تفسير سورة الفتح

الماوردي
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ إِنَّا فَتحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : إنا أعلمناك علماً مبيناً فيما أنزلناه عليك من القرآن وأمرناك به من الدين. وقد يعبر عن العلم بالفتح كقوله ﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ] أي علم الغيب، قاله ابن بحر. وكقوله ﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ ﴾ [ الأنفال : ١٩ ] أي إن أردتم العلم فقد جاءكم العلم.
الثاني : إنا قضينا لك قضاء بيناً فيما فتحناه عليك من البلاد.
وفي المراد بهذا الفتح قولان :
أحدهما : فتح مكة، وعده الله عام الحديبية عند انكفائه منها.
الثاني : هو ما كان من أمره بالحديبية. قال الشعبي : نزلت ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾ [ الفتح : ١ ] في وقت الحديبية أصاب فيها ما لم يصب في غيرها. بويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وظهرت الروم على فارس تصديقاً لخبره، وبلغ الهدي محله، فعلى هذا في الذي أراده بالفتح يوم الحديبية، قال جابر : ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية.
الثاني : أنه بيعة الرضوان. قال البراء بن عازب : انتم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية.
الثالث : أنه نحره وحلقه يوم الحديبية حتى بلغ الهدي محله بالنحر.
والحديبية بئر، وفيها تمضمض رسول الله ﷺ، وقد غارت فجاشت بالرواء.
﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ليغفر لك الله استكمالاً لنعمه عندك.
الثاني : يصبرك على أذى قومك.
وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما تقدم قبل الفتح وما تأخر بعد الفتح.
الثاني : ما تقدم قبل النبوة وما تأخر بعد النبوة.
الثالث : ما وقع وما لم يقع على طريق الوعد بأنه مغفور إذا كان.
ويحتمل رابعاً : ما تقدم قبل نزول هذه الآية وما تأخر بعدها.
﴿ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : بفتح مكة والطائف وخيبر.
الثاني : بخضوع من استكبر. وطاعة من تجبر.
﴿ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه الأسر والغنيمة كما كان يوم بدر.
الثاني : أنه الظفر والإسلام وفتح مكة.
وسبب نزول هذه الآية، ما حكاه الضحاك عن ابن عباس أنه لما نزل قوله :﴿ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ﴾ قال أهل مكة : يا محمد كيف ندخل في دينك وأنت لا تدري ما يفعل بك ولا بمن اتبعك فهلا أخبرك بما يفعل بك وبمن اتبعك كما أخبر عيسى ابن مريم؟ فاشتد ذلك على النبي ﷺ وعلى أصحابه حتى قدم المدينة، فقال عبد الله بن أبي بن سلول - رأس المنافقين - للأنصار : كيف تدخلون في دين رجل لا يدري ما يفعل به ولا بمن اتبعه؟ هذا والله الضلال المبين. فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، يا رسول الله ألا تسأل ربك يخبرك بما يفعل بك وبمن اتبعك؟ فقال : إن له أجلاً فأبشرا بما يقر الله به أعينكما. إلى أن نزلت عليه هذه الآي وهو في دار أبي الدحداح على طعام مع أبي بكر وعمر فخرج وقرأها على أصحابه، قال قائل منهم : هنيئاً مريئاً يا رسول الله قد بين الله لنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله ﴿ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ الآية.
قوله تعالى :﴿ هُوَا الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الصبر على أمر الله.
الثاني : أنها الثقة بوعد الله.
الثالث : أنها الرحمة لعباد الله.
﴿ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : ليزدادوا عملاً مع تصديقهم.
الثاني : ليزدادوا صبراً مع اجتهادهم.
الثالث : ليزدادوا ثقة بالنصر مع إيمانهم بالجزاء.
﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون معناه : ولله ملك السموات والأرض ترغيباً للمؤمنين في خير الدنيا وثواب الآخرة.
الثاني : معناه : ولله جنود السموات والأرض إشعاراً للمؤمنين أن لهم في جهادهم أعواناً على طاعة ربهم.
قوله تعالى :﴿ الظَّآنِّينَ باللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : هو ظنهم أن لله شريكاً.
الثاني : هو ظنهم أنه لن يبعث الله أحداً.
الثالث : هو ظنهم أن يجعلهم الله كرسوله.
الرابع : أن سينصرهم على رسوله.
قال الضحاك : ظنت أسد وغطفان في رسول الله ﷺ حين خرج إلى الحديبية أنه سيقتل أو ينهزم ولا يعود إلى المدينة سالماً، فعاد ظافراً.
﴿ عَلَيْهِمْ دَآئرَهُ السَّوْءِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : عليهم يدور سوء اعتقادهم.
الثاني : عليهم يدور جزاء ما اعتقدوه في نبيهم.
قوله تعالى :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : شاهداًعلى أمتك بالبلاغ، قاله قتادة.
الثاني : شاهداًعلى أمتك بأعمالهم من طاعة أو معصية.
الثالث : مبيناً ما أرسلناك به إليهم.
﴿ وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : مبشراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين.
الثاني : مبشراً بالجنة لمن أطاع ونذيراً بالنار لمن عصى، قاله قتادة، والبشارة والإنذار معاً خير لأن المخبر بالأمر السار مبشر والمحذر من الأمر المكروه منذر. قال النابغة الذبياني :
تناذرها الراقون من سوء سعيها تطلقها طوراً وطوراً تراجع
قوله تعالى :﴿ وَتُعَزِّرُوهُ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تطيعوه، قاله بعض أهل اللغة.
الثاني : تعظموه، قاله الحسن والكلبي.
الثالث : تنصروه وتمنعوا منه، ومنه التعزير في الحدود لأنه مانع، قاله القطامي :
ألا بكرت مي بغير سفاهة تعاتب والمودود ينفعه العزر
وفي ﴿ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ وجهان :
أحدهما : تسودوه، قاله السدي.
الثاني : أن تأويله مختلف بحسب اختلافهم فيمن أشير إليه بهذا الذكر : فمنهم من قال أن المراد بقوله :﴿ وَتُعَزِّرُوهُ وَتَوَقِّرُوهُ ﴾ أي تعزروا الله وتوقروه لأن قوله :﴿ وَتُسَبِّحُوهُ ﴾ راجع إلى الله وكذلك ما تقدمه، فعلى هذا يكون تأويل قوله :﴿ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك.
ومنهم من قال : المراد به رسول الله ﷺ أن يعزروه ويوقروه لأنه قد تقدم ذكرها، فجاز أن يكون بعض الكلام راجعاً إلى الله وبعضه راجعاً إلى رسوله، قاله الضحاك. فعلى هذا يكون تأويل ﴿ تُوَقِّرُوهُ ﴾ أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية.
﴿ وتُسَبِّحُوهُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تسبيحه بالتنزيه له من كل قبيح.
الثاني : هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح.
﴿ بُكْرَةً وَأصِيلاً ﴾ أي غدوة وعشياً. قال الشاعر :
قوله تعالى :﴿ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فاسدين قاله قتادة.
الثاني : هالكين، قاله مجاهد. قال عبد الله بن الزبعرى :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأجلس في أفيائه بالأصائل
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور
الثالث : أشرار، قاله ابن بحر. وقال حسان بن ثابت :
قوله تعالى :﴿ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ما وعد الله نبيّه من النصرة والفتح حين ظنوا ظن السوء بأنه يهلك أو لا يظفر، قاله مجاهد وقتادة.
الثاني : قوله :﴿ لَن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً ﴾ حين سألوه الخروج معه لأجل المغانم بعد امتناعهم منه وظن السوء، قاله ابن زيد.
قوله تعالى :﴿ قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ ﴾ وهؤلاء المخلفون هم أحد أصناف المنافقين، لأن الله تعالى صنف المنافقين من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ثلاثة أصناف، منهم من أعلم أنه لا يؤمن وأوعدهم العذاب في الدنيا مرتين ثم العذاب العظيم في الآخرة وذلك قوله ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعَرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ ﴾ [ التوبة : ١٠١ ] الآية. ومنهم من اعترف بذنبه وتاب، وهم من قال الله فيهم :﴿ وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُبِهِم خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيِّئاً ﴾ [ التوبة : ١٠٢ ] الآية. ومنهم من وقفوا بين الرجاء لهم والخوف عليهم بقوله تعالى :﴿ وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمِرْ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإمَّا يَتَوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٠٦ ] فهؤلاء المخاطبون بقوله :﴿ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾ دون الصنفين المتقدمين لترددهم بين أمرين.
قوله تعالى :﴿ سَتُدْعُوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ... ﴾ الآية. فيهم خمسة أوجه :
أحدها : أنهم أهل فارس، قاله ابن عباس.
الثاني : الروم، قاله الحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
الثالث : هوازن وغطفان بحنين، قاله سعيد بن جبير وقتادة.
الرابع : بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب، قاله الزهري.
الخامس : أنهم قوم لم يأتوا بعد، قاله أبو هريرة.
قوله تعالى :﴿ لَقَدْ رِضِي اللَّهُ عَنِ الْمُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجرَةِ ﴾ كانت سبب هذه البيعة وهي بيعة الرضوان تأخر عثمان رضي الله عنه بمكة حين أنفذه رسول الله ﷺ من الحديبية رسولاً إلى الإسلام فأبطأ وأرجف بقتله، فبايع أصحابه وبايعوه على الصبر والجهاد، وكانوا فيما رواه ابن عباس ألفاً وخمسمائة، وقال جابر : كانوا ألفاً وأربعمائة وقال عبد الله بن أبي أوفى : ألفاً وثلاثمائةً.
وكانت البيعة تحت الشجرة بالحديبية والشجرة سمرة. وسميت بيعة الرضوان، لقوله تعالى :﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾. رضي الله عنR>> ﴿ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من صدق النية، قاله الفراء.
الثاني : من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت، قاله مقاتل.
﴿ فَأَنزَلَ السَّكِينَة عَلَيْهِمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : فتح خيبر لقربها من الحديبية، قاله قتادة.
الثاني : فتح مكة.
قوله تعالى :﴿ وََعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : هي مغانم خيبر، قاله ابن زيد.
الثاني : هو كل مغنم غنمه المسلمون، قاله مجاهد.
﴿ فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : مغانم خيبر، قاله مجاهد.
الثاني : صلح الحديبية، قاله ابن عباس.
﴿ وَكَفَّ أيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : اليهود كف أيديهم عن المدينة عند خروجهم إلى الحديبية.
الثاني : قريش كف أيديهم عن المدينة عند خروجهم إلى الحديبية.
الثالث : أسد وغطفان الحليفان عليهم عيينة بن حصن ومالك بن عوف جاءوا لينصروا أهل خيبر، فألقى الله في قلوبهم الرعب فانهزموا.
﴿ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤمِنِينَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ليكون كف أيديهم عنكم آية للمؤمنين.
الثاني : ليكون فتح خيبر آية أي علامة لصدق الله تعالى في وعده وصدق رسوله في خبره. قيل لتكون البيعة آية لهم.
قوله تعالى :﴿ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أحَاطَ اللَّهُ بِهَا ﴾ فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : هي أرض فارس والروم وجميع ما فتحه المسلمون، قاله ابن عباس.
الثاني : هي مكة، قاله قتادة.
الثالث : هي أرض خيبر، قاله الضحاك.
في قوله :﴿ قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ﴾ وجهان :
أحدهما : قدر الله عليها، قاله ابن بحر.
الثاني : حفظها عليكم ليكون فتحها لكم.
قوله تعالى :﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾ يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر رسله وأوليائه على أعدائه.
وفي قوله :﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾ وجهان :
أحدهما : ولن تتغير سنة الله وعادته في نصرك على أعدائك وأعدائه.
الثاني : لن تجد لعادة الله في نصر رسله مانعاً من الظفر بأعدائه وهو محتمل.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كف أيديهم عنكم بالرعب وأيديكم عنهم بالنهي.
الثاني : كف أيديهم عنكم بالخذلان، وأيديكم عنهم بالاستبقاء لعلمه بحال من يسلم منهم.
الثالث : كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم بالصلح عام الحديبية.
﴿ بِبَطْنِ مَكَّةَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يريد به مكة.
الثاني : يريد به الحديبية لأن بعضها مضاف إلى الحرام.
وفي قوله :﴿ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيهِمْ ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : أظفركم عليهم بفتح مكة وتكون هذه نزلت بعد فتح مكة، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحاً لقوله ﴿ كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنهُم ﴾.
الثاني : أظفركم عليهم بقضاء العمرة التي صدوكم عنها.
الثالث : أظفركم عليهم بما روي ثابت عن أنس أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله ﷺ وعلى أصحابه من قبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوا من ظفروا به، فأخذهم رسول الله ﷺ فأعتقهم، فأنزل الله هذه الآية، فكان هذا هو الظفر.
قوله تعالى :﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ يعني قريشاً.
﴿ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ يعني منعوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله علي وسلم مع أصحابه بعمرة.
﴿ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : محبوساً.
الثاني : واقفاً.
الثالث : مجموعاً، قاله أبو عمرو بن العلاء.
﴿ أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : منحره، قاله الفراء.
الثاني : الحرم، قال الشافعي، والمحِل بكسر الحاء هو غاية الشيء، وبالفتح هو الموضع الذي يحله الناس، وكان الهدي سبعين بدنة.
﴿ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمْوهُمْ ﴾ أي لم تعلموا إيمانهم.
﴿ أَن تَطَئُوهُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن تطئوهم بخيلكم وأرجلكم فتقتلوهم، قاله ابن عباس.
الثاني : لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم يعلموهم أن يطئوا آباءهم فيهلك أبناؤهم، قاله الضحاك.
﴿ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ ﴾ فيها ستة أقاويل :
أحدها : الإثم، قاله ابن زيد.
الثاني : غرم الدية، قاله ابن إسحاق.
الثالث : كفارة قتل الخطأ، قاله الكلبي.
الرابع : الشدة، قاله قطرب.
الخامس : العيب.
السادس : الغم.
قوله تعالى :﴿ لَوْ تَزَيَّلُواْ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لو تميزوا، قاله ابن قتيبة.
الثاني : لو تفرقوا، قاله الكلبي.
الثالث : لو أزيلوا، قاله الضحاك حتى لا يختلط بمشركي مكة مسلم.
﴿ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً ألِيماً ﴾ وهو القتل بالسيف لكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار.
قوله تعالى :﴿ إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ يعني قريشاً. وفي حمية الجاهلية قولان :
أحدهما : العصبية لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، والأنفة من أن يعبدوا غيرها، قاله ابن بحر.
الثاني : أنفتهم من الإقرار له بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم على عادته في الفاتحة، ومنعهم له من دخول مكة، قال الزهري.
ويحتمل ثالثاً : هو الاقتداء بآبائهم، وألا يخالفوا لهم عادة، ولا يلتزموا لغيرهم طاعة كما أخبر الله عنهم ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا أَبَاءنا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٢٣ ].
﴿ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤمِنِينَ ﴾ يعني الصبر الذي صبروا والإجابة إلى ما سألوا، والصلح الذي عقدوه حتى عاد إليهم في مثل ذلك الشهر من السنة الثانية قاضياً لعمرته ظافراً بطلبته.
﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ فيها أربعة أوجه :
أحدها : قول لا إله إلا الله، قاله ابن عباس، وهو يروي عن النبي ﷺ.
الثاني : الإخلاص، قاله مجاهد.
الثالث : قول بسم الله الرحمن الرحيم، قاله الزهري.
الرابع : قولهم سمعنا وأطعنا بعد خوضهم. وسميت كلمة التقوى لأنهم يتقون بها غضب الله.
﴿ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : وكانوا أحق بكلمة التقوى أن يقولوها.
الثاني : وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها.
وفي من كان أحق بكلمة التقوى قولان :
أحدهما : أهل مكة كانوا أحق بكلمة التقوى أن يقولوها لتقدم إنذارهم لولا ما سلبوه من التوفيق.
الثاني : أهل المدينة أحق بكلمة التقوى حين قالوها، لتقدم إيمانهم حين صحبهم التوفيق.
قوله تعالى :﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ ءَامِنينَ مُحَلِّقينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ﴾ قال قتادة : كان رسول الله ﷺ، رأى في المنام، أنه يدخل مكة على هذه الصفة، فلما صالح قريشاً بالحديبية، ارتاب المنافقون، حتى قال ﷺ :« فَمَا رَأَيْتُ فِي هذَا العَامِ »
ثم قال :﴿ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم، قاله الكلبي.
الثاني : علم أن بمكة رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم؛ الآية.
ثُمَّ قَالَ :﴿ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه الصلح الذي جرى بين رسول الله ﷺ وقريش بالحديبية، قاله مجاهد.
الثاني : فتح مكة، قاله ابن زيد والضحاك.
وفي قوله :﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خارج مخرج الشرط والاستثناء.
الثاني : أنه ليس بشرط وإنما خرج مخرج الحكاية على عادة أهل الدين، ومعناه لتدخلونه بمشيئة الله.
الثالث : إن شاء الله في دخول جميعكم أو بعضكم، ولأنه علم أن بعضهم يموت.
قوله تعالى :﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ فيه ستة تأويلات :
أحدها : أنه ثرى الأرض وندى الطهور، قاله سعيد بن جبير.
الثاني : أنها صلاتهم تبدوا في وجوههم، قاله ابن عباس.
الثالث : أنه السمت، قاله الحسن.
الرابع : الخشوع، قاله مجاهد.
الخامس : هو أن يسهر الليل فيصبح مصفراً، قاله الضحاك.
السادس : هو نور يظهر على وجوههم يوم القيامة، قاله عطية العوفي.
﴿ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطَأَهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن مثلهم في التوراة بأن سيماهم في وجوههم. ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه.
الثاني : أن كلا الأمرين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل.
وقوله :﴿ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الشطأ شوك السنبل، والعرب أيضاً تسميه السفا والبهمي، قاله قطرب.
الثاني : أنه السنبل، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان، قاله الكلبي والفراء.
الثالث : أنه فراخه التي تخرج من جوانبه، ومنه شاطىء النهر جانبه، قاله الأخفش.
﴿ فَآزَرَهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : فساواه فصار مثل الأم، قاله السدي.
الثاني : فعاونه فشد فراخ الزرع أصول النبت وقواها.
﴿ فَاسْتَغْلَظَ ﴾ يعني اجتماع الفراخ مع الأصول.
﴿ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ ﴾ أي على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقاً له.
﴿ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾ يعني النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم، لأن ما أعجب المؤمنين من قوتهم كإعجاب الزراع بقوة رزعهم هو الذي غاظ الكفار منهم.
ووجه ضرب المثل بهذا الزرع الذي أخرج شطأه، هو أن النبي ﷺ حين بدأ بالدعاء إلى دينه كان ضعيفاً، فأجابه الواحد بعد الواحد حتى كثر جمعه وقوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً فيقوى حالا بعد حال يغلظ ساقه وأفراخه فكان هذا من أصح مثل وأوضح بيان، والله أعلم.
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد يهدي الإله سبيل المعشر البور