تفسير سورة آل عمران

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ

[الجزء الثاني]

(٣) سورة آل عمران
مدنية وآيها مائتان
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)
الم اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ إنما فتح الميم في المشهور وكان حقها أن يوقف عليها لإِلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها في حكم الثابت، لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج، فإن الميم في حكم الوقف كقولهم واحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال لا لالتقاء الساكنين، فإنه غير محذور في باب الوقف، ولذلك لم تحرك الميم في لام. وقرئ بكسرها على توهم التحريك لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو بكر بسكونها والابتداء بما بعدها على الأصل. الْحَيُّ الْقَيُّومُ
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور في البقرة الله لاَ إله إِلاَّ هو الحي القيوم، وفي آل عمران الله لاَ إله إِلاَّ هو الحي القيوم، وفي طه وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَىِّ القيوم»
. [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣ الى ٤]
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ القرآن نجوماً. بِالْحَقِّ بالعدل، أو بالصدق في أخباره، أو بالحجج المحققة أنه من عند الله وهو في موضع الحال. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب. وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ جملة على موسى وعيسى. واشتقاقهما من الورى والنجل، ووزنهما بتفعلة وافعيل تعسف لأنهما أعجميان، ويؤيد ذلك أنه قرئ «الأنجيل» بفتح الهمزة وهو ليس من أبنية العربية، وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان والكسائي التَّوْراةَ بالإِمالة في جميع القرآن، ونافع وحمزة بين اللفظين إِلاَّ قَالُون فإنه قرأ بالفتح كقراءة الباقين.
مِنْ قَبْلُ من قبل تنزيل القرآن. هُدىً لِلنَّاسِ على العموم إن قلنا إنا متعبدون بشرع من قبلنا، وإلا فالمراد به قومهما. وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ يريد به جنس الكتب الإِلهية، فإنّها فارقة بين الحق والباطل. ذكر ذلك بعد ذكر الكتب الثلاثة ليعم ما عداها، كأنه قال: وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل، أو الزبور أو القرآن. وكرر ذكره بما هو نعت له مدحا وتعظيماً، وإظهاراً لفضله من حيث إنه يشاركهما في كونه وحياً منزلاً ويتميز بأنه معجز يفرق بين المحق والمبطل، أو المعجزات إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ من كتبه المنزلة وغيرها. لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بسبب كفرهم. وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب لا يمنع من التعذيب. ذُو انْتِقامٍ لا يقدر على مثله منتقم، والنقمة عقوبة المجرم والفعل منه نقم بالفتح والكسر، وهو وعيد جيء به بعد تقرير التوحيد والإشارة إلى ما هو العمدة في إثبات النبوة تعظيماً للأمر، وزجراً عن الإعراض عنه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥ الى ٦]
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي شيء كائن في العالم كلياً كان أو جزئياً، إيماناً أو كفراً. فعبَّر عنه بالسماء والأرض إِذ الحس لا يتجاوزهما، وإنما قدم الأرض ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، ولأن المقصود بالذكر ما اقترف فيها. وهو كالدليل على كونه حياً وقوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ أي من الصور المختلفة، كالدليل على القيومية، والاستدلال على أنه عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره. وقرئ «تصوركم» أي صوركم لنفسه وعبادته. لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا يعلم غيره جملة ما يعلمه ولا يقدر على مثل ما يفعله. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إشارة إلى كمال قدرته وتناهي حكمته. قيل: هذا حجاج على من زعم أن عيسى كان رباً، فإِن وفد نجران لما حاجوا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزلت السورة، من أولها إلى نيف وثمانين آية تقريراً لما احتج به عليهم وأجاب عن شبههم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ أحكمت عبارتها بأن حفظت من الإِجمال والاحتمال. هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أصله يرد إليها غيرها والقياس أمهات فأفرد على تأويل كل واحدة، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة. وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ محتملات لا يتضح مقصودها. لإِجمال أو مخالفة ظاهر. إلا بالفحص والنظر ليظهر فيها فضل العلماء، ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها، فينالوا بها. وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها، والتوفيق بينها وبين المحكمات. معالي الدرجات. وأما قوله تعالى: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ فمعناه أنها حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ، وقوله: كِتاباً مُتَشابِهاً فمعناه أنه يشبه بعضه بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ، وَأُخَرُ جمع أخرى وإنما لم ينصرف لأنه وصف معدول عن الآخر ولا يلزم منه معرفته، لأن معناه أن القياس أن يعرف ولم يعرف لا أنه في معنى المعرف أو عن أُخَرُ من فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ عدول عن الحق كالمبتدعة. فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ فيتعلقون بظاهره أو بتأويل باطل ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه. وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وطلب أن يؤولوه على ما يشتهونه، ويحتمل أن يكون الداعي إلى الاتباع مجموع الطلبتين، أو كل واحدة منهما على التعاقب. والأول يناسب المعاند والثاني يلائم الجاهل. وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ الذي يجب أن يحمل عليه. إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه، ومن وقف على إِلَّا اللَّهُ فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه: كمدة بقاء الدنيا، ووقت قيام الساعة، وخواص الأعداد كعدد الزبانية، أو بما دلّ القاطع على أن ظاهره غير مراد ولم يدل على ما هو المراد. يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ استئناف موضح لحال الراسخين، أو حال منهم أو خبر أن جعلته مبتدأ. كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا أي كل من المتشابه والمحكم من عنده، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر، وإشارة إلى ما استعدوا به للاهتداء إلى تأويله، وهو تجرد العقل عن غواشي الحس، واتصال الآية بما قبلها من حيث إنها في تصوير الروح بالعلم وتربيته، وما قبلها في تصوير الجسد وتسويته، أو أنها جواب عن تشبث النصارى بنحو قوله تعالى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.
كما أنه جواب عن قوله لا أب له غير الله، فتعين أن يكون هو أباه بأنه تعالى مصور الأجنة كيف يشاء فيصور من نطفة أب ومن غيرها، وبأنه صوره في الرحم والمصور لا يكون أب المصور.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨ الى ٩]

رَبَّنا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
رَبَّنا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا من مقال الراسخين. وقيل: استئناف والمعنى لا تزغ قلوبنا عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه،
قال عليه الصلاة والسلام «قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه على الحق وإن شاء أزاغه عنه»
. وقيل: لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا. بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إلى الحق والإِيمان بالقسمين. من الحكم والمتشابه، وبعد نصب على الظرف، وإذ في موضع الجر بإضافته إليه. وقيل إنه بمعنى إن. وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً تزلفنا إليك ونفوز بها عندك، أو توفيقاً للثبات على الحق أو مغفرة للذنوب. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ لكل سؤل، وفيه دليل على أن الهدى والضلال من الله وأنه متفضل بما ينعم على عباده لا يجب عليه شيء.
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لحساب يوم أو لجزائه. لاَ رَيْبَ فِيهِ في وقوع اليوم وما فيه من الحشر والجزاء، نبهوا به على أن معظم غرضهم من الطلبتين ما يتعلق بالآخرة فإنها المقصد والمال. إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ فإن الإِلهية تنافيه وللإِشعار به وتعظيم الموعود لون الخطاب، واستدل به الوعيدية. وأجيب بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو لدلائل منفصلة كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقاً.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠ الى ١١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عام في الكفرة. وقيل: المراد به وفد نجران، أو اليهود، أو مشركوا العرب. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي من رحمته، أو طاعته على معنى البدلية، أو من عذابه وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ حطبها. وقرئ بالضم بمعنى أهل وقودها.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ متصل بما قبله أي لن تغن عن أولئك، أو توقد بهم كما توقد بأولئك، أو استئناف مرفوع المحل تقديره دأب هؤلاء كدأبهم في الكفر والعذاب، وهو مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فنقل إلى معنى الشأن. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عطف على آلِ فِرْعَوْنَ. وقيل استئناف. كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ حال بإضمار قد، أو استئناف بتفسير حالهم، أو خبر إن ابتدأت بالذين من قبلهم. وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف الكفرة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ أي قل لمشركي مكة ستغلبون يعني يوم بدر، وقيل لليهود فإنه عليه الصلاة والسلام جمعهم بعد بدر في سوق بني قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش، فقالوا لا يغرنك أنك أصبت أغماراً لا علم لهم بالحرب لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس، فنزلت. وقد صدق الله وعده لهم بقتل قريظة وإجلاء بني النضير وفتح خيبر، وضرب الجزية على من عداهم وهو من دلائل النبوة. وقرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما على أن الأمر بأن يحكي لهم ما أخبره به من وعيدهم بلفظه.
وَبِئْسَ الْمِهادُ تمام ما يقال لهم، أو استئناف وتقدير بئس المهاد جهنم أو ما مهدوه لأنفسهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣]
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ الخطاب لقريش أو لليهود، وقيل للمؤمنين. فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا يوم بدر. فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين، وكان قريباً من ألف، أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وذلك كان بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم وتوجهوا إليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا مدداً من الله تعالى للمؤمنين، أو يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله به في قوله: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ. ويؤيده قراءة نافع ويعقوب بالتاء وقرئ بهما على البناء للمفعول أي يريهم الله، أو يريكم ذلك بقدرته، وفئة بالجر على البدل من فئتين والنصب على الاختصاص، أو الحال من فاعل التقتا. رَأْيَ الْعَيْنِ رؤية ظاهرة معاينة. وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ نصره كما أيد أهل بدر. إِنَّ فِي ذلِكَ أي التقليل والتكثير، أو غلبة القليل عديم العدة في الكثير شاكي السلاح، وكون الواقعة آية أيضاً يحتملها ويحتمل وقوع الأمر على ما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم. لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ أي لعظة لذوي البصائر. وقيل لمن أبصرهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ أي المشتهيات سماها شهوات مبالغة وإيماء على أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحبوا شهوتها كقوله تعالى: أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ والمزين هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي، ولعله زينه إبتلاء، أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله تعالى، أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع. وقيل الشيطان فإن الآية في معرض الذم. وفرق الجبائي بين المباح والمحرم.
مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ بيان للشهوات، والقنطار المال الكثير. وقيل مائة ألف دينار. وقيل ملء مسك ثور. واختلف في أنه فعلال أو فنعال، والمقنطرة مأخوذة منه للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة. والمسومة المعلمة من السومة وهي العلامة، أو المرعية من أسام الدابة وسومها، أو المطهمة. والأنعام الإِبل والبقر والغنم ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا إشارة إلى ما ذكر.
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي المرجع، وهو تحريض على استبدال ما عنده من اللذات الحقيقية الأبدية بالشهوات المخدجة الفانية.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥ الى ١٦]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦)
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ يريد به تقرير أن ثواب الله تعالى خير من مستلذات الدنيا. لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها استئناف لبيان ما هو خير، ويجوز أن يتعلق اللام بخير ويرتفع جنات على هو جنات، ويؤيده قراءة من جرها بدلاً من بِخَيْرٍ. وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ مما يستقذر من النساء. وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ قرأ عاصم في رواية أبي بكر في جميع القرآن بضم الراء ما خلا الحرف الثاني في المائدة وهو قوله تعالى: رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ بكسر الراء وهما لغتان. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي بأعمالهم فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، أو بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعد لهم جنات، وقد نبه بهذه الآية على نعمه فأدناها متاع الحياة الدنيا وأعلاها رضوان الله تعالى لقوله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ وأوسطها الجنة ونعيمها.
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ صفة للمتقين، أو للعباد، أو مدح منصوب أو مرفوع. وفي ترتيب السؤال على مجرد الإِيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة أو الاستعداد لها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧]
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ حصر لمقامات السالك على أحسن ترتيب، فإن معاملته مع الله تعالى إما توسل وإما طلب، والتوسل إما بالنفس وهو منعها عن الرذائل وحبسها على الفضائل والصبر يشملهما، وإما بالبدن، وهو إما قولي وهو الصدق وإما فعلي وهو القنوت الذي هو ملازمة الطاعة، وإما بالمال وهو الإِنفاق في سبل الخير، وإما الطلب فبالاستغفار لأن المغفرة أعظم المطالب بل الجامع لها وتوسيط الواو بينهما للدلالة على استقلال كل واحد منها وكمالهم فيها أو لتغاير الموصوفين بها، وتخصيص الأسحار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإِجابة، لأن العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروع أجمع للمجتهدين. قيل إنهم كانوا يصلون إلى السحر ثم يستغفرون ويدعون.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ بين وحدانيته بنصب الدلائل الدالة عليها وإنزال الآيات الناطقة بها.
وَالْمَلائِكَةُ بالإِقرار. وَأُولُوا الْعِلْمِ بالإِيمان بها والاحتجاج عليها، شبه ذلك في البيان والكشف بشهادة الشاهد. قائِماً بِالْقِسْطِ مقيماً للعدل في قسمه وحكمه وانتصابه على الحال من الله، وإنما جاز إفراده بها ولم يجز جاء زيد وعمرو راكباً لعدم اللبس كقوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً. أو من هو والعامل فيها معنى الجملة أي تفرد قائماً، أو أحقه لأنها حال مؤكدة، أو على المدح، أو الصفة للمنفي وفيه ضعف للفصل وهو مندرج في المشهود به إذا جعلته صفة، أو حالاً من الضمير. وقرئ «القائم بالقسط» على البدل عن هو أو الخبر لمحذوف. لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ كرره للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجة وليبني عليه قوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيعلم أنه الموصوف بهما، وقدم العزيز لتقديم العلم بقدرته على العلم بحكمته، ورفعهما على البدل من الضمير أو الصفة لفاعل شهد.
وقد روي في فضلها أنه عليه الصلاة والسلام قال «يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى: «إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد، ادخلوا عبدي الجنة»
. وهي دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أي لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام، وهو التوحيد والتدرع بالشرع الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ الكسائي بالفتح على أنه بدل من أنه بدل الكل أن فسر الإِسلام بالإِيمان، أو بما يتضمنه وبدل اشتمال إن فسر بالشريعة. وقرئ أنه بالكسر وأن بالفتح على وقوع الفعل على الثاني، واعتراض ما بينهما أو إجراء شهد مجرى قال تارة وعلم أخرى لتضمنه معناهما.
وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى، أو من أرباب الكتب المتقدمة في دين الإِسلام فقال قوم إنه حق وقال قوم إنه مخصوص بالعرب ونفاه آخرون مطلقاً، أو في التوحيد فثلثت النصارى وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وقيل هم قوم موسى اختلفوا بعده. وقيل هم النصارى اختلفوا في أمر عيسى عليه
السلام. إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي بعد ما علموا حقيقة الأمر وتمكنوا من العلم بها بالآيات والحجج.
بَغْياً بَيْنَهُمْ حسداً بينهم وطلباً للرئاسة، لا لشبهة وخفاء في الأمر. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ وعيد لمن كفر منهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٠]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
فَإِنْ حَاجُّوكَ في الدين، أو جادلوك فيه بعد ما أقمت الحجج. فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أخلصت نفسي وجملتي له لا أشرك فيها غيره، وهو الدين القويم الذي قامت به الحجج ودعت إليه الآيات والرسل، وإنما عبر بالوجه عن النفس لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والحواس وَمَنِ اتَّبَعَنِ عطف على التاء في أسلمت وحسن للفصل، أو مفعول معه. وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم كمشركي العرب. أَأَسْلَمْتُمْ كما أسلمت لما وضحت لكم الحجة، أم أنتم بعد على كفركم ونظيره وقوله:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وفيه تعيير لهم بالبلادة أو المعاندة. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا فقد نفعوا أنفسهم بأن أخرجوها من الضلال. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أي فلم يضروك إذ ما عليك إلا أن تبلغ وقد بلغت.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ وعد ووعيد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ هم أهل الكتاب الذين في عصره عليه السلام. قتل أولهم الأنبياء ومتابعيهم وهم رضوا به وقصدوا قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين ولكن الله عصمهم، وقد سبق مثله في سورة البقرة. وقرأ حمزة «ويقاتلون الذين». وقد منع سيبويه إدخال الفاء في خبر إن كليت ولعل ولذلك قيل الخبر.
أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ كقولك زيد فافهم رجل صالح، والفرق أنه لا يغير معنى الابتداء بخلافهما. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يدفع عنهم العذاب.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أي التوراة أو جنس الكتب السماوية، ومن للتبعيض أو للبيان. وتنكير النصيب يحتمل التعظيم والتحقير. يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ الداعي محمد عليه الصلاة والسلام وكتاب الله القرآن، أو التوراة لما
روي (أنه عليه الصلاة والسلام دخل مدراسهم فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على أي دين أنت. فقال: على دين إبراهيم. فقالا إن إبراهيم كان يهودياً فقال:
هلموا إلى التوراة فإنها بيننا وبينكم. فأبيا فنزلت)
. وقيل نزلت في الرجم. وقرئ لِيَحْكُمَ على البناء للمفعول فيكون الاختلاف فيما بينهم، وفيه دليل على أن الأدلة السمعية حجة في الأصول. ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ استبعاد لتوليهم مع علمهم بأن الرجوع إليه واجب. وَهُمْ مُعْرِضُونَ وهم قوم عادتهم الإِعراض، والجملة حال من فريق وإنما ساغ لتخصصه بالصفة.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)
ذلِكَ إشارة إلى التولي والإِعراض. بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم لهذا الاعتقاد الزائغ والطمع الفارغ. وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من أن النار لن تمسهم إلا أياماً قلائل، أو أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، أو أنه تعالى وعد يعقوب عليه السلام أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم.
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ استعظام لما يحيق بهم في الآخرة وتكذيب لقولهم لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات.
روي: أن أول راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار
. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ جزاء ما كسبت. وفيه دليل على أن العبادة لا تحبط وأن المؤمن لا يخلد في النار، لأن توفية إيمانه وعمله لا تكون في النار ولا قبل دخولها، فإذن هي بعد الخلاص منها وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ الضمير لكل نفس على المعنى لأنه في معنى كل إنسان.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٦]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)
قُلِ اللَّهُمَّ الميم عوض عن يا ولذلك لا يجتمعان، وهو من خصائص هذا الاسم كدخول يا عليه مع لام التعريف وقطع همزته وتاء القسم. وقيل: أصله يا الله أمنا بخير، فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته. مالِكَ الْمُلْكِ يتصرف فيما يمكن التصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون، وهو نداء ثان عند سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ تعطي منه ما تشاء من تشاء وتسترد، فالملك الأول عام والآخران بعضان منه. وقيل: المراد بالملك النبوة ونزعها نقلها من قوم إلى قوم وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما بالنصر والإِدبار والتوفيق والخذلان. بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ذكر الخير وحده لأنه المقتضي بالذات، والشر مقضي بالعرض، إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيرًا كلياً، أو لمراعاة الأدب في الخطاب، أو لأن الكلام وقع فيه إذ
روي (أنه عليه السلام لما خط الخندق وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً، وأخذوا يحفرون، فظهر فيه صخرة عظيمة لم يعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخبره، فجاء عليه الصلاة والسلام فأخذ المعول منه فضربها ضربة صدعتها. وبرق منها برق أضاء منه ما بين لابتيها لكأن بها مصباحاً في جوف بيت مظلم، فكبر وكبر معه المسلمون وقال «أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب، ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب الثالثة فقال: أضاءت لي منها قصور صنعاء» وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فابشروا». فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق) فنزلت
. فنبه على أن الشر أيضاً بيده بقول إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٧]
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ عقب ذلك ببيان قدرته على معاقبة الليل والنهار والموت والحياة وسعة فضله، دلالة على
أن من قدر على ذلك قدر على معاقبة الذل والعز وإيتاء الملك ونزعه. والولوج: الدخول في مضيق. وإيلاج الليل والنهار: إدخال أحدهما في الآخر بالتعقيب أو الزيادة والنقص. وإخراج الحي من الميت وبالعكس.
إنشاء الحيوانات من موادها وإماتتها، أو إنشاء الحيوان من النطفة والنطفة منه. وقيل: إخراج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر الْمَيِّتِ بالتخفيف.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٨]
لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)
لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ نهوا عن موالاتهم لقرابة وصداقة جاهلية ونحوهما، حتى لا يكون حبهم وبغضهم إلا في الله، أو عن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية. مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة، وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي اتخاذهم أولياء. فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي من ولايته في شيء يصح أن يسمى ولاية، فإن موالاتي المتعاديين لا يجتمعان قال:
تَوَدُّ عَدُوي ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّني صَدِيْقُكَ لَيْسَ النوك عَنْكَ بِعَازِبِ
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه، أو اتقاء. والفعل معدى بمن لأنه في معنى تحذروا وتخافوا. وقرأ يعقوب «تقية». منع عن موالاتهم ظاهراً وباطناً في الأوقات كلها إلا وقت المخافة، فإن إظهار الموالاة حينئذ جائز كما قال عيسى عليه السلام: كن وسطاً وامش جانباً. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فلا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه وموالاة أعدائه، وهو تهديد عظيم مشعر بتناهي النهي في القبح وذكر النفس، ليعلم أن المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى فلا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٩]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ أي أنه يعلم ضمائركم من ولاية الكفار وغيرها إن تخفوها أو تبدوها. وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فيعلم سركم وعلنكم. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على عقوبتكم إن لم تنتهوا عما نهيتم عنه. والآية بيان لقوله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وكأنه قال ويحذركم نفسه لأنها متصفة بعلم ذاتي محيط بالمعلومات كلها، وقدرة ذاتية تعم المقدورات بأسرها، فلا تجسروا على عصيانه إذ ما من معصية إلا وهو مطلع عليها قادر على العقاب بها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٠]
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً يَوْمَ منصوب بتود أي تتمنى كل نفس يوم تجد صحائف أعمالها، أو جزاء أعمالها من الخير والشر حاضرة لو أن بينها وبين ذلك اليوم، وهو له أمداً بعيداً، أو بمضمر نحو اذكر، وتَوَدُّ حال من الضمير في عملت أو خبر لما عملت من سوء وتجد مقصور على مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ، ولا تكون مَا شرطية لارتفاع تَوَدُّ. وقرئ «ودت» وعلى هذا يصح أن تكون شرطية ولكن الحمل على الخبر أوقع معنى لأنه حكاية
كائن وأوفق للقراءة المشهورة. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كرره للتأكيد والتذكير. وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ إشارة إلى أنه تعالى إنما نهاهم وحذرهم رأفة بهم ومراعاة لصلاحهم، أو أنه لذو مغفرة وذو عقاب أليم فترجى رحمته ويخشى عذابه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي المحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، بحيث يحملها على ما يقربها إليه، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله، وأن كل ما يراه كمالاً من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله لم يكن حبه إلا لله وفي الله وذلك يقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول في عبادته والحرص على مطاوعته. يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جواب للأمر أي يرضَ عنكم ويكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما فرط منكم فيقربكم من جناب عزه ويبوئكم في جوار قدسه، عبر عن ذلك بالمحبة على طريق الاستعارة أو المقابلة.
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تحبب إليه بطاعته واتباع نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
روي: أنها نزلت لما قالت اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه
. وقيل: نزلت في وفد نجران لما قالوا: إنما نعبد المسيح حباً لله. وقيل: في أقوام زعموا على عهده صلّى الله عليه وسلّم أنهم يحبون الله فأمروا أن يجعلوا لقولهم تصديقاً من العمل.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا يحتمل المضي والمضارعة بمعنى فإن تتولوا. فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكافِرِينَ لا يرضى عنهم ولا يثني عليهم، وإنما لم يقل لا يحبهم لقصد العموم والدلالة على أن التولي كفر، وإنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ بالرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية، ولذلك قووا على ما لم يقو عليه غيرهم. لما أوجب طاعة الرسول وبين أنها الجالبة لمحبة الله عقب ذلك ببيان مناقبهم تحريضاً عليها، وبه استدل على فضلهم على الملائكة، وَآلَ إِبْراهِيمَ، إسماعيل وإسحاق وأولادهما. وقد دخل فيهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وَآلَ عِمْرانَ موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، أو عيسى وأمه مريم بنت عمران بن ماثان بن العازار بن أبي يوذ بن يوزن بن زربابل بن ساليان بن يوحنا بن أوشيا بن أمون بن منشكن بن حازقا بن أخاز بن يوثام بن عوزيا بن يورام بن ساقط بن ايشا بن راجعيم بن سليمان بن داود بن ايشي بن عوبد بن سلمون بن ياعز بن نحشون بن عمياد بن رام بن حصروم بن فارص بن يهوذا بن يعقوب عليه السلام، وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة.
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ حال أو بدل من الآلين أو منهما ومن نوح أي إنهم ذرية واحدة متشعبة بعضها من بعض. وقيل بعضها من بعض في الدين. والذرية الولد يقع على الواحد والجمع فعلية من الذر أو فعولة من الذرء أبدلت همزتها ياء ثم قلبت الواو ياء وأدغمت. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ بأقوال الناس وأعمالهم فيصطفي من كان مستقيم القول والعمل، أو سميع بقول امرأة عمران عليم بنيتها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٥]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي فينتصب به إذ على التنازع. وقيل نصبه بإضمار اذكر، وهذه حنة بنت فاقوذ جدة عيسى، وكانت لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم أكبر من موسى وهارون فظن أن المراد زوجته ويرده كفالة زكريا فإنه كان معاصراً لابن ماثان وتزوج بنته ايشاع، وكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة من الأب
روي أنها كانت عاقراً عجوزاً، فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يطعم فرخه فحنت إلى الولد وتمنته فقالت: اللهم إن لك علي نذراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من خدمه، فحملت بمريم وهلك عمران
. وكان هذا النذر مشروعاً في عهدهم للغلمان فلعلها بنت الأمر على التقدير أو طلبت ذكراً مُحَرَّراً معتقاً لخدمته لا أشغله بشيء، أو مخلصاً للعبادة ونصبه على الحال. فَتَقَبَّلْ مِنِّي ما نذرته. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ لقولي ونيتي.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٦]
فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦)
فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى الضمير لما في بطنها وتأنيثه لأنه كان أنثى، وجاز انتصاب أنثى حالاً عنه لأن تأنيثها علم منه فإن الحال وصاحبها بالذات واحداً. أو على تأويل مؤنث كالنفس والحبلة.
وإنما قالته تحسراً وتحزناً إلى ربها لأنها كانت ترجو أن تلد ذكراً ولذلك نذرت تحريره. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ أي بالشيء الذي وضعت. هو استئناف من الله تعالى تعظيماً لموضوعها وتجهيلاً لها بشأنها. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وَضَعَتْ على أنه من كلامها تسلية لنفسها أي ولعل الله سبحانه وتعالى فيه سراً، أو الأنثى كانت خيراً. وقريء «وَضَعَتْ» على أنه خطاب الله تعالى لها. وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى بيان لقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ أي وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت، واللام فيهما للعهد ويجوز أن يكون من قولها بمعنى وليس الذكر والأنثى سيان فيما نذرت فتكون اللام للجنس. وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ عطف على ما قبلها من مقالها وما بينهما اعتراض، وإنما ذكرت ذلك لربها تقرباً إليه وطلباً لأن يعصمها ويصلحها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها فإن مريم في لغتهم بمعنى: العابدة. وفيه دليل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور متغايرة. وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ أجيرها بحفظك. وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ المطرود، وأصل الرجم الرمي بالحجارة.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستهل من مسه إلا مريم وابنها»
. ومعناه أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود يتأثر منه إلا مريم وابنها فإن الله تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٧]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
فَتَقَبَّلَها رَبُّها فرضي بها في النذر مكان الذكر. بِقَبُولٍ حَسَنٍ أي بوجه حسن يقبل به النذائر، وهو إقامتها مقام الذكر، أو تسلمها عقيب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسدانة.
روي أن حنة لما ولدتها لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فإن بني ماثان كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم فقال زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها فأبوا إلا القرعة، وكانوا سبعة وعشرين فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فطفا قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها زكريا
. ويجوز أن يكون مصدراً على تقدير مضاف أي بذي قبول حسن، وأن يكون تقبل بمعنى استقبل كتقضي وتعجل أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت بقبول حسن. وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا شدد الفاء حمزة والكسائي وعاصم، وقصروا زكريا
غير عاصم في رواية ابن عياش على أن الفاعل هو الله تعالى وزكريا مفعول أي جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها، وخفف الباقون. ومدوا «زكرياء» مرفوعاً. كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ أي الغرفة التي بنيت لها، أو المسجد، أو أشرف مواضعه ومقدمها، سمي به لأنه محل محاربة الشيطان كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس. وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً جواب كُلَّما وناصبه.
روي: أنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وبالعكس
. قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه والأبواب مغلقة عليك، وهو دليل جواز الكرامة للأولياء. جعل ذلك معجزة زكريا يدفعه اشتباه الأمر عليه. قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فلا تستبعده. قيل تكلمت صغيرة كعيسى عليه السلام ولم ترضع ثدياً قط وكان رزقها ينزل عليها من الجنة. إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير لكثرته، أو بغير استحقاق تفضلاً به. وهو يحتمل أن يكون من كلامهما وأن يكون من كلام الله تعالى.
روي (أن فاطمة رضي الله تعالى عنها أهدت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رغيفين وبضعة لحم فرجع بها إليها وقال: هلمي يا بنية، فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما فقال لها: أنَّى لك هذا! فقالت: هو من عند الله إن الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حساب، فقال الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل، ثم جمع علياً والحسن والحسين وجمع أهل بيته عليه حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها)
. [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ في ذلك المكان، أو الوقت إذ يستعار هنا وثم وحيث للزمان، لما رأى كرامة مريم ومنزلتها من الله تعالى. قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً كما وهبتها لحنة العجوز العاقر. وقيل لما رأى الفواكه في غير أَوَانِهَا انتبه على جواز ولادة العاقر من الشيخ، فسأل وقال هب لي من لدنك ذرية، لأنه لم يكن على الوجوه المعتادة وبالأسباب المعهودة. إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ مجيبه.
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أي من جنسهم كقولهم زيد يركب الخيل. فإن المنادي كان جبريل وحده. وقرأ حمزة والكسائي «فناداه» بالإِمالة والتذكير. وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أي قائماً في الصلاة، و (يصلي) صفة قائم أو خبر أو حال آخر أو حال عن الضمير في قائم. أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى أي بأن الله. وقرأ نافع وابن عامر بالكسر على إرادة القول، أو لأن النداء نوع منه. وقرأ حمزة والكسائي (يبشرك)، و (يحيى) اسم أعجمي وإن جعل عربياً فمنع صرفه للتعريف ووزن الفعل. مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بعيسى عليه السلام، سمي بذلك لأنه وجد بأمره تعالى دون أب فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر، أو بكتاب الله، سمي كلمة كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدته. وَسَيِّداً يسود قومه ويفوقهم وكان فائقاً للناس كلهم في أنه مَا هَمَّ بمعصية قط. وَحَصُوراً مبالغاً في حبس النفس عن الشهوات والملاهي.
روي أنه مر في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال ما للعب خلقت
. وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ناشئاً منهم أو كائناً من عداد من لم يأت كبيرة ولا صغيرة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٠]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (٤٠)
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ استبعاداً من حيث العادة، أو استعظاماً أو تعجبا أو استفهاماً عن كيفية
حدوثه. وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أدركني كبر السن وأثر في. وكان له تسع وتسعون ولامرأته ثمان وتسعون سنة.
وَامْرَأَتِي عاقِرٌ لا تلد، من العقر وهو القطع لأنها ذات عقر من الأولاد. قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ أي يَفْعَلُ مَا يَشَاء من العجائب مثل ذلك الفعل، وهو إنشاء الولد من شيخ فان وعجوز عاقر، أو كما أنت عليه وزوجك من الكبر والعقر يَفْعَلُ مَا يَشَاء من خلق الولد أو كذلك الله مبتدأ وخبر أي الله على مثل هذه الصفة، ويفعل ما يشاء بيان له أو كذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، والله يفعل ما يشاء بيان له.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤١]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً علامة أعرف بها الحبل لاستقبله بالبشاشة والشكر وتزيح مشقة الانتظار. قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أي لا تقدر على تكليم الناس ثلاثاً، وإنما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصة ليخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره، قضاء لحق النعمة وكأنه قال آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال. إِلَّا رَمْزاً إشارة بنحو يد أو رأس، وأصله التحرك ومنه الراموز للبحر والاستثناء منقطع وقيل متصل والمراد بالكلام ما دل على الضمير. وقرئ «رَمْزًا» بفتحتين كخدم جمع رامز ورمزاً كرسل جمع رموز على أنه حال منه ومن الناس بمعنى مترامزين كقوله:
مَتَى مَا تَلْقَني فَرْدَيْنِ تَرْجِف رَوَانِفُ أَليتَيْكَ وَتُسْتَطَارَا
وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً في أيام الحبسة، وهو مؤكد لما قبله مبين للغرض منه، وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار. وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ من الزوال إلى الغروب. وقيل من العصر أو الغروب إلى ذهاب صدر الليل. وَالْإِبْكارِ من طلوع الفجر إلى الضحى. وقرئ بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ كلموها شفاهاً كرامة لها، ومن أنكر الكرامة زعم أن ذلك كانت معجزة لزكريا أو إرهاصاً لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام، فإن الإِجماع على أنه سبحانه وتعالى لم يستنبئ امرأة لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا. وقيل ألهموها، والاصطفاء الأول تقبلها من أمها ولم يقبل قبلها أنثى وتفريغها للعبادة وإغناؤها برزق الجنة عن الكسب وتطهيرها عما يستقذر من النساء. والثاني هدايتها وإرسال الملائكة إليها، وتخصيصها بالكرامات السنية كالولد من غير أب وتبرئتها مما قذفتها به اليهود بإنطاق الطفل وجعلها وابنها آية للعالمين.
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أمرت بالصلاة في الجماعة بذكر أركانها مبالغة في المحافظة عليها، وقدم السجود على الركوع إما لكونه كذلك في شريعتهم أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب، أو ليقترن اركعي بالراكعين للإِيذان بأن من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلين. وقيل المراد بالقنوت إدامة الطاعة كقوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً وبالسجود الصلاة كقوله تعالى: وَأَدْبارَ السُّجُودِ. وبالركوع الخشوع والإخبات.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٤]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي ما ذكرنا من القصص من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي.
وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أقداحهم للاقتراع. وقيل اقترعوا بأقلامهم التى كانوا يكتبون بها التوراة تبركاً، والمراد تقرير كونه وحياً على سبيل التهكم بمنكريه، فإن طريق معرفة الوقائع المشاهدة والسماع وعدم السماع معلوم لا شبهة فيه عندهم فبقي أن يكون الإتهام باحتمال العيان ولا يظن به عاقل. أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ متعلق بمحذوف دل عليه يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أي يلقونها ليعلموا، أو يقولوا أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ تنافسا في كفالتها.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ بدل من إِذْ قالَتِ الأولى وما بينهما اعتراض، أو من إِذْ يَخْتَصِمُونَ على أن وقوع الاختصام والبشارة في زمان متسع كقولك لقيته سنة كذا. يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ المسيح لقبه وهو من الألقاب المشرفة كالصديق وأصله بالعبرية مشيحا معناه: المبارك، وعيسى معرب ايشوع واشتقاقهما من المسح لأنه مسح بالبركة أو بما طهره من الذنوب، أو مسح الأرض ولم يقم في موضع، أو مسحه جبريل، ومن العيس وهو بياض يعلوه حمرة، تكلف لا طائل تحته، وابن مريم لما كان صفة تميز تمييز الأسماء نظمت في سلكها، ولا ينافي تعدد الخبر وإفراد المبتدأ فإنه اسم جنس مضاف ويحتمل أن يراد به أن الذي يعرف به ويتميز عن غيره هذه الثلاثة، فإن الإِسم علامة المسمى والمميز له ممن سواه ويجوز أن يكون عيسى خبر مبتدأ محذوف وابن مريم صفته، وإنما قيل ابن مريم والخطاب لها تنبيهاً على أنه يولد من غير أب إذ الأولاد تنسب إلى الآباء ولا تنسب إلى الأم إلا إذا فقد الأب. وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ حال مقدرة من كلمة وهي وإن كانت نكرة لكنها موصوفة وتذكيره للمعنى، والوجاهة في الدنيا النبوة وفي الآخرة الشفاعة وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ من الله، وقيل إشارة إلى علو درجته في الجنة أو رفعه إلى السماء وصحبة الملائكة.
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي يكلمهم حال كونه طفلاً وكهلاً، كلام الأنبياء من غير تفاوت.
والمهد مصدر سمي به ما يمهد للصبي في مضجعه. وقيل إنه رفع شاباً والمراد وكهلاً بعد نزوله، وذكر أحواله المختلفة المتنافية إرشاداً إلى أنه بمعزل عن الألوهية وَمِنَ الصَّالِحِينَ حال ثالث من كلمة أو ضميرها الذي في يكلم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٤٧]
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ تعجب، أو استبعاد عادي، أو استفهام عن أنه يكون بتزوج أو غيره. قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ القائل جبريل، أو الله تعالى وجبريل حكى لها قول الله تعالى. إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إشارة إلى أنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرجاً بأسباب ومواد يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
ونعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل كلام مبتدأ ذكر تطييباً لقلبها وإزاحة لما همها من خوف اللوم لما علمت أنها تلد من غير زوج، أو عطف على يبشرك، أو وجيهاً والْكِتابَ الكتبة أو جنس الكتب المنزلة. وخص الكتابان لفضلهما. وقرأ نافع وعاصم وَيُعَلِّمُهُ بالياء.
وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ منصوب بمضمر على إرادة القول تقديره:
ويقول أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم، أو بالعطف على الأحوال المتقدمة مضمناً معنى النطق فكأنه قال:
وناطقاً بأني قد جئتكم، وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثته إليهم أو للرد على من زعم أنه مبعوث إلى غيرهم. أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ نصب بدل من أني قد جئتكم، أو جر بدل من آية، أو رفع على هي أني أخلق لكم والمعنى: أقدر لكم وأصور شيئاً مثل صورة الطير، وقرأ نافع إِنّى بالكسر فَأَنْفُخُ فِيهِ الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل. فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ فيصير حياً طياراً بأمر الله، نبه به على أن إحياءه من الله تعالى لا منه. وقرأ نافع هنا وفي المائدة «طائراً» بالألف والهمزة. وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ الأكمه الذي ولد أعمى أو الممسوح العين.
روي: أن ربما كان يجتمع عليه ألوف من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه الصلاة والسلام وما يداوي إلا بالدعاء
. وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ كرر بإذن الله دفعاً لتوهم الألوهية، فإن الإِحياء ليس من جنس الأفعال البشرية. وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكون فيها. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موفقين للإِيمان فإن غيرهم لا ينتفع بالمعجزات، أو مصدقين للحق غير معاندين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٠]
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠)
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ عطف على رَسُولًا على الوجهين، أو منصوب بإضمار فعل دل عليه قَدْ جِئْتُكُمْ أي وجئتكم مصدقاً. وَلِأُحِلَّ لَكُمْ مقدر بإضماره، أو مردود على قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ، أو معطوف على معنى مُصَدِّقاً كقولهم جئتك معتذراً ولأطيب قلبك. بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أي في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام كالشحوم والثروب والسمك ولحوم الإِبل والعمل في السبت، وهو يدل على أن شرعه كان ناسخاً لشرع موسى عليه الصلاة والسلام ولا يخل ذلك بكونه مصدقاً للتوراة، كما لا يعود نسخ القرآن بعضه ببعض عليه بتناقض وتكاذب، فإن النسخ في الحقيقة بيان وتخصيص في الأزمان وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥١]
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أي جئتكم بآية أخرى ألهمنيها ربكم وهو قوله: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فإنه دعوة الحق المجمع عليها فيما بين الرسل الفارقة بين النبي والساحر، أو جئتكم بآية على إن الله ربي وربكم وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ اعتراض والظاهر أنه تكرير لقوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم، والأول لتمهيد الحجة والثاني لتقريبها إلى الحكم ولذلك رتب عليه بالفاء قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ أي لما جئتكم بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة فاتقوا الله في المخالفة وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه، ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ
إشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد، وقال: فَاعْبُدُوهُ إشارة إلى استكمال القوة العلمية فإنه بملازمة الطاعة التي هي الإِتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي، ثم قرر ذلك بأن بين أن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة، ونظيره
قوله عليه الصلاة والسلام «قل آمنت بالله ثم استقم»
. [سورة آل عمران (٣) : آية ٥٢]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ تحقق كفرهم عنده تحقق ما يدرك بالحواس. قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ ملتجئاً إلى الله تعالى أو ذاهباً أو ضاماً إليه، ويجوز أن يتعلق الجار ب أَنْصارِي مضمناً معنى الإِضافة، أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله تعالى فى نصري. وقيل إلى هاهنا بمعنى (مع) أو (في) أو (اللام).
قالَ الْحَوارِيُّونَ حواري الرجل خاصته من الحور وهو البياض الخالص، ومنه الحواريات للحضريات لخلوص ألوانهن. سمي به أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم. وقيل كانوا ملوكاً يلبسون البيض استنصر بهم عيسى عليه الصلاة والسلام من اليهود. وقيل قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها. نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي أنصار دين الله. آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ لتشهد لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤)
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع الشاهدين بوحدانيتك، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم، أو مع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فإنهم شهداء على الناس.
وَمَكَرُوا أي الذين أحس منهم الكفر من اليهود بأن وكلوا عليه من يقتله غيلة. وَمَكَرَ اللَّهُ حين رفع عيسى عليه الصلاة والسلام وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل. والمكر من حيث إنه في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة لا يسند إلى الله تعالى إلا على سبيل المقابلة والإِزدواج. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أقواهم مكراً وأقدرهم على إيصال الضرر مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٥]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)
إِذْ قالَ اللَّهُ ظرف لمكر الله أو خير الماكرين، أو لمضمر مثل وقع ذلك. يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي مستوفي أجلك ومؤخرك إلى أجلك المسمى، عاصماً إياك من قتلهم، أو قابضك من الأرض من توفيت مالي، أو متوفيك نائماً إذ روي أنه رفع نائماً، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت. وقيل أماته الله سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى. وَرافِعُكَ إِلَيَّ إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي. وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا من سوء جوارهم أو قصدهم وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعاونهم بالحجة أو السيف في غالب الأمر، ومتبعوه من آمن بنبوته من المسلمين والنصارى وإلى الآن لم تسمع غلبة لليهود عليهم ولم يتفق لهم ملك ودولة. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ الضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام ومن تبعه ومن كفر به، وغلب المخاطبين على الغائبين. فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فنوفيهم أُجُورَهُمْ تفسير للحكم وتفصيل له. وقرأ حفص فَيُوَفِّيهِمْ بالياء. وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ تقرير لذلك.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٥٨]
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى وغيره، وهو مبتدأ خبره. نَتْلُوهُ عَلَيْكَ وقوله: مِنَ الْآياتِ حال من الهاء ويجوز أن يكون الخبر ونتلوه حالاً على أن العامل معنى الإِشارة وأن يكونا خبرين وأن ينتصب بمضمر يفسره نتلوه. وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ المشتمل على الحكم، أو المحكم الممنوع عن تطرق الخلل إليه يريد به القرآن. وقيل اللوح.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ إن شأنه الغريب كشأن آدم عليه الصلاة والسلام. خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة مفسرة للتمثيل مبينة لما به الشبه، وهو أنه خلق بلا أب كما خلق آدم من التراب بلا أب وأم، شبه حاله بما هو أعرب منه إفحاماً للخصم وقطعاً لمواد الشبهة والمعنى خلق قالبه من التراب. ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ أي أنشأه بشراً كقوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أو قدر تكوينه من التراب ثم كونه، ويجوز أن يكون ثم لتراخي الخبر لا المخبر. فَيَكُونُ حكاية حال ماضية.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ خبر محذوف أي هو الحق، وقيل الْحَقُّ مبتدأ ومِنْ رَبِّكَ خبره أي الحق المذكور من الله تعالى. فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم على طريقة التهييج لزيادة الثبات أو لكل سامع.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦١]
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)
فَمَنْ حَاجَّكَ من النصاري. فِيهِ في عيسى. مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من البينات الموجبة للعلم. فَقُلْ تَعالَوْا هلموا بالرأي والعزم. نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ أي يدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ويحمل عليها، وإنما قدمهم على الأنفس لأن الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم. ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منا. والبهلة بالضم والفتح اللعنة وأصله الترك من قولهم بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار. فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ عطف فيه بيان
روي (أنهم لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى ننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: ما ترى؟
فقال: والله لقد عرفتم نبوته، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبياً إلا هلكوا، فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد غدا محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي رضي الله عنه خلفها وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمنوا، فقال أسقفهم يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا، فأذعنوا
لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبذلوا له الجزية ألفي حلة حمراء وثلاثين درعاً من حديد، فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لو تباهلوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر)
. وهو دليل على نبوته وفضل من أتى بهم من أهل بيته.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
إِنَّ هَذَا أي ما قص من نبأ عيسى ومريم. لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ بجملتها خبر إن، أو هو فصل يفيد أن ما ذكره في شأن عيسى ومريم حق دون ما ذكروه، وما بعده خبر واللام دخلت فيه لأنه أقرب إلى المبتدأ من الخبر، وأصلها أن تدخل على المبتدأ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ صرح فيه ب مِنْ المزيدة للاستغراق تأكيداً للرد على النصارى في تثليثهم وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لا أحد سواه يساويه في القدرة التامة والحكمة البالغة ليشاركه في الألوهية.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ وعيد لهم ووضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن التولي عن الحجج والإِعراض عن التوحيد، إفساد للدين والاعتقاد المؤدي إلى فساد النفس بل وإلى فساد العالم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٤]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ يعم أهل الكتابين. وقيل يريد به وفد نجران، أو يهود المدينة. تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ لا يختلف فيها الرسل والكتب ويفسرها ما بعدها. أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ أن نوحده بالعبادة ونخلص فيها. وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا نجعل غيره شريكاً له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلاً لأن يعبد.
وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ولا نقول عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلا منهم بعضنا بشر مثلنا
روي أنه لما نزلت اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ قال عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال «أليس يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال: هو ذاك»
. فَإِنْ تَوَلَّوْا عن التوحيد. فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل.
(تنبيه) أنظر إلى ما راعى في هذه القصة من المبالغة في الإِرشاد وحسن التدرج في الحجاج بين: أولاً، أحوال عيسى عليه الصلاة والسلام وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم، فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الإِعجاز، ثم لما أعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإِرشاد وسلك طريقاً أسهل، وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإِنجيل وسائر الأنبياء والكتب، ثم لما لم يجد ذلك أيضاً عليهم وعلم أن الآيات والنذر لا تغني عنهم أعرض عن ذلك وقال فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٥]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ تنازعت اليهود
والنصارى في إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وزعم كل فريق أنه منهم وترافعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت.
والمعنى أن اليهودية والنصرانية حدثتا بنزول التوراة والإِنجيل على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وكان إبراهيم قبل موسى بألف سنة وعيسى بألفين فكيف يكون عليهما. أَفَلا تَعْقِلُونَ فتدعون المحال.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٦]
هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦)
هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ها حرف تنبيه نبهوا بها على حالهم التي غفلوا عنها، وأنتم مبتدأ وهؤُلاءِ خبره وحاجَجْتُمْ جملة أخرى مبينة للأولى. أي أنتم هؤلاء الحمقى وبيان حماقتكم أنكم جادلتم فيما لكم به علم مما وجدتموه في التوراة والإِنجيل عناداً، أو تدعون وروده فيه فلم تجادلون فيما لا علم لكم به ولا ذكر له في كتابكم من دين إبراهيم. وقيل هؤُلاءِ بمعنى الذين وحاجَجْتُمْ صلته. وقيل ها أنتم أصله أأنتم على الاستفهام للتعجب من حماقتهم فقلبت الهمزة هاء. وقرأ نافع وأبو عمرو هَا أَنْتُمْ حيث وقع بالمد من غير همز، وورش أقل مداً، وقنبل بالهمز من غير ألف بعد الهاء والباقون بالمد والهمز، والبزي بقصر المد على أصله. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما حاججتم فيه.
وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وأنتم جاهلون به.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا تصريح بمقتضى ما قرره من البرهان. وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مائلاً عن العقائد الزائغة. مُسْلِماً منقاداً لله وليس المراد أنه كان على ملة الإِسلام وإلا لاشترك الإِلزام. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تعريض بأنهم مشركون لإِشراكهم به عزيراً والمسيح ورد لادعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام.
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ إن أخصهم به وأقربهم منه، من الولي وهو القرب، لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ من أمته. وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا لموافقتهم له في أكثر ما شرع لهم على الأصالة. وقرئ والنبي بالنصب عطفاً على الهاء في اتبعوه، وبالجر عطفاً على إبراهيم. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ينصرهم ويجازيهم الحسنى لإيمانهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٩]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩)
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ نزلت في اليهود لما دعوا حذيفة وعماراً ومعاذاً إلى اليهودية ولَوْ بمعنى أن. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وما يتخطاهم الإِضلال ولا يعود وباله إلا عليهم إذ يضاعف به عذابهم، أو ما يضلون إلا أمثالهم. وَما يَشْعُرُونَ وزره واختصاص ضرره بهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ بما نطقت به التوراة والإنجيل ودلت على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أنها آيات الله أو بالقرآن وأنتم تشهدون نعته في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات أنه حق.
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ بالتحريف وإبراز الباطل في صورته، أو بالتقصير في التمييز بينهما. وقرئ «تلبّسون» بالتشديد و «تلبسون» بفتح الباء أي تلبسون الحق مع الباطل
كقوله عليه السلام «كلابس ثوبي زور»
وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ نبوة محمد عليه السلام ونعته. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ عالمين بما تكتمونه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٢]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ أي أظهروا الإِيمان بالقرآن أول النهار. وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ واكفروا به آخره لعلهم يشكون في دينهم ظناً بأنكم رجعتم لخلل ظهر لكم، والمراد بالطائفة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف قالا لأصحابهما لما حولت القبلة: آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم وصلوا إلى الصخرة آخره لعلهم يقولون هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون. وقيل اثنا عشر من أحبار خيبر تقاولوا بأن يدخلوا في الإِسلام أول النهار ويقولوا آخره نظرنا في كتابنا وشاورنا علماءنا فلم نجد محمداً عليه الصلاة والسلام بالنعت الذي ورد في التوراة لعل أصحابه يشكون فيه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ولا تقروا عن تصديق قلب إلا لأهل دينكم، أو لا تظهروا إيمانكم وجه النهار لمن كان على دينكم فإن رجوعهم أرجي وأهم. قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ هو يهدي من يشاء إلى الإِيمان ويثبته عليه. أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ متعلق بمحذوف أي دَبَّرْتُمْ ذلك وقلتم لأن يؤتى أحد، والمعنى أن الحسد حملكم على ذلك أو بلا تؤمنوا أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأشياعكم، ولا تفشوه إلى المسلمين لئلا يزيد ثباتهم ولا إلى المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام وقوله:
قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ اعتراض يدل على أن كيدهم لا يجدي بطائل، أو خبر إن على أن هدى الله بدل من الهدى. وقراءة ابن كثير أَنْ يُؤْتى على الاستفهام للتقريع، تؤيد الوجه الأول أي إلا أن يؤتى أحد دبرتم. وقرئ «إِن» على أنها نافية فيكون من كلام الطائفة أي ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ عطف على أَنْ يُؤْتى على الوجهين الأولين وعلى الثالث معناه: حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوا حجتكم عند ربكم، والواو ضمير أحد لأنه في معنى الجمع إذ المراد به غير أتباعهم. قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ رد وإبطال لما زعموه بالحجة الواضحة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٥]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ كعبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأداه إليه وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ كفنحاص بن عازوراء استودعه قرشي آخر ديناراً
فجحده. وقيل المأمونون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة، والخائنون في القليل اليهود إذ الغالب عليهم الخيانة. وقرأ حمزة وأبو بكر وأبو عمرو يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ولا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ بإسكان الهاء وقالون باختلاس كسرة الهاء وكذا روي عن حفص والباقون بإشباع الكسرة. إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً إلا مدة دوامك قائماً على رأسه مبالغاً في مطالبته بالتقاضي والترافع وإقامة البينة. ذلِكَ إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله لاَّ يُؤَدِّهِ. بِأَنَّهُمْ قالُوا بسبب قولهم. لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي ليس علينا في شأن من ليسوا من أهل الكتاب، ولم يكونوا على ديننا، عتاب وذم. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بادعائهم ذلك وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون، وذلك لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم وقالوا: لم يجعل لهم في التوراة حرمة. وقيل عامل اليهود رجالاً من قريش فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا سقط حقكم حيث تركتم دينكم وزعموا أنه كذلك في كتابهم.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال عند نزولها «كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر»
. [سورة آل عمران (٣) : آية ٧٦]
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
بَلى إثبات لما نفوه أي بلى عليهم فيهم سبيل. مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ استئناف مقرر للجملة التي سدت بَلى مسدها، والضمير المجرور لمن أو لله وعموم المتقين ناب عن الراجع من الجزاء إلى مَنْ، وأشعر بأن التقوى ملاك الأمر وهو يعم الوفاء وغيره من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ يستبدلون. بِعَهْدِ اللَّهِ بما عاهدوا الله عَلَيْهِ من الإِيمان بالرسول والوفاء بالأمانات. وَأَيْمانِهِمْ وبما حلفوا به من قولهم والله لنؤمنن به ولننصرنه، ثَمَناً قَلِيلًا متاع الدنيا. أُولئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ بما يسرهم أو بشيء أصلاً، وأن الملائكة يسألونهم يوم القيامة، أو لا ينتفعون بكلمات الله وآياته، والظاهر أنه كناية عن غضبه عليهم لقوله: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فإن من سخط على غيره واستهان به أعرض عنه وعن التكلم معه والالتفات نحوه، كما أن من اعتد بغيره يقاوله ويكثر النظر إليه. وَلا يُزَكِّيهِمْ ولا يثني عليهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ على ما فعلوه. قيل: إنها نزلت في أحبار حرفوا التوراة وبدلوا نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وحكم الأمانات وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة. وقيل: نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يشترها به. وقيل: نزلت في ترافع كان بين الأشعث بن قيس ويهودي في بئر أو أرض وتوجه الحلف على اليهودي.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٨]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يعني المحرفين ككعب ومالك وحيي بن أخطب. يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ يفتلونها بقراءته فيميلونها عن المنزل إلى المحرف، أو يعطفونها بشبه الكتاب. وقرئ «يلون» على قلب الواو المضمومة همزة ثم تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها. لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ الضمير للمحرف المدلول عليه بقوله يَلْوُونَ. وقرئ «ليحسبوه» بالياء والضمير أيضاً للمسلمين.
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تأكيد لقوله: وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وتشنيع عليهم وبيان لأنهم
يزعمون ذلك تصريحاً لا تعريضاً، أي ليس هو نازلاً من عنده. وهذا لا يقتضي أن لا يكون فعل العبد فعل الله تعالى. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ تأكيد وتسجيل عليهم بالكذب على الله والتعمد فيه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٩]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ تكذيب ورد على عبده عيسى عليه السلام.
وقيل (أن أبا رافع القرظي والسيد النجراني قالا: يا محمد أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً، فقال: معاذ الله أن نعبد غير الله وأن نأمر بعبادة غير الله، فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني) فنزلت.
وقيل (قال رجل يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك. قال: لا ينبغي أن يسجد لأحد مِن دُونِ الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله)
وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ولكن يقول كونوا ربانيين، والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون كاللحياني والرقباني وهو الكامل في العلم والعمل. بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ بسبب كونكم معلمين الكتاب وبسبب كونكم دارسين له، فإن فائدة التعليم والتعلم معرفة الحق والخير للاعتقاد والعمل، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب تعلمون بمعنى عالمين. وقرئ «تَدْرُسُونَ» من التدريس وتدرسون من أدرس بمعنى درس كأكرم وكرم، ويجوز أن تكون القراءة المشهورة أيضاً بهذا المعنى على تقدير وبما كنتم تدرسونه على الناس.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٠]
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً نصبه ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب عطفاً على ثم يقول، وتكون لا مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله مَا كانَ، أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، أو غير مزيدة على معنى أنه ليس له أن يأمر بعبادته ولا يأمر باتخاذ أكفائه أرباباً، بل ينهى عنه وهو أدنى من العبادة. ورفعه الباقون على الاستئناف، ويحتمل الحال وقرأ أبو عمرو على أصله برواية الدوري باختلاس الضم. أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ إنكار، والضمير فيه للبشر وقيل لله.
بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ دليل على أن الخطاب للمسلمين وهم المستأذنون لأن يسجدوا له.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨١]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قيل إنه على ظاهره، وإذا كان هذا حكم الأنبياء كان الأمم به أولى. وقيل معناه أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم. وقيل إضافة الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الفاعل، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم. وقيل المراد أولاد النبيين على حذف المضاف، وهم بنو إسرائيل، أو سماهم نبيين تهكماً لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا، واللام في لَما موطئه للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف، وما تحتمل الشرطية ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط وتحتمل الخبرية. وقرأ حمزة «لما» بالكسر على أن ما مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب، ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه، أو موصولة والمعنى أخذه للذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له. وقرئ «لما» بمعنى حين
آتيتكم، أو لمن أجل ما آتيتكم على أن أصله لمن ما بالإِدغام فحذف إحدى الميمات الثلاث استثقالاً. وقرأ نافع «آتيناكم» بالنون والألف جميعاً. قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي عهدي، سمي به لأنه يؤصر أي يشد. وقرئ بالضم وهو إما لغة فيه كعبر وعبر أو جمع إصار وهو ما يشد به. قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا أي فليشهد بعضكم على بعض بالإِقرار. وقيل الخطاب فيه للملائكة. وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وأنا أيضاً على إقراركم وتشاهدكم شاهد، وهو توكيد وتحذير عظيم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ بعد الميثاق والتوكيد بالإِقرار والشهادة. فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ المتمردون من الكفرة.
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ عطف على الجملة المتقدمة والهمزة متوسطة بينهما للإِنكار، أو محذوف تقديره أتتولون فغير دين الله تبغون، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإِنكار والفعل بلفظ الغيبة عند أبي عمرو وعاصم في رواية حفص ويعقوب، وبالتاء عند الباقين على تقدير وقل له. وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً أي طائعين بالنظر واتباع الحجة، وكارهين بالسيف ومعاينة ما يلجئ إلى الإِسلام كنتق الجبل وإدراك الغرق، والإِشراف على الموت. أو مختارين كالملائكة والمؤمنين ومسخرين كالكفرة فإنهم لا يقدرون أن يمتنعوا عما قضى عليهم وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وقرئ بالياء على أن الضمير لمن.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٤]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ أمر للرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن يخبر عن نفسه ومتابعيه بالإِيمان، والقرآن كما هو منزل عليه منزل عليهم بتوسط تبليغه إليهم وأيضاً المنسوب إلى واحد من الجمع قد ينسب إليهم، أو بأن يتكلم عن نفسه على طريقة الملوك إجلالاً له، والنزول كما يعدى بإلى لأنه ينتهي إلى الرسل يعدى بعلى لأنه من فوق، وإنما قدم المنزل عليه السلام على المنزل على سائر الرسل لأنه المعرف له والعيار عليه لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالتصديق والتكذيب. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ منقادون أو مخلصون في عبادته.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٥]
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً أي غير التوحيد والإِنقياد لحكم الله. فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ الواقعين في الخسران، والمعنى أن المعرض عن الإِسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا، واستدل به على أن الإِيمان هُو الإِسلام إذ لو كان غيره لم يقبل. والجواب إنه ينفي قبول كل دين يغايره لا قبول كل ما يغايره، ولعل الدين أيضا للأعمال.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٦]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ استبعاد لأن يهديهم الله فإن الحائد عن الحق بعد ما وضح له منهمك في الضلال بعيد عن الرشاد. وقيل نفي وإنكار له وذلك
يقتضي أن لا تقبل توبة المرتد، وَشَهِدُوا عطف على ما في إِيمانِهِمْ من معنى الفعل ونظيره فأصدق وأكن، أو حال بإضمار قد من كفروا وهو على الوجهين دليل على أن الإِقرار باللسان خارج عن حقيقة الإِيمان. وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالإِخلال بالنظر ووضع الكفر موضع الإِيمان فكيف من جاءه الحق وعرفه ثم أعرض عنه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨)
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ يدل بمنطوقه على جواز لعنهم، وبمفهومه على نفي جواز لعن غيرهم. ولعل الفرق أنهم مطبوعون على الكفر ممنوعون عن الهدى مؤيسون عن الرحمة رأساً بخلاف غيرهم، والمراد بالناس المؤمنون أو العموم فإن الكافر أيضاً يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه.
خالِدِينَ فِيها في اللعنة، أو العقوبة، أو النار وإن لم يجز ذكرهما لدلالة الكلام عليهما. لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٩]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد الارتداد. وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا، ويجوز أن لا يقدر له مفعول بمعنى ودخلوا في الصلاح. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يقبل توبته. رَحِيمٌ يتفضل عليه. قيل: إنها نزلت في الحارث بن سويد حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن سلوا هل لي من توبة، فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية فرجع إلى المدينة فتاب.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً كاليهود كفروا بعيسى والإِنجيل بعد الإِيمان بموسى والتوراة، ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن، أو كفروا بمحمد بعد ما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بالإصرار والعناد والطعن فيه والصد عن الإيمان ونقض الميثاق، أو كقوم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم ازدادوا كفراً بقولهم نتربص بمحمد ريب المنون أو نرجع إليه وننافقه بإظهاره. لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ لأنهم لا يتوبون، أو لا يتوبون إلا إذا أشرفوا على الهلاك فكني عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظاً في شأنهم وإبرازاً لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة، أو لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقاً لارتدادهم وزيادة كفرهم، ولذلك لم تدخل الفاء فيه.
وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ الثابتون على الضلال.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً لما كان الموت على الكفر سبباً لامتناع قبول الفدية أدخل الفاء ها هنا للإِشعار به، وملء الشيء ما يملؤه. وذَهَباً نصب على التمييز. وقرئ بالرفع على البدل من مِلْءُ أو الخبر لمحذوف. وَلَوِ افْتَدى بِهِ محمول على المعنى كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً، أو معطوف على مضمر تقديره فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو تقرب به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة، أو المراد ولو افتدى
بمثله كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ والمثل يحذف ويراد كثيراً لأن المثلين في حكم شيء واحد أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مبالغة في التحذير وإقناط لأن من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرماً وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ في دفع العذاب ومن مزيدة للاستغراق.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٢]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير، أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضى والجنة. حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ أي من المال، أو ما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس، والبدن في طاعة الله والمهجة في سبيله.
روي (أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن أحب أموالي إلي بيرحاء فضعها حيث أراك الله، فقال: بخ بخ ذاك مال رابح أو رائح، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. وجاء زيد بن حارثة بفرس كان يحبها فقال: هذه في سبيل الله فحمل عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسامة بن زيد فقال: زيد إنما أردت أن أتصدق بها فقال عليه السلام: إن الله قد قبلها منك)
أو ذلك يدل على أن إنفاق أحب الأموال على أقرب الأقارب أفضل، وأن الآية تعم الإِنفاق الواجب والمستحب. وقرئ «بعض ما تحبون» وهو يدل على أن من للتبعيض ويحتمل التبيين. وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ أي من أي شيء محبوب أو غيره ومن لبيان ما. فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم بحسبه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٣]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣)
كُلُّ الطَّعامِ أي المطعومات والمراد أكلها. كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ حلالاً لهم، وهو مصدر نعت به ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى: لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ. إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ يعقوب. عَلى نَفْسِهِ كلحوم الإِبل وألبانها. وقيل كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحبه إليه. وقيل: فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء. واحتج به من جوز للنبي أن يجتهد، وللمانع أن يقول ذلك بإذن من الله فيه فهو كتحريمه ابتداء. مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ أي من قبل إنزالها مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبة وتشديداً، وذلك رد على اليهود في دعوى البراءة مما نعى عليهم في قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ وقوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الآيتين، بأن قالوا لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده حتى انتهى الأمر إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا، وفي منع النسخ والطعن في دعوى الرسول عليه السلام موافقة إبراهيم عليه السلام بتحليله لحوم الإِبل وألبانها. قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أمر بمحاجتهم بكتابهم وتبكيتهم بما فيه من أنه قد حرم عليهم بسبب ظلمهم ما لم يكن محرماً.
روي: أنه عليه السلام لما قاله لهم بهتوا ولم يجسروا أن يخرجوا التوراة. وفيه دليل على نبوته
. [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
ابتدعه على الله بزعمه أنه حرم ذلك قبل نزول التوراة على بني إسرائيل ومن قبلهم. مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
من بعد ما لزمتهم الحجة. فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
الذين لا ينصفون من أنفسهم ويكابرون الحق بعد ما وضح لهم.
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ تعريض بكذبهم، أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون. فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
حَنِيفاً
أي ملة الإِسلام التي هي في الأصل ملة إبراهيم، أو مثل ملته حتى تتخلصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى التحريف والمكابرة لتسوية الأغراض الدنيوية، وألزمتكم تحريم طيبات أحلها الله لإِبراهيم ومن تبعه. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فيه إشارة إلى أن اتباعه واجب في التوحيد الصرف والاستقامة في الدين والتجنب عن الإِفراط والتفريط، وتعريض بشرك اليهود.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٦]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي وضع للعبادة وجعل متعبداً لهم، والواضع هو الله تعالى. ويدل عليه أنه قرئ على البناء للفاعل. لَلَّذِي بِبَكَّةَ للبيت الذي بِبَكَّةَ، وهي لغة في مكة كالنبيط والنميط، وأمر راتب وراتم ولازب ولازم، وقيل هي موضع المسجد. ومكة البلد من بكة إذا زحمه، أو من بكه إذا دقه فإنها تبك أعناق الجبابرة
روي (أنه عليه السلام سئل عن أول بيت وضع للناس فقال: المسجد الحرام، ثم بيت المقدس. وسئل كم بينهما فقال أربعون سنة)
. وقيل أول من بناه إبراهيم ثم هدم فبناه قوم من جرهم، ثم العمالقة، ثم قريش. وقيل هو أول بيت بناه آدم فانطمس في الطوفان، ثم بناه إبراهيم. وقيل: كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح يطوف به الملائكة، فلما أهبط آدم أمر بأن يحجه ويطوف حوله ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات وهو لا يلائم ظاهر الآية. وقيل المراد إنه أول بيت بالشرف لا بالزمان. مُبارَكاً كثير الخير والنفع لمن حجه واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله، حال من المستكن في الظرف وَهُدىً لِلْعالَمِينَ لأنه قبلتهم ومتعبدهم، ولأن فيه آيات عجيبة كما قال:
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٧]
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار، وأن ضواري السباع تخالط الصيود في الحرم ولا تتعرض لها، وإن كل جبار قصده بسوء قهره الله كأصحاب الفيل. والجملة مفسرة للهدى، أو حال أخرى. مَقامُ إِبْراهِيمَ مبتدأ محذوف خبره أي منها مقام إبراهيم، أو بدل من آيات بدل البعض من الكل. وقيل عطف بيان على أن المراد بالآيات أثر القدم في الصخرة الصماء وغوصها فيها إلى الكعبين، وتخصيصها بهذه الإلانة من بين الصخار وإبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة. ويؤيده أنه قرئ «آية» بينة على التوحيد. وسبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه. وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً جملة ابتدائية، أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام لأنه في معنى أمن من دخله أي ومنها أمن من دخله، أو فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله. اقتصر بذكرهما من الآيات الكثيرة وطوى ذكر غيرهما
كقوله عليه السلام «حبب إليَّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة»
لأن فيها غنية عن غيرها في الدارين بقاء الأثر مدى الدهر والأمن من العذاب يوم القيامة،
قال عليه السلام: «من مات في أحد الحرمين، بعث يوم القيامة آمناً»
. وعند أبي حنيفة من لزمه القتل بردة أو قصاص أو غيرهما والتجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولكن ألجئ إلى الخروج. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قصده للزيارة على الوجه المخصوص. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص حِجُّ بالكسر وهو لغة نجد. مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بدل من الناس بدل البعض من الكل مخصص له، وقد فسر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الاستطاعة «بالزاد والراحلة» وهو يؤيد قول الشافعي رضي الله تعالى عنه إنها بالمال، ولذلك أوجب الاستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه. وقال مالك رحمه الله تعالى إنها بالبدن فيجب على من قدر على المشي والكسب في الطريق. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إنها
بمجموع الأمرين. والضمير في إليه للبيت، أو الحج وكل ما أتى إلى الشيء فهو سبيله. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وضع كفر موضع من لم يحج تأكيداً لوجوبه وتغليظاً على تاركه، ولذلك
قال عليه السلام «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً»
وقد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوه الدلالة على وجوه بصيغة الخبر، وإبرازه في الصورة الإِسمية وإيراده على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في رقاب الناس، وتعميم الحكم أولاً ثم تخصيصه ثانياً فإنه كإيضاح بعد إيهام وتثنية وتكرير للمراد، وتسمية ترك الحج كفراً من حيث إنه فعل الكفرة، وذكر الاستغناء فإنه في هذا الموضع مما يدل على المقت والخذلان وقوله:
عَنِ الْعالَمِينَ يدل عليه لما فيه من مبالغة التعميم والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان والإِشعار بعظم السخط، لأنه تكليف شاق جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرد عن الشهوات والإِقبال على الله.
روي (أنه لما نزل صدر الآية جمع رسول صلّى الله عليه وسلّم أرباب الملل فخطبهم وقال إن الله تعالى: كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وكفرت به خمس ملل فنزل ومن كفر)
. [سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٨ الى ٩٩]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي بآياته السمعية والعقلية الدالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره، وتخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أن كفرهم أقبح، لأن معرفتهم بالآيات أقوى وأنهم وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإِنجيل فهم كافرون بهما. وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ والحال أنه شهيد مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها لا ينفعكم التحريف والاستسرار.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ كرر الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع ونفي العذر لهم، وإشعاراً بأن كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب، وسبيل الله في دينه الحق المأمور بسلوكه وهو الإسلام. قيل كانوا يفتنون المؤمنين ويحرشون بينهم حتى أتوا الأوس والخزرج فذكروهم ما بينهم في الجاهلية من التعادي والتحارب ليعودوا لمثله ويحتالون لصدهم عنه. تَبْغُونَها عِوَجاً حال من الواو أي باغين طالبين لها اعوجاجاً بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أن فيه عوجاً عن الحق، بمنع النسخ وتغيير صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحوهما، أو بأن تحرشوا بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم. وَأَنْتُمْ شُهَداءُ إنها سبيل الله والصد عنها ضلال وإضلال، أو أنتم عدول عند أهل ملتكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد لهم، ولما كان المنكر في الآية الأولى كفرهم وهم يجهرون به ختمها بقوله: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ. ولما كان في هذه الآية صدهم للمؤمنين عن الإسلام وكانوا يخفونه ويحتالون فيه قال وَمَا الله بغافل عما تعملون.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ نزلت في نفر من الأوس والخزرج كانوا جلوساً يتحدثون، فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فغاظه تألفهم واجتماعهم فأمر شاباً من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه، وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس، ففعل فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا السلاح السلاح، واجتمع مع القبيلتين خلق عظيم، فتوجه إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه
وقال «أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإِسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بين قلوبكم»
فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح
واستغفروا وعانق بعضهم بعضاً وانصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وإنما خاطبهم الله بنفسه بعد ما أمر الرسول بأن يخاطب أهل الكتاب إظهاراً لجلالة قدرهم، وإشعاراً بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله ويكلمهم.
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ إنكار وتعجيب لكفرهم في حال اجتمع لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان الصارفة عن الكفر. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ ومن يتمسك بدينه أو يلتجئ إليه في مجامع أموره. فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فقد اهتدى لا محالة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ حق تقواه وما يجب منها، وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم كقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: هو أن يطاع فلا يعصي، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. وقيل هو: أن تنزه الطاعة عن الالتفات إليها وعن توقع المجازاة عليها. وفي هذا الأمر تأكيد للنهي عن طاعة أهل الكتاب، وأصل تقاة وقية فقلبت واوها المضمومة تاء كما في تؤده وتخمه والياء ألفاً. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي ولا تكونن على حال سوى حال الإِسلام إذا أدرككم الموت، فإن النهي عن المقيد بحال أو غيرها قد يتوجه بالذات نحو الفعل تارة والقيد أخرى وقد يتوجه نحو المجموع دونهما وكذلك النفي.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٣]
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً بدين الإِسلام، أو بكتابه
لقوله عليه السلام: «القرآن حبل الله المتين»
. استعار له الحبل من حيث إن التمسك به سبب للنجاة من الردي، كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردى والوثوق به والاعتماد عليه الاعتصام ترشيحاً للمجاز. جَمِيعاً مجتمعين عليه وَلا تَفَرَّقُوا أي ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب، أو لا تتفرقوا تفرقكم في الجاهلية يحارب بعضكم بعضاً، أو لا تذكروا ما يوجب التفرق ويزيل الألفة. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ التي من جملتها الهداية والتوفيق للإِسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الغل. إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً في الجاهلية متقابلين. فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بالإِسلام. فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً متحابين مجتمعين على الأخوة في الله. وقيل كان الأوس والخزرج أخوين لأبوين فوقع بين أولادهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة حتى أطفأها الله بالإِسلام وألف بينهم برسوله صلّى الله عليه وسلّم. وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ مشفين على الوقوع في نار جهنم لكفركم، إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم في النار. فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالإِسلام، والضمير للحفرة، أو للنار، أو للشفا. وتأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه أو لأنه بمعنى الشفة فإن شفا البئر وشفتها طرفها كالجانب والجانبة، وأصله شفو فقلبت الواو ألفاً في المذكر وحذفت في المؤنث. كَذلِكَ مثل ذلك التبيين. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ دلائله. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إرادة ثباتكم على الهدى وازديادكم فيه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٤]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ من للتبعيض، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، ولأنه لا يصلح له كل أحد إذ للمتصدي له شروط لا يشترط
فيها جميع الأمة كالعلم بالأحكام ومراتب الاحتساب وكيفية إقامتها والتمكن من القيام بها. خاطب الجميع وطلب فعل بعضهم ليدل على أنه واجب على الكل حتى لو تركوه رأساً أثموا جميعاً ولكن يسقط بفعل بعضهم، وهكذا كل ما هو فرض كفاية. أو للتبيين بمعنى وكونوا أمة يدعون كقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ. والدعاء إلى الخير يعم الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي، وعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عطف الخاص على العام للإيذان بفضله. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ المخصوصون بكمال الفلاح
وروي أنه عليه السلام سئل من خير الناس فقال: «آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم»
. والأمر بالمعروف يكون واجباً ومندوباً على حسب ما يؤمر به. والنهي عن المنكر واجب كله لأن جميع ما أنكره الشرع حرام. والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه لأنه يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٠٥]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا كاليهود والنصارى اختلفوا في التوحيد والتنزيه وأحوال الآخرة على ما عرفت. مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه. والأظهر أن النهي فيه مخصوص بالتفرق في الأصول دون الفروع
لقوله عليه السلام «اختلاف أمتي رحمة».
ولقوله عليه الصلاة والسلام «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد»
. وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وعيد للذين تفرقوا وتهديد على التشبه بهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٧]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ نصب بما في لهم من معنى الفعل، أو بإضمار اذكر. وبياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه. وقيل يوسم أهل الحق ببياض الوجه والصحيفة وإشراق البشرة وسعي النور بين يديه وبيمينه، وأهل الباطل بأضداد ذلك. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ على إرادة القول أي فيقال لهم أكفرتم، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم، وهم المرتدون أو أهل الكتاب كفروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد إيمانهم به قبل مبعثه، أو جميع الكفار كفروا بعد ما أقروا به حين أشهدهم على أنفسهم أو تمكنوا من الإِيمان بالنظر في الدلائل والآيات. فَذُوقُوا الْعَذابَ أمر إهانة. بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم أو جزاء لكفركم.
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ يعني الجنة والثواب المخلد، عبر عن ذلك بالرحمة تنبيهاً على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى لا يدخل الجنة إلا برحمته وفضله، وكان حق الترتيب أن يقدم ذكرهم لكن قصد أن يكون مطلع الكلام ومقطعه حلية المؤمنين وثوابهم. هُمْ فِيها خالِدُونَ أخرجه مخرج الاستئناف للتأكيد كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقال هم فيها خالدون.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٨ الى ١٠٩]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ الواردة في وعده ووعيده نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ملتبسة بالحق لا شبهة فيها. وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ إذ يستحيل الظلم منه لأنه لا يحق عليه شيء فيظلم بنقصه، ولا يمنع عن شيء فيظلم بفعله، لأنه المالك على الإِطلاق كما قال.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فيجازي كلا بما وعد له وأوعد.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٠]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ دل على خيريتهم فيما مضى ولم يدل على انقطاع طرأ كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وقيل كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ، أو فيما بين الأمم المتقدمين. أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي أظهرت لهم. تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ استئناف بين به كونهم خَيْرَ أُمَّةٍ، أو خبر ثان لكنتم. وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ يتضمن الإِيمان بكل ما يجب أن يؤمن به، لأن الإِيمان به إنما يحق ويعتد به إذا حصل الإِيمان بكل ما أمر أن يؤمن به، وإنما أخره وحقه أن يقدم لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر إيماناً بالله وتصديقاً به وإظهاراً لدينه، واستدل بهذه الآية على إن الاجماع حجة لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر، إذ اللام فيهما للاستغراق فلو أجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ إيماناً كما ينبغي لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لكان الإِيمان خيراً لهم مما هم عليه. مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد الله بن سلام وأصحابه. وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ المتمردون في الكفر، وهذه الجملة والتي بعدها واردتان على سبيل الاستطراد.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١١]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً ضرراً يسيراً كطعن وتهديد. وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ينهزموا ولا يضروكم بقتل وأسر. ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ ثم لا يكون أحد ينصرهم عليكم أو يدفع بأسكم عنهم، نفي إضرارهم سوى ما يكون بقول وقرر ذلك بأنهم لو قاموا إلى القتال كانت الدبرة عليهم، ثم أخبر بأنه تكون عاقبتهم العجز والخذلان. وقرئ «لا ينصروا» عطفاً على يولوا على أن ثم للتراخي في الرتبة فيكون عدم النصر مقيداً بقتالهم، وهذه الآية من المغيبات التي وافقها الواقع إذ كان ذلك حال قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٢]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ هدر النفس والمال والأهل، أو ذل التمسك بالباطل والجزية. أَيْنَ ما ثُقِفُوا وجدوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ استثناء من أعم عام الأحوال أي ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا معتصمين، أو ملتبسين بذمة الله أو كتابة الذي آتاهم وذمة المسلمين، أو بدين الإِسلام واتباع سبيل المؤمنين. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ رجعوا به مستوجبين له وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ فهي محيطة بهم إحاطة البيت المضروب على أهله، واليهود في غالب الأمر فقراء ومساكين. ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب. بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ بسبب كفرهم بالآيات وقتلهم الأنبياء. والتقييد بغير حق مع أنه كذلك في نفس الأمر للدلالة على أنه لم يكن حقاً بحسب اعتقادهم أيضاً. ذلِكَ أي الكفر والقتل. بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله، فإن الإِصرار على الصغائر يفضي إلى الكبائر والاستمرار عليها يؤدي إلى الكفر. وقيل معناه أن ضرب الذلة في الدنيا واستيجاب الغضب في الآخرة كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو مسبب عن عصيانهم
واعتدائهم من حيث إنهم مخاطبون بالفروع أيضا.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٣]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣)
لَيْسُوا سَواءً في المساوي والضمير لأهل الكتاب. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ استئناف لبيان نفي الاستواء، والقائمة المستقيمة العادلة من أقمت العود فقام وهم الذين أسلموا منهم. يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يتلون القرآن في تهجدهم. عَبَّر عنه بالتلاوة في ساعات الليل مع السجود ليكون أبين وأبلغ في المدح. وقيل المراد صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها لما
روي (أنه عليه الصلاة والسلام أخرها ثم خرج فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: أما أنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم)
. [سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ صفات أخر لأمة وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود، فإنهم منحرفون عن الحق غير متعبدين في الليل مشركون بالله ملحدون في صفاته، واصفون اليوم الآخر بخلاف صفته، مداهنون في الاحتساب متباطئون عن الخيرات.
وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ أي الموصوفون بتلك الصفات ممن صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه وثناءه.
وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فلن تكفروه فلن يضيع ولا ينقص ثوابه ألبتة، سمي ذلك كفراناً كما سمي توفية الثواب شكراً، وتعديته إلى مفعولين لتضمنه معنى الحرمان، وقرأ حفص وحمزة والكسائي وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ بالياء والباقون بالتاء. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ بشارة لهم وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل، وأن الفائز عند الله هو أهل التقوى.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً من العذاب، أو من الغناء فيكون مصدراً. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها. هُمْ فِيها خالِدُونَ.
َلُ مَا يُنْفِقُونَ
ما ينفق الكفرة قربة، أو مفاخرة وسمعة، أو المنافقون رياء أو خوفا. ي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
برد شديد والشائع إطلاقة للريح الباردة كالصرصر، فهو في الأصل مصدر نعت به أو نعت وصف به البرد للمبالغة كقولك برد بارد. صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بالكفر والمعاصي أَهْلَكَتْهُ
عقوبة لهم لأن الإِهلاك عن سخط أشد، والمراد تشبيه ما انفقوا في ضياعه بحرث كفار ضربته صر فاستأصلته ولم يبق لهم فيه منفعة ما في الدنيا والآخرة، وهو من التشبيه المركب ولذلك لم يبال بإيلاء كلمة التشبيه للريح دون الحرث، ويجوز أن يقدر كمثل مهلك ريح وهو الحرث. ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
أي ما ظلم المنفقين بضياع نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم لما لم ينفقوها بحيث يعتد بها، أو ما ظلم أصحاب الحرث بإهلاكه ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. وقرئ «ولكن» أي ولكن أنفسهم يظلمونها، ولا يجوز أن يقدر ضمير الشأن لأنه لا يحذف إلا في ضرورة الشعر كقوله:
وَمَا كُنْتُ مِمَّنْ يَدْخُلُ العِشْقُ قَلْبَه وَلَكِنَّ مَنْ يبصر جفونك يعشق
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطانَةً وليجة، وهو الذي يعرفه الرجل أسراره ثقة به، شبه ببطانة الثوب كما شبه بالشعار
قال عليه الصلاة والسلام: «الأنصار شعار والناس دثار»
. مِنْ دُونِكُمْ من دون المسلمين، وهو متعلق بلا تتخذوا، أو بمحذوف هو صفة بطانة أي بطانة كائنة من دونكم. لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي لا يقصرون لكم في الفساد، والألو التقصير وأصله أن يعدى بالحرف وعدي إلى مفعولين كقولهم: لا آلوك نصحاً على تضمين معنى المنع أو النقص. وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ تمنوا عنتكم، وهو شدة الضرر والمشقة وما مصدرية. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي في كلامهم لأنهم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم. وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ مما بدا لأن بدوه ليس عن روية واختيار. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على وجوب الإِخلاص وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين. إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ما بين لكم، والجمل الأربع جاءت مستأنفات على التعليل، ويجوز أن تكون الثلاث الأول صفات لبطانة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٩]
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩)
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة الكفار وتحبونهم ولا يحبونكم، بيان لخطئهم في موالاتهم، وهو خبر ثان أو خبر لأولاء والجملة خبر لأنتم كقولك: أنت زيد تحبه، أو صلته أو حال والعامل فيها معنى الإِشارة، ويجوز أن ينصب أولاء بفعل مضمر يفسره ما بعده وتكون الجملة خبراً. وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ بجنس الكتاب كله، وهو حال من لا يحبونكم والمعنى: إنهم لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم أيضاً فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم، وفيه توبيخ بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم. وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا نفاقاً وتغريراً وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ من أجله تأسفاً وتحسراً حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلاً. قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإِسلام وأهله حتى يهلكوا به. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فيعلم ما فى صدورهم من البغضاء والحنق، وهو يحتمل أن يكون من المقول أي وقل لهم إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظاً، وأن يكون خارجاً عنه بمعنى قل لهم ذلك ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٠]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها بيان لتناهي عداوتهم إلى حد حسدوا ما نالهم من خير ومنفعة، وشمتوا بما أصابهم من ضر وشدة، والمس مستعار للإِصابة وَإِنْ تَصْبِرُوا على عداوتهم، أو على مشاق التكاليف. وَتَتَّقُوا موالاتهم، أو ما حرم الله جل جلاله عليكم. لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً بفضل الله عز وجل وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولأن المحدّ في الأمر، المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال جريئا على الخصم، وضمه الراء للاتباع كضمة مد. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب لاَ يَضُرُّكُمْ من ضاره يضيره. إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ من الصبر والتقوى وغيرهما. مُحِيطٌ أي محيط
علمه فيجازيكم مما أنتم أهله. وقرئ بالياء أي بِما يَعْمَلُونَ، في عداوتكم عليم فيعاقبهم عليه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢١]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١)
وَإِذْ غَدَوْتَ أي واذكر إذ غدوت. مِنْ أَهْلِكَ أي من حجرة عائشة رضي الله عنها. تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ تنزلهم. أو تسوي وتهيئ لهم ويؤيده القراءة باللام. مَقاعِدَ لِلْقِتالِ مواقف وأماكن له، وقد يستعمل المقعد والمقام بمعنى المكان على الاتساع كقوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ وقوله تعالى: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم. عَلِيمٌ بنياتكم
روي (أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء.
ثاني عشر شوال سنة ثلاث من الهجرة. فاستشار الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه، وقد دعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قبل فقال هو وأكثر الأنصار: أقم يا رسول الله بالمدينة ولا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين. وأشار بعضهم إلى الخروج فقال عليه الصلاة والسلام: «رأيت في منامي بقرة مذبوحة حولي فأولتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم، فقال رجال فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد اخرج بنا إلى أعدائنا. وبالغوا حتى دخل ولبس لامته، فلما رأوا ذلك ندموا على مبالغتهم وقالوا: اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال «لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل». فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بشعب أُحُد يوم السبت، ونزل في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وسوى صفهم، وَأَمَّر عبد الله بن جبير على الرماة وقال: انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا)
. [سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٢]
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢)
إِذْ هَمَّتْ متعلق بقوله: سَمِيعٌ عَلِيمٌ أو بدل من إِذْ غدوت. طائِفَتانِ مِنْكُمْ بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي العسكر. أَنْ تَفْشَلا أن تجبنا وتضعفا.
روي (أنه عليه الصلاة والسلام خرج في زهاء ألف رجل ووعد لهم النصر إن صبروا، فلما بلغوا الشوط انخذل ابن أبي في ثلاثمائة رجل وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري وقال: أنشدكم الله والإِسلام في نبيكم وأنفسكم. فقال: ابن أبي لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، فهم الحيان باتباعه فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم).
والظاهر أنها ما كانت عزيمة لقوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أي عاصمهما من اتباع تلك الخطرة، ويجوز أن يراد والله ناصرهما فما لهما يفشلان ولا يتوكلان على الله. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي فليتوكلوا عليه ولا يتوكلوا على غيره لينصرهم كما نصرهم ببدر.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٤]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ تذكير ببعض ما أفادهم التوكل. وبدر ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً فسمي به. وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ حال من الضمير، وإنما قال أذلة ولم يقل ذلائل تنبيهاً على قلتهم مع ذلتهم لضعف الحال وقلة المراكب والسلاح. فَاتَّقُوا اللَّهَ في الثياب. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصره، أو لعلكم بنعم الله عليكم فتشكرون، فوضع الشكر موضع الأنعام لأنه سببه.
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ظرف لنصركم. وقيل بدل ثان من إذ غدوت على أن قوله لهم يوم أحد وكان مع
اشتراط الصبر والتقوى عن المخالفة، فلما لم يصبروا عن الغنائم وخالفوا أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم تنزل الملائكة.
أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ إنكار أن لا يكفيهم، ذلك وإنما جيء بلن إشعاراً بأنهم كانوا كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوة العدو وكثرتهم. قيل أمدهم الله يوم بدر أولاً بألف من الملائكة ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف. وقرأ ابن عامر مُنْزَلِينَ بالتشديد للتكثير أو للتدريج.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٥]
بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
بَلى إيجاب لما بعد لن، أي بلى يكفيكم. ثم وعد لهم الزيادة على الصبر والتقوى حثاً عليهما وتقوية لقلوبهم فقال: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ أي المشركون. مِنْ فَوْرِهِمْ هذا من ساعتهم هذه، وهو في الأصل مصدر من فارت القدر إذ غلت، فاستعير للسرعة ثم أطلق للحال التي لا ريث فيها ولا تراخي، والمعنى إن يأتوكم في الحال. يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ في حال إتيانهم بلا تراخ ولا تأخير. مُسَوِّمِينَ معلمين من التسويم الذي هو إظهار سيما الشيء
لقوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه.
«تسوموا فإن الملائكة قد تسومت»
. أو مرسلين من التسويم بمعنى الأسامة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بكسر الواو.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٧]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ وما جعل إمدادكم بالملائكة. إِلَّا بُشْرى لَكُمْ إلا بشارة لكم بالنصر. وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ولتسكن إليه من الخوف. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لاَ من العدة والعدد، وهو تنبيه على أنه لا حاجة في نصرهم إلى مدد وإنما أمدهم ووعد لهم به بشارة لهم وربطاً على قلوبهم، من حيث إن نظر العامة إلى الأسباب أكثر، وحثاً على أن لا يبالوا بمن تأخر عنهم. الْعَزِيزِ الذي لا يغالب في أقضيته. الْحَكِيمِ الذي ينصر ويخذل بوسط وبغير وسط على مقتضى الحكمة والمصلحة.
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا متعلق بنصركم، أو وَمَا النَّصْرُ إن كان اللام فيه للعهد، والمعنى لينقص منهم بقتل بعض وأسر آخرين، وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من صناديدهم. أَوْ يَكْبِتَهُمْ أو يخزيهم، والكبت شدة الغيظ، أو وهن يقع في القلب، وأو للتنويع دون الترديد فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ فينهزموا منقطعي الأمال.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٨]
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اعتراض. أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ عطف على قوله أو يكبتهم، والمعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء، وإنما أنت عبد مأمور لإِنذارهم وجهادهم. ويحتمل أن يكون معطوفاً على الأمر أو شيء بإضمار أن، أي ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء. أو ليس لك من أمرهم شيء، أو التوبة عليهم أو تعذيبهم. وأن تكون أو بمعنى إلا أن. أي ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتسر به أو يعذبهم فتتشفى منهم.
روي (أن عتبة بن أبي وقاص شجهُ يوم أحد وكسر رباعيته، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم) فنزلت
. وقيل هم أن يدعوا عليهم فنهاه
الله لعلمه بأن فيهم من يؤمن. فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ قد استحقوا التعذيب بظلمهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٩ الى ١٣٠]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقاً وملكاً فله الأمر كله لا لك. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ صريح في نفي وجوب التعذيب، والتقييد بالتوبة وعدمها كالمنافي له. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لعباده فلا تبادر إلى الدعاء عليهم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً لا تزيدوا زيادات مكررة، ولعل التخصيص بحسب الواقع. إذ كان الرجل منهم يربي إلى أجل ثم يزيد فيه زيادة أخرى حتى يستغرق بالشيء الطفيف مال المديون. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب «مضعفة». وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما نهيتم عنه. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ راجين الفلاح.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣١ الى ١٣٢]
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ بالتحرز عن متابعتهم وتعاطي أفعالهم، وفيه تنبيه على أن النار بالذات معدة للكافرين وبالعرض للعصاة. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أتبع الوعيد بالوعد ترهيباً عن المخالفة وترغيباً في الطاعة، ولعل وعسى في أمثال ذلك دليل عزة التوصل إلى ما جعل خبرا له.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٤]
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
وَسارِعُوا بادروا وأقبلوا. إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ إلى ما يستحق به المغفرة، كالإِسلام والتوبة والإِخلاص. وقرأ نافع وابن عامر سارِعُوا بلا واو. وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي عرضها كعرضهما، وذكر العرض للمبالغة في وصفها بالسعة على طريقة التمثيل، لأنه دون الطول. وعن ابن عباس كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض، أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ هيئت لهم، وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة وإنها خارجة عن هذا العالم.
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ صفة مادحة للمتقين، أو مدح منصوب أو مرفوع. فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ في حالتي الرخاء والشدة، أو الأحوال كلها إذ الإِنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة، أي لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير، وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة، من كظمت القرية إذا ملأتها وشددت رأسها.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنقاذه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً
. وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ التاركين عقوبة من استحقوا مؤاخذته،
وعن النبي عليه الصلاة والسلام «إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله»

وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يحتمل الجنس ويدخل تحته هؤلاء، والعهد فتكون الإِشارة إليهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٥]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً فعلة بالغة في القبح كالزنى. أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن أذنبوا أي ذنب كان وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة، ولعل الفاحشة ما يتعدى وظلم النفس ما ليس كذلك. ذَكَرُوا
اللَّهَ
تذكروا وعيده أو حكمه أو حقه العظيم. فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ بالندم والتوبة. وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين، والمراد به وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين
لقوله صلّى الله عليه وسلّم «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة»
. وَهُمْ يَعْلَمُونَ حال من يصروا أي ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٦]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها خبر للذين إن ابتدأت به، وجملة مستأنفة مبينة لما قبلها إن عطفته على المتقين، أو على الذين ينفقون. ولا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم إن لا يدخلها المصرون، كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم، وتنكير جنات على الأول يدل على أن ما هم أدون مما للمتقين الموصوفين بتلك الصفات المذكورة في الآية المتقدمة، وكفاك فارقاً بين القبيلين أنه فصل آيتهم بأن بين أنهم محسنون مستوجبون لمحبة الله، وذلك لأنهم حافظوا على حدود الشرع وتخطوا إلى التخصص بمكارمه، وفصل آية هؤلاء بقوله: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ لأن المتدارك لتقصيره كالعامل لتحصيل بعض ما فوت على نفسه، وكم بين المحسن والمتدارك والمحبوب والأجير، ولعل تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذه النكتة، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره ونعم أجر العاملين ذلك يعني المغفرة والجنات.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٧ الى ١٣٨]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ وقائع سنها الله في الأمم المكذبة كقوله تعالى: وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وقيل أمم قال:
مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِكُمُو وَلاَ رَأَوْا مِثْلَهُ في سَالِفِ السُّنَنِ
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لتعتبروا بما ترون من آثار هلاكهم.
هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ إشارة إلى قولهِ قَدْ خَلَتْ، أو مفهوم قوله فَانْظُروا أي أنه مع كونه بياناً للمكذبين فهو زيادة بصيرة وموعظة للمتقين، أو إلى ما لخص من أمر المتقين والتائبين، وقوله قد خلت جملة معترضة للبعث على الإِيمان والتوبة وقيل إلى القرآن.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٣٩]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا تسلية لهم عما أصابهم يوم أحد، والمعنى لا تضعفوا عن الجهاد بما أصابكم ولا تحزنوا على من قتل منكم. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وحالكم إنكم أعلى منهم شأناً، فإنكم على الحق وقتالكم لله وقتلاكم في الجنة، وإنهم على الباطل وقتالهم للشيطان وقتلاهم في النار، أو لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم اليوم، أو وأنتم الأعلون في العاقبة فيكون بشارة لهم بالنصر والغلبة. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالنهي أي لا تهنوا إن صح إيمانكم، فإنه يقتضي قوة القلب بالوثوق على الله أو بالأعلون.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٠]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ قرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم بضم القاف، والباقون بالفتح وهما لغتان كالضعف والضعف. وقيل هو بالفتح الجراح وبالضم ألمها، والمعنى إن أصابوا منكم يوم أحد فقد أصبتم منهم يوم بدر مثله، ثم إنهم لم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى بأن لا تضعفوا، فإنكم ترجون مِنَ الله مَا لاَ يرجون. وقيل كلا المِسينَّ كان يوم أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ نصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقوله:
فَيَوْماً عَلَيْنَا وَيَوماً لَنَا وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرُّ
والمداولة كالمعاودة يقال داولت الشيء بينهم فتداولوه، والأيام تحتمل الوصف والخبر ونُداوِلُها يحتمل الخبر والحال والمراد بها: أوقات النصر والغلبة. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا عطف على علة محذوفة أي نداولها ليكون كيت وكيت وليعلم الله إيذاناً بأن العلة فيه غير واحدة، وإن ما يصيب المؤمن فيه من المصالح ما لا يعلم، أو الفعل المعلل به محذوف تقديره وليتميز الثابتون على الإِيمان من الذين على حرف فعلنا ذلك، والقصد في أمثاله ونقائضه ليس إلى إثبات علمه تعالى ونفيه بل إلى إثبات المعلوم ونفيه على طريق البرهان. وقيل معناه ليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء وهو العلم بالشيء موجوداً. وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ ويكرم ناساً منكم بالشهادة يريد شهداء أحد، أو يتخذ منكم شهوداً معدلين بما صودف منهم من الثبات والصبر على الشدائد. وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الذين يضمرون خلاف ما يظهرون، أو الكافرين وهو اعتراض، وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يغلبهم أحياناً استدراجاً لهم وابتلاء للمؤمنين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤١ الى ١٤٢]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ليطهرهم ويصفيهم من الذنوب إن كانت الدولة عليهم. وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ ويهلكهم إن كانت عليهم، والمحق نقص الشيء قليلاً قليلاً.
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بل أحسبتم ومعناه الإِنكار. وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ولما تجاهدوا، وفيه دليل على أن الجهاد فرض كفاية والفرق بين لَمَّا ولم إن فيه توقع الفعل فيما يستقبل.
وقرئ «يَعْلَمْ» بفتح الميم على أن أصله يعلمن فحذفت النون وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ نصب بإضمار أن على أن الواو للجمع. وقرئ بالرفع على أن الواو للحال كأنه قال: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٣]
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أي الحرب فإنها من أسباب الموت، أو الموت بالشهادة. والخطاب للذين لم يشهدوا بدراً وتمنوا أن يشهدوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشهداً لينالوا ما نال شهداء بدر من الكرامة فألحوا يوم أحد على الخروج. مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته. فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي فقد رأيتموه معاينين له حين قتل دونكم من قتل من إخوانكم، وهو توبيخ لهم على أنهم تمنوا الحرب وتسببوا لها ثم جبنوا وانهزموا عنها، أو على تمني الشهادة فإن في تمنيها تمني غلبة الكفار.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٤]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيخلوا كما خلوا بالموت أو القتل. أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ إِنكاراً لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدين لخلوه بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به. وقيل الفاء للسببية والهمزة لإِنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد وفاته.
روي (أنه لما رمى عبدُ الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه، فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه قتل النبي عليه الصلاة والسلام فقال: قد قتلت محمداً وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل، فانكفأ الناس وجعل الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو إليَّ عباد الله فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحموه حتى كشفوا عنه المشركين وتفرق الباقون، وقال بعضهم: ليت ابن أبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وقال ناس من المنافقين لو كان نبياً لما قتل ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنهما: يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعده فقاتلوا على ما قاتل عليه، ثم قال اللهم إني أعتذر إليك مما يقولون وأبرأ إليك منه وشد بسيفه فقاتل حتى قتل) فنزلت
. وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بارتداده بل يضر نفسه. وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ على نعمة الإِسلام بالثبات عليه كأنس وأضرابه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٥]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ إلا بمشيئة الله تعالى أو بإذنه لملك الموت عليه الصلاة والسلام في قبض روحه، والمعنى أن لكل نفس أجلاً مسمى في علمه تعالى وقضائه لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ بالإِحجام عن القتال والإِقدام عليه. وفيه تحريض وتشجيع على القتال، ووعد للرسول صلّى الله عليه وسلّم بالحفظ وتأخير الأجل. كِتاباً مصدر مؤكد إذ المعنى كتب الموت كتاباً. مُؤَجَّلًا صفة له أي مؤقتاً لا يتقدم ولا يتأخر. وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها تعريض لمن شغلتهم الغنائم يوم أحد، فإن المسلمين حملوا على المشركين وهزموهم وأخذوا ينهبون، فلما رأى الرماة ذلك أقبلوا على النهب وخلوا مكانهم فانتهز المشركون وحملوا عليهم من ورائهم فهزموهم. وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها أي من ثوابها. وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤٦]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)
وَكَأَيِّنْ أصله أي دخلت الكاف عليها وصارت بمعنى كم والنون تنوين أثبت في الخط على غير قياس. وقرأ ابن كثير «وكائن» ككاعن ووجهه أنه قلب قلب الكلمة الواحدة كقولهم رعملي في لعمري، فصار كيأن ثم حذفت الياء الثانية للتخفيف ثم أبدلت الياء الأخرى ألفاً كما أبدلت من طائي مِنْ نَبِيٍّ بيان له.
قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ربانيون علماء أتقياء، أو عابدون لربهم. وقيل جماعات والربى منسوب إلى الربة وهي الجماعة للمبالغة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب «قتل»، وإسناده إلى رِبِّيُّونَ أو ضمير النبي ومعه ربيون حال منه ويؤيد الأول أنه قرئ بالتشديد وقرئ رِبِّيُّونَ بالفتح على الأصل وبالضم وهو من تغييرات النسب كالكسر. فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فما فتروا ولم ينكسر جدهم لما أصابهم من قتل النبي أو بعضهم. وَما ضَعُفُوا عن العدو أو في الدين. وَمَا اسْتَكانُوا وما خضعوا للعدو، وأصله استكن من السكون لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده، والألف من إشباع الفتحة أو استكون من
الكون لأنه يطلب من نفسه أن يكون لمن يخضع له، وهذا تعريض بما أصابهم عند الإِرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ فينصرهم ويعظم قدرهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٧ الى ١٤٨]
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي وما كان قولهم مع ثباتهم وقوتهم في الدين وكونهم ربانيين إلا هذا القول، وهو إضافة الذنوب والإِسراف إلى أنفسهم هضماً لها وإضافة لما أصابهم إلى سوء أعمالهم والاستغفار عنها، ثم طلب التثبيت في مواطن الحرب والنصر على العدو ليكون عن خضوع وطهارة، فيكون أقرب إلى الإجابة، وإنما جعل قولهم خبرا لأن أن قالوا أعرف لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث.
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فأتاهم الله بسبب الاستغفار واللجأ إلى الله النصر والغنيمة والعز وحسن الذكر في الدنيا، والجنة والنعيم في الآخرة، وخص ثوابها بالحسن إشعاراً بفضله وأنه المعتد به عند الله.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ أي إلى الكفر عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم ولو كان محمد نبياً لما قتل.
وقيل أن تستكينوا لأبي سفيان وأشياعه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم. وقيل عام في مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم فإنه يستجر إلى موافقتهم.
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ناصركم. وقرئ بالنصب على تقدير بل أطيعوا الله مولاكم. وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فاستغنوا به عن ولاية غيره ونصره.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥١]
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ يريد ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب، ونادى أبو سفيان يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت
فقال عليه الصلاة والسلام: «إن شاء الله»
. وقيل لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا وعزموا أن يعودوا عليهم ليستأصلوهم، فألقى الله الرعب في قلوبهم. وقرأ ابن عامر والكسائي ويعقوب بالضم على الأصل في كل القرآن بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ بسبب إشراكهم به. مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي آلهة ليس على إشراكها حجة ولم ينزل عليهم به سلطاناً وهو كقوله:
وَلاَ تَرَى الضُّبَّ بِهَا يَنْجَحرُ وأصل السلطنة القوة ومنه السليط لقوة اشتعاله والسلاطة لحدة اللسان. وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ أي مثواهم، فوضع الظاهر موضع المضمر للتغليظ والتعليل.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٢]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ أي وعده إياكم بالنصر بشرط التقوى والصبر، وكان كذلك حتى خالف الرماة فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماة يرشقونهم بالنبل والباقون يضربونهم بالسيف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم. إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ تقتلونهم، من حسه إذا أبطل حسه. حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ جبنتم وضعف رأيكم، أو ملتم إلى الغنيمة فإن الحرص من ضعف العقل. وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ يعني اختلاف الرماة حين انهزم المشركون فقال بعضهم فما موقفنا هاهنا، وقال آخرون لا نخالف أمر الرسول فثبت مكانه أميرهم في نفر دون العشرة ونفر الباقون للنهب وهو المعني بقوله: وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَّا تُحِبُّونَ من الظفر والغنيمة وانهزام العدو، وجواب إذا محذوف وهو امتحنكم، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وهم التاركون المركز للغنيمة.
وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وهم الثابتون محافظة على أمر الرسول عليه السلام. ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ثم كفكم عنهم حتى حالت الحال فغلبوكم. لِيَبْتَلِيَكُمْ على المصائب ويمتحن ثباتكم على الإِيمان عندها. وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ تفضلاً ولما علم من ندمكم على المخالفة. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يتفضل عليهم بالعفو، أو في الأحوال كلها سواء أديل لهم أو عليهم إذ الابتلاء أيضاً رحمة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٣]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣)
إِذْ تُصْعِدُونَ متعلق بصرفكم، أو ليبتليكم أو بمقدر كاذكروا. والإِصعاد الذهاب والإِبعاد في الأرض يقال: أصعدنا من مكة إلى المدينة. وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره. وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كان يقول إليَّ عباد الله إليَّ عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة. فِي أُخْراكُمْ في ساقتكم أو جماعتكم الأخرى فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ عطف على صرفكم، والمعنى فجازاكم الله عن فشلكم وعصيانكم غماً متصلاً بغم، من الاغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والإِرجاف بقتل الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو فجازاكم غماً بسبب غم أذقتموه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعصيانكم له. لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت ولا ضر لاحق. وقيل لا مزيدة والمعنى لتأسفوا على مَا فَاتَكُمْ من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجرح والهزيمة عقوبة لكم. وقيل الضمير في فأثابكم للرسول صلّى الله عليه وسلّم أي فآساكم في الاغتمام فاغتم بما نزل عليكم، كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثر بكم على عصيانكم تسلية لكم كيلا تحزنوا على مَا فَاتَكُمْ من النصر ولا على ما أصابكم من الهزيمة وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٤]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً أنزل الله عليكم الأمن حتى أخذكم النعاس، وعن أبي طلحة غشينا النعاس في المصاف حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه. والأمنة الأمن
نصب على المفعول ونعاساً بدل منها أو هو المفعول، و «أَمَنَةً» حال منه متقدمة أو مفعول له أو حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة. وقرئ «أَمَنَةً» بسكون الميم كأنها المرة في الإمر يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ أي النعاس وقرأ حمزة والكسائي بالتاء ردا على الأمنة والطائفة المؤمنون حقاً.
وَطائِفَةٌ هم المنافقون. قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أوقعتهم أنفسهم في الهموم، أو ما يهمهم إلا هم أنفسهم وطلب خلاصها. يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ صفة أخرى لطائفة أو حال أو استئناف على وجه البيان لما قبله، وغير الحق نصب على المصدر أي: يظنون بالله غير الظن الحق الذي يحق أن يظن به، وظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدله وهو الظن المختص بالملة الجاهلية وأهلها. يَقُولُونَ أي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بدل من يظنون. هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ هل لنا مما أمر الله ووعد من النصر والظفر نصيب قط. وقيل: أخبر ابن أبي بقتل بني الخزرج فقال ذلك، والمعنى إنا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا، فلم يبق لنا من الأمر شيء أو هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ أي الغلبة الحقيقية لله تعالى ولأوليائه فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون، أو القضاء له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو اعتراض. وقرأ أبو عمرو ويعقوب كله بالرفع على الابتداء. يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ حال من الضمير يقولون أي يقولون مظهرين إنهم مسترشدون طالبون النصر مبطلين الإِنكار والتكذيب. يَقُولُونَ أي في أنفسهم وإذا خلا بعضهم إلى بعض، وهو بدل من يخفون أو استئناف على وجه البيان له. لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ كما وعد محمد أو زعم إن الأمر كله لله ولأوليائه، أو لو كان لنا اختيار وتدبير ولم نبرح كما كان ابن أبي وغيره.
مَّا قُتِلْنا هاهُنا لما غلبنا، أو لما قتل من قتل منا في هذه المعركة. قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ أي لخرج الذين قدر الله عليهم القتل وكتبه في اللوح المحفوظ إلى مصارعهم ولم تنفعهم الإِقامة بالمدينة ولم ينج منهم أحد، فإنه قدر الأمور ودبرها في سابق قضائه لا معقب لحكمه. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وليمتحن ما في صدوركم ويظهر سرائرها من الإِخلاص والنفاق، وهو علة فعل محذوف أي وفعل ذلك ليبتلي أو عطف على محذوف أي لبرز لنفاذ القضاء أو لمصالح جمة وللابتلاء، أو على لكيلا تحزنوا. وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وليكشفه ويميزه أو يخلصه من الوساوس.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بخفياتها قبل إظهارها، وفيه وعد ووعيد وتنبيه على أنه غني عن الابتلاء وإنما فعل ذلك لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٥]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا يعني إن الذين انهزموا يوم أحد إنما كان السبب في انهزامهم أن الشيطان طلب منهم الزلل فأطاعوه واقترفوا ذنوباً لمخالفة النبي صلّى الله عليه وسلّم بترك المركز، والحرص على الغنيمة أو الحياة فمنعوا التأييد وقوة القلب. وقيل استزلال الشيطان توليهم وذلك بسبب ذنوب تقدمت لهم فإن المعاصي يجر بعضها بعضاً كالطاعة. وقيل استزلهم بذكر ذنوب سلفت منهم فكرهوا القتال قبل إخلاص التوبة والخروج من المظلمة. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لتوبتهم واعتذارهم. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبة الذنب كي يتوب.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني المنافقين. وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ لأجلهم وفيهم،
ومعنى إخوتهم اتفاقهم في النسب أو المذهب إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ إذا سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها، وكان حقه إذ لقوله قالوا لكنه جاء على حكاية الحال الماضية أَوْ كانُوا غُزًّى جمع غاز كعاف وعفَّى. لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا مفعول قالوا وهو يدل على أن إخوانهم لم يكونوا مخاطبين به.
لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ متعلق ب قالُوا على إن اللام لام العاقبة مثلها في لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً، أو لا تكونوا أي لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول والاعتقاد ليجعله حسرة في قلوبهم خاصة، فذلك إشارة إلى ما دل عليه قولهم من الاعتقاد. وقيل إلى ما دل عليه النهي أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم، فإن مخالفتهم ومضادتهم مما يغمهم. وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ رداً لقولهم أي هو المؤثر في الحياة والممات لا الإِقامة والسفر فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي ويميت المقيم والقاعد. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على أنه وعيد للذين كفروا.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٧ الى ١٥٨]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ أي متم في سبيله وقرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الميم من مات يمات. لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ جواب القسم وهو ساد مسد الجزاء والمعنى: إن السفر والغزو ليس مما يجلب الموت ويقدم الأجل وإن وقع ذلك في سبيل الله فما تنالون من المغفرة والرحمة بالموت خير مما تجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم تموتوا. وقرأ حفص بالياء.
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ أي على أي وجه اتفق هلاككم. لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ لإلى معبودكم الذي توجهتم إليه. وبذلتم مهجكم لوجهه لا إلى غيره لا محالة تحشرون، فيوفي جزاءكم ويعظم ثوابكم. وقرأ نافع وحمزة والكسائي متم بالكسر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٩]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أي فبرحمة، وما مزيدة للتأكيد والتنبيه والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله وهو ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا سيّئ الخلق جافياً. غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسيه. لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لتفرقوا عنك ولم يسكنوا إليك. فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يختص بك. وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فيما لله. وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أي في أمر الحرب إذ الكلام فيه، أو فيما يصح أن يشاور فيه استظهاراً برأيهم وتطييباً لنفوسهم وتمهيداً لسنة المشاورة للأمة. فَإِذا عَزَمْتَ فإذا وطنت نفسك على شيء بعد الشورى. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك، فإنه لا يعلمه سواه. وقرئ «فَإِذَا عَزَمْتَ»، على التكلم أي فإذا عزمت لك على شيء وعينته لك فَتَوَكَّلْ عَلَى الله ولا تشاور فيه أحداً. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٠]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ كما نصركم يوم بدر. فَلا غالِبَ لَكُمْ فلا أحد يغلبكم. وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كما خذلكم يوم أحد. فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ من بعد خذلانه، أو من بعد الله بمعنى إذا جاوزتموه فلا
ناصر لكم، وهذا تنبيه على المقتضى للتوكل وتحريض على ما يستحق به النصر من الله وتحذير عما يستجلب خذلانه. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فليخصوه بالتوكل عليه لما علموا أن لا ناصر لهم سواه وآمنوا به.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦١]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١)
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وما صح لنبي أن يخون في الغنائم فإن النبوة تنافي الخيانة، يقال غل شيئاً من المغنم يغل غلولاً وأغل إغلالاً إذا أخذه في خفية والمراد منه: إما براءة الرسول عليه السلام عما اتهم به إذ
روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين لعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذها، أو ظن به الرماة يوم أحد حين تركوا المركز للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أخذ شيئاً فهو له ولا يقسم الغنائم
. وإما المبالغة في النهي للرسول صلّى الله عليه وسلّم على ما
روي أنه بعث طلائع، فغنم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقسم على من معه ولم يقسم للطلائع فنزلت
. فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولاً تغليظاً ومبالغة ثانية. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب أَنْ يَغُلَّ على البناء للمفعول والمعنى: وما صح له أَن يوجد غالاً أو أن ينسب إلى الغلول. وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ
يأت بالذي غله يحمله على عنقه كما جاء في الحديث
أو بما احتمل من وباله وإثمه. ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ يعني تعطي جزاء ما كسبت وافياً، وكان اللائق بما قبله أن يقال ثم يوفى ما كسبت لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه، فإنه إذا كان كل كاسب مجزياً بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى. وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد في عقاب عاصيهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٢ الى ١٦٣]
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ بالطاعة. كَمَنْ باءَ رجع. بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بسبب المعاصي. وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الفرق بينه وبين المرجع إن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى ولا كذلك المرجع.
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ شبهوا بالدرجات لما بينهم من التفاوت في الثواب والعقاب، أو هم ذوو درجات. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ عالم بأعمالهم ودرجاتهم صادرة عنهم فيجازيهم على حسبها.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٤]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أنعم على من آمن مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قومه وتخصيصهم مع أن نعمة البعثة عامة لزيادة انتفاعهم بها. وقرئ «لمن من الله» على أنه خبر مبتدأ محذوف مثل منه أو بعثه. إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ من نسبهم، أو من جنسهم عربياً مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على حاله في الصدق والأمانة مفتخرين به. وقرئ «من أَنفُسِهِمْ» أي من أشرفهم لأنه عليه السلام كان من أشرف قبائل العرب وبطونهم. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي القرآن بعد ما كانوا جهالاً لم يسمعوا الوحي. وَيُزَكِّيهِمْ يطهرهم من دنس الطباع وسوء الاعتقاد والأعمال. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي القرآن والسنة. وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والمعنى وإن الشأن كانوا من قبل بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في ضلال ظاهر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٥]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا الهمزة للتقريع والتقرير، والواو عاطفة للجملة على ما سبق من قصة أحد أو على محذوف مثل أفعلتم كذا وقلتم، ولما ظرفه المضاف إلى ما أصابتكم أي أقلتم حين أصابتكم مصيبة وهي قتل سبعين منكم يوم أحد، والحال إنكم نلتم ضعفها يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من أين هذا أصابنا وقد وعدنا الله النصر. قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي مما اقترفته أنفسكم من مخالفة الأمر بترك المركز فإن الوعد كان مشروطاً بالثبات والمطاوعة، أو اختيار الخروج من المدينة.
وعن علي رضي الله تعالى عنه باختياركم الفداء يوم بدر
. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على النصر ومنعه وعلى أن يصيب بكم ويصيب منكم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٦ الى ١٦٧]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧)
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين وجمع المشركين يريد يوم أحد. فَبِإِذْنِ اللَّهِ فهو كائن بقضائه أو تخليته الكفار سماها إذناً لأنها من لوازمه. وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وليتميز المؤمنون والمنافقون فيظهر إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء. وَقِيلَ لَهُمْ عطف على نافقوا داخل في الصلة أو كلام مبتدأ. تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا تقسيم للأمر عليهم وتخيير بين أن يقاتلوا للآخرة أو للدفع عن الأنفس والأموال. وقيل معناه قاتلوا الكفرة أو ادفعوهم بتكثيرهم سواد المجاهدين، فإن كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه. قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتبعناكم فيه لكن ما أنتم عليه ليس بقتال بل إلقاء بالأنفس إلى التهلكة، أو لو نحسن قتالاً لاتبعناكم فيه، وإنما قالوه دغلاً واستهزاء. هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ لانخذالهم وكلامهم هذا فإنها أول أمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم. وقيل هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، إذ كان انخذلهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيلاً للمؤمنين. يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ يظهرون خلاف ما يضمرون، لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإِيمان. وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتصوير. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ من النفاق. وما يخلوا به بعضهم إلى بعض فإنه يعلمه مفصلاً بعلم واجب وأنتم تعلمونه مجملا بأمارات.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٨]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
الَّذِينَ قالُوا رفع بدلاً من واو يَكْتُمُونَ، أو نصب على الذم أو الوصف للذين نافقوا، أو جر بدلاً من الضمير في بِأَفْواهِهِمْ أو قُلُوبِهِمْ كقوله:
عَلَى حَالةٍ لَوْ أَنَّ فِي القَوْمِ حَاتِما عَلَى جُودِهِ لضَنَّ بِالمَاءِ حَاتِمُ
لِإِخْوانِهِمْ أي لأجلهم، يريد من قتل يوم أحد من أقاربهم أو من جنسهم. وَقَعَدُوا حال مقدرة بقد أي قالوا قاعدين عن القتال. لَوْ أَطاعُونا في القعود بالمدينة. مَا قُتِلُوا كما لم نقتل. قرأ هشام مَا قُتِلُوا بتشديد التاء. قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إن كنتم صادقين إنكم تقدرون
على دفع القتل عمن كتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه، فإنه أحرى بكم، والمعنى أن القعود غير مغن عن الموت، فإن أسباب الموت كثيرة كما أن القتال يكون سبباً للهلاك والقعود سبباً للنجاة قد يكون الأمر بالعكس.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٩]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً نزلت في شهداء أحد. وقيل في شهداء بدر والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد. وقرئ بالياء على إسناده إلى ضمير الرسول، أو من يحسب أو إلى الذين قتلوا. والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة. وقرأ ابن عامر قُتِلُوا بالتشديد لكثرة المقتولين. بَلْ أَحْياءٌ أي بل هم أحياء. وقرئ بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء عِنْدَ رَبِّهِمْ ذوو زلفى منه. يُرْزَقُونَ من الجنة وهو تأكيد لكونهم أحياء.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٠ الى ١٧١]
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والقرب من الله تعالى والتمتع بنعيم الجنة. وَيَسْتَبْشِرُونَ يسرون بالبشارة. بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أي بإخوانهم المؤمنين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم. مِنْ خَلْفِهِمْ أي الذين من خلفهم زماناً أو رتبة. أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بدل من الذين والمعنى: إنهم يستبشرون بما تبين لهم من أمر الآخرة وحال من تركوا من خلفهم من المؤمنين، وهو إنهم إذا ماتوا أو قتلوا كانوا أحياء حياة لا يكدرها خوف وقوع محذور، وحزن فوات محبوب. والآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس بل هو جوهر مدرك بذاته لا يفنى بخراب البدن، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه، ويؤيد ذلك قوله تعالى في آل فرعون النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها الآية وما
روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال «أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش»
. ومن أنكر ذلك ولم ير الروح إلا ريحاً وعرضاً قال هم أحياء يوم القيامة، وإنما وصفوا به في الحال لتحققه ودنوه أو أحياء بالذكر أو بالإيمان. وفيها حث على الجهاد وترغيب في الشهادة وبعث على ازدياد الطاعة وإحماد لمن يتمنى لإِخوانه مثل ما أنعم عليه، وبشرى للمؤمنين بالفلاح.
يَسْتَبْشِرُونَ كرره للتأكيد وليعلق به ما هو بيان لقوله: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ويجوز أن يكون الأول بحال إخوانهم وهذا بحال أنفسهم. بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ثواباً لأعمالهم. وَفَضْلٍ زيادة عليه كقوله تعالى:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وتنكيرهما للتعظيم. وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ من جملة المستبشر به عطف على فضل. وقرأ الكسائي بالكسر على أنه استئناف معترض دال على أن ذلك أجر لهم على إيمانهم مشعر بأن من لا إيمان له أعماله محبطة وأجوره مضيعة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٢]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ صفة للمؤمنين، أو نصب على المدح أو مبتدأ خبره. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ بجملته ومن للبيان، والمقصود من ذكر الوصفين المدح والتعليل لا التقييد، لأن المستجيبين كلهم محسنون متقون.
روي (أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا فبلغوا
الروحاء ندموا وهموا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فندب أصحابه للخروج في طلبه وقال لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس، فخرج عليه الصلاة والسلام مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد. وهي على ثمانية أميال من المدينة. وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا) فنزلت
. [سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٣]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني الركب الذين استقبلوهم من عبد قيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي، وأطلق عليه الناس لأنه من جنسهم كما يقال فلان يركب الخيل وماله إلا فرس واحد لأنه انضم إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه. إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ يعني أبا سفيان وأصحابه
روي: أنه نادى عند انصرافه من أحد: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام: إن شاء الله تعالى، فلما كان القابل خرج في أهل مكة حتى نزل بمر الظهران فأنزل الله الرعب في قلبه وبدا له أن يرجع، فمر به ركب من عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب أن ثبطوا المسلمين.
وقيل: لقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمراً فسأله ذلك والتزم له عشراً من الإِبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد افترون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم ففتروا، فقال عليه السلام: والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون حسبنا الله
. فَزادَهُمْ إِيماناً الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال أو لفاعله أن أريد به نعيم وحده، والبارز للمقول لهم والمعنى: إنهم لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا بل ثبت به يقينهم بالله وازداد إيمانهم وأظهروا حمية الإِسلام وأخلصوا النية عنده، وهو دليل على أن الإِيمان يزيد وينقص ويعضده
قول ابن عمر رضي الله عنهما (قلنا يا رسول الله الإِيمان يزيد وينقص، قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار)
وهذا ظاهر إن جعل الطاعة من جملة الإِيمان وكذا إن لم تجعل فإن اليقين يزداد بالإِلف وكثرة التأمل وتناصر الحجج. وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ محسبنا وكافينا، من أحسبه إذا كفاه ويدل على أنه بمعنى المحسب إنه لا يستفيد بالإِضافة تعريفاً في قولك هذا رجل حسبك. وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ونعم الموكول إليه هو.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٤ الى ١٧٥]
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
فَانْقَلَبُوا فرجعوا من بدر. بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ عافية وثبات على الإِيمان وزيادة فيه. وَفَضْلٍ وربح في التجارة فإنهم لما أتوا بدراً وأوفوا بها سوقاً فاتجروا وربحوا. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ من جراحة وكيد عدو.
وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ الذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجراءتهم وخروجهم. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ قد تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإِيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد، والتصلب في الدين وإظهار الجراءة على العدو، وبالحفظ عن كل ما يسوءهم، وإصابة النفع مع ضمان الأجر حتى انقلبوا بنعمة من الله وفضل. وفيه تحسير للمتخلف وتخطئة رأيه حيث حرم نفسه ما فازوا به.
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يريد به المثبط نعيماً أو أبا سفيان، والشيطان خبر ذلِكُمُ وما بعده بيان لشيطنته أو صفته وما بعده خبر، ويجوز أن تكون الإِشارة إلى قوله على تقدير مضاف أي إنما ذلكم قول الشيطان يعني إبليس عليه اللعنة. يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ القاعدين عن الخروج مع الرسول، أو يخوفكم أولياؤه الذين هم
أبو سفيان وأصحابه. فَلا تَخافُوهُمْ الضمير للناس الثاني على الأول وإلى الأولياء على الثاني. وَخافُونِ في مخالفة أمري فجاهدوا مع رسولي. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإِن الإِيمان يقتضي إيثار خوف الله تعالى على خوف الناس.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٦ الى ١٧٧]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يقعون فيه سريعاً حرصاً عليه، وهم المنافقون من المتخلفين، أو قوم ارتدوا عن الإسلام. والمعنى لا يحزنك خوف أن يضروك ويعينوا عليك لقوله: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً أي لن يضروا أولياء الله شيئاً بمسارعتهم في الكفر، وإنما يضرون بها أنفسهم. وشيئاً يحتمل المفعول والمصدر وقرأ نافع يَحْزُنْكَ بضم الياء وكسر الزاي حيث وقع ما خلا قوله في الأنبياء لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر، فإنه فتح الياء وضم الزاي فيه والباقون كذلك في الكل. يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ نصيباً من الثواب في الآخرة، وهو يدل على تمادي طغيانهم وموتهم على الكفر، وفي ذكر الإِرادة إشعار بأن كفرهم بلغ الغاية حتى أراد أرحم الراحمين أن لا يكون لهم حظ من رحمته، وإن مسارعتهم في الكفر لأنه تعالى لم يرد أن يكون لهم حظ في الآخرة. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ مع الحرمان عن الثواب.
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تكرير للتأكيد، أو تعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق من المتخلفين، أو ارتد من العرب.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٨]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ خطاب للرسول عليه السلام، أو لكل من يحسب. والذين مفعول وأَنَّما نُمْلِي لهم بدل منه، وإنما اقتصر على مفعول واحد لأن التعويل على البدل وهو ينوب عن المفعولين كقوله تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ. أَوْ المفعول الثاني على تقدير مضاف مثل: ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب أن الإِملاء خير لأنفسهم، أو ولا تحسبن حال الذين كفروا أن الإِملاء خير لأنفسهم، وما مصدرية وكان حقها أن تفصل في الخط ولكنها وقعت متصلة في الإِمام فاتبع.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي ويعقوب بالياء على إِنَّ الذين فاعل وإن مع ما في حيزه مفعول وفتح سينه في جميع القرآن ابن عامر وحمزة وعاصم. والإِملاء الإِمهال وإطالة العمر. وقيل تخليتهم وشأنهم، من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعي كيف شاء. إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً استئناف بما هو العلة للحكم قبلها، وما كافة واللام لام الإِرادة. وعند المعتزلة لام العاقبة. وقرئ «إِنَّمَا» بالفتح هنا وبكسر الأولى ولا يحسبن بالياء على معنى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أن إملاءنا لهم لازدياد الإِثم بل للتوبة والدخول في الإِيمان، وأَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ اعتراض. معناه أن إملاءنا خير لهم أن انتبهوا وتداركوا فيه ما فرط منهم.
وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ على هذا يجوز أن يكون حالاً من الواو أي ليزدادوا إثماً معداً لهم عذاب مهين.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧٩]
مَّا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
مَّا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الخطاب لعامة المخلصين والمنافقين في عصره، والمعنى لا يترككم مختلطين لا يعرف مخلصكم من منافقكم حتى يميز المنافق من المخلص بالوحي إلى نبيه بأحوالكم، أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم، كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله، ليختبر النبي به بواطنكم ويستدل به على عقائدكم.
وقرأ حمزة والكسائي حَتَّى يَمِيزَ، هنا وفي «الأنفال» بضم الياء وفتح الميم وكسر الياء وتشديدها والباقون بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء. وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ وما كان الله ليؤتي أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب من كفر وإيمان، ولكن الله يجتبي لرسالته من يشاء فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات، أو ينصب له ما يدل عليها. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بصفة الإِخلاص، أو بأن تعلموه وحده مطلعاً على الغيب وتعلموهم عباداً مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله ولا يقولون إلا ما أوحي إليهم
روي (أن الكفرة قالوا: إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر) فنزلت
. عن السدي أنه عليه السلام قال: «عرضت عليَّ أمتي وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر»
. فقال المنافقون إن يزعم أنه يعرف من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فنزلت. وَإِنْ تُؤْمِنُوا حق الإِيمان. وَتَتَّقُوا النفاق.
فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٠]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ القراءات فيه على ما سبق. ومن قرأ بالتاء قدر مضافاً ليتطابق مفعولاه أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم، وكذا من قرأ بالياء إن جعل الفاعل ضمير الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو من يحسب وإن جعله الموصول كان المفعول الأول محذوفاً لدلالة يبخلون عليه أي ولا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيراً لهم. بَلْ هُوَ أي البخل. شَرٌّ لَهُمْ لاستجلاب العقاب عليهم. سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ بيان لذلك، والمعنى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق،
وعنه عليه الصلاة والسلام «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعله الله شجاعاً في عنقه يوم القيامة»
. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وله ما فيهما مما يتوارث، فما لهؤلاء يبخلون عليه بماله ولا ينفقونه في سبيله، أو أنه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه في سبيله بهلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والعقوبة.
وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ من المنع والإِعطاء. خَبِيرٌ فمجازيهم. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الالتفات وهو أبلغ في الوعيد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨١ الى ١٨٢]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ قالته اليهود لما سمعوا مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً.
وروي (أنه عليه الصلاة والسلام كتب مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإِسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً فقال فنحاص بن عازوراء: إن الله فقير حتى سأل القرض، فلطمه أبو بكر رضي الله عنه على وجهه وقال: لولا ما بيننا من العهد لضربت عنقك، فشكاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجحد ما قاله) فنزلت
. والمعنى أنه لم يخف عليه وأنه أعد لهم العقاب
عليه. سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي سنكتبه في صحائف الكتبة، أو سنحفظه في علمنا لا نهمله لأنه كلمة عظيمة إذ هو كفر بالله عز وجل واستهزاء بالقرآن والرسول، ولذلك نظمه مع قتل الأنبياء، وفيه تنبيه على أنه ليس أول جريمة ارتكبوها وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذا القول.
وقرأ حمزة سيكتب بالياء وضمها وفتح التاء وقتلهم بالرفع ويقول بالياء. وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي وننتقم منهم بأن نقول لهم ذوقوا العذاب المحرق، وفيه مبالغات في الوعيد. والذّوْق إدراك الطعوم، وعلى الاتساع يستعمل لإِدراك سائر المحسوسات والحالات، وذكره هاهنا لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل والتهالك على المال، وغالب حاجة الإِنسان إليه لتحصيل المطاعم ومعظم بخله به للخوف من فقدانه ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال.
ذلِكَ إشارة إلى العذاب. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من قتل الأنبياء وقولهم هذا وسائر معاصيهم. عبر بالأيدي عن الأنفس لأن أكثر أعمالها بهن. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عطف على ما قدمت وسببيته للعذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٣]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣)
الَّذِينَ قالُوا هم كعب بن الأشرف ومالك وحيي وفنحاص ووهب بن يهوذا. إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أمرنا في التوراة وأوصانا. أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل وهو أن يقرب بقربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار سماوية فتأكله، أي تحيله إلى طبعها بالإِحراق. وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم لأن أكل النار القربان لم يوجب الإِيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات شرع في ذلك. قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ تكذيب وإلزام بأن رسلا جاءوهم قبله كزكريا ويحيى بمعجزات أخر موجبة للتصديق وبما اقترحوه فقتلوهم، فلو كان الموجب للتصديق هو الإِتيان به وكان توقفهم وامتناعهم عن الإِيمان لأجله فما لهم لم يؤمنوا بمن جاء به في معجزات أخر واجترءوا على قتله.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٤]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم من تكذيب قومه واليهود، والزبر جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرت الشيء إذا حبسته، والكتاب في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين في عامة القرآن. وقيل الزبر المواعظ والزواجر، من زبرته إذا زجرته. وقرأ ابن عامر وَبِالزُّبُرِ وهشام وبالكتاب بإعادة الجار للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٥]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وعد ووعيد للمصدق والمكذب. وقرئ «ذَائِقَةُ الموت» بالنصب مع التنوين وعدمه كقوله: «وَلاَ ذَاكِرُ الله إِلاَّ قَلِيلاً» وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ تعطون جزاء أعمالكم خيراً كان أو شراً تاماً وافياً. يَوْمَ الْقِيامَةِ يوم قيامكم من القبور، ولفظ التوفية يشعر بأنه قد يكون قبلها بعض الأجور ويؤيده
قوله عليه الصلاة والسلام: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار»
. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ بعد
عنها، والزحزحة في الأصل تكرير الزح وهو الجذب بعجلة. وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ بالنجاة ونيل المراد، والفوز الظفر بالبغية.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه»
. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي لذاتها وزخارفها. إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ شبهها بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه، وهذا لمن آثرها على الآخرة. فأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ والغرور مصدر أو جمع غار.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٦]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
لَتُبْلَوُنَّ أي والله لتختبرن. فِي أَمْوالِكُمْ بتكليف الإنفاق وما يصيبها من الآفات. وَأَنْفُسِكُمْ بالجهاد والقتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من المخاوف والأمراض والمتاعب. وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً من هجاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والطعن في الدين وإغراء الكفرة على المسلمين. أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال، ويستعدوا للقائها حتى لا يرهقهم نزولها. وَإِنْ تَصْبِرُوا على ذلك. وَتَتَّقُوا مخالفة أمر الله. فَإِنَّ ذلِكَ يعني الصبر والتقوى.
مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها، أو مما عزم الله عليه أي أمر به وبالغ فيه.
والعزم في الأصل ثبات الرأي على الشيءَ نحو إمضائه.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٧]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ أي اذكر وقت أخذه. مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يريد به العلماء. لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ حكاية لمخاطبتهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش بالياء لأنهم غيب، واللام جواب القسم الذي ناب عنه قوله: أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ والضمير للكتاب. فَنَبَذُوهُ أي الميثاق. وَراءَ ظُهُورِهِمْ فلم يراعوه ولم يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر مثل في ترك الاعتداد وعدم الالتفات، ونقيضه جعله نصب عينيه وإلقاؤه بين عينيه. وَاشْتَرَوْا بِهِ. وأخذوا بدله. ثَمَناً قَلِيلًا من حطام الدنيا وأعراضها.
فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ يختارون لأنفسهم،
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من كتم علمه عن أهله ألجم بلجام من نار».
وعن علي رضي الله تعالى عنه (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا)
. [سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٨]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومن ضم الباء جعل الخطاب له وللمؤمنين، والمفعول الأول الَّذِينَ يَفْرَحُونَ والثاني بِمَفازَةٍ، وقوله فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد والمعنى: لا تحسبن الذين يفرحون بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الوفاء بالميثاق وإظهار الحق والإِخبار بالصدق، بمفازة بمنجاة من العذاب أي فائزين بالنجاة منه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأول وضمها في الثاني على أن الذين فاعل ومفعولاً يحسبن محذوفان يدل عليهما مفعولاً مؤكده، فكأنه قيل ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا فلا يحسبن أنفسهم بمفازة، أو المفعول الأول محذوف وقوله فلا تحسبنهم تأكيد للفعل وفاعله ومفعوله الأول. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بكفرهم وتدليسهم.
روي أنه عليه الصلاة والسلام (سأل اليهود عن شيء مما في
التوراة فأخبروه بخلاف ما كان فيها وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بما فعلوا) فنزلت
. وقيل: نزلت في قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في التخلف واستحمدوا به. وقيل: نزلت في المنافقين فإنهم يفرحون بمنافقتهم ويستحمدون إلى المسلمين بالإِيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٩ الى ١٩٠]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو يملك أمرهم. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على عقابهم.
وقيل هو رد لقولهم إن الله فقير إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ لدلائل واضحة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته لذوي العقول المجلوة الخالصة عن شوائب الحس والوهم كما سبق في سورة البقرة، ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية لأن مناط الاستدلال هو التغير، وهذه معترضة لجملة أنواعه فإنه إما أن يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار، أو جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها»
. [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩١]
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ أي يذكرونه دائماً على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين،
وعنه عليه الصلاة والسلام «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله»
. وقيل معناه يصلون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم
لقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين: «صل قائما فطن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء»
. فهو حجة للشافعي رضي الله عنه في أن المريض يصلي مضطجعاً على جنبه الأيمن مستقبلاً بمقاديم بدنه. وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استدلالاً واعتباراً، وهو أفضل العبادات كما
قال عليه الصلاة والسلام «لا عبادة كالتفكر»
. لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق،
وعنه عليه الصلاة والسلام: «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال: أشهد أن لك رباً وخالقاً: اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له»
. وهذا دليل واضح على شرف علم الأصول وفضل أهله. رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذا باطِلًا على إرادة القول أي يتفكرون قائلين ذلك، وهذا إشارة إلى المتفكر فيه، أي الخلق على أنه أريد به المخلوق من السموات والأرض، أو إليهما لأنهما في معنى المخلوق، والمعنى ما خلقته عبثاً ضائعاً من غير حكمة بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإِنسان وسبباً لمعاشه ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك. سُبْحانَكَ تنزيهاً لك من العبث وخلق الباطل وهو اعتراض. فَقِنا عَذابَ النَّارِ للإِخلال بالنظر فيه، والقيام بما يقتضيه. وفائدة الفاء هي الدلالة على أن علمهم بما لأجله خلقت السموات والأرض حملهم على الاستعاذة.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٢]
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢)
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ غاية الإخزاء، وهو نظير قولهم: من أدرك مرعى الضمان فقد أدرك، والمراد به تهويل المستعاذ منه تنبيهاً على شدة خوفهم وطلبهم الوقاية منه، وفيه إشعار بأن العذاب الروحاني أفظع. وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أراد بهم المدخلين، ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على
أن ظلمهم سبب لإِدخالهم النار وانقطاع النصرة عنهم في الخلاص منها، ولا يلزم من نفي النصرة نفي الشفاعة لأن النصر دفع بقهر.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٣]
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣)
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه، وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع وفي تنكير المنادي وإطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأنه، والمراد به الرسول عليه الصلاة والسلام وقيل القرآن، والنداء والدعاء ونحوهما يعدى بإلى واللام لتضمنها معنى الانتهاء والاختصاص. أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أي بأن آمنوا فامتثلنا. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا كبائرنا فإنها ذات تبعة. وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا صغائرنا فإنها مستقبحة، ولكن مكفرة عن مجتنب الكبائر. وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ مخصوصين بصحبتهم معدودين في زمرتهم، وفيه تنبيه على أنهم محبون لقاء الله، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. والأبرار جمع بر أو بار كأرباب وأصحاب.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٤]
رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)
رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أي ما وعدتنا على تصديق رسلك من الثواب. لما أظهر امتثاله لما أمر به سأل ما وعد عليه لا خوفاً من إخلاف الوعد بل مخافة أن لا يكون من الموعودين لسوء عاقبة، أو قصور في الامتثال أو تعبداً واستكانة. ويجوز أن يعلق على بمحذوف تقديره: ما وعدتنا منزلاً على رسلك، أو محمولاً عليهم. وقيل معناه على ألسنة رسلك. وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ بأن تعصمنا عما يقتضيه. إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعادَ بإثابة المؤمن وإجابة الداعي وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الميعاد البعث بعد الموت.
وتكرير ربنا للمبالغة في الابتهال والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها.
وفي الآثار (من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف)
. [سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٥]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ إلى طلبتهم، وهو أخص من أجاب ويعدي بنفسه وباللام. أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أي بأني لا أضيع. وقرئ بالكسر على إرادة القول. مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيان عامل. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ لأن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر، أو لأنهما من أصل واحد، أو لفرط الاتصال والاتحاد، أو للاجتماع والاتفاق في الدين. وهي جملة معترضة بين بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال.
روي (أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء)
فنزلت. فَالَّذِينَ هاجَرُوا إلخ، تفصيل لأعمال العمال وما أعد لهم من الثواب على سبيل المدح والتعظيم، والمعنى فالذين هاجروا الشرك أو الأوطان والعشائر للدين. وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي بسبب إيمانهم بالله ومن أجله وَقاتَلُوا الكفار. وَقُتِلُوا في الجهاد. وقرأ حمزة والكسائي بالعكس لأن الواو لا توجب ترتيباً والثاني أفضل. أو لأن المراد لما قتل منهم قوم قاتل الباقون ولم يضعفوا. وشدد ابن كثير وابن عامر قُتِلُوا للتكثير. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ لأمحونها. وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي أثيبهم بذلك إثابة من عند الله تفضلاً منه، فهو مصدر مؤكد. وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ على
الطاعات قادر عليه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٦ الى ١٩٧]
لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧)
لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته، أو تثبيته على ما كان عليه كقوله فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ أو لكل أحد، والنهي في المعنى للمخاطب وإنما جعل للتقلب تنزيلاً للسبب منزلة المسبب للمبالغة، والمعنى لا تنظر إلى ما الكفرة عليه من السعة والحظ، ولا تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم في مكاسبهم ومتاجرهم ومزارعهم.
روي (أن بعض المؤمنين كانوا يرون المشركين في رخاء ولين عيش فيقولون: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد) فنزلت
. مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدأ محذوف، أي ذلك التقلب متاع قليل لقصر مدته في جنب ما أعد الله للمؤمنين.
قال عليه الصلاة والسلام «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع»
. ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ أي ما مهدوا لأنفسهم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٨]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ النزل والنزل:
ما يعد للنازل من طعام وشراب وصلة، قال أبو الشعر الضبي:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
وانتصابه على الحال من جنات والعامل فيها الظرف، وقيل: إنه مصدر مؤكد، والتقدير: أنزلوها نزلا وَما عِنْدَ اللَّهِ لكثرته ودوامه خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ مما يتقلب فيه الفجار لقلته وسرعة زواله.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٩]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل في أربعين من نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فأسلموا. وقيل في أصحمة النجاشي لما نعاه جبريل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج فصلى عليه فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط. وإنما دخلت اللام على الاسم للفصل بينه وبين إن بالظرف. وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن. وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من الكتابين. خاشِعِينَ لِلَّهِ حال من فاعل يؤمن وجمعه باعتبار المعنى لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا كما يفعله المحرفون من أحبارهم. أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ما خص بهم من الأجر ووعده في قوله تعالى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لعلمه بالأعمال وما يستوجبه من الجزاء واستغنائه عن التأمل والاحتياط، والمراد أن الأجر الموعود سريع الوصول فإن سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء.
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٠٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا على مشاق الطاعات وما يصيبكم من الشدائد. وَصابِرُوا وغالبوا أعداء الله بالصبر على شدائد الحرب وأعدى عدوكم في الصبر على مخالفة الهوى، وتخصيصه بعد الأمر بالصبر
56
مطلقاً لشدته. وَرابِطُوا أبدانكم وخيولكم في الثغور مترصدين للغزو، وأنفسكم على الطاعة كما
قال عليه الصلاة والسلام «من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة».
وعنه عليه الصلاة والسلام «من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه، لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة»
. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فاتقوه بالتبري عما سواه لكي تفلحوا غاية الفلاح، أو واتقوا القبائح لعلكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة، المرتبة التي هي الصبر على مضض الطاعات ومصابرة النفس في رفض العادات ومرابطة السر على جناب الحق لترصد الواردات المعبر عنها بالشريعة، والطريقة، والحقيقة.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية منها أماناً على جسر جهنم».
وعنه عليه الصلاة والسلام «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تجب الشمس»
. والله أعلم.
57
Icon