تفسير سورة آل عمران

تفسير الخازن
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب لباب التأويل في معاني التنزيل المعروف بـتفسير الخازن .
لمؤلفه الخازن . المتوفي سنة 741 هـ
( مدنية وهي مائتا آية وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانون كلمة وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرون حرفا ).

سورة آل عمران
(مدنية وهي مائتا آية وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانون كلمة وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرون حرفا).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة آل عمران (٣): الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)
قوله عز وجل: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ قال المفسرون: نزلت هذه الآية في وفد نجران وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم وهم العاقب واسمه عبد المسيح وهو أمير القوم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلّا عن رأيه، والسيد واسمه الأيهم وهو ثمالهم القائم بمالهم وصاحب رحلهم الذي يقوم بأمر طعامهم وشرابهم وأبو حارثة بن علقمة وهو أسقفهم وحبرهم وكان ملوك الروم يكرمونه لما بلغهم عن علمه واجتهاده في دينه فدخلوا مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين كان يصلي العصر وعليهم ثياب الحبرات جبب وأردية يقول من رآهم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما رأينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعوهم فصلوا إلى المشرق فلما فرغوا كلم السيد والعاقب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسلما قالا: قد أسلمنا قبلك. قال كذبتما يمنعكما من الإسلام دعواكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير، قال إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه وخاصموه جميعا في عيسى فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلّا وهو يشبه أباه قالوا بلى قال:
ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب قالوا: بلى قال ألستم على كل شيء يحفظه ويرزقه. قالوا بلى قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا قالوا: لا قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. قالوا بلى قال فهل يعلم عيسى من ذلك إلّا ما علم قالوا لا. قال:
ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب قالوا: بلى قال: بلى قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث. قالوا: بلى قال: فكيف يكون إلها كما زعمتم فسكتوا. فأنزل الله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها زاد بعضهم. فقالوا يا محمد ألست تزعم أن عيسى كلمة الله وروح منه قال بلى قالوا حسبنا ثم أبوا إلّا جحودا فأنزل الله ردا عليهم الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني إن كانت منازعتكم يا معشر النصارى في معرفة الإله فهو الله الذي لا إله إلّا هو فكيف تثبتون له ولدا فبين تعالى أن أحدا لا يستحق العبادة سواه لأنه الواحد الأحد ليس معه إله ولا له ولد ثم أتبع ذلك بما يجري مجرى الدلالة عليه فقال تعالى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ أما الحي في صفة الله تعالى فهو الدائم الباقي الذي لا يصح عليه الموت. وأما القيوم فهو القائم بذاته والقائم بتدبير الخلق ومصالحهم فيما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم.

[سورة آل عمران (٣): الآيات ٣ الى ٦]

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن بِالْحَقِّ أي بالصدق والعدل مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعني لما قبله من الكتب في التوحيد والنبوات والأخبار وبعض الشرائع. وقوله لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من مجاز الكلام وذلك أن ما بين يديه فهو أمامه فقيل لكل شيء تقدم على الشيء هو بين يديه لغاية ظهوره واشتهاره وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل القرآن. فإن قلت لم قيل نزل الكتاب وأنزل التوراة والإنجيل. قلت لأن القرآن نزل منجما مفصلا في أوقات كثيرة ونزل هو للتكثير وأنزل التوراة والإنجيل جملة واحدة هُدىً لِلنَّاسِ يعني أن إنزال التوراة والإنجيل قبل القرآن كان هدى للناس. فإن قلت كيف وصف القرآن في أول البقرة بأنه هدى للمتقين ووصف هنا التوراة والإنجيل بأنهما هدى للناس. قلت إنما وصف القرآن بأنه هدى للمتقين لأنهم هم الذين انتفعوا به وتبعوه ووصف هنا التوراة والإنجيل بأنهما هدى للناس لأن المناظرة كانت مع نصارى نجران وهم يعتقدون صحة التوراة والإنجيل فلهذا السبب قال هنا هُدىً لِلنَّاسِ وقيل إن قوله هدى للناس يعود إلى الكتب الثلاثة يعني القرآن المتقدم ذكره والتوراة والإنجيل وإنما وصف هذه الكتب بأنها هدى للناس لما فيها من الشرائع والأحكام وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ يعني الفارق بين الحق والباطل قيل أراد به القرآن وإنما أعاد ذكره تعظيما لشأنه ومد حاله لكونه فارقا بين الحق والباطل وقيل إنما أعاد ذكره ليبين أنه تعالى أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فارقا بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى في أمر عيسى عليه السلام وقيل المراد به الكتب الثلاثة لأنها كلها هدى للناس ومفرقة بين الحلال والحرام والحق والباطل. وقال السدي: في الآية تقديم وتأخير تقديره وأنزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للناس إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني الكتب المنزلة وغيرها قيل أراد بهم نصارى وفد نجران كفروا بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل إن خصوص السبت لا يمنع عموم اللفظ فهو يتناول كل من كفر بشيء من آيات الله تعالى: لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب لا يغلب ذُو انْتِقامٍ يعني ممن كفر به والانتقام المبالغة في العقوبة. قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي لا يخفى عليه شيء من أمر العالم وهو المطلع على أحوالهم فقوله:
إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ التصوير جعل الشيء على صورة والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف والأرحام جمع رحم كَيْفَ يَشاءُ يعني الصور المختلفة المتفاوتة في الحلقة ذكرا أو أنثى أبيض أو أسود حسنا أو قبيحا كاملا أو ناقصا والمعنى أنه الذي يصوركم في ظلمات الأرحام صورا مختلفة في الشكل والطبع واللون وذلك من نطفة. (ق) عن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله شقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح فو الله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها». (ق) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «وكل الله بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: يا رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد فما الرزق فما الأجل؟ فكتب له ذلك في بطن أمه» وقيل إن الآية واردة في الرد على النصارى وذلك أن عيسى عليه السلام كان يخبر ببعض الغيب فيقول: أكلت في دارك كذا صنعت كذا وإنه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص وخلق من الطين طيرا فادعت
النصارى فيه الإلهية وقالوا: ما قدر على ذلك إلّا أنه إله فرد الله تعالى عليهم بذلك. وأخبر أن الإله المستحق لهذا الاسم هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وأنه المصور في الأرحام كيف يشاء، وأن عيسى عليه السلام ممن صوره في الرحم فنبه بكونه مصور في الرحم على أنه عبد مخلوق كغيره وأنه يخفى عليه ما لا يخفى على الله عز وجل: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وهذا أيضا في الرد على النصارى حيث قالوا: عيسى ولد الله كأنه قال: كيف يكون ولد إله وقد صوره الله في الرحم. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ٧]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ يعني مبينات مفصلات أحكمت عبارتها من احتمال التأويل والاشتباه سميت محكمة من الإحكام كأنه تعالى أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ يعني هن أصل الكتاب الذي يعول عليه في الأحكام، ويعمل به في الحلال والحرام فإن قلت: كيف قال هن أم الكتاب ولم يقل أمهات الكتاب؟ قلت: لأن الآيات في اجتماعها وتكاملها كالآية الواحدة وكلام الله كله شيء واحد. وقيل: إن كل آية منهن أم الكتاب كما قال وجعلنا ابن مريم وأمه آية يعني أن كل واحد منهما آية وَأُخَرُ جمع أخرى مُتَشابِهاتٌ يعني أن لفظه يشبه لفظ غيره ومعناه يخالف معناه. فإن قلت: قد جعله هنا محكما ومتشابها وجعله في موضع آخر كله محكما فقال في أول هود الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ وجعله في موضع آخر كله متشابها. فقال تعالى في الزمر: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً فكيف الجمع بين هذه الآيات. قلت: حيث جعله كله محكما أراد أنه كله حق وصدق ليس فيه عبث ولا هزل وحيث جعله كله متشابها أراد أن بعضه يشبه بعضا في الحسن والحق والصدق، وحيث جعله هنا بعضه محكما وبعضه متشابها فقد اختلفت عبارات العلماء فيه فقال ابن عباس: المحكمات الثلاث آيات التي في آخر سورة الأنعام وهي قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ونظيرها في بني إسرائيل وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ الآيات. وعنه أن الآيات المحكمة هي الناسخ والمتشابهات هي الآيات المنسوخة وبه قال ابن مسعود وقتادة والسدي وقيل إن المحكمات ما فيه أحكام الحلال والحرام والمتشابهات ما سوى ذلك يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا وقيل: إن المحكمات ما طلع الله عباده على معناه والمتشابه ما استأثر الله بعلمه فلا سبيل لأحد إلى معرفته نحو الخبر عن أشراط الساعة مثل الدجال ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى عليه السلام وطلوع الشمس من مغربها وفناء الدنيا وقيام الساعة فجميع هذا مما استأثر الله بعلمه وقيل: إن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلّا وجها واحدا والمتشابه ما يحتمل أوجها وروي ذلك عن الشافعي وقيل إن المحكم سائر القرآن والمتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور. قال ابن عباس إن رهطا من اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له حيي بلغنا: أنك أنزل عليك الم فأنشدك الله أأنزل عليك قال نعم. قال: إن كان ذلك حقا فإني أعلم مدة ملك أمتك هي إحدى وسبعون سنة فهل أنزل عليك غيرها؟ قال: نعم آلمص قال: فهذه أكثر هي إحدى وستون ومائة فهل أنزل عليك غيرها؟ قال نعم الر قال: هذه أكثر هي مائتان وإحدى وثلاثون سنة فهل من غيرها؟ قال: نعم آلمر قال هذه أكثر هي مائتان وإحدى وسبعون سنة. وقد اختلط علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليله ونحن ممن لا يؤمن بهذا. فأنزل الله هذه الآية قوله تعالى. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ وقيل: إن المحكم ما لم تتكرر ألفاظه والمتشابه ما
225
تكررت ألفاظه وقيل: إن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. والمتشابه ما احتاج إلى بيان وقيل: إن المحكم هو الأمر والنهي والوعد والوعيد والمتشابه هو القصص والأمثال. فإن قلت: إنما نزل القرآن لبيان الدين وإرشاد العباد وهدايتهم فما فائدة المتشابه وهلا كان كله محكما؟ قلت: ذكر العلماء عن هذا السؤال أجوبة أحدها. أن القرآن أنزل بألفاظ العرب ولغاتهم وكلام العرب على ضربين أحدهما: الإيجاز للاختصار والموجز الذي لا يخفى على سامعه لا يحتمل غير ظاهره، والإطالة لبيان المراد والتوكيد. الضرب الثاني: المجاز والكنايات والإشارات والتلويحات وإغماض بعض المعاني، وهذا الضرب هو المستحسن عند العرب والبديع في كلامهم فأنزل الله تعالى القرآن على هذين الضربين ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله فكأنه قال: عارضوه بأي الضربين شئتم، ولو نزل كله محكما واضحا لقالوا: هلا أنزل بالضرب المستحسن عند الجواب الثاني أن الله تعالى أنزل المتشابه لفائدة عظيمة، وهي أن يشتغل أهل العلم والنظر بردهم المتشابه إلى المحكم فيطول
بذلك فكرهم ويتصل بالبحث عن معانيه اهتمامهم فيثابون على تعبهم كما أثبتوا على عباداتهم. ولو أنزل القرآن كله محكما لاستوى في معرفته العالم والجاهل ولم يفضل العالم على غيره ولماتت الخواطر وخمدت الفكرة، ومع الغموض تقع الحاجة إلى الفكرة والحيلة إلى استخراج المعاني. وقد قيل في عيب الغنى إنه يورث البلادة وفي فضيلة الفقر إنه يورث الفطنة. وقيل: إنه يبعث على الحيلة لأنه إذا احتاج احتال. الجواب الثالث: أن أهل كل علم يجعلون في علومهم معاني غامضة ومسائل دقيقة ليختبروا بذلك أذهان المتعلمين منهم على انتزاع الجواب لأنهم إذ قدروا على انتزاع المعاني الغامضة كانوا على الواضح أقدر، فلما كان ذلك حسنا عند العلماء جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النحو. الجواب الرابع: ان الله تعالى أنزل المتشابه في كتابه مختبرا به عباده ليقف المؤمن عنده ويرد علمه إلى عالمه فيعظم بذلك ثوابه، ويرتاب به المنافق فيداخله الزيغ فيستحق بذلك العقوبة كما ابتلى بنو إسرائيل بالنهر والله أعلم بمراده. وقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل عن الحق وقيل: الزيغ الشك واختلفوا في المعنى بهم والمشار إليهم فقيل هم وفد نجران الذين خاصموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عيسى عليه السلام وقالوا: ألست تزعم أن عيسى روح الله وكلمته؟ قال: بلى قالوا: حسبنا فأنزل الله هذه الآية. وقيل: هم اليهود لأنهم طلبوا معرفة مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه بحساب الجميل من الحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل: هم المنافقون وقيل: هم الخوارج وكان قتادة يقول: إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم. وقيل هم جميع المبتدعة فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ يعني يحيلون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم، ويقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا ثم نسخت. وقيل كل من احتج لباطله بالمتشابه فهو المعنى بهذه الآية. (ق) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ- إلى- وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ فقال: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم» وقوله تعالى: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي طلب الشرك والكفر. وقيل: طلب الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم وقيل: طلب إفساد ذات البين وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي تفسيره. وأصل التأويل في اللغة: المرجع والمصير تقول: آل الأمر إلى كذا إذا رجع إليه وتسمى العاقبة تأويلا لأن الأمر يصير إليه. قال ابن عباس في قوله: وابتغاء تأويله أي طلب بقاء ملك محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل: المراد بهم الكفار طلبوا متى يبعثون وكيف أحياهم بعد الموت وقيل هو طلب تفسير المتشابه وعلمه وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ يعني تأويل المتشابه وقيل: لا يعلم انقضاء ملك هذه الأمة إلّا الله تعالى لأن انقضاء ملكها مع قيام الساعة. ولا يعلم ذلك إلّا الله وقيل: يجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه كعلم قيام الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وعلم الحروف المقطعة، وأشباه ذلك مما استأثر الله بعلمه فالإيمان به واجب وحقائق علومه مفوضة إلى الله تعالى، وهذا قول أكثر المفسرين وهو مذهب ابن
226
مسعود وابن عباس في رواية عنه، وأبي بن كعب وعائشة وأكثر التابعين فعلى هذا القول تم الكلام عند قوله:
إِلَّا اللَّهُ فيوقف عليه ثم ابتدأ فقال عز من قائل وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي الثابتون في العلم وهم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في علمهم شك يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ قال ابن عباس: سماهم راسخين في العلم بقولهم آمنا به فرسوخهم في العلم هو الإيمان به. وقال عمر بن عبد العزيز في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا يعني المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا منه وما لم نعلم ونحن متعبدون في المتشابه بالإيمان به، ونكل معرفته إلى الله تعالى. وفي المحكم يجب علينا الإيمان به والعمل بمقتضاه. وروي عن ابن عباس أنه قال تفسير القرآن على أربعة أوجه فمنه تفسير لا يسع أحدا جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلّا الله. وقيل: إن الواو في قوله والراسخون في العلم واو عطف يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم يقولون آمنا به. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول: أنا من الراسخين في العلم وعن مجاهد عنه أنا ممن يعلم تأويله. ووجه هذا القول أن الله تعالى أنزل كتابه لينتفع به عباده ولا يجوز أن يكون في القرآن شيء لا يعرفه أحد من الأمة وفي المراد بالراسخين في العلم هنا قولان أحدهما: أنهم مؤمنوا أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه دليله قوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ. والقول الثاني: أن الراسخين هم العلماء العاملون بعلمهم. سئل أنس بن مالك عن الراسخين في العلم فقال: العالم العامل بما علم المتبع له وقيل، الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء التقوى فيما بينه وبين الله تعالى، والتواضع فيما بينه وبين الناس، والزهد فيما بينه وبين الدنيا، والمجاهدة فيما بينه وبين النفس وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي وما يتعظ بما في القرآن إلّا ذوو العقول وهذا ثناء من الله عز وجل على الذين قالوا آمنا به كل من عند ربنا. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٨ الى ١١]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي ويقول الراسخون في العلم: ربنا لا تزغ قلوبنا أي لا تملها عن الحق والهدى كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أي وفقتنا لدينك والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي أعطنا توفيقا وتثبيتا للذي نحن عليه من الإيمان والهدى وقيل: هب لنا تجاوزا ومغفرة إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ الهبة العطية الخالية عن الأعواض والأغراض والوهاب في صفة الله تعالى أنه يعطي كل أحد على قدر استحقاقه. (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» هذا من أحاديث الصفات وللعلماء فيه قولان أحدهما: الإيمان به وإمراره كما جاء، من غير تعرض لتأويل ولا تكييف ولا لمعرفة معناه بل نؤمن به كما جاء وأنه حق ونكل علمه إلى مراد الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم هذا القول هو مذهب أهل السنة من سلف الأمة وخلفها من أهل الحديث وغيرهم. والقول الثاني إنه يتأول بحسب ما يليق به وأن ظاهره غير مراد قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فعلى هذا المراد هو المجاز كما يقال فلان في قبضتي وفي كفي يريد أنه تحت قدرته وفي تصرفه إلّا أنه حال في كفه فمعنى الحديث أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء لا يمتنع عليه منها شيء ولا يفوته ما أراد منها كما لا يمتنع على الإنسان ما بين إصبعيه فخاطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بما يفهمونه ويعلمونه من أنفسهم، وإنما ثنى لفظ
الإصبعين والقدرة واحدة لأنه جرى على المعهود من التمثيل بحسب ما اعتادوه وإن كان غير مقصود به التثنية أو الجمع، وهذا مذهب جمهور المتكلمين وغيرهم من المتأخرين. وإنما خص القلوب بالذكر لفائدة وهي أن الله تعالى جعل القلوب، محلا للخواطر والإرادات والنيات وهي مقدمات الأفعال ثم جعل سائر الجوارح تابعة للقلوب في الحركات والسكنات والله أعلم. قوله عز وجل: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ أي ليوم القضاء. وقيل: اللام بمعنى في أي يوم لا ريب فيه أي لا شك فيه أنه كائن وهو يوم القيامة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ هذا من بقية دعاء الراسخين في العلم، وذلك أنهم طلبوا من الله تعالى أن يصرف قلوبهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة وذلك من مصالح الدين والدنيا ثم إنهم اتبعوا ذلك بقولهم: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ومعناه إنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ونعلم أن وعدك حق، وأنك لا تخلف الميعاد فمن أزغت قلبه فهو هالك، ومن مننت عليه بالهداية والرحمة فهو ناج من العذاب سعيد. قوله عز وجل:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس: هم قريظة والنضير لَنْ تُغْنِيَ أي لن تنفع ولن تدفع عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي من عذاب الله شيئا وقيل: من بمعنى عند أي عند الله شيئا وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ قال ابن عباس: كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر. وقيل: كسنة آل فرعون وقيل كعادة آل فرعون والمعنى أن عادة هؤلاء الكفار في تكذيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجحود الحق كعادة آل فرعون فإنهم كذبوا موسى وصدقوا فرعون وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني كفار الأمم الماضية مثل عاد وثمود وغيرهم كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني لما جاءتهم بها الرسل فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي فعاقبهم الله بسبب تكذيبهم وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ وقيل في معنى الآية: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفار الأمم الخالية فأخذناهم فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٢ الى ١٣]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ قرئ بالتاء والياء فيهما فمن قرأ بالياء المنقوطة تحت فمعناه بلغهم يا محمد أنهم سيغلبون ويحشرون، ومن قرأ التاء المنقوطة فوق فمعناه قل لهم: ستغلبون وتحشرون إِلى جَهَنَّمَ قيل: أراد بالذين كفروا مشركي قريش والمعنى قل لكفار مكة: ستغلبون يوم بدر وتحشرون في الآخرة إلى جهنم فلما نزلت هذه الآية قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر: إن الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم وقيل: إن أبا سفيان جمع جماعة من قومه بعد وقعة بدر فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: إن هذه الآية نزلت في اليهود. وقال ابن عباس: إن يهود المدينة قالوا لما هزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشركين يوم بدر، هذا والله النبي الذي بشر به موسى لا ترد له راية وأرادوا إتباعه ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا واقعة أخرى. فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شكوا وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا، وكان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلى مدة فنقضوا العهد وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى مكة ليستفزهم فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن عباس وغيره: لما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا يوم بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش يوم بدر، وأسلموا قبل أن ينزل لكم ما نزل بهم فقد عرفتم إني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا: يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة وإنا الله لو قاتلناك لعرفت إنا نحن الناس. فأنزل الله عز وجل قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني من اليهود سَتُغْلَبُونَ أي ستهزمون وَتُحْشَرُونَ يعني في الآخرة إلى جهنم وَبِئْسَ
228
الْمِهادُ أي الفراش والمعنى: بئس ما مهد لهم في النار. قوله عز وجل: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا قيل:
الخطاب للمؤمنين يروى ذلك عن ابن مسعود والحسن. وقيل: هو خطاب لكفار مكة فيكون عطفا على الذي قبله فيخرج على قول ابن عباس (١). وقيل: هو خطاب لليهود قاله ابن جرير. فإن قلت: لم قال قد كان لكم آية ولم يقل قد كانت لأن الآية مؤنثة؟ قلت: كل ما ليس بمؤنث حقيقي يجوز تذكيره وقيل: إنه رد المعنى إلى البيان فمعناه قد كان لكم بيان فذهب إلى المعنى وترك اللفظ. وقال الفراء: إنما ذكر لأنه حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث فذكر الفعل وكل ما جاء من هذا فهذا وجهه ومعنى الآية قد كان لكم آية أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون في فئتين أي فرقتين وأصلها في الحرب لأن بعضهم يفيء إلى بعض أي يرجع الْتَقَتا يعني يوم بدر فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله وهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون رجلا من الأنصار، وكان صاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكان فيهم سبعون بعيرا وفرسان وكان معهم من السلاح ستة أذرع وثمانية سيوف. وقوله تعالى: وَأُخْرى كافِرَةٌ أي وفرقة أخرى كافرة وهم مشركو مكة وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا من المقاتلة وكان رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان فيهم مائة فرس وكانت وقعة بدر أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة وقوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قرئ بالتاء يعني ترون أهل مكة ضعفي المسلمين يا معشر اليهود وذلك أن جماعة من اليهود كانوا قد حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة ولمن النصر فرأوا المشركين مثلي عدد المسلمين، ورأوا النصر للمسلمين فكان ذلك معجزة. وقرئ يرونهم بالياء واختلفوا في وجه قراءة الياء فجعل بعضهم الرؤية للمسلمين ثم له تأويلان أحدهما: يرى المسلمون المشركين مثليهم كما هم. فإن قلت: كيف قال مثليهم وإنما كانوا ثلاثة أمثالهم. قلت:
هذا مثل قول الرجل وعنده درهم أنا محتاج إلى مثلي هذا الدرهم يعني إلى مثليه سواه فيكون ثلاثة دراهم ووجه آخر وهو أن يكون الله تعالى أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي يعلم المؤمنون أنهم يغلبونهم لإزالة الخوف من قلوبهم، وهذا التأويل الثاني هو الأصح قلل الله المشركون في أعين المسلمين حتى رأوهم مثليهم.
فإن قلت كيف الجمع بين قوله تعالى يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ وبين قوله: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وكيف يقال: إن المشركين استكثروا المسلمين أو المسلمين استكثروا المشركين، وإن الفئتين تساويا في استقلال إحداهما الأخرى. قلت: إن التقليل والتكثير كانا في حالتين مختلفتين فإن قيل: إن الفئة الرائية هم المسلمون فإنهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ما هم عليه. ثم قلل الله المشركين في أعين المسلمين حتى اجترءوا عليهم فصبروا على قتالهم بذلك السبب. قال ابن مسعود: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا فاهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا. وفي رواية أخرى عنه قال: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة قال فأسرنا منهم رجلا فقلنا: كم كنتم قال: ألفا وإن قلنا إن الفئة الرائية هم المشركون على قول بعضهم إن الرؤية راجعة إلى المشركين يعني رأى المشركون المسلمين مثليهم فقلل الله المسلمين في أعين المشركين في أول القتال ليجترؤوا عليهم ولا ينصرفوا، فلما أخذوا في القتال كثر الله المسلمين في أعين المشركين ليجبنوا فيكون ذلك سبب خذلانهم، وقد روي أن المشركين لما أسروا يوم بدر قالوا للمسلمين: كم كنتم قالوا: كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا قالوا: يعني المشركين ما كنا نراكم إلّا تضعفون علينا فكان في وقعة بدر أحوال في التكثير والتقليل وما ذلك إلّا إظهارا للقدرة التامة وقوله تعالى: رَأْيَ الْعَيْنِ أي في رأي العين وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ أي يقوي بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكر من النصرة. وقيل رؤية الجيش مثليهم لَعِبْرَةً أي لآية والعبرة الدلالة الموصلة إلى اليقين المؤدية إلى
229
العلم وأصلها من العبور كأنه طريق يعبرونه فيوصلهم إلى مرادهم. وقيل: العبرة هي التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم لِأُولِي الْأَبْصارِ لذوي العقول والبصائر. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ١٤]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ قال أهل السنة: المزين هو الله تعالى لأنه تعالى خالق الجميع أفعال العباد ولأن الله تعالى خلق جميع ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده وإباحتها للعبد تزيين لها قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وقال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ وقال الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها وقال تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وكل ذلك يدل على أن المزين هو الله تعالى. ومما يؤيد ذلك قراءة مجاهد زين بفتح الزاي على تسمية الفاعل وقال الحسن: المزين هو الشيطان وهو قول طائفة من المعتزلة ويدل على ذلك أن الله تعالى زهد في هذه الأشياء بأن أعلم عباده زوالها. ولأن الله تعالى أطلق حب الشهوات فيدخل فيه الشهوات المحرمة، والمزين لذلك هو الشيطان، ولأن الله تعالى ذكر هذه الأشياء في معرض الذم للدنيا ويدل عليه آخر الآية وهو قوله تعالى وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. ونقل عن أبي علي الجبائي من المعتزلة أن كل ما كان حراما كان المزين له هو الشيطان، وكل ما كان مباحا كان المزين له هو الله تعالى، والصحيح ما ذهب إليه أهل السنة لأن الله تعالى خالق كل شيء ولا شريك له في ملكه. وقوله تعالى:
حُبُّ الشَّهَواتِ يعني المشتهيات لأن الشهوة توقان النفس إلى الشيء المشتهى مِنَ النِّساءِ إنما بدأ بذكر النساء لأن الالتذاذ بهن أكثر، والاستئناس بهن أتم، ولأنهن حبائل الشيطان وأقرب إلى الافتتان وَالْبَنِينَ إنما خص البنين بالذكر لأن حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى ووجه حبه ظاهر لأنه يتكثر به ويعضده ويقوم مقامه. وقد جعل الله تعالى في قلب الإنسان حب الزوجة والولد لحكمة بالغة وهي بقاء التوالد ولو زالت تلك المحبة لما حصل ذلك وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ جمع قنطار وسمي قنطارا من الإحكام والعقد يقال: قنطرته إذا أحكمته ومنه القنطرة المحكمة الطاق واختلفوا في القنطار هل محدود أو غير محدود؟ على قولين أحدهما: أنه محدود ثم اختلفوا في حده فروي عن معاذ بن جبل أن القنطار ألف ومائتا أوقية. وقال ابن عباس: ألف ومائتا مثقال وعنه أنه اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار دية أحدكم وبه قال الحسن: وقال سعيد بن جبير: هو مائة ألف ومائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم. ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل قد قنطروا، وقال سعيد بن المسيب وقتادة: هو ثمانون ألفا وقال مجاهد: سبعون ألفا. وقال السدي: هو أربعة آلاف مثقال والقول الثاني: إن القنطار ليس بمحدود. وقال الربيع بن أنس: القنطار مال الكثير بعضه على بعض وروي عن أبي عبيدة أنه حكي عن العرب أن القنطار وزن لا يحد وهو اختيار ابن جرير الطبري وغيره. وقال الحاكم القنطار ما بين السماء والأرض من مال. وقال أبو نصرة: القنطار ملء مسك ثور ذهبا أو فضة وقال القنطار من المال ما فيه عبور الحياة تشبيها بعبور القنطرة المقنطرة أي المجموعة وقيل: المضاعفة لأن القناطير جمع وأقله ثلاثة والمقنطرة المضاعفة أن تكون ستة أو تسعة وقيل المقنطرة المسكوكة المنقوشة مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنما بدأ بهما من بين سائر أصناف الأموال لأنهما قيم الأشياء وإنما كانا محبوبين لأن المالك لهما مالك قادر على ما يريده وهي صفة كمال وهي محبوبة. وقيل سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى والفضة لأنها تنفض أي تتفرق وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ الخيل جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط سميت الأفراس خيلا لاختيالها في مشيتها.
وقيل: لأن الخيل لا يركبها أحد إلّا وجد في نفسه مخيلة عجبا واختلفوا في معنى المسومة على ثلاثة أقوال القول الأول: إنها الراعية يقال أممت الدابة وسومتها إذا أرسلتها المرعى والمقصود أنها إذا رعت زاد حسنها والقول
الثاني أنها من السمة وهي العلامة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في تلك العلامة فقيل: الثالث هي الغرة والتحجيل التي تكون في الخيل وقيل: هي الخيل البلق وقيل: هي المعلمة بالكي. والقول الثالث: إنها المضمرة الحسان وتسويمها حسنها وَالْأَنْعامِ جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم ولا يقال للجنس الواحد منها إلّا للإبل خاصة فإنه غلب عليها وَالْحَرْثِ يعني الزرع ذلِكَ يعني ذلك الذي ذكر من هذه الأصناف مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي الذي يستمتع به في الحياة الدنيا وهي زائلة فانية يشير إلى أن الحياة الدنيا متاع يفني وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي المرجع، فيه إشارة إلى التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة. وقيل: فيه إشارة إلى أن من أتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها فيما يكون فيه صلاحه في الآخرة لأنها السعادة القصوى. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ١٥]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥)
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ أي أخبركم بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ يعني الذي ذكر من متاع الدنيا لِلَّذِينَ اتَّقَوْا قال ابن عباس في رواية عنه يريد المهاجرين والأنصار. أراد أن يعرفهم ويشوقهم إلى الآخرة قال العلماء: ويدخل في هذا الخطاب كل من اتقى الشرك عِنْدَ رَبِّهِمْ معناه أن الله تعالى أخبر أن ما عنده خير مما كان في الدنيا وإن كان محبوبا فحثهم على ترك ما يحبون لما يرجون ثم فسر لك الخير فقال تعالى: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ. (ق) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟
فيقولون: يا رب وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك: فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟
فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك فيقول، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا وقيل: إن العبد إذا علم أن الله تعالى قد رضي عنه كان أتم لسروره وأعظم لفرحه وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يعني أن الله تعالى عالم بمن يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا فيجازى كلّا على عمله فيثبت ويعاقب على قدر الأعمال. وقيل: إن الله تعالى بصير بالذين اتقوا فلذلك أعدلهم الجنات. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٦ الى ١٨]
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا أي صدقنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي استر علينا وتجاوز عنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ. قوله عز وجل: الصَّابِرِينَ يعني على أداء الواجبات وعن المحرمات والمنهيات، وفي البأساء والضراء وحين البأس. وقيل: الصابرين على دينهم وما أصابهم وَالصَّادِقِينَ يعني في إيمانهم. وقال قتادة: هم قوم صدقت نياتهم واستقامت ألسنتهم وقلوبهم في السر والعلانية والصدق يكون في القول والأفعال والنية، فأما صدق القول فهو مجانبة الكذب والصدق في الفعل هو عدم الانصراف عنه قبل إتمامه، والصدق في النية العزم على الفعل حتى يبلغه. وَالْقانِتِينَ يعني المطيعين لله وقيل لهم المصلون، وهو عبارة عن دوام الطاعة والمواظبة عليها وَالْمُنْفِقِينَ يعني أموالهم في طاعة الله تعالى، ويدخل فيه نفقة الرجل على نفسه وعلى أهله وأقاربه وصلة رحمه، والزكاة والنفقة في جميع القربات وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ يعني المصلين بالسحر وهو الوقت بعد ظلمة الليل إلى طلوع الفجر، وقيل كانوا يصلون بالليل حتى إذا كان وقت السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار فكان هذا دأبهم في ليلهم. قال نافع: كان ابن عمر يحيي الليل ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول: لا
فيعاود الصلاة فإذا قلت نعم قعد يستغفر ويدعو حتى يصلي الصبح. (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال:
ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له. وفي لفظ مسلم فيقول: أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني الحديث وله في رواية أخرى فيقول: هل من سائل؟ فيعطى هل من داع فيستجاب له؟ هل من مستغفر فيغفر له حتى ينفجر الصبح»
؟ هذا الحديث من أحاديث الصفات وللعلماء فيه وفي أمثاله مذهبان معروفان مذهب السلف الإيمان به وإجراؤه على ظاهره ونفي الكيفية عنه، والمذهب الثاني هو مذهب من يتأول أحاديث الصفات. قال أبو سليمان الخطابي: إنما ينكر هذا الحديث من يقيس الأمور على ما يشاهده من النزول الذي هو تدل من أعلى إلى أسفل، وانتقال من فوق إلى تحت وهذا صفة الأجسام، فأما نزول من لا تستولي عليه صفات الأجسام فإن هذه المعاني غير متوهمة فيه، وإنما هو خبر عن قدرته ورأفته بعباده وعطفه عليهم واستجابته دعاءهم، ومغفرته لهم يفعل ما يشاء لا يتوجه على صفاته كيفية ولا على أفعاله كمية سبحانه ليس كمثله دعاءهم، ومغفرته لهم يفعل ما يشاء لا يتوجه على صفاته كيفية ولا على أفعاله كمية سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وقيل في قوله:
والمستغفرين بالأسحار وصف الله تعالى هؤلاء بما وصف ثم بين أنهم مع ذلك لشدة خوفهم ووجلهم أنهم يستغفرون بالأسحار. وروي أن لقمان قال لابنه: يا بني لا تكن أعجز من الديك فإنه يصوت بالأسحار وأنت نائم الجنة. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ١٩]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)
وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قال الكلبي: نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام والمعنى:
وما اختلف الذين أوتوا الكتاب في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ يعني بيان نعته وصفته في كتبهم. وقال الربيع: إن موسى عليه السلام لما حضره الموت دعا سبعين رجلا من خيار بني إسرائيل وأودعهم التوراة واستخلف يوشع بن نون، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة والاختلاف، بينهم، وهم الذين أوتوا الكتاب وهم من أبناء الملوك السبعين حتى أهرقوا الدماء ووقع الشر والاختلاف، وذلك بعد ما جاءهم العلم يعني بيان ما في التوراة من الأحكام بَغْياً بَيْنَهُمْ أي طلبا بينهم للملك والرياسة فسلط الله عليهم الجبابرة. وقيل: نزلت في نصارى نجران ومعناه وما اختلف الذين أوتوا الكتاب يعني الإنجيل واختلافهم كان في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وما ادعوا فيه من الإلهية إلا من بعد ما جاءهم العلم. يعني بأن الله تعالى واحد أحد وأن عيسى عبده ورسوله بغيا بينهم يعني المعاداة والمخالفة. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيه وعيد وتهديد لمن أصر على الكفر من اليهود والنصارى الذين جحدوا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ٢٠]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
فَإِنْ حَاجُّوكَ أي خاصموك يا محمد في الدين، وذلك أن اليهود والنصارى قالوا: لسنا على ما سميتنا به يا محمد إنما اليهودية والنصرانية نسب والدين هو الإسلام ونحن عليه فأمر الله عز وجل نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يحتج عليهم بأنه اتبع أمر الله الذي هم يقرون به بقوله: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أي انقدت له بقلبي ولساني وجميع جوارحي، وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف جوارح الإنسان الظاهرة إذا خضع وجهه لشيء فقد خضع له سائر جوارحه وقيل: أراد بالوجه العمل أي خلصت عملي لله وقصدت بعبادتي الله وَمَنِ اتَّبَعَنِ يعني ومن أسلم كما
أسلمت أنا وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ يعني مشركي العرب أَأَسْلَمْتُمْ لفظه استفهام ومعناه أمر أي أسلموا فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا يعني إلى الفوز والنجاة في الآخرة، فلما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية على أهل الكتاب قالوا: قد أسلمنا فقال لليهود: أتشهدون أن موسى كليم الله وعبده ورسوله فقالوا: معاذ الله وقال للنصارى: أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله فقالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبدا قال الله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ يعني تبليغ الرسالة. وليس عليك هدايتهم واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في الآية فذهب طائفة إلى أنها محكمة، والمراد بها تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان يحرص على إيمانهم ويتألم لتركهم الإجابة، وذهب طائفة إلى أنها منسوخة بآية السيف لأن المراد بها الاقتصار على التبليغ وهذا منسوخ بآية السيف وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يعني أنه تعالى عالم بمن يؤمن وبمن لا يؤمن. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٢١ الى ٢٣]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني يجحدون القرآن وينكرونه وهم اليهود والنصارى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ كان أنبياء بني إسرائيل يأتيهم الوحي ولم يكن يأتيهم كتاب لأنهم كانوا ملتزمين بأحكام التوراة، فكانوا يذكرون قومهم فيقتلونهم فيقوم رجال ممن آمن بهم وصدقهم فيذكرونهم ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر فيقتلونهم أيضا، فهم الذين يأمرون بالقسط يعني بالعدل من الناس. روى البغوي بسند الثعلبي عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ «قال رجل: قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ إلى أن انتهى إلى قوله وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ثم قال على فراشك. وقيل: هم الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة فعلى هذا القول إنما سميت الصلاة استغفارا لأنهم طلبوا بفعلها المغفرة.
قوله عز وجل: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قيل سبب نزول الآية أن حبرين من أحبار الشام قدما على النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبي صلّى الله عليه وسلّم عرفاه بالصفة فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا وأنت أحمد؟ قال: نعم.
قالا فإنا نسألك عن شيء: فإن أنت أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك قال: اسألاني قالا: فأخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله هذه الآية فأسلم الحبران. وقيل: إن هذه الآية نزلت في نصارى نجران فيما ادعوا في عيسى عليه السلام فقوله تعالى: شهد الله يعني بيّن الله وأظهر لأن معنى الشهادة تبيين وإظهار. وقيل: معنى شهد الله حكم الله وقضى. وقيل: معناه أعلم الله أنه لا إله إلّا هو وذلك بيان الدلائل لما أمكن التوصل إلى معرفة الوحدانية، فهو تعالى أرشد عباده إلى معرفة توحيده بما بين من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته سئل بعض الأعراب ما الدليل على وجود الصانع؟ فقال: إن البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة أما يدلان على وجود الصانع الخبير. قال ابن عباس: خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، فشهد لنفسه بنفسه
233
قبل أن خلق الخلق حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا بر ولا بحر، فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ أي وشهد الملائكة فمعنى شهادة الله تعالى الإخبار والإعلام ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار والاعتراف بأنه لا إله إلّا هو، ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة حسن إطلاق لفظ الشهادة عليهما وَأُولُوا الْعِلْمِ أي وشهد أولوا العلم بأنه لا إله إلا هو، واختلفوا في أولي العلم فقيل: هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم أعلم الخلق بالله تعالى وقيل: هم علماء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المهاجرين والأنصار وقيل: هم علماء مؤمني أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل: هم علماء جميع المؤمنين قائِماً بِالْقِسْطِ أي بالعدل نصب على الحال والقطع أو المدح ومعناه أنه تعالى قائم بتدبير خلقه كما يقال:
فلان قائم بأمر فلان يعني أنه مدبر له ومتعهد لأسبابه، وفلان قائم بحق فلان، أي أنه مجاز له فالله مدبر أمر خلقه وقائم بأرزاقهم ومجاز لهم بأعمالهم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إنما كرره للتأكيد، وقيل إن الأول وصف وتوحيد والثاني رسم وتعليم أي قولوا لا إله إلّا هو. وقيل فائدة تكرارها الإعلام بأن هذه الكلمة أعظم الكلام وأشرفه فيه حث للعباد على تكريرها والاشتغال بها، فإنه من اشتغل بها فقد اشتغل بأفضل العبادات الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يقهر الْحَكِيمُ يعني في جميع أفعاله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ يعني أن الدين المرضي عند الله هو الإسلام كما قال تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وفيه رد على اليهود والنصارى وذلك لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية رد الله عليهم ذلك فقال: إن الدين عند الله الإسلام. وقرئ أن الدين بفتح الهمزة ردا على أن الأولى والمعنى شهد الله أنه لا إله إلّا هو، وشهد أن الدين عند الله الإسلام، وأصل الدين في اللغة الجزاء. يقال كما تدين تدان ثم صار اسما للملة والشريعة، ومعناه الانقياد للطاعة والشريعة، قال الزجاج الدين اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه وأمرهم بالإقامة عليه، والإسلام هو الدخول في السلم وهو الاستسلام والانقياد والدخول في الطاعة. وروى البغوي بسند الثعلبي عن غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش فكنت أختلف إليه فلما كان ذات ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة قام من الليل يتهجد فمر بهذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة إن الدين عند الله الإسلام قالها مرارا. قلت: سمع فيها شيئا فصليت الصبح معه وودعته ثم قلت له: إني سمعتك ترددهما فما بلغك فيها؟ قال: والله لا أحدثك فيها إلى سنة فكتبت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة، فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد قد مضت السنة فقال: حدثني أبو وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يجاء بصاحبها يوم القيامة. فيقول الله عز وجل: إن لعبدي هذا عندي عهدا وأنا أحق من وفي بالعهد أدخلوا عبدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم» فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إنما دخلت الفاء في قوله فبشرهم مع أنه خبر إن لأنه في معنى الجزاء والتقدير من كفر فبشرهم بعذاب أليم يوم القيامة، وهذا محمول على الاستعارة وهو أن إنذار الكفار بالعذاب قام مقام بشرى المحسنين بالثواب، وفي هذه الآية توبيخ لليهود الذين كانوا في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإن كان أسلافهم الذين قتلوا الأنبياء لأنهم رضوا بفعلهم أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أي بطلت أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وبطلان العمل هو أن لا يقبل في الدنيا ولا يجازى عليه في الآخرة وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني يمنعونهم من العذاب. قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أنزلت في اليهود يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ يعني القرآن، وذلك أن اليهود دعوا إلى حكم القرآن فأعرضوا عنه. قال ابن عباس: إن الله جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على
234
غير الهدى فأعرضوا عنه. وروي عن ابن عباس أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل بيت المدارس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله عز وجل فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم. قال: إن إبراهيم كان يهوديا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله الآية. فعلى هذا القول يكون المراد بكتاب الله التوراة.
وروي عنه أيضا أن رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجوا أن تكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم. فقال النعمان بن أوفى وبحري بن عمرو: جرت عليهما يا محمد وليس عليهما الرجم.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بيني وبينكم التوراة» فقالوا: قد أنصفت. فقال من أعلمكم بالتوراة؟ فقالوا رجل أعور يقال له عبد الله بن صوريا يسكن فدك فأرسلوا إليه فقدم المدينة وكان جبريل قد وصفه للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أأنت ابن صوريا؟ قال: نعم قال: أنت أعلم اليهود بالتوراة. قال: كذلك يزعمون. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالتوراة وقال له: اقرأ فقرأ فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها وقرأ ما بعدها فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله قد جاوزها ثم قام ورفع كفه عنها وقرأها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى اليهود وفيها: أن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باليهوديين فرجما فغضبت اليهود لذلك فأنزل الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني علمهم الذي علموه من التوراة يدعون إلى كتاب الله يعني القرآن أو التوراة على اختلاف الروايتين لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي ليقضي بينهم وإضافة الحكم إلى الكتاب هو على سبيل المجاز ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ يعني الرؤساء والعلماء وَهُمْ مُعْرِضُونَ يعني عن الحق وقيل الذين تولوا هم العلماء، والذين أعرضوا هم الأتباع.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٢٤ الى ٢٦]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ يعني ذلك التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ تقدم تفسيره في سورة البقرة وَغَرَّهُمْ أي وأطمعهم فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يحلفون ويكذبون قيل: هو قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه وقيل: هو قولهم: لن تمسنا النار إلّا أياما معدودات وقيل غرهم قولهم نحن على الحق وأنتم على الباطل فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ أي فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم لِيَوْمٍ أي في يوم لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي لا شك فيه أنه كائن وواقع وهو يوم القيامة، وفيه تهديد لهم واستعظام لما أعد لهم في ذلك اليوم، وأنهم يقعون فيما لا حيلة لهم فيه وإن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وطمع فيما لا يكون ولا يحصل لهم. قيل: إن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود تفضحهم على رؤوس الأشهاد ثم يؤمر بهم إلى النار وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقص من حسناتهم إن كانت لهم حسنة ولا يزاد على سيئاتهم. قوله عز وجل: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم دعا ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن عباس: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: إن اليهود قالوا: والله لا نطيع رجلا جاء ينقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم فنزلت هذه الآية قُلِ اللَّهُمَّ معناه يا الله لما حذف حرف النداء زيد الميم في آخره. وقيل: إن الميم فيه معنى آخر
وهو يا الله أمنا بخير أي اقصدنا مالك الملك أي مالك العباد وما ملكوا. وقيل: مالك السموات والأرض، وقيل معناه بيده الملك يؤتيه من يشاء وقيل: معناه مالك الملوك ووارثهم يوم لا يدعي الملك أحد غيره. وفي بعض كتب الله المنزلة أنا الله ملك الملوك ومالك الملك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إلى أعطفهم عليكم.
وقيل: الملك هو القدرة والمالك هو القادر. والمعنى أنه تعالى قادر على كل شيء، وملك على كل مالك، ومملوك وقادر ومقدور. وقيل: معناه مالك الملك أي جنس الملك يتصرف فيه كيف يشاء تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ يعني النبوة لأنها أعظم مراتب الملك، وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم له الأمر على بواطن الخلق وظواهرهم، والملك ليس له الأمر إلّا على ظواهر بعض الخلق وهو من يطيعه منهم وطاعة النبي واجبة على الكافة وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ يعني بذلك نزع النبوة من بني إسرائيل وإيتاءها محمدا صلّى الله عليه وسلّم فإنه لا نبي بعده ولم يشركه في نبوته ورسالته أحد، وقيل: تؤتي الملك من تشاء يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وتنزع الملك ممن تشاء، يعني من أبي جهل وصناديد قريش وقيل تؤتي الملك من تشاء يعني أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وتنزع الملك ممن تشاء يعني فارس والروم. وقيل: تؤتي الملك من تشاء يعني آدم وذريته وتنزع الملك ممن تشاء يعني إبليس وجنوده الذين كانوا في الأرض قبل آدم. وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالنبوة والرسالة وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ يعني اليهود بأخذ الجزية منهم ونزع النبوة عنهم، وقيل: تعز المهاجرين والأنصار، وتذل فارس والروم، وقيل: تعز من تشاء يعني محمدا وأصحابه دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها، وتذل من تشاء يعني أبا جهل وأضرابه حين قتلوا وألقوا في قليب بدر يوم بدر، وقيل: تعز من تشاء بالطاعة وتذل من تشاء بالمعصية، وقيل: تعز من تشاء بالغنى وتذل من تشاء بالفقر، وقيل: تعز من تشاء بالقناعة والرضا، وتذل من تشاء بالحرص والطمع بِيَدِكَ الْخَيْرُ يعني النصر والغنيمة. وقيل: الألف واللام تفيد العموم والمعنى بيدك كل الخيرات. فإن قلت: كيف قال بيدك الخير دون الشر. قلت: لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه الله تعالى إلى عباده المؤمنين وهو الذي أنكرته اليهود والمنافقون فقال: بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك. وقيل: إن قوله بيدك الخير لا ينافي أن يكون بيد غيره، فيكون المعنى بيدك الخير وبيدك ما سواه إلا أنه خص الخير بالذكر لأنه المنتفع به والمرغوب فيه. إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني من إيتاء الملك من تشاء، وإعزاز من تشاء وإذلال من تشاء.
[سورة آل عمران (٣): آية ٢٧]
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
قوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ الآية. لما ذكر الله تعالى أنه مالك الملك أردفه بذكر قدرته الباهرة في حال الليل والنهار، وفي المعاقبة بينهما وحال إخراج الحي من الميت ثم عطف عليه أنه يرزق من يشاء بغير حساب، وفي ذلك دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة لذوي الأفهام والعقول، فهو قادر أن ينزع الملك من فارس والروم واليهود ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم فقوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ يعني تدخل الليل في النهار وهو أن تجعل الليل قصيرا وما نقص منه زائدا في النهار حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة ذلك غاية طول النهار، ويكون الليل تسع ساعات وذلك غاية قصر الليل. وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة وذلك غاية طوله، ويكون النهار تسع ساعات وذلك غاية قصره. وقيل: المراد أنه تعالى يأتي بسواد الليل عقيب ضوء النهار، ويأتي بضوء النهار بعد ظلمة الليل والقول الأول أصح وأقرب إلى معنى الآية لأنه إذا نقص الليل كان ذلك القدر زيادة في النهار وبالعكس وهو معنى الولوج. وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وهو أنه تعالى يخرج الإنسان الحي من النطفة وهي ميتة، ويخرج النطفة من
الإنسان ويخرج الفرخ وهو حي من البيضة وهي ميتة وبالعكس، وكذلك سائر الحيوان. وقيل: يخرج النبات الغض الأخضر من الحب اليابس، ويخرج النخلة من النواة وبالعكس. وقيل: معناه أنه تعالى يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن لأن المؤمن حي الفؤاد، والكافر ميته وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ يعني من غير تضييق ولا تقتير، بل تبسط الرزق لمن تشاء وتوسعه عليه.
[سورة آل عمران (٣): آية ٢٨]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)
قوله عز وجل: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد يبطنون بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود لا يفتنونكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ممن كان يظهر المودة لكفار مكة. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون المشركون واليهود ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية ونهى المؤمنين عن مثل ذلك. وقيل: إن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود فقال يوم الأحزاب: يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو فنزلت هذه الآية.
وقوله: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ يعني أنصارا وأعوانا من دون المؤمنين يعني من غير المؤمنين، والمعنى لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن نهى الله المؤمنين أن يوالوا الكفار أو يلاطفوهم لقرابة بينهم أو محبة أو معاشرة، والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يعني موالاة الكفار من نقل الأخبار إليهم وإظهار عورة المسلمين أو يودهم ويحبهم فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي فليس من دين الله في شيء. وقيل: معناه فليس من ولاية الله في شيء وهذا أمر معقول من أن ولاية المولى معاداة أعدائه وموالاة الله وموالاة الكفار ضدان لا يجتمعان إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً أي إلّا أن تخافوا منهم مخافة. ومعنى الآية أن الله نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلّا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفارا فيداهنهم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يستحل دما حراما أو مالا حراما أو غير ذلك من المحرمات، أو يظهر الكفار على عورة المسلمين، والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع سلامة النية قال الله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ثم هذه التقية رخصة فلو صبر على إظهار إيمانه حتى قتل كان له بذلك أجر عظيم، وأنكر قوم التقية اليوم وقالوا: إنما كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام والمسلمين فليس لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم. قال يحيى البكاء: قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجاج: إن الحسن يقول: التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان فقال سعيد: ليس في الأمان تقية إنما التقية في الحرب. وقيل: إنما تجوز التقية لصون النفس عن الضرر لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي ويخوفكم الله أن تعصوه بأن ترتكبوا المنهي أو تخالفوا المأمور به أو توالوا الكفار فتستحقوا عقابه على ذلك كله. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ يعني أن الله يحذركم عقابه إذا صرتم إليه في الآخرة. قوله عز وجل:

[سورة آل عمران (٣): الآيات ٢٩ الى ٣٠]

قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ يعني ما في قلوبكم من موالاة الكفار ومودتهم وإنما ذكر الصدر لأنه وعاء القلب أَوْ تُبْدُوهُ يعني تبدوا مودة الكفار قولا وفعلا وقيل معناه إن تخفوا ما في قلوبكم من تكذيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو تبدوه أي تظهروه بالحرب والمقاتلة له يَعْلَمْهُ اللَّهُ أي يحفظه عليكم ويجازيكم به، وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني أنه تعالى إذا كان لا يخفى عليه شيء في السموات ولا في الأرض فكيف يخفى عليه حالكم وموالاتكم الكفار وميلكم إليهم بقلوبكم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً يعني تجد كل نفس جزاء ما عملت محضرا يوم القيامة لم ينقص ولم يبخس منه شيء، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ أي تجد ما عملت من الخير محضرا فتسر به وما عملت من سوء تَوَدُّ أي تتمنى لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أي وبين ما عملت من السوء أَمَداً بَعِيداً أي مكانا بعيدا قيل: كما بين المشرق والمغرب والأمد الأجل والغاية، وقيل معناه تود أنها لم تعمله ويكون بينها وبينه أمد بعيد وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ إنما كرره لتأكيد الوعيد وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ قيل: معناه أنه رؤوف بهم حيث حذرهم نفسه وعرفهم كمال قدرته وعلمه، وأنه يمهل ولا يهمل. وقيل: معناه أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة ولتدارك العمل الصالح. وقيل: إنه تعالى لما قال: ويحذركم الله نفسه وهو وعيد أتبعه بقوله والله رؤوف بالعباد، وهو وعد ليعلم العبد المؤمن أن رحمته ووعده غلبت وعيده وسخطه. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٣١ الى ٣٢]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه فنزلت هذه الآية، فعرضها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم فلم يقبلوها. وقال ابن عباس: وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال: يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل فقالت قريش: إنما نعبدها حبا لله لتقربنا إلى الله زلفى فنزلت هذه الآية. وقيل: إن نصارى نجران قالوا: إنما نقول هذا القول في عيسى حبا لله وتعظيما له فأنزل الله قُلْ يا محمد إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فيما تزعمون فاتبعوني يحببكم الله لأنه قد ثبتت نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة فوجب على كافة الخلق متابعته. والمعنى قل: إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله فكونوا منقادين لأوامره مطيعين له فاتبعوني، فإن اتباعي من محبة الله تعالى وطاعته. وقال العلماء: إن محبة العبد لله عبارة عن إعظامه وإجلاله وإيثار طاعته واتباع أمره ومجانبة نهيه، ومحبة الله للعبد ثناؤه عليه ورضاه عنه وثوابه له وعفوه عنه فذلك قوله تعالى: وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ يعني أن من غفر له فقد أزال عنه العذاب وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني أنه تعالى يغفر ذنوب من أحبه ويرحمه بفضله وكرمه، ولما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين لأصحابه: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى ابن مريم فأنزل الله عز وجل: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ يعني أن طاعة الله متعلقة بطاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن طاعته لا تتم مع عصيان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: كل أمر أو نهي ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جرى ذلك في الفريضة واللزوم مجرى ما أمر الله به في كتابه أو نهى عنه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فإن طاعتكم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم طاعتكم لي، فأمّا أن تطيعوني وتعصوا محمدا فلن أقبل منكم. فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن طاعة الله ورسوله فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي لا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم. (خ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلّا من أبى قالوا: ومن
يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى». (ق) عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني». قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٣٣ الى ٣٥]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن من أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونحن على دينهم فأنزل الله هذه الآية. والمعنى أن الله اصطفى هؤلاء بالإسلام وأنتم يا معشر اليهود على غير دين الإسلام. ومعنى اصطفى اختار من الصفوة وهي الخالص من كل شيء آدم هو أبو البشر عليه السلام ونوحا هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام. وحكى ابن الجوزي في تفسيره عن أبي سليمان الدمشقي أن اسم نوح السكن وإنما سمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه وَآلَ إِبْراهِيمَ قيل: أراد بآل إبراهيم إبراهيم نفسه، وقيل آل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وذلك أن الله تعالى جعل إبراهيم أصلا لشعبتين فجعل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أصلا للعرب ومحمد صلّى الله عليه وسلّم منهم فهو داخل في هذا الاصطفاء، وجعل إسحاق أصلا لبني إسرائيل، وجعل فيهم النبوة والملك إلى زمن نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم ثم جمع له ولأمته النبوة والملك إلى يوم القيامة. وقيل: أراد بآل إبراهيم من كان على دينه وَآلَ عِمْرانَ واختلفوا في عمران هذا فقيل: هو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب وهو والد موسى وهارون فيكون آل عمران موسى وهارون أو نفسه، وقيل:
هو عمران بن آشيم بن آمون وقيل: ابن ماتان وهو من ولد سليمان بن داود عليهما السلام وعمران هذا هو والد مريم وابنها عيسى فعلى هذا يكون المراد بآل عمران مريم وابنها عيسى عليه السلام، وإنما خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء والرسل من نسلهم عَلَى الْعالَمِينَ أي اختارهم واصطفاهم على العالمين بما خصهم من النبوة والرسالة ذُرِّيَّةً أي اصطفى ذرية وأصلها من ذرأ بمعنى خلق وقيل: من الذر لأن الله تعالى استخرجهم من ظهر آدم كالذر وإنما سمي الآباء والأبناء ذرية لأن الله خلق بعضهم من بعض، فالأبناء من ذرية الآباء والآباء من ذرية آدم وهو ممن ذرأه الله تعالى أي خلقه بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ أي بعضها من ولد بعض وقيل: بعضها من بعض في التناصر والتعاضد وقيل: بعضها على دين بعض وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يعني أن الله تعالى سميع لأقوال العباد عليم بنياتهم وإنما يصطفي لنبوته ورسالته من يعلم استقامته قولا وفعلا.
قوله عز وجل: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ هي حنة بنت فاقوذا أم مريم وعمران هو عمران بن ماثان وقيل:
ابن أشيم وليس بعمران أبي موسى لأن بينهما ألفا وثمانمائة سنة، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل في ذلك الزمن وأحبارهم وملوكهم رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً أي جعلت الحمل الذي في بطني نذرا محررا مني لك، والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه، والمعنى محررا أي عتيقا خالصا مفرغا لعبادة الله وخدمة الكنيسة لا أشغله بشيء من أمور الدنيا. قيل: كان المحرر عندهم إذا حرر جعل في الكنيسة فيقوم عليها ويخدمها ولا يبرح مقيما فيها حتى يبلغ الحلم ثم يخير فإن أحب أقام فيها، وإن أحب ذهب حيث شاء، فإن اختار الخروج بعد أن اختار الإقامة في الكنيسة لم يكن له ذلك، ولم يكن أحد من أنبياء بني إسرائيل ومن علمائهم إلا ومن أولاده محرر لخدمة بيت المقدس، ولم يكن يحرر إلّا الغلمان ولا تصلح الجارية لخدمة بيت المقدس لما يصيبها من الحيض والأذى فحررت أم مريم ما في بطنها، وكانت القصة في ذلك على ما ذكره أصحاب السير والأخبار أن زكريا وعمران تزوجا أختين فكانت إيشاع بنت فاقوذا وهي أم يحيى عند زكريا، وكانت حنة بنت فاقوذا أخت إيشاع عند عمران وهي أم مريم، وكان قد أمسك عن حنة الولد حتى أيست وكبرت وكانوا أهل بيت
صالحين وهم من الله بمكان، فبينما هي في ظل شجرة إذ بصرت بطائر يطعم فرخا فتحركت نفسها بذلك للولد، فدعت الله أن يهب لها ولدا وقالت: اللهم لك علي إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس، فيكون من سدنته وخدمه فلما حملت بمريم حررت ما في بطنها ولم تعلم ما هو فقال لها زوجها: ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى فلا تصلح لذلك فوقعا جميعا في هم شديد من أجل ذلك. فمات عمران قبل أن تضع حنة حملها ثم قال تعالى حاكيا عنها فَتَقَبَّلْ مِنِّي يعني فتقبل نذري، والتقبل أخذ الشيء على الرضا وأصله من المقابلة لأنه يقابل بالجزاء وهذا سؤال من لا يريد بما فعله إلّا الطلب لرضا الله تعالى والإخلاص في دعائه وعبادته إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ يعني لتضرعي ودعائي الْعَلِيمُ يعني بنيتي وما في ضميري. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ٣٦]
فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦)
فَلَمَّا وَضَعَتْها أي ولدت حملها وإنما قال: وضعتها لأنه كان في علم الله أنها جارية وكانت حنة ترجو أن يكون غلاما قالَتْ يعني حنة رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى تريد بذلك اعتذار إلى الله من إطلاقها النذر المتقدم فذكرت ذلك على سبيل الاعتذار لا على سبيل الإعلام، لأن الله تعالى عالم بما في بطنها قبل أن تضعه وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قرئ بجزم التاء إخبارا عن الله تعالى والمعنى أنه تعالى قال: والله أعلم بالشيء الذي وضعت. وقرئ وضعت برفع التاء وهو من كلام أم مريم على تقدير أنها لما قالت رب: إني وضعتها أنثى خافت أن تكون أخبرت الله بذلك فأزالت هذه الشبهة بقولها والله أعلم بما وضعت وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى يعني في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها، وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره وليس الأنثى كالذكر، والمراد منه تفضيل الذكر على الأنثى لأن الذكر يصلح للخدمة للكنيسة ولا تصلح الأنثى لذلك لضعفها، وما يحصل لها من الحيض لأنها عورة ولا يجوز لها الحضور مع الرجال. وقيل: في معنى الآية: إن المراد منها هو تفضيل هذه الأنثى على الذكر كأنها قالت: كان الذكر مطلوبي لخدمة المسجد وهذه الأنثى هي موهوبة لله تعالى، وليس الذكر التي طلبت كالأنثى التي هي موهبة لله تعالى وكانت مريم من أجمل النساء وأفضلهن في وقتها وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ يعني العابدة والخادمة وهو بلغتهم أرادت بهذه التسمية أن يفضلها الله على إناث الدنيا وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها أي أمنعها وأجيرها بك وذريتها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ يعني اللعين الطريد وذلك أن حنة أم مريم لما فاتها ما كانت تطلب من أن يكون ولدها ذكرا، فإذا هي أنثى تضرعت إلى الله تعالى أن يحفظها ويعصمها من الشيطان الرجيم، وأن يجعلها من الصالحات العابدات. (ق) عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من بني آدم من مولود إلّا نخسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من نخسه إياه إلّا مريم وابنها». ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم «وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم». وللبخاري عنه قال: كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعيه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب ليطعن فطعن في الحجاب. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ٣٧]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ يعني أن الله تعالى تقبل مريم من حنة مكان الذكر المحرر بمعنى قبل ورضي.
قال الزجاج: الأصل في العربية تقبلها بتقبل ولكن قبول محمول على قبلها قبولا كما يقال: قبلت الشيء قبولا إذا رضيته. وقال أبو عمر: ليس في المصادر فعول بفتح الفاء إلّا هذا ولم أسمع فيه الضم. قيل معنى التقبل والقبول واحد وهما سواء وهو أن يرى الشيء ويأخذه. وقيل معنى التكفل في التربية والقيام بشأنها، وإنما قال بقبول
240
للجمع بين الأمرين يعني التقبل الذي بمعنى التكفل والقبول الذي بمعنى الرضا وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً معناه وأنبتها فنبتت هي نباتا حسنا قال ابن عباس في قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ أي سلك بها طريق السعداء:
«وأنبتها نباتا حسنا» يعني سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا قال أهل الأخبار: لما ولدت حنة مريم أخذتها فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأخبار أبناء هارون وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما تلي الحجبة من الكعبة، وقالت: دونكم النذيرة فتنافس فيها الأحبار لأنها بنت إمامهم وصاحب قربانهم قال زكريا: أنا أحق بها لأن خالتها عندي فقالت له الأحبار لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها ولكنا نفترع عليها فتكون عند من خرج سهمه بها، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلا إلى نهر جار قيل: هو الأردن فألقوا أقلامهم في الماء على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها من غيره وكان على كل قلم مكتوب اسم واحد منهم وقيل بل كانوا يكتبون التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ووقف وانحدرت أقلامهم ثم رسبت في النهر.
وقيل جري قلم زكريا مصعدا إلى أعلى وجرت أقلامهم مع جري الماء إلى أسفل فسهمهم زكريا وقرعهم، وكان زكريا رأس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى: وكفلها زكريا قرئ بتشديد الفاء ومعناه وضمنها الله زكريا وضمها إليه بالقرعة. وقرئ بتخفيف الفاء ومعناه ضمها زكريا إلى نفسه بالقرعة وقام بأمرها وهو زكريا بن أذن بن مسلم بن صدوق من أولاد سليمان بن داود عليهما السلام، فلما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها بيتا واسترضع لها المراضع وقيل: ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بني لها محرابا في المسجد وجعل بابه في وسطه ولا يرقى إليه إلّا بسلم ولا يصعد إليها غيره. وكان يأتيها بطعامها وشرابها كل يوم فذلك قوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ يعني الغرفة والمحراب أشرف المجالس ومقدمها، وكذلك هو من المسجد وقيل: المحراب ما يرقى إليه بدرج. وقيل كان زكريا يغلق عليها سبعة أبواب فإذا دخل عليها المحراب وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً يعني فاكهة في غير وقتها فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء قالَ يعني زكريا يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا أي من أين لك هذه الفاكهة قالَتْ يعني مريم مجيبة لزكريا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني من الجنة. وقيل: إن مريم من حين ولدت لم تلقم ثديا بل كان يأتيها رزقها من الجنة فيقول زكريا: يا مريم أنى لك هذا فتقول هو من عند الله تكلمت وهي صغيرة في المهد كما تكلم ولدها عيسى عليه السلام وهو صغير في المهد. وقال محمد بن إسحاق: أصابت بني إسرائيل أزمة وهي على ذلك من حالها حتى ضعف زكريا عن حملها وكفالتها فخرج على بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل تعلمون والله لقد كبرت سني وضعفت عن حمل بنت عمران فأيكم يكفلها بعدي: فقالوا: والله لقد جهدنا وأصابنا من السنة ما ترى فتدافعوها بينهم ثم لم يجدوا من حملها بدا فتقارعوا عليها بالأقلام فخرج السهم لرجل نجار يقال له يوسف بن يعقوب وكان وكان ابن عم لمريم فحملها فعرفت مريم في وجهه شدة ذلك عليه. فقالت: يا يوسف أحسن بالله الظّن فإن الله سيرزقنا، فصار يوسف يرزق لمكانها منه فكان يأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها إذا أدخله عليها في المحراب أنماه الله وزاده فيدخل زكريا عليها فيقول: يا مريم أنى لك هذا فتقول: هو من عند الله إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ وهذا يحتمل أن يكون من تمام كلام مريم أو ابتداء كلام من الله عز وجل ومعناه أن الله تعالى يرزق من يشاء بغير تقدير لكثرته أو من غير سبب، وفي هذه الآية دليل على جواز كرامات الأولياء وظهور خوارق العادات على أيديهم قال أهل الأخبار: فلما رأى زكريا ذلك قال: إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير وقتها وحينها من غير سبب لقادر أن يصلح زوجي ويهب لي ولدا في غير حينه مع الكبر وطمع في الولد. وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا، وكان زكريا قد كبر وشاخ وأيس من الولد فذلك قوله عز وجل:
241

[سورة آل عمران (٣): آية ٣٨]

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨)
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ يعني أنه عليه السلام دخل محرابه وأغلق الأبواب وسأل ربه الولد قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً يعني أنه قال: يا رب أعطني من عندك ولدا مباركا تقيا صالحا رضيا والذرية تطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد هنا الواحد وإنما قال طيبة لتأنيث لفظ الذرية إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ أي سامعه ومجيبه. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ٣٩]
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ يعني جبريل عليه السلام، وإنما أخبر عنه بلفظ الجمع تعظيما لشأنه ولأنه رئيس الملائكة، وقل أن يبعث إلّا ومعه جمع من الملائكة فجرى ذلك على مجرى العادة وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أي في المسجد وذلك أن زكريا عليه السلام كان الخبر الكبير الذي يقرب القربان ويفتح لهم الباب فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول، فبينما هو قائم يصلي في محرابه عند المذبح والناس ينتظرون أن يأذن في الدخول إذا هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع زكريا منه فناداه جبريل عليه السلام يا زكريا أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى أي بولد اسمه يحيى قال ابن عباس: سمي يحيى لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه وقيل: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان وقيل لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يهم بمعصية قط مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ يعني عيسى ابن مريم وإنما سمي عيسى عليه السلام كلمة لأن الله تعالى قال له: كن فكان من غير أب دلالة على كمال القدرة فوقع عليه اسم الكلمة لأنه بها كان. وقيل سمي كلمة لأن عيسى عليه السلام كان يرشد الخلق إلى الحقائق والأسرار ويهتدى به كما يهتدى بكلام الله تعالى فسمي كلمة بهذا الاعتبار. وقيل سمي كلمة لأن الله تعالى بشر به مريم على لسان جبريل عليه السلام: وقيل لأن الله تعالى أخبر الأنبياء الذين قبله في كتبه المنزّلة عليهم أنه يخلق نبيا من غير واسطة أب، فلما جاء قيل: هذا هو تلك الكلمة يعني الوعد الذي وعد أنه يخلقه كذلك، وكان يحيى أول من آمن بعيسى وصدقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر وكانا ابني خالة وقتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليه السلام. وقيل: إن أم يحيى لقيت أم عيسى وهما حاملتان فقالت أم يحيى لأم عيسى: يا مريم أشعرت أني حامل فقالت مريم: وأنا أيضا حامل فقالت أم يحيى: يا مريم إني لأجد ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله: مصدقا بكلمة من الله يعني أن يحيى آمن بعيسى وصدق به وَسَيِّداً من ساد يسود. والسيد هو الرئيس الذي يتبع وينتهي إلى قوله. وكان يحيى عليه السلام سيد المؤمنين ورئيسهم في الدين والعلم والحلم. وقيل: السيد هو الحسن الخلق وقيل: هو الذي يطيع ربه وقيل: هو الفقيه العالم وقيل: سيدا في العلم والعبادة والورع وقال السيد هو الحليم الذي لا يغضبه شيء وقيل: السيد هو الذي يفوق في جميع خصال الخير.
وقيل: هو السخي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: جد بن قيس على أنا نبخله قال وأي داء أدوأ من البخل لكن سيدكم عمرو بن الجموح» وَحَصُوراً قال ابن عباس وغيره من المفسرين: الحصور الذي لا يأتي النساء ولا يقربهن فعلى هذا هو فعول بمعنى فاعل يعني أنه حصر نفسه عن الشهوات وأصله من الحصر وهو الحبس: وقيل: هو العنين وقيل هو الفقير الذي لا مال له فيكون الحصور بمعنى المحصور يعني الممنوع من النساء. قال سعيد بن المسيب: كان له مثل هدبة الثوب وقد تزوج مع ذلك ليغض بصره وفيه قول آخر: وهو أن الحصور هو الممتنع عن الوطء مع القدرة عليه، وإنما تركه للعفة والزهد فيه وهذا القول هو الصحيح وهو قول جماعة من المحققين وهو أليق بمنصب الأنبياء لأن الكلام إنما خرج مخرج المدح والثناء وذكر صفة النقص في معرض المدح لا يجوز، وأيضا فإن منصب النبوة يجل من أن يضاف إلى أحد منهم نقص أو آفة، فحمل
الكلام على منع النفس من الوطء مع القدرة عليه أولى من حمله على ترك الوطء مع العجز عنه وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ يعني أنه من أولاد الأنبياء الصالحين. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ٤٠]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠)
قالَ يعني زكريا رَبِّ أي يا رب قيل خطاب مع جبريل لأن الآية المتقدمة دلت على أن الذين نادوهم الملائكة فعلى هذا القول يكون الرب هنا بمعنى السيد والمربي أي يا سيدي، وقيل: إنه خطاب مع الله تعالى فيكون الرب بمعنى المالك، وذلك أن الملائكة لما بشروه بالولد تعجب ورجع في إزالة ذلك التعجب إلى الله تعالى فقال رب أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ يعني من أين يكون وكيف يكون لي غلام وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ قيل: هو من المقلوب ومعناه وقد بلغت الكبر وشخت. وقيل: معناه وقد نالني الكبر وأدركني الضعف. فإن قلت كيف أنكر زكريا الولد مع تبشير الملائكة إياه به وما معنى هذه المراجعة، ولم تعجب من ذلك بعد وعد الله إياه به أكان شاكا في وعد الله أو في قدرته؟ قلت: لم يشك زكريا عليه السلام في وعد الله وفي قدرته إنما قال ذلك على سبيل الاستفهام والاستعلام والمعنى من أي جهة يكون لي الولد أيكون بإزالة العقر عن زوجتي ورد شبابي علي؟ أو يكون ونحن على حالنا من الكبر والضعف؟ فأجابه بقوله كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ وقال عكرمة والسدي: لما سمع زكريا نداء الملائكة جاءه الشيطان وقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله تعالى، وإنما هو من الشيطان، ولو كان من الله تعالى لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور: فقال ذلك زكريا دفعا للوسوسة واعترض على الجواب بأنه لا يجوز أن يشتبه على الأنبياء كلام الملائكة بكلام الشيطان، إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق بأخبارهم عن الوحي السماوي، وأجيب عن هذا الاعتراض بأنه لما دلت الدلائل على صدق الأنبياء فيم يخبرون به عن الله تعالى بواسطة الملك، فلا مدخل للشيطان فيه وذلك فيما يتعلق بالدين والشرائع، فأما ما يتعلق بمصالح الدنيا وبالولد فقد يحتمل فيه حصول الوسوسة فسأل زكريا ذلك لنزول هذه الوسوسة من خاطره. قال الكلبي: كان زكريا يوم بشر بالولد ابن اثنين وتسعين سنة. وقيل: ابن تسع وتسعين سنة وقال ابن عباس في رواية الضحاك: كان ابن مائة وعشرين سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة فذلك قوله تعالى:
وَامْرَأَتِي عاقِرٌ أي عقيم لا تلد قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ يعني أنه تعالى قادر على هبة الولد على الكبر يفعل ما يشاء لا يعجزه شيء. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٤١ الى ٤٢]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢)
قالَ يعني زكريا يا رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة والشكر لك قالَ آيَتُكَ أي علامتك على الذي طلبت معرفة علمه أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي لا تقدر على تكليم الناس ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أي مدة ثلاثة أيام بلياليها. قال جمهور المفسرين: عقد لسانه عن تكليم الناس ثلاثة أيام مع إبقائه على قدرة التسبيح والذكر ولذلك قال في آخر الآية وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ يعني في أيام منعك من تكليم الناس وهذه من الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة لأن قدرته على التسبيح والذكر مع عجزه عن تكليم الناس بأمور الدنيا. وذلك مع صحة الجسم وسلامة الجوارح من أعظم المعجزات، وإنما منع من الكلام مع الناس ليخلص في هذه الأيام لعبادة الله تعالى وذكره ولا يشغل لسانه بشيء آخر توقيرا منه على قضاء حق هذه النعمة الجسيمة وشكرا لله على إجابته فيما طلب الآية من أجله، وأن يكون ذلك دليلا على وجود الحمل ليتم
سروره بذلك وقال قتادة: إنما أمسك لسانه عن الكلام عقوبة لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه ببشارة الولد فلم يقدر على الكلام ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً يعني الإشارة والإشارة قد تكون باليد وبالعين وبالإيماء بالرأس وكانت إشارته بالإصبع المسبحة. وقيل: الرمز قد يكون باللسان من غير تبين كلام وهو الصوت الخفي شبه الهمس وقيل: أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا والقول الأول أصح لموافقة أهل اللغة عليه وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وذلك لما منعه الله من الكلام في تلك المدة أمره بالذكر فقال: واذكر ربك كثيرا فإنك لا تمنع من ذلك ولا يحال بينك وبينه وَسَبِّحْ أي وعظم ربك ونزهه عن النقائص وقيل: وصل لربك وسميت الصلاة تسبيحا لأن فيها تنزيها للرب سبحانه وتعالى بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ فأما العشي فهو ما بين زوال الشمس إلى غروبها، ومنه سميت صلاتا الظهر والعصر صلاتي العشي والإبكار هو ما بين طلوع الفجر إلى الضحى. قوله عز وجل: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يعني جبريل عليه السلام يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ أي واختارك وَطَهَّرَكِ يعني من مسيس الرجال. وقيل: من الحيض والنفاس. وكانت مريم لا تحيض وقيل: من الذنوب وَاصْطَفاكِ أي واختارك عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ أي على عالمي زمانها وقيل: على جميع نساء العالمين. فإن قلت هل فرق بين الاصطفاء الأول والثاني؟ قلت: ذكر العلماء في معناهما وجوها يتحصل منها الفرق فقيل في معنى الاصطفاء الأول إن الله تعالى اختار مريم وقبلها منذورة محررة ولم تحرر قبلها أنثى ولم يجعل ذلك لغيرها من النساء وأن الله بعث إليها رزقها من عنده وكفلها زكريا ومعنى الإصطفاء الثاني أن الله تعالى وهب لها عيسى من غير أب وأسمعها كلام الملائكة ولم يحصل ذلك لغيرها من النساء (ق) عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يقول: خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد» قال أبو كريب: وأشار وكيع إلى السماء والأرض قيل: أراد وكيع بهذه الإشارة تفسير الضمير في قوله خير نسائها ومعناه أنهما خير كل النساء بين السماء والأرض قال الشيخ محيي الدين النووي: والأظهر أن معناه أن كل واحدة مهما خير نساء الأرض في عصرها، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه. (ق) عن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلّا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» قال العلماء معناه أن الثريد من كل طعام أفضل من المرق وثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد، وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه من غير ثريد وفضل عائشة على النساء كزيادة فضل الثريد على غيره.
وليس في هذا تصريح بتفضيلها على مريم وآسية لاحتمال أن المراد تفضيلها على نساء هذه الأمة عن أنس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون» أخرجه الترمذي. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٤٣ الى ٤٥]
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أي قالت الملائكة لها شفاها أطيعي ربك وقيل: معناه أطيلي القيام في الصلاة لربك. قال الأوزاعي: لما قالت الملائكة لها ذلك قامت حتى تورمت قدماها وسالت دما وقيحا وحكي عن مجاهد نحوه وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ إنما قدم السجود على الركوع لأن الواو لا تقتضي الترتيب إنما هي للجمع كأنه قيل لها: افعلي الركوع والسجود وقيل: إنما قدم السجود على الركوع لأنه كان كذلك في شريعتهم. وقال ابن الأنباري: أمرها أمرا عاما وحضها على فعل الخير فكأنه قال: استعملي السجود في حال والركوع في حال ولم يرد تقديم السجود على الركوع بل أراد العموم بالأمر على اختلاف الحالين. وإنما قال:
244
اركعي مع الراكعين ولم يقل: مع الراكعات لأن لفظ الراكعين أعم فيدخل فيه الرجال والنساء، والصلاة مع الرجال أفضل وأتم. وقيل: معناه افعلي كفعل الراكعين وقيل: المراد به الصلاة في جماعة أي صلى مع المصلين في جماعة. قوله عز وجل: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ يقول الله عز وجل لمحمد صلّى الله عليه وسلّم بذلك الذي ذكرت لك من حديث زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم السلام من أخبار الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي نلقيه إليك يا محمد لأنه لا يمكنك أن تعلم أخبار الأمم الماضين إلّا بوحي منا إليك وإنما قال نوحيه لأنه رد الضمير إلى ذلك فلذلك يذكر اللفظ وَما كُنْتَ يعني يا محمد لَدَيْهِمْ هنالك عندهم إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ يعني التي كانوا يكتبون بها في الماء لأجل الاقتراع أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ يعني يربيها ويقوم بمصالحها قيل سبب منازعتهم في كفالة مريم حتى اقترعوا على ذلك أنها كانت بنت عمران وكان رئيسهم وكبيرهم فلأجل ذلك رغبوا في كفالتها وقيل: لأن مريم حررت لعبادة الله وخدمة المسجد وكان أبوها قد مات فلأجل ذلك رغبوا في كفالتها وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ يعني في كفالتها وتربيتها قوله عز وجل: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ معناه وما كنت لديهم يا محمد إذ يختصمون وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة يعني جبريل عليه السلام: يا مريم إن الله يبشرك والبشارة إخبار المرء بما يسره من خير بكلمة منه يعني برسالة من الله وخير من عنده فهو كقول القائل ألقى إليّ فلان كلمة سرني بها وأخبرني خيرا فرحت به. ومعنى الآية إذ قالت الملائكة لمريم: يا مريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده وهي ولد يولد لك من غير بعل ولا فحل وذلك الولد اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وقال قتادة في قوله تعالى بِكَلِمَةٍ مِنْهُ هو قوله تعالى: كن فسماه الله كلمة لأنه كان عن الكلمة التي هي كن كما يقال لما قدر الله من شيء هذا قدر الله وقضاء الله يعني أن هذا الأمر عن قدره وقضائه حدث. وقال ابن عباس: الكلمة هي عيسى عليه السلام وإنما سمي كلمة لأنه وجد عن الكلمة التي هي كن. فإن قلت إن كل مخلوق إنما يوجد بواسطة الكلمة التي هي كن فلم خص عيسى عليه السلام بهذا الاسم وسماه كلمة دون غيره؟. قلت: إن كل مخلوق وإن وجد حدوثه وخلقه بواسطة الكلمة إلّا أن هذا السبب ما هو المتعارف، ولما كان حدوث عيسى عليه السلام بمجرد الكلمة من غير واسطة أخرى فلا جرم كان إضافة حدوثه إلى الكلمة أتم وأكمل وبهذا التأويل حسن أن يسمى عيسى عليه السلام نفس الكلمة لأنه حدث عنها، فإن قلت الضمير في قوله اسم عائد إلى الكلمة وهي مؤنثة فلم ذكر الضمير؟ قلت: لأن المسمى بها مذكر فلهذا ذكر الضمير. فإن قلت لم قال اسمه المسيح عيسى ابن مريم وهذه ثلاثة الاسم منها واحد وهو عيسى، وأما المسيح فلقب وابن مريم صفة. قلت: الضمير في قوله اسمه يرجع إلى عيسى وللمسمى علامة يعرف بها ويتميز عن غيره فكأنه قال الذي يعرف به ويتميز عن سواه هو مجموع هذه الثلاثة واختلفوا لم سمي عيسى عليه السلام مسيحا وهل هو اسم مشتق أو موضوع؟ فقيل: إنه موضوع واسمه بالعبرانية مشيحا فغيرته العرب وأصل عيسى أيشوع كما قالوا موسى وأصله موشى أو ميشى وقال الأكثرون: إنه اسم مشتق ثم ذكروا فيه وجوها قال ابن عباس: سمي عيسى مسيحا لأنه ما مسح ذا عاهة إلّا برأ منها
وقيل لأنه مسح بالبركة وقيل: لأنه مسح من الأقذار وطهر من الذنوب، وقيل: إنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن. وقيل: لأن جبريل عليه السلام مسحه بجناحه حتى لا يكون للشيطان عليه سبيل. وقيل: لأنه كان يسيح في الأرض ولا يقيم بمكان فكأنه يمسح الأرض أي يقطعها مساحة فعلى هذا القول تكون الميم زائدة وقيل سمي مسيحا لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص له وسمي الدجال مسيحا لأنه ممسوح إحدى العينين وقيل:
المسيح هو الصديق وبه سمي عيسى عليه السلام وقد يكون المسيح بمعنى الكذاب وبه سمي الدجال فعلى هذا تكون هذه الكلمة من الأضداد. وقوله تعالى: وَجِيهاً أي شريفا رفيعا ذا جاه وقدر فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أما وجاهته في الدنيا فبسبب النبوة وأنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى وأما وجاهته في الآخرة فبسبب علو مرتبته عند الله وهو قوله تعالى: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ يعني عند الله يوم القيامة لأن لأهل الجنة منازل ودرجات
245
ومنازل الأنبياء ودرجاتهم أعلى من سواهم وقيل: فيه تنبيه على علو منزلته وأنه رفعه إلى السماء.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٤٦ الى ٤٨]
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)
يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ يعني ويكلم الناس صغيرا وهو في المهد وذلك قبل أوان الكلام ووقته والكلام الذي تكلم به هو ما ذكره الله عنه في سورة مريم وهو قوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ الآية. وتكلم ببراءة أمه مما رماها به أهل الفرية من القذف. ويحكى أن مريم قالت كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدثني وحدثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح وهو في بطني وأنا أسمع ولما تكلم ببراءة أمه سكت بعد ذلك فلم يتكلم إلّا في الوقت الذي يتكلم فيه الصغير قال ابن عباس: تكلم عيسى ساعة ثم سكت ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق وَكَهْلًا يعني ويكلم الناس في حال الكهولة والكهل في اللغة هو الذي اجتمعت قوته وكمل شبابه والكهل عند العرب الذي جاوز الثلاثين وقيل: هو الذي وخطه الشيب، وهو السن الذي يستحكم فيه العقل وتتنبأ فيه الأنبياء. قال ابن قتيبة: لما كان لعيسى ثلاثون سنة أرسله الله تعالى فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله تعالى وقال وهب بن منبه: جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة فمكث في نبوته ثلاث سنين ثم رفعه الله فمعنى الآية أنه يكلم الناس وهو في المهد ببراءة أمه وهي معجزة عظيمة، ويكلم الناس في حال الكهولة بالدعوة والرسالة وقيل: فيه بشارة لمريم أخبرها بأنه يبقى حتى يكتهل وقيل: فيه أخبار بأنه يتغير من حال إلى حال ولو كان إلها كما زعمت النصارى لم يدخل عليه التغيير ففيه رد على النصارى الذين يدعون فيه الألوهية. وقال الحسن بن الفضل: وكهلا يعني ويكلم الناس كهلا بعد نزوله من السماء وفي هذه نص على أنه سينزل من السماء إلى الأرض ويقتل الدجال. وقال مجاهد: الكهل الحكيم والعرب تمدح الكهولة لأنها الحالة الوسطى في احتناك السن واستحكام العقل وجودة الرأي والتجربة وَمِنَ الصَّالِحِينَ يعني أنه من العباد الصالحين مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وغيرهم من الأنبياء وإنما ختم أوصاف عيسى عليه السلام بكونه من الصالحين بعد ما وصفه بالأوصاف العظيمة. لأن الصلاح من أعظم المراتب وأشرف المقامات لأنه لا يسمى المرء صالحا حتى يكون مواظبا على النهج الأصلح والطريق الأكمل في جميع أقواله وأفعاله. فلما وصفه الله تعالى بكونه وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين وأنه يكلم الناس في المهد وكهلا أردفه بقوله ومن الصالحين ليكمل له أعلى الدرجات وأشرف المقامات. قوله عز وجل: قالَتْ يعني مريم رَبِّ يعني يا سيدي تقوله لجبريل لما بشرها بالولد وقيل تقوله لله عز وجل: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ أي من أين يكون لي ولد وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أو لم يصبني رجل وإنما قالت ذلك تعجبا لا شكا في قدرة الله تعالى إذ لم تكن العادة جرت أن يولد ولد من غير أب قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يعني هكذا يخلق الله منك ولدا من غير أن يمسك بشر فيجعله آية للناس وعبرة فإنه يخلق ما يشاء ويصنع ما يريد وهو قوله إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يعني كما يريد وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ يعني الكتابة والخط باليد وَالْحِكْمَةَ يعني العلم والسنة وأحكام الشرائع وَالتَّوْراةَ يعني التي أنزلت على موسى وَالْإِنْجِيلَ يعني الذي أنزل عليه وهذا إخبار من الله تعالى لمريم ما هو فاعل بالولد الذي بشرها به من الكرامة وعلو المنزلة.

[سورة آل عمران (٣): آية ٤٩]

وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف بن يعقوب وآخرهم عيسى ابن مريم عليه السلام فلما بعث إليهم قال أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني بعلامة من ربكم على صدق قولي وإنما قال بآية وقد جاء بآيات كثيرة لأن الكل دل على شيء واحد وهو صدقه في الرسالة، فلما قال ذلك عيسى لبني إسرائيل قالوا: ما هذه الآية؟ قال أَنِّي أَخْلُقُ أي أصور وأقدر لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ والهيئة الصورة المهيأة من قولهم هيأت الشيء إذا قدرته وأصلحته فَأَنْفُخُ فِيهِ أي في الطين المهيأ المصور فَيَكُونُ طَيْراً قرئ بلفظ الجمع لأن الطير اسم جنس يقع على الواحد والاثنين والجمع. وقرئ فيكون طائرا على التوحيد على معنى يكون ما أنفخ فيه طائرا أو ما أخلقه يكون طائرا وقيل إنه لم يخلق غير الخفاش وهو الذي يطير في الليل، وإنما خص الخفاش لأنه من أكمل الطير خلقا وذلك لأنه يطير بلا ريش وله أسنان ويقال: إن الأنثى منه لها ثدي وتحيض ذكروا أن عيسى عليه السلام لما ادّعى النبوة وأظهر لهم المعجزات أخذوا يتعنتون عليه فطلبوا منه أن يخلق لهم خفاشا فأخذ طينا وصوره كهيئة الخفاش، ثم نفخ فيه فإذا هو طير يطير بين السماء والأرض قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عنهم سقط ميتا ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق وهو الله تعالى، وليعلم أن الكمال الله تعالى: بِإِذْنِ اللَّهِ معناه بتكوين الله وتخليقه والمعنى إني أعمل هذا التصوير أنا، فأما خلق الحياة فيه فهو من الله تعالى على سبيل إظهار المعجزة على يد عيسى عليه السلام وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ أي وأشفي الأكمه والأبرص وأصحهما، واختلفوا في الأكمه فقال ابن عباس: هو الذي ولد أعمى وقيل: هو الأعمى وإن كان أبصر وقيل: هو الأعشى وهو الذي يبصر بالليل، والأبرص هو الذي به وضح وكان الغالب على زمان عيسى عليه السلام الطب فأراهم المعجزة من جنس ذلك إلّا أنه ليس في علم الطب إبراء الأكمه والأبرص فكان ذلك معجزة له ودليلا على صدقه. وقال وهب: ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى في اليوم الواحد نحو خمسين ألفا فمن أطاق أن يمشي إليه مشى، ومن لم يطق مشى عيسى عليه السلام إليه وكان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان برسالته وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ قال ابن عباس: قد أحيا أربعة أنفس عازر وابن العجوز وابنة العاشر وسام بن نوح وكلهم بقي وولد له إلّا سام بن نوح فأما عازر فكان صديقا لعيسى عليه السلام فأرسلت إليه أخت عازر إن أخاك عازر يموت وكان بينهما مسيرة ثلاثة أيام فأتاه عيسى وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت بهم إلى قبره فدعا الله عيسى فقام عازر حيا بإذن الله تعالى فخرج من قبره وعاش وولد له. وأما ابن العجوز فإنه مر به وهو ميت على عيسى عليه السلام يحمل على السرير فدعا الله عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وأتى أهله وولد له، وأما ابنة العاشر فكان أبوها يأخذ العشور من الناس وماتت بالأمس فدعا الله عيسى فأحياها بدعوته فعاشت وولد لها، وأما سام بن نوح فإن عيسى جاء إلى قبره ودعا الله باسمه الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال: قد قامت الساعة فقال عيسى عليه السلام: لا ولكن دعوتك باسم الله الأعظم ثم قال له: مت فقال: بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت مرة أخرى فدعا الله عيسى ففعل وَأُنَبِّئُكُمْ يعني وأخبركم بِما تَأْكُلُونَ أي مما لم أعاينه وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ أي وما ترفعونه فتخبؤونه في بيوتكم لتأكلوه فيما بعد ذلك، قيل: كان عيسى عليه السلام يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما يأكله اليوم وبما يدخره للعشاء. وقيل كان في الكتاب يحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم ويقول للغلام: انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا وقد رفعوا لك كذا فينطلق الصبي فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون من أخبرك بهذا؟ فيقول عيسى
فحبسوا صبيانهم عنه وقالوا: لا تقعدوا مع ذلك
الساحر وجمعوهم في بيت فجاء عيسى يطلبهم فقالوا: ليسوا هنا فقال: وما في البيت؟ قالوا خنازير فقال كذلك يكونون. ففتحوا عليهم الباب فإذا هم خنازير ففشا ذلك في بني إسرائيل وظهر فهموا به فخافت عليه أمه فحملته على حمار لها وخرجت هاربة إلى مصر. وقال قتادة: إنما كان هذا في نزول المائدة وكان خوانا ينزل عليهم أينما كانوا فيه من طعام الجنة وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا الغد فخانوا وادخروا، فكان عيسى عليه السلام يخبرهم بما أكلوا من المائدة وما ادخروا منها فمسخهم الله خنازير وفي هذا دليل قاطع على صحة نبوة عيسى عليه السلام ومعجزة عظيمة له، وهي إخباره عن المغيبات مع ما تقدم له من الآيات الباهرات من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى وإخباره عن الغيوب بإعلام الله إياه ذلك وهذا مما لا سبيل لأحد من البشر عليه إلّا الأنبياء عليهم السلام، فإن قلت قد يخبر المنجم والكاهن عن مثل ذلك فما الفرق؟. قلت: إن المنجم والكاهن لا بد لكل واحد منهما من مقدمات يرجع إليها ويعتمد في أخباره عليها، أما المنجم فإنه يستعين على ذلك بواسطة معرفة الكواكب وامتزاجاتها أو بواسطة حساب الرمل أو نحو ذلك وقد يخطئ في كثير مما يخبر به، وأما الكاهن فإنه يستعين برائد من الجن وقد يخطئ أيضا في كثير مما يخبر به وأما أخبار الأنبياء عليهم السلام عن المغيبات فليس إلّا بالوحي السماوي وهو من الله تعالى وليس ذلك باستعانة بواسطة حساب ولا غيره فحصل الفرق إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي تقدم ذكره من خلق الطير من الطين بإذن الله وإبراء والأكمه والأبرص والإخبار عن المغيبات لَآيَةً لَكُمْ أي لعبرة ودلالة على صدق أني رسول من الله إليكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني مصدقين بذلك.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
وَمُصَدِّقاً قيل: إنه عطف على قوله ورسولا وقيل إنه عطف على أني قد جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ المعنى وجئتكم مصدقا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وذلك لأن الأنبياء عليهم السلام يصدق بعضهم بعضا فكل واحد منهم يصدق الذي قبله ويصدق بما أنزل الله من الكتب والشرائع والأحكام فلهذا قال عيسى عليه السلام مصدقا لما بين يدي من التوراة وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ قال وهب بن منبه: أن عيسى كان على شريعة موسى عليهما السلام وكان يسبت ويستقبل بيت المقدس وقال لبني إسرائيل: إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلّا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وأضع عنكم الآصار وذلك أن الله تعالى كان قد حرم على اليهود بعض الأشياء عقوبة لهم على بعض ما صدر منهم من الخيانات كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فبقي ذلك التحريم مستمرا على اليهود إلى أن جاء عيسى عليه السلام فرفع عنهم تلك التشديدات التي كانت عليهم وقال قتادة: كان الذي جاء به عيسى ألين من الذي جاء به موسى وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل والثروب والشحوم وأشياء من الطير والحيتان زاد بعضهم فجاءهم عيسى بالتخفيف وأحلها لهم وقال آخرون إن عيسى عليه السلام رفع كثيرا من أحكام التوراة ورفع السبت ووضع الأحد وكان ذلك كله بأمر الله فكان ذلك ناسخا لتلك الأحكام والشرائع والناسخ والمنسوخ حق وصدق وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بحجة واضحة شاهدة على صحة رسالتي ثم خوفهم بقوله فَاتَّقُوا اللَّهَ يعني يا معشر بني إسرائيل فيما أمركم به ونهاكم عنه وَأَطِيعُونِ يعني فيما أدعوكم إليه لأن طاعة الرسول من توابع تقوى الله وما أدعوكم إليه هو قولي إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ لأن جميع الرسل كانوا على دين واحد وهو التوحيد ولم يختلفوا في الله تعالى وفي هذه الآية حجة بالغة على نصارى وفد نجران ومن قال بقولهم من سائر النصارى بإخبار الله عن عيسى عليه السلام أنه كان بريئا مما نسبه إليه النصارى وأنه كان عبد الله وخصه بنبوته ورسالته ثم ختم ذلك بقوله: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يعني التوحيد. قوله عز وجل:

[سورة آل عمران (٣): آية ٥٢]

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ أي وجد وعرف وقيل: رأى والإحساس عبارة عن وجدان الشيء بالحاسة والمعنى أنهم تكلموا بكلمة الكفر فأحس ذلك عيسى منهم وعرف إصرارهم عليه وعزمهم على قتله.
(ذكر سبب القصة:) قال أهل الأخبار والسير: لما بعث الله عيسى إلى بني إسرائيل وأمره بإظهار رسالته والدعاء إليه نفوه وأخرجوه من بينهم، فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض فنزلا في قرية على رجل فأضافهما وأحسن إليهما وكان لتلك القرية ملك جبار معتد فجاء ذلك الرجل في بعض الأيام وهو مهموم حزين فدخل منزله عند امرأته فقالت مريم: ما شأن زوجك أراه كئيبا حزينا فقالت: لا تسأليني فقالت مريم: أخبريني لعل الله أن يفرج كربته قالت المرأة: إن لنا ملكا جبارا وقد جعل على كل رجل منا يوما يطعمه فيه هو وجنوده ويسقيهم الخمر وإن لم يفعل ذلك عاقبه واليوم نوبتنا وليس عندنا سعة لذلك فقالت لها قولي له: لا يهتم لذلك فأنا آمر ابني أن يدعو له فيكفي ذلك ثم قالت مريم لعيسى في ذلك فقال عيسى: إن فعلت ذلك وقع شر فقالت مريم: لا نبالي فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا فقال عيسى: قولي له إذا قرب ذلك الوقت فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني، ففعل الرجل ذلك ثم دعا الله عيسى عليه السلام فتحول ماء القدور مرقا ولحما وماء الخوابي خمرا لم تر الناس مثله، فلما جاء الملك وأكل من ذلك الطعام وشرب من ذلك الخمر قال من أين لك هذا الخمر؟ فقال الرجل: هو من أرض كذا فقال الملك: إن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه فقال: هي من أرض أخرى فلما رآه الملك اختلط شدد عليه فقال الرجل: أنا أخبرك أن عندي غلاما لا يسأل الله شيئا إلّا أعطاه إياه، وأنه دعا الله تعالى فجعل الماء خمرا وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه في ملكه وقد مات قبل ذلك بأيام وكان يحبه حبا شديدا فقال الملك: إن رجلا دعا الله تعالى حتى صار الماء خمرا بدعوته ليستجيبن له في إحياء بني فطلب عيسى وكلمه في ذلك فقال له عيسى لا تفعل فإنه إن عاش وقع شر فقال الملك: لا أبالي أليس أراه فقال: عيسى: إن أنا أحييته تتركني أنا وأمي نذهب حيث نشاء؟ قال: نعم فدعا الله عيسى فعاش الغلام فلما رآه أهل مملكة الرجل فقد عاش فبادروا إلى السلاح وقالوا: قد أكلنا هذا الملك حتى إذا دنا أجله يريد أن يستخلف علينا ابنه ليأكلنا كما أكلنا أبوه فقاتلوه وظهر أثر عيسى فقصدوا قتله وكفروا به وقيل: إن اليهود كانوا عارفين بأنه المسيح المبشر به في التوراة وأنه ينسخ دينهم فلما أظهر عيسى الدعوة اشتد ذلك عليهم فأخذوا في أذاه وطلبوا قتله وكفروا به فاستنصر عليهم كما أخبر الله عز وجل عنه بقوله قالَ يعني عيسى عليه السلام مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي مع الله وقيل: معناه إلى أن أبين أمر الله وأظهر دينه وقيل: إلى بمعنى في أي في ذات الله وسبيله وقيل: إلى في موضعها والمعنى من يضم نصرته إلى نصرة الله لي قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وذلك أن عيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الله تعالى وتمردوا عليه وكفروا به خرج يسيح في الأرض فمر بجماعة يصطادون السمك، وكانوا اثنى عشر ورئيسهم شمعون ويعقوب فقال عيسى عليه السلام: ما تصنعون؟ قالوا: نصيد السمك قال: أفلا تمشون حتى نصيد الناس قالوا: ومن أنت؟ قال أنا عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فسألوه آية تدلهم على صدقه وكان شمعون قد رمي بشبكته في الماء فدعا الله عيسى فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق من كثرته فاستعانوا بأهل سفينة أخرى وملؤوا السفينتين من السمك فعند ذلك آمنوا به وانطلقوا معه واختلف في الحواريين فقيل:
كانوا يصطادون السمك فلما آمنوا بعيسى صاروا يصطادون الناس ويهدونهم إلى الدين، سموا حواريين لبياض ثيابهم يقال: حورت الشيء بمعنى بيضته: وقيل: كانوا قصارين سموا بذلك لأنهم كانوا يحورون الثياب أي
يبيضونها. وقيل: إن مريم سلمت عيسى إلى أعمال شتى فكان آخر من سلمته إليه الحواريين وكانوا قصارين وصباغين فدفعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر فقال لعيسى: إنك قد تعلمت هذه الصنعة وأنا خارج إلى السفر ولا أرجع إلى عشرة أيام وهذه ثياب مختلفة الألوان، وقد علمت كل واحد منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فأريد أن تفرغ منها وقت وقدومي. وخرج المعلم إلى سفره فطبخ عيسى حبا واحدا على لون واحد وأدخل فيه جميع الثياب وقال؟ كوني بإذن الله على ما أريد منك ثم قدم الحواري والثياب كلها في الحب فقال لعيسى: ما فعلت؟ قال قد فرغت منها قال وأين هي؟ قال في الحب قال كلها: قال: نعم قال لقد أفسدت علي الثياب قال عيسى: لا ولكن قم فانظر وقام عيسى وأخرج ثوبا أحمر وثوبا أخضر وثوبا أصفر وثوبا أسود حتى أخرجها كلها على الألوان التي يريد الحواري فجعل الحواري يتعجب من ذلك وعلم أن ذلك من الله تعالى فقال للناس: تعالوا فانظروا فآمن به هو وأصحابه وهم الحواريون. وقيل: سموا حواريين لصفاء قلوبهم ولما ظهر عليهم من أثر العبادة ونورها وقيل: الحواريون الأصفياء وكانوا أصفياء عيسى وخاصته وقيل: الحواريون هم الخلفاء وقيل: هم الوزراء وكانوا خلفاء عيسى ووزراؤه وقيل: الحواريون هم الأنصار والحواري الناصر والحواري الرجل الذي يستعان به (ق) عن جابر بن عبد الله قال: ندب النبي صلّى الله عليه وسلّم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير قال الحواريون: نحن أنصار الله يعني أنصار دين الله ورسوله وأعوانه آمَنَّا بِاللَّهِ أي صدقنا بأن الله ربنا ورب كل شيء وَاشْهَدْ يعني أنت يا عيسى بِأَنَّا مُسْلِمُونَ قيل: معناه واشهد بأنا منفادون لما تريد من نصرك والذب عنك ومستسلمون لأمر الله عز وجل وقيل: هو إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين عيسى وكل الأنبياء قبله لا اليهودية والنصرانية.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٥٣ الى ٥٤]
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤)
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ يعني قال الحواريون بعد إشهاد عيسى عليهم بأنهم مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت يعني بكتابك الذي أنزلته على عيسى عليه السلام وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ يعني عيسى فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ يعني الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق واتبعوا أمرك ونهيك فأثبت أسماءنا مع أسمائهم واجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين الذين سألوا الحواريون أن يكونوا معهم مزيد فضل عليهم فلهذا قال ابن عباس في قوله: فاكتبنا مع الشاهدين أي مع محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته لأنهم المخصوصون بتلك الفضيلة فإنهم يشهدون للرسل بالبلاغ وقيل: مع الشاهدين يعني النبيين لأن كل نبي شاهد على أمته قوله عز وجل: وَمَكَرُوا يعني كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر وأصل المكر صرف الغير عما يقصده بضرب من الحيلة وقيل:
هو السعي بالفساد في الخفية فأما مكرهم بعيسى فإنهم دبروا في قتله وهموا به وذاك أن عيسى عليه السلام بعد أن أخرجه قومه هو وأمه رجع مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة وأظهر رسالته إليهم فهموا بقتله والفتك به فلذلك مكرهم والمكر من الخلق الخبيث والخديعة والحيلة وَمَكَرَ اللَّهُ أي جازاهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الابتداء لأنه في مقابلته وقيل: مكر الله استدراج العبد وأخذه بغتة من حيث لا يحتسب ومكر الله في هذه الآية خاصة هو إلقاء الشبه على صاحبهم الذي دلهم على عيسى حين أرادوا قتله حتى قتل قال ابن عباس أن عيسى عليه السلام استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحر والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه، فلما سمع عيسى ذلك دعا عليهم ولعنهم فمسخوا خنازير فلما رأى ذلك يهودا رأس اليهود وملكهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى وساروا إليه ليقتلوه فبعث الله عز وجل جبريل فأدخله
خوخة في سقفها روزنة فرفعه الله من تلك الروزنة وأمر يهودا ملك اليهود رجلا من أصحابه يقال له ططيانوس أن يدخل الخوخة فيقتله ظنوا أنه عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه. وقال وهب بن منبه: إن اليهود طرقوا عيسى في بعض الليل ونصبوا له خشبة ليصلبوه عليها فأظلمت الأرض وأرسل الله عز وجل الملائكة فحالت بينهم وبينه فجمع عيسى عليه السلام الحواريين تلك الليلة وأوصاهم وقال: ليكفر بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إلى اليهود وقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه، فلما دخل البيت الذي فيه المسيح ألقى الله شبه عيسى عليه ورفع الله عيسى عليه السلام وأخذ الذي دل عليه فقال: أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله فقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى فلما صلب الذي ألقي عليه شبه عيسى جاءت مريم وامرأة أخرى كان عيسى دعا لها فأبرأها الله من الجنون بدعوته فجعلتا تبكيان عند المصلوب فجاءهما عيسى عليه السلام وقال: على من تبكيان إن الله عز وجل قد رفعني ولم يصبني إلّا خير وهذا شيء شبه لهم فلما كان بعد سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى أهبط إلى مريم المجدلانية وهو اسم موضع نسبت إليه فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحزن عليك أحد حزنها ثم لتجمع لك الحواريين فبثهم في الأرض دعاة إلى الله عز وجل فأهبطه الله عز وجل إليها فاشتعل الجبل نورا حين هبط فجمعت له الحواريين فبثهم دعاة في الأرض ثم رفعه الله فتلك الليلة التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون تكلم كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم فذلك قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ يعني وهو أفضل المجازين بالسيئة العقوبة. وقال السدي: إن اليهود حبست عيسى عليه السلام في بيت ومعه عشرة من الحواريين فدخل عليهم رجل منهم كان قد نافق ألقى عليه شبه فأخذ وقتل وصلب وقال قتادة ذكر لنا أن نبي الله عيسى عليه السلام قال لأصحابه أيكم يقذف عليه شبهي فإنه مقتول فقال رجل منهم: أنا يا نبي الله فقتل ذلك الرجل ومنع الله عيسى ورفعه إليه وكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة الطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وصار إنسا ملكيا أرضيا سماويا. قال أهل التاريخ:
حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة وولدته ببيت لحم من أرض أوري شلم لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل، وأوحى الله إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة ورفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين وعاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين.
قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ٥٥]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ اختلفوا في معنى التوفي هنا على طريقين: فالطريق الأول أن الآية على ظاهرها من غير تقديم ولا تأخير وذكروا في معناها وجوها: الأول: معناه أني قابضك ورافعك إلي من غير موت من قولهم توفيت الشيء واستوفيته إذا أخذته وقبضته تاما، والمقصود منه هنا أن لا يصل أعداؤه من اليهود إليه بقتل ولا غيره. الوجه الثاني: أن المراد بالتوفي النوم ومنه قوله عز وجل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والتي لم تمت في منامها فجعل النوم وفاة، وكان عيسى قد نام فرفعه الله وهو نائم لئلا يلحقه خوف، فمعنى الآية أني منيمك ورافعك إلى الوجه الثالث أن المراد بالتوفي حقيقة الموت، قال ابن عباس: معناه أني مميتك قال وهب بن منبه: إن الله توفى عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم أحياه ثم رفعه إليه وقيل: إن النصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه إليه. الوجه الرابع: أن الواو في قوله ورافعك إلي لا تفيد الترتيب والآية تدل على أن الله تعالى يفعل به ما ذكر فأما كيف يفعل؟ ومتى يفعل؟ فالأمر فيه موقوف على
الدليل. وقد ثبت في الحديث أن عيسى سينزل ويقتل الدجال وسنذكره إن شاء الله تعالى. الوجه الخامس: قال أبو بكر الواسطي: معناه أني متوفيك عن شهواتك وعن حظوظ نفسك ورافعك إلي ذلك أن عيسى عليه السلام لما رفع إلى السماء صارت حالته حالة الملائكة في زوال الشهوة. الوجه السادس: أن معنى التوفي أخذ الشيء وافيا ولما علم الله تعالى أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله إليه هو روحه دون جسده كما زعمت النصارى أن المسيح رفع لاهوته يعني روحه وبقي في الأرض ناسوته يعني جسده فرد الله عليهم بقوله إني متوفيك ورافعك إلي فأخبر الله تعالى أنه رفع بتمامه إلى السماء بروحه وجسده جميعا. الطريق الثاني: أن في الآية تقديما وتأخيرا تقديره أني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالك إلى الأرض وقيل: لبعضهم هل تجد نزول عيسى إلى الأرض في القرآن؟ قال: نعم قوله تعالى وكهلا وذلك لأنه لم يكتهل في الدنيا وإنما معناه وكهلا بعد نزوله من السماء. (ق) عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد زاد وفي رواية حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن به قبل موته وفي رواية كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم. وفي رواية فأمكم منكم قال ابن أبي ذؤيب: تدري ما أمكم منكم؟ قلت فأخبرني قال فأمكم كتاب ربكم عز وجل وبسنة نبيكم صلّى الله عليه وسلّم وفي إفراد مسلم من حديث النواس بن سمعان قال: فبينما هما إذ بعث الله المسيح ابن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ليس بيني وبينه يعني عيسى نبي وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله الملل في زمانه كلها إلّا الإسلام ويهلك المسيح الدجال ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون أخرجه أبو داود ونقل بعضهم أن عيسى عليه السلام يدفن في حجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقوم أبو بكر وعمر يوم القيامة بين نبيين محمد وعيسى عليهما السلام. قوله عز وجل: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مخرجك من بينهم ومنجيك منهم وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني وجاعل الذين اتبعوك في التوحيد وصدقوا قولك وهم أهل الإسلام من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فوق الذين كفروا بالعز والنصر والغلبة بالحجة الظاهرة.
وقيل: هم الحواريين الذين اتبعوا عيسى على دينه وقيل: هم النصارى فهم فوق اليهود وذلك لأن ملك اليهود قد ذهب ولم يبق لهم مملكة وملك النصارى باق فعلى هذا القول يكون الاتباع بمعنى المحبة والادعاء لا اتباع الدين لأن النصارى وإن أظهروا متابعة عيسى عليه السلام فهم أشد مخالفة له وذلك أن عيسى عليه السلام لم يرض بما هم عليه من الشرك، والقول الأول هو الأصح لأن الذين اتبعوه هم الذين شهدوا له بأنه عبد الله ورسوله وكلمته وهم المسلمون وملكهم باق إلى يوم القيامة ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ يعني يقول الله عز وجل: إلي مرجع الفريقين في الآخرة الذين اتبعوا عيسى وصدقوا به والذين كفروا به فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يعني من الحق في أمر عيسى ثم بين ذلك الحكم فقال تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٥٦ الى ٥٩]
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا الذين جحدوا نبوة عيسى وخالفوا ملته وقالوا فيه ما قالوا من الباطل ووصفوه بما لا ينبغي من سائر اليهود والنصارى فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا يعني بالقتل والسبي والذلة وأخذ الجزية منهم
252
وَالْآخِرَةِ أي وأعذبهم في الآخرة بالنار وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني مانعين يمنعونهم من عذابنا وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا يعني بعيسى عليه السلام وصدقوا بنبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني عملوا بما فرضت عليهم وشرعت لهم فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ يعني جزاء أعمالهم لا ينقص منه شيء وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي لا يحب من ظلم غيره حقا له أو وضع شيئا في غير موضعه والمعنى أنه تعالى لا يرحمهم ولا يثني عليهم بجميل ثم قال تعالى: ذلِكَ يعني الذي ذكرته لك من أخبار عيسى وأمه مريم والحواريين وغير ذلك من القصص نَتْلُوهُ عَلَيْكَ أي نخبرك به يا محمد على لسان جبريل، وإنما أضاف ما يتلوه جبريل عليه السلام إلى نفسه سبحانه تعالى لأنه من عنده وبأمره من غير تفاوت أصلا فأضافه إليه مِنَ الْآياتِ يعني من القرآن وقيل الآيات يعني العلامات الدالة على نبوتك يا محمد لأنها أخبار لا يعلمها إلّا من يقرأ ويكتب أو نبي يوحى إليه وأنت أمي لا تقرأ ولا تكتب فثبت أن ذلك من الوحي السماوي الذي أنزل عليك وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ أي المحكم الممنوع من الباطل قيل المراد من الذكر الحكيم القرآن لأنه حاكم يستفاد منه. جميع الأحكام وقيل: الذكر الحكيم هو اللوح المحفوظ الذي منه تنزلت جميع كتب الله على رسله وهو لوح من درة بيضاء معلق بالعرش.
قوله عز وجل: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ الآية. أجمع أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في محاجة نصارى وفد نجران قال ابن عباس: إن رهطا من أهل نجران قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم: كان فيهم السيد والعاقب فقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما شأنك تذكر صاحبنا فقال من هو؟ قالوا: عيسى تزعم أنه عبد الله فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم أجل إنه عبد الله فقالوا له: فهل رأيت له مثلا أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده فجاءه جبريل عليه السلام فقال: قل لهم إذا أتوك إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب وقيل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول فغضبوا وقالوا: يا محمد هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فأنزل الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ أي في الخلق والإنشاء في كونه خلقه من غير أب كمثل آدم في كونه خلقه من تراب من غير أب وأم، ومعنى الآية أن صفة خلق عيسى من غير أب كصفة آدم في كونه خلقه من تراب لا من أب وأم، فمن أقر بأن الله خلق آدم من التراب اليابس وهو أبلغ في القدرة، فلم لا يقر بأن الله خلق عيسى من مريم من غير أب بل الشأن في خلق آدم أعجب وأغرب وتم الكلام عند قوله كمثل آدم لأنه تشبيه كامل ثم قال تعالى: خلقه من تراب فهو خير مستأنف على جهة التفسير لحال خلق آدم في كونه خلقه من تراب أي قدره جسدا من طين ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ أي أنشأه خلقا بالكلمة، وكذلك عيسى أنشأه خلقا بالكلمة فعلى هذا القول ذكروا في الآية إشكالا وهو أنه تعالى قال: خلقه من تراب ثم قال له: كن فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدما على قوله كن ولا تكوين بعد الخلق. وأجيب عن هذا الإشكال بأن الله تعالى أخبر بأنه خلقه من تراب لا من ذكر وأنثى ثم ابتدأ خبرا آخر. فقال: إني أخبركم أيضا أني قلت له كن فكان من غير ترتيب في الخلق كما يكون في الولادة، ويحتمل أن يكون المراد أنه تعالى خلقه جسدا من تراب ثم قال له: كن بشرا فكان يصح النظم وقيل:
الضمير في قوله كن يرجع إلى عيسى عليه السلام وعلى هذا إشكال في الآية. فإن قلت: كيف شبه عيسى عليه السلام بآدم عليه السلام وقد وجد عيسى من غير أب ووجد آدم من غير أب ولا أم. قلت: هو مثله في أحد الطرفين فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به، لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ولأنه شبه به في أنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران لأن الوجود من غير أب وأم أغرب في العادة من الوجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه. وحكي أن بعض العلماء أسر في بعض بلاد الروم فقال لهم: لم تعبدون عيسى؟ قالوا:
لأنه لا أب له قال: فآدم أولى لأنه لا أب له ولا أم قالوا: وكان يحيي الموتى فقال: حزقيل أولى لأن عيسى أحيا
253
أربعة نفر وأحيا حزقيل أربعة آلاف: قالوا: وكان يبرئ الأكمه والأبرص قال: فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سليما وقوله كُنْ فَيَكُونُ قال ابن عباس: معناه كن فكان فأريد بالمستقبل الماضي وقيل: معناه ثم قال له: كن وأعلم يا محمد أن قال له ربك كن فإنه يكون لا محالة.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٦٠ الى ٦١]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الذي أخبرتك به من تمثيل عيسى بآدم هو الحق من ربك فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي من الشاكين إن ذلك كذلك وهذا خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أمته لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يشك قط فهو كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ والمعنى فلا تكن من الممترين يا أيها السامع كائنا من كان لهذا التمثيل والبرهان الذي ذكر فهو من باب التهيج لزيادة الثبات والطمأنينة.
قوله عزّ وجلّ: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي فمن جاد لك في عيسى وقيل في الحق مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يعني بأن عيسى عبد الله ورسوله فَقُلْ تَعالَوْا أي هلموا والمراد منه المجيء وأصله من العلو بالرأي والعزم كما تقول تعال نتفكر هذه المسألة نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ أي يدع كل منا ومنكم إبناءه وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ قيل: أراد بالأبناء الحسن والحسين وبالنساء فاطمة وبالنفس صلّى الله عليه وسلّم وعليا رضي الله عنه وقيل هو على العموم لجماعة أهل الدين ثُمَّ نَبْتَهِلْ قال ابن عباس: نتضرع في الدعاء وقيل: معناه نجتهد ونبالغ في الدعاء. وقيل: معناه نلتعن والابتهال الالتعان يقال عليه بهلة الله أي لعنة الله فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ يعني منا ومنكم في أمر عيسى قال المفسرون: لما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غدا فلما خلا بعضهم ببعض قالوا للعاقب: وكان كبيرهم وصاحب رأيهم ما ترى يا عبد المسيح قال لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل، ولئن فعلتم ذلك لتهلكن فإن أبيتم إلّا الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي يمشي خلفها والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول لهم: إذا دعوت فأمنوا فلما رآهم أسقف نجران قال: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل أهله لأزاله من مكانه فلا تبتهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نباهلك وأن نتركك على دينك وتتركنا على ديننا فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فأبوا ذلك. فقال: إني أناجز فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكنا نصالحك على ما لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا وأن نؤدي إليك في كل سنة ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب زاد في رواية وثلاثا وثلاثين درعا عادية وثلاثة وثلاثين بعيرا وأربعا وثلاثين فرسا غازية فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ذلك وقال: «والذي نفسي بيده إن العذاب تدلى على أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولا ستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا». فإن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلّا لتبيين الصادق من الكاذب منه ومن خصمه وذلك يختص به وبمن يباهله فما معنى ضم الأبناء والنساء في المباهلة. قلت ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه، فلذلك ضمهم في المباهلة، ولم يقتصر على تعريض نفسه لذلك وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك استئصال إن تمت المباهلة، وإنما خص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلب وربما فداهم الرجل بنفسه، وحارب دونهم حتى يقتل وإنما قدمهم في الذكر على النفس لينبه بذلك على لطف مكانهم وقرب
منزلتهم، وفيه دليل قاطع وبرهان واضح على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه لم يرو أحد من موافق ومخالف أنهم أجابوا إلى المباهلة لأنهم عرفوا صحة نبوته وما يدل عليها في كتبهم. قوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٦٢ الى ٦٤]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
إِنَّ هذا يعني الذي قص عليك يا محمد من خبر عيسى عليه السلام وأنه عبد الله ورسوله لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وأصله من القصص وهو تتبع الأثر والقصص الخبر الذي تتتابع فيه المعاني وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ إنما دخلت من لتوكيد النفي والمعنى أن عيسى ليس بإله كما زعمت النصارى ففيه رد عليهم ونفي جميع من ادّعى من المشركين أنهم آلهة وإثبات الإلهية لله تعالى وحده لا شريك له في الإلهية وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب المنتقم ممن عصاه وخالف أمره وادّعى معه إلها آخر الْحَكِيمُ يعني في تدبيره وفيه رد على النصارى لأن عيسى لم يكن كذلك فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني فإن أعرضوا عن الإيمان ولم يقبلوه فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ أي الذين يعبدون غير الله ويدعون الناس إلى عبادة غيره وفيه وعيد وتهديد لهم. قوله لهم. قوله عز وجل: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ قال المفسرون: لما قدم وفد نجران المدينة اجتمعوا باليهود واختصموا في إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم فزعمت النصارى أنه كان نصرانيا وهم على دينه وأولى الناس به وقالت اليهود: بل كان يهوديا وهم على دينه وأولى الناس به فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان حنيفا مسلما وأنا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام فقالت اليهود: ما تريد إلّا أن نتخذك ربما كما اتخذت النصارى عيسى ربا. وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلّا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير فأنزل الله عز وجل: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا أي هلموا إلى كلمة يعني فيها إنصاف ولا ميل فيها لأحد على صاحبه، والعرب تسمي كل قصة أو قصيدة لها أول وآخر وشرح كلمة سواء أي عدل لا يختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن وتفسير الكلمة قوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وذلك أن النصارى عبدوا غير الله وهو المسيح وأشركوا به وهو قولهم أب وابن وروح القدس فجعلوا الواحد ثلاثة واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وذلك أنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الشرك ويسجدون لهم فهذا معنى اتخاذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، فثبت أن النصارى قد جمعوا بين هذه الثلاثة أشياء ومعنى الآية قل: يا محمد لليهود والنصارى هلموا إلى أمر عدل نصف وهو أن لا نقول عزير ابن الله ولا نقول المسيح ابن الله لأن كل واحد منهما بشر مخلوق مثلنا ولا نطيع أحبارنا ورهباننا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع ولا يسجد بعضنا لبعض لأن السجود لغير الله حرام فلا نسجد لغير الله وقيل: معناه ولا نطيع أحدا في معصية الله فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني فإن أعرضوا عما أمرتهم به فَقُولُوا أنتم لهؤلاء اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي مخلصون بالتوحيد لله والعبادة له. (ق) عن ابن عباس أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهو بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعا بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي بعث به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم اليرسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون لفظ الحديث أحد روايات البخاري، وقد أخرجه
بأطول من هذا وفيه زيادة قوله اليريسيين وفي رواية الأريسيين والأريس الأكار وهو الزراع والفلاح وقيل: هم أتباع عبد الله بن أريس رجل كان في الزمن الأول بعثه الله فخالفه قومه وقيل هم الأروسيون وهم نصارى أتباع عبد الله بن أروس وهم
الأروسة. وقيل: هم الأريسون بضم الهمزة وهم الملوك الذين يخالفون أنبياءهم وقيل:
هم المتبخترون وقيل: هم اليهود والنصارى الذين صددتهم عن الإسلام واتبعوك على كفرك. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٦٥ الى ٦٦]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ قال ابن عباس: اجتمع عند النبي صلّى الله عليه وسلّم نصارى نجران وأحبار اليهود فتنازعوا عنده فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلّا يهوديا. وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلّا نصرانيا فأنزل الله فيهم يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم؟ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ومعنى الآية اليهود والنصارى لما اختصموا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شأن إبراهيم عليه السلام وادّعت كل طائفة أنه كان منهم وعلى دينهم فبرأ الله عز وجل إبراهيم مما ادعوا فيه وأخبر أن اليهودية والنصرانية إنما حدثا بعد نزول التوراة والإنجيل وإنما نزلا بعد إبراهيم بزمان طويل فكان بين إبراهيم وبين موسى ونزول التوراة عليه خمسمائة سنة وخمسة وسبعون سنة وبين موسى وعيسى ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة. وقال ابن إسحاق: كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة وبين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة وعشرون سنة وأورد على هذا التأويل أن الإسلام أيضا إنما حدث بعد إبراهيم وموسى وعيسى بزمان طويل، وكذلك إنزال القرآن إنما نزل بعد التوراة والإنجيل فكيف يصح ما ادعيتم في إبراهيم أنه كان حنيفا مسلما وأجيب عنه بأن الله عز وجل أخبر في القرآن بأن إبراهيم كان حنيفا مسلما وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا فصح وثبت ما ادعاه المسلمون وبطل ما ادعاه اليهود والنصارى. وهو قوله تعالى أَفَلا تَعْقِلُونَ يعني بطلان قولكم يا معشر اليهود والنصارى حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها للتنبيه وهو موضع النداء يعني يا هؤلاء والمراد بهم أهل الكتابين يعني يا معشر اليهود والنصارى حاجَجْتُمْ أي جادلتم وخاصمتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يعني فيما وجدتم في كتبكم وأنزل عليكم بيانه في أمر موسى وعيسى، وادعيتم أنكم على دينهما وقد أنزلت التوراة والإنجيل عليكم فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ يعني أنه ليس في كتابكم أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا وَاللَّهُ يَعْلَمُ يعني ما كان إبراهيم عليه من الدين وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعني ذلك والمعنى وأنتم جاهلون بما تقولون في إبراهيم ثم برأه الله عز وجل عما قالوا فيه وأعلمهم أن إبراهيم بريء من دينهم. فقال تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٦٧ الى ٦٨]
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا يعني لم يكن كما ادعوه فيه، ثم وصفه بما كان عليه من الدين فقال تعالى: وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً يعني مائلا عن الأديان إلى الدين المستقيم وهو الإسلام وقيل: الحنيف الذي يوجد ويختتن ويضحي ويستقبل الكعبة في صلاته وهو أحسن الأديان وأسهلها وأحبها إلى الله عز وجل وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني الذين يعبدون الأصنام وقيل: فيه تعريض بكون النصارى مشركين لقولهم بإلهية المسيح وعبادتهم له. قوله عز وجل: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ يعني أخصهم به وأقربهم منه لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ يعني الذين كانوا في زمانه وآمنوا به واتبعوا شريعته وَهذَا النَّبِيُّ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم وَالَّذِينَ آمَنُوا يعني هذه الأمة
256
الإسلامية وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ يعني بالنصر والمعونة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي أبي وخليل ربي إبراهيم ثم قرأ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين أخرجه الترمذي وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ورواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب بإسناده حديث هجرة الحبشة قال: لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أرض الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وكان من أمر بدر وما كان اجتمعت قريش في دار الندوة وقالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم ثأرا ممن قتل منكم ببدر فاجمعوا مالا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ولينتدب لذلك رجلان من ذوي رأيكم فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط معهما الهدايا الأدم وغيره فركبا البحر حتى أتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له إن قومنا لك ناصحون شاكرون ولأصحابك محبون، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلّا السفهاء وإنا كنا قد ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد ولا يخرج منهم أحد فقتلهم الجوع والعطش، فلما اشتد عليه الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكم. قال: وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك قال: فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله تعالى فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته فنظر عمرو إلى صاحبه فقال: ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به الملك فساءهما ذلك ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص: ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك فقال لهما النجاشي: ما منعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق نسجد لله الذي خلقك وملكك إنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان فبعث الله فينا نبيا صادقا فأمرنا بالتحية التي رضيها الله وهي السلام تحية أهل الجنة، فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل. قال: أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر أنا قال فتكلم قال: إنك ملك من ملوك الأرض من أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم وإنما أحب أن أجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا فقال عمرو لجعفر تكلم فقال جعفر للنجاشي: سل هذين الرجلين أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا قد أبقنا من أربابنا فردنا عليهم فقال النجاشي أعبيد هم أم أحرار؟ فقال بل أحرار كرام فقال النجاشي: نجوا من العبودية فقال جعفر:
سلهما هل أرقنا دما بغير حق فيقتص منا فقال عمرو: لا ولا قطرة قال جعفر: سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها قال النجاشي: إن كان قنطارا فعلي قضاؤه فقال عمرو: لا ولا قيراط فقال النجاشي: فما تطلبون منهم قال كنا وإياهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا فتركوا ذلك وابتعوا غيره فبعثنا قومنا لتدفعهم إلينا فقال النجاشي: وما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه فقال جعفر: أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة، وأما الذي تحولنا إليه فهو دين الله الإسلام جاءنا به من عند الله رسول، وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له فقال النجاشي: يا جعفر تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك ثم أمر النجاشي بضرب الناقوس فضرب فاجتمع إليه كل قسيس وراهب، فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي: أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا قالوا: اللهم نعم قد بشرنا به عيسى فقال: من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي. فقال النجاشي لجعفر: ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه؟ فقال: يقرأ علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر ويأمرنا بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له فقال له: اقرأ علي مما يقرأ عليكم فقرأ
257
عليه سورة العنكبوت والروم ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع وقالوا: زدنا من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال: إنهم يشتمون عيسى وأمه فقال النجاشي: فما تقولون في عيسى وأمه فقرأ عليهم سورة مريم فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي من سواكه قدر ما بقذى العين وقال: والله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا. ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول آمنون من سبكم أو أذاكم غرم ثم قال: أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم فقال عمرو: يا نجاشي ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم فأنكر ذلك المشركون وادعوا دين إبراهيم ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال: إنما هديتكم إلى رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة قال جعفر: فانصرفنا فكنا في خير جوار وأنزل الله عز وجل في ذلك اليوم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خصومتهم في إبراهيم وهو في المدينة: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ. قوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٦٩ الى ٧٢]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ نزلت في معاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود إلى دينهم، فنزلت فيهم ودت طائفة أي تمنت جماعة من أهل الكتاب يعني اليهود لو يضلونكم يعني عن دينكم ويردونكم إلى الكفر وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن المؤمنين لا يقبلون قولهم فيحصل عليهم الإثم بتمنيهم إضلال المؤمنين وَما يَشْعُرُونَ يعني أن وبال الإضلال يعود عليهم لأن العذاب يضاعف لهم بسبب ضلالهم وتمني إضلال المسلمين وما يقدرون على ذلك إنما يضلون أمثالهم وأتباعهم وأشياعهم يا أَهْلَ الْكِتابِ الخطاب لليهود لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني القرآن. وقيل المراد بآيات الله الواردة في التوراة والإنجيل من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وصفته وسبب كفرهم بالتوراة والإنجيل على هذا القول هو تحريفهم وتبديلهم ما فيها من بيان نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وصفته والبشارة بنبوته لأنهم ينكرون ذلك، وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يعني أن نعته وصفته مذكور في التوراة والإنجيل، وذلك أن أحبار اليهود كانوا يكتمون الناس نعته وصفته فإذا خلا بعضهم ببعض أظهروا ذلك فيما بينهم وشهدوا أنه حق يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل، وذلك أن علماء اليهود والنصارى كانوا يعلمون بقلوبهم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول من عند الله وأن دينه حق، وكانوا ينكرون ذلك بألسنتهم وكانوا يجتهدون في إلقاء الشبهات والتشكيكات، وذلك أن الساعي في إخفاء الحق لا يقدر على ذلك إلّا بهذه الأمور فقوله تعالى: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ معناه تحريف التوراة وتبديلها فيخلطون المحرف الذي كتبوه بأيديهم بالحق المنزل وقيل هو خلط الإسلام باليهودية والنصرانية وذلك أنهم تواطؤوا على إظهار الإسلام في أول النهار والرجوع عنه في آخره، والمراد بذلك تشكيك الناس وقيل إنهم كانوا يقولون: إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم معترف بصحة نبوة موسى وإنه حق ثم إن التوراة دالة على أن شرع موسى لا ينسخ فهذا من تلبيساتهم على الناس وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ يعني نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وصفته في التوراة وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أنه رسول من عند الله وأن دينه حق وإنما كتمتم الحق عنادا وحسدا وأنتم تعلمون ما تستحقون على كتمان الحق من العقاب. قوله عز وجل:
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ وهذا نوع آخر من
تلبيسات اليهود، وقيل تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عرينة فقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون اعتقاد القلب ثم اكفروا آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا أن محمدا ليس هو بذلك المنعوت وظهر لنا كذبه فإذا فعلتم ذلك شك أصحاب محمد في دينه واتهموه وقالوا: إنهم أهل الكتاب وأعلم به منا فيرجعون عن دينهم وقيل: هذا في شأن القبلة وذلك أنه لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف لأصحابه آمنوا بالذي أنزل على محمد في أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار لعلهم يرجعون فيقولون: هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم فيرجعون إلى قبلتنا فأطلع الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم على سرهم وأنزل هذه الآية، ووجه النهار أوله والوجه مستقبل كل شيء لأنه أول ما يواجه منه وأنشدوا في معناه.
من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار
وقوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني عنه أي إنا ألقينا هذه الشبهة لعلهم يشكون في دينهم فيرجعون عنه ولما دبروا هذه الحيلة أخبر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بها فلم تتم لهم ولم يحصل لها أثر في قلوب المؤمنين ولولا هذا الإعلام من الله تعالى لكان ربما أثر ذلك في قلوب بعض من كان في إيمانه ضعف قوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣): آية ٧٣]
وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ هذا متصل بالأول وهو من قول اليهود يقول بعضهم لبعض ولا تؤمنوا أي ولا تصدقوا إلّا لمن تبع دينكم أي وافق ملتكم التي أنتم عليها وهي اليهودية. واللام في لمن صلة كقوله ردف لكم أي ردفكم قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي إن الدين دين الله والبيان بيانه، وهذا خبر من الله تعالى ثم اختلفوا فيه فمنهم من قال: هذا كلام معترض بين كلامين وما بعده متصل بالكلام الأول وهو إخبار عن قول اليهود بعضهم لبعض ومعنى الآية ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحكمة والكتاب والآيات من فلق البحر وإنزال المن والسلوى عليكم وغير ذلك من الكرامات، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنكم أصح دينا منهم فلما أخبر الله تعالى عن اليهود بذلك قال في أثناء ذلك قل إن الهدى هدى الله، والمعنى أن الذي أنتم عليه إنما صار دينا بحكم الله وأمره فإذا أمر بدين آخر وجب اتباعه والانقياد لحكمه لأنه هو الذي هدى إليه وأمر به وقيل: معناه قل لهم: يا محمد إن الهدى هدى الله وقد جئتكم به ولن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف وقرأ الحسن والأعمش إن يؤتى بكسر الألف فيكون قول اليهود تاما عند قوله إلّا لمن تبع دينكم وما بعده من قول الله تعالى والمعنى قل يا محمد إن الهدى هدى الله أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ وتكون أن معنى الجحد أي ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد من الدين والهدى أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ يعني إلّا أن يحاجوكم أي اليهود بالباطل فيقولوا: نحن أفضل منكم وقوله عند ربكم أي عند فعل ربكم وقيل: أو في قوله أو يحاجوكم بمعنى حتى ومعنى الآية ما أعطى الله أحدا مثل ما أعطيتم يا أمة محمد من الدين والحجة حتى يحاجوكم عند ربكم وقرأ ابن كثير آن يؤتى بالمد على الاستفهام، وحينئذ يكون في الكلام اختصار تقديره أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة فتحسدونه ولا تؤمنون به هذا قول قتادة والربيع قالا: هذا من قول الله تعالى قل يا محمد إن الهدى هدى الله ألأن أنزل كتابا مثل كتابكم وبعث نبيا مثل نبيكم حسدتموه وكفرتم به قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. وقوله: أو يحاجوكم على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين وتكون أو بمعنى إن لأنهما حرفا شرط وجزاء يوضع أحدهما موضع الآخر. والمعنى وأن
يحاجوكم يا معشر المؤمنين عند ربكم قل: يا محمد إن الهدى هدى الله ونحن عليه ويحتمل أن يكون الجميع خطابا للمؤمنين ويكون نظم الآية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر المؤمنين، فإن حسدوكم فقل إن الفضل بيد الله، فإن حاجوكم فقل إن الهدى هدى الله ويحتمل أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله لعلهم يرجعون وقوله: ولا تؤمنوا من كلام الله تعالى ثبت به قلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبس اليهود وتزويرهم في دينهم يقول الله عز وجل: ولا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلّا لمن تبع دينكم ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين والفضل ولا تصدقوا أن يحاجوكم عند ربكم أو يقدروا على ذلك فإن الهدى هدى الله، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم. فتكون الآية كلها خطابا للمؤمنين عند تلبيس اليهود لئلا يرتابوا ولا يشكوا وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ يعني قل لهم يا محمد إن التوفيق للإيمان والهداية للإسلام بِيَدِ اللَّهِ أي أنه مالك له وقادر عليه دونكم ودون سائر خلقه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني الفضل الذي هو دين الإسلام يعطيه من يشاء من عباده ويوفق له من أراد من خلقه وفيه تكذيب لليهود في قولهم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم فقال الله تعالى ردا عليهم قل لهم ليس ذلك إليهم وإنما الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وأصل الفضل في اللغة الزيادة وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير وَاللَّهُ واسِعٌ أي ذو سعة يتفضل على من يشاء عَلِيمٌ أي بمن يتفضل
عليه وهو للفضل أهل.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٧٤ الى ٧٥]
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ يعني بنبوته ورسالته وقيل بدينه الذي هو الإسلام وقيل بالقرآن مَنْ يَشاءُ يعني من خلقه وفيه دليل على أن النبوة لا تحصل إلّا بالاختصاص والتفضل لا بالاستحقاق لأنه تعالى جعلها من باب الاختصاص وللفاعل أن يفعل ما يشاء إلى من يشاء بغير استحقاق وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قوله عز وجل:
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ الآية نزلت في اليهود أخبر الله عز وجل أن فيهم أمانة وخيانة وقسمهم قسمين، والقنطار عبارة عن المال الكثير والدينار عبارة عن المال القليل يقول منهم من يؤد الأمانة وإن كثرت مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ومنهم من لا يؤديها وإن قلت: وهم كفار أهل الكتاب مثل كعب بن الأشرف وأصحابه قال ابن عباس في هذه الآية: أودع رجل من قريش عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداها إليه فذلك قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ يعني فنحاص بن عازوراء استودعه رجل من قريش دينارا فخانه وجحده ولم يؤده إليه. وقيل: أهل الأمانة هم النصارى، وأهل الخيانة هم اليهود لأن مذهبهم أن يحل قتل من خالفهم في أمر الدين وأخذ ماله بأي طريق كان إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قال ابن عباس: يريد تقوم عليه وتطالبه بالإلحاح والخصومة والملازمة وقيل: معناه إلّا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما على رأسه متوكلا عليه بالمطالبة له والتعنيف بالرفع إلى الحاكم وإقامة البينة عليه. وقيل أراد أنه إن أودعته شيئا ثم استرجعته منه في الحال وأنت قائم على رأسه لم تفارقه رده عليك. وإن أخرت استرجاع ما أودعته وأنكره ولم يرده عليك ذلِكَ أي سبب ذلك الاستحلال والخيانة بِأَنَّهُمْ قالُوا يعني اليهود لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ يعني أنهم يقولون ليس علينا إثم ولا حرج في أخذ مال العرب وذلك أن اليهود قالوا: أموال العرب حلال لنا إنهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم في كتابنا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم وقيل: إن اليهود قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه والخلق لنا عبيد فلا سبيل علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا وقيل إنهم قالوا: إن الأموال كلها كانت لنا فما في يد
العرب فهو لنا، وإنما هم ظلمونا وغصبوها منا فلا سبيل علينا في أخذها منهم بأي طريق كان وقيل إن اليهود كانوا يبايعون رجالا من المسلمين في الجاهلية. فلما أسلموا تقاضوهم بقية أموالهم فقالوا: ليس لكم علينا حق ولا عندنا قضاء لأنكم تركتم دينكم وانقطع العهد بيننا وبينكم، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فأكذبهم الله تعالى فقال وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يعين اليهود وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني أنهم كاذبون ثم إنه تعالى رد على اليهود قولهم فقال:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٧٦ الى ٧٧]
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
بَلى أي ليس الأمر كما قالوا بل عليهم سبيل ولفظة بلى لمجرد نفي ما قبلها فعلى هذا يحسن الوقوف عليها ثم يبتدئ من أوفى أي ولكن مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ أي بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن الذي أنزل عليه وبأداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها وقيل الهاء في قوله بعهده راجعة إلى الموفى وَاتَّقى يعني الكفر والخيانة ونقض العهد فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعني الذين يتقون الشرك. (ق) عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر، وفي رواية إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا قال عكرمة نزلت هذه الآية في أحبار اليهود ورؤسائهم أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب الذين كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم فبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا أنه من عند الله لئلا تفوتهم الرشا والمآكل التي كانوا يأخذونها من أتباعهم وسفلتهم وقيل نزلت في ادعاء اليهود الذين قالوا: إنه ليس علينا في الأميين سبيل وكتبوا ذلك بأيديهم وحلفوا أنه من عند الله وقيل نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له. (ق) عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان» قال عبد الله: ثم قرأ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصداقه من كتاب الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا إلى آخر الآية وفي رواية: «قال من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الآية. فدخل الأشعث بن قيس الكندي فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن قلنا كذا وكذا فقال صدق فيّ نزلت كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
شاهداك أو يمينه قلت إنه إذا يحلف لا يبالي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان»
. ونزلت إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا إلى آخر الآية. وأخرجه الترمذي وأبو داود وقالا: إن الحكومة كانت بين الأشعث وبين رجل يهودي. وقيل نزلت هذه الآية في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطى بها ما لم يعطه. (خ) عن عبد الله بن أبي أوفى: «أن رجل أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا إلى آخر الآية. وقيل الأقرب حمل الآية على الكل فقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ يدخل فيه جميع ما أمر الله به ويدخل فيه العهود والمواثيق المأخوذة من جهة الرسل ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه من عهد وميثاق فكل ذلك من عهد الله الذي يجب الوفاء به. ومعنى إن الذين يشترون يستبدلون بعهد الله يعني الأمانة وأيمانهم يعني الكاذبة ثمنا قليلا يعني شيئا يسيرا من حطام الدنيا، وذلك لأن
المشتري يأخذ شيئا ويعطي شيئا فكل واحد من يعطي، والمأخوذ ثمنا للآخر فهذا معنى الشراء أُولئِكَ يعني من هذه صفتهم لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي لا نصيب لهم في الآخرة ونعيمها وجميع منافعها وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يعني كلاما يسرهم به أو ينفعهم. وقيل: هو بمعنى الغضب وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي لا يرحمهم ولا يحسن إليهم ولا ينيلهم خيرا وَلا يُزَكِّيهِمْ أي ولا يطهرهم من الذنوب ولا يثني عليهم بجميل وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة. (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله فيقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك»، (م) عن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال: فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات فقلت: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب «وللنسائي» المنان بما أعطى والمسبل إزاره والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. (م) عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار فقالوا: يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا قال وإن كان قضيبا من أراك» قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٧٨ الى ٧٩]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)
وَإِنَّ مِنْهُمْ يعني من اليهود لَفَرِيقاً يعني طائفة وجماعة وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب وأبو ياسر وشعبة بن عمرو الشاعر يَلْوُونَ أي يعطفون ويميلون، وأصل اللي الفتل من قولك لويت يده إذا فتلتها أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ يعني بالتحريف والتغيير والتبديل وتحريف الكلام تقليبه عن وجهه لأن المحرف يلوي لسانه عن سنن الصواب بما يأتي به من عند نفسه قال الواحدي: ويحتمل أن يكون المعنى يلوون بألسنتهم الكتاب لأنهم يحرفون الكتاب عما هو عليه بألسنتهم فيأتون به على القلب ونقل الإمام فخر الدين عن القفال قال يلوون ألسنتهم معناه أن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفا يتغير به المعنى وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية فلما فعلوا ذلك في الآيات الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم من التوراة كان ذلك هو المراد من قوله يلوون ألسنتهم بالكتاب وقيل إنهم غير واصفة النبي صلّى الله عليه وسلّم من التوراة وبدلوها، وآية الرجم وغير ذلك مما بدلوا وغيروا لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ يعني لتظنوا أن الذي حرفوه وبدلوه من الكتاب الذي أنزله الله أنبيائه وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ يعني ذلك الذي يزعمون أنه من الكتاب ما هو منه وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني الذي يقولونه ويغيرونه، وإنما كرر هذا بلفظين مختلفين مع اتحاد المعنى لأجل التأكيد وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني أنهم كاذبون. وقال ابن عباس: إن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا في كتاب الله ما ليس فيه. قوله عز وجل: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ قيل إن نصارى نجران قالوا إن عيسى أمرهم أن يتخذوه ربا فقال الله تعالى ردا عليهم: ما كان لبشر يعني عيسى عليه السلام أن يؤتيه الله الكتاب يعني الإنجيل. وقال ابن عباس في قوله تعالى ما كان لبشر يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يؤتيه الله الكتاب يعني القرآن وذلك أن أبا رافع من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا: يا محمد تريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ قال معاذ الله أن آمر بعبادة غير الله وما بذلك أمرني
الله، وما بذلك بعثني فأنزل الله هذه الآية ما كان لبشر أي ما ينبغي لبشر وهو جميع بني آدم لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط ويوضع موضع الواحد والجمع أن يؤتيه الله الكتاب والحكم يعني الفهم والعلم، وقيل هو إمضاء الحكم من الله تعالى والنبوة يعني المنزلة الرفيعة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ومعنى الآية أنه لا يجتمع لرجل نبوة مع القول للناس كونوا عبادا لي من دون الله وكيف يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله وقد أتاه الله ما أتاه من الكتاب والحكم والنبوة وذلك أن الأنبياء موصون بصفات لا يحصل معها ادعاء الإلهية والربوبية منها إن الله تعالى أتاهم الكتب السماوية، ومنها إيتاء النبوة ولا يكون إلّا بعد كمال العلم وكل هذه تمنع من هذه الدعوى وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ يعني ولكن يقول لهم كونوا ربانيين فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه، واختلفوا في معنى الرباني فقال ابن عباس: معناه كونوا فقهاء علماء وعنه كونوا فقهاء معلمين وقيل معناه حكماء حكماء، وقيل الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم وكباره وقيل الرباني العالم الذي يعمل بعلمه، وقيل الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي وقيل الرباني الذي جمع بين علم البصيرة والعلم بسياسة الناس، ولما مات ابن عباس رضي الله عنهما قال محمد بن الحنفية: اليوم مات رباني هذه الأمة قال سيبويه: الرباني المنسوب إلى الرب بمعنى كونه عالما به ومواظبا على طاعته وزيادة الألف والنون فيه للدلالة على كمال هذه الصفة وقال المبرد: الربانيون أرباب العلم واحدهم ربان وهو الذي يربى العلم ويربي الناس أي يعلمهم وينصحهم والألف والنون للمبالغة فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بمعرفة الرب وطاعته، وعلى قول المبرد الرباني مأخوذ من التربية. وقيل الربانيون
هم ولاة الأمر والعلماء وهما الفريقان اللذان يطاعان ومعنى الآية على هذا التأويل لا أدعوكم إلى أن تكونوا عبادا لي ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكا وعلماء ومعلمين الناس الخير ومواظبين على طاعة الله وعبادته. وقال أبو عبيدة: أحسب أن هذه الكلمة ليست عربية إنما هي عبرانية أو سريانية وسواء كانت عربية أو عبرانية فهي تدل على الذي علم وعمل بما علم وعلم الناس طريق الخير. وقوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أي كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين وبسبب دراستكم الكتاب، فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا فمن اشتغل بالعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع علمه وخاب سعيه. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)
وَلا يَأْمُرَكُمْ قرئ بنصب الراء عطفا على قوله ثم يقول: فيكون مردودا على البشر وقيل على إضمار أن أي ولا أن يأمركم، وقرئ برفع الراء على الاستئناف وهو ظاهر ومعناه ولا يأمركم الله وقيل لا يأمركم محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل ولا يأمركم عيسى وقيل ولا يأمركم الأنبياء أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً يعني كفعل قريش والصابئين حيث قالوا الملائكة بنات الله وكفعل اليهود والنصارى حيث قالوا في المسيح والعزير ما قالوا وإنما خص الملائكة والنبيين بالذكر لأن الذين وصفوا بعبادة غير الله عز وجل من أهل الكتاب لم يحك عنهم إلّا عبادة الملائكة وعبادة المسيح وعزير، فلهذا المعنى خصهم بالذكر أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ إنما قاله على طريق التعجب والإنكار، يعني لا يقول هذا ولا يفعله.
قوله عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ قال الزجاج: موضع إذ نصب والمعنى واذكر في أقاصيصك إذ أخذ
263
الله. وقال الطبري: معناه واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله يعني حين أخذ الله ميثاق النبيين. وأصل الميثاق في اللغة عقد يؤكد بيمين، ومعنى ميثاق النبيين ما وثقوا به على أنفسهم من طاعة الله فيما أمرهم به ونهاهم عنه وذكروا في معنى أخذ الميثاق وجهين: أحدهما: أنه مأخوذ من الأنبياء. والثاني: أنه مأخوذ لهم من غيرهم فلهذا السبب اختلفوا في المعنى بهذه الآية، فذهب قوم إلى أن الله تعالى أخذ الميثاق من النبيين خاصة قبل أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده أن يصدق بعضهم بعضا، وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه وإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين. وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس وقيل: إنما أخذ الميثاق من النبيين في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم خاصة وهو قول علي وابن عباس وقتادة والسدي فعلى هذا القول اختلفوا، فقيل إنما أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل إليهم النبيين ويدل عليه قوله ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وإنما كان محمد صلّى الله عليه وسلّم مبعوثا إلى أهل الكتاب دون النبيين، وإنما أطلق هذا اللفظ عليهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل كتاب والنبيون منا، وقيل أخذ الله الميثاق على النبيين وأممهم جميعا في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد مع المتبوع عهد مع الأتباع وهو قول ابن عباس قال علي بن أبي طالب: ما بعث الله نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وأخذ هو العهد على قومه ليؤمنن به ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه وقيل إن المراد من الآية أن الأنبياء كانوا يأخذون العهد والميثاق على أممهم بأنه إذا بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يؤمنوا به وينصروه وهذا قول كثير من المفسرين وقوله لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ قرئ بفتح اللام من لما وبكسرها مع التخفيف في القراءتين فمن قرأ بفتح اللام قال: معنى الآية وإذ أخذ الله ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول يعني ذكر محمد صلّى الله عليه وسلّم في التوراة لتؤمنن به للذي عندكم في التوراة من ذكره ومن قرأ بكسر اللام جعل قوله لتؤمنن به من أخذ الميثاق كما يقال أخذت ميثاقك لتفعلن لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف فكان معنى الآية وإذ استحلف الله النبيين للذي أتاهم من كتاب وحكمة متى جاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به ولينصرنه وقوله ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ وذلك أن الله وصفه في كتب الأنبياء المتقدمة وشرح فيها أحواله فإذا جاءت صفاته وأحواله مطابقة في كتبهم المنزلة فقد صار مصدقا لها فيجب الإيمان به والانقياد لقوله ولام قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لام القسم تقديره والله لتؤمنن به وَلَتَنْصُرُنَّهُ قال البغوي: قال الله عز وجل للأنبياء حين استخرج الذرية من صلب آدم والأنبياء فيهم كالمصابيح أخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي الآية. وقال الإمام فخر الدين الرازي: يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد من الله واجب، فإذا جاء رسول وظهرت المعجزات الدالة على صدقه، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه بتقرير هذا الدليل في عقولهم فهذا هو المراد من الميثاق قالَ أَأَقْرَرْتُمْ يعني قال الله تعالى: أأقررتم فإن فسرنا أن أخذ الميثاق كان من النبيين كان معناه قال الله تعالى للنبيين: أأقررتم بالإيمان به والنصر له وإن فسرنا بأن أخذ الميثاق كان على الأمم كان معناه قال كل نبي لأمته أأقررتم وذلك لأنه تعالى أضاف أخذ الميثاق إلى نفسه وإن كان النبيون أخذوه على الأمم
فلذلك طلب هذا الإقرار وأضافه إلى نفسه وإن وقع من الأنبياء والمقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا الميثاق وتأكيده على الأمم وطالبوهم بالقبول وأكدوا ذلك بالإشهاد وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي عهدي والإصر العهد الثقيل وقيل سمي العهد إصرا لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد. قالُوا أَقْرَرْنا أي قال النبيون: أقررنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدقين لما معنا من كتبك قالَ فَاشْهَدُوا يعني قال الله عز وجل للنبيين: فاشهدوا يعني أنتم على أنفسكم وقيل: على أممكم وأتباعكم الذين أخذتم عليهم الميثاق وقيل: قال الله للملائكة فاشهدوا فهو
264
كناية عن غير مذكور، وقيل: معناه فاعلموا وبينوا لأن أصل الشهادة العلم والبيان وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ يعني قال الله يا معشر الأنبياء وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعلى أتباعكم أو قال للملائكة وأنا معكم من الشاهدين عليهم.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٨٢ الى ٨٣]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
فَمَنْ تَوَلَّى أي أعرض عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ونصرته بَعْدَ ذلِكَ الإقرار فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن الإيمان والطاعة. قوله عز وجل: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فادعى كل فريق منهم أنه على دين إبراهيم عليه السلام فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا: لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فأنزل الله أفغير دين الله الهمزة للاستفهام والمراد منه الإنكار والتوبيخ يعني أفبعد أخذ الميثاق عليهم ووضوح الدلائل لهم أن دين إبراهيم هو دين الله الإسلام. تبغون قرئ بالتاء على خطاب الحاضر أي أفغير دين الله تطلبون يا معشر اليهود والنصارى وقرى بالياء على الغيبة ردا على قوله فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وَلَهُ أَسْلَمَ أي خضع وانقاد مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً الطوع الانقياد والاتباع بسهولة والكره ما كان من ذلك بمشقة وإباء من النفس. واختلفوا في معنى قوله طوعا وكرها فقيل: أسلم أهل السموات طوعا وأسلم بعض أهل الأرض طوعا وبعضهم كرها من خوف القتل والسبي، وقيل: أسلم المؤمن طوعا وانقاد الكافر كرها، وقيل هذا في يوم أخذ الميثاق حين قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى فمن سبقت له السعادة قال ذلك طوعا، ومن سبقت له الشقاوة قال ذلك كرها. وقيل: أسلم المؤمن طوعا فنفعه إسلامه يوم القيامة والكافر يسلم كرها عند الموت في وقت اليأس فلم ينفعه ذلك في القيامة وقيل إنه لا سبيل لأحد من الخلق إلى الامتناع على الله في مراده فأما المسلم فينقاد لله فيما أمره أو نهاه عنه طوعا وأما الكافر فينقاد لله كرها في جميع ما يقتضي عليه ولا يمكنه دفع قضائه وقدره عنه وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قرئ بالتاء والياء والمعنى أن مرجع الخلق كلهم إلى الله يوم القيامة ففيه وعيد عظيم لمن خالفه في الدنيا. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٨٤ الى ٨٦]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ لما ذكر الله عز وجل في الآية المتقدمة أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدقا لما معهم بين في هذه الآية أن من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم مصدقا لما معهم فقال تعالى: قل آمنا بالله وإنما وحد الضمير في قوله قل وجمع في قوله آمنا بالله لأنه إنما خاطبه بلفظ الواحد ليدل هذا الكلام على أنه لا يبلغ هذا التكليف عن الله تعالى إلى الخلق إلا هو. ثم قال: آمنا بالله تنبيها على أنه حين قال هذا القول وافقه أصحابه فحسن الجمع في قوله آمنا، ومعنى الآية: قل يا محمد صدقنا بالله أنه ربنا وإلهنا لا إله غيره ولا رب سواه وإنما قدم الإيمان بالله على غيره لأنه الأصل وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعني وقل يا محمد وصدقنا أيضا بما أنزل علينا من وحيه وتنزيله وإنما قدم ذكر القرآن لأنه أشرف الكتب وأنه لم يحرف ولم يبدل وغيره حرف وبدل وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى إنما خص هؤلاء الأنبياء بالذكر لأن أهل
الكتاب يعترفون بوجودهم ولم يختلفوا في نبوتهم، والأسباط هم أولاد يعقوب الاثنا عشر وكانوا أنبياء ثم جمع جميع الأنبياء فقال وَالنَّبِيُّونَ أي وما أوتي النبيون مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وذلك أن أهل الكتاب يؤمنون ببعض النبيين ويكفرون ببعض فأمر الله عز وجل نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يخبر عن نفسه وعن أمته أنه يؤمن بجميع الأنبياء. فإن قلت: لم عدي أنزل في «هذه الآية بحرف الاستعلاء وفيما تقدم من مثلها في البقرة بحرف الانتهاء». قلت لوجود المعنيين جميعا لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فجاء تارة بأحد المعنيين وتارة بالمعنى الآخر وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكا في عبادتنا. قوله عز وجل: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ يعني أن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام وأن كل دين سواه غير مقبول عنده لأن الدين الصحيح ما يأمر الله به ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني الذين وقعوا في الخسارة وهو حرمان الثواب وحصول العقاب وروى ابن جرير الطبري عن عكرمة: في قوله: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه قالت اليهود فنحن مسلمون فقال الله عز وجل لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم قل لهم ولله على الناس حج البيت فلم يحجوا. قوله عز وجل: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ نزلت في اثني عشر رجلا ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا منهم الحارث بن سويد الأنصاري وطعمة بن أبيرق وحجوج بن الأسلت. وقال ابن عباس: نزلت في اليهود والنصارى وذلك أن اليهود كانوا قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم يستفتحون به على الكفار ويقرون به ويقولون: قد أظل زمان نبي مبعوث فلما بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم كفروا به بغيا وحسدا ومعنى كيف يهدي الله كيف يرشد الله للصواب ويوفق للإيمان قوما كفروا أي جحدوا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد إيمانهم أي تصديقهم إياه وإقرارهم به وبما جاء به من عند ربه وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ يعني وبعد أن أقروا وشهدوا أن محمدا رسول الله إلى خلقه وأنه حق وصدق وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ يعني الحجج والبراهين والمعجزات الدالة على صحة نبوته التي بمثلها ثبتت النبوة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يوفقهم إلى الحق والصواب لما سبق في علمه تعالى أنهم ظالمون وقيل لا يهديهم في الآخرة إلى الجنة والثواب. فإن قلت: كيف قال في أول الآية كيف يهدي الله قوما كفروا وقال في آخرها والله لا يهدي القوم الظالمين وهذا تكرار؟ قلت: ليس فيه تكرار لأن قوله كيف يهدي الله قوما كفروا إنما هو مختص بأولئك المرتدين عن الإسلام ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في آخر الآية فقال: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني جميع الكفار المرتدين عن الإسلام والكافر الأصلي وإنما سمي الكافر ظالما لأنه وضع العبادة في غير موضعها.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٨٧ الى ٩٠]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ يعني الذين كفروا بعد إيمانهم أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها أي في عذاب اللعنة وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يؤخرون عن وقت العذاب لا يؤخر عنهم من وقت إلى وقت ثم استثنى سبحانه وتعالى فقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني من بعد ارتدادهم وكفرهم وذلك أل الحارث بن سويد الأنصاري لما لحق بالكفار ندم على ذلك فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل لي من توبة؟ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى إلّا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا الله فبعث بها إليه أخوه الجلاس مع رجل من قومه، فأقبل إلى المدينة تائبا وقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توبته وحسن إسلامه وَأَصْلَحُوا أي وضموا إلى التوبة الأعمال الصالحة فبيّن أن التوبة وحدها لا تكفي حتى
يضاف إليها العمل الصالح. وقيل: معناه وأصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات وظاهرهم مع الخلق بالعبادات والطاعات فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر رحيم في الآخرة بالعفو وقيل: غفور بإزالة العذاب رحيم بإعطاء الثواب. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ نزلت في اليهود وذلك أنهم كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى وغيره من أنبيائهم ثم ازدادوا كفرا يعني كفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن، وقيل نزلت في اليهود والنصارى وذلك أنهم كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لما رأوه بعد إيمانهم به قبل مبعثه لما ثبت عندهم من نعته وصفته في كتبهم ثم ازدادوا كفوا يعني ذنوبا في حال كفرهم. وقيل نزلت في جميع الكفار وذلك أنهم أشركوا بالله بعد إقرارهم بأن الله خالقهم ثم ازدادوا كفرا يعني بإقامتهم على كفرهم حتى هلكوا عليه، وقيل زيادة كفرهم هو قولهم نتربص بمحمد ريب المنون وقيل نزلت في أحد عشر رجلا من أصحاب الحارث بن سويد الذين ارتدوا عن الإسلام فلما رجع الحارث إلى الإسلام أقاموا على كفرهم بمكة وقالوا: نقيم على الكفر ما بدا لنا ومتى أردنا الرجعة ينزل فينا مثل ما نزل في الحارث فلما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة فمن دخل منهم في الإسلام قبلت توبته ونزل فيمن مات منهم على كفره: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الآية. فإن قلت قد وعد الله قبول التوبة ممن تاب فما يعني قوله لن تقبل توبتهم؟ قلت اختلف المفسرون في معنى قوله: لن تقبل توبتهم فقال الحسن وعطاء وقتادة والسدي: لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت وهو وقت الحشرجة لأن الله تعالى قال: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فإن الذي يموت على الكفر لا تقبل توبته كأنه قال إن اليهود أو الكفار أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا ثم ماتوا على ذلك لن تقبل توبتهم وقال ابن عباس: إنهم الذين ارتدوا وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم والكفر في ضمائرهم وقال أبو العالية: هم قوم تابوا من ذنوب عملوها في حال للشرك ولم يتوبوا من الشرك فإن توبتهم في حال الشرك، غير مقبولة. وقال مجاهد: لن تقبل توبتهم إذا ماتوا على الكفر وقال ابن جرير الطبري: معنى لن تقبل توبتهم أي مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم لا من كفرهم لأن الله تعالى لما وعد أن يقبل التوبة عن عباده وأنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب لقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ علم أن المعنى الذي لا تقبل التوبة منه غير المعنى الذي تقبل التوبة منه فعلى هذا فالذي لا تقبل التوبة منه هو الازدياد على الكفر بعد الكفر لا يقبل الله منه توبة ما أقام على كفره لأن الله تعالى لا يقبل عمل مشرك ما أقام على شركه، فإذا تاب من شركه وكفره وأصلح فإن الله كما وصف نفسه غفور رحيم. وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ يعني هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا وهم الذين ضلوا عن سبيل الحق وأخطئوا منهاجه. قوله عزّ وجلّ:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٩١ الى ٩٢]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ قال ابن عباس: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة دخل من كان من أصحاب الحارث بن سويد حبا في الإسلام فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم على الكفر، وقيل نزلت فيمن مات كافرا من جميع أصناف اليهود والنصارى وعبدة الأصنام، فالآية عامة في جميع من مات على الكفر فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً أي قدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها وَلَوِ افْتَدى بِهِ قيل معناه لو افتدى به والواو زائدة مقحمة وقيل الواو على حالها وفائدتها أنها للعطف والتقدير لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا وقد مات على كفره لم ينفعه ذلك وكذا لو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهبا لن يقبل منه، وهذا آكد في التغليظ لأنه
267
تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه. فإن قلت الكافر لا يملك شيئا في الآخرة فما وجه قوله فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا؟ قلت: الكلام ورد على سبيل الفرض والتقدير والمعنى لو أن للكافر قدر ملء الأرض ذهبا يوم القيامة لبذله في تخليص نفسه من العذاب ولكن لا يقدر على شيء من ذلك وقيل معناه لو أن الكافر أنفق في الدنيا ملء الأرض ذهبا ثم مات على كفره لم ينفعه ذلك لأن الطاعة مع الكفر غير مقبولة أُولئِكَ إشارة إلى من مات على الكفر لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني مانعين يمنعونهم من العذاب (ق) عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم فيقول أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا الشرك لفظ مسلم. قوله عز وجل: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ قال ابن عباس: يعني الجنة، وقيل: البر هو التقوى، وقيل هو الطاعة وقيل معناه لن تنالوا حقيقة البر ولن تكونوا أبرار حتى تنفقوا مما تحبون وقيل معناه لن تنالوا بر الله وهو ثوابه وأصل البر التوسع في فعل الخير يقال بر العبد ربه أي توسع في طاعته فالبر من الله الثواب ومن العبد الطاعة وقد يستعمل في الصدق وحسن الخلق لأنهما من الخير المتوسع فيه (ق) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وأن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا». (م) عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البر والإثم فقال: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس منك فعلى هذا يكون المعنى عليكم بالأعمال الصالحة حتى تكونوا أبرارا وتدخلوا في زمرة الأبرار ومن قال إن لفظ البر هو الجنة فقال معنى الآية لن تنالوا ثواب البر المؤدي إلى الجنة حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ يعني من جيد أموالكم أنفسها عندكم قال الله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وقيل هو أن تنفق من مالك ما أنت محتاج إليه قال الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ (ق) عن أبي هريرة قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل فقال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: إن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا إلّا وقد كان، واختلفوا في هذا الإنفاق قال ابن عباس: هو الزكاة المفروضة والمعنى لن تنالوا حتى تخرجوا زكاة أموالكم فعلى هذا القول قيل إن الآية منسوخة بآية الزكاة وفيه بعدا لأنه ترغيب في إخراج الزكاة وقال ابن عمر: المراد بها سائر الصدقات وقال الحسن: كل شيء أنفقه المسلم من مالك مما يبتغي به وجه الله ويطلب ثوابه حتى التمرة فإنه يدخل في قوله: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون (ق) عن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بيرحا وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس: فلما نزلت هذه الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قام أبو طلحة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب أموالي إلي بيرحا وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بخ بخ ذلك مال رابح» أو قال ذلك مال رابح أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة:
افعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه قوله بخ بخ هي كلمة تقال عند المدح والرضا وتكريرها للمبالغة وهي مبنية على السكون فإذا وصلت جرب ونونت فقلت: بخ بخ قوله: مال رابح أي ذو ربح وفي الرواية الأخرى ذلك مال رايح بالياء معناه يروح عليك نفعه وثوابه وبيرحا اسم موضع بالمدينة وهو حائط كان لأبي طلحة. وروي عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت فلما جاءت أعجبته فقال عمر إن الله عزّ وجلّ يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فأعتقها عمر وعن حمزة بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما خطرت على قلبه هذه الآية:
268
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال عبد الله فذكرت ما أعطاني الله تعالى فما كان شيء أحب إليّ من فلانة فقلت هي حرة لوجه الله تعالى قال ولولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها وعن عمرو بن دينار قال لما نزلت هذه الآية لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سيل كان يحبها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: تصدق بهذه يا رسول الله فأعطاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسامة بن زيد بن حارثة فقال يا رسول الله إنما أردت أن أتصدق بها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد قبلت صدقتك وفي رواية كأن زيدا أوجد في نفسه فلما رأى ذلك منه النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: أما إن الله قد قبلها وروى أن أبا ذر نزل به ضيف فقال للراعي: ائتني بخير إبلي فجاء بناقة مهزولة فقال للراعي خنتني فقال الراعي وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوما حاجتكم إليه فقال: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي وقوله تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ يعني من أي شيء كان من طيب تحبونه أو من خبيث تكرهونه فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ أي يعلمه ويجازيكم به. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ٩٣]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣)
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكل ذلك كله فلست على ملته فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: كان ذلك حلالا لإبراهيم قالوا كل ما نحرمه اليوم كان ذلك حراما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله عز وجل كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلّا ما حرم إسرائيل على نفسه وهو يعقوب من قبل أن ينزل التوراة يعني ليس الأمر على ما تدعيه اليهود من تحريم لحوم الإبل على إبراهيم بل كان ذلك حلالا على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وإنما حرمه يعقوب بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإحضار التوراة وطلب منهم أن يستخرجوا منها أن ذلك كان حراما على إبراهيم، فعجزوا عن ذلك وافتضحوا وبأن كذبهم فيما ادعوا من حرمة هذه الأشياء على إبراهيم وقيل: إن اليهود أنكروا شرع محمد صلّى الله عليه وسلّم وادعوا أن النسخ غير جائز، فأبطل الله ذلك عليهم وأخبر أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فذلك الذي حرمه على نفسه كان حلالا ثم صار حراما عليه وعلى أولاده فقد حصل النسخ وبطل قول اليهود بأن النسخ غير جائز، فأنكرت اليهود ذلك وقالوا:
بل كان ذلك حراما من زمن آدم إلى هذا الوقت فألزمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإحضار التوراة وقال: إن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه فخاف اليهود من الفضيحة وامتنعوا من إحضار التوراة فحصل بذلك كذبهم وأنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها وبطل قولهم بأن النسخ غير جائز، وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم كان رجلا أميا لم يقرأ الكتب ولم يعرف ما في التوراة، فلما أخبر أن ذلك ليس في التوراة علم أن الذي أخبر به صلّى الله عليه وسلّم وحي من الله تعالى وقوله تعالى: كل الطعام يعني كل أنواع الطعام أو سائر المطعومات كان حلا أي حلالا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، واختلفوا في الذي حرم يعقوب على نفسه قيل حرم لحوم الإبل وألبانها وروى الطبري بسنده عن ابن عباس: أن عصابة من اليهود حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمنّ أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟
فقالوا: اللهم نعم. وقال ابن عباس: هي العروق وكان سبب ذلك أنه اشتكى عرق النسا وكان أصل وجعه فيما
روي عن الضحاك أن يعقوب كان نذر لئن وهب الله له اثني عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح أحدهم. وفي رواية آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة وقال: يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع؟
فعالجه فلم يصرع أحدهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك ثم قال أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنك قد نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحا ذبحت آخر ولدك، فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجا، فلما قدم يعقوب بيت المقدس أراد ذبح ولده ونسي ما قال له الملك فأتاه الملك وقال له: إنما غمزتك للمخرج وقد وفي نذرك فلا سبيل لك إلى ذبح ولدك. وقال ابن عباس في آخرين أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه العيص، وكان يعقوب رجلا بطشا قويا فلقيه ملك في صورة رجل فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب وصعد إلى السماء ويعقوب ينظر فهاج به عرق النسا ولقي منه شدة فكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله رغاء أي صياح، فحلف يعقوب لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقا ولا طعاما فيه عرق فحرمه على نفسه فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق ويخرجونها من اللحم ولا يأكلونها، وقيل لما أصاب يعقوب ذلك وصف له الأطباء أن يجتنب لحوم الإبل فحرمها يعقوب على نفسه، وقيل إنما حرم يعقوب لحوم الجزور تعبدا لله تعالى وسأل ربه أن تنجز فحرمه الله على ولده وهو ظاهر الآية لأن الله تعالى قال: كل الطعام كان حلّا لبني إسرائيل، ثم استثنى ما حرم إسرائيل على نفسه فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراما على بني إسرائيل أما قوله من قبل أن تنزل التوراة فمعناه أن قبل إنزال التوراة كان كل أنواع الطعام حلالا لبني إسرائيل سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه أما بعد نزول التوراة فقد حرم الله تعالى عليهم أشياء كثيرة من أنواع الطعام ثم اختلفوا في حال هذا الطعام المحرم على بني إسرائيل بعد نزول التوراة فقال السدي: حرم الله عليهم في التوراة ما كانوا حرموه على أنفسهم قبل نزولها وقال عطية: إنما كان حراما عليهم بتحريم إسرائيل فإنه قال: إن عافاني الله تعالى لا يأكله ولد لي ولم يكن ذلك محرما عليهم في التوراة وقال الكلبي: لم يحرمه الله في التوراة وإنما حرم عليهم بعد نزول التوراة لظلمهم كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وقال تعالى: وعلى الذين هادوا حرمنا إلى أن قال ذلك جزيناهم ببغيهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله عليهم طعاما طيبا أو صب عليهم رجزا وهو الموت. وقال الضحاك: لم يكن شيء من ذلك حراما عليهم ولا حرمه الله في التوراة، وإنما حرموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم ثم أضافوا تحريمه لله عز وجل فكذبهم الله تعالى فقال الله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ يعني قل لهم يا محمد فأتوا بالتوراة فَاتْلُوها أي فاقرؤوها وما فيها حتى يتبين أن الأمر كما قلتم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني فيما ادعيتم فلم يأتوا بها وخافوا الفضيحة فقال تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٩٤ الى ٩٦]
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦)
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
الافتراء اختلاق الكذب والافتراء الكذب والقذف والإفساد وأصله من فري الأديم إذا قطعه لأن الكاذب يقطع القول من غير حقيقة له في الوجود مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب ولم يكن محرما قبله فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
أي هم المستحقون للعذاب لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين من بعدهم وهذا رد على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم فيما بقي عليهم مما نطق به القرآن من تعديد مساويهم التي كانوا يرتكبونها قُلْ صَدَقَ اللَّهُ يعني قل صدق الله يا محمد فيما أخبر أن ذلك النوع من الطعام صار حراما على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالا لهم فصح القول بالنسخ، وبطل قول اليهود وقيل معناه صدق الله في قوله أن لحوم الإبل وألبانها كانت محللة
270
لإبراهيم عليه السلام، وإنما حرمت على بني إسرائيل بسبب تحريمها إسرائيل على نفسه وقيل صدق الله في أن سائر الأطعمة كانت محللة على بني إسرائيل وإنما حرمت على اليهود جزاء على قبائح أفعالهم ففيه تعريض بكذب اليهود والمعنى ثبت أن الله تعالى صادق فيما أنزل وأخبر وأنتم كاذبون يا معشر اليهود فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلّى الله عليه وسلّم من ملة إبراهيم وهي الإسلام وهو الدين الصحيح وهو الذي عليه محمد ومن آمن معه وإنما دعاهم إلى ملة إبراهيم لأنها ملة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي لم يدع مع الله إلها آخر ولا عبدا سواه.
قوله عز وجل: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للمسلمين بيت المقدس قبلتنا وهو أفضل من الكعبة وأقدم وهو مهاجر الأنبياء وقبلتهم وأرض المحشر. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل فأنزل الله هذه الآية، وقيل لما ادعت اليهود والنصارى أنهم على ملة إبراهيم أكذبهم الله تعالى وأخبر أن إبراهيم كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين وأمرهم باتباعه فقال تعالى في الآية المتقدمة: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيم الحج إلى الكعبة ذكر في هذه الآية فضيلة البيت ليفرع عليها إيجاب الحج وقوله: إن أول بيت وضع للناس الأول هو الفرد السابق المتقدم على ما سواه وقيل هو اسم للشيء الذي يوجد ابتداء سواء حصل عقبه شيء آخر، أو لم يحصل والمعنى أن أول بيت وضع للناس أي وضعه الله موضعا للطاعات والعبادات وقبلة للصلاة وموضعا للحج وللطواف تزداد فيه الخيرات وثواب الطاعات وكونه وضع للناس يعني يشترك فيه جميع الناس كما قال تعالى: سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ. فإن قلت: كيف أضافه إلى نفسه مرة في قوله وطهر بيتي وأضافه للناس أخرى بقوله وضع للناس. قلت: أما إضافته إلى نفسه فعلى سبيل التشريف والتعظيم له كقوله ناقة الله، وأما إضافته إلى الناس فلأنه يشترك فيه جميع الناس لأنه موضع حجهم وقبلة صلاتهم للذي ببكة. قيل هي مكة نفسه والعرب تعاقب بين الباء والميم فيقولون ضربة لازب لازم وقيل بكة اسم لموضع البيت ومكة اسم للبلد وفي اشتقاق بكة وجهان: أحدهما: أنه من البك الذي هو عبارة عن الدفع يقال بكه يبكه إذا دفعه وزاحمه ولهذا قال سعيد بن جبير: سميت بكة لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة. الوجه الثاني سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها ولم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله تعالى وهذا قول عبد الله بن الزبير، وأما مكة فسميت بذلك لقلة مائها من قول العرب مك الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا مص كل ما فيه من اللبن، وقيل لأنها تمك الذنوب أي تزيلها وسميت مكة أم رحم لأن الرحمة تنزل بها، والحاطمة لأنها تحطم من استخلف بحرمتها، أو لأن الناس يحطم بعضهم بعضا من الزحمة، وسميت أم القرى لأنها أصل كل بلدة ومن تحتها دحيت الأرض، واختلف العلماء في كون البيت أول بيت وضع للناس على قولين: أحدهما أنه أول في الوضع والبناء قال مجاهد: خلق الله هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين وفي رواية عنه إن الله خلق موضع البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي عام، وقيل هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السموات والأرض خلقه قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض من تحته. وهذا قول ابن عمر ومجاهد وقتادة والسدي. وقيل هو أول بيت بني على الأرض. وروي عن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتا وهو البيت المعمور وأمر الملائكة أن يطوفوا به ثم أمر الملائكة الذين في الأرض أن يبنوا بيتا في الأرض على مثاله وقدره فبنوا هذا البيت واسمه الضراح، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور وروي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام وكانوا يحجونه فلما حجه آدم قالت له الملائكة بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام وقال ابن عباس: هو أول بيت بناه آدم في الأرض قيل إن آدم لما أهبط إلى الأرض استوحش وشكا الوحشة فأمره الله تعالى ببناء الكعبة فبناها وطاف بها وبقي ذلك البناء إلى زمان نوح
271
عليه السلام فلما كان الطوفان رفع الله البيت إلى السماء وبقي موضع البيت أكمة بيضاء إلى أن بعث الله إبراهيم عليه السلام فأمره ببنائه. القول الثاني، أن المراد من الأولية كون هذا أول بيت وضع للناس مباركا ويدل عليه سياق الآية وهو قوله تعالى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وروي أن رجلا قام إلى علي بن أبي طالب فقال: ألا تخبرني عن البيت أهو أول بيت وضع في الأرض؟ قال
: لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع الناس مباركا وهدى وفيه مقام إبراهيم ومن دخل كان آمنا وقال الحسن: وهو أول مسجد عبد الله فيه، وقال مطرف: هو أول بيت وضع للعبادة. وقال الضحاك: هو أول بيت وضع فيه البركة، وأول بيت وضع للناس يحج إليه، وأول بيت جعل قبلة للناس. (ق) عن أبي ذر قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي؟ قال المسجد الأقصى قلت: كم بينهما؟ قال أربعون عاما ثم الأرض لك مسجدا فحيثما أدركت الصلاة فصلّ» زاد البخاري فإن الفضل فيه وقوله مُبارَكاً يعني ذا بركة وأصل البركة النمو والزيادة، وقيل هو ثبوت الخير الإلهي فيه وقيل هو أول بيت خص بالبركة وزيادة الخير وقيل لأن الطاعات وسائر العبادات تتضاعف ويزداد ثوابها عنده (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» وَهُدىً لِلْعالَمِينَ يعني أنه قبلة للمؤمنين يهتدون به إلى جهة صلاتهم.
وقيل لأن فيه دلالة على وجود الصانع المختار لما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره. وقيل هو هدي للعالمين إلى الجنة لأن من قصده بأن صلّى إليه أو حجه فقد أوجب الله تعالى له الجنة برحمته. قوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣): آية ٩٧]
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ أي فيه دلالات واضحات على حرمته ومزيد فضله، ثم اختلفوا في تفسير تلك الآيات فقيل هي قوله مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا، وقيل الآيات غير مذكورة وهي ما يدل على فضل هذا البيت منها أن الطير لا يطير فوق الكعبة في الهواء بل ينحرف عنها إذا وصل إليها يمينا وشمالا، ومنها أن الوحوش لا تؤذي بعضها في الحرم حتى الكلاب لا تهيج الظباء ولا تصطادها، ومنها أن الطير إذا مرض منه شيء استشفى بالكعبة ومنها تعجيل العقوبة لمن انتهك حرمة البيت وما قصده جبار بسوء إلا أهلكه الله كما أهلك أصحاب الفيل وغيرهم، ومن الآيات التي فيه الحجر الأسود والملتزم والحطيم وزمزم ومشاعر الحج التي فيه كلها من الآيات، ومنها أن الآمر ببناء هذا البيت هو الجليل والمهندس له جبريل، والباني هو إبراهيم الخليل، والمساعد في بنيانه هو إسماعيل فهذه فضيلة عظيمة لهذا البيت. قوله تعالى: مَقامُ إِبْراهِيمَ يعني الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت وكان فيه أثر قدمي إبراهيم فاندرس من كثرة المسح بالأيدي وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قيل لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله: إن أول بيت وضع للناس موجودة في جميع الحرم، علم أن المراد بقوله ومن دخله كان آمنا جميع الحرم ويدل عليه أيضا دعوة إبراهيم حيث قال رب اجعل هذا البلد آمنا يعني من أن يهاج فيه وكانت العرب يقتل بعضهم بعضا ويغير بعضهم على بعض وكان من دخل الحرم آمن من القتل والغارة وهو المراد من حكم الآية على قول أكثر المفسرين قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وقيل في معنى الآية ومن دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان آمنا، وقيل هو خبر بمعنى الأمر تقديره ومن دخله فأمنوه وهو قول ابن عباس حتى ذهب أبو حنيفة إلى أن من وجب عليه القتل قصاصا كان أو أحدا فالتجأ إلى الحرم فإنه لا يستوفى منه القصاص أو الحد في الحرم لكنه لا يطعم ولا يبايع ولا يشارى ولا يكلم ويضيق عليهم حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد خارج الحرم. وقال الشافعي: إذا وجب عليه القصاص خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم استوفي منه في الحرم. وأجمعوا على أنه لو قتل في الحرم أو سرق أو
272
زنى فإنه يستوفى منه الحد في الحرم عقوبة له، وقيل في معنى الآية ومن دخله معظما له متقربا بذلك إلى الله تعالى كان آمنا من العذاب يوم القيامة وقيل ومن دخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك. قوله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ أي ولله على الناس فرض حج البيت والحج أحد أركان الإسلام. (ق) عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان» فعد النبي صلّى الله عليه وسلّم الحج من أركان الإسلام الخمسة و «من استطاع إليه سبيلا» يعني وفرض الحج واجب على ما استطاع من أهل التكليف ووجد السبيل إلى حج البيت الحرام.
(فصل في فضل البيت والحج والعمرة) (ق) عن أبي ذر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول بيت وضع للناس مباركا يصلي فيه الكعبة قلت ثم أي؟
قال: المسجد الأقصى قلت كم بينهما؟ قال أربعون عاما»
. عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن وإنما سودته خطايا بني آدم» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحجر: «والله ليبعثنه الله يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق» وله عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب».
قال الترمذي: وهذا يروي عن ابن عمر موقوفا (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى» (ق) عن أبي سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى». (م) عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال له رجل: في كل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم» عن ابن عمر قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال الزاد والراحلة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وإبراهيم بن يزيد الجوزي المكي قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» وفي رواية سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حج لله عز وجل وفي لفظ من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» أخرجه الترمذي وقال: «غفر له ما تقدم من ذنبه» وعن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس لحجة مبرورة ثواب إلّا الجنة. وما من مؤمن يظل يومه محرما إلا غابت الشمس بذنوبه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وله عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مسلم لبى إلا بلي ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا وقال الترمذي: هذا حديث غريب وله عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»
قال الترمذي: هذا حديث غريب.
(فصل: في أحكام تتعلق بالحج) قال العلماء: الحج واجب على كل مسلم وهو أحد أركان الإسلام الخمسة. ولوجوب الحج خمس شرائط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة، ولا يجب على الكافر والمجنون، ولو حجا لم يصح لأن الكافر ليس من أهل القربة ولا حكم لقول المجنون ولا يجب على الصبي والعبد ولو حج صبي يعقل، أو حج عبد صح حجهما تطوعا، ولا يسقط الفرض فإذا بلغ الصبي وعتق العبد واجتمع فيهما شرائط الحج وجب عليهما
273
أن يحجا ثانيا، ولا يجب على غير المستطيع لقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فلو تكلف غير المستطيع الحج وحج صح حجه وسقط عنه فرض عنه فرض حجة الإسلام والاستطاعة نوعان:
أحدهما: أن يكون مستطيعا بنفسه، والآخر أن يكون مستطيعا بغيره فأما المستطيع بنفسه فهو أن يكون قويا قادرا على الذهاب ووجد الزاد والراحلة لما تقدم من حديث ابن عمر في الزاد والراحلة قال ابن المنذر، وحديث الزاد والراحلة لا يثبت لأنه ليس بمتصل وإنما المرفوع ما رواه إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وإبراهيم متروك الحديث قال يحيى بن معين: إبراهيم ليس بثقة قال ابن المنذر: واختلف العلماء في قوله تعالى: من استطاع إليه سبيلا فقالت طائفة الآية على العموم إذ لا نعلم خبرا ثابتا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا إجماعا لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضا فعلى كل مستطيع الحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة الحج على ظاهر الآية قال: وروينا عن عكرمة أنه قال: الاستطاعة الصحة، وقال الضحاك: إذا كان شابا صحيحا فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه وقال مالك الاستطاعة على إطاقة الناس الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي وآخر يقدر على المشي على رجليه وقالت طائفة: الاستطاعة الزاد والراحلة كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد بن حنبل واحتجوا بحديث ابن عمر المتقدم. وقال الشافعي:
الاستطاعة وجهان: أحدهما أن يكون الرجل مستطيعا ببدنه واجدا من ماله ما يبلغه الحج فتكون استطاعته تامة فعليه فرض الحج. والثاني: لا يقدر أن يثبت على الراحلة وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه، أو قادر على مال ويجد من يستأجره فيحج عنه فيكون هذا ممن لزمه فرض الحج. أما حكم الزاد والراحلة فهو أن يجد راحلة تصلح له ووجد من الزاد ما يكفيه لذهابه ورجوعه فاضلا عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقتهم وكسوتهم وعن دين إن كان عليه ووجد رفقة يخرجون في وقت جرت العادة بخروج أهل البلد في ذلك الوقت، فإن خرجوا قبله أو أخروا الخروج إلى وقت لا يصلون إلّا بقطع أكثر من مرحلة لا يلزمه الخروج معهم. ويشترط أن يكون الطريق آمنا فإن كان فيه خوف من عدو مسلم أو كافر أو رصدي يطلب الخفارة لا يلزمه. ويشترط أن تكون منازل الماء مأهولة معمورة يجد فيها ما جرت العادة بوجوده من الماء والزاد فإن تفرق أهلها بجدب أو غارت مياهها فلا يلزمه الخروج ولو لم يجد الراحلة وهو قادر على المشي أو لم يجد الزاد وهو قادر على الاكتساب لا يلزمه الحج عند من جعل وجدان الزاد والراحلة شرطا لوجوب الحج ويستحب له أن يفعل ذلك ويلزمه الحج عند مالك. وأما المستطيع بغيره فهو أن يكون الرجل عاجزا بنفسه بأن كان زمنا أو به مرض لا يرجى برؤه وله مال يمكنه أن يستأجر من يحج عنه فيجب عليه أن يستأجر من يحج عنه وإن لم يكن له مال وبذل له ولده أو أجنبي الطاعة في أن يحج عنه لزمه الحج إن كان يعتمد على صدقه لأن وجوب الحج متعلق بالاستطاعة. وعند أبي حنيفة لا يجب الحج ببذل الطاعة وعند مالك لا يجب على من غصب ماله وحجة من أوجب الحج ببذله الطاعة.
ما روي عن ابن عباس قال: «كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحجة أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال: نعم وذلك في حجة الوداع» أخرجاه في الصحيحين.
قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ يعني ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حج بيته وكفر به فإن الله غني عنه وعن حجه وعمله وعن جميع خلقه وقيل نزلت فيمن وجد ما يحج ثم مات ولم يحج فهو كفر به لما روي عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ملك زادا أو راحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله تعالى يقول ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلّا من هذا الوجه. وفي إسناده مقال وهلال بن عبد الله
274
مجهول والحارث يضعف في الحديث وقيل هو الذي إن حج لم يره برا وإن قعد لم يره إثما، وقيل نزلت في اليهود وغيرهم من أصحاب الملل حيث قالوا: إنا مسلمون فنزلت ولله على الناس حج البيت فلم يحجوا.
وقالوا: الحج إلى مكة غير واجب وكفروا به فنزلت ومن كفر فإن الله غني عن العالمين. فعلى هذه الأقوال تكون هذه الآية متعلقة بما قبلها وقيل إنه كلام مستأنف ومعناه ومن كفر بالله واليوم الآخر فإن الله غني عن العالمين.
وقوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ قيل الخطاب لعلماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل الخطاب لجميع أهل الكتاب اليهود والنصارى الذين أنكروا نبوته لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني الآيات الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه حق وصدق والمعنى لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل المراد بآيات الله القرآن ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ أي والله شهيد على أعمالكم فيجازيكم عليها قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ، يعني لم تصرفون عن دين الله من آمن وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاء الشبهة والشكوك وذلك بإنكارهم صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم في كتبهم تَبْغُونَها عِوَجاً، يعني زيغا وميلا عن الحق والعوج بالكسر الزيغ والميل عن الاستواء في الدين والقول والعمل وكل ما لا يرى فأما الشيء الذي يرى كالحائط والقناة ونحو ذلك يقال فيه عوج بفتح العين والهاء في قوله تبغونها عائدة على السبيل والمعنى لم تطلبون الزيغ والميل في سبيل الله بإلقاء الشبه في قلوب الضعفاء وَأَنْتُمْ شُهَداءُ قال ابن عباس: يعني وأنتم شهداء أن نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وصفته مكتوب في التوراة، وأن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام وقيل معناه وأنتم تشهدون المعجزات التي تظهر على يد محمد صلّى الله عليه وسلّم الدالة على نبوته وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيه وعيد وتهديد لهم وذلك أنهم كانوا يجتهدون ويحتالون بإلقاء الشبهة في قلوب الناس ليصدوهم عن سبيل الله والتصديق بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فلذلك قال الله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية قال زيد بن أسلم:
مر شاس بن قيس اليهودي وكان شيخا عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين فمر بنفر من الأوس والخزرج وهم في مجلس يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية وقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار فأمر شابا من اليهود كان معه فقال له اعمد إليهم واجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب وهما أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا فقال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة وغضب الفريقان جميعا وقالا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهر وهي الحرة فخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضهم إلى بعض على دعواهم في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟ الله الله. فعرف القوم أنها نزعة من
الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا واعتنق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سامعين مطيعين قال جابر: فما رأيت يوما أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني شاسا اليهودي وأصحابه يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ والكفر يوجب الهلاك في الدنيا بوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة والحرب وسفك الدماء وفي الآخرة النار ثم قال تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وكلمة كيف كلمة تعجب والتعجب إنما يليق بمن لا يعلم السبب وذلك على الله محال، فالمراد منه المنع والتغليظ وذلك لأن تلاوة آيات الله وهي القرآن حالا بعد حال وكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيكم يرشدكم إلى مصالحكم وذلك يمنع من وقوع الكفر فكان وقوع الكفر منهم بعيدا على هذا الوجه قال قتادة: في هذه الآية علمان بينان كتاب الله تعالى ونبي الله صلّى الله عليه وسلّم أما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله تعالى فقد أبقاه الله بين أظهركم رحمة منه ونعمة. (م) عن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خمّا بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ الناس وذكر، ثم قال: «أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي وقوله تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ أي يمتنع بالله ويستمسك بدينه وطاعته وأصل العصمة الامتناع من الوقوع في آفة، وفيه حث لهم في الالتجاء إلى الله تعالى في دفع شر الكفار عنهم فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى طريق واضح وهو طريق الحق المؤدي إلى الجنة. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ.
قال مقاتل بن حيان: كان بين الأوس والخزرج عداوة في الجاهلية وقتال فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة أصلح بينهم فافتخر بعد ذلك منهم رجلان وهما ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج. فقال الأوسي: منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ومنا حنظلة غسيل الملائكة ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدبر ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن له ورضى الله بحكمه في بني قريظة وقال الخزرجي: منا أربعة أحكموا القرآن أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم فجرى الحديث بينهما فغضبا وأنشدا الأشعار وتفاخرا فجاء الأوس والخزرج ومعهم السلاح فأتاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فأصلح بينهم فأنزل الله عز وجل هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال ابن عباس: هو أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى. وقال مجاهد: هو أن تجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم وعن أنس قال: لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه، وقيل حق تقاته يعني واجب تقواه وهو القيام بالواجب واجتناب المحارم. واختلف العلماء في هذا القدر من هذه الآية هل هو منسوخ أم لا على قولين أحدهما أنه منسوخ وذلك أنه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وقالوا: يا رسول الله ومن يقوى على هذا؟ فأنزل الله تعالى الناسخ وهو قوله تعالى في سورة التغابن: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد والسدي. والقول الثاني أنها محكمة غير منسوخة وهو رواية عن ابن عباس أيضا وبه قال طاوس: وموجب هذا الاختلاف يرجع إلى معنى الآية فمن قال إنها منسوخة قال حق تقاته هو أن يأتي العبد بكل ما يجب لله ويستحقه فهذا يعجز العبد عن الوفاء به فتحصيله ممتنع ومن قال بأنها محكمة قال: إن حق تقاته أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته فكان قوله تعالى
اتقوا الله ما استطعتم مفسرا لحق تقاته لا ناسخا ولا مخصصا فمن اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقواه وقيل معنى حق تقاته كما يجب أن يتقي وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه، وقيل في معنى قول ابن عباس هو أن يطاع فلا يعصى هذا صحيح والذي يصدر من العبد على سبيل السهو والنسيان غير قادح فيه لأن التكليف في تلك الحال مرفوع عنه وكذلك قوله: وأن يشكر فلا يكفر فواجب على العبد حضور ما أنعم الله به عليه بالبال، وأما عند السهو فلا يجب عليه. وكذلك قوله وأن يذكر فلا ينسى فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة لا عند السهو والنسيان.
وقوله تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لفظ النهي واقع على الموت والمعنى واقع على الأمر بالإقامة على الإسلام، والمعنى كونوا على الإسلام فإذا ورد عليكم الموت صادفكم على ذلك. وقيل هذا في الحقيقة نهي عن ترك الإسلام المعنى لا تتركوا الإسلام فإن الموت لا بد منه فمتى جاءكم صادفكم وأنتم على الإسلام لأنه لما كان يمكنكم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم، وقيل معناه ولا تموتن إلّا وأنتم مسلمون مخلصون مفوضون إلى الله أموركم تحسنون الظن به عزّ وجلّ. عن ابن عباس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون فقال: لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن تكون طعامه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ١٠٣]
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً أي تمسكوا بحبل الله والحبل هو السبب الذي يتوصل به إلى البغية وسمي الإيمان حبلا لأنه سبب يتوصل به إلى زوال الخوف وقيل حبل الله هو السبب الذي به يتوصل إليه فعلى هذا اختلفوا في معنى الآية فقال ابن عباس: معناه تمسكوا بدين الله لأنه سبب يوصل إليه، وقيل حبل الله هو القرآن لأنه أيضا سبب يوصل إليه. وفي أفراد مسلم من حديث زيد بن أرقم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة» الحديث عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به» وذكره البغوي بغير سند وقال ابن مسعود: هو الجماعة وقال عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة وقيل بحبل الله يعني بأمر الله وطاعته وَلا تَفَرَّقُوا يعني كما تفرقت اليهود والنصارى وقيل ولا تفرقوا يعني كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادي بعضكم بعضا ويقتل بعضكم بعضا. قيل معناه لا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها ففيه النهي عن التفرق والاختلاف والأمر بالاتفاق والاجتماع لأن الحق لا يكون إلا واحدا وما عداه يكون جهلا وضلالا وإذا كان كذلك وجب النهي عن الاختلاف في الدين وعن الفرقة لأن كل ذلك كان عادة أهل الجاهلية فنهوا عنه وروى البغوي بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، وأن تناصحوا من ولى الله أمركم، ويسخط لكم ثلاثا قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال».
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً قال
277
محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار كان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما عداوة قتيل ثم تطاولت تلك العداوة والحروب بينهم مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام وألف بينهم بنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم. وسبب ذلك أن سويد بن الصامت أخا بني عمرو بن عوف وكان شريفا يسميه قومه الكامل لجلده ونسبه قدم مكة حاجا أو معتمرا وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعث وأمر بالدعوة فتصدى له النبي حين سمع به ودعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام فقال له سويد فلعل الذي معك مثل الذي معي فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما الذي معك؟ قال مجلد لقمان يعني حكمة لقمان فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعرضها علي فعرضها عليه فقال: إن هذا الكلام حسن ومعي أفضل من هذا قرآن أنزل الله عز وجل على نورا وهدى فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول قول حسن ثم انصرف إلى المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج يوم بعاث وإن قومه يقولون: قد قتل وهو مسلم. ثم قدم أبو الحيس أنس بن رافع ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاهم وجلس إليهم وقال لهم:
هل لكم إلى خير مما جئتم له قالوا وما هو؟ قال أنا رسول الله قد بعثني الله إلى العباد أدعوهم إلى أن لا يشركوا بالله شيئا وأنزل على الكتاب ثم ذكر الإسلام وتلا عليهم القرآن. قال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا أي قوم هذا والله خير مما جئتم له فأخذ أبو الحيس حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا فصمت إياس وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم وانصرفوا إلى المدينة فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج فلم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه صلّى الله عليه وسلّم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على القبائل من العرب كما كان يصنع في كل موسم فلقي عند العقبة رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا وهم ستة نفر أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث وهو ابن عفراء ورافع بن مالك العجلاني وقطبة بن عامر بن خريدة وعقبة بن عامر بن بابي وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أنتم قالوا نفر من الخزرج قال أمن موالي اليهود قالوا نعم قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. قال:
وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم وهم أهل أوثان وشرك وكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيّا الآن مبعوث قد أظل زمانه سنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله أنه النبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه فأجابوه وصدقوه وأسلموا معه وقالوا إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعين إلى بلادهم فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا وهم أسعد بن زرارة وعوف ومعاذ ابنا عفراء ورافع بن مالك العجلاني وذكوان بن عبد القيس وعبادة بن الصامت وزيد بن ثعلبة وعباس بن عبادة وعقبة بن عامر وقطبة بن عامر فهؤلاء خزرجيون وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة من الأوس فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بيعة النساء على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين بهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف الآية فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم شيئا من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم قال وذلك قبل أن يفرض الحرب، قال: فلما انصرف القوم بعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين وكان يسمى مصعب بالمدينة المقرئ، وكان منزله على
278
أسعد بن زرارة ثم إن أسعد بن زرارة خرج ومصعب فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما فإن أسعد بن خالتي ولولا ذلك لكفيتكه، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني عبد الأشهل وهما بعد مشركان فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إلى مصعب: وأسعد وهما جالسان في الحائط فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه قال مصعب إن يجلس أكلمه فلما وقف عليهما متشتما وقال ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة قال له مصعب أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ قال: أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن قال والله لعرفنا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم من إشراقه وتسهله ثم قال ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين قالا تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد شهادة الحق ثم صلى ركعتين ثم قال:
إن ورائي رجلا إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم فلما نظر سعد إلى أسيد مقبلا قال أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم فلما وقف أسيد على النادي قال له سعد ما فعلت قال كلمت الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقال: لا نفعل إلا ما أحببت وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك فقام سعد مغضبا للذي ذكره من بني حارثة فأخذ الحربة ثم قال والله ما أراك أغنيت شيئا فانصرف إليهما فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتما ثم قال لأسعد بن زرارة: لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني تغشانا في دارنا بما نكره وقد كان قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد قومه إن يتبعك لم يخالفك أحد منهم، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره فقال سعد: أنصفت ثم ركزا الحربة وجلس فعرض عليه مصعب الإسلام وقرأ عليه القرآن قالا فعرفنا والله الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم من إشراق وجهه وتسهله ثم قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلّي ركعتين. فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين ثم أخذ حربته وأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير فلما رأوه مقبلا قالوا نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة. قال: فإن كان رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله قال فما أمسى في دار بني الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم ومسلمة ورجع أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير إلى منزل أسعد فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ومسلمات إلّا ما كان من دار أمية بن زيد وخطمة ووائل ووافق ذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق قالوا ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فوعدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية قال كعب ابن مالك وكان قد شهد ذلك فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه وكنا نكتم من معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه وقلنا: يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ودعوناه إلى الإسلام فأسلم فأخبرناه بميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشهد معنا العقبة وكان نقيبا فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل
279
خرجنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نتسلل مستخفين تسلل القطا حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني النجار وأسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع إحدى نساء بني سلمة فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جاءنا ومعه عمه العباس ابن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوقف له فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج وكانت العرب يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه عن قومنا ممن هو على مثل رأينا وهو في
عز من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم به من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عزو ومنعة قال فقلنا: قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك ولربك ما شئت فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلا القرآن ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال والذي بعثك بالحق نبيّا لنمعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناهما كابرا عن كابر فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا يعني عهودا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أخرجوا إلى منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم فأخرجوا اثني عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس قال عاصم بن عمرو بن قتادة إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله خزي في الدنيا والآخرة وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا فإنا نأخذ على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا قال الجنة قالوا ابسط يدك فبسط يده فبايعوه وأول من ضرب على يده البراء بن معرور ثم تتابع القوم قال فلما بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمعته قط يا أهل الحباحب هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا عدو الله هذا أزب العقبة يعني شيطان العقبة اسمع أي عدو الله أما والله لأفرغن لك ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: انفضوا إلى رحالكم فقال العباس بن عبادة بن نضلة والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينه منكم قال فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا لم يعلموا به وبعضنا ينظر إلى بعض وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدتان قال: فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوه يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ورمى بهما إليّ وقال والله لتنتعلنهما قال أبو جابر مه والله أحفظت الفتى فاردد إليه نعليه قال فقلت لا أردهما قال: والله يا أبا صالح لئن صدق الفأل لأسلبنه قال: ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وقد شدوا العقد فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال
280
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها» فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار فأول من هاجر
إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ثم عامر بن ربيعة ثم عبد الله بن جحش ثم تتابعوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسالا إلى المدينة ثم هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فجمع الله عز وجل أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام، وأصلح ذات بينهم بنبيه عليه الصلاة والسلام وأنزل الله عز وجل: وَاذْكُرُوا يعني يا معشر الأنصار نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني بالإسلام إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً يعني قبل الإسلام فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ يعني بالإسلام وبنبيّه عليه الصلاة والسلام فأصبحتم بنعمته إخوانا يعني فصرتم برحمته وبدينه الإسلام إخوانا في الدين والولاية بعد العداوة وَكُنْتُمْ يا معشر الأوس والخزرج عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ يعني على طرف حفرة مثل شفا البئر ليس بينكم وبين الوقوع في النار إلا أن تموتوا على كفركم فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها أي فخلصكم بالإيمان من الوقوع في النار كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٠٤]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)
قوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ اللام في قوله ولتكن لام الأمر أي لتكن منكم أمة دعاة إلى الخير، وقيل إن كلمة من في قوله منكم للتبيين لا للتبعيض وذلك لأن الله عز وجل أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فيجب على كل مكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما بيده أو بلسانه أو بقلبه (م) عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» فعلى هذا يكون معنى الآية كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر ومن قال بهذا القول يقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به واحد سقط الفرض عن الباقين، وقيل إن من هنا للتبعيض وذلك لأن في الأمة من لا يقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعجز وضعف فحسن إدخال لفظ من في قوله ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير وقيل إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يختص بالعلماء ولاة الأمر فعلى هذا يكون المعنى ليكن بعضكم آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. (خ) عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا» والخير المذكور في الآية هو كل شيء يرغب فيه من الأفعال الحسنة وقيل: هو هنا كناية عن الإسلام والمعنى لتكن أمة أي جماعة دعاة إلى الإسلام وإلى كل فعل حسن يستحسن في الشرع والعقل وقيل الدعوة إلى فعل الخير يندرج تحتها نوعان: أحدهما:
الترغيب في فعل ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف. والثاني: الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر فذكر الحسن أولا وهو الخير ثم أتبعه بنوعيه مبالغة في البيان والمعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل والشرع حسنه والمنكر ضد ذلك وهو ما عرف بالعقل والشرع قبحه وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تقدم تسيره.
قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٠٥ الى ١٠٦]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا يعني ولا تكونوا يا معشر المؤمنين كالذين تفرقوا يعني أهل الكتاب
281
وهم اليهود والنصارى في قول أكثر المفسرين واختلفوا في دين الله وأمره ونهيه، وقيل تفرقوا واختلفوا بمعنى واحد وإنما ذكرهما للتأكيد وقيل تفرقوا بسبب العداوة واتباع الهوى واختلفوا في دين الله فصاروا فرقا مختلفين قال الربيع في هذه الآية: هم أهل الكتاب نهى الله أهل الإسلام أن يتفرقوا أو يختلفوا كما تفرق واختلف أهل الكتاب. وقال ابن عباس: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في الدين. وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأمة وقال أبو أمامة: هم الحرورية:
قال عبد الله بن شداد: وقف أبو أمامة وأنا معه على رؤوس الحرورية على درج جامع دمشق فذرفت عيناه ثم قال:
كلاب أهل النار وكانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم، شر قتيل تحت أديم السماء، وخير قتيل تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء قلت فما شأنك دمعت عيناك قال رحمة لهم كانوا من أهل الإسلام فكفروا بعد إيمانهم ثم أخذ بيدي وقال: إن بأرضي منهم كثير وفي رواية ثم قرأ بعد قوله: كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا إلى قوله: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ورواه الترمذي عن أبي غالب قال رأى أبو أمامة: رؤوسا منصوبة على درج دمشق فقال أبو أمامة كلاب أهل النار شر قتلي تحت أديم السماء خير قتلي من قتلوه ثم قرأ: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ إلى آخر الآية قلت لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاث مرات أو أربع مرات حتى عد سبعا ما حدثتكموه وقال فيه هذا حسن وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ يعني الحجج الواضحات فعلموها ثم خالفوها وإنما قال جاءهم ولم يقل جاءتهم لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل في التقديم تشبيها بعلامة التثنية والجمع وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني لهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا لهم عذاب عظيم في الآخرة وفيه زجر عظيم للمؤمنين عن التفرق والخلاف عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه أخرجه أبو داود. أراد بربقة الإسلام عقد الإسلام وأصله أن الربق حبل فيه عدة عرا يشد بها الغنم الواحدة من العري ربقة. وروى البغوي بسنده عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد» بحبوحة الجنة وسطها والفذ هو الواحد. قوله عز وجل: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ يعني اذكروا يوم تبيض وجوه المؤمنين وتسود وجوه الكافرين، وقيل تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة، وقيل تبيض وجوه المخلصين وتسود وجوه المنافقين وفي بياض الوجوه وسوادها قولان: أحدهما، إن البياض كناية عن الفرح والسرور والسواد كناية عن الغم والحزن، وهذا مجاز مستعمل يقال لمن نال بغيته وظفر بمطلوبه ابيضّ وجهه يعني من السرور والفرح ولمن ناله مكروه اسود وجهه وأريد لونه يعني من الحزن والغم قال الله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا يعني من الحزن فعلى هذا بياض الوجوه إشراقها وسرورها واستبشارها بعملها، وذلك أن المؤمن إذا ورد القيامة على ما قدم من خير وعمل صالح استبشر بثواب الله ونعمه عليه فإذا كان كذلك وسم وجهه ببياض اللون وإشراقه واستنارته وابيضت صحيفته وأشرقت وسعى النور بين يديه وعن يمينه وشماله. وأما الكافر والظالم إذا ورد القيامة على ما قدم من قبيح عمل وسيئات حزن واغتم لعلمه بعذاب الله فإذا كان كذلك وسم وجهه بسواد اللون وكمودته واسودت صحيفته وأظلمت وأحاطت به الظلمة من كل جانب نعوذ بفضل الله وسعة رحمته من الظلمات يوم القيامة والقول الثاني بياض الوجوه وسوادها حقيقة تحصل في الوجه فيبيض وجه المؤمن ويكسى نورا ويسود وجه الكافر ويكسى ظلمة لأن لفظ البياض والسواد حقيقة فيهما والحكمة في بياض الوجوه وسوادها أن أهل الموقف إذا رأوا بياض وجه المؤمن عرفوا أنه من أهل السعادة وإذا رأوا سواد وجه الكافر عرفوا أنه من أهل الشقاوة فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي فيقال لهم أكفرتم والهمزة للتوبيخ والتقريع.
فإن قلت كيف قال أكفرتم بعد إيمانكم وهم لم يكونوا مؤمنين فمن المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم. قلت
282
اختلف العلماء في ذلك فروى عن أبيّ بن كعب أنه قال: أراد به الإيمان يوم أخذ الميثاق حين قال لهم ألست بربكم؟ قالوا بلى فآمن الكل، فكل من كفر في الدنيا فقد كفر بعد الإيمان، وقال الحسن: هم المنافقون وذلك أنهم تكلموا بالإيمان بألسنتهم وأنكروه بقلوبهم. وقال عكرمة: هم أهل الكتاب وذلك أنهم آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قبل مبعثه فلما بعث أنكروه وكفروا به وقيل هم الذين ارتدوا زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهم أهل الردة (ق) عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا فرطكم على الحوض وليرفعن إليّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأنا لهم اختلجوا دوني فأقول أي رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (ق) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليردنّ عليّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا دوني فلأقولن أي رب أصحابي أصحابي فيقال لي لا تدري ما أحدثوا بعدك» زاد في رواية فأقول: «سحقا لمن بدل بعدي» (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يرد على يوم القيامة رهط من أصحابي أو قال من أمتي فيجلون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول: إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقهرى» وقيل هم الخوارج الذين خرجوا على عليّ بن أبي طالب وقتلهم وهم الحرورية. (م) عن زيد بن وهب أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي لما ساروا إلى الخوارج فقال عليّ: أيّها الناس إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية» وفي رواية سويد بن غفلة عنه يقرءون القرآن لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة (ق) عن بشير بن عمرو. قال: قلت لسهل بن حنيف هل سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في الخوارج شيئا قال: سمعته يقول وأهوى بيده إلى العراق «ويخرج منهم قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية» وقيل هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة كالقدرية ونحوهم ومن قال بهذا القول يقول كفرهم بعد إيمانهم هو خروجهم من الجماعة ومفارقتهم في الاعتقاد. (م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا، ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا».
وقال الحارث الأعور: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: على المنبر إن الرجل ليخرج من أهله فما يؤوب إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به الجنة وإن الرجل ليخرج من أهله فما يعود إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به النار ثم قرأ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ الآية ثم نادى هم الذين كفروا بعد الإيمان ورب الكعبة. وقوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٠٧ الى ١٠٨]
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨)
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ يعني المؤمنين المطيعين لله عز وجل فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ يعني ففي جنة الله وإنما سميت الجنة رحمة لأنها دار رحمة وفيه إشارة إلى أن العبد وإن عمل بالطاعات لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى هُمْ فِيها خالِدُونَ قيل: إنما كرر كلمة في لأن في كل واحدة منهن معنى غير الأخرى المعنى أنهم في رحمة الله وأنهم في الرحمة خالدون تِلْكَ آياتُ اللَّهِ يعني القرآن وقيل هذه الآيات التي تقدمت نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي بالمعنى الحق لأن المتلو حق وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ يعني لا يعاقب أحدا بغير جرم واستحقاق للعقوبة وإنما ذكر الظلم هنا لأنه قد تقدم ذكر العقوبة في قوله فأما الذين اسودّت وجوههم إلى قوله فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون أخبر أنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب أفعالهم المنكرة وأنه لا يظلم أحدا من خلقه.

[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٠٩ الى ١١٠]

وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لما ذكر الله أنه لا يريد ظلما للعالمين لأنه لا حاجة به إلى الظلم، وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد مالا أو عزا أو سلطانا أو يتم نقصا فيه بما يظلم به غيره ولما كان الله عز وجل مستغنيا عن ذلك، وله صفة الكمال أخبر أن له ما في السموات وما في الأرض وأن جميع ما فيهما ملكه وأهلهما عبيده، وإذا كان كذلك يستحيل في حقه سبحانه وتعالى أن يظلم أحدا من خلقه لأنهم عبيده، وفي قبضته ثم قال: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يعني وإليه مصير جميع الخلائق المؤمن والكافر والطائع والعاصي فيجازي الكل على قدر استحقاقهم ولا يظلم أحدا منهم.
قوله عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ سبب نزول هذه الآية أن مالك بن الصيف ووهب بن يهودا اليهوديين قالا لعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة: نحن أفضل منكم وديننا خير من دينكم الذي تدعوننا إليه فأنزل الله هذه الآية واختلف في لفظة كان فقيل هي بمعنى الحدوث والوقوع والمعنى حدثتم ووجدتم وخلقتم خير أمة وقيل كان هنا ناقصة وهي عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض ولا تدل على انقطاع طارئ بدليل قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فعلى هذا التقدير يكون المعنى: كنتم في علم الله خير أمة وقيل كنتم مذكورين في الأمم الماضية بأنكم خير أمة، وقيل كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة وقيل معناه كنتم منذ آمنتم خير أمة وقيل قوله خير أمة تابع لقوله: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ والتقدير أنه يقال لهم عند دخول الجنة: كنتم في دنياكم خير أمة فلهذا استحققتم ما أنتم فيه من بياض الوجوه والنعم المقيم، وقيل كنتم بمعنى أنتم وقيل يحتمل أن يكون كان بمعنى صار فمعنى قوله كنتم أي صرتم خير أمة. فأما المخاطبون بهذا من هم ففيه خلاف قال ابن عباس في قوله كنتم خير أمة هم الذين هاجروا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وروى ابن جرير عن عمر بن الخطاب قال لو شاء الله تعالى لقال: أنتم فكنا كلنا ولكن في خاصة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن صنع مثل ما صنعتم كانوا خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وقال الضحاك: هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعني به كانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله عز وجل المسلمين باتباعهم وطاعتهم. (ق) عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم إن بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن» زاد في رواية: «ويحلفون ولا يستحلفون». (ق) عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» قوله: «خير الناس قرني» يعني أصحابي والقرن أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران فكأنه الزمان الزمان الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم، وقيل القرن أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة. (ق) عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» النصيف النصف. وقال ابن عباس في رواية عطاء في قوله: كنتم خير أمة هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم قال الزّجاج قوله كنتم خير أمة الخطاب فيه مع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكنه عام في كل أمة ونظيره قوله: «كتب عليكم الصيام، كتب عليكم القصاص» فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ، ولكنه عام في حق الكل كذا هاهنا عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال أنتم الأمة تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى أخرجه الترمذي وقال حديث حسن
284
وأصل الأمة الجماعة المجتمعة على الشيء. وأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم هم الجماعة الموصوفين بالإيمان بالله عز وجل وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم (خ) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار» أخرجه الترمذي عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أمتي أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها
في الدنيا الفتن والزلازل والقتل»
أخرجه أبو داود عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل أمتي كمثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله» أخرجه الترمذي وله عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم» وله عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «باب أمتي الذي يدخلون منه الجنة عرضه مسيرة الراكب المسرع المجد ثلاثا ثم إنهم يتضاغطون عليه حتى تكاد مناكبهم تزول» قال الترمذي سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فلم يعرفه وقال لخالد بن أبي بكر مناكير عن سالم بن عبد الله زاد غيره في الحديث وهم شركاء الناس في سائر الأبواب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أمتي من يشفع في الفئام من الناس ومنهم من يشفع في القبيلة ومنهم من يشفع للعصبة من يشفع للواحد» أخرجه الترمذي (خ) عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف سماطين متماسكين آخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر» عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «وعدني ربي أن يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب ومع كل ألف سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي» أخرجه الترمذي. وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي» وقوله تعالى: أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ معناه كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار ومعنى أخرجت أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وقيل معناه كنتم للناس خير أمة أخرجت (خ) عن أبي هريرة قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام، وقيل أخرجت صلة والتقدير كنتم خير أمة للناس وقيل معناه ما أخرج للناس أمة خير من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ هذا كلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية وكونهم خير أمة كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم. والمعروف هو التوحيد، والمنكر هو الشرك، والمعنى تأمرون الناس بقول لا إله إلا الله وتنهونهم عن الشرك وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي وتصدقون بالله وتخلصون له التوحيد والعبادة. فإن قلت لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان يلزم أن يكون مقدما على كل الطاعات والعبادات؟. قلت الإيمان بالله أمر يشترك فيه جميع الأمم المؤمنة وإنما فضلت هذه الأمة الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سائر الأمم، وإذا كان كذلك كان المؤثر في هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما الإيمان بالله فهو شرط في هذا الحكم لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يضر شيء من الطاعات مقبولا فثبت أن الموجب لهذه الخيرية لهذه الأمة هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، فلهذا السبب حسن تقديم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان وقوله تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ يعني ولو آمن اليهود والنصارى بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالدين الذي جاء به لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يعني مما هم عليه من اليهودية والنصرانية وإنما حملهم على ذلك حب الرياسة واستتباع العوام ولو أنهم آمنوا لحصلت لهم الرياسة في الدنيا، والثواب العظيم في الآخرة وهو دخول الجنة مِنْهُمُ يعني من أهل الكتاب الْمُؤْمِنُونَ يعني عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من اليهود والنجاشي
285
وأصحابه الذين أسلموا من النصارى وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ أي المتمردون في الكفر، وقيل إن الكافر قد يكون عدلا في دينه وهؤلاء مع كفرهم فاسقون. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١١١ الى ١١٢]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً سبب نزول هذه الآية أن رؤساء اليهود عمدوا إلى من آمن منهم مثل عبد الله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم فأنزل الله تعالى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً يعني لن يضركم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود إلا أذى يعني باللسان من طعنهم في دينكم أو تهديد أو إلقاء شبهة وتشكيك في القلوب وكل ذلك يوجب الأذى والغم وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ يعني منهزمين مخذولين ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ يعني لا يكون لهم النصر عليكم بل تنصرون عليهم وفيه تثبيت لمن أسلم من أهل الكتاب لأنهم كانوا يؤذونهم بالقول ويهددونهم ويوبخونهم فأعلمهم الله تعالى أنهم لا يقدرون أن يجاوزوا الأذى بالقول إلى غيره من الضرر ثم وعدهم الغلبة والانتقام منهم وأن عاقبتهم الخذلان والذل فقال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ يعني جعلت الذلة ملصقة بهم كالشيء يضرب على الشيء فيلتصق به، والمراد بالذلة قتلهم وسبيهم وغنيمة أموالهم وقيل الذلة ضرب الجزية عليهم لأنهم ذلة وصغار وقيل ذلتهم أنك لا ترى في اليهود ملكا قاهرا ولا رئيسا معتبرا بل مستضعفون في جميع البلاد أَيْنَما ثُقِفُوا أي حيثما وجدوا وصودفوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ يعني إلا بعهد من الله وهو أن يسلموا فتزول عنهم الذلة وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ يعني المؤمنين ببذل الجزية والمعنى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس وهو ذمة الله وعهده وذمة المسلمين وعهدهم لا عزلهم إلا هذه الواحدة وهي التجائوهم إلى الذمة لما قبلوه من بذل الجزية. وإنما سمي العهد حبلا لأنه سبب يوصل إلي الأمن وزال الخوف وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ يعني رجعوا بغضب من الله واستوجبوه وقيل أصله من البواء وهو المكان والمعنى أنهم مكثوا في غضب من الله وحلوا فيه وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ يعني كما يضرب البيت على أهله فهم ساكنون في المسكنة غير خارجين منها قال الحسن المسكنة هي الجزية، وذلك لأن الله تعالى أخرج المسكنة عن الاستثناء، وذلك يدل على أنها باقية عليهم والباقي عليهم هو الجزية فدل على أن المسكنة هي الجزية، وقيل المراد بالمسكنة هو أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان غنيا موسرا ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ أي ذلك الذي نزل بهم بسبب عصيانهم لله عز وجل وتعديهم لحدوده فنزل بهم ما نزل قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١١٣ الى ١١٤]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤)
لَيْسُوا سَواءً قال ابن عباس: لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه قالت أحبار اليهود ما آمن محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا شرارنا ولولا ذلك ما تركوا دين آبائهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وفي قوله: لَيْسُوا سَواءً قولان أحدهما أنه كلام تام يوقف عليه والمعنى أهل الكتاب الذي سبق ذكرهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ليسوا سواء، وقيل
معناه لا يستوي اليهود وأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم القائمة بأمر الله الثابتة على الحق. والقول الثاني أن قوله: لَيْسُوا سَواءً متعلق بما بعده ولا يوقف عليه وقوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ فيه اختصار وإضمار والتقدير ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ومنهم أمة مذمومة غير قائمة فترك ذكر الأمة الأخرى اكتفاء بذكر أحد الفريقين وهذا على مذهب العرب أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الآخر قال أبو ذؤيب:
دعاني إليها القلب إني امرؤ لها مطيع فلا أدري أرشد طلابها
أراد أم غير رشد فاكتفى بذكر أحد الرشدين دون الآخر. وقال الزّجاج: لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة لأنه قد جرى ذكر أهل الكتاب بقوله: كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق فأعلم الله أن منهم أمة قائمة فلا حاجة بنا إلى أن نقول وأمة غير قائمة إنما ابتدأ بذكر فعل الأكثر منهم وهو الكفر والمشاقة، ثم ذكر من كان مباينا لهم في فعلهم فقال: «ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة» قال ابن عباس: قائمة أي مهدية قائمة على أمر الله تعالى لم يضعوه ولم يتركوه، وقيل قائمة أي عادلة وقيل قائمة على كتاب الله عز وجل وحدوده وقيل: قائمة في الصلاة يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ أي يقرءون كتاب الله عز وجل: آناءَ اللَّيْلِ يعني ساعاته وَهُمْ يَسْجُدُونَ يعني يصلون، عبر بالسجود عن الصلاة لأن التلاوة لا تكون في السجود وقيل: هي صلاة التهجد بالليل وقيل هي صلاة العشاء لأن اليهود لا يصلونها وقيل يحتمل أنه أراد بالسجود الخضوع والخشوع لأن العرب تسمي الخشوع سجودا وقال عطاء في قوله تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يريد أربعين رجلا من أهل نجران من العرب واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه الصلاة والسلام وصدقوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به وكانوا عدة نفر من الأنصار منهم أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن مسلمة وأبو قيس صرمة بن أنس كانوا قبل الإسلام موحدين يغتسلون من الجنابة ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية حتى جاءهم الله عز وجل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فآمنوا به وصدقوه، ثم وصفهم الله تعالى بصفات ما كانت في اليهود فقال: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وذلك لأن إيمان أهل الكتاب فيه شرك ويصفون اليوم الآخر بغير ما يصفه المؤمنون، وقيل إن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله واليهود يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من فعل المعاصي واليهود لا يحترزون منها فلم يحصل الإيمان الخالص بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني غير مداهنين كما يداهن اليهود بعضهم بعضا. وقيل يأمرون بالمعروف يعني بتوحيد الله تعالى والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وينهون عن المنكر يعني عن الشرك وعن كتم صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يبادرون إليها خوف الفوت وذلك أن من رغب في أمر سارع إليه وقام به غير متوان عنه وقيل يسارعون في الخيرات غير متثاقلين ولا كسالى وَأُولئِكَ إشارة إلى الموصوفين بما وصفوا به مِنَ الصَّالِحِينَ أي من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله عز وجل ورضي عنهم واستحقوا ثناءه عليهم، وذلك لأن الصلاح ضد الفساد فإذا حصل الصلاح للإنسان فقد حصل له أعلى الدرجات وأكمل المقامات وقيل يحتمل أن يراد بالصالحين المسلمون والمعنى أولئك الذين تقدم وصفهم من جملة المسلمين. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١١٥ الى ١١٨]
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)
287
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ قرئ بالياء لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب وذلك أن اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه إنكم خسر ثم بسبب هذا الدين الذي دخلتم فيه فأخبر الله تعالى أنهم فازوا بالدرجات العلى وما فعلوه مكن خير يجازيهم به ولا يمنع من خصوص السبب عموم الحكم فيدخل فيه كل فاعل للخير وقرئ بالتاء على أنه ابتداء كلام وهو خطاب لجميع المؤمنين ويدخل فيه مؤمنوا أهل الكتاب أيضا ومعنى الآية وما تفعلوا من خير أيها المؤمنون فلن تكفروه أي فلن تعدموا ثوابه ولن تجرموه أو تمنعوه بل يشكره لكم ويجازيكم به وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ فيه بشارة للمتقين بجزيل الثواب ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل الإيمان والتقوى. قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قال ابن عباس: يريد بني قريظة والنضير وذلك أن رؤساء اليهود مالوا إلى تحصيل الأموال في معاداة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما كان مقصودهم بمعاداته تحصيل الرياسة والأموال فقال الله عز وجل: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وقيل: نزلت في مشركي قريش فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بالأموال وأنفق أبو سفيان مالا كثيرا في يومي بدر وأحد على المشركين وقيل: إن الآية عامة في جميع الكفار لأن اللفظ عام ولا دليل يوجب التخصيص فوجب إجراء اللفظ على عمومه ومعنى الآية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ أي تدفع أموالهم بالفدية لو افتدوا بها من عذاب الله ولا أولادهم بالنصر وإنما خص الأموال والأولاد بالذكر لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بالفداء بالمال وتارة بالاستعانة بالأولاد فأعلم الله تعالى أن الكافر لا ينفعه شيء من ذلك في الآخرة ولا مخلص له من عذاب الله وهو قوله: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا يخرجون منها ولا يفارقونها قوله عز وجل: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
قيل أراد نفقة أبي سفيان وأصحابه ببدر وأحد في معاداة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل أراد نفقة اليهود على علمائهم ورؤسائهم وقيل: أراد نفقات جميع الكفار وصدقاتهم في الدنيا وقيل: أراد نفقة المرائي الذي لا يريد بما ينفق وجه الله تعالى وذلك لأن إنفاقهم المال إما أن يكون لمنافع الدنيا أو لمنافع الآخرة فإن كان لمنافع الدنيا لم يبق له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلا عن الكافر وإن كان لمنافع الآخرة كمن يتصدق ويعمل أعمال البر فإن كان كافرا فإن الكفر محبط لجميع أعمال البر فلا ينتفع بما أنفق في الدنيا لأجل الآخرة وكذلك المرائي الذي لا يريد بما أنفق وجه الله تعالى فإنه لا ينتفع بنفقته في الآخرة ثم ضرب لذلك الإنفاق مثلا فقال تعالى: مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
فيه وجهان: أحدهما وهو قول أكثر المفسرين، وأهل اللغة إن الصر البرد الشديد وبه قال ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد: والوجه الثاني أن الصر هو السموم الحارة التي تقتل وهو رواية عن ابن عباس وبه قال ابن الأنباري من أهل اللغة وعلى الوجهين فالتشبيه صحيح والمقصود منه حاصل لأنها سواء كان فيها برد فهي مهلكة أو حر فهي مهلكة أيضاصابَتْ
يعني الريح التي فيها صررْثَ قَوْمٍ
أي زرع قوم لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
يعني بالكفر والمعاصي ومنع حق الله فيه أَهْلَكَتْهُ
يعني فأهلكت الريح الزرع ومعنى الآية مثل نفقات الكفار في ذهابها وقت الحاجة إليها كمثل زرع أصابته ريح باردة فأهلكته أو نار فأحرقته فلم ينتفع به أصحابه. فإن قلت الغرض تشبيه ما أنفقوا وأبطال ثوابه وعدم الانتفاع به الحرث الذي هلك بالريح فكيف شبهه بالريح المهلكة للحرث؟ قلت هو من التشبيه المركب وهو ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين وإن لم تحصل المشابهة بين أجزاء الجملتين فعلى هذا زال الإشكال ومن التشبيه ما حصلت فيه المشابهة بين المقصود من الجملتين وبين أجزاء كل واحدة منهما فإن جعلنا هذا المثل من هذا القسم ففيه وجهان: أحدهما أن يكون التقدير مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون كمثل الريح المهلكة للحرث. الوجه الثاني مثل ما ينفقون كمثل مهلك الريح وهو الحرث والمقصود من ضرب هذا المثل هو تشبيه
ما ينفقون بشيء يذهب
288
بالكلية ولا يبقى منه شيء. وقوله تعالى: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
يعني بأن لم يقبل نفقاتهم لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
يعني أنهم عصوا الله فاستحقوا عقابه فأبطل نفقاتهم وأهلك حرثهم وقيل ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بنفقاتهم مستحقة للقبول. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً الآية قال ابن عباس: كان رجال من المسلمين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع فأنزل الله عز وجل هذه الآية ونهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم ويدل على صحة هذا القول أن الآيات المتقدمة فيها ذكر اليهود فتكون هذه الآية كذلك، وقيل كان قوم من المؤمنين يصافون المنافقين ويفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال الخفية فنهاهم الله عن ذلك وحجة هذا القول أن الله ذكر في سياق هذه الآية قوله: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ وهذه صفة المنافقين لا صفة اليهود وقيل المراد بهذه جميع أصناف الكفار، ويدل على صحة هذا القول معنى الآية لأن الله تعالى قال لا تتخذوا بطانة من دونكم فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من دون المؤمنين فيكون ذلك نهيا عن جميع الكفار والبطانة خاصة الرجل المطلع على سره واشتقاقه من بطانة الثوب بدلالة قولهم لبست فلانا إذا اختصصته، ويقال فلان شعاري ودثاري والشعار الذي يلي الجسد وكذلك البطانة والحاصل أن الذي يخصه الإنسان بمزيد القرب يسمي بطانة لأنه يستبطن أمره ويطلع منه على ما لا يطلع عليه غيره مِنْ دُونِكُمْ قبل من صلة زائدة والتقدير لا تتخذوا بطانة دونكم، وقيل من للتبيين أي لا تتخذوا بطانة من دون أهل ملتكم والمعنى لا تتخذوا أولياء ولا أصفياء من غير أهل ملتكم ثم بين سبحانه وتعالى علة النهي عن مباطنتهم فقال تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا يعني لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد وهو الخبال لأن أصل الخبال الفساد والضرر الذي يلحق الإنسان فيورثه نقصان العقل وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي يودون عنتكم وهو ما يشق عليكم من الضرر والشر والهلاك والعنت المشقة قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي ظهرت العداوة من أفواقهم بالشتيمة والوقيعة بين المسلمين وقيل هو إطلاع المشركين على أسرار المؤمنين وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ يعني من العداوة والغيظ أَكْبَرُ أي أعظم مما يظهرونه قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ يعني الدالة على وجوب الإخلاص في الدين من موالاة المؤمنين ومعادة الكافرين إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ يعني ما بين لكم فتتعظون به. قوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١١٩ الى ١٢٠]
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
ها أَنْتُمْ ها للتنبيه وأنتم كناية للمخاطبين من الذكور أُولاءِ اسم للمشار إليهم في قوله تُحِبُّونَهُمْ والمعنى أنتم إليها المؤمنون تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم وبينهم من القرابة والرضاع والمصاهرة والحلف وَلا يُحِبُّونَكُمْ يعني اليهود لما بينكم وبينهم من المخالفة في الدين، وقيل تحبونهم يعني تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء ولا يحبونكم لأنهم يريدون لكم الكفر وهو شر الأشياء لأن فيه هلاك الأبد وقيل هم المنافقون تحبونهم لما أظهروا من الإيمان وأنتم لا تعلمون ما في قلوبهم ولا يحبونكم لأن الكفر ثابت في قلوبهم وقيل تحبونهم وذلك بأن تفشوا إليهم أسراركم ولا يحبونكم أي لا يفعلون مثل ذلك معكم وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ يعني وهم لا يؤمنون وإنما ذكر الكتاب بلفظ الواحد والمراد به الجمع لأنه ذهب به إلى الجنس كقولهم كثر الدرهم في أيدي الناس والمعنى أنكم تؤمنون بالكتب كلها وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا يعني أن الذين وصفهم في هذه الآية بهذه الصفات إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا كإيمانكم وصدقنا كتصديقكم وهذه صفة المنافقين وقيل هم اليهود وَإِذا خَلَوْا أي خلا بعضهم إلى بعض
عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ الأنامل جمع أنملة وهي طرف الأصبع والمعنى أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا العداوة وشدة الغيظ، على المؤمنين لما يرون من ائتلافهم واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم وعض الأنامل عبارة عن شدة الغيظ وهذا من مجاز الأمثال وإن لم يكن هناك عض كما يقال عض يده من الغيظ والغضب قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ هذا دعاء عليهم أن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به وذلك لما يرون من قوة الإسلام وعزة أهله ومالهم في ذلك من الذل والخزي والمعنى ابقوا إلى الممات بغيظكم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني به الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه وهي لكونها حالة في القلب منتسبة إليه كنى عنها بذات الصدور والمعنى أنه تعالى عالم بكل ما يحصل في قلوبكم من الخواطر فأخبرهم أنه عليم بما يسرونه من عض الأنامل غيظا إذا خلوا وأنه عليم بما هو أخفى منه وهو ما يسرونه في قلوبهم. قوله عز وجل: إِنْ تَمْسَسْكُمْ أي تصبكم أيها المؤمنون وأصل المس باليد ثم يسمى كل ما يصل إلى شيء ماسا له على سبيل التشبيه كما يقال مسه نصب وتعب أي أصابه حَسَنَةٌ المراد بالحسنة هنا منافع الدنيا مثل ظهوركم على عدوكم وإصابتكم غنيمة منهم وتتابع الناس في الدخول في دينكم وخصب في معايشكم تَسُؤْهُمْ أي تحزنهم وتغمهم والسوء ضد الحسنى وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ أي مساءة من إخفاق سرية لكم أو إصابة عدو منكم أو اختلاف يقع بينكم أو غدر ونكبة ومكروه يصيبكم يَفْرَحُوا بِها أي بما أصابكم من ذلك المكروه وَإِنْ تَصْبِرُوا يعني على أذاهم وقيل إن تصبروا على طاعة الله وما ينالكم فيها من شدة وَتَتَّقُوا أي تخالفوا ربكم وقيل وتتقوا ما نهاكم عنه وتتوكلوا عليه لا يَضُرُّكُمْ أي لا ينقصكم كَيْدُهُمْ أي عداوتهم ومكرهم شَيْئاً أي لأنكم في عناية الله وحفظه إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ قرئ بالياء على الغيبة والمعنى أنه عالم بما يعملون من عداوتكم وأذاكم فيعاقبهم عليه وقرئ بالتاء على خطاب الحاضر والمعنى أنه عالم بما تعملون أيها المؤمنون من الصبر والتقوى فيجازيكم عليه مُحِيطٌ أي عالم بجميع ذلك حافظ لا يعزب عنه شيء منه. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ١٢١]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ قال جمهور المفسرين إن هذا كان في يوم أحد وهو قول عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس والزهري وقتادة والسدي والربيع وابن إسحاق، وقال الحسن ومجاهد ومقاتل: إنه يوم الأحزاب ونقل عن الحسن أيضا أنه يوم بدر قال ابن جرير الطبري الأول أصح لقوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وقد اتفق العلماء أن ذلك كان يوم أحد قال مجاهد والكلبي والواقدي غدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منزل عائشة فمشى على رجليه إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوم القدح قال محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما إن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي ابن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال عبد الله بن أبيّ وأكثر الأنصار يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليه فو الله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس وإن دخلوا قاتلتهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين فأعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا الرأي وقال بعض أصحابه يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب لئلا يروا أنا جبنا عنهم وضعفنا وخفناهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إني قد رأيت في منامي بقرا فأولتها خيرا ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولتها هزيمة ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم فإن أقاموا أقاموا بشر وإن دخلوا علينا المدينة قاتلناهم فيها وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتلهم في الأزقة فقال رجال من المسلمين ممن فاتهم يوم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد أخرج بنا إلى أعدائنا، فلم يزالوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حبهم للقاء
القوم حتى دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منزله ولبس لأمته فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا وقال بئس ما صنعنا نشير على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والوحي يأتيه فقاموا واعتذروا إليه وقالوا: يا رسول الله اصنع ما شئت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل وكان قد قام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة بعد ما صلى بأصحابه الجمعة، وكان قد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلى عليه ثم خرج عليهم فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة. وقيل كان نزوله في جانب الوادي وجعل ظهره وأصحابه إلى أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة. وقال ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اثبتوا في هذا المقام فإذا عاينوكم ولوا الأدبار فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام ولما خالف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى عبد الله بن أبي ابن سلول شق عليه ذلك وقال لأصحابه أطاع الولدان وعصاني ثم قال لأصحابه إن محمدا إنما يظفر بعدوه بكم وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا أنتم فيتبعونكم فيصير الأمر إلى خلاف ما قاله محمد لأصحابه فلما التقى الجمعان وكان عسكر المسلمين ألفا وكان المشركون ثلاثة آلاف انخذل عبد الله بن أبي ابن سلول بثلاثمائة من أصحابه من المنافقين وبقي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحو سبعمائة من أصحابه فقواهم الله تعالى وثبتهم حتى هزموا المشركين. فلما رأى المؤمنون انهزام المشركين طمعوا في أن تكون هذه الواقعة كوقعة بدر فطلبوا المدبرين وخالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأراد الله أن يقطعهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مثله من مخالفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليعلموا أن ظفرهم يوم بدر إنما كان ببركة طاعة الله وطاعة رسوله. ثم إن الله تعالى نزع الرعب من
قلوب المشركين فكروا راجعين على المسلمين فانهزم المسلمون وبقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جماعة من أصحابه منهم أبو بكر وعلي والعباس وطلحة وسعد وكسرت رباعية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشج وجهه يومئذ وكان من أمر غزو أحد ما كان فذلك قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ أي واذكر إذ غدوت من أهلك يعني منزل عائشة ففيه منقبة عظيمة لعائشة رضي الله عنها لقوله من أهلك فنص الله تعالى على أنها من أهله تبوئ المؤمنين أي تنزل المؤمنين مقاعد للقتال أي مواضع ومواطن للقتال. وقيل تتخذ عسكرا للقتال وَاللَّهُ سَمِيعٌ يعني لأقوالكم عَلِيمٌ يعني بنياتكم وضمائركم. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٢٢ الى ١٢٥]
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا أي تجبنا وتضعفا عن القتال والطائفتان بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس كان جناحي العسكر وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى أحد مع ألف رجل، وقيل في تسعمائة وخمسين رجلا وكان المشركون ثلاثة آلاف رجل فلما بلغوا الشوط انخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس ورجع في ثلاثمائة وقال علام نقتل أنفسنا وأولادنا فتبعه أبو جابر السلمي وقال أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم فقال عبد الله بن أبي لو نعلم قتالا لاتبعناكم وهمّت الطائفتان بالانصراف مع عبد الله بن أبي فعصمهم الله فثبتوا ومضوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس: أضمروا أن يرجعوا فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا فذكرهم الله عظيم نعمته عليهم فقال: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أي ناصرهما وحافظهما ومتولي أمرهما بالتوفيق والعصمة. فإن قلت الهم العزم على فعل الشيء والآية تدل على أن الطائفتين قد عزمتا على الفشل وترك القتال
291
وذلك معصية فكيف مدحهما الله تعالى بقوله والله وليهما. قلت الهم قد يراد به العزم وقد يراد به حديث النفس وإذا كان كذلك فحمل الهم على حديث النفس هنا أولى والله تعالى لا يؤاخذ بحديث النفس ويعضده قول ابن عباس إنهم أضمروا أن يرجعوا فلما عزم الله لهم على الرشد وثبتوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدحهم الله تعالى بقوله والله وليهما (ق) عن جابر قال: نزلت فينا: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما قال نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله والله وليهما ففيه الاستبشار بما حصل لهم من الشرف العظيم، وإنزاله فيهم آياته ناطقة مفصحة بأن الله وليهم وأن تلك الهمة التي هموها ما أخرجتهم من ولاية الله تعالى. وقوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ التوكل تفعل من وكل أمره إلى غيره إذا اعتمد عليه في كفايته والقيام به، وقيل التوكل هو العجز والاعتماد على الغير وقيل هو تفويض الأمر إلى الله تعالى ثقة بحسن تدبيره فأمر الله عباده المؤمنين أن لا يتوكلوا إلّا عليه وأن لا يفوضوا أمرهم إلّا إليه.
قوله عز وجل: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ بدر اسم موضع بين مكة والمدينة معروف وقيل هو اسم لبئر هناك وكانت البئر لرجل يقال له بدر فسميت به. ذكر الله المؤمنين منته عليهم بالنصر يوم بدر وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ جمع ذليل وهو جمع قلة وأراد به قلة العدد فإن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر وفي رواية وثلاثة عشر رجلا والمراد بذلتهم ضعف الحال وقلة السلاح والمركوب والمال وعدم القدرة على مقاومة العدو وذلك أنهم خرجوا على مواضح وكان النفر منهم يتعقب على البعير الواحد. وكان أكثرهم رجالة ولم يكن معهم إلّا فرس واحد وكان عدوهم من كفار قريش في حال الكثرة زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس وكان معهم السلاح والشوكة فنصر الله المؤمنين مع قلتهم على عدوهم مع كثرتهم فَاتَّقُوا اللَّهَ يعني في الثبات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته. قوله عز وجل: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ اختلف المفسرون في أن هذا الوعد بإنزال الملائكة هل حصل يوم بدر أو يوم أحد على قولين أحدهما أنه كان يوم بدر. قال قتادة: كان هذا يوم بدر أمدهم الله بألف من الملائكة كما قال: إن تستغيثون ربكم فاستجاب لكم: «أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين» ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف كما ذكر هاهنا بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فصبروا يوم بدر واتقوا فأمدهم الله بخمسة آلاف كما وعد. قال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة في معركة إلّا يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عددا أو مددا، وقال الحسن: هؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال الشعبي: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى ألن يكفيكم إلى قوله مسومين فبلغ كرزا الهزيمة فرجع ولم يأتهم ولم يمدهم فلم يمدهم الله أيضا بالخمسة آلاف وكانوا قد أمدوا بألف من الملائكة، وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب» واحتج لصحة هذا القول أيضا بأن الله تعالى قال قبل هذه الآية ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وظاهر هذا يقتضي أن الله نصرهم حين قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف ولأن العدد والعدد كانت يوم بدر قليلة وكان الاحتياج إلى الإمداد أكثر. القول الثاني إن هذا الوعد بإنزال الملائكة كان يوم أحد وهو قول عكرمة والضحاك ومقاتل. قال عمير بن إسحاق: لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتى شاب يتنبل له كلما فني النبل أتاه به فنثره وقال ارم أبا إسحاق ارم أبا إسحاق مرتين فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف (ق) عن سعد بن أبي وقاص قال: «رأيت عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل، ولا بعد يعني جبريل وميكائيل» واحتج لصحة هذا القول بأن المدد كان يوم بدر بألف من الملائكة كما نص عليه في سورة
292
الإنفاق ولم يكن بثلاثة آلاف ولا بخمسة آلاف كما هنا وأيضا أن الكفار كانوا يوم بدر ألفا أو ما يقرب منهم وكان المسلمون على الثلث من ذلك فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر فأنزل الله يوم بدر ألفا من الملائكة في مقابلة عدد الكفار فوقع النصر يومئذ للمسلمين والهزيمة للكفار، وكان عدد المسلمين يوم أحد ألفا وعدد الكفار ثلاثة آلاف فناسب أن يكون المدد يومئذ للمسلمين ثلاثة آلاف من الملائكة ليكون ذلك مقابلا لعدد الكفار كما في يوم بدر.
وأجيب عن الاحتجاج الأول لهذا القول بأن الله تعالى أمدهم يوم بدر بألف كما ذكر في سورة الأنفال ثم لما سمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإمداد كرز لكفار قريش شق عليهم وعدوا بأن يمدوا بثلاثة آلاف وبخمسة آلاف لتقوى قلوبهم بذلك. وأجيب عن الثاني وهو أن الكفار كانوا يوم بدر ألفا فأنزل الله ألفا وفي يوم أحد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف بأن هذا تقريب حسن ولله أن يزيد ما شاء في أي وقت شاء ولهذا قال عكرمة في قوله تعالى:
بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا قال يوم بدر قال ولم يصبروا ولم يتقوا يوم أحد فلم يمدوا ولو أمدوا لم يهزموا يومئذ وقيل لم يصبروا ولم يتقوا إلّا في يوم الأحزاب فأمدهم الله بالملائكة حتى حاصروا قريظة (ق) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح والله ما وضعناه اخرج إليهم قال: فإلى أين؟ قال هاهنا وأشار إلى بني قريظة فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم» (ق) عن أنس رضي الله عنه قال: «كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل عليه السلام حين سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني قريظة وقال عبد الله بن أبي أوفى كنا محاصرين قريظة والنضير ما شاء الله فلم يفتح علينا فرجعنا فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغسل فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبريل عليه السلام فقال: أوضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثم نادى فينا فقمنا حتى أتينا قريظة والنضير فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ففتح لنا فتحا يسيرا» وقال ابن جرير الطبري:
وأولى الأقوال بالصواب أن الله تعالى أخبر عن نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال للمؤمنين: «ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة» فوعدهم بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم ثم وعدهم بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بهم ولا على أنهم لم يمدوا بهم فقد يجوز أن الله أمدهم وقد يجوز أن لا يكون أمدهم ولا يثبت ذلك إلّا بنص تقوم به الحجة في ذلك. وقد ثبت بنص القرآن أنهم أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة كما في سورة الأنفال وأما يوم أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها بأنهم أمدوا وذلك أنهم لو أمدوا لم ينهزموا ولم ينل منهم ما نيل منهم. فإن قلت فما تصنع بحديث سعد بن أبي وقاص المتقدم في يوم أحد وأنه رأى ملكين عن يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم وشماله قلت إنما كان ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة لأنه صبر ولم ينهزم كما انهزم أصحابه يوم أحد. وأما التفسير فقوله تعالى: إذ تقول للمؤمنين فعلى قول من قال: إن هذا كان يوم بدر.
قال نظم الآية ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين ومن قال هذا يوم أحد يقول نظم الآية أن الله ذكر قصة أحد ثم أتبعه بقوله: «ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة» فكذلك هو قادر أن ينصركم في سائر المواطن ثم رجع إلى قصة أحد فقال تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ ومعنى الكفاية هو سد الخلة والقيام بالأمر مع بلوغ المراد أن يمدكم ربكم. الإمداد إعانة الجيش فما كان على جهة القوة والإعانة يقال أمده إمدادا وما كان على جهة الزيادة يقال. فيه مده مدا، وقيل المد في الشر والإمداد في الخير بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين إنما وعدهم الله بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويثقوا بنصر الله ويعزموا على الثبات. بلى تصديق لوعد الله أي بلى نمدكم، وقيل بلى إيجاب لما بعد ألن يعني يكفيكم الإمداد بهم فأوجب الكفاية أن تصبروا أي على لقاء عدوكم وتتقوا يعني معصية الله ومخالفة نبيه صلّى الله عليه وسلّم ويأتوكم يعني المشركين من فورهم هذا قال ابن عباس: ابتداء الأمر يوجد فيه ثم يوصل بآخر فمن قال معنى من فورهم من وجههم أراد ابتداء مخرجهم يوم بدر. ومن قال معناه من غضبهم أراد ابتداء غضبهم لقتلاهم يوم بدر لأنهم رجعوا للحرب يوم أحد من غضبهم يوم بدر. يمددكم ربكم
293
بخمسة آلاف من الملائكة لم يرد خمسة آلاف سوى الثلاثة المتقدمة بل أراد معهم فمن قال إن هذا الإمداد كان يوم بدر قال: إن الله تعالى أمدهم بألف فلما سمعوا أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق على المسلمين ذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للمسلمين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم الآية على تقدير أن يجيء للمشركين المدد، فلما لم يمدوا لم يمد الله المسلمين بغير ألف وروى ابن الجوزي في تفسيره عن جبير بن مطعم عن علي بن أبي طالب قال: بينا أنا امتح من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلّا التي قبلها ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي كانت قبلها فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة وكانوا بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة وكانوا عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكنت عن يساره وهزم الله أعداءه ومن الناس من ضم العدد القليل إلى الكثير. فقال لأن الله تعالى ذكر الألف في سورة الأنفال وذكر هنا ثلاثة آلاف وخمسة آلاف فيكون المجموع تسعة آلاف، وإن جعلناه على غزوة أحد فيكون المجموع ثمانية آلاف لأنه ليس فيها ذكر الألف المفردة مُسَوِّمِينَ قرئ بفتح الواو وبكسرها فمن فتح الواو أراد أن الله سومهم ومعناه معلمين قد سوموا فيهم مسومون والسومة والسيما العلامة وهذه العلامة يعلمها الفارس يوم اللقاء ليعرف بها قال عنترة:
فتعرفوني أنني أنا ذلكم شاكي سلاح في الحوادث معلم
ومن كسر الواو نسب الفعل إلى الملائكة والمعنى أنهم أعلموا أنفسهم بعلامات مخصوصة أو أعلموا خيلهم واختلفوا في تلك العلامة فقال عروة بن الزبير: كانت الملائكة على خيل بلق وعليهم عمائم صفر. وقال علي وابن عباس: كان عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم وقال هشام بن عروة والكلبي: كانت عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم، وقال قتادة والضحاك: كانوا قد أعلموا بالعهن يعني بالصوف المصبوغ في نواصي خيلهم وأذنابها وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه يوم بدر: «تسوموا فإن الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم» ذكره البغوي بغير سند وقيل كانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك وقيل كانوا قد سوموا أنفسهم بسيما القتال. قوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٢٦ الى ١٢٨]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ يعني هذا الوعد والمدد إِلَّا بُشْرى لَكُمْ يعني بشارة بأنكم تنصرون فتستبشرون به وَلِتَطْمَئِنَّ أي ولتسكن قُلُوبُكُمْ بِهِ أي فلا تجزع من كثرة عدوكم وقلة عددكم وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني لا تحيلوا النصر على الملائكة والجند وكثرة العدد، فإن النصر من عند الله لا من عند غيره والغرض أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة الذين أمدوا بهم وفيه تنبيه على الإعراض عن الأسباب والإقبال على مسبب الأسباب الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ يعني فاستعينوا به وتوكلوا عليه لأن العز وهو كمال القدرة والقوة والحكم وهو كمال العلم فلا تخفى عليه مصالح عباده لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا هذا متعلق بقوله ولقد نصركم الله ببدر، والمعنى أن المقصود من نصركم ببدر ليقطع طرفا أي ليهلك طائفة من الذين كفروا وقيل معناه ليهدم ركنا من أركان الشرك بالقتل والأسر فقتل يوم بدر من قادتهم وساداتهم سبعون وأسر سبعون ومن حمل الآية على غزوة أحد قال: قد قتل منهم ستة عشر وكان النصر فيه للمسلمين حتى خالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَوْ يَكْبِتَهُمْ أصل الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه والمعنى أنه يصرعهم على وجوههم والمراد منه القتل والهزيمة أو
الإهلاك أو اللعن والخزي فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ أي بالخيبة لم ينالوا شيئا من الذي أملوه من الظفر بكم.
قوله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ اختلف في سبب نزول هذه الآية.
فقيل: إنها نزلت في أهل بئر معونة وهم سبعون رجلا من القراء بعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بئر معونة وهي بين مكة وعسفان وأرض هذيل وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد بعثهم ليعلموا الناس القرآن والعلم وأمر عليهم المنذر بن عمرو فقتلهم عامر بن الطفيل فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وجدا شديدا وقنت شهرا في الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن (خ) عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول: اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد فأنزل الله تعالى عليه ليس لك من الأمر شيء إلى قوله فإنهم ظالمون (ق) عن أبي هريرة قال: «لما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه من الركعة الثانية قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة «اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم أجعلها عليهم سنين كسني يوسف» زاد في رواية: «اللهم العن فلانا وفلانا لأحياء من العرب حتى أنزل الله تعالى ليس لك من الأمر شيء الآية سماهم في رواية يونس اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصت الله ورسوله قال ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل الله ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم، فإنهم ظالمون وقيل إنها نزلت يوم أحد ثم اختلفوا في سببها فقيل: إن عتبة بن أبي وقاص شج وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكسر رباعيته. (ق) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كسرت رباعيته وشج في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ.
وقيل أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو عليهم بالاستئصال فنزلت هذه الآية وذلك لعلمه أن أكثرهم يسلمون وقيل إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما وقف على عمه حمزة ورأى ما صنعوا به من المثلة أراد أن يدعو عليهم فنزلت هذه الآية. وقال العلماء: وهذه الأشياء كلها محتملة فلا يبعد حمل الآية في النزول على كلها ومعنى الآية ليس لك من أمر مصالح عبادي شيء الّا ما أوحى إليك، فإن الله تعالى هو مالك أمرهم فإمّا أن يتوب عليهم ويهديهم فيسلموا أو يهلكهم ويعذبهم إن أصروا على الكفر. وقيل ليس لك مسألة هلاكهم والدعاء عليهم لأنه تعالى أعلم بمصالحهم فربما تاب على من يشاء منهم وقيل معناه ليس لك من أمر خلقي شيء إلّا ما وافق أمري إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم، وقيل إن قوله أو يتوب عليهم معطوف على قوله ليقطع طرفا وقوله ليس لك من الأمر شيء كلام معترض بين المعطوف والمعطوف عليه والتقدير ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ليس لك من الأمر شيء بل الأمر أمري في ذلك كله. قال بعض العلماء: والحكمة في منعه صلّى الله عليه وسلّم من الدعاء عليهم ولعنهم أن الله تعالى علم من حال بعض الكفار أنه سيسلم فيتوب عليهم أو سيولد من بعضهم ولد يكون مسلما برا تقيا فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى من الدعاء عليهم لأن دعوته صلّى الله عليه وسلّم مجابة. فلو دعا عليهم بالهلاك هلكوا جميعا لكن اقتضت حكمة الله وما سبق في علمه إبقاءهم ليتوب على بعضهم وسيخرج من بعضهم ذرية صالحة مؤمنة، ويهلك بعضهم بالقتل والموت وهو قوله أو يعذبهم فيحتمل أن يكون المراد بعذابهم في الدنيا وهو القتل والأسر وفي الآخرة وهو عذاب النار فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ هو كالتعليل لعذابهم والمعنى إنما يعذبهم لأنهم ظالمون ثم قال تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٢٩ الى ١٣٠]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هذا تأكيد لما قبله من قوله ليس لك من الأمر شيء. والمعنى إنما
يكون لمن له ما في السموات وما في الأرض وليس ذلك إلّا الله تعالى وليس لأحد معه أمر يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بفضله ورحمته وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بعدله يحكم فيهم بما يشاء لا منازع له في حكمه ولا معارض له في فعله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني أنه تعالى يستر ذنوب عباده ويغفرها لهم ويرحمهم بترك العقوبة عنهم عاجلا، وإنما يفعل ذلك على سبيل التفضل والإحسان إلى عباده لا على سبيل الوجوب عليه، لأنه تعالى لو أدخل جميع خلقه الجنة لكان ذلك برحمته ولو أدخل جميع خلقه النار كان ذلك بعدله لكن جانب المغفرة والرحمة غالب.
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً أراد به ما كانوا يفعلونه في الجاهلية عند حلول الدين من زيادة المال وتأخير الأجل كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان دين فإذا جاء الأجل ولم يكن للمديون ما يؤدي قال له صاحب الدين: زدني في المال حتى أزيدك في الأجل فربما فعلوا ذلك مرارا فيصير الدين أضعافا مضاعفة فنهى الله عز وجل عن ذلك، وحرم أصل الربا ومضاعفته وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني في أكل الربا فلا تأكلوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تسعدوا بثوابه في الآخرة لأن الفلاح يتوقف على التقوى فلو أكل ولم يتق لم يحصل الفلاح، وفيه دليل على أن أكل الربا من الكبائر ولهذا أعقبه بقوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٣١ الى ١٣٤]
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ يعني واتقوا أيها المؤمنون أن تستحلوا شيئا مما حرم الله. فإن من استحل شيئا مما حرم الله فهو كافر بالإجماع ويستحق النار بذلك قال ابن عباس: هذا تهديد للمؤمنين أن يستحلوا ما حرم الله عليهم من الربا وغيره مما أوجب الله فيه النار قال بعضهم: إن هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه يجتنبوا محارمه. وقال الواحدي: في هذه الآية تقوية لرجاء المؤمنين رحمة من الله تعالى لأنه قال أعدت للكافرين فجعلها معدة للكافرين دون المؤمنين وَأَطِيعُوا اللَّهَ يعني فيما أمركم به أو نهاكم عنه من أكل الربا وغيره وَالرَّسُولَ أي وأطيعوا الرسول أيضا فإن طاعته طاعة الله قال محمد بن إسحاق في هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي ترحموا وما تعذبوا إذا أطعتم الله ورسوله فإن طاعة الله مع معصية رسوله ليست بطاعة.
قوله عز وجل: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني وبادروا وسابقوا إلى ما يوجب المغفرة من ربكم وهي الأعمال الصالحة المأمور بفعلها قال ابن عباس: إلى الإسلام ووجهه أن الله تعالى ذكر المغفرة على سبيل التنكير والمراد منه المغفرة العظيمة وذلك لا يحصل إلّا بسبب الإسلام لأنه يجب ما قبله وعن ابن عباس أيضا إلى التوبة لأن التوبة من الذنوب توجب المغفرة وقال علي بن أبي طالب: إلى داء الفرائض لأن اللفظ مطلق فيعم الكل وكذا وجه من قال إلى جميع الطاعات وروي عن أنس بن مالك وسعيد بن جبير أنها التكبيرة الأولى يعني تكبيرة الإحرام وقيل إلى الإخلاص في الأعمال لأن المقصود من جميع العبادات هو الإخلاص وقيل إلى الهجرة وقيل إلى الجهاد وَجَنَّةٍ أي وسارعوا إلى جنة وإنما فصل بين المغفرة والجنة لأن المغفرة هي إزالة العقاب والجنة هي حصول الثواب وقيل إشعارا بأنه لا بد من المسارعة إلى التوبة الموجبة للمغفرة وذلك بترك المنهيات والمسارعة إلى الأعمال الصالحة المؤدية إلى الجنة عَرْضُهَا أي عرض الجنة السَّماواتُ وَالْأَرْضُ يعني كعرض السموات والأرض لأن نفس السموات والأرض ليس عرضا للجنة والمراد سعتها وإنما خص العرض للمبالغة لأن الطول في العادة يكون أكثر من العرض يقول هذه صفة عرضها فكيف بطولها، والمراد وصف الجنة
296
بالسعة والبسط فشبهت بأوسع شيء علمه الناس وذلك أنه لو جعلت السموات والأرض طبقا طبقا ثم وصل البعض بالبعض حتى يكون طبقا واحدا كان ذلك مثل عرض الجنة فأما طولها فلا يعلمه إلّا الله تعالى. وقيل المراد بالعرض السعة كما تقول العرب بلاد عريضة أي واسعة عظيمة قال الشاعر:
كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل
والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق ولم يدق وما ضاق عرضه دق فجعل العرض كناية عن السعة.
وروي أن هرقل أرسل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار قيل معناه والله أعلم بذلك أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب والليل في ضد ذلك الجانب فكذلك الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل. وروى طارق بن شهاب أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنده أصحابه فقالوا: أرأيتم قولكم وجنة عرضها السموات والأرض. فأين النار؟ فقال عمر بن الخطاب أرأيتم إذا جاء الليل فأين يكون النهار وإذا جاء النهار فأين يكون الليل فقالوا إنها لمثلها في التوراة ومعناه حيث يشاء الله تعالى. فإن قلت قال الله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ وأراد بالذي وعدنا به الجنة ومذهب أهل السنة أنها في السموات إنها فوق السموات وتحت العرش كما سئل أنس بن مالك عن الجنة أفي السماء هي أم في الأرض؟ فقال: أي أرض وسماء تسع الجنة قيل له: فأين هي؟ قال فوق السموات تحت العرش وقد وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفردوس فقال وسقفها عرش الرحمن وقال قتادة: كانوا يرون أن الجنة فوق السموات السبع وأن جهنم تحت الأرضين السبع وقيل: إن باب الجنة في السماء وعرضها كعرض السموات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ أي هيئت للمتقين وفيه دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن.
قوله عز وجل: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ يعني في العسر واليسر لا يتركون الإنفاق في كلتا الحالتين في الغنى والفقر والرخاء والشدة ولا في حال فرح وسرور ولا في حال محنة وبلاء. وسواء كان الواحد منهم في عرس أو في حبس فإنهم لا يدعون الإحسان إلى الناس فأول ما ذكر الله من أخلاقهم الموجبة للجنة السخاء لأنه أشق على النفس. وكانت الحاجة إلى إخراج المال في ذلك الوقت أعظم الأحوال للحاجة إليه في مجاهدة الأعداء ومواساة الفقراء من المسلمين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار ولجاهل سخي أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل» أخرجه الترمذي (ق) عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق إلّا سبغت أو وفت على جلده حتى تخفي ثيابه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلّا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع» الجنة الدرع من الحديد (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلّا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا» (ق) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تبارك وتعالى أنفق ينفق عليك» (ق) عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزية الجنة كل خزنة باب أي قل هلم فقال أبو بكر: فقال يا رسول الله ذاك الذي لا توي عليه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إني لأرجو أن تكون منهم» قوله أي فل يعني يا فلان وليس بترخيم والتوي الهلاك يعني ذاك الذي لا هلاك عليه.
وقوله تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ يعني والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه والكظم حبس الشيء
297
عند امتلائه وكظم الغيظ هو أن يمتلئ غيظا فيرده في جوفه ولا يظهره بقول ولا فعل ويصبر عليه ويسكت عنه ومعنى الآية أنهم يكفون غيظهم عن الإمضاء ويردون غيظهم في أجوافهم وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم عن سهل بن معاذ عن أنس الجهني عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الجور شاء» أخرجه الترمذي وأبو داود (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن خادما لها غاظها فقالت لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ يعني إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه فتكون الآية على العموم وقيل أراد بالناس المماليك لسوء أدب يقع منهم، فتكون على الخصوص وقيل يعفون عمن ظلمهم وأساء إليهم وهو قريب من القول الأول وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يحتمل أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويحتمل أن تكون للعهد فتكون إشارة إلى المذكورين في الآية والإحسان إلى الغير إنما يكون بإيصال النفع إليه وبدفع الضرر عنه وقيل الإحسان أن تحسن لمن أساء إليك فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة. وقيل المحسن هو الذي يعم بإحسانه كل أحد كالشمس والمطر والريح، وقيل الإحسان وقت الإمكان وليس عليك في كل وقت إحسان. وقيل الإحسان هذه الخصال المذكورة في هذه الآية فمن فعلها فهو محسن. ولما كانت هذه الخصال إحسانا إلى الغير ذكر الله ثوابها بقوله والله يحب المحسنين فإن محبة الله تعالى للعبد أعظم درجات الثواب. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ١٣٥]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قال ابن مسعود رضي الله عنه قال المؤمنون للنبي صلّى الله عليه وسلّم يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا كان أحدهم إذا أذنب ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة بابه اجدع أنفك أو أذنك افعل كذا فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية وروى عطاء عن ابن عباس أنها نزلت في تيهان التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فقال لها: إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك. فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية في رواية أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخى بين رجلين أحدهما أنصاري والآخر ثقفي، فخرج الثقفي في غزوة واستخلف أخاه الأنصاري على أهله فاشترى لهم ذات يوم لحما فلما أرادت المرأة أن تأخذه منه دخل على أثرها وقبل يدها ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حاله فقالت: لا أكثر الله في الإخوان مثله وذكرت له الحال والأنصاري يسيح في الجبال تائبا مستغفرا، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به إلى أبي بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجا فقال الأنصاري: هلكت وذكر القصة فقال أبو بكر: ويحك أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ثم لقيا عمر فقال لهما:
مثل ذلك فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لهما مثل مقالتهما فأنزل الله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً يعني فعلة فاحشة خارجة عما أذن الله فيه والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال وأصل الفحش القبح والخروج عن الحد، قال جابر: الفاحشة الزنا.
وقوله تعالى: أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ظلم النفس هو ما دون الزنا مثل القبلة والمعانقة واللمس والنظر وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة وقيل الفاحشة مما يكون فعله كاملا في القبح وظلم النفس هو أي ذنب كان ذَكَرُوا اللَّهَ يعني ذكروا وعيد الله وعقابه وأن الله يسألهم عن ذلك يوم الفزع الأكبر وقيل ذكروا جلال الله الموجب للحياء منه. وقيل ذكروا لله باللسان عند الذنوب وهو قوله تعالى: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يعني لأجل
298
ذنوبهم فتابوا منها واقلعوا عنها نادمين على فعلها عازمين أن لا يعودوا إليها وهذه شروط صحة التوبة المقبولة وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وصف نفسه بسعة الرحمة وقرب المغفرة وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلّا إلى فضله وكرمه وإحسانه وعفوه ورحمته وفيه تنبيه على أن العبد لا يطلب المغفرة إلّا منه وأنه القادر على عقاب المذنب وكذلك هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه فثبت أنه لا يجوز طلب المغفرة إلّا منه وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا يعني ولم يقيموا على الذنوب ولم يثبتوا عليها ولكن تابوا منها وأنابوا واستغفروا قيل الإصرار هو ترك الاستغفار عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة» أخرجه أبو داود وقال: حديث حسن غريب وعنده عوض ولو عاد ولو فعل وَهُمْ يَعْلَمُونَ قال ابن عباس: وهم يعلمون أنها معصية وأن لهم ربا يغفرها وقيل وهم يعلمون أن الإصرار ضار وقيل معناه وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنب وقيل وهم يعلمون أن الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثرت وقيل معناه وهم يعلمون أنهم إن استغفروه غفر لهم قال ثابت البناني بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية والذين إذا فعلوا فاحشة إلى آخرها.
(فصل: في فضل الاستغفار) عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إني كنت إذا سمعت حديثا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفعني الله منه ما شاء أن ينفعني. وإذا حدثني أحد من الصحابة استحلفته فإذا حلف لي صدقته وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من عبد مؤمن أو قال ما من رجل يذنب ذنبا فيقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلّا غفر الله له ثم قرأ هذه الآية وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ إلى آخر الآية» أخرجه الترمذي أبو داود والترمذي وقال هذا حديث قد رواه غير واحد عن عثمان بن المغيرة فرفعوه ورواه مسعر وسفيان عن عثمان بن المغيرة فوقفاه ولم يرفعاه ولا يعرف لأسماء إلّا هذا الحديث عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب» أخرجه أبو داود (م) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم (ق) عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يحكى عن ربه تبارك وتعالى قال: «إذا أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي قال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: إن عبدي أذنب ذنبا فعلم أن به ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فقال: أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. وفي رواية اعمل ما شئت قد غفرت لك» قال عبد الأعلى لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة اعمل ما شئت عن أنس قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم وأتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن عنان السماء بفتح العين قيل هو السحاب وقيل هو ما عن لك منها أي ما ظهر لك منها وقراب الأرض بضم القاف وروي بكسرها والضم أشهر وهو ما يقارب ملأها عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلّا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف» أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم قال حديث حسن صحيح على شرط البخاري ومسلم عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفره أو قال عسى أن يغفره الله إلّا من مات مشركا ومن قتل مؤمنا متعمدا» أخرجه أبو داود اهـ. قوله عز وجل:
299

[سورة آل عمران (٣): آية ١٣٦]

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
أُولئِكَ إشارة إلى من تقدم ذكره في قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ معنى الآية أن المطلوب بالتوبة أمران أحدهما الأمن من العقاب وإليه الإشارة بقوله مغفرة من ربهم والثاني إيصال الثواب وإليه الإشارة بقوله وجنات تجري من تحتها الأنهار أي ذلك لهم ذخر لا يبخس وأجر لا يوكس خالِدِينَ فِيها أي في الجنات وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي ونعم ثواب المطيعين يعني الجنة. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٣٧ الى ١٣٨]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ يعني قد انقضت من قبلكم سنة الله في الأمم الماضية بالهلاك والاستئصال لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها والبقاء فيها فانقرضوا ولم يبق منهم أحد وقيل في معنى السنة الطريقة المستقيمة والمثال المتبع. لكل أمة سنة ومنهاج إذا اتبعوه رضي الله عنهم بذلك. وقيل سنن أي شرائع وقيل سنن أي أمم والسنة الأمة ومعنى الآية قد مضت وسلفت مني سنن فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة بإمهالي واستدراجي إياهم حتى يبلغ الكتاب أجله فيهم الذي أجلته لإهلاكهم فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أمر ندب لا على سبيل الوجوب بل المقصود تعرف أحوال الماضين بقوله فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فرغب أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم في تأمل أحوال الأمم الماضية ليصير ذلك داعيا لهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإعراض عن الدنيا ولذاتها. وفيه أيضا زجر للكافر عن كفره لأنه إذا تأمل أحوال الكفار وإهلاكهم صار ذلك داعيا إلى الإيمان لأن النظر إلى آثار المتقدمين له أثر في النفس كما قيل:
إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
وفي هذه الآية تسلية لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما جرى لهم في غزوة أحد يقول فإني إنما أمهلت الكفار حتى يبلغ الكتاب أجله فيهم الذي أجلته لهم في إهلاكهم ونصر محمد صلّى الله عليه وسلّم وأوليائه وهلاك أعدائه. قوله عز وجل:
هذا يعني القرآن وقيل هو اسم إشارة إلى ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده بَيانٌ لِلنَّاسِ يعني عامة وَهُدىً يعني من الضلالة وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ يعني خاصة وقيل في الفرق بين البيان والهدى والموعظة لأن العطف يقتضي المغايرة والبيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت حاصلة والهدى هو طريق الرشد المأمور بسلوكه دون طريق الغي، والموعظة هي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين.
فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان أحدهما الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى والثاني الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة وإنما خصص المتقين بالهدى والموعظة لأنهم المنتفعون بهما دون غيرهم.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٣٩ الى ١٤٠]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)
300
قوله عز وجل: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا نزلت يوم أحد حين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بطلب القوم مع ما أصابهم من الجراح فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية وحث فيها أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم على الجهاد على ما أصابهم من الجراح والقتل. وكان قد قتل يوم أحد من الأنصار سبعون رجلا ومن المهاجرين خمسة رجال منهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومصعب بن عمير. ومعنى الآية ولا تهنوا أي ولا تضعفوا عن الجهاد ولا تحزنوا يعني على من قتل منكم لأنهم في الجنة وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ يعني بالنصر والغلبة عليهم وأن العاقبة لكم وقال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الشعب فأقبل خالد بن الوليد في خيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا يعلوه علينا اللهم لا قوة لنا إلّا بك» فثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى انهزموا وعلا المسلمون الجبل فذلك قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وقيل وأنتم الأعلون لأن حالكم خير من حالهم لأن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار وأنتم تقاتلون على الحق وهم يقاتلون على الباطل. وقيل وأنتم الأعلون في العاقبة لأنكم تظفرون بهم وتستولون عليهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي إذ كنتم مؤمنين وقيل معناه إن كنتم مصدقين بأن ناصركم هو الله تعالى فصدقوا بذلك فإنه حق وصدق.
وقوله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ قرئ بضم القاف وبفتحها وهما لغتان ومعناهما واحد وقيل إنه بالفتح مصدر وبالضم اسم وقيل إنه بالفتح اسم للجراحة وبالضم ألم للجراحة الآية خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحد مع الحزن والكآبة يقول: إن يمسسكم أيها المسلمون قرح يوم أحد فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ يعني في يوم بدر وقيل إن الكفار قد نالهم يوم أحد مثل ما نالكم من الجراح والقتل فقد قتل منهم نيف وعشرون رجلا وكثرت الجراحات فيهم وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر يقال تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى آخر ويقال الدنيا دول أي تنتقل من قوم إلى آخرين ثم منهم إلى غيرهم والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس فيوم لهؤلاء ويوم لهؤلاء فكانت الدولة للمسلمين على المشركين في يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين رجلا وأسروا سبعين وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمسا وسبعين (خ) عن البراء بن عازب قال: جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا وهم الرماة عبد الله بن جبير. فقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزمهم الله. قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك قوله والرسول يدعوكم في أخراكم فلم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين رجلا وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا وسبعين قتيلا فقال أبو سفيان أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات فنهاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجيبوه ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات ثم قال أفي القوم عمر بن الخطاب؟ ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوا فما ملك عمر نفسه فقال كذبت والله يا عدو الله إن الذي عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك قال يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثله لم آمر بها ولم تسؤني ثم أخذ يرتجز اعل هبل اعل هبل فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ألا تجيبوه؟ فقالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال قولوا الله أعلى وأجل قال أبو سفيان. إن لنا عزى ولا عزى لكم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ألا تجيبوه قالوا يا رسول الله ما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. قال البغوي وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس وفي حديثه قال أبو سفيان يوم بيوم وإن الأيام دول والحرب سجال فقال عمر لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار قال الزجاج الدولة تكون للمسلمين على الكفار لقوله تعالى
301
وإن جندنا لهم الغالبون فكانت يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني إنما جعل الدولة للكفار على المسلمين ليميز المؤمن المخلص ممن يرتد عن الدين إذا أصابته نكبة وشدة وقيل معناه وليعلم الله الذين آمنوا بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم أي ليعرفهم بأعيانهم إلّا أن السبب العلم وهو ظهور الصبر حذف هنا وقيل معناه ليعلم الله ذلك واقعا منهم لأن الله تعالى يعلم الشيء قبل وجوده ولا يحتاج إلى سبب حتى يعلم والمعنى ليقع ما علمه عيانا ومشاهدة للناس والمجازاة إنما تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد وقيل معناه ليعلم أولياء الله فأضاف علمهم إلى نفسه تفخيما. وقيل معناه ليحكم الله بالامتياز بين المؤمن والمنافق فوضع العلم موضع الحكم لأن الحكم لا يحصل إلّا بعد العلم وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ يعني وليكرم قوما منكم بالشهادة ممن أراد أن يكرمهم بها وذلك لأن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر وكانوا يتمنون لقاء العدو وأن يكون لهم يوم كيوم بدر فيقاتلون فيه العدو ويلتمسون فيه الشهادة والشهداء جمع شهيد وهو من قتل من المسلمين بسيف الكفار في المعركة واختلفوا في معنى الشهيد فقيل الشهيد الحي لقوله تعالى بل أحياء عند ربهم يرزقون فأرواحهم حية حضرت دار السلام وشهدتها وأرواح غيرهم لا تشهدها وقيل سمي شهيدا لأن الله تعالى شهد له بالجنة. وقيل سموا شهداء لأنهم يشهدون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين على الأمم لأن الشهادة تكون للأفضل فالأفضل من الأمة لأن منصب الشهادة منصب عظيم ودرجة عالية وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ يعني المشركين وقيل هم الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي وقيل هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان بألسنتهم ويسرون الكفر، والمعنى والله لا يحب من لا يكون ثابتا على الإيمان صابرا على الجهاد.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٤١ الى ١٤٣]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي وليطهرهم من ذنوبهم ويزيلها عنهم وأصل المحص في اللغة التنقية والإزالة وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ أي يفنيهم ويهلكهم ومعنى الآية إن قتلكم الكافرون فهو شهادة وتطهير لكم وإن قتلتموهم أنتم فهو محقهم واستئصالهم.
قوله عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أي بل حسبتم وظننتم والمراد به الإنكار والمعنى لا تحسبوا أيها المؤمنون أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وتنالوا كرامتي وثوابي وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ قال الإمام فخر الدين الرازي:
ظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم والمراد وقوعه على نفي المعلوم والتقدير: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يصدر الجهاد عنكم وتقديره إن العلم متعلق بالمعلوم كما هو عليه فلما حصلت هذه المطابقة لا جرم حسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر وقال الواحدي النفي في الآية واقع على العلم والمعنى على الجهاد دون العلم وذلك لما فيه من الإيجاز في انتفاء جهاد لو كان لعلمه والتقدير: ولما يكن المعلوم من الجهاد الذي أوجب عليكم فجرى النفي على العلم للإيجاز على سبيل التوسع في الكلام إذ المعنى مفهوم من غير إخلال. وقال الزجاج: المعنى ولما يقع العلم بالجهاد والعلم بصبر الصابرين أي ولما يعلم الله ذلك واقعا منكم لأنه يعلمه غيبا وإنما يجازيهم على عملهم وقال الطبري يقول ولما يتبين لعبادي المؤمنين المجاهد منكم على ما أمرته به وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ يعني في الحرب وعلى ما نالهم في ذات الله عز وجل من جراح وألم ومكروه وفي هذه الآية معاتبة لمن انهزم يوم أحد والمعنى أم حسبتم أيها المهزومون أن تدخلوا الجنة كما دخلها الذين قتلوا وبذلوا مهجهم لربهم عز وجل وصبروا على ألم الجراح والضرب وثبتوا لعدوهم من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم.
قوله تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ قال ابن عباس: لما أخبر الله عز وجل المؤمنين على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم بما فعل بشهدائهم يوم بدر من الكرامة رغبوا في ذلك فتمنّوا قتالا يستشهدون فيه فيلحقون بإخوانهم فأراهم الله يوم أحد فلم يلبثوا أن انهزموا إلّا من شاء الله منهم فأنزل الله هذه الآية وقيل إن قوما من المسلمين تمنّوا يوما كيوم بدر ليقاتلوا فيه ويستشهدوا فأراهم الله يوم أحد ومعنى قوله له تمنون الموت أي تطلبون أسباب الموت وهو القتال والجهاد من قبل أن تلقوه أي من قبل أن تلقوا يوم أحد فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ يعني رأيتم ما كنتم تتمنّون والهاء في رأيتموه عائدة على الموت أي رأيتم أسبابه معاينين له شاهدين قتل من قتل من إخوانكم بين أيديكم وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ قيل ذكره تأكيدا. وقال الزجاج: معناه فقد رأيتموه وأنتم بصراء كما تقول:
رأيت كذا وكذا وليس في عينك علة أي رأيته رؤية حقيقية وقيل: معناه وأنتم تنظرون ما تمنيتم فلم انهزمتم.
قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ١٤٤]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ قال أهل المغازي خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل بالشعب من أحد في سبعمائة رجل وجعل عبد الله بن جبير على الرجالة وكانوا خمسين رجلا وقال: «أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من خلفنا فإن كانت لنا أو علينا لا تبرحوا من مكانكم حتى أرسل إليكم فأنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم» وكانت قريش على ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف وينشدن الأشعار فقاتلوا حتى حميت الحرب وحمل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه على المشركين فهزموهم وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أخذ سيفا وقال: «من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى يثخن» فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري فلما أخذه اعتم بعمامة حمراء وجعل يتبختر في مشيته فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها لمشية يبغضها الله تعالى ورسوله إلّا في هذا الموضع» فلما نظرت الرماة إلى المشركين وقد انكشفوا ورأوا أصحابهم ينهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب، فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله وحمل على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهزموهم ورمى عبد الله بن قميئة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرق عنه أصحابه ونهض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى صخرة ليعلوها فلم يستطع وكان قد ظاهر بين درعين فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى على الصخرة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوجب طلحة» ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت من ذلك قلائد وأعطتها وحشيا وبقرت عن كبد حمزة رضي الله تعالى عنه وكان قد قتل يومئذ فأخذت منها قطعة فلاكتها فلم تسغها فلفظتها وأقبل عبد الله بن قميئة يريد قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو يومئذ صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقتله ابن قميئة وهو يرى أنه قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرجع وقال: إني قد قتلت محمدا وصاح صارخا ألا إن محمدا قد قتل ويقال إن الصارخ إبليس اللعين فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إليّ عباد الله إليّ عباد الله» فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كنانته وقال: «ارم فداك أبي وأمي» وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة وكان الرجل يمر معه جعبة النبل فيقول: «انثرها لأبي طلحة» وكان إذا رمى تشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينظر موضع نبله وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست حين وقى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته فردها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعادت أحسن ما كانت فلما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أدركه أبي بن خلف
303
الجمحي وهو يقول لا نجوت إن نجوت فقال: القوم يا رسول الله ألا تعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«دعوه» حتى إذا دنا منه وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل أنا أقتلك إن شاء الله» فلما دنا منه تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله وطعنه في عنقه وخدشه خدشه فسقط عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ويقول قتلني محمد. فاحتمله أصحابه وقالوا ليس عليك بأس بل لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم أليس قال لي أنا أقتلك؟ فلو بزق عليّ بعد تلك المقالة لقتلني بها فلم يلبث بعد ذلك إلّا يوما حتى مات بموضع يقال له سرف (خ) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اشتد غضب الله على من قتله نبي في سبيل الله اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه نبي الله» قالوا وفشا في الناس أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد قتل فقال: بعض المسلمين ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان وجلس بعض الصحابة وألقوا ما بأيديهم وقال أناس من المنافقين إن كان محمد قد قتل فألحقوا بدينكم الأول وقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء- يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس فأول من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كعب بن مالك قال قد عرفت عينيه تزهران تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأشار إلي أن أسكت فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي صلّى الله عليه وسلّم على الفرار فقالوا يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولّينا مدبرين فأنزل الله عز وجل: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ومعنى الآية فسيخلو محمد كما خلت الرسل من قبله فكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلو أنبيائهم فعليكم أنتم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه لأن الغرض من بعث الرسول تبليغ الرسالة وإلزام الحجة لا وجوده بين ظهراني قومه ومحمد اسم علم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفيه إشارة إلى وصفه بذلك وتخصيصه بمعناه وهو الذي كثرت خصاله المحمودة والمستحق جميع المحامد لأنه الكامل في نفسه صلّى الله عليه وسلّم فأكرم الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم فسماه باسمين مشتقين من اسمه المحمود سبحانه وتعالى فسماه محمدا وأحمد وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:
ألم تر أن الله أرسل عبده ببرهانه والله أعلى وأمجد
أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهور يلوح ويشهد
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش من محمود وهذا محمد
(ق) عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب» والعاقب الذي ليس بعده نبي وسماه الله رؤوفا رحيما (م) عن أبي موسى الأشعري قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: «أنا محمد وأنا أحمد وأنا المقفى ونبي التوبة ونبي الرحمة» قوله المقفى هو آخر الأنبياء الذي لا نبي بعده والرسول هو المرسل ويكون بمعنى الرسالة والمراد به هنا المرسل بدليل قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ يعني أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل وترجعون إلى دينكم الأول يقال لكل من رجع إلى ما كان عليه رجع وراءه ونكص على عقبيه وحاصل الكلام إن الله تعالى بيّن أن موت محمد صلّى الله عليه وسلّم أو قتله لا يوجب ضعفا في دينه ولا الرجوع عنه بدليل موت سائر الأنبياء قبله وأن أتباعهم ثبتوا على دين أنبيائهم بعد موتهم وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ يعني فيرتد عن دينه ويرجع إلى الكفر فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً يعني بارتداده لأن الله تعالى لا يضره كفر الكافرين لأنه تعالى غني عن العالمين وإنما يضر المرتد والكافر نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
304
يعني الثابتين على دينهم الذين لم ينقلبوا عنه لأنهم شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام وثباتهم عليه فسماهم الله شاكرين لما فعلوا والمعنى وسيثيب الله من شكره على توفيقه وهدايته وروى ابن جبير عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في قوله: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ قال الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه وكان علي يقول أبو بكر أمين الشاكرين وأمين أخبار الله وكان أشكرهم وأحبهم إلى الله تعالى. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٤٥ الى ١٤٦]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمر الله وقضائه وقدره وعلمه وذلك أن الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا يموت أحد إلّا بإذن الله تعالى وأمره والمراد من الآية تحريض المؤمنين على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدو بإعلامهم بأن الجبن لا ينفع وأن الحذر لا يدفع المقدور وأن أحدا لا يموت قبل أجله وإن خاض المهالك واقتحم المعارك وإذا جاء الأجل لم يدفع الموت بحيلة فلا فائدة في الخوف والجبن. وفي الآية أيضا ذكر حفظ الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم عند غلبة العدو وتخليصه منهم عند التفافهم عليه وإسلام أصحابه له فأنجاه الله تعالى من عدوه سالما مسلما لم يضره شيء كِتاباً مُؤَجَّلًا يعني مؤقتا له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر.
والمعنى أن الله تعالى كتب لكل نفس أجلا لا يقدر أحد على تغييره أو تقديمه أو تأخيره وقيل الكتاب هو اللوح المحفوظ لأن فيه آجال جميع الخلق وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها يعني من يرد بعمله وطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاء لعمله والمعنى نؤته منها ما نشاء على ما قدرناه له نزلت في الذين تركوا المركز يوم أحد وطلبوا الغنيمة وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها يعني من يرد بعمله الآخرة نؤته ثوابه فيها نزلت في الذين ثبتوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد. واعلم أن هذه الآية وإن نزلت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال ذلك لأن الأصل في ذلك كله يرجع إلى نية العبد فإن كان يريد بعمله الدنيا فليس له جزاء إلّا فيها وكذلك من أراد بعمله الدار الآخرة فجزاؤه أيضا فيها (ق) عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنما الأعمال بالنيات» وفي رواية «بالنية وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها»، وفي رواية «ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا راغمة وما كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بن عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلّا ما كتب الله له».
وقوله تعالى: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ يعني المؤمنين المطيعين الذين لم يشغلهم شيء عن الجهاد ولم يريدوا بأعمالهم إلّا الله تعالى والدار الآخرة.
قوله عز وجل: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ أي وكم من نبي قاتَلَ مَعَهُ وقرئ قاتل معه فمن قرأ قتل بضم القاف فله أوجه: أحدها أن يكون القتل راجعا على النبي وحده فعلى هذا يكون الوقف على قتل لأنه كلام تام وفيه إضمار تقديره قتل ومعه ربيون كثير. ويكون معناه قتل حال ما كان معه ربيون كثير والمعنى أن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعدهم ما وهنوا في دينهم وما استكانوا بل استمروا على جهاد عدوهم ونصرة دينهم فكان ينبغي لكم أن تكونوا مثلهم. الوجه الثاني أن القتل نال النبي ومن معه من الربيين ويكون المراد البعض ويكون قوله:
«فما وهنوا» راجعا إلى الباقين والمعنى وكأيّن من نبي قتل وبعض من كان معه فما ضعف الباقون لقتل من قتل
من إخوانهم بل مضوا على جهاد عدوهم فكان ينبغي لكم أن تكونوا كذلك. الوجه الثالث أن يكون القتل نال الربيين لا النبي والمعنى وكأيّ من نبي قتل من كان معه وعلى دينه ربيون كثير ومن قرأ قاتل معه ربيون كثير فالمعنى وكأيّ من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوهم قروح وجراحات فما وهنوا لما أصابهم بل استمروا على جهاد عدوهم لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة نبيه فكان ينبغي لكم أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد، وحجة هذه القراءة ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال وقوله رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ قال ابن عباس جموع كثيرة وقيل الربيون الألوف وقيل الربية الواحدة عشرة آلاف وقيل ألف وقيل ربيون يعني فقهاء علماء وقيل الربيون هم الأتباع فَما وَهَنُوا أي فما جبنوا عن الجهاد في سبيل الله لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا يعني عن مجاهدة عدوهم بما نالهم من ألم الجراح وقتل الأصحاب وَمَا اسْتَكانُوا يعني وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم ولكنهم صبروا على أمر ربهم وطاعة نبيهم وجهاد عدوهم وهذا تعريض بما أصابهم يوم أحد من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضعفهم عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان والمقصود من الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء وأتباعهم لتقتدي هذه الأمة بهم وترغيب الذين كانوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الجهاد وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ يعني في الجهاد، والمعنى أن من صبر على تحمل الشدائد في طلب الآخرة ولم يظهر الجزع والعجز فإن الله تعالى يحبه ومحبة الله تعالى للعبد عبارة عن إرادة إكرامه وإعزازه وإيصال الثواب له وإدخاله الجنة مع أوليائه وأصفيائه ثم قال تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٤٧ الى ١٤٩]
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩)
وَما كانَ قَوْلَهُمْ يعني قول الربيين إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا فيدخل فيه جميع الصغائر والكبائر وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا يعني ما أسرفنا فيه فتخطّينا إلى العظام من الذنوب لأن الإسراف الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد فيه فيكون المعنى اغفر لنا ذنوبنا الصغائر منها والكبائر وَثَبِّتْ أَقْدامَنا لكي لا نزلّ عند لقاء العدو وذلك يكون بإزالة الخوف والرعب من قلوبهم وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ لأن النصر على الأعداء لا يكون إلّا من عند الله. بين الله تعالى أنهم كانوا مستعدين عند لقاء العدو بالدعاء والتضرع وطلب الإعانة والنصر من الله تعالى والغرض منه أن يقتدي بهم في هذه الطريقة الحسنة أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم يقول هلا فعلتم مثل ما فعلوا وقلتم مثل ما قالوا فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا يعني النصر والغنيمة وقهر الأعداء، والثناء الجميل وغفران الذنوب والخطايا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ يعني الجنة وما فيها من النعيم المقيم وإنما خص ثواب الآخرة بالحسن تنبيها على إجلاله وعظمته، لأنه غير زائل ولم يشب بتنغيص ولم يصف ثواب الدنيا بالحسن لقلته ولأنه سريع الزوال مع ما يشوبه من التنغيص وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يعني الذين يفعلون مثل ما فعل هؤلاء وهذا تعليم من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يقولوا مثل هذا عند لقاء العدو وفيه دقيقة لطيفة وهي أنهم لما اعترفوا بذنوبهم وكونهم مسيئين سماهم الله تعالى محسنين.
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يعني اليهود والنصارى، وقيل المنافقين وذلك في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة يوم أحد ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم. وقيل معناه أن تطيعوهم فيما يأمرونكم به من ترك الجهاد يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ يعني يرجعوكم إلى أمركم الأول وهو الكفر والشرك
بالله بعد الإيمان به لأن قبول قولهم في الدعوة إلى الكفر كفر فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ يعني مغبونين في الدنيا والآخرة أما خسار الدنيا فهو طاعة الكفار والتذلل للأعداء وأما خسار الآخرة فهو دخول النار وحرمان دار القرار.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٥٠ الى ١٥٢]
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي وليكم وناصركم وحافظكم فاستعينوا به وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ يعني أنه تعالى قادر على نصركم والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم وهم عاجزون عن نصر أنفسهم فضلا عن غيرهم فاطلبوا النصر من الله تعالى فهو خير الناصرين.
قوله عز وجل: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وذلك أن أبا سفيان ومن معه ارتحلوا يوم أحد متوجهين إلى مكة، فلما بلغوا بعض الطريق ندموا وقالوا بئس ما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلّا الشريد تركناهم ارجعوا إليهم فاستأصلوهم فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب، يعني الخوف الشديد حتى رجعوا عما هموا به فعلى هذا القول يكون الوعد بإلقاء الرعب في قلوب الكفار مخصوصا بيوم أحد وقيل إنه عام وإن كان السبب خاصا لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» فكأنه قال سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب منكم حتى تقهروهم ويظهر دينكم على سائر الأديان وقد فعل الله ذلك بفضله وكرمه حتى صار دين الإسلام ظاهرا على جميع الأديان والملل كما قال الله تعالى ليظهره على الدين كله بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ يعني إنما كان إلقاء الرعب في قلوبهم بسبب إشراكهم بالله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً يعني حجة وبرهانا وسميت الحجة سلطانا لأن السلطان مشتق من السليط وهو ما يستصبح به وقيل السلطان القوة والقدرة وسميت الحجة سلطانا لقوتها على دفع الباطل وَمَأْواهُمُ النَّارُ لما بين الله تعالى حال الكفار في الدنيا وهو إلقاء الرعب والخوف في قلوبهم بين حالهم في الآخرة فقال تعالى: وَمَأْواهُمُ النَّارُ أي مسكنهم وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ أي المسكن الذي يستقرون به ويقيمون فيه وكلمة بئس تستعمل في جميع المذام والمعنى وبئس مقام الظالمين الذين ظلموا أنفسهم باكتساب ما أوجب لهم عذاب النار والإقامة فيها.
قوله عز وجل: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من أحد إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم قال ناس من الصحابة من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ يعني بالنصر والظفر وذلك أن الظفر كان للمسلمين في الابتداء وقيل إن الله وعد المؤمنين النصر بأحد فنصرهم فلما خالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطلبوا الغنيمة هزموا إِذْ تَحُسُّونَهُمْ يعني إذ تقتلون الكفار قتلا ذريعا وقيل معنى تحسونهم تستأصلونهم بالقتل بِإِذْنِهِ يعني بعلم الله وأمره وقيل بقضاء الله وقدره حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ قال الفراء فيه تقديم وتأخير تقديره حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم. وقيل معناه ولقد صدقكم الله وعده بالنصر إلى أن كان منكم الفشل والتنازع والمعصية وقيل فيه معنى الشرط وجوابه محذوف تقديره حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم منعكم الله النصر ومعنى فشلتم ضعفتم والفشل الضعف مع جبن ومعنى التنازع الاختلاف وكان اختلافهم وتنازعهم أن الرماة الذين كانوا
مع عبد الله بن جبير لما انهزم المشركون قال بعضهم لبعض أي قوم ما نصنع بمقامنا هاهنا وقد انهزم المشركون ثم أقبلوا على الغنيمة، وقال بعضهم لبعض لا تجاوزوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وثبت عبد الله بن جبير أمير القوم في نفر يسير دون العشرة ممن كان معه فلما رأى خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ذلك حملوا على الرماة الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير وأصحابه وأقبلوا على المسلمين وتحولت الريح دبورا بعد ما كانت صبا، وانقضت صفوف المسلمين واختلطوا فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضا وما يشعرون بذلك من الدهش ونادى إبليس أن محمدا قد قتل فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين وقوله: وعصيتم يعني أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أمركم به من لزوم المركز مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ من النصر والظفر والغنيمة يا معشر المسلمين مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يعني الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا قاله عبد الله بن مسعود ما شعرت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد نزلت هذه الآية ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ يعني يا معشر المسلمين يعني عن المشركين بالهزيمة لِيَبْتَلِيَكُمْ يعني ليمتحنكم وقيل لينزل عليكم البلاء لتتوبوا إليه وتستغفروه وقيل معناه ليختبركم وهو أعلم ليتميز المؤمن من المنافق ومن يريد الدنيا ممن يريد الآخرة وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ يعني ولقد عفا الله عنكم أيها المخالفون أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يستأصلكم بعد المخالفة والمعصية وقيل: عفا عن عقوبتكم أيها المخالفون وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وهذا من تمام نعمه على عباده المؤمنين لأنه نصرهم أولا ثم عفا عن المذنبين منهم ثانيا لأنه ذو الفضل والطول والإحسان. وفي الآية دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن وأن الله تعالى يعفو عنه بفضله وكرمه إن شاء لأنه سماهم مؤمنين مع ما ارتكبوه من مخالفة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي كبيرة وعفا عنهم بعد ذلك. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ١٥٣]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣)
إِذْ تُصْعِدُونَ قيل هو متعلق بما قبله والتقدير ولقد عفا عنكم إذ تصعدون لأن عفوه عنهم لا بد وأن يتعلق بأمر اقترفوه وذلك الأمر هو ما بينه بقوله إذ تصعدون يعني هاربين في الجبل. وقيل هو ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله والمعنى اذكروا إذ تصعدون قراءة الجمهور بضم التاء وكسر العين من الإصعاد وهو الذهاب في الأرض والإبعاد فيها وقرأ الحسن تصعدون بفتح التاء من الصعود وهو الارتقاء من أسفل إلى أعلى كالصعود على الجبل وعلى السلم ونحوه، وللمفسرين في معنى الآية قولان أحدهما أنه صعودهم في الجبل عند الهزيمة والثاني أنه الإبعاد في الأرض في حال الهزيمة ووقت الهرب وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أي لا تعرجون ولا تقيمون على أحد ولا يلتفت بعضكم إلى بعض من شدة الهرب وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي في آخركم ومن ورائكم يقول إليّ عباد الله أنا رسول الله من كرّ أي رجع فله الجنة فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ يعني فجزاكم بفراركم عن نبيكم صلّى الله عليه وسلّم وفشلكم عن عدوكم غما بغم فسمّى العقوبة التي عاقبهم بها ثوابا على سبيل المجاز لأن لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلّا في الخير وقد يجوز استعماله في الشر لأنه مأخوذ من ثاب إذا رجع فأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيرا أو شرا فمتى حملنا الثواب على أصل اللغة كان الكلام صحيحا ومتى حملناه على الأغلب كان على سبيل المجاز فهو كقول الشاعر:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا
فجعل العطاء مكان العقاب لأن الأداهم السود هي القيود الثقال والمحدرجة هي السياط والباء في قوله غما
بغم بمعنى مع أو بمعنى على لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض. وقيل الباء على بابها والمعنى غما متصلا بغم واختلفوا في معنى الغمين فقيل الغم الأول هو ما فاتهم من الظفر والغنيمة والغم الثاني هو ما نالهم من القتل والهزيمة وقيل الغم الأول ما أصابهم من القتل والجراح والغم الثاني هو ما سمعوا بأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد قتل فأنساهم غمهم. وقيل الغم الأول هو أنهم غموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمخالفة أمره فجزاهم الله بذلك الغم القتل والهزيمة. وقيل إن غمهم الأول بسبب إشراف خالد بن الوليد مع خيل المشركين عليهم والغم الثاني حين أشرف أبو سفيان عليهم. وذلك أن أبا سفيان وأصحابه وقفوا بباب الشعب فلما نظر المسلمون إليهم غمهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأغمهم ذلك. قوله تعالى: لِكَيْلا في لفظة لا قولان: أحدهما أنها باقية على أصلها ومعناها النفي هذا يكون الكلام متصلا بقوله ولقد عفا عنكم والمعنى ولقد عفا عنكم لكيلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ لأن عفوه يذهب كل هم وحزن وقيل معناه فأثابكم غما أنساكم الحزن على ما فاتكم ولا ما أصابكم وقد روي أنهم لما سمعوا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد قتل نسوا ما أصابهم وما فاتهم والقول الثاني أن لفظة لا صلة ومعنى الكلام لكي تحزنوا على ما فاتكم وأصابكم عقوبة لكم على مخالفتكم. قال ابن عباس: الذي فاتهم الغنيمة والذي أصابهم القتل والهزيمة وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي هو عالم بجميع أعمالكم خيرها وشرها فيجازيكم عليها. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ١٥٤]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ يا معشر المسلمين مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ الذي أصابكم أَمَنَةً نُعاساً يعني أمنا والأمنة والأمن واحد وقيل الأمن يكون مع زوال الخوف والأمنة مع بقاء سبب الخوف. وكان سبب الخوف يعد باقيا، والنعاس أخف من النوم والمعنى أعقبكم بما نالكم من الخوف والرعب أن أمّنكم أمنا تنامون معه لأن الخائف لا يكاد ينام فأمّنهم بعد خوفهم يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ قال ابن عباس: أمّنهم يومئذ بنعاس يغشاهم وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام (خ) عن أنس عن أبي طلحة قال: كنت فيمن يغشاهم النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط فآخذه. وأخرجه الترمذي عنه قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد وذكر نحو رواية البخاري وزاد والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعبه وأخذ له للحق. وفي رواية أخرى له قال رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أراهم وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس فذلك قوله تعالى ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا. وقال الزبير بن العوام لقد رأيتني مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين اشتد علينا الخوف أرسل الله تعالى علينا النوم والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم يقول لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلناها هنا فقوله تعالى: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ يعني المؤمنين وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعني المنافقين أراد الله يميز المؤمنين من المنافقين فأوقع النعاس على المؤمنين حتى أمنوا ولم يوقع النعاس على المنافقين فبقوا في الخوف. وفي إلقاء النعاس على المؤمنين دون المنافقين آية عظيمة ومعجزة باهرة لأن النعاس كان سبب أمن المؤمنين وعدم النعاس عن المنافقين كان سبب خوفهم وهو قوله تعالى: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعني حملتهم أنفسهم على الهم لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة عندهم يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ يعني يظنون أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه وقيل إن
محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد قتل وإن أمره يضمحل والمعنى يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي كظن أهل الجاهلية يَقُولُونَ يعني المنافقين هَلْ لَنا أي مالنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وذلك أنه لما شاور النبي صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن أبيّ ابن سلول رأس المنافقين في هذه الواقعة وأشار عليه أن لا يخرج من المدينة فلما خالفه النبي صلّى الله عليه وسلّم وخرج وقتل من قتل قيل لعبد الله بن أبيّ قد قتل بنو الخزرج قال هل لنا من الأمر شيء وهو استفهام على سبيل الإنكار أي مالنا أمر يطاع. وقيل المراد بالأمر النصر والظفر يعني ما لنا من هذا الذي يعدنا محمد به من النصر والظفر من شيء إنما هو للمشركين قُلْ يا محمد لهؤلاء المنافقين إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يعني النصر والظفر والقضاء والقدر كله لله وبيده يصرفه كيف يشاء ويدبره كيف أحب يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يعني من الكفر والشك في وعد الله عز وجل وقيل يخفون الندم على خروجهم مع المسلمين وقيل الذي أخفوه وهو قوله تعالى حكاية عنهم: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا وذلك أن المنافقين قال بعضهم لبعض لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ولم تقتل رؤساؤنا. وقيل كانوا يقولون لو كنا على الحق ما قتلنا هاهنا. وعن ابن عباس في قوله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ يعني التكذيب بالقدر وهو قولهم:
«لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا» قيل إن الذي قال هل لنا من الأمر من شيء هو عبد الله بن أبيّ ابن سلول المنافق والذي قال لو كان لنا من الأمر شيء هو معتب بن قشير قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء المنافقين لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ أي قضى عليهم القتل وقدر عليهم إِلى مَضاجِعِهِمْ يعني مصارعهم التي يصرعون بها وقت القتل ومعنى الآية أن الحذر لا ينفع مع القدر والتدبير لا يقاوم. التقدير فالذين قدر عليهم القتل وقضاه وحكم به عليهم لا بد وأن يقتلوا والمعنى لو جلستم في بيوتكم لخرج منها ولظهر الذين قضى الله عليهم بالقتل وقضاه إلى حيث يقتلون فيه وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي وليختبر ما في صدوركم ليعلّمه مشاهدة، كما علمه غيبا لأن المجازاة إنما تقع على ما علمه مشاهدة وقيل معناه ليعاملكم معاملة المبتلي المختبر لكم وقيل معناه ليبتلي أولياء الله ما في صدوركم فأضاف الابتلاء إليه تعظيما لشأن أوليائه المؤمنين وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ قال قتادة أي يطهرها من الشك والارتياب بما يريكم من عجائب صنعه في إلقاء الأمنة وصرف العدو وإظهار سرائر المنافقين فعلى هذا يكون الخطاب للمؤمنين خاصة. وقيل معناه وليبين ويظهر ما في قلوبكم يعني من الاعتقاد لله ولرسوله وللمؤمنين من العداوة فعلى هذا يكون الخطاب للمنافقين خاصة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني بالأشياء الموجودة في الصدور وهي الأسرار والضمائر لأنه عالم بجميع المعلومات. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٥٥ الى ١٥٦]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي انهزموا وهربوا منكم يا معشر المسلمين فهو خطاب لمن كان مع النبي صلّى الله عليه وسلّم من المؤمنين يوم أحد بأحد وكان قد انهزم أكثر المسلمين ولم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا ثلاثة عشر رجلا وقيل أربعة عشر من المهاجرين سبعة ومن الأنصار سبعة، فمن المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ أي طلب زلتهم كما يقال استعجله أي طلب عجلته وقيل حملهم على الزلة وهي الخطيئة وذلك بإلقاء الوسوسة في قلوبهم
لا أنه أمرهم بها بِبَعْضِ ما كَسَبُوا يعني بمعصيتهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وتركهم المركز. وقيل استزلهم الشيطان بتذكير خطايا سبقت لهم فكرهوا أن يقتلوا قبل إخلاص التوبة منها وهذا اختيار الزجاج لأنه قال لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على الفرار من الزحف رغبة في الدنيا وإنما ذكرهم الشيطان خطايا سلفت لهم فكرهوا إلقاء الله إلا على حالة يرضاها وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ يعني ولقد تجاوز الله عن الذين تولّوا يوم التقى الجمعان فلم يعاقبهم بذلك وغفر لهم وقيل إن عثمان عوتب في هزيمة يوم أحد فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن الله قد عفا عنه وقرأ هذه الآية إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يعني لمن تاب وأناب حَلِيمٌ لا يعجل العقوبة ولا يستأصلهم بالقتل. قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ يعني في النفاق والكفر وقيل لإخوانهم في النسب وكانوا مسلمين إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ يعني إذا سافروا في الأرض لتجارة وغيرها أَوْ كانُوا غُزًّى جمع غاز أي غزاة، في الكلام حذف دل المعنى على ذلك الحذف وهو إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزى فقتلوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا يعني مقيمين ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ يعني قولهم وظنهم حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ يعني غما وتأسفا وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ هذا رد لقول المنافقين لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا والمعنى أن الأمر بيد الله وأن المحيي والمميت هو الله تعالى فقد يحيي المسافر والغازي ويميت المقيم والقاعد عن الغزو كما يشاء فكيف ينفع الجلوس في البيت وهل يحمي أحد من الموت وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يعني أنه تعالى مطلع على ما تعملون من خير أو شر فيجازيكم به فاتقوه ولا تكونوا مثل المنافقين لأن مقصدهم تنفير المؤمنين عن الجهاد بقولهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فإن الله تعالى هو المحيي المميت، فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد ومن قدر له الموت لم يبق وإن أقام ببيته عند أهله فلا تقولوا أنتم أيها المؤمنون لمن يريد الخروج إلى الجهاد لا تخرج فتقتل فلان يموت في الجهاد فيستوجب الثواب فإن ذلك خير له من أن يموت في بيته بلا فائدة. وإليه الإشارة بقوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٥٧ الى ١٥٩]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ يعني في العاقبة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ يعني من الغنائم والمعنى ولئن تم عليكم ما تخافونه من القتل في سبيل الله أو الهلاك بالموت فإن ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت والقتل في سبيل الله خير مما تجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم تموتوا وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ يعني لإلى الله الرحيم الواسع الرحمة والمغفرة المثيب العظيم الثواب تحشرون في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم. وقد قسم بعض مقامات العبودية ثلاثة أقسام فمن عبد الله خوفا من ناره أمنه الله مما يخاف وإليه الإشارة بقوله تعالى لمغفرة من الله ومن عبد الله تعالى شوقا إلى جنته أناله ما يرجو. وإليه الإشارة بقوله تعالى لمغفرة من الله ومن عبد الله تعالى شوقا إلى جنته أناله ما يرجو وإليه الإشارة بقوله تعالى ورحمة لأن الرحمة من أسماء الجنة ومن عبد الله شوقا إلى وجهه الكريم لا يريد غيره فهذا هو العبد المخلص الذي يتجلّى له الحق سبحانه وتعالى في دار كرامته. وإليه الإشارة بقوله لإلى الله تحشرون. قوله عز وجل: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أي فبرحمة من الله وما صلة لنت لهم أي سهلت لهم أخلاقك وكثرة احتمالك ولم تسرع إليهم بتعنيف على ما كان يوم أحد منهم ومعنى فبما رحمة من الله هو توفيق الله عز وجل نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم للرفق والتلطف بهم وإن الله تعالى ألقى في قلب نبيه صلّى الله عليه وسلّم داعية الرحمة واللطف حتى فعل ذلك معهم وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا
يعني جافيا غَلِيظَ الْقَلْبِ يعني قاسي القلب سيئ الخلق قليل الاحتمال لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أي لنفروا عنك وتفرقوا
حتى لا يبقى منهم أحد عندك فَاعْفُ عَنْهُمْ أي تجاوز عن زلاتهم وما أتوا يوم أحد وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي واسأل الله المغفرة لهم حتى يشفعك فيهم وقيل فاعف عنهم فيما يختص بك واستغفر لهم فيما يختص بحقوق الله وذلك من تمام الشفقة عليهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أي استخرج آراءهم واعلم ما عندهم. واختلف العلماء في المعنى الذي من أجله أمر الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالمشاورة لهم مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه ووجوب طاعته وعلى كافة الخلق فيما أحبوا أو كرهوا. فقيل هو عام مخصوص والمعنى وشاورهم فيما ليس عندك من الله فيه عهد وذلك في أمر الحرب ونحوه من أمور الدنيا لتستظهر برأيهم فيما تشاورهم فيه. وقيل أمر الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم بمشاورتهم تطييبا لقلوبهم فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمور شق ذلك عليهم. وقال الحسن قد علم الله تعالى أن ما به إلى مشاورتهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده من أمته، وقيل إنما أمر بمشاورتهم ليعلم مقادير عقولهم وأفهامهم لا ليستفيد منهم رأيا وروى البغوي بسنده عن عائشة أنها قالت ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اتفق العلماء على أن كل ما نزل فيه وحي من الله تعالى لم يجز لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أن يشاور فيه الأمة وإنما أمر أن يشاور فيما سوى ذلك من أمر الدنيا ومصالح الحرب ونحو ذلك وقيل أن يشاورهم في أمر الدين والدنيا فيما لم ينزل عليه فيه شيء لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم شاورهم في أسارى بدر وهو من أمر الدين قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه والتدبر قبل العمل يؤمنك من الندم. وقال بعض الحكماء ما استنبط الصواب بمثل المشاورة ومن فوائد المشاورة أنه قد يعزم الإنسان على أمر فيشاور فيه فيتبين له الصواب في قول غيره فيعلم بذلك عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح ومنها أنه إذا لم ينجح أمره علم أن امتناع النجاح محض قدر فلم يلم نفسه وقال بعضهم في مدح المشاورة:
وشاور إذا شاورت كل مهذب لبيب أخي حزم لترشد في الأمر
ولا تك ممن يستبد برأيه فتعجز أو لا تستريح من الفكر
ألم تر أن الله قال لعبده وشاورهم في الأمر حتما بلا نكر
قوله تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ يعني على المشاورة فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فاستعن بالله في أمورك كلها وثق به ولا تعتمد إلا عليه فإنه ولي الإعانة والعصمة والتسديد والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله تعالى في جميع أموره وأن المشاورة لا تنافي التوكل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ يعني المتوكلين عليه في جميع أمورهم. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٦٠ الى ١٦١]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ يعني إن يعنكم الله بنصره ويمنعكم من عدوكم كما فعل يوم بدر فَلا غالِبَ لَكُمْ يعني من الناس لأن الله تعالى هو المتولي نصركم وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كما فعل يوم أحد فلم ينصركم ووكلكم إلى أنفسكم لمخالفتكم أمره وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لا على غيره لأن الأمر كله لله ولا راد لقضائه ولا دافع لحكمه فيجب أن يتوكل العبد في كل الأمور على الله تعالى لا على غيره. وقيل التوكل أن لا تعصي الله من أجل رزقك ولا تطلب لنفسك ناصرا غيره ولا لعملك شاهدا سواه (م) عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير
312
حساب قالوا ومن هم يا رسول الله قال هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم فقام آخر فقال يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة» عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أنكم تتوكلون على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. قوله عز وجل: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قال ابن عباس نزلت هذه الآية وما كان لنبي أن يغل في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض القوم لعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذها فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى آخرها. أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن غريب وروي عن الضحاك قال بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طلائع فغنم النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يقسم الطلائع فأنزل الله تعالى وما كان لنبي أن يغل وروى ابن جرير الطبري عن ابن عباس في قوله تعالى وما كان لنبي أن يغل يقول ما كان لنبي أن يقسم إلى طائفة من المؤمنين ويترك طائفة ويجوز في القسم ولكن يقسم بالعدل ويأخذ فيه بأمر الله ويحكم فيه بما أنزل الله يقول ما كان الله ليجعل نبيا يغل من أصحابه فإذا فعل ذلك النبي استنوا به وقال مقاتل والكلبي نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة. وقالوا نخشى أن يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: من أخذ شيئا فهو له وأن لا تقسم الغنائم كما لم تقسم يوم بدر فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري قالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم بل ظننتم أنا نغل فلا نقسم فأنزل الله هذه الآية وقال قتادة ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه وقيل إن الأقوياء ألحوا عليه يسألونه من المغنم فأنزل الله تعالى وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ يعني فيعطي قوما ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بينهم بالسوية وقال محمد بن كعب القرظي ومحمد بن إسحاق بن يسار هذا في شأن الوحي يقول وما كان لنبي أن يكتم شيئا من الوحي رغبة أو رهبة أو مداهنة والغلول هو الخيانة. وأصله أخذ الشيء في خفية يقال غل فلان يغل قرئ بفتح الياء وضم الغين أي وما كان لنبي أن يخون لأن النبوة والخيانة لا يجتمعان لأن منصب النبوة أعظم المناصب وأشرفها وأعلاها لا تليق به الخيانة لأنها في نهاية الدناءة والخسة والجمع بين الضدين محال فثبت بذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يخن أمته في شيء لا من الغنائم، ولا من الوحي. وقيل المراد به الأمة لأنه قد ثبت براءة ساحة النبي صلّى الله عليه وسلّم من الغلول والخيانة فدل ذلك على أن المراد بالغلول غيره وقيل اللام فيه منقولة معناه ما كان النبي ليغل على نفي الغلول عن الأنبياء وقيل معناه ما كان لنبي الغلول أراد ما غل نبي قط فنفى عن الأنبياء:
الغلول وقيل معناه وما كان يحل لنبي الغلول وإذا لم يحل له لم يفعله وحجة هذه القراءة أنهم نسبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الغلول. في بعض الروايات فبين الله تعالى بهذه الآية أن هذه الخصلة لا تليق به ونفى عنه ذلك بقوله وما كان لنبي أن يغل وقرئ يغل بضم الياء وفتح الغين ولها معنيان أحدهما أن يكون من الغلول أيضا ومعناه وما كان لنبي أن يخان أي تخونه أمته والثاني أن يكون من الإغلال ومعناه وما كان لنبي أن يخون أي ينسب إلى الخيانة وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني بالشيء الذي غله بعينه يحمله على ظهره يوم القيامة ليزداد فضيحة بما يحمله يوم القيامة وقيل يمثل ذلك الشيء في النار ثم يقال له انزل فخذه فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ موضعه وقع ذلك الشيء في النار فيكلف أن ينزل إليه ليخرجنه يفعل به ذلك ما شاء الله وقيل معناه أنه يأتي بإثم ما غله فيجازى به يوم القيامة وهو قوله تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ يعني من خير أو شر والمعنى أن كل كاسب خيرا كان ذلك الكسب أو شرا فهو مجزى به يوم القيامة وهو في جزاء عمله وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يعني بل يعدل بينهم يوم القيامة في الجزاء فيجازى كل على عمله.
(فصل في ذكر أحاديث وردت في الغلول ووعيد الغال) وقد تقدم أن أصل الغلول هو أخذ الشيء في خفية وأنه الخيانة إلا أنه قد صار في العرف مخصوصا
313
بالخيانة في الغنيمة وبهذا وردت الأحاديث (ق) عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره حتى قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني وأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لفظ مسلم. الرغاء صوت البعير والثغاء صوت الشاة والرقاع الثياب والصامت الذهب والفضة (ق) عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خيبر ففتح الله علينا فلم نغنم ذهبا ولا ورقا غنمنا المتاع والطعام والثياب ثم انطلقنا إلى الوادي يعني وادي القرى ومع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد له وهبه له رجل من جذام يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحل رحله فرمى بسهم فكان فيه حتفه فقلنا هنيئا له شملته الشهادة يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم قال ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال: أصبتها يوم خيبر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شراك من نار أو شراكان من نار وفي رواية نحوه وفيه ومعه عبد يقال له مدعم أهداه له أحد بني الضبيب وفيه إذ جاءه سهم عائر إشراك سير النعل الذي يكون على ظهر القدم ومثله شسع النعل والسهم العائر هو السهم الذي لا يدرى من رماه (خ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال كان على ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: رجل يقال له كركرة فمات فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها عن زيد بن خالد الجهني أن رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم توفي فذكروه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال صلّوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال أن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين. أخرجه أبو داود والنسائي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال من غل فاحرقوا متاعه واضربوه. أخرجه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال وضربوه زاد في رواية ومنعوه سهمه أخرجه أبو داود. قوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٦٢ الى ١٦٥]
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ يعني فترك الغلول فلم يغل كَمَنْ باءَ أي رجع بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ يعني بغضب من الله والمعنى فغل والسخط الغضب الشديد المفضي للعقوبة وهو من الله إنزال العقوبة بمن سخط عليه وقيل في معنى الآية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أمر المسلمين باتباعه والخروج معه يوم أحد اتبعه المؤمنون وتخلف عنه جماعة من جماعة المنافقين فأخبرنا الله تعالى بحال من اتبعه بقوله أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وبحال من تخلف عنه بقوله:
كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يعني الغال أو المتخلف عن النبي صلّى الله عليه وسلّم هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ يعني هم ذوو درجات عند الله قال ابن عباس: يعني من اتبع رضوان الله ومن باء
314
بسخط من الله مختلفو المنازل عند الله فلمن اتبع رضوان الله الثواب العظيم ولمن باء بسخط من الله ليسوا سواء بل هم درجات عند الله على حسب أعمالهم. وقيل الضمير في قوله هم درجات عائد على قوله أفمن اتبع رضوان الله فقط لأن الغالب في العرف استعمال الدرجات لأهل الثواب والدركات لأهل النار ولأن الله وصف من باء بسخط من الله إن مأواه جهنم وبئس المصير فدل على أن الضمير في قوله هم درجات عند الله عند راجع للأول وفيه تحريض على العمل بطاعته وتحذير عن العمل بمعاصيه. قوله عز وجل: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يعني أحسن إليهم وتفضل عليهم والمنة النعمة العظيمة وذلك في الحقيقة لا يكون إلا من الله ومنه قوله تعالى لقد منّ الله على المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني من جنسهم عربيا مثلهم ولد ببلدهم ونشأ بينهم يعرفون نسبه وليس حي من أحياء العرب إلا وقد ولده وله فيهم نسب. إلا بني تغلب فإنهم كانوا نصارى وقد ثبتوا على النصرانية فطهر الله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أن يكون له فيهم نسب وقيل أراد بالمؤمنين جميع المؤمنين ومعنى قوله تعالى من أنفسهم أي بالإيمان والشفقة لا بالنسب ومن جنسهم ليس بملك ولا أحد من غير بني آدم وقيل من أنفسهم يعني أنه من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام ووجه المنّة والإنعام على المؤمنين ببعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكونه داعيا لهم إلى ما يخلصهم من العذاب الأليم ويوصلهم إلى الثواب في جنات النعيم وكونه من أنفسهم ومن جنسهم لأنه إذا كان اللسان واحدا سهل الأخذ عنه فيما يجب عليهم، وكانوا واقفين على جميع أحواله وأفعاله يعرفون صدقه وأمانته فكان ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به، وفي كونه من أنفسهم شرف لهم وكان فيما خطب به أبو طالب حين زوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها وقد حضر ذلك بنو هاشم ورؤساء مضر قوله الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد وعنصر مضر وجعلنا سدنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوبا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس وإن ابني هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به فتى إلا رجح وهو الله بعد هذا له نبأ عظيم وخطب جليل. وقيل في وجه المنّة ببعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن الخلق جبلوا على الجهل ونقصان العقل وقلة الفهم وعدم الدراية فمنّ الله تعالى على خلقه وأنعم عليهم وأحسن إليهم بأن بعث فيهم رسولا من أنفسهم أنقذهم به من الضلالة وبصرهم به من الجهالة وهداهم به إلى صراط مستقيم وإنما خص المؤمنين بالذكر لأنهم هم المنتفعون بما جاء به دون غيرهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ يعني يقرأ عليهم كتابه الذي أنزل عليه بعد أن كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي السماوي وَيُزَكِّيهِمْ أي ويطهرهم من دنس الكفر ونجاسة المحرمات والخبائث وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعني القرآن والسنّة التي سنها لهم على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ يعني من قبل بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني لفي جهالة وحيرة عن الهدى عميا لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فهداهم الله بنبيّه صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يعني ما أصابهم يوم أحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يعني ببدر وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين وقتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين وقيل إن المسلمين هزموا المشركين يوم بدر وهزموهم في أول الأمر يوم أحد ولما عصوا الله ورسوله هزمهم المشركون فحصل انهزام المشركين مرتين وانهزام المسلمين مرة واحدة قُلْتُمْ أَنَّى هذا أي من أين لنا هذا القتل والهزيمة
ونحن المسلمون ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا وهو استفهام إنكار قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ يعني إنما وقعتم فيما وقعتم فيه بشؤم ذنوبكم وهو مخالفتكم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم اختار الإقامة في المدينة على الخروج إلى العدو واختاروا هم الخروج إليه وأيضا أمر الرماة بالإقامة في الموضع الذي عينه لهم فخالفوا وتركوا المركز لأجل الغنيمة فكان ذلك سبب القتل والهزيمة. وروى عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب قال جاء جبريل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس فقالوا يا رسول الله
315
عشائرنا وإخواننا بل نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى أهل بدر لم يسنده البغوي وأسنده ابن جرير الطبري فذلك معنى قوله قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ يعني بأخذكم الفداء واختياركم القتل لأنفسكم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني من نصركم مع الطاعة وترك نصركم مع المخالفة. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٦٦ الى ١٦٩]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)
وَما أَصابَكُمْ يعني من القتل والجراح والهزيمة يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يعني جمع المؤمنين وجمع المشركين وذلك بأحد يوم أحد فَبِإِذْنِ اللَّهِ يعني فبعلمه وقضائه وقدره وحكمه وفيه تسلية للمؤمنين بما حصل لهم يوم أحد من القتل والهزيمة ولا تقع التسلية إلا إذا علموا أن ذلك كان واقعا بقضاء الله وقدره فحينئذ يرضون بما قضى الله عليهم وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا أي ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على مالهم ويظهر نفاق المنافقين بقلة صبرهم على ما نزل بهم فالمراد من العلم المعلوم والتقدير ليتبين المؤمن من المنافق وليتميز أحدهما من الآخر والمنافق هو الذي أظهر الإيمان بلسانه وأضمر خلافه واشتقاقه من النفق وهو السرب في الأرض النافذ، ومنه نافقا اليربوع لأن له حجرا في الأرض له بابان إذا طلب من أحدهما خرج من الآخر فكذلك المنافق صنع له طريقين أحدهما إظهار الإيمان بلسانه والآخر إضمار الكفر بقلبه من أيهما طلب خرج من الآخر.
وقيل لأنه دخل في الإيمان من باب وخرج من باب آخر والنفاق اسم إسلامي لم تك العرب تعرفه قبل الإسلام وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا المقول له عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق وأصحابه وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما خرج إلى أحد في ألف رجل حتى إذا كان بالشوط بين أحد والمدينة انخذل عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس وقال ما ندري علام نقتل أنفسنا فرجع بمن معه من المنافقين فتبعهم جابر بن عبد الله بن عمر بن حرام الأنصاري أخو بني سلمة وهو يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم عند حضور عدوه فذلك قوله تعالى وقيل لهم يعني المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه تعالوا قاتلوا في سبيل الله أي لأجل دين الله وطاعته أو ادفعوا يعني عن أموالكم وأهليكم وقيل معناه تعالوا كثروا سواد المسلمين إن لم تقاتلوا ليكون ذلك دفعا وقمعا للعدو قالُوا يعني المنافقين لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ أي لو نعلم أن اليوم يجري فيه قتال لاتبعناكم ولم نرجع ولو علموا ما تبعوهم. وقيل معناه لو نحسن قتالا لاتبعناكم هُمْ لِلْكُفْرِ يعني المنافقين إلى الكفر يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أي الإيمان وإنما قال تعالى يومئذ لأنهم قبل ذلك اليوم لم يظهروا ما أظهروه من المعاندة والرجوع عن المسلمين وقولهم لو لم نعلم قتالا لاتبعناكم وإنما كانوا قبل ذلك يظهرون كلمة الإسلام ويخفون الكفر يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ يعني يظهرون بألسنتهم الإيمان وليس هو في قلوبهم إنما في قلوبهم الكفر والنفاق وهذه صفة المنافقين لا صفة المؤمنين لأن صفة المؤمن المخلص موطأة القلب للسان على شيء واحد وهو التوحيد وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ يعني من النفاق الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ نزلت في عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه وفي المراد بإخوانهم قولان: أحدهما أن المراد بإخوانهم الذين استشهدوا بأحد فيكون إخوانهم في النسب لا في الدين والقول الثاني إن المراد بإخوانهم المنافقون فعلى القول الأول يكون معنى
316
الآية الذين قالوا في إخوانهم أو عن إخوانهم الذين قتلوا بأحد لو أطاعونا ما قتلوا لأنهم بعد أن قتلوا لا يخاطبون وعلى القول الثاني يكون معنى الآية الذين قالوا وهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه لإخوانهم يعني في النفاق وَقَعَدُوا يعني عن الجهاد لَوْ أَطاعُونا يعني هؤلاء الذين خرجوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو أطاعونا يعني في القعود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو الانصراف عنه ما قُتِلُوا يومئذ فرد الله تعالى عليهم بقوله قُلْ يعني قل لهم يا محمد فَادْرَؤُا أي فادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني أن الحذر لا ينفع من القدر وفي الآية دليل على أن المقتول يموت بأجله خلافا لمن يزعم أن القتل قطع على المقتول أجله وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً قيل نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وقال أكثر المفسرين إنها نزلت في شهداء أحد ويدل على ذلك ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معقلة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم. قالوا من يبلغ إخواننا عنا أننا أحياء في الجنة لئلا يزهدوا في الجنة ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ إلى آخر الآية أخرجه أبو داود (م) عن مسروق قال سألنا عبد الله عن هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فقال أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فأطلع إليهم ربهم اطلاعه فقال: هل تشتهون شيئا قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى
نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا.
(ذكر ما يتعلق بهذا الحديث) قول مسروق سألنا عبد الله كذا جاء عبد الله غير منسوب وقد نسبه بعض الناس فقال عبد الله بن عمر قد ذكره أبو مسعود الدمشقي والحميدي في مسنده عن عبد الله بن مسعود وهو الصحيح وهذا الحديث مرفوع لقوله أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي الحديث دليل عن أن الجنة مخلوقة الآن خلافا للمعتزلة لقوله صلّى الله عليه وسلّم تسرح من الجنة حيث شاءت وهو مذهب أهل السنة وفيه دليل على أن الأرواح باقية لا تفنى بفناء الجسد لأن المحسن ينعم ويجازى بالثواب وأن المسيء يعذب ويجازى بالعقاب قبل يوم القيامة وهو مذهب أهل السنة أيضا قوله أرواحهم في جوف طير خضر أي يجعل الله أرواح الشهداء في جوف طير خضر وهذا ليس ببعيد لا سيما مع القول بأن الأرواح أجسام لطيفة. وقيل إن المنعم والمعذب من الأرواح والأجساد جزء من الجسد تبقى فيه الروح وهو الذي يتلذذ بالنعيم ويتألم بالعذاب فغير مستحيل أن يصور الله تعالى ذلك الجزء طائرا ويجعل في جوف طير فتسرح في الجنة وتأوي إلى تلك القناديل وقد تعلق بهذا الحديث من يقول بالتناسخ من المبتدعة ويقول بانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة وتعذيبها في الصور القبيحة المسخرة ويزعمون أن هذا هو الثواب والعقاب وهذا ضلال بيّن وقول سخيف وبدعة باطلة لما في هذا القول من إبطال ما جاءت به الشرائع من الحشر والنشر والمعاد والجنة والنار وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث ما يرد عليهم وهو قوله حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه يعني يحيي جميع جسده يوم يبعثه وهو يوم القيامة والله أعلم. عن جابر قال لقيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا مهتم فقال ما لي أراك منكسرا قلت يا رسول الله استشهد أبي يوم أحد وترك عيالا ودينا فقال ألا أبشرك بما لقي الله به أباك قلت بلى قال ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب وإنه أحيا أباك وكلمه كفاحا وقال يا عبدي تمنّ علي أعطك قال: يا رب تحييني فأقتل ثانية قال سبحانه إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون فنزلت: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب
317
وقيل إن الآية نزلت في شهداء بئر معونة وهي بئر بين مكة وعسفان وأرض هذيل قال محمد بن إسحاق عن أشياخه من أهل العلم قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة وكان سيد بني عامر بن صعصعة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهدى له هدية فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقبلها وقال إني لا أقبل هدية مشرك ثم عرض عليه الإسلام وأخبره بما له فيه وما أعد الله للمؤمنين وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يبعد وقال يا محمد إن الذي تدعو إليه حسن جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إني أخشى عليهم أهل نجد فقال أبو براء نالهم جار فأبعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من خيار المسلمين. وكان يقال لهم القراء منهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت ونافع بن يزيد بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر. وذلك في سفر سنة أربع من الهجرة بعد أحد بأربعة أشهر فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم فلما نزلوها قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل هذا الماء فقال حرام بن ملحان: أنا فخرج بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء فلما أتاهم حرام بن ملحان: لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال حرام بن ملحان يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم وإني أشهد أن لا إله إلا الله
وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضربه به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا لا نخفر أبا براء فقد عقد لهم عقدا وجوارا فاستصرخ عليهم قبائل بني سليم عصية ورعلا وذكوان فأجابوه فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق فارتث بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلم يعلمها بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا: والله إن لهذا الطير لشأنا فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة فقال الأنصاري لعمرو بن أمية ماذا ترى قال نلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونخبره فقال الأنصاري لكن لا أرغب عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ثم قاتل القوم حتى قتل وأخذ عمرو بن أمية الضمري أسيرا فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمة فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبره الخبر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا عمل أبي براء وقد كنت لهذا كارها متخوفا فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه أخفار عامر بن الطفيل إياه وما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسببه وجواره. وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق فروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول من الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه قالوا هو عامر بن فهيرة قالوا: وبلغ ربيعة بن أبي براء أن عامر بن الطفيل أخفر ذمة أبيه فحمل على عامر بن الطفيل فطعنه فخر عن فرسه.
قلت وذكر ابن الأثير الجزري في كتاب جامع الأصول له في قسم الأسماء في ترجمة عامر بن الطفيل أن عامر بن الطفيل قدم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن بضع وثمانين سنة ولم يسلم وعاد من عنده فخرج له خراج في أصل أذنه أخذه منه مثل النار فاشتد عليه ومات منه (ق) عن أنس قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقواما من بني سليم إلى بني عامر في سبعين وفي رواية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث خاله أخا لأم سليم واسمه حرام في سبعين راكبا فلما قدموا قال لهم خالي أتقدمكم فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلّا كنتم مني قريبا فتقدم فأمنوه فبينما هو يحدثهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ أمنوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلّا رجلا أعرج صعد الجبل قال همام وأراه آخر معه فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلّى الله عليه وسلّم إنهم قد
318
لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم. قال فكنا نقرأ أن بلغوا قومنا إن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ بعد فدعا عليهم أربعين صباحا على رعل وذكوان وبني عصية الذين عصوا الله ورسوله وفي رواية إن رعلا وذكوان وبني لحيان استمدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمدهم بسبعين رجلا من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل حتى إذا كان ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقنت عليهم شهرا يدعو في الصبح على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا ثم إن ذلك رفع بلغوا قومنا إن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ولمسلم قال: جاء ناس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسألوه أن أبعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار وذكر نحو ما تقدم وقيل إن أولياء الشهداء وأهليهم كانوا إذا أصابتهم نعمة وخير تحسروا على الشهداء وقالوا نحن في النعمة والرخاء وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور فأنزل الله تعالى هذه الآية تطييبا لقلوبهم وتنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم فقال تعالى:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي ولا تظنن الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكل أحد من أمته والمعنى لا يظن ظان إن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا يعني كأموات غيرهم ممن لم يقتل في سبيل الله بَلْ أَحْياءٌ أي بل هم أحياء وظاهر الآية يدل على كون من قتل في سبيل الله حيا فأما أن يكون المراد أنهم سيصيرون أحياء في الآخرة أو يكون المراد إنهم أحياء في الحال وعلى تقدير أنهم أحياء في الحال يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجثمانية. فهذه ثلاثة أوجه في معنى احتمال الحياة فمن قال بالوجه الأول هو أنهم سيصيرون أحياء في الآخرة قال معنى الآية بل هم أحياء في الذكر: وأنهم يذكرون بخير أعمالهم وأنهم استشهدوا في سبيل الله وقيل بل هم أحياء في الدين وهذا القول ليس بصواب لأن الله تعالى أثبت لهم الحياة في الحال بقوله بل أحياء يعني في حال ما يقتلون فإنهم يحيون وهو الاحتمال الثاني. واختلفوا في معنى هذه الحياة هل هي للروح أو للجسم والروح معا فمن أثبت الحياة للروح دون الجسم يقال يدل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم أرواح الشهداء في حواصل طير خضر فخص الأرواح دون الأجساد وقال بعض المفسرين إنّ أرواح الشهداء تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة. ومن أثبت الحياة الروح والجسم معا قال: يدل عليه سياق الآية وهو قوله عند ربهم يرزقون فأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون كالأحياء وقيل إن الشهيد لا يبلى في قبره ولا تأكله الأرض كغيره. وروي أنه لما أراد معاوية أن يجري الماء على قبور الشهداء أمر أن ينادي من كان له قتيل فليخرجه وليحوله من هذا الموضع قال جابر: فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان فأصابت المسحاة إصبع رجل منهم فانبعث دما وذكر البغوي بغير سند عن عبيد الله بن عمير قال مر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين انصرف من أحد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم وسلموا عليهم فالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلّا ردوا عليه» وقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني في محل كرامته وفضله يُرْزَقُونَ يعني من ثمار الجنة وتحفها.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٧٠]
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠)
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني بما أعطاهم من الثواب والكرامة والإحسان والإفضال في دار النعيم وَيَسْتَبْشِرُونَ أي يفرحون والاستبشار هو الفرح والسرور الذي يحصل للإنسان عند البشارة بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ يعني من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على منهج الإيمان والجهاد لعلمهم بأنهم إذا استشهدوا سألوا الله عز وجل أن يخبر إخوانهم بما نالوا من الخير والكرامة ليرغبوا في الجهاد فأخبرهم الله عز
وجل إني قد أنزلت على نبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم وأخبرته بحالكم وما صرتم إليه من الكرامة وأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد أخبر إخوانكم بذلك ففرحوا بذلك واستبشروا أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني في الآخرة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني على ما فاتهم من نعيم الدنيا.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٧١ الى ١٧٢]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لمّا بيّن الله تعالى أن الشهداء يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم في خلفهم ذكر أنهم أيضا يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم والفضل فالاستبشار الأول كان لغيرهم والاستبشار الثاني لأنفسهم خاصة وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ يعني كما أنه تعالى لا يضيع أجر المجاهدين والشهداء كذلك لا يضيع أجر المؤمنين.
(فصل في فضل الجهاد في سبيل الله) (ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلّا جهاد في سبيل وإيمان بي وتصديق برسلي فهو على ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلّا جاء يوم القيامة كهيئته حين يكلم لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم اغزوا فأقتل لفظ (ق) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها (ق) عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها. عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: كل ميت يختم على عمله إلّا المرابط في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر أخرجه أبو داود والترمذي عن معاذ بن جبل أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة ومن سأل الله القتل في سبيل الله صادقا من نفسه ثم مات أو قتل كان له أجر شهيد، ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك ومن خرج به خراج في سبيل الله فإن عليه طابع الشهداء. أخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه الترمذي مفرقا في موضعين (ق) عن أبي سعيد قال: أتى رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله قال ثم من قال رجل في شعب من الشعاب يعبد الله وفي رواية يتقي الله ويدع الناس من شره (خ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا وتصديقا فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة يعني حسنات (ق) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ما أحد يدخل الجنة فيحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلّا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة وفي رواية لما يرى من فضل الشهادة (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يغفر للشهيد كل ذنب إلى الدين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ما يجد الشهيد من مس القتل إلّا كما يجد أحدكم من القرصة أخرجه الترمذي وللنسائي نحوه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته أخرجه أبو داود: قوله عز وجل: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الآية قال أكثر المفسرين أن أبا سفيان وأصحابه لمّا انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم وتلاوموا فقالوا:
لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلّا الشريد تركتموهم ارجعوا فاستأصلوهم فبلغ ذلك
320
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأراد أن يرهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه قوة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من ألم الجراح والقرح الذي أصابهم يوم أحد وناد مناد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا لا يخرجن معنا أحد إلّا من حضرنا بالأمس فكلمه جابر بن عبد الله فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال لي بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج معه وإنما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرهبا للعدو وليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم فينصرفوا فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان في سبعين رجلا من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال، (ق) عن عائشة في قوله الذين استجابوا الله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، الذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم. قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر لما أصاب نبي الله صلّى الله عليه وسلّم ما أصاب يوم أحد وانصرف المشركون خاف أن يرجعوا فقال من يذهب في أثرهم فانتدب منهم سبعون رجلا كان فيهم أبو بكر والزبير قال: فمر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخزاعي بحمراء الأسد كانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ومعبد يومئذ مشرك فقال يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله كان قد أعفاك فيهم. ثم خرج معبد من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا على الرجعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا قد أصبنا جل أصحابه وقادتهم لنكرن على بقيتهم ولنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال له: ما وراءك يا معبد قال محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قد يتحرقون عليكم تحرقا وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم، وفيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط قال أبو سفيان: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل قال فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم فقال والله إني أنهاك عن ذلك فو الله لقد حملني ما رأيت على إن قلت أبياتا قال وما قلت قال قلت:
كادت تهدي من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلة عند اللقاء ولا ميل معازيل
فقلت ويل ابن حرب من لقائكمو إذا تغطغطت البطحاء بالخيل
إني نذير لأهل السبل ضاحية لكل ذي أربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وحش يقابله وليس يوصف ما أنذرت بالفيل
قالوا فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ومر ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا نريد المدينة لأجل الميرة قال: فهل أنتم مبلغون عنا محمدا رسالة وأحمل لكم إبلكم زبيبا بعكاظ إذا وفيتموها قالوا: نعم إذا وافيتموه فأخبروه إنا أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم وانصرف أبو سفيان إلى مكة ومر الركب برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه: حسبنا الله ونعم الوكيل. ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعا إلى المدينة بعد ثالثة وقال مجاهد وعكرمة نزلت هذه الآية في غزوة بدر الصغرى وذلك أن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك بيننا وبينك إن شاء الله فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل بمجنة من ناحية مر الظهران ثم ألقي الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان: يا نعيم إني قد واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم الصغرى وهذا عام جدب ولا يصلحنا إلّا عام نرعى فيه الشجر ونشرب اللبن، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد
321
ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جراءة ولا أن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي فألحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنا في جمع كثير لا طاقة لهم بنا ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يد سهيل بن عمرو ويضمنها لك قال وجاء سهيل فقال له نعيم: يا أبا يزيد أتضمن لي هذه القلائص وانطلق إلى محمد فأثبته قال:
نعم، قال: فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال نعيم: أين تريدون؟ قالوا:
واعدنا أبا سفيان أن نلتقي بموسم بدر الصغرى فقال نعيم بئس الرأي رأيتم أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلّا الشريد أفتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم عند الموسم والله لا يفلت منكم أحد فكره أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخروج فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي فأما الجبان فإنه رجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أصحابه حتى وافوا بدر الصغرى وكانوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يريدون بذلك أن يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنون حسبنا الله ونعم الوكيل. حتى بلغوا بدر الصغرى وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببدر ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبا سفيان من مجنة إلى مكة فلم يلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أحدا من المشركين ووافوا السوق وكان معهم تجارات ونفقات فباعوا فأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين فذلك قوله تعالى الذين استجابوا لله والرسول أي أجابوا الله وأطاعوه في جميع أوامره وأطاعوا الرسول أيضا مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ يعني من بعد ما نالهم من ألم الجراح لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا يعني أحسنوا بطاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأجابوه إلى الغزو واتقوا معصيته والتخلف عنه أَجْرٌ عَظِيمٌ يعني لهم ثواب جزيل وهو الجنة. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٧٣ الى ١٧٤]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ هذه الآية متعلقة بالآية التي قبلها لأن المراد بالذين من تقدم ذكره وهم الذين استجابوا لله والرسول وفي المراد بالناس وجوه أحدها: أنه نعيم بن مسعود الأشجعي فيكون اللفظ عاما أريد به الخاص وإنما جاز إطلاق لفظ الناس على الإنسان الواحد لأن ذلك الواحد إذا فعل فعلا أو قال قولا ورضي به غيره حسن إضافة ذلك الفعل والقول إلى الجماعة وإن كان الفاعل واحدا فهو كقوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً والقاتل واحد والوجه الثاني أن المراد بالناس الركب من عبد القيس قاله ابن عباس ومحمد بن إسحاق. الوجه الثالث أن المراد بالناس المنافقون وذلك أنهم لما رأوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يتجهز لميعاد أبي سفيان نهوا أصحابه عن الخروج معه وقالوا لهم أن القوم قد أتوكم في دياركم فقتلوا الأكثر منكم فإن خرجتم إليهم لم يبق أحد منكم إِنَّ النَّاسَ يعني أبا سفيان وأصحابه من رؤساء المشركين قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ يعني الجموع الكثيرة لأن العرب تسمى الجيش جمعا ويجمعونه جموعا فَاخْشَوْهُمْ أي فخافوهم واحذروهم فإنه لا طاقة لكم بهم فَزادَهُمْ إِيماناً يعني فزاد المسلمين ذلك التخويف تصديقا ويقينا وقوة في دينهم وثبوتا على نصر نبيهم صلّى الله عليه وسلّم وفي هذه الآية دليل لمن يقول بزيادة الإيمان ونقصانه لأن الله تعالى نص على وقوع الزيادة في الإيمان وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي كافينا الله هو الذي يكفينا أمرهم فهو كقول امرئ القيس. وحسبك من غني شبع. وروي أي يكفيك الشبع والري ونعم الوكيل يعني ونعم الموكول إليه في الأمور كلها وقيل الوكيل هو الكافي يكفينا الله ونعم الكافي هو. وقيل الوكيل هو الكفيل ووكيل الرجل في ماله هو الذي كفله وقام به والوكيل في صفة الله تعالى هو الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم وأنه الذي يستقل بأمورهم كلها (خ) عن ابن عباس قال في قوله تعالى: إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ إلى قوله وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم. قوله تعالى: فَانْقَلَبُوا أي فانصرفوا ورجعوا بعد خروجهم والمعنى وخرجوا فانقلبوا فحذف الخروج لأن الانقلاب يدل عليه بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بعافية لم يلقوا عدوا وَفَضْلٍ أي تجارة وربح وهو ما أصابوا في سوق بدر من الربح وقيل النعمة منافع الدنيا والفضل ثواب الآخرة لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أي لم يصيبهم أذى ولا مكروه من قتل وجراح وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ يعني في طاعة الله وطاعة رسوله وقيل إنهم قالوا هل يكون هذا غزوا فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم بمجرد خروجهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ يعني أنه تعالى تفضل عليهم بالتوفيق لما فعلوا وقيل تفضل عليهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين حتى رجعوا قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٧٥ الى ١٧٨]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ يعني إنما ذلكم المخوف والمثبط هو الشيطان يخوف بالوسوسة بأن ألقى ذلك في أفواههم ليرهبوا المؤمنين ويخوفوهم ويجبنوهم قوله أولياءه يعني الشيطان يخوفكم يا معشر المؤمنين بأوليائه. وقيل معناه أولياءه في صدوركم لتخافوهم وقيل معناه يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين وأولياء الشيطان هم الكفار والمنافقون الذين يطيعونه ويؤثرون أمره وأولياء الله هم المؤمنون الذين لا يخافون الشيطان إذا خوفهم ولا يطيعونه إذا أمرهم فَلا تَخافُوهُمْ يعني فلا تخافوا أولياء الشيطان ولا تقعدوا عن قتلهم ولا تجبنوا عنهم وَخافُونِ أي فجاهدوا في سبيلي مع رسولي فإني وليكم وناصركم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين بوعدي إني متكفل لكم بالنصر والظفر. قوله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ قيل هم كفار قريش وقيل هم المنافقون ورؤساء اليهود وقيل هم قوم ارتدوا عن الإسلام والمعنى ولا يحزنك يا محمد من يسارع في الكفر ويجمع الجموع لمحاربتك فإن هذا المقصود لا يحصل له وقيل مسارعتهم في الكفر ومظاهرتهم الكفار على النبي صلّى الله عليه وسلّم والمعنى يسارعون في نصرة الكفر فلا يحزنك فعلهم فإنك منصور عليهم إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يعني بمسارعتهم في الكفر إنما يضرون أنفسهم بذلك وقيل معناه لن يضروا أولياء الله شيئا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ يعني لا يجعل لهم نصيبا في ثواب الآخرة فلذلك خذلهم حتى سارعوا في الكفر. وفي الآية دليل على أن الخير والشرّ بإرادة الله تعالى وفيه رد على القدرية والمعتزلة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني في الآخرة إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ يعني المنافقين آمنوا ثم كفروا والمعنى أنهم استبدلوا الكفر بالإيمان فكأنهم أعطوا الإيمان وأخذوا الكفر كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يعني باستبدالهم الكفر بالإيمان وإنما ضروا أنفسهم بذلك وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة.
قوله عز وجل: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قرئ تحسبن بالتاء والياء فمن قرأ بالتاء فمعناه ولا تحسبن يا محمد إملاءنا للكفار خير لأنفسهم ومن قرأ بالياء قال: معناه ولا يحسبن الكفار إملاءنا لهم خيرا نزلت في مشركي مكة وقيل نزلت في يهود بني قريظة والنضير أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ الإملاء الإمهال والتأخير وأصله من الملوءة وهي المدة من الزمان والمعنى ولا يظنن الذين كفروا إن إمهالنا إياهم بطول العمر والإنساء في الأجل
خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ثم قال تعالى: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إثما يعني إنما نمهلهم ونؤخر في آجالهم ليزدادوا إثما وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يعني في الآخرة روى البغوي بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّ الناس خير؟ قال: من طال عمره وحسن عمله قيل فأيّ الناس شرّ؟ قال: من طال عمره وساء عمله وروى ابن جرير الطبري بسنده عن الأسود قال: قال عبد الله: ما من نفس برة ولا فاجرة إلّا والموت خير لها. وقرأ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وقرأ نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ وقال ابن الأنباري قال جماعة من أهل العلم أنزل الله عز وجل هذه الآية في قوم يعاندون الحق سبق في علمه أنهم لا يؤمنون فقال إنما نملي لهم ليزدادوا إثما بمعاندتهم الحق وخلافهم الرسول وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله لخلقه ثم تلا هذه الآية وقال الزجاج هؤلاء قوم أعلم الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنهم لا يؤمنون أبدا وأن نفاقهم يزيدهم كفرا وإثما وهذه الآية حجة ظاهرة على القدرية حيث أخبر الله تعالى أنه يطيل أعمار قوم ويمهلهم ليزدادوا كفرا وإثما وغيا. قوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣): آية ١٧٩]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية فقال الكلبي قالت قريش يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان وإن من أطاعك وتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال السدي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عرضت على أمتي في صورها في الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر بي» فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء زعم محمدا أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ونحن معه وما يعرفنا فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام على المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلّا نبأتكم به فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال من أبي يا رسول الله فقال حذافة فقام عمر فقال يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبك نبيّا فاعف عنا عفا الله عنك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فهل أنتم منتهون فهل أنتم منتهون ثم نزل عن المنبر فأنزل الله هذه الآية. وقيل إن المؤمنين سألوا أن يعطوا آية يفرقون بها بين المؤمن والكافر فنزلت هذه الآية وقيل إن قوما من المنافقين ادعوا أن إيمانهم كإيمان المؤمنين فأظهر الله نفاقهم يوم أحد وأنزل هذه الآية واختلفوا في معنى الآية وحكمها فقال ابن عباس وأكثر المفسرين الخطاب للكفار والمنافقين والمعنى ما كان ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه يا معشر الكفار والمنافقين من الكفر والنفاق حتى يميز الخبيث من الطيب وقيل الخطاب للمؤمنين والمعنى ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق والتباس بعضهم ببعض حتى يميز الخبيث من الطيب يعني المنافق من المؤمن الخالص فيميز الله المؤمنين من المنافقين يوم أحد فأظهر المنافقون النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل: إنما حصل التمييز يوم أحد بإلقاء الجميع في الخوف والقتل والهزيمة فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه وتصديقه ولم يتزلزل ومن كان منافقا ظهر نفاقه وكفره وقيل في معنى الآية حتى يميز المؤمن من الكافر بالجهاد والهجرة. وقيل في معنى الآية ما كان الله ليذر المؤمنين في أصلاب الرجال المشركين وأرحام النساء المشركات. والمعنى ما كان الله ليدع أولادكم الذين جرى لهم الحكم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك حتى يميز الخبيث من الطيب يعني يفرق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين فيحكم لأهل الإيمان بالجنة ولأهل الشرك والكفر والنفاق بالنار وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ الخطاب في قوله ليطلعكم لكفار قريش الذين قالوا يا محمد أخبرنا عمن يؤمن بك ومن لا
يؤمن والمعنى وما كان الله ليبين لكم أيها الكفار المؤمن من الكافر فيقول فلان مؤمن وفلان كافر أو منافق لأنه لا يعلم الغيب أحد غيره وإن سنة الله جارية أنه لا يطلع على غيبة أحاد الناس فلا سبيل إلى معرفة المؤمن من الكافر والمنافق إلّا بالامتحان بالآفات والمصائب فيتميز المؤمن المخلص بثباته على إيمانه ويتزلزل المنافق عن المحن والبلايا. وقيل في معنى الآية وما كان الله ليطلع محمدا على الغيب فيخبركم بالمؤمن من الكافر وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ يعني ولكن الله يصطفى ويختار من رسله من يشاء فيطلعه على ما يشاء من غيبه فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني أنه لما قالت الدلائل على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فلم يبق إلّا الإيمان بالله ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنما قال ورسله على الجمع ولم يقل ورسوله على التوحيد لقوله ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ولأنه إذا أقر بجميع الرسل كان مقرا بأحدهم وهذه صفة المؤمنين لأنهم آمنوا بجميع الرسل وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يعني وأن تصدقوا اجتبيته برسالتي وأطلعته على ما أشاء من غيبي وأعلمته بالمنافق منكم والمؤمن المخلص وتتقوا ربكم فيما أمركم به
ونهاكم عنه فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ يعني فلكم بأيمانكم واتقائكم ثواب جزيل وهو الجنة. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): آية ١٨٠]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ يعني ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيرا لهم بَلْ هُوَ يعني البخل شَرٌّ لَهُمْ والبخل هو إمساك المقتنيات عما لا يستحق حبسها عنه والبخيل هو الذي يكثر منه البخل والآية دالة على ذم البخل عن عبد الله بن عمر قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح. أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالفجور ففجروا أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية فقال عبد الله بن مسعود وأبو هريرة وابن عباس في رواية أبي صالح عنه والشعبي ومجاهد نزلت هذه الآية في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم ووجه هذا القول أن أكثر العلماء ذهبوا إلى أن البخل عبارة عن منع الواجب وأن من منع التطوع لا يكون بخيلا ويدل عليه الوعيد الشديد في سياق الآية. وهو قوله تعالى سيطوقون ما بخلوا به وهذا لا يكون إلّا في ترك الواجب لا في التطوع وقال ابن عباس في رواية عطية عنه وابن جريج عن مجاهد أنها نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونبوته وهذا القول هو اختيار الزجاج ووجه هذا القول أن البخل عبارة عن منع الخير والنفع ويدخل فيه العلم كما يقال بخل فلان بعلمه وصحح الطبري القول الأول واختاره وقوله سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق فإن حملنا معنى الآية على منع الزكاة والبخل بها فقد قال ابن مسعود وابن عباس يجعل ما منعه من الزكاة حية تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من فرقه إلى قدمه ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من آتاه الله مالا فلم يود زكاته مثل له يوم القيام شجاع أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم أخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله» الآية أخرجه البخاري قوله زبيبتان قيل هما النكتتان السوداوان فوق عيني الحية وقيل هما نقطتان يكتنفان فاها وقيل هما زبيبتان في شدقيها وقد جاء في الحديث تفسير لهزمتيه بأنهما شدقاه وقيل إنهما مضغتان في أصل الحنك وقيل هما منحني اللحيين أسفل من الأذنين وكله متقارب. (ق) عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة قال:
فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم؟ قال هم الأكثرون أموالا إلّا من
قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقيل ما هم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلّا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفذت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس لفظ مسلم وفرقه البخاري، بمعناه في موضعين. وقيل في معنى الآية أنه يجعل في أعناقهم أطواق من النار وقيل يكلفون يوم القيامة أن يأتوا بما بخلوا به من أموالهم في الدنيا وإن حملنا تفسير البخل على البخل بالعلم وكتمانه فقد قال ابن عباس في قوله سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة أي يحملون وزره وإثمه فيكون على طريق التمثيل كما يقال قلدتك هذا الأمر وجعلته في عنقك وقيل يجعل في رقابهم طوق من نار ويدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سئل علما يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار أخرجه الترمذي وفي رواية أبي داود من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة قيل في معنى الحديث إنهم لما سألوا عن العلم فكتموه ولم ينطقوا به بألسنتهم ولم يخرجوه من أفواههم عوضوا عن ذلك بلجام من نار في أفواههم عقوبة لهم والله أعلم.
قوله تعالى: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنه سبحانه وتعالى الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون وتبقى أملاكهم فيرثها سبحانه والمقصود من الآية أنه يبطل ملك جميع المالكين ويبقى الملك لله تعالى وقيل في معنى الآية وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وعلم وغير ذلك ذلك فما لهؤلاء البخلاء يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قرئ يعملون الياء على الغيبة على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد والمعنى والله بما يعملون يعني البخلاء من منعهم الحقوق خبير فيجازيهم عليه وقرئ بالتاء على خطاب الحاضرين قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٨١ الى ١٨٢]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ قال الحسن وقتادة لما نزلت هذه الآية من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا قالت اليهود إن الله فقير يستقرض منا ونحن أغنياء وذكر الحسن أن القائل هذه المقالة هو حيي بن أخطب وقال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق كتب النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فدخل أبو بكر ذات يوم بيت مدراسهم فوجد ناسا كثيرا قد اجتمعوا على فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له أسبيع فقال أبو بكر لفنحاص: اتق الله وأسلم فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة فآمن وصدق وأقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب. فقال فنحاص: يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض أموالنا وما يستقرض إلّا الفقير من الغني فإن كان ما تقول حقا فإن الله إذا فقير ونحن أغنياء فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فنحاص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال:
يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر ما حملك على ما صنعت فقال يا رسول الله إن هذا عدو الله قال قولا عظيما زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فغضبت لله وضربت وجهه فجحد ذلك فنحاص فأنزل الله تصديقا لأبي بكر وتكذيبا لفنحاص وردا عليهم: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وهذه المقالة وإن كانت قد صدرت من واحد من اليهود لكنهم يرضون بمقالته هذه فنسبت إلى جميعهم ولا يخلوا أن يكونوا قالوا هذه المقالة عن اعتقاد لذلك القول أو قالوها استهزاء وأيهما كان فهذه المقالة عظيمة القبح لا تصدر عن عاقل وإنما صدرت عن كافر متمرد في كفره وضلاله سَنَكْتُبُ ما قالُوا يعني قولهم إن الله فقير ونحن
أغنياء لأن ذلك كذب وافتراء والمعنى سنحفظ عليهم ما قالوا وقيل: سنثبت ذلك القول في صحائف أعمالهم التي تكتبها الحفظة عليهم حتى يوافوا بها يوم القيامة فهو وعيد وتهديد لهم وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ قيل معناه سنكتب ما قال هؤلاء اليهود ونكتب ما فعله أسلافهم فنجازي كلا الفريقين بما هو أهله وإنما نسب قتل الأنبياء إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنما فعله أسلافهم وأوائلهم لأنهم رضوا بفعلهم فنسب إليهم. وقيل في معنى الآية سنكتب على هؤلاء ما قالوا بأنفسهم ونكتب عليهم أيضا رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء والفائدة في ضم قتلهم الأنبياء إلى ما وصفوا الله تعالى بالفقر الإعلام بذلك أنهما أخوان في العظم وإن هذا القول منهم ليس بأول ما ارتكبوه من العظائم وأنهم أصلاء في الكفر والجهل والضلال ولهم في ذلك سوابق، وأن من قتل الأنبياء لا يبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول العظيم الفحش والقبح وَنَقُولُ يعني لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي ننتقم منهم بأن نقول لهم يوم القيامة ذوقوا عذاب الحريق كما أذقتم المسلمين الغصص في الدنيا ذلِكَ أي ذلك العذاب المحرق جزاء فعلكم حيث وصفتم الله بالفقر وأقدمتم على قتل الأنبياء بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ إنما ذكر الأيدي على سبيل المجاز لأن الفاعل هو الإنسان لا اليد إلّا أن اليد لما كانت آلة الفعل حسن إسناد الفعل إليها ولأن أكثر الأعمال يكون باليد فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فيعذب بغير ذنب بل هو سبحانه وتعالى عادل ومن العدل أن يعاقب المسيء ويثبت المحسن. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٨٣ الى ١٨٥]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا قال الكلبي نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن صيفي ووهب بن يهوذا وزيد بن تابوت وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب من اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا يا محمد تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا وأنزل عليك كتابا وإن الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار فإن جئتنا به صدقناك فأنزل الله تعالى الَّذِينَ قالُوا يعني قد سمع الله قول الذين إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا يعني أمرنا وأوصانا في كتبه أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ يعني فيكون ذلك دليلا على صدقه. وذكر الواحدي عن السدي أنه قال إن الله تعالى أمر بني إسرائيل في التوراة من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار. حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان. زاد غير الواحدي عنه قال: وكانت هذه العادة باقية فيهم إلى مبعث المسيح عليه السلام ثم ارتفعت وزالت وقيل إن ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة وهو من كذب اليهود وتحريفهم ويدل على ذلك أن المقصود في الدلالة على صدق النبي هو ظهور المعجزة الخارقة للعادة فأي معجزة أتى بها النبي قبلت منه وكانت دليلا على صدقه. وقد أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه فوجب على كافة الخلق اتباعه وتصديقه والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل من أعمال البر من نسك وصدقة وذبح وكل عمل صالح، ويدل على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم الصوم جنة والصلاة قربان يعني أنها مما يتقرب بها إلى الله عز وجل. وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل وكانوا إذا قربوا قربانا أو غنموا غنيمة جمعوا ذلك وجاءت نار بيضاء من
327
السماء لا دخان لها ولها دوي حفيف فتأكل ذلك القربان أو الغنمية وتحرقه فيكون ذلك دليلا وعلامه على القبول وإذا لم يقبل بقي على حاله ولم تنزل نار. وقال عطاء كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت والسقف مكشوف فيقوم نبيهم عليه السلام في البيت ويناجي ربه عز وجل وبنو إسرائيل خارجون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف ولا دخان لها فتأكل ذلك القربان ثم قال الله عز وجل مجيبا عن هذه الشبهة التي ذكرها هؤلاء اليهود وإقامة للحجة عليهم قُلْ يعني قل يا محمد لهؤلاء اليهود قَدْ جاءَكُمْ يا معشر اليهود رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي يعني مثل زكريا ويحيى وعيسى عليهم السّلام بِالْبَيِّناتِ يعني بالدلات الواضحات الدالة على صدقهم وَبِالَّذِي قُلْتُمْ يعني ما طلبوا من القربان فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ عني فلم قتلتم الأنبياء الذين أوتوا بنا طلبتم منهم مثل زكريا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء وأراد بذلك فعل أسلافهم وإنما خاطب بذلك اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا راضين بفعل أسلافهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني في دعواكم ومعناه تكذيبهم إياك يا محمد مع علمهم بصدقك كقتل آبائهم الأنبياء مع إتيانهم بالقربان ثم قال تعالى مسليا لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فَإِنْ كَذَّبُوكَ يعني هؤلاء اليهود فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ يعني مثل نوح وهود وصالح وإبراهيم وغيرهم من الرسل جاؤُ بِالْبَيِّناتِ يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات وَالزُّبُرِ أي الكتب واحدها زبور وكل كتاب فيه حكمة فهو زبور وأصله من الزبر وهو الزجر وسمي الكتاب الذي فيه الحكمة زبورا لأنه يزبر عن الباطل ويدعو إلى الحق وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي الواضح المضيء وإنما عطف الكتاب المنير على الزبر لشرفه وفضله وقيل أراد بالزبر الصحف وبالكتاب المنير التوراة والإنجيل.
قوله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ يعني أن كل نفس مخلوقة ذائقة الموت ولا بد لها منه. قيل لما نزل قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ يا رسول الله إنما نزلت في بني آدم فأين ذكر الموت للجن والأنعام والوحوش والطير؟ فنزلت هذه الآية وقيل لما خلق الله آدم عليه السلام اشتكت الأرض إلى ربها عز وجل مما أخذ منها فوعدها أن يرد فيها ما أخذ منها فما أحد يموت إلّا ويدفن في التربة التي خلق منها. فإن قلت الحور والولدان نفوس مخلوقة في الجنة لا تذوق الموت فما حكم لفظ كل في قوله كل نفس ذائقة الموت؟ قلت لفظة كل لا تقتضي الشمول والإحاطة بدليل قوله تعالى وأوتيت من كل شيء ولم تؤت ملك سليمان فتكون الآية من العام المخصوص ويحتمل أن يكون المراد بهم المكلفين بدليل سياق الآية وهو قوله تعالى: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يعني توفون جزاء أعمالكم يَوْمَ الْقِيامَةِ إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ يعني فمن نجا وأبعد من النار وأدخل الجنة فقد ظفر بالنجاة ونجا من الخوف وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ يعني أن العيش في هذه الدار الفانية يغر الإنسان بما يمنيه من طول البقاء وسينقطع عن قريب فوصفت بأنها متاع الغرور لأنها تغر ببذل المحبوب. وتخيل للإنسان أنه يدوم وليس بدائم والمتاع كل ما استمتع به الإنسان من مال وغيره وقيل المتاع كالفارس والقدر والقصعة ونحوها والغرور ما يغر الإنسان مما لا يدوم وقيل الغرور الباطل. ومعنى الآية أن منفعة الإنسان بالدنيا كمنفعته بهذه الأشياء التي يستمتع بها ثم تزول عن قريب. وقيل متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم. قال سعيد بن جبير هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة فأما من اشتغل بطلب الآخرة فهي له متاع وبلاغ إلى ما هو خير منها (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال الله عز وجل: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» واقرءوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين.
زاد الترمذي: «وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» واقرءوا إن شئتم: «وظل ممدود ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» واقرءوا إن شئتم: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ. قوله عز وجل:
328

[سورة آل عمران (٣): آية ١٨٦]

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
لَتُبْلَوُنَّ اللام لام القسم تقديره والله لتبلون أي لتختبرن فتوقع عليكم المحن ليعلم المؤمن من غيره والاختبار طلب المعرفة ليعرف الجيد من الرديء وذلك في وصف الله محال لأن الله تعالى عالم بحقائق الأشياء كلها قبل أن يخلقها فعلى هذا يكون معنى الاختبار في وصف الله تعالى أنه يعامل العبد معاملة المختبر فِي أَمْوالِكُمْ يعني بالابتلاء في الأموال بالنقصان منها وقيل بأداء ما فرض فيها من الحقوق وَأَنْفُسِكُمْ يعني بالمصائب والأمراض والقتل وفقد الأقارب والعشائر خوطب بهذه الآية المسلمون ليوطنوا أنفسهم على احتمال الأذى وما سيلقون من الشدائد والمصائب ليصبروا على ذلك حتى إذ لقوها لقوها وهم مستعدون بالصبر لها لا يرهقهم ما يرهق غيرهم ممن تصيبه الشدة بغتة فينكرها ويشمئز منها وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً قال عكرمة نزلت في أبي بكر الصديق وفنحاص بن عازوراء وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث أبا بكر إلى فنحاص سيد بني قينقاع يستمده وكتب إليه معه كتابا وقال لأبي بكر: لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف إلى فنحاص وأعطاه الكتاب فلما قرأه قال فنحاص قد احتاج ربك حتى نمده فهم أبو بكر أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع فنزلت الآية وقال الزهري نزلت هذه الآية في النبي صلّى الله عليه وسلّم وكعب بن الأشرف اليهودي وذلك أنه كان يهجو النبي صلّى الله عليه وسلّم ويسب المسلمين ويحرض المشركين على قتالهم في شعره. (ق) عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله قال محمد بن مسلمة أتحب أن أقتله قال نعم قال ائذن لي فالأقل قال فأتاه فقال له وذكر ما بينهم وقال إن هذا الرجل قد أراد الصدقة وقد عنانا فلما سمعه قال وأيضا والله لتملنه قال إنا قد ابتعناه ونكره الآن أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره قال: وقد أردت أن تسلفني سلفا قال فما ترهنني أترهنني نساءكم؟
قال أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا قال له ترهنون أولادكم قال يسب ابن أحدنا فيقال رهن في وسقين من تمر ولكن نرهنك اللأمة يعني السلاح قال: نعم. وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عيسى بن جبر وعباد بن بشر قال فجاؤا فدعوه ليلا إليهم قالت امرأته إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم قال إنما هو محمد ورضيعي أبو نائلة أن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال فلما نزل نزل وهو متوشح فقالوا: نجد منك ريح الطيب قال: نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب قال فتأذن لي أن أشم منه قال نعم فتناول فشم ثم قال: أتأذن لي أن أعود فاستمكن من رأسه ثم قال دونكم فقتلوه.
زاد في رواية ثم أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه وزاد أصحاب السير والمغازي فاختلف عليهم أسيافهم فلم تغن شيئا قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا إلّا وأوقدت عليه نار قال فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث ونزفه الدم فوقفنا له ساعة حتى أتانا يتبع آثارنا فحملناه وجئنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج علينا فأخبرناه بقتل كعب بن الأشرف وجئنا برأسه إليه وتفل على جرح صاحبنا فرجعنا إلى أهلنا وأصبحنا وقد خافت اليهود وقعتنا بعدو الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ظفرتم به من رجال اليهود فاقتلوه وأنزل الله عز وجل في شأن الأشرف اليهودي لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني اليهود والنصارى وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني مشركي العرب أَذىً كَثِيراً يعني بالأذى قول اليهود إن الله فقير ونحن أغنياء وما أشبه ذلك من افترائهم وكذبهم على الله ورسوله وما كان كعب بن الأشرف يهجو به النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين فهذا هو الأذى الكثير
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وللمسلمين يعني وإن تصبروا على أذاهم وتتقوا فيما أمركم به ونهاكم عنه لأن الصبر عبارة عن احتمال الأذى والمكروه والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي من صواب التدبير الذي لا شك أن الرشد فيه ولا ينبغي لعاقل تركه وأصله من قولك عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمتك أن تفعله لا محالة ولا تتركه وقيل معناه فإن ذلك مما قد عزم عليكم فعله أي ألزمتم الأخذ به. قوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٨٧ الى ١٨٨]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ أي واذكر يا محمد وقت إذ أخذ الله مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى، والمراد منهم العلماء خاصة وقيل المراد بالذين أوتوا الكتاب العلماء والأحبار من اليهود خاصة وأخذ الميثاق هو التوكيد والإلزام لبيان ما أوتوه من الكتاب وهو قوله تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ يعني لتبينن ما في الكتاب ولتظهرنه للناس حتى يعلموه وذلك أن الله أوجب على علماء التوراة والإنجيل أن يشرحوا للناس ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلا تَكْتُمُونَهُ يعني ولا تخفون ذلك عن الناس فَنَبَذُوهُ يعني الكتاب وقيل الميثاق وَراءَ ظُهُورِهِمْ أي فطرحوه وضيعوه وتركوا العمل به وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني المآكل والرشا التي كانوا يأخذونها من عوامهم وسفلتهم فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ ذمهم الله تعالى على فعلهم ذلك. واعلم أن ظاهر هذه الآية وإن كان مخصوصا بعلماء أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فلا يبعد أن يدخل فيه علماء هذه الأمة الإسلامية لأنهم أهل كتاب وهو القرآن وهو أشرف الكتب. قال قتادة: هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة وقال أيضا مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم لا يأكل ولا يشرب وقال أيضا طوبي لعالم ناطق ومستمع واع هذا علم علما فبذله وهذا سمع خيرا فقبله ووعاه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سئل علما يعلمه فكتمه ألجم «بلجام من نار» أخرجه الترمذي. ولأبي داود «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة». وقال أبو هريرة لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية وقال الحسن بن عمارة أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت أريد أن تحدثني، فقال: أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت: إما أن تحدثني وإما أن أحدثك قال: حدثني فقلت: حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال: فحدثني أربعين حديثا.
قوله عز وجل: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ قرئ بالتاء على الخطاب أي لا تحسبن يا محمد الفارحين الذين يفرحون، وقرئ بالياء على الغيبة يعني ولا يحسبن الفارحون والمعنى لا يحسبن الذين يفرحون فرحهم منجيا لهم من العذاب نزلت هذه الآية في المنافقين (ق) عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتذروا إليه وحلفوا له وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الآية وقيل نزلت في اليهود (ق) عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن مروان قال اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل لئن كان كل امرئ مما فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذبن أجمعون. قال ابن عباس: مالكم.
ولهذه الآية إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب ثم تلا ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ
الآية وتلا ابن عباس: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا وقال ابن عباس سألهم رسول صلّى الله عليه وسلّم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا إليه بذلك وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه بِما أَتَوْا يعني يفرحون بما فعلوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا أي ويحبون أن يحمدهم الناس على شيء لم يفعلوه قيل عنى بذلك قوما من أحبار اليهود كانوا يفرحون بإضلالهم الناس ونسبة الناس إياهم إلى العلم قال ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني فنحاص وأسبيع وأشباههما من الأحبار الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا أي بقول الناس لهم علماء وليسوا بأهل علم. وقيل هم اليهود فرحوا باجتماع كلمتهم على تكذيب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وذلك أنهم كتبوا إلى يهود العراق والشام واليمن ومن يبلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها أن محمدا ليس بنبي فاثبتوا على دينكم فاجتمعت كلمتهم على الكفر ففرحوا بذلك، وقالوا: نحن أهل الصوم والصلاة وأحبوا أن يحمدوا على ذلك.
وقيل فرحوا بما أتوا من تبديلهم التوراة وأحبوا أن يحمدهم الناس على ذلك. وقيل أن يهود خبير أتت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا نحن نعرفك ونصدقك وقالوا لأصحابه نحن على رأيكم نحن لكم ردء وليس ذلك في قلوبهم وأحبوا أن يحمدهم النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون على ذلك فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أي فلا تظنهم بمنجاة من العذاب الذي أعده الله لهم في الدنيا من القتل والأسر وضرب الجزية والذلة والصغار وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة وهذه الآية وإن كانت قد نزلت في اليهود أو المنافقين خاصة فإن حكمها عام في كل من أحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والصلاح أو ينسب إلى العلم وليس هو كذلك. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٨٩ الى ١٩٠]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنه تعالى مالك لما فيهما جميعا يتصرف فيه كيف يشاء وفيه تكذيب لمن قال إن الله فقير ونحن أغنياء يقول الله عز وجل: إن من له جميع ما حوته السموات والأرض من شيء كيف يكون فقيرا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه تعالى قادر على تعجيل العقوبة لهم على ذلك القول لكنه تفضل على خلقه بإمهالهم. قوله عز وجل:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ قال ابن عباس إن أهل مكة سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم بآية فنزلت هذه الآية والمعنى تفكروا واعتبروا أيها الناس فيما خلقته وأنشأته من السموات والأرض لمعاشكم وأرزاقكم وفيما عقبت من ذلك بين الليل والنهار، واختلافهما في الطول والقصر، فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم لكي تتصرفوا فيهما لمعاشكم تطلبون أرزاقكم في النهار وتسكنون في الليل لراحة أجسادكم، فاعتبروا وتفكروا يا أولي الألباب يعني يا ذوي العقول الصافية. يعني الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال. والاعتبار لا ينظرون إليهما نظر البهائم غافلين عما فيهما من عجائب مخلوقاته وغرائب مبتدعاته (ق) عن ابن عباس أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين وهي خالته قال: فقلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطرحت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسادة فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهله في طولها فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم استيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر آيات الخواتيم من سورة آل عمران. ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام يصلي. قال عبد الله بن عباس فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده اليمنى إلى رأسي وأخذ بأذني ففتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاء
المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح وفي رواية فقمت عن يساره فأخذني فجعلني عن يمينه وفي رواية قال بت في بيت خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الأخير قعد فنظر إلى السماء فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ذكره. قوله تعالى:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٩١ الى ١٩٢]
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ قال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وقتادة هذا في الصلاة. يعني الذين يصلون قياما فإن عجزوا فقعودا فإن عجزوا فعلى جنوبهم والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في حال من الأحوال بل يصلون في كل حال (خ) عن عمران بن حصين قال كانت بي بواسير فسألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة فقال: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» أخرجه الترمذي. وقال فيه سألته عن صلاة المريض وذكر نحوه قال الشافعي رضي الله عنه إذا صلى المريض مضطجعا وجب عليه أن يصلي على جنب ويومئ برأسه إيماء. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: بل يصلي مستلقيا على ظهره فإن وجد خفة قعد وحجة الشافعي ظاهر الآية وهو قوله تعالى وعلى جنوبهم وقوله صلّى الله عليه وسلّم لعمران بن حصين فإن لم تستطع فعلى جنب فنص على الجنب دون غيره. وقال أكثر المفسرين المراد به المداومة على الذكر في غالب الأحوال لأن الإنسان قل أن يخلو من إحدى هذه الثلاث حالات وهي: القيام والقعود وكونه نائما على جنبه (م) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر الله عز وجل في كل أحيانه وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ومن اضطجع مضطجعا لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة وما مشى أحد ممشى لا يذكر الله فيه إلّا كانت عليه من الله ترة» أخرجه أبو داود والترة النقص وقيل هي هنا التبعة.
وقوله تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أصل الفكر إعمال الخاطر في الشيء وتردد القلب في ذلك الشيء وهو قوة متطرفة للعلم إلى المعلوم والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل. ولا يمكن التفكر إلّا فيما له صورة في القلب ولهذا قيل تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله إذ الله منزه أن يوصف بصورة.
فلذلك أخبر عن عباده الصالحين بأنهم يتفكرون في خلق السموات والأرض وما أبدع الله فيهما من عجائب مصنوعاته وغرائب مبتدعاته ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى ويعلموا أن لهما خالقا قادرا مدبرا حكيما لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها سبحانه وتعالى كما قيل:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
وقيل: إن الفكر مقلوب عن الفرك لأن الفكر مستعمل في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها. وقيل الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النماء وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة رَبَّنا أي ويقولون ربنا وقيل معناه ويتفكرون في خلق السموات والأرض قائلين ربنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا يعني وهزلا بل خلقته دليلا على وحدانيتك وكمال قدرتك سُبْحانَكَ تنزيها لك عن أن تخلق شيئا عبثا لغير حكمة فَقِنا عَذابَ النَّارِ يعني إنا قد صدقنا بوحدانيتك وإن لك جنة ونارا فقنا عذاب النار والمقصود من قوله سبحانك فقنا عذاب النار تعليم عباده كيفية الدعاء ويدل عليه
قوله فقنا عذاب النار رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي أهنته وأذللته وقيل أهلكته وقيل فضحته وأبلغت في إيذائه والخزي ضرب من الاستخفاف أو انكسار يلحق الإنسان وهو الحياء المفرط. فإن قلت قد تمسكت المعتزلة بهذه الآية وقالوا قد أخبرنا الله أنه لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه فوجب أن كل من يدخل النار لا يكون مؤمنا لقوله إنك من تدخل النار فقد أخزيته والمؤمن لا يخزي. قلت قد ذكر العلماء في الجواب وجوها أحدها ما روي عن أنس في تفسير قوله تعالى إنك من تدخل النار فقد أخزيته قال من يخلده وروي نحوه عن سعيد بن المسيب قال هي خاصة لمن لا يخرج منها وهذا الجواب إنما يصح على مذهب أهل السنة الذين يرون إخراج الموحدين من النار أما على مذهب المعتزلة فلا يصح هذا الجواب لأن مذهبهم أن الفاسق مخلد في النار فهو داخل في قوله تعالى فقد أخزيته، الوجه الثاني في الجواب أن المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها ومعنى الآية على هذا فقد أخزيته بدخوله فيها وتعذيبه بها ويدل على صحة هذا المعنى ما روي عن عمرو بن دينار قال قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة فانتهيت إليه أنا وعطاء فسألته عن هذه الآية:
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فقال وما أخزاه حين أحرقه بالنار إن دون ذا لخزيا. وهذا الوجه هو اختيار ابن جرير الطبري لأن من أدخل النار فقد أخزي بدخوله إياها وإن أخرج منها وذلك الخزي هو هتك المخزي وفضيحته. وقال ابن الأنباري حمل الآية على العموم أولى من نقلها إلى الخصوص إذ لا دليل عليه، الوجه الثالث في الجواب ما قاله أهل المعاني وهو أن الخزي يحتمل معاني منها الإهانة والإهلاك والإبعاد. وهذا للكفار ومنها الإخجال يقال خزي خزاية إذا استحى وإذا عمل عملا يستحيي منه ويخجل فيكون خزي المؤمن الذي يدخل النار الحياء من المؤمنين بدخوله النار إلى أن يخرج منها. وخزي الكافر الهلاك بالخلود في النار وحاصل هذا الجواب أن لفظ الإخزاء مشترك بين التخجيل والإهلاك. واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والإثبات على معنييه جميعا وهذا يسقط الاستدلال، الوجه الرابع في الجواب وهو الذي اختاره الفخر الرازي وصححه أن قوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقا وإنما يقتضي أن لا يحصل الإخزاء حال ما يكونون مع النبي وهذا النفي لا يناقضه إثبات الإخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الإثبات في وقت آخر والله أعلم وقوله تعالى وَما لِلظَّالِمِينَ يعني المشركين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها مِنْ أَنْصارٍ يعني ينصرونهم يوم القيامة ويمنعونهم من العذاب. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٩٣ الى ١٩٥]
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ قال ابن عباس وأكثر المفسرين المنادي هو محمد صلّى الله عليه وسلّم ويدل على صحة هذا قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وقوله: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وقال محمد بن كعب القرظي المنادي هو القرآن قال إذ ليس كل أحد لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم ووجه هذا لقول أن كل أحد يسمع القرآن ويفهمه فإذا وفقه الله تعالى للإيمان به فقد فاز به. وذلك لأن القرآن مشتمل على الرشد والهدى وأنواع الدلائل الدالة على الوحدانية فصار كالداعي إليها واللام في للإيمان بمعنى إلى يعني ينادي إلى الإيمان أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أي فصدقنا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي كبائر ذنوبنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا أي صغائر ذنوبنا وقيل أن الغفر هو الستر
333
والتغطية وكذلك التفكير فهما بمعنى واحد وإنما ذكرهما للتأكيد لأن الإلحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب إليه وقيل معناه اغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا في المستقبل وقيل يريد بالغفران ما يزول بالتوبة من الذنوب وبالتكفير ما يكفر بالطاعات من الذنوب وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ يعني في جملتهم وزمرتهم والأبرار هم الأنبياء والصالحون والمعنى توفنا على مثل أعمالهم حتى تكون في درجتهم يوم القيامة وقيل توفنا في جملة أتباعهم وأشياعهم رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ يعني على ألسنة رسلك وقيل معناه وآتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك. فإن قلت كيف سألوا الله إنجاز ما وعد والله لا يخلف الميعاد. قلت معناه أنهم طلبوا من الله تعالى التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد. وقيل هو من باب اللجأ إلى الله تعالى والتذلل له وإظهار الخضوع والعبودية. كما أن الأنبياء عليهم السلام يستغفرون الله مع علمهم أنهم مغفور لهم يقصدون بذلك التذلل لربهم سبحانه وتعالى والتضرع إليه واللجأ إليه الذي هو سيما العبودية. وقيل معناه ربنا واجعلنا ممن يستحق ثوابك وتؤتيهم ما وعدتهم على ألسنة رسلك لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم لتلك الكرامة فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها. وقيل إنما سألوه تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء وقالوا قد علمنا أنك لا تخلف الميعاد ولكن لا صبر لنا على حلمك فعجل هلاكهم وانصرنا عليهم وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنا في ذلك اليوم فإن قلت قوله وآتنا ما وعدتنا على رسلك يدل على طلب الثواب ومتى حصل الثواب اندفع العقاب لا محالة فما معنى قوله ولا تخزنا وهو طلب دفع العقاب عنهم قلت المقصود من الآية طلب التوفيق على الطاعة والعصمة عن فعل المعصية كأنهم قالوا وفقنا للطاعات وإذا وفقنا لها فاعصمنا عن فعل ما يبطلها ويوقعنا في الخزي وهو الهلاك ويحتمل أن يكون قوله ولا تخزنا يوم القيامة سببا لقوله تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فإنه ربما يظن الإنسان أنه على عمل صالح فإذا كان يوم القيامة ظهر أنه على غير ما يظن فيحصل الخجل والحسرة والندامة في موقف القيامة فسألوا الله تعالى أن يزيل ذلك عنهم فقالوا وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ.
قوله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ يعني أجاب دعاءهم وأعطاهم ما سألوه أَنِّي أي وقال لهم أني لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ يعني لا أحبط عملكم أيها المؤمنون بل أثيبكم عليه مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى يعني لا أضيع عمل عامل منكم ذكرا كان أو أنثى عن أم سلمة قالت قلت يا رسول الله ما أسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ- إلى- وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أخرجه الترمذي وغيره.
وقوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يعني في الدين والنصرة والموالاة. وقيل كلكم من آدم وحواء وقيل بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية فهو كما يقال: فلان يعني على خلقي وسيرتي وقيل إن الرجال والنساء في الطاعة على شكل واحد فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي يعني المهاجرين الذين هجروا أوطانهم وأهليهم وأذاهم المشركون بسبب إسلامهم ومتابعتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرجوا مهاجرين إلى الله ورسوله وتركوا أوطانهم وعشائرهم لله ورسوله ومعنى فِي سَبِيلِي في طاعتي وديني وابتغاء مرضاتي وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة فهاجر طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة قبل هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعد هجرته فلما استقر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة رجع إليه من كان هاجر إلى الحبشة من المسلمين وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا يعني وقاتلوا العدو واستشهدوا في جهاد الكفار لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعني لأمحون عنهم ذنوبهم ولأغفرنها لهم وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني ذلك الذي أعطاهم من تكفير سيئاتهم وإدخالهم الجنة ثوابا من فضل الله وإحسانه إليهم وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ وهذا تأكيد لكون ذلك الثواب الذي أعطاهم من فضله وكرمه لأنه جواد كريم روى ابن جرير
334
الطبري بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن أول ثلة تدخل الجنة فقراء المهاجرين الذين يتقى بهم المكاره إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تقض له حتى يموت وهي في صدره. فإن الله عز وجل يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي، ادخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول الرب عز وجل: هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل الملائكة عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. قال بعضهم في هذه الآية تعليم من الله تعالى لعباده كيف يدعى وكيف يبتهل إليه ويتضرع وتكرير ربنا من باب الابتهال وإعلام بما يوجب حسن الإجابة. وقال جعفر الصادق من حزبه أمر فقال خمس مرات: ربنا نجّاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية وقال الحسن حكى الله عنهم أنهم قالوا خمس مرات ربنا ثم أخبر أنه استجاب لهم.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٩٦ الى ١٩٨]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨)
قوله عز وجل: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ نزلت في المشركين وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير ونحن في الجهد فأنزل الله تعالى هذه الآية لا يغرنك الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره من الأمة لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يغتر قط والمعنى لا يغرنك أيها السامع تقلب الذين كفروا في البلاد يعني ضربهم في الأرض وتصرفهم في البلاد للتجارات وطلب الأرباح والمكاسب مَتاعٌ قَلِيلٌ أي ذلك متاع قليل وبلغة فانية ونعمة زائلة ثُمَّ مَأْواهُمْ يعني مصيرهم في الآخرة جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ أي وبئس الفراش هي: قوله تعالى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ فيما أمرهم به من العمل بطاعته واتباع مرضاته واجتناب ما نهاهم عنه من معاصيه لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا أي جزاء وثوابا والنزل ما يهيأ للضيف عند قدومه مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني من فضل الله وكرمه وإحسانه وَما عِنْدَ اللَّهِ يعني من الخير والكرامة والنعيم الدائم الذي لا ينقطع خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ يعني ذلك الفضل والنعمة التي أعدها الله للمطيعين الأبرار خير مما يتقلّب فيه هؤلاء الكفار من نعيم الدنيا ومتاعها فإنه قليل زائل (ق) عن عمر بن الخطاب قال: جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو في مشربة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وعند رجليه قرظ مصبور وعند رأسه أهب معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت فقال: ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هم وأنت رسول الله فقال أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة. لفظ البخاري المشربة الغرفة والعلية والمشارب العلالي. قوله عز وجل:
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٩٩ الى ٢٠٠]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ قال ابن عباس نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة ومعناه بالعربية عطية وذلك إنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم النجاشي. فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي فصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له فقال
335
المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وصدقوه. وقيل نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل نزلت في جميع مؤمني أهل الكتاب وهذا القول أولى لأنه لما ذكر أحوال الكفار وأحوال أهل الكتاب وأن مصيرهم إلى النار ذكر حال من آمن من أهل الكتاب وأن مصيرهم إلى الجنة فقال تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني بعض اليهود والنصارى أهل التوراة والإنجيل لمن يؤمن بالله يعني من يقر بوحدانية الله وما أنزل إليكم يعني ويؤمن بما أنزل إليكم أيها المؤمنون يعني القرآن وما أنزل إليهم يعني من الكتب المنزلة مثل التوراة والإنجيل والزبور خاشِعِينَ لِلَّهِ يعني خاضعين لله متواضعين له غير مستكبرين لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني لا يغيرون كتبهم ولا يحرفونها ولا يكتمون صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأجل الرياسة والمأكل والرشى كما يفعله غيرهم من رؤساء اليهود أُولئِكَ إشارة إلى أن من هذه صفته من أهل الكتاب لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني لهم ثواب أعمالهم التي عملوها لله ذلك الثواب لهم ذخر عند الله يوفيه إليهم يوم القيامة إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يعني إنه تعالى عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده فيجازي كل أحد على قدر عمله لأنه سريع الحساب قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا يعني على دينكم الذي أنتم عليه ولا تدعوه لشدة ولا لغيرها وأصل الصبر حبس النفس عما لا يقتضيه شرع ولا عقل. والصبر لفظ عام تحته أنواع من المعاني قال بعض الحكماء: الصبر على ثلاثة أقسام ترك الشكوى وقبول القضاء وصدق الرضا. وقيل في معنى الآية اصبروا على طاعة الله وقيل على أداء الفرائض وقيل على تلاوة القرآن وقيل اصبروا على أمر الله وقيل اصبروا على البلاء وقيل اصبروا على الجهاد وقيل اصبروا على أحكام الكتاب والسنة وَصابِرُوا يعني الكفار والأعداء وجاهدوهم. وَرابِطُوا يعني وداوموا على جهاد المشركين واثبتوا عليه. وأصل المرابطة أن يربط هؤلاء خيولهم. وهؤلاء خيولهم، بحيث يكون كل من الخصمين مستعدا لقتال الآخر. ثم قيل لكل مقيم بثغر يدفع عمن وراءه مرابط، وإن لم يكن له مركب مربوط (ق) عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما عليها». (م) عن سلمان الخير قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه وأمن الفتان» وقيل المراد بالمرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لم يكن في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فذلكم الرباط فذلكم الرباط» أخرجه مسلم وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قال محمد بن كعب
القرظي يقول الله عز وجل: وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما بيني وبينكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ غدا إذا لقيتموني وقال أهل المعاني في معنى هذه الآية يا أيها الذين آمنوا اصبروا على بلائي وصابروا على نعمائي ورابطوا على مجاهدة أعدائي واتقوا محبة سوائي لعلكم تفلحون بلقائي وقيل اصبروا على النعماء وصابروا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء وقيل اصبروا على الدنيا ومحنها رجاء السلامة وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة ورابطوا على مجاهدة النفس اللوامة واتقوا الندامة لعلكم تفلحون غدا في دار الكرامة والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
336
Icon