تفسير سورة الطور

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الطور من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

الهلاك، وبالصبر في تبليغ رسالته وبالتسبيح والتحميد ليل نهار، والإخبار بأن الله حارسه وعاصمه وحافظه، وبأن للظالمين عذابين: في الدنيا والآخرة.
فضلها:
أخرج البخاري وغيره عن أم سلمة: «أنها سمعت رسول الله ﷺ يصلي إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور».
وعن جبير بن مطعم: «أتيت رسول الله ﷺ أكلّمه في الأسارى، فألفيته في صلاة الفجر، يقرأ سورة والطور، فلما بلغ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ أسلمت خوفا من أن ينزل العذاب». فلما انتهى إلى هذه الآية:
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، بَلْ لا يُوقِنُونَ كاد قلبي أن يطير.
وقوع القيامة وإثبات العذاب في اليوم الموعود
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١ الى ١٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤)
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)
54
الاعراب:
وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ الواو الأولى واو القسم، والثانية واو العطف، وجواب القسم:
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ.
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً العامل في الظرف هو لَواقِعٌ أي يقع في ذلك اليوم، ولا يجوز أن يعمل فيه. دافِعٍ لأن المنفي لا يعمل فيما قبل النافي.
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ويل: مبتدأ مرفوع، وخبره لِلْمُكَذِّبِينَ. وجاز الابتداء بكلمة فَوَيْلٌ النكرة، لأن في الكلام معنى الدعاء، كقولهم: سلام عليكم. والفاء في فَوَيْلٌ جواب الجملة المتقدمة، لأن الكلام متضمن معنى الشرط، أي إذا كان الأمر كذلك فويل.. يَوْمَ يُدَعُّونَ.. يَوْمَ بدل من قوله: يَوْمَئِذٍ.
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ هذا في موضع رفع مبتدأ، وسحر: خبر مقدم وتقديم الخبر لأنه مقصود بالإنكار والتوبيخ. وأم هنا: منقطعة لا متصلة، لمجيء جملة اسمية تامة بعدها، فلو لم يكن بعدها جملة تامة لكانت متصلة. والمتصلة بمعنى (أي) والمنقطعة بمعنى (بل والهمزة) وتقديره: أفسحر هذا، بل أنتم لا تبصرون. وسَواءٌ عَلَيْكُمْ مبتدأ، خبره محذوف، أي سواء عليكم الجزع والصبر.
البلاغة:
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً جناس اشتقاق، وكذا قوله: وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً. أَفَسِحْرٌ هذا؟ الاستفهام للتوبيخ والتقريع. اصْلَوْها، فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا اصْلَوْها للإهانة والتوبيخ. وبين قوله: فَاصْبِرُوا وقوله: أَوْ لا تَصْبِرُوا طباق السلب. وَالطُّورِ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ.. الآيات فيها سجع لطيف، وكذا في قوله إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ.
المفردات اللغوية:
وَالطُّورِ هو الجبل المشجر الذي كلم الله عليه موسى، وأرسل منه عيسى، وغير المشجر لا يقال له: طور، وإنما يسمى جبلا. وموقع الطور في صحراء سيناء ببلاد مدين، وهو طور سينين. والطور بالسريانية: الجبل. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ أي مكتوب، تم فيه ترتيب الحروف المكتوبة على وجه منتظم، والسطر: ترتيب الحروف المكتوبة، والمراد به: ما كتبه الله في اللوح المحفوظ من الكتب السماوية، كالتوراة وألواح موسى والزبور والإنجيل والقرآن.
رَقٍّ مَنْشُورٍ الرّق: جلد رقيق يكتب فيه، وقد أستعير هنا لما كتب فيه الكتاب،
55
والمنشور: المبسوط المفتوح، وتنكيرهما للتعظيم والإشعار بأنهما ليسا من المتعارف فيما بين الناس.
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الكعبة المعمورة بالحجاج والزوار والمجاورين. وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ هو السماء. وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ البحر المملوء ماء، وهو المحيط، أو الموقد المحمى المملوء نارا، من قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير ٨١/ ٦] من سجّر النار: أوقدها، روي أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار نارا تسجر بها جهنم.
لَواقِعٌ لنازل بالمستحقين. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ يدفعه أو يمنعه عن المستحقين. والمراد بهذه الأمور المقسم بها على وقوع عذاب الله يوم القيامة أنها تدل على كمال قدرة الله وحكمته، وصدق أخباره، وضبط أعمال العباد للمجازاة.
تَمُورُ تتحرك وتضطرب وتدور وترتجّ في مكانها. وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي تسير عن وجه الأرض، فتصير هباء منثورا، وذلك في يوم القيامة الذي يقع فيه العذاب. فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي إذا وقع ذلك فويل لهم، أي شدة عذاب. فِي خَوْضٍ باطل.
