وَلَا نقُول: هُوَ معْجزَة، وَلكنه محنة وفتنة.
وَفِي بعض الْآثَار: أَن هَارُون مر على السامري، وَهُوَ يصوغ الْعجل، فَقَالَ لَهُ:
349
﴿وَلَقَد قَالَ لَهُم هَارُون من قبل يَا قوم إِنَّمَا فتنتم بِهِ وَإِن ربكُم الرَّحْمَن فَاتبعُوني وَأَطيعُوا أَمْرِي (٩٠) قَالُوا لن نَبْرَح عَلَيْهِ عاكفين حَتَّى يرجع إِلَيْنَا مُوسَى (٩١) قَالَ يَا هَارُون مَا مَنعك إِذْ رَأَيْتهمْ ضلوا (٩٢) أَلا تتبعن أفعصيت أَمْرِي (٩٣) قَالَ يَا﴾ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هُوَ [شي] ينفع وَلَا يضر فَادع لي. فَقَالَ هَارُون: اللَّهُمَّ أعْطه على مَا فِي نَفسه، فَألْقى التُّرَاب فِي فَم الْعجل، وَقَالَ: كن عجلا يخور، فَكَانَ كَذَلِك بدعوة هَارُون.
وَقد قَالَ أهل الْعلم: إِنَّه لَيْسَ من عجل من ذهب يخور بِشُبْهَة تقع فِي أَنه إِلَه ومعبود.
350
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد قَالَ لَهُم هَارُون من قبل يَا قوم إِنَّمَا فتنتم بِهِ﴾ أَي: ابتليتم بِهِ.
﴿وَإِن ربكُم الرَّحْمَن﴾ أَي: معبودكم الرَّحْمَن، لَا مَا اتخذتموه معبودا.
وَقَوله: ﴿فَاتبعُوني﴾ أَي: اتبعوني فِي عبَادَة الله. ﴿وَأَطيعُوا أَمْرِي﴾ فِي ترك عبَادَة الْعجل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا لن نَبْرَح عَلَيْهِ عاكفين﴾ أَي: لن نزل مقيمين على عِبَادَته ﴿حَتَّى يرجع إِلَيْنَا مُوسَى﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ يَا هَارُون﴾ فِيهِ تَقْدِير، وَهُوَ أَن مُوسَى رَجَعَ، وَقَالَ: يَا هَارُون.
وَقَوله: ﴿مَا مَنعك إِذْ رَأَيْتهمْ ضلوا أَلا تتبعن﴾ لَا زَائِدَة، وَمَعْنَاهُ: أَن تتبعني.
وَقَوله: ﴿أفعصيت أَمْرِي﴾ أَي: خَالَفت أَمْرِي. فَإِن قَالَ قَائِل: هَل تَقولُونَ إِن هَارُون خَالف مُوسَى فِيمَا طلب مِنْهُ، وَأَنه داهن عَبدة الْعجل، وَلم يشدد فِي مَنعهم عَنْهَا؟ وَالْجَوَاب: أَن مُوسَى لم يطْلب من هَارُون إِلَّا أَن يخلفه فِي قومه، وَأَن يرفق بهم، فَرَأى هَارُون أَن لَا يقاتلهم، وَأَن الْإِمْسَاك عَن قِتَالهمْ أصلح، وَرَأى مُوسَى أَن يقاتلهم، وَرَأى أَن الْقِتَال أصلح، فَهَذَا رَأْي مُجْتَهد خَالف رَأْي مُجْتَهد، وَلَا عيب فِيهِ، وَإِنَّمَا
350
﴿بنؤم لَا تَأْخُذ بلحيتي وَلَا برأسي إِنِّي خشيت أَن تَقول فرقت بَين بَين إِسْرَائِيل وَلم ترقب قولي (٩٤) ﴾ عاتبه مُوسَى فِي تَركه الْقِتَال، يَعْنِي: لَو كنت أَنا مَكَانك كنت أقاتلهم، فَهَلا فعلت مثل ذَلِك.
351
( ألا تتبعن ) لا زائدة، ومعناه : أن تتبعني.
وقوله :( أفعصيت أمري ) أي : خالفت أمري. فإن قال قائل : هل تقولون إن هارون خالف موسى فيما طلب منه، وأنه داهن عبدة العجل، ولم يشدد في منعهم عنها ؟ والجواب : أن موسى لم يطلب من هارون إلا أن يخلفه في قومه، وأن يرفق بهم، فرأى هارون أن لا يقاتلهم، وأن الإمساك عن قتالهم أصلح، ورأى موسى أن يقاتلهم، ورأى أن القتال أصلح، فهذا رأي مجتهد خالف رأي مجتهد، ولا عيب فيه، وإنما عاتبه موسى في تركه القتال، يعني : لو كنت أنا مكانك كنت أقاتلهم، فهلا فعلت مثل ذلك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ يَابْنَ أم﴾. قرىء: " يَا بن أم " بِالنّصب و " يَابْنَ أم " بِالْكَسْرِ، وَقد بَينا هَذَا من قبل.
وَقَوله: ﴿لَا تَأْخُذ بلحيتي وَلَا برأسي﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: أَخذ رَأسه بِيَمِينِهِ، وَأخذ لحيته بيساره، وَيُقَال: إِن المُرَاد من الرَّأْس شعر الرَّأْس، وَيُقَال: أَرَادَ بِالرَّأْسِ الْأذن، فَإِن قَالَ قَائِل: هَذَا تهاون بِنَبِي من أَنْبيَاء الله، فَتكون كَبِيرَة من الْكَبَائِر، فَكيف وَجه فعل هَذَا من مُوسَى؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه يحْتَمل أَنه لم يكن مثل هَذَا الْفِعْل تهاونا فِي عَادَتهم، فَكَانَ الْأَخْذ باللحية شبه الْأَخْذ بالكف عِنْدهم، وَقَالَ بَعضهم: أَنه أَخذ بلحيته كَمَا يَأْخُذ الْإِنْسَان بلحية نَفسه عِنْد الْغَضَب فَجعله كنفسه، وَقد رُوِيَ أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ إِذا غضب جعل يفتل شَاربه، وَأولى الْأَجْوِبَة أَن هَذَا فعل الْإِنْسَان بِمثلِهِ وشكله عِنْد الْغَضَب، فَتكون صَغِيرَة لَا كَبِيرَة، والصغائر جَائِزَة على الْأَنْبِيَاء، وَإِنَّمَا ذكر هَارُون " الْأُم "، وَلم يذكر " الْأَب "، ليرققه على نَفسه.
وَقَوله: ﴿إِنِّي خشيت أَن تَقول فرقت بَين بني إِسْرَائِيل﴾ هَذَا بَيَان مَا رَأْي من الرَّأْي، يَعْنِي: خشيت أَن تَقول: جعلتهم أحزابا، فحزب عبدُوا الْعجل، وحزب قَاتلُوا، وحزب أَمْسكُوا عَن الْقِتَال، والتبس عَلَيْهِم أَنه هَل يجوز الْقِتَال أَو لَا؟، وحزب أَنْكَرُوا لم يُقَاتلُون؟ فَكل هَذَا التَّفَرُّق كَانَ جَائِزا لَو قَاتل هَارُون.
وَقَوله: ﴿وَلم ترقب قولي﴾ أَي: لم تحفظ قولي، وَهَذَا منصرف إِلَى قَوْله: ﴿واخلفني فِي قومِي وَأصْلح﴾ (وَقد بَينا أَن معنى قَوْله: ﴿وَأصْلح﴾ ) أَي: ارْفُقْ، فَرَأى أَن الرِّفْق أَن يكف يَده.
351
﴿قَالَ فَمَا خَطبك يَا سامري (٩٥) قَالَ بصرت بِمَا لم يبصروا بِهِ فقبضت قَبْضَة من أثر الرَّسُول فنبذتها وَكَذَلِكَ سَوَّلت لي نَفسِي (٩٦) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِن لَك فِي﴾
352
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ فَمَا خَطبك يَا سامري﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: لما اعتذر هَارُون بِمَا اعتذر بِهِ أقبل مُوسَى على السامري، فَقَالَ: ﴿مَا خَطبك يَا سامري﴾ والخطب هُوَ: الْجَلِيل من الْأَمر، وَمعنى الْآيَة: مَا هَذَا الْأَمر الْعَظِيم الَّذِي جِئْت بِهِ؟
وَقَوله: ﴿قَالَ بصرت بِمَا لم يبصروا بِهِ﴾ رَأَيْت بِمَا لم يرَوا، وَيُقَال: فطنت بِمَا لم يفطنوا بِهِ.
وَقَوله: ﴿فقبضت قَبْضَة من أثر الرَّسُول﴾ الْمَعْرُوف: بالضاد الْمُعْجَمَة، وَقَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ: " فقبصت " بالصَّاد غير الْمُعْجَمَة، وَالْفرق بَينهمَا أَن الْقَبْض: هُوَ الْأَخْذ بملء الْكَفّ، والقبص هُوَ الْأَخْذ بأطراف الْأَصَابِع.
وَقَوله: ﴿من أثر الرَّسُول﴾ يَعْنِي: من تُرَاب حافر فرس جِبْرِيل، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ عرف هَذَا؟ وَكَيف رأى جِبْرِيل من بَين سَائِر النَّاس؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن أمه لما وَلدته فِي السّنة الَّتِي كَانَ يقتل فِيهَا الْأَنْبِيَاء، وَضعته فِي كَهْف حذرا عَلَيْهِ، فَبعث الله جِبْرِيل ليربيه ويغذيه لما قضى الله على يَده من الْفِتْنَة، فَلَمَّا رَآهُ عرفه وَأخذ التُّرَاب، وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن جِبْرِيل كَانَ على فرس حصان أبلق، وَكَانَ ذَلِك الْفرس تسمى فرس الْحَيَاة، وَكَانَ كلما وضع (الْفرس) حَافره على مَوضِع أَخْضَر مَا تَحت حَافره، فَعرف أَنه فرس الْحَيَاة، وَكَانَ سمع بِذكرِهِ، وَأَن الَّذِي عَلَيْهِ جِبْرِيل، فَأخذ القبضة.
وَقَوله: ﴿فنبذتها﴾ أَي: ألقيتها فِي فَم الْعجل، وَقد قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا خار الْعجل لهَذَا؟ وَهُوَ أَن التُّرَاب كَانَ مأخوذا من تَحت فرس الْحَيَاة.
وَقَوله: ﴿وَكَذَلِكَ سَوَّلت لي نَفسِي﴾ أَي: زينت لي نَفسِي.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ فَاذْهَبْ فَإِن لَك فِي الْحَيَاة أَن تَقول لَا مساس﴾ أَي: لَا أمس لَا
352
﴿الْحَيَاة أَن تَقول لَا مساس وَإِن لَك موعدا لن تخلفه وَانْظُر إِلَى إلهك الَّذِي ظلت عَلَيْهِ عاكفا لنحرقنه ثمَّ لننسفنه فِي اليم نسفا (٩٧) إِنَّمَا إِلَهكُم الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وسع كل شَيْء علما (٩٨) كَذَلِك نقص عَلَيْك من أنباء مَا قد سبق وَقد آتيناك من لدنا ذكرا (٩٩) من أعرض عَنهُ فَإِنَّهُ يحمل يَوْم الْقِيَامَة وزرا (١٠٠) خَالِدين﴾ أمس، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى دَعَا عَلَيْهِ فَصَارَ يهيم مَعَ الْوَحْش، وَرُوِيَ أَنه كَانَ إِذا مس أحدا أَو مَسّه أحد حما جَمِيعًا، قَالَ الشَّاعِر:
﴿تَمِيم كرهط السامري وَقَوله أَلا لَا يُرِيد السامري مساسا﴾
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَ السامري رجلا من أهل كرمان، وَيُقَال: من باجرما، وَالْأَكْثَرُونَ أَنه كَانَ من بني إِسْرَائِيل من رَهْط يُقَال لَهُم: السامري.
وَقَوله: ﴿وَإِن لَك موعدا لن تخلفه﴾ أَي: لن تكذبه، وَمَعْنَاهُ: أَن الله يكافئك على فعلك وَلَا تفوته، وَقُرِئَ: " لن تخلفه " بِكَسْر اللَّام أَي: توافى يَوْم الْقِيَامَة لميعاد الْعَذَاب وَلَا تخلف.
وَقَوله: ﴿وَانْظُر إِلَى إلهك الَّذِي ظلت عَلَيْهِ عاكفا﴾ أَي: ظلت عَلَيْهِ مُقيما.
وَقَوله: ﴿لنحرقنه﴾ وَقُرِئَ: " لنحرقنه " من الإحراق، وهما فِي الْمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ التحريق بالنَّار، وَعَن عَليّ وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قرآ: " لنحرقنه " وَهِي قِرَاءَة أبي جَعْفَر، وَمَعْنَاهُ: لنبردنه بالمبرد، وَفِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " لنذبحنه ثمَّ لنحرقنه ".
وَقَوله: ﴿ثمَّ لننسفنه فِي اليم نسفا﴾ يَعْنِي: لنذرينه فِي الْبَحْر تذرية.
353
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا إِلَهكُم الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وسع كل شَيْء علما﴾ أَي: وسع علمه كل شَيْء، وَقَالُوا هَذَا من فصيح الْقُرْآن.
قَوْله تَعَالَى: ﴿كَذَلِك نقص عَلَيْك من أنباء مَا قد سبق﴾ أَي: من أَخْبَار من تقدم.
وَقَوله: ﴿وَقد آتيناك من لدنا ذكرا﴾ الذّكر هَا هُنَا هُوَ: الْقُرْآن.
قَوْله تَعَالَى: ﴿من أعرض عَنهُ﴾ أَي: عَن الْقُرْآن.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّهُ يحمل يَوْم الْقِيَامَة وزرا﴾ أَي: ثقلا، وَمَعْنَاهُ: إِثْمًا يثقله.
353
﴿فِيهِ وساء لَهُم يَوْم الْقِيَامَة حملا (١٠١) يَوْم ينْفخ فِي الصُّور ونحشر الْمُجْرمين يَوْمئِذٍ زرقا (١٠٢) يتخافتون بَينهم إِن لبثتم إِلَّا عشرا (١٠٣) نَحن أعلم بِمَا يَقُولُونَ﴾
354
وَقَوله: ﴿خَالِدين فِيهَا﴾ أَي: مقيمين فِي عَذَاب الْوزر.
وَقَوله: ﴿وساء لَهُم يَوْم الْقِيَامَة حملا﴾ أَي: بئس الْوزر حملهمْ يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿يَوْم ينْفخ فِي الصُّور﴾ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو: " وَيَوْم ننفخ فِي الصُّور " وَاسْتدلَّ بِمَا عطف عَلَيْهِ من قَوْله: ﴿ونحشر الْمُجْرمين﴾ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: ﴿يَوْم ينْفخ فِي الصُّور﴾ وَهَذَا هُوَ الأولى، وَقد بَينا معنى الصُّور من قبل.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ونحشر الْمُجْرمين يَوْمئِذٍ زرقا﴾ قَالَ الْحسن وَقَتَادَة وَجَمَاعَة: عميا. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة﴾ وَالله تَعَالَى إِنَّمَا خلقهمْ بصرا؛ وَالْجَوَاب: أَنه حُكيَ عَن ابْن عَبَّاس أَن فِي الْقِيَامَة تارات وحالات فيحشرون بصرا ثمَّ يعمون. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي قَوْله: ﴿زرقا﴾ : أَنه خضرَة الْعين، فيحشر الْكفَّار زرق الْأَعْين سود الْوُجُوه، وَالْقَوْل الثَّالِث: عطاشا، وَمَعْنَاهُ: وَقد تَغَيَّرت أَعينهم من شدَّة الْعَطش، وَالْقَوْل الرَّابِع: ﴿زرقا﴾ أَي: شاخصة أَبْصَارهم من عظم الْخَوْف، قَالَ الشَّاعِر:
(لقد زرقت عَيْنَاك يَابْنَ مكعبر كَذَا كل ضبي من اللؤم أَزْرَق)
وَالْقَوْل الْخَامِس: ﴿زرقا﴾ أَي: أحد الْبَصَر؛ لِأَن الْأَزْرَق يكون أحد بصرا.
وَقَوله: ﴿يتخافتون بَينهم﴾ أَي: يتساررون، ويتكلمون خُفْيَة.
وَقَوله: ﴿إِن لبثتم إِلَّا عشرا﴾ أَي: مَا لبثتم إِلَّا عشرا، وَقد قَالَ بَعضهم: هَذَا فِي " الْقَبْر "، وَقَالَ بَعضهم: فِي الدُّنْيَا، فَإِن قَالَ قَائِل: هَذَا كذب صَرِيح، وَقد لَبِثُوا فِي الدُّنْيَا والقبر سِنِين كَثِيرَة!، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن من شدَّة هول الْقِيَامَة يظنون أَنهم مَا
354
﴿إِذْ يَقُول أمثلهم طَريقَة إِن لبثتم إِلَّا يَوْمًا (١٠٤) ويسألونك عَن الْجبَال فَقل ينسفها رَبِّي نسفا (١٠٥) فيذرها قاعا صفصفا (١٠٦) لَا ترى فِيهَا عوجا وَلَا أمتا (١٠٧) يَوْمئِذٍ يتبعُون الدَّاعِي لَا عوج لَهُ وخشعت الْأَصْوَات للرحمن فَلَا تسمع إِلَّا همسا﴾ لَبِثُوا إِلَّا هَذَا الْقدر، وَقَالَ بَعضهم: إِن الله تَعَالَى يرفع الْعَذَاب عَنْهُم بَين النفختين فيستريحون، فَقَوْلهم: ﴿إِن لبثتم إِلَّا عشرا﴾ رَاجع إِلَى هَذَا.
355
قَوْله تَعَالَى: ﴿نَحن أعلم بِمَا يَقُولُونَ﴾ مَعْنَاهُ: أَنِّي عَالم بقَوْلهمْ وَإِن خافتوا.
وَقَوله: ﴿إِذْ يَقُول أمثلهم طَريقَة﴾ تَقول الْعَرَب: فلَان أمثل قومه أَي: أعدل قومه، وَمعنى الْآيَة هَا هُنَا: أعقلهم وَخَيرهمْ طَريقَة فِي نَفسه.
وَقَوله: ﴿إِن لبثتم إِلَّا يَوْمًا﴾ أَي: مَا لبثتم إِلَّا يَوْمًا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويسألونك عَن الْجبَال﴾ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: سَأَلَ الْمُشْركُونَ رَسُول الله مَا يفعل الله بِهَذِهِ الْجبَال يَوْم الْقِيَامَة؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿فَقل ينسفها رَبِّي نسفا﴾ النسف هُوَ الْقلع من الأَصْل، وَمعنى النسف فِي الْآيَة: هُوَ تسيير الْجبَال أَو جعلهَا هباء جعلهَا رملا سَائِلًا.
وَقَوله: ﴿فيذرها قاعا صفصفا﴾ أَي: يذر أَمَاكِن الْجبَال قاعا صفصفا، والقاع هُوَ الْمَكَان الْوَاسِع المستوي، والصفصف هُوَ الأملس الَّذِي لَا نَبَات فِيهِ.
وَقَوله: ﴿لَا ترى فِيهَا عوجا وَلَا أمتا﴾ أَي: حدبا ونبكا، وَمَعْنَاهُ: انخفاضا وارتفاعا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْمئِذٍ يتبعُون الدَّاعِي﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير: الدَّاعِي هَا هُنَا هُوَ إسْرَافيل يضع الصُّور فِي فِيهِ، وَيَقُول: أيتها الْعِظَام البالية، والجلود المتمزقة، واللحوم المتفرقة، هلموا إِلَى عرض الرَّحْمَن، أَو لفظ هَذَا مَعْنَاهُ.
وَقَوله: ﴿لَا عوج لَهُ﴾ أَي: لَا يزيغون يَمِينا وَلَا شمالا، وَقيل: لَا يُمكنهُم أَلا يتبعوه.
وَقَوله: ﴿وخشعت الْأَصْوَات للرحمن﴾ أَي: سكنت وخضعت، وَقَالَ قَتَادَة:
355
( ﴿١٠٨) يَوْمئِذٍ لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن وَرَضي لَهُ قولا (١٠٩) يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَلَا يحيطون بِهِ علما (١١٠) وعنت الْوُجُوه للحي القيوم﴾ ذلت. قَالَ الشَّاعِر:
((فَمَا) أَتَى خبر الزبير تصدعت سور الْمَدِينَة وَالْجِبَال الخشع)
وَقَوله: ﴿فَلَا تسمع إِلَّا همسا﴾ الهمس هُوَ الصَّوْت الْخَفي، وَيُقَال: صَوت وَطْء الْأَقْدَام كهمس الْإِبِل، قَالَ الشَّاعِر:
356
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْمئِذٍ لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة﴾ أَي: لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة لأحد.
وَقَوله: ﴿إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن﴾ أَي: إِلَّا لمن أذن الرَّحْمَن فِي الشَّفَاعَة لَهُ.
وَقَوله: ﴿وَرَضي لَهُ قولا﴾ أَي: قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَهُوَ القَوْل المرضي عِنْد الله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم﴾ أَي: يعلم مَا بَين أَيْديهم من الْآخِرَة، وَمَا خَلفهم من الْأَعْمَال، وَيُقَال: يعلم مَا بَين أَيْديهم أَي: (لم يخلقهم وَهُوَ يُرِيد أَن يخلقهم).
وَقَوله: ﴿وَمَا خَلفهم﴾ أَي: الَّذين خَلفهم من قبلهم فخلفوهم.
وَقَوله: ﴿وَلَا يحيطون بِهِ علما﴾ أَي: لَا يحيطون بِاللَّه علما، وَالله يُحِيط بالأشياء، وَلَا يحاط بِهِ؛ لِأَن الْإِحَاطَة بالشَّيْء هِيَ الْعلم بالشَّيْء من كل جِهَة يجوز أَن يعلم، وَالله تَعَالَى لَا يقدر قدره، وَلَا يبلغ كنه عَظمته، وَأما سَائِر الْأَشْيَاء فَإِن الله يعلم كل شَيْء بِكُل جِهَة يجوز أَن تعلم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وعنت الْوُجُوه للحي القيوم﴾ أَي: ذلت الْوُجُوه، وَقَالَ طلق بن أبي حبيب: خرت الْوُجُوه للسُّجُود.
وَقَوله: ﴿للحي القيوم﴾ هُوَ الدَّائِم الَّذِي لم يزل، والقيوم هُوَ الْقَائِم بتدبير الْخلق،
356
﴿وَقد خَابَ من حمل ظلما (١١١) وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضما (١١٢) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا وصرفنا فِيهِ من الْوَعيد لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ أَو يحدث لَهُم ذكرا (١١٣) فتعالى الله الْملك الْحق وَلَا تعجل بِالْقُرْآنِ من﴾ والقائم على كل نفس بِمَا كسبت.
وَقَوله: ﴿وَقد خَابَ من حمل ظلما﴾ أَي: هلك من حمل شركا، وَحمل الشّرك هُوَ نفس الْإِشْرَاك.
357
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضما﴾ قَوْله: ﴿ظلما﴾ أَي: يحمل عَلَيْهِ ذَنْب غَيره. ﴿وَلَا هضما﴾ أَي: لَا يخَاف أَن ينقص من حَقه، وَقيل: ظلما أَي: لَا يقبل طَاعَته، و ﴿هضما﴾ أَي: ينقص من ثَوَابه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا﴾ أَي: بِلِسَان الْعَرَب. وَقَوله: ﴿وصرفنا فِيهِ من الْوَعيد﴾ أَي: صرفنَا القَوْل فِيهِ بِذكر الْوَعيد. قَالَ قَتَادَة: هُوَ ذكر وقائع الله فِي الْأُمَم الخالية.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ﴾ أَي: يَتَّقُونَ الشّرك والمعاصي.
وَقَوله: ﴿أَو يحدث لَهُم ذكرا﴾ أَي: يحدث لَهُم الْقُرْآن اعْتِبَارا؛ فيعتبرون بِهِ، وَقَالَ بَعضهم: يحدث لَهُم الْوَعيد ذكر الْعَذَاب؛ فينزجرون عَن الْمعاصِي. وَقَالَ بَعضهم: أَو يحدث لَهُم ذكرا أَي: شرفا لإيمانهم بِهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فتعالى الله الْملك الْحق﴾ ارْتَفع الْملك الْحق ذُو الْحق.
وَقَوله: ﴿وَلَا تعجل بِالْقُرْآنِ من قبل أَن يقْضى إِلَيْك وحيه﴾ فِيهِ أَقْوَال: الْمَشْهُور مَا ذكره ابْن عَبَّاس وَغَيره، أَن النَّبِي كَانَ إِذا نزل عَلَيْهِ جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ، تَلا أول الْآيَة قبل أَن يفرغ جِبْرِيل من الإبلاغ مَخَافَة التفلت مِنْهُ وَالنِّسْيَان؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة " وَمَعْنَاهَا: لَا تعجل بِقِرَاءَة الْقُرْآن قبل أَن يفرغ جِبْرِيل من الإبلاغ. وَالْقَوْل
357
﴿قبل أَن يقْضى إِلَيْك وحيه وَقل رب زِدْنِي علما (١١٤) وَلَقَد عهدنا إِلَى آدم من قبل فنسي وَلم نجد لَهُ عزما (١١٥) وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس﴾ الثَّانِي: مَعْنَاهَا: وَلَا تطلب الْإِنْزَال من الله تَعَالَى، واصبر حَتَّى يَأْتِيك جِبْرِيل بِمَا ينزله الله تَعَالَى. وَالْقَوْل الثَّالِث: مَعْنَاهَا: وَلَا تبين للنَّاس مَا لم يُصَلِّي إِلَيْك تَأْوِيله، وَمَعْنَاهُ: وَلَا تبين من قبل نَفسك. وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَعْرُوف.
وَقَوله: ﴿وَقل رب زِدْنِي علما﴾ أَي: علما إِلَى مَا علمت، فَكَانَ ابْن مَسْعُود إِذا قَرَأَ هَذِه الْآيَة قَالَ: اللَّهُمَّ زِدْنِي إِيمَانًا ويقينا. وَعَن مَالك بن أنس قَالَ: من شَأْن ابْن آدم أَلا يعلم كل شَيْء، وَمن شَأْن ابْن آدم أَن يعلم ثمَّ ينسى، وَمن شَأْن ابْن آدم أَن يطْلب من الله علما إِلَى علمه.
358
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد عهدنا إِلَى آدم من قبل﴾ الْعَهْد هَا هُنَا هُوَ الْأَمر.
وَقَوله: ﴿فنسي﴾ مَعْنَاهُ: فَترك، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الْإِنْسَان سمي إنْسَانا؛ لِأَنَّهُ ينسى.
وَقَوله: ﴿وَلم نجد لَهُ عزما﴾ مَعْنَاهُ: صبرا، وَقيل: حزما، وَقَالَ عَطِيَّة: حفظا لما أَمر بِهِ والعزم هُوَ توطين النَّفس على الْفِعْل.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لَو قوبل عقل آدم بعقل جَمِيع وَلَده لرجحهم، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَلم نجد لَهُ عزما﴾. وَعَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ: لَو وزن حلم آدم بحلم جَمِيع وَلَده لرجح حلمه، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَلم نجد لَهُ عزما﴾ فَإِن قيل: أتقولون أَن آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - كَانَ نَاسِيا لأمر الله تَعَالَى حِين أكل من الشَّجَرَة؟ قُلْنَا: يجوز أَنه نسي، وَمِنْهُم من قَالَ: نسي عُقُوبَة الله تَعَالَى، وَظن أَنه نهي تَنْزِيه، لَا نهي تَحْرِيم، وَمِنْهُم من قَالَ: ظن أَنه إِنَّمَا نهى عَن شَجَرَة بِعَينهَا، وَلم ينْه عَن جنس الشَّجَرَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس أَبى﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
358
﴿أَبى (١١٦) فَقُلْنَا يَا آدم إِن هَذَا عَدو لَك ولزوجك فَلَا يخرجنكما من الْجنَّة فتشقى (١١٧) إِن لَك أَلا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى (١١٨) وَأَنَّك لَا ظمأ فِيهَا وَلَا تضحى﴾
359
وَقَوله: ﴿فَقُلْنَا يَا آدم إِن هَذَا عَدو لَك ولزوجك فَلَا يخرجنكما من الْجنَّة فتشقى﴾ أَي: تتعب وتنصب. وَقَالَ السّديّ: بالحرث والحصد والطحن وَالْخبْز. وَعَن سعيد بن جُبَير: أَن الله تَعَالَى أنزل عَلَيْهِ ثورا أحمرا، فَجعل يحرث، ويرشح الْعرق عَن جَبينه، فَذَلِك شقاؤه. وَرُوِيَ عَن سعيد أَنه قَالَ: جعل آدم يَسُوق الثور، وَقد تَعب، وعرق، فَقَالَ: يَا حَوَّاء، هَذَا من قبلك، فَبَقيَ ذَلِك فِي وَلَده إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَيَقُولُونَ عِنْد الحراثة: حوحو. ذكره ابْن فَارس فِي تَفْسِيره.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره. وَعَلِيهِ الْخَبَر الْمَعْرُوف بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -، عَن النَّبِي قَالَ: " لَقِي آدم مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِمَا - فَقَالَ: يَا آدم، أَنْت الَّذِي أشقيتنا، وأخرجتنا من الْجنَّة، فَقَالَ لَهُ آدم: يَا مُوسَى، أتلومني على أَمر قدره الله عَليّ قبل أَن أخلق.. الْخَبَر بِطُولِهِ. إِلَى أَن قَالَ: فحج آدم مُوسَى ثَلَاثًا ". وَفِي بعض الحَدِيث: أَن الله تَعَالَى لما أهبط آدم إِلَى الأَرْض قَالَ: " لأطعمنك حَتَّى يعرق جبينك، ويتعب بدنك، وفهو معنى قَوْله: ﴿فتشقى﴾. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ لم يقل: فتشقيا، وَقد قَالَ من قبل: ﴿فَلَا يخرجنكما﴾ ؟
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ: فتشقيا، وَلكنه اكْتفى بِذكر أَحدهمَا عَن الآخر، وَنَظِير هَذَا قَوْله تَعَالَى: ﴿عَن الْيمن وَعَن الشمَال قعيد﴾ أَي: قعيدان.
وَالْآخر: أَنه قَالَ: ﴿فتشقى﴾ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الكاد والساعي على الْمَرْأَة، فالتعب عَلَيْهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن لَك أَلا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَأَنَّك لَا تظمأ فِيهَا وَلَا تضحى﴾. أَي: لَا تعطش، وَلَا يصيبك أَذَى
359
( ﴿١١٩) فوسوس إِلَيْهِ الشَّيْطَان قَالَ يَا آدم هَل أدلك على شَجَرَة الْخلد وَملك لَا يبْلى (١٢٠) فأكلا مِنْهَا فبدت لَهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة وَعصى آدم ربه فغوى (١٢١) ﴾ الشَّمْس. فَإِن قيل: لَيست فِي الْجنَّة شمس، فَكيف يَسْتَقِيم هَذَا الْكَلَام؟ وَالْجَوَاب: أَنه مُسْتَقِيم؛ لِأَن أهل الْجنَّة فِي ظلّ مَمْدُود، فَلَا يصيبهم أَذَى الشَّمْس مثل مَا يصيبهم فِي الدُّنْيَا، وَقيل مَعْنَاهُ: لَا يصيبك حر يُؤْذِيك، وَلَا تضحى: لَا تعرق، وَالْعرب تَقول: أضحى فلَان إِذا بدر للشمس. وَفِي بعض الْآثَار: اضح لمن أخدمت لَهُ. وَقَالَ عمر بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي أَبُو الْخطاب - وَولد لَيْلَة مَاتَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -:
(فَبَاتُوا يذبحون وَبَات يسري بَصِير بالدجى هار هموس)
360
قَوْله تَعَالَى: ﴿فوسوس إِلَيْهِ الشَّيْطَان قَالَ يَا آدم هَل أدلك على شَجَرَة الْخلد وَملك لَا يبْلى﴾ أَي: لَا يخلق وَلَا يفنى، وَقد بَينا معنى [شَجَرَة] الْخلد من قبل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأكلا مِنْهَا فبدت لَهما سوءاتهما﴾ أَي: عوراتهما. وَقَالَ بعض أهل الْمعَانِي: بَدَت عورتهما لَهما دون غَيرهمَا؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿فبدت لَهما سوءاتهما﴾.
وَقَوله: ﴿وطفقا يخصفان﴾ أَي: طلبا. يُقَال: طفق يفعل كَذَا، إِذا جعل يَفْعَله.
وَقَوله: ﴿يخصفان﴾ أَي: يلصقان الْوَرق بالورق للباسهما.
وَقَوله: ﴿عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة﴾ أَي: للباسهما.
وَقَوله: ﴿وَعصى آدم ربه﴾ قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يجوز أَن يُقَال: عصى آدم، وَلَكِن لَا يُقَال: آدم عَاص؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَال: عَاص إِذا اعْتَادَ فعل الْمعْصِيَة؛ وَهَذَا كَالرّجلِ يخيط ثَوْبه، يُقَال: خاط ثَوْبه، وَلَا يُقَال: خياط إِلَّا إِذا اعْتَادَ الْخياطَة.
وَأما قَوْله: ﴿فغوى﴾ مَعْنَاهُ: ضل وخاب، والضلال هَا هُنَا بِمَعْنى: أَخطَأ طَرِيق الْحق، والخيبة: فَوَات مَا طمع فِيهِ من الخلود.
360
﴿ثمَّ اجتباه ربه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهدى (١٢٢) قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعًا بَعضهم لبَعض عَدو فإمَّا يَأْتينكُمْ مني هدى فَمن اتبع هُدَايَ فَلَا يضل وَلَا يشقى (١٢٣) وَمن أعرض عَن ذكري فَإِنَّهُ لَهُ معيشة ضنكا﴾
وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: غوى أَي: فسد عيشه، وَصَارَ من الْعِزّ إِلَى الذل، وَمن الرَّاحَة إِلَى التَّعَب.
361
قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ اجتباه ربه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهدى﴾ أَي: اخْتَارَهُ ربه وَتَابَ عَلَيْهِ، أَي: قبل تَوْبَته. وَهدى أَي: أرشده إِلَى الْإِنَابَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضكُم لبَعض عَدو﴾ وَقد بَينا من قبل.
وَقَوله: ﴿فإمَّا يَأْتينكُمْ مني هدى﴾ أَي: بَيَان.
وَقَوله: ﴿فَمن اتبع هُدَايَ فَلَا يضل وَلَا يشقى﴾ أَي: لَا يضل فِي الدُّنْيَا، وَلَا يشقى فِي الْآخِرَة. وَعَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: أَجَارَ الله تَعَالَى من تبع الْقُرْآن، وَعمل بِمَا فِيهِ أَن يضل أَو يشقى، ثمَّ تَلا هَذِه الْآيَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن أعرض عَن ذكري﴾ أَي: عَن وحيي.
وَقَوله: ﴿فَإِن لَهُ معيشة ضنكا﴾ فِيهِ أَقْوَال:
رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود وَأبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنهم قَالُوا: عَذَاب الْقَبْر. قَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ -: يضغط حَتَّى تخْتَلف أضلاعه. وَفِي بعض المسانيد هَذَا عَن النَّبِي، وَلَفظه: " يلتئم عَلَيْهِ الْقَبْر، حَتَّى تخْتَلف أضلاعه، وَلَا يزَال كَذَلِك حَتَّى يبْعَث ". قَالَه فِي هَذِه الْآيَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: قَالَ الضَّحَّاك: هُوَ أكل الْحَرَام، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَن يكْسب دون مَا يَكْفِيهِ، والضنك هُوَ الضّيق، وَقَالَ الْحسن: معيشة ضنكا: عَذَاب جَهَنَّم، وَقَالَ
361
﴿ونحشره يَوْم الْقِيَامَة أعمى (١٢٤) قَالَ رب لم حشرتني أعمى وَقد كنت بَصيرًا (١٢٥) قَالَ كَذَلِك أتتك آيَاتنَا فنسيتها وَكَذَلِكَ الْيَوْم تنسى (١٢٦) وَكَذَلِكَ نجزي من أسرف وَلم يُؤمن بآيَات ربه ولعذاب الْآخِرَة أَشد وَأبقى (١٢٧) أفلم يهد لَهُم﴾ بَعضهم: هُوَ الضريع، والزقوم (فِي النَّار).
وَقَوله: ﴿ونحشره يَوْم الْقِيَامَة أعمى﴾ فَقَالَ: أعمى عَن الْحجَّة، وَيُقَال: أعمى الْعين، وَقد بَينا أَنه رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: يحشرهم بَصيرًا ثمَّ يعمى، وَقيل: أعمى عَن الْحق، وَقيل: أعمى عَن كل شَيْء إِلَّا عَن عَذَاب جَهَنَّم.
362
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ رب لم حشرتني أعمى وَقد كنت بَصيرًا﴾ مَعْنَاهُ: وَلم حشرتني أعمى عَن الْحجَّة، وَقد كنت بَصيرًا بِالْحجَّةِ؟ وَقيل: أعمى الْعين، وَقد كنت بَصِير الْعين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ كَذَلِك أتتك آيَاتنَا فنسيتها﴾ أَي: تركتهَا.
وَقَوله: ﴿وَكَذَلِكَ الْيَوْم تنسى﴾ أَي: تتْرك. قَالَ قَتَادَة: نسوا من الْخَيْر، وَلم ينسوا من الْعَذَاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ نجزي من أسرف﴾ أَي: من أشرك.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلم يُؤمن بآيَات ربه﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ولعذاب الْآخِرَة أَشد وَأبقى﴾. أَي: أعظم وأدوم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أفلم يهد لَهُم﴾ وَقُرِئَ: " نهد " بالنُّون، فَقَوله: ﴿يهد﴾ بِالْيَاءِ أَي: يهدي الْقُرْآن، وَمعنى نهدي: نبين، وَقَوله: " نهدي " أَي: نبين نَحن، وصلته بِاللَّامِ دَلِيل على أَنه بِمَعْنى التبين.
وَقَوله: ﴿كم أهلكنا قبلهم من الْقُرُون يَمْشُونَ فِي مساكنهم﴾ قَالَ أهل التَّفْسِير:
362
﴿كم أهلكنا قبلهم من الْقُرُون يَمْشُونَ فِي مساكنهم إِن فِي ذَلِك لآيَات لأولي النهى (١٢٨) وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك لَكَانَ لزاما وَأجل مُسَمّى (١٢٩) فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا وَمن آنَاء اللَّيْل فسبح﴾ هَذَا الْخطاب لقريش، وَقد كَانُوا يسافرون إِلَى الشَّام، فيرون ديار المهلكين من أَصْحَاب الْحجر وَثَمُود وقريات لوط.
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات﴾ أَي: لدلالات وعبرا.
وَقَوله: ﴿لأولي النهى﴾ أَي: لأولي الْعُقُول، يُقَال: فلَان ذُو نهية أَي: ذُو عقل.
363
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك﴾ فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ: وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك وَأجل مُسَمّى ﴿لَكَانَ لزاما﴾ أَي: الْعَذَاب لزاما، والكلمة هِيَ الحكم بِتَأْخِير الْعَذَاب، وَالْأَجَل الْمُسَمّى هُوَ وعد الْقِيَامَة، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿بل السَّاعَة موعدهم والساعة أدهى وَأمر﴾.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لزاما﴾ أَي: الْعَذَاب لَا يفارقهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسبح بِحَمْد رَبك﴾ أَي: صل بِأَمْر رَبك.
وَقَوله: ﴿قبل طُلُوع الشَّمْس﴾ هُوَ الْفجْر. ﴿وَقبل غُرُوبهَا﴾ هُوَ الْعَصْر ﴿وَمن آنَاء اللَّيْل﴾ الْمغرب وَالْعشَاء. والآناء جمع إنى، والإنى: السَّاعَة.
وَقَوله: ﴿وأطراف النَّهَار﴾ هُوَ الظّهْر. فَإِن قيل: كَيفَ سمي أَطْرَاف النَّهَار؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ طرف النّصْف الأول انْتِهَاء، وطرف النّصْف الثَّانِي ابْتِدَاء، وَهَذَا قَول قَتَادَة وَأكْثر الْمُفَسّرين. وَقَالَ بَعضهم: أَطْرَاف النَّهَار: سَاعَات النَّهَار للتطوع، وعَلى هَذَا قَوْله: قبل غرُوب الشَّمْس دخل فِيهِ الظّهْر وَالْعصر، وَقَالَ بَعضهم: أَطْرَاف النَّهَار المُرَاد مِنْهُ الصُّبْح وَالْعصر، وَهُوَ مَذْكُور لتأكيد مَا سبق. وَقد ثَبت بِرِوَايَة جرير بن عبد الله البَجلِيّ قَالَ: " كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِي، فَنظر إِلَى الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر، فَقَالَ: " إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم مثل هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى الْقَمَر، لَا تضَامون فِي رُؤْيَته، فَإِن اسْتَطَعْتُم أَلا تغلبُوا على صَلَاة
363
﴿وأطراف النَّهَار لَعَلَّك ترْضى (١٣٠) وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم زهرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا لنفتنهم فِيهِ وزرق رَبك خير وَأبقى (١٣١) وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ﴾ قبل غرُوب الشَّمْس، وَقبل طُلُوعهَا فافعلوا، ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآيَة: ﴿فسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا﴾. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أخبرنَا جدي أَبُو الْهَيْثَم، قَالَ: حَدثنَا الْفربرِي، قَالَ: نَا البُخَارِيّ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: نَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَن جرير بن عبد الحميد الضَّبِّيّ، عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، عَن قيس بن أبي حَازِم عَن جرير...... الحَدِيث.
قَوْله: ﴿لَعَلَّك ترْضى﴾ أَي: لَعَلَّك ترْضى ثَوَابه، وقرىء: " لَعَلَّك تُرضى " على مَا لم يسم فَاعله، أَي: تُعْطى ثَوَابه.
364
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم﴾ رُوِيَ عَن أبي رَافع " أَن النَّبِي نزل بِهِ ضيف، وَلم يكن عِنْده شَيْء، فَبعث إِلَى يَهُودِيّ يستقرض مِنْهُ طَعَاما، فَأبى إِلَّا برهن، فرهن مِنْهُ درعه وحزن مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ".
وَقَوله: ﴿أَزْوَاجًا مِنْهُم﴾ أَي: رجَالًا، وَقيل: أضيافا مِنْهُم.
وَقَوله: ﴿زهرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾. (زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَقيل: زهرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا) بهجتها وحسنها، وَمَا تروق النَّاظر مِنْهُمَا.
وَقَوله: ﴿لنفتنهم فِيهِ﴾ أَي: نوقعهم فِي الْفِتْنَة بِسَبَبِهِ.
وَقَوله: ﴿ورزق رَبك خير وَأبقى﴾ أَي: خير لَك فِي الْآخِرَة، وَأبقى بركَة فِي الدُّنْيَا.
وَرُوِيَ عَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ: من لم يتعز بعز الله تَعَالَى تقطعت نَفسه حسرات، وَمن يتبع بَصَره مَا فِي أَيدي النَّاس يطلّ حزنه، وَمن ظن أَن نعْمَة الله تَعَالَى
364
﴿واصطبر عَلَيْهَا لَا نَسْأَلك رزقا نَحن نرزقك وَالْعَاقبَة للتقوى (١٣٢) وَقَالُوا لَوْلَا يأتينا بِآيَة من ربه أولم تأتهم بَيِّنَة مَا فِي الصُّحُف الأولى (١٣٣) وَلَو أَنا أهلكناهم بِعَذَاب﴾ فِي مطعمه ومشربه وملبسه، فقد قل عمله وَحضر عَذَابه.
وَعَن يزِيد بن ميسرَة، أَنه قَالَ: كَانُوا يسمون الدُّنْيَا: خنزيرة، وَلَو علمُوا اسْما أسوء مِنْهُ لسموها بِهِ، فَكَانَت إِذا أَقبلت على أحدهم، قَالَ: إِلَيْك يَا خنزيرة.
365
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ واصطبر عَلَيْهَا﴾ فِي قَوْله: ﴿أهلك﴾ قَولَانِ: أَحدهمَا: أهل دينك، وَالْآخر: قرابتك وقومك.
وَفِي بعض المسانيد عَن سلمَان الْفَارِسِي رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي كَانَ إِذا أصَاب أَهله خير أَمرهم بِالصَّلَاةِ، وتلا هَذِه الْآيَة ﴿وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ واصطبر عَلَيْهَا﴾.
وَقَوله: ﴿لَا نَسْأَلك رزقا﴾ أَي: لَا نَسْأَلك أَن ترزق أحدا من خلقي، وَلَا أَن ترزق نَفسك، وَقيل: ثَوابًا.
وَقَوله: ﴿نَحن نرزقك﴾. أَي: نوصل إِلَيْك رزقك، وَقيل: ننشئك.
وَقَوله: ﴿وَالْعَاقبَة للتقوى﴾ أَي: (لأهل) التَّقْوَى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا يأتينا بِآيَة من ربه﴾ أَي: الْآيَة المقترحة، فَإِنَّهُ كَانَ قد أَتَاهُم بآيَات كَثِيرَة.
وَقَوله: ﴿أولم تأتهم بَيِّنَة مَا فِي الصُّحُف الأولى﴾ أَي: بَيَان مَا فِي الصُّحُف الأولى من أنباء الْأُمَم، فَإِنَّهُم اقترحوا الْآيَات، فأعطوا وَلم يُؤمنُوا، فأهلكهم الله تَعَالَى، وَلَو أعطينا هَؤُلَاءِ أَيْضا، وَلم يُؤمنُوا ألحقنا إهلاكهم.
365
﴿من قبله لقالوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك من قبل أَن نذل ونخزى (١٣٤) قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أَصْحَاب الصِّرَاط السوي وَمن اهْتَدَى (١٣٥) ﴾
366
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو أَنا أهلكناهم بِعَذَاب من قبله﴾ أَي: من قبل إرْسَال الرُّسُل وإنزال الْقُرْآن.
قَوْله: ﴿لقالوا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا﴾ أَي: لقالوا يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿فنتبع آياتك من قبل أَن نذل ونخزى﴾ أَي: نذل فِي الدُّنْيَا، ونخزى فِي الْآخِرَة. والذل: الهوان، والخزي: الافتضاح.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل كل متربص﴾ رُوِيَ أَن الْمُشْركين قَالُوا: نتربص بِمُحَمد حوادث الدَّهْر، فَإِذا مَاتَ تخلصنا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ﴿قل كل متربص﴾ أَي: منتظر.
وَقَوله: ﴿فتربصوا﴾ أَي: فانتظروا.
وَقَوله: ﴿فستعلمون من أَصْحَاب الصِّرَاط السوي﴾ فِي الشاذ: " من أَصْحَاب الصِّرَاط السوى " على وزن فُعلى، وَالْمَعْرُوف: " السوى ". وَمعنى الصِّرَاط السوى: الدّين القويم.
وَقَوله ﴿وَمن اهْتَدَى﴾ أَي: من هدى ورشد، والمهتدون نَحن أم أَنْتُم؟
366

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿اقْترب للنَّاس حسابهم وهم فِي غَفلَة معرضون (١) مَا يَأْتِيهم من ذكر من رَبهم﴾
تَفْسِير سُورَة الْأَنْبِيَاء
وَهِي مَكِّيَّة، قَالَ ابْن مَسْعُود: سُورَة بني إِسْرَائِيل والكهف وَمَرْيَم وطه والأنبياء من الْعتاق الأول، وَهن من تلادي.
367
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
(رَأَتْ رجلا أما إِذا الشَّمْس عارضت فيضحى وَأما بالْعَشي فيخصر)