يَلْعَبُونَ يتشاغلون بكفرهم.
يُدَعُّونَ يدفعون دفعا شديدا بعنف. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي فيقال لهم ذلك. أَفَسِحْرٌ هذا؟ أي أسحر هذا العذاب الذي ترون، كما كنتم تقولون في الوحي: هذا سحر. أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ بل أنتم لا تبصرون هذا أيضا، كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ما يدل عليه، وهو تقريع وتهكم. اصْلَوْها ادخلوها وقاسوا شدائدها. فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ادخلوها على أي وجه شئتم من الصبر وعدمه وهو الجزع، فإنه لا محيص لكم عنها. سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الأمران: الصبر والجزع سواء، لأن صبركم لا ينفعكم. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعليل للاستواء، لأنه لما كان الجزاء واجب الوقوع، كان الصبر وعدمه سببين في عدم النفع.
التفسير والبيان:
يقسم الله تعالى بمخلوقاته الدالة على كمال قدرته في إيقاع العذاب بأعدائه دون أن يكون هناك دافع له عنهم، فيقول:
وَالطُّورِ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ أقسم الله سبحانه بجبل طور سيناء الذي فيه أشجار، تشريفا له وتكريما، لما حدث فيه من حادث عظيم وهو تكليم الله موسى فيه، وأنزل عليه التوراة التي كتبت بحروف منتظمة، في جلد رقيق مبسوط. وكانت الجواد أكثر ما يكتب فيها قبل اختراع الورق.
56
فقوله: وَكِتابٍ مَسْطُورٍ يشمل الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهارا، كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن. وقيل: هو اللوح المحفوظ.
وقرن الكتاب بالطور، لإنزاله على موسى وهو فيه، وقوله: مَنْشُورٍ إشارة إلى الوضوح.
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي والكعبة المشرفة التي تعمر بالحجاج والزوار والمجاورين الذين يقصدونها للعبادة والدعاء والتبرك بها. والسماء العالية التي هي كالسقف للأرض وما حوتها من شموس وأقمار وكواكب ثابتة وسيّارة وعوالم لا يحصيها إلا الله تعالى.
والبحر المملوء ماء، المحبوس عن الأرض اليابسة، والموقد نارا كالتنّور المحمى الذي يتفجر بالنار الملتهبة يوم القيامة، كما قال تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير ٨١/ ٦] روي: أن البحار تسجر يوم القيامة، فتكون نارا.
ومن المعروف أن النفط يستخرج من قاع البحار كالأرض اليابسة، وتتصاعد منه بين الحين والآخر الزلازل والبراكين.
وقرن السقف المرفوع بالبيت المعمور ليعلم شأن الكعبة، وأماكن شعائر الإسلام، وعظمة قدر النبي محمد ﷺ الذي ناجى ربه فيه قائلا: «سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك». كما أن يونس عليه السلام كلّم ربه في البحر قائلا: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء ٢١/ ٨٧].
وتنكير الكتاب وتعريف باقي الأشياء لتعظيمه وشهرة معرفته، حتى إنه ما احتاج إلى تعريف، أما بقية الأشياء فاحتاجت إلى التعريف.
ثم ذكر الله تعالى جواب القسم قائلا:
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ هذا هو المقسم عليه أو جواب القسم، أي أقسم بتلك المخلوقات العظيمة على أن عذاب الآخرة لواقع كائن لا محالة
57
لمن يستحقه من الكافرين والعصاة الذين كذبوا الرسل، ليس له دافع يدفعه ويردّه عن أهل النار. وقوله: لَواقِعٌ فيه إشارة إلى الشدة. وقوله:
عَذابَ رَبِّكَ ليأمن النبي وكل مؤمن حين يسمع لفظ الرب، فإن اسم الله منبئ عن العظمة والهيبة، واسم الرب ينبئ عن اللطف.
ثم بيّن الله تعالى ما يصاحب وقوع العذاب يوم القيامة، فقال:
يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي إن العذاب لواقع يوم تضطرب السماء اضطرابا ويموج بعضها في بعض موجا، وتتحرك في مكانها، وتزول الجبال من مواضعها كسير السحاب، وتصير هباء منبثا، وتنسف نسفا.
والحكمة في مور السماء وسير الجبال: الاعلام بألا عودة إلى الدنيا، لخرابها وعمارة الآخرة، لأن الأرض والجبال والسماء والنجوم كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم بها، فإن لم يؤمل العود إليها، لم يبق فيها نفع.
ثم ذكر الله تعالى من يقع عليه العذاب وينزل عليه يوم القيامة، فقال:
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أي ويل- وهي كلمة تقال للهالك- لأولئك الذين كذبوا الرسل، ذلك اليوم، من عذاب الله ونكاله بهم وعقابه لهم، فمن لا يكذّب لا يعذّب بنحو دائم، والمكذبون الذين كانوا في الدنيا في تردد وخوض في الباطل، واندفاع فيه، لا يذكرون حسابا، ولا يخافون عقابا، ويتخذون دينهم هزوا ولعبا، ويخوضون في أمر محمد ﷺ بالتكذيب والاستهزاء. والفاء في قوله: فَوَيْلٌ لاتصال المعنى وهو الاعلام بأمان أهل الإيمان. أما أهل الكبائر فلا يستمر تعذيبهم ولا يخلّدون في النار، لأنهم لا يكذّبون الرسل.
وأسلوب إلقاء المكذبين في النار هو ما ذكره تعالى بقوله:
58
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا أي يوم يدفعون ويساقون إلى نار جهنم دفعا عنيفا شديدا.
ويقال لهم تقريعا وتوبيخا:
١- هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي تقول الزبانية لهم تقريعا وتوبيخا: هذه النار التي تشاهدونها هي النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا.
والتكذيب بها تكذيب للرسول الذي أخبر بها من طريق الوحي.
٢- أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟ أي أهذا الذي ترون وتشاهدون سحر كما كنتم تقولون لرسل الله المرسلة ولكتبه المنزلة؟ بل إنه لحق ولكنكم أنتم عمي عن هذا، كما كنتم عميا عن الحق في الدنيا، أي لا شك في المرئي، ولا عمى في البصر، فالذي ترونه حق.
٣- اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا، سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إذا لم يمكنكم إنكار ما ترون من نار جهنم، وتحققتم أن ذلك ليس بسحر، ولم يكن في أبصاركم خلل، فالآن ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته، وقاسوا حرها وشدتها، ثم يستوي الأمران: الصبر على العذاب وعدم الصبر وهو الجزع، فلا ينفعكم شيء، وافعلوا ما شئتم، فالأمران سواء في عدم النفع، وإنما الجزاء بالعمل خيرا أو شرا، وبما أن العذاب واقع حتما، كان الصبر وعدمه سواء، فسواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا، لا محيد لكم عنها، ولا خلاص لكم منها، ولا يظلم الله أحدا، بل يجازي كلا بعمله.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- أقسم الله تعالى بأشياء خمسة: هي الطور والكتب المنزلة، والبيت
59
المعمور، والسقف المرفوع والبحر المسجور، تشريفا لها وتكريما. والحكمة في اختيار الأماكن الثلاثة: وهي الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور هي كونها أماكن ثلاثة أنبياء، انفردوا فيها للخلوة بربهم، والخلاص من الخلق، ومناجاة الله وخطابه. أما الطور فانتقل إليه موسى عليه السلام، وخاطب ربه، فقال: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ، وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ [الأعراف ٧/ ١٥٥] وقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف ٧/ ١٤٣].
وناجى محمد ﷺ ربه في البيت المعمور (الكعبة) فقال- كما تقدم-:
«السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».
ودعا يونس عليه السلام ربه في أعماق البحر، فقال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء ٢١/ ٨٧].
فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب، فحلف الله تعالى بها، ثم قرن بها الكتاب، لأن الله تعالى كلّم موسى عليه السلام في الطور، وأنزل عليه التوراة «١»، وبقية الكتب مثل التوراة للهداية والنور.
٢- كان المقسم عليه هو وقوع عذاب اليوم الموعود لا محالة، بلا أدنى شك، واستحالة قدرة أحد أن يدفعه عن المعذّبين المكذبين بالرسل.
٣- يقع العذاب بالمكذبين يوم القيامة، وهو اليوم الذي تمور فيه السماء، أي ترتج بما فيها وتضطرب في مكانها، وتسير الجبال عن أماكنها حتى تستوي بالأرض، إعلاما بألا عودة إلى الدنيا.
(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ٢٣٩- ٢٤٠
60
٤- الويل: كلمة عذاب أو واد في جهنم، وتقال للهالك، والويل لكل من كذب الرسل الذين هم في تردد في الباطل، وهو خوضهم في أمر محمد بالتكذيب.
٥- يدفع أهل النار إليها يوم القيامة دفعا عنيفا شديدا، قال المفسرون:
إن خزنة النار يغلّون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم، وزجّا في أقفيتهم.
٦- وإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة للتوبيخ والتقريع والتهكم:
أ- هذه النار التي كذبتم بها في الدنيا.
ب- أفسحر هذا الذي ترون الآن بأعينكم، كما كنتم تقولون عن الوحي: إنه سحر؟ بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون؟
ج- ذوقوا حر جهنم بالدخول فيها، وسواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن، فلا ينفعكم شيء، وإنما الجزاء بالعمل. وقد أخبر الله عنهم أنهم يقولون:
سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا، ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم ١٤/ ٢١].
جزاء المتقين ونعم الله عليهم يوم القيامة
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١٧ الى ٢٨]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١)
وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨)
61
الاعراب:
فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ ما: مصدرية. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً هَنِيئاً منصوب على الحال من ضمير كُلُوا أو ضمير اشْرَبُوا. وقوله: بِما كُنْتُمْ.. الباء: سببية، أي بعملكم.
مُتَّكِئِينَ حال من الضمير المستكن في قوله: جَنَّاتٍ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا.. أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الَّذِينَ في محل رفع مبتدأ، وخبره: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.
كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ في موضع نصب على الحال.
إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ إِنَّهُ بالكسر: على الابتداء، وبالفتح: على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لأنه.
البلاغة:
كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ تشبيه مرسل، مجمل، حذف منه وجه الشبه، فصار مجملا.
المفردات اللغوية:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ أي إن العاملين بالأوامر الإلهية، المبتعدين عن المحظورات الشرعية هم في بساتين خضراء نضرة تجري العيون والينابيع والأنهار من تحتهم، ويغمرهم نعم كثيرة من الله تعالى. فاكِهِينَ متلذذين مستمتعين مسرورين وقرئ «فكهين» أي طيبة نفوسهم.
آتاهُمْ أعطاهم. وَوَقاهُمْ حفظهم وحماهم، وهو معطوف على آتاهُمْ أي بإتيانهم ووقايتهم.
62
كُلُوا وَاشْرَبُوا.. أي ويقال لهم ذلك. هَنِيئاً أي أكلا وشربا هنيئا، أو طعاما وشرابا هنيئا: وهو ما لا تنغيص فيه ولا نكد، أو ما لا مشقة فيه ولا يؤدي إلى سقم أو عناء وتخمة.
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بسبب عملكم. سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ أي متصلة ببعضها حتى تصير صفا واحدا. وَزَوَّجْناهُمْ قرناهم، معطوف على جَنَّاتٍ. بِحُورٍ عِينٍ حور: جمع حوراء:
وهي المرأة البيضاء، والعين: جمع عيناء، وهي المرأة العظيمة الواسعة العين، أي نساء بيض عظام الأعين حسانهن، وحور العين: اسوداد المقلة.
وَالَّذِينَ آمَنُوا معطوف على بِحُورٍ أي قرناهم بأزواج ورفقاء مؤمنين كقوله تعالى:
إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الحجر ١٥/ ٤٧]، ويصح جعله مبتدأ، وخبره: أَلْحَقْنا بِهِمْ.
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ اعتراض للتعليل، والذرية: لفظ يقع على الواحد والكثير، وقرئ:
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان، والذرية: تشمل الصغار والكبار، وقوله: بِإِيمانٍ حال من ضمير: واتبعتهم، وتنكيره للتعظيم، أو الإشعار بأنه يكفي للإلحاق:
المتابعة في أصل الإيمان. أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ في دخول الجنة، أو الدرجة، وإن لم يعملوا بعملهم، تكرمة للآباء باجتماع الأولاد إليهم، ولما
روي مرفوعا: أنه ﷺ قال فيما يرويه ابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس: «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه لتقرّ بهم عينه» ثم تلا هذه الآية.
وَما أَلَتْناهُمْ وما نقصناهم بهذا الإلحاق. مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي فيزاد في عمل الأولاد بالتفضل عليهم، وهو اللائق بكمال لطف الله. بِما كَسَبَ من خير أو شر. رَهِينٌ مرهون بعمله عند الله، فيؤاخذ بالشر، ويجازى بالخير، والعمل الصالح يكفّه، والعمل الصالح يهلكه.
وَأَمْدَدْناهُمْ زدناهم وقتا بعد وقت. مِمَّا يَشْتَهُونَ من أنواع النعم، وإن لم يصرحوا بطلبه.
يَتَنازَعُونَ فِيها يتجاذبون في الجنة ملاعبة وسرورا، أو يتعاطون بينهم. كَأْساً خمرا، فهي إناء الخمر ما دام مملوءا فإن كان فارغا لم يسم كأسا، وسماها باسم محلها، ولذلك أنت الضمير في قوله: لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ أي لا يتكلمون بسبب شربها بلغو الحديث (وهو ما لا خير فيه)، ولا يفعلون ما يأثم به فاعله من فحش الكلام وغيره مما يغضب الله، كما هو عادة الشاربين في الدنيا، وذلك مثل قوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ [الصافات ٣٧/ ٤٧].
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ للخدمة بالكأس وغيرها. غِلْمانٌ لَهُمْ مماليك مخصوصون بهم.
كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أي كأن الغلمان حسنا ولطافة لؤلؤ مصون في الصدف، لأن فيها أحسن منها في غيرها، وذلك من صفائهم وبياضهم،
قال ﷺ فيما رواه ابن جرير وعبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة: «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».
63
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله، استمتاعا وتلذذا واعترافا بالنعمة. قالُوا: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ أي كنا في الدنيا خائفين من عذاب الله، وهذا القول إيماء إلى علة الوصول إلى الجنة. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالمغفرة والرحمة.
وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ حمانا من عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم، وقرئ:
وَوَقانا بالتشديد.
وقالوا أيضا إيماء إلى علة الوصول إلى الجنة: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ في الدنيا. نَدْعُوهُ نعبده موحدين، أو نسأله الوقاية. إِنَّهُ بالكسر: استئناف، وإن كان تعليلا معنى، وقرئ بالفتح: أنه تعليلا لفظا. الْبَرُّ المحسن، الصادق في وعده. الرَّحِيمُ الكثير الرحمة.
المناسبة:
بعد بيان وقوع البعث والعذاب بالكافرين حتما وما يلاقونه من الشدائد والإهانات، ذكر الله تعالى حال المؤمن وجزاءه المتميز، أي أنه ذكر ما يتلقاه المؤمن في الآخرة بعد بيان حال الكافر، ثم ذكر الثواب عقب العقاب، جريا على الموازنة وعادة القرآن في إيراد الأضداد، والجمع بين الترغيب بالترهيب، حتى يتأمل الإنسان في المصير، فيرغب في الرحمة، ويرهب النقمة والعقاب.
ومما يزيد في الترغيب: أنه تعالى لم يقصر النعمة على المستحق، وإنما أفاضها أيضا على الذرية والأولاد، فلم يكتف بتعداد صنوف اللذات النفسية في الملبس والمسكن والمأكل والمشرب والزواج، وإنما زاد في الفضل والإكرام، فألحق بالأصول الذرية المؤمنة في المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الجنان.
وأبعد اليأس والملل والوحشة عن أهل الجنة، وأحل محلها المتعة المتجددة والأنس، بتجاذب الكؤوس فرحا ولعبا، والتنذر بأطيب الأحاديث، والتحدث بأحوال الدنيا ومقارنتها بأحوال الآخرة، ونحو ذلك.
التفسير والبيان:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ، فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ إن الذين اتقوا ربهم في الدنيا باتباع أوامره واجتناب نواهيه يكونون
64
في بساتين نضرة، ويتنعمون فيها بنعيم دائم، بضد ما أولئك الكفار فيه من العذاب والنكال، وهم يتفكهون بفواكه الجنة تفكها فيه غاية الطيبة واللذة والسرور، بما أعطاهم الله من النعيم، من أصناف الملاذ في المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والفرش والأزواج وغير ذلك، وحماهم الله من عذاب النار، ونجاهم من لظى السعير، وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها، مع دخول الجنة التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقوله: فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ يفيد أنهم يتنعمون في الجنان تنعما فعليا، لا كمجرد الناطور الذي يحرس البستان. وقوله: فاكِهِينَ للدلالة على أن التنعم في النفس والقلب أيضا، فقد يكون التنعم ظاهريا، والقلب مشغول، كحال كثير من أغنياء الدنيا.
وتقول لهم ملائكة الرضوان في الجنة:
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي تهنئهم الملائكة وتقول لهم:
كلوا من طيبات الرزق، واشربوا مما لذ وصفا وطاب، لا تجدون في الأكل والشرب تنغيصا ولا نكدا ولا كدرا، وهذا معنى الهنيء، وذلك بسبب ما قدمتم من أعمال صالحة في الدنيا، فهذا بذاك تفضلا وإحسانا.
ونظير الآية: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة ٦٩/ ٢٤]. قيل للربيع بن خيثم، وقد صلى طوال الليل: أتعبت نفسك، فقال: راحتها طلبت.
ثم ذكر الله تعالى تمتعهم بالفرش والبسط والأزواج، فقال:
مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ، وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي والحال أنهم يجلسون ويستندون على أسرّة مصفوفة متصل بعضها ببعض، حتى تصير صفا
65
واحدا، وهذا دليل الاطمئنان والراحة وعدم التكلف وفراغ البال من الشواغل.
وكذلك قرنّا كل واحد منهم بقرينات صالحات وزوجات حسان من نساء الجنة، وهن الحوريات الشديدات بياض العين، والشديدات سوادها، والواسعات الأعين. ويلاحظ أن كلمتي الحور والعين جمع للمذكر والمؤنث، أي أحور حوراء وأعين عيناء.
روى ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة، ما يتحول عنه ولا يملّه، يأتيه ما اشتهت نفسه، ولذّت عينه».
ويلاحظ أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسباب التنعيم الأربعة على الترتيب، فذكر أولا المسكن وهو الجنات، ثم الأكل والشرب، ثم الفرش والبسط، ثم الأزواج. وذكر في كل نوع ما يدل على الكمال فيه، وهو قوله فاكِهِينَ في الجنات، لأن مكان التنعيم قد ينتغص بأمور، وقوله:
هَنِيئاً إشارة إلى خلو المأكول والمشروب عما يكون فيها من المفاسد في الدنيا كالتخمة والمرض والغصة والانقطاع. وقوله: في السرر: مُتَّكِئِينَ للدلالة على عدم التكلف، والهيئة دليل خير. وقوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إنجاز لما وعدهم به ربهم في الدنيا، من غير من، وإنما كان المنّ في الدنيا بالهداية للإيمان والتوفيق للعمل الصالح، كما قال تعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات ٤٩/ ١٧].
وقوله: مَصْفُوفَةٍ إشارة إلى أنها مخصصة لكل واحد، لا اشتراك فيها.
وقوله: وَزَوَّجْناهُمْ دليل على أن المزوج بأمانة هو الله تعالى، وأن المنفعة في التزويج لهم وأنه لم يقتصر على الزوجات، بل وصفهن بالحسن، واختار أحسن الحسن وهو جمال العيون «١».
(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ٢٤٩
66
ويلاحظ أيضا الفرق بين جزاء الكفار حيث قال تعالى في حقهم: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وبين جزاء المتقين حيث قال في حقهم: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فجزاء الكفار منحصر بكلمة إِنَّما للحصر، أي لا تجزون إلا ذلك، وأما المؤمنون فيضاعف ما عملوا ويزيدهم من فضله، ويجازى الكفار عين أعمالهم بقوله: بِما كُنْتُمْ إشارة إلى المبالغة في المماثلة، وقال في حق المؤمنين:
بِما كُنْتُمْ كأن ذلك أمر ثابت مستمر بعملهم الصالح، وذكر الله تعالى الجزاء في حق الكفار، وهو ينبئ عن الانقطاع، ولم يذكره في حق المؤمنين مما يدل على الدوام وعدم الانقطاع «١».
ثم أخبر الله تعالى عن مزيد فضله وكرمه ولطفه بخلقه وإحسانه بإلحاق الذرية بالآباء في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم، لتقرّ عين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فقال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي إن المؤمنين الذين تتبعهم ذريتهم في الإيمان أو بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء، يلحقهم الله بآبائهم في المنزلة فضلا منه وكرما، والمعنى: أن الله سبحانه يرفع ذرية المؤمن إليه، وإن كانوا دونه في العمل، لتقر عينه، وتطيب نفسه، بشرط كونهم مؤمنين. ومن باب أولى يلحق الآباء بالأبناء إن كان هؤلاء أحسن حالا من آبائهم، فيرفع ناقص العمل إلى منزلة كامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوي بينه وبين ذاك. قال ابن عباس: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، لتقرّ بهم عينه، ثم قرأ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ، أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ «٢» وتنكير لفظة بِإِيمانٍ للدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة،
(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ٢٤٩
(٢) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، ورواه البزار عن ابن عباس مرفوعا، ورواه الثوري عن ابن عباس موقوفا.
67
ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل، كأنه قال: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم «١».
وروى الحافظ الطبراني عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «إذا دخل الرجل الجنة، سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول: يا ربّ، قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به».
وقرأ ابن عباس:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ الآية.
وهذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء، وفضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء،
أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا ربّ أنى لي هذه؟ فيقول:
باستغفار ولدك لك»

وله شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي وما نقصنا الآباء بإلحاق ذريتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئا.
كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي كل إنسان مرتهن يوم القيامة بعمله، فلا يتحمل أحد ذنب آخر سواء كان أبا أو ابنا، كما أن الرهن لا ينفك ما لم يؤدّ الدين، فإن كان العمل صالحا فكّه ونجاه، لأن الله يقبله، وإن كان صالحا أهلكه.
ونظير الآية كثير في القرآن، مثل: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ [المدثر ٧٤/ ٣٨- ٣٩] أي كل نفس مرهونة بعملها، لا يفك رهنها إلا أصحاب اليمين بعملهم الطيب.
(١) تفسير الكشاف: ٣/ ١٧٣
68
ثم عدد الله تعالى أصناف النعم على المتقين، فقال:
١- وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي وزدناهم على ما كان لهم من النعيم فاكهة متنوعة، ولحما مختلفا من أنواع اللحوم، من كل ما تشتهيه أنفسهم وتستطيبه وتلذ به.
٢- يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ أي يتعاطون في الجنة كأسا من خمر الجنة، ويتجاذبون الكؤوس مع جلسائهم تجاذب سرور ولهو وملاعبة، لشدة فرحهم، وليس في شراب الآخرة ما يدعو إلى اللغو والإثم، فلا يتكلمون بكلام لاغ، أي هذيان، ولا قول فيه إثم أي فحش، كما يتكلم شاربو الخمر في الدنيا، قال ابن قتيبة: لا تذهب بعقولهم، فيلغوا، كما يكون من خمر الدنيا، ولا يكون منهم ما يؤثمهم.
وقد أخبر الله تعالى عن حسن منظر خمر الآخرة وطيب طعمها ومذاقها، فقال: بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ [الصافات ٣٧/ ٤٦- ٤٧] وقال: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ [الواقعة ٥٦/ ١٩].
٣- وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ، كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أي ويدور عليهم للخدمة بالكأس والفواكه والطعام وغير ذلك فتيان يخدمونهم، كأنهم في الحسن والبهاء لؤلؤ مستور، مصون في الصدف، لم تمسّه الأيدي.
ونحو الآية: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة ٥٦/ ١٧- ١٨].
روى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: «بلغني أنه قيل: يا رسول الله، هذا الخادم مثل اللؤلؤ، فكيف بالمخدوم؟ فقال: والذي نفسي
69
بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وروي ذلك أيضا عن الحسن.
٤- وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي أقبلوا يتحادثون ويسأل بعضهم بعضا في الجنة عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، وما كان فيها من متاعب ومخاوف. ونكد وكدر.
ثم ذكر الله تعالى أجوبتهم التي تومئ إلى علة الوصول إلى الجنان، فقال:
- قالُوا: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ أي أجابوا قائلين: إنا كنا في الدار الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله وعقابه، فتفضل الله علينا بالمغفرة والرحمة ووفقنا إلى العمل الصالح، وأجارنا مما نخاف من عذاب النار. وسموم جهنم: ما يوجد من حرّها.
- إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ أي إنا كنا في الدنيا نوحد الله ونعبده، ونسأله أن يمنّ علينا بالمغفرة والرحمة، فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا، إنه سبحانه الكثير الإحسان والكرم، الكثير الرحمة والفضل لعباده.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن جزاء المتقين دخول الجنان، والتمتع بأنواع النعيم المختلفة، فهم ذوو فاكهة كثيرة، طيبو النفس، مزّاحون، ناجون من عذاب النار، يقال لهم:
كلوا واشربوا هنيئا، والهنيء: ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر.
وهم متكئون على سرر موصولة بعضها ببعض حتى تصير صفا واحدا، ويتزوجون بما شاؤوا من الحور العين، أي بنساء بيض نجل العيون حسانها.
70
٢- يلحق الله الذرية الصغار والكبار بالآباء، والآباء بالذرية، في المنزلة والدرجة في الجنة تكريما من الله وتفضلا وإحسانا لتقر أعين الآباء بهم، ولا ينقص الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم، ولا ينقص الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم، وذلك بشرط الإيمان بين الأصول والفروع.
قال الزمخشري: فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم «١».
وقال الرازي في الآية: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ..: تدل على أن شفقة الأبوة كما هي في الدنيا متوفرة كذلك في الآخرة، ولهذا طيب الله تعالى قلوب عباده بأنه لا يولهم بأولادهم، بل يجمع بينهم «٢».
٣- كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ، قال الزمخشري: عام في كل أحد، مرهون عند الله بالكسب، فإن كسب خيرا فك رقبته، وإلا أربق بالرهن «٣».
٤- زيادة من الله وفضله يمد المؤمنين بأنواع الفاكهة واللحوم المختلفة حسبما يشتهون، غير الذي كان لهم، ويتناول بعضهم من بعض كأسا وهو إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره، وهم المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة.
ويطوف عليهم مماليك مخصوصون بالفواكه والتحف والطعام والشراب كما قال تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف ٤٣/ ٧١] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الصافات ٣٧/ ٤٥]. وأولئك المماليك كأنهم في الحسن والبياض لؤلؤ مستور مصون في الصدف، كما قال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [الواقعة ٥٦/ ١٧].
(١) الكشاف: ٣/ ١٧٣.
(٢) تفسير الرازي: ٢٨/ ٢٥٠
(٣) الكشاف: ٣/ ١٧٤
71
عن عائشة رضي الله عنها أن نبي الله ﷺ قال: «إن أدنى أهل الجنة منزلة منزلة من ينادي الخادم من خدمه، فيجيبه ألف كلّهم: لبّيك لبّيك» «١».
٥- يقبل أهل الجنة بعضهم على بعض. فيتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف من العاقبة، ويحمدون الله تعالى على زوال الخوف عنهم، وامتنان الله عليهم بالجنة والمغفرة، وبالتوفيق والهداية، والنجاة من عذاب نار جهنم، نار السّموم، والسموم: الريح الحارّة.
٦- يجد أهل الجنة ثواب ما عملوا في الدنيا، فإنهم كانوا في الدنيا يعبدون الله ويوحدونه، ويدعونه بأن يمنّ عليهم بالمغفرة من تقصيرهم، فيرون ثمرة ذلك في الآخرة، فإن الله تعالى كثير البر والجود والإحسان، اللطيف الصادق فيما وعد، الكثير الرحمة.
متابعة التذكير والموعظة بالرغم من المكائد
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٢٩ الى ٣٤]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤)
الاعراب:
بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ بِكاهِنٍ خبر ما، ومَجْنُونٍ معطوف عليه.
أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ أَمْ هنا: منقطعة بمعنى بل والهمزة، وكذلك أَمْ في أوائل الآيات: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا إلى قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ (٣٢- ٤٣) كلها
(١) تفسير الألوسي: ٢٧/ ٣٤
72
منقطعة، بمعنى (بل والهمزة) وهي خمسة عشر موضعا. وبَلْ للإضراب الانتقالي والهمزة للإنكار والتقريع والتوبيخ، أي ما كان ينبغي أن يحصل، أو بمعنى ما حصل هذا.
البلاغة:
رَيْبَ الْمَنُونِ استعارة تصريحية، أستعير لفظ الريب (وهو الشك) لنوائب الدهر وحوادثه، بتشبيه حوادث الدهر بالريب بجامع التقلب وعدم الاستمرار على حالة واحدة.
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أسلوب تهكمي للتهكم بعقولهم والسخرية منهم، وأمر الأحلام بأقوالهم مجاز عن أدائها إليه.
المفردات اللغوية:
فَذَكِّرْ فاثبت على التذكير والموعظة، ولا تكترث بقولهم، ولا تتراجع لاتهامات باطلة كالقول بأنك كاهن أو مجنون. فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بحمد ربك وإنعامه عليك. بِكاهِنٍ الكاهن: هو المخبر عن الماضي بالظن، والعرّاف: هو المخبر عن المستقبل، بالاعتماد على الجن.
نَتَرَبَّصُ ننتظر. رَيْبَ الْمَنُونِ أي حوادث الدهر ليهلك كغيره، والريب في الأصل:
الشك، وأطلق على الحوادث، والمنون: الدهر، سمي بذلك، لأنه يقطع الأجل، وقيل: المنون:
الموت.
تَرَبَّصُوا انتظروا هلاكي. فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي، فعذبوا بالقتل يوم بدر. أَحْلامُهُمْ عقولهم، جمع حلم: وهو العقل. بِهذا التناقض في القول، فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر، والمجنون عديم العقل، والشاعر يكون ذا كلام موزون متسق نابع من الخيال، ولا يتأتى ذلك من المجنون. أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ بل هم مجاوزون الحد في العناد والمكابرة.
تَقَوَّلَهُ اختلق القرآن وافتراه من تلقاء نفسه. بَلْ لا يُؤْمِنُونَ بل يكفرون. فيرمون بهذه المطاعن لكفرهم وعنادهم. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ مثل القرآن. إِنْ كانُوا صادِقِينَ في زعمهم، إذ فيهم كثير من الفصحاء، فهذا رد لأقوالهم المذكورة بالتحدّي.
سبب النزول: نزول الآية (٣٠) :
أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ: أخرج ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس: أن
73
قريشا لما اجتمعوا في دار النّدوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، قال قائل: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به المنون حتى يهلك، كما هلك من قبله من الشعراء: زهير والنابغة والأعشى، فإنما هو كأحدهم، فأنزل الله في ذلك: أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ.
المناسبة:
بعد قسم الله تعالى على وقوع العذاب، وذكر أحوال المعذبين والناجين، أمر تعالى نبيه بالتذكير إنذارا للكافر، وتبشيرا للمؤمن، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون باعتبارهما طريقين إلى الإخبار ببعض المغيّبات، بالاعتماد على الجن. وكان شيبة بن ربيعة ممن ينسبه إلى الكهانة، وعقبة بن أبي معيط ممن ينسبه إلى الجنون. ثم بيّن الله تعالى ما في هذا الاتهام من التناقض والاضطراب، ثم أمره ربه بتهديدهم بمثل صنيعهم، ثم تحداهم بأن يأتوا بمثل القرآن أو بمثل أقصر سورة من هذا الكلام المفترى، وفيهم الفصحاء والبلغاء، بل هم قوم طاغون متجاوزون الحد، جاحدون كافرون لا يؤمنون بالوحي، فقالوا بأهوائهم مثل تلك الأقاويل.
التفسير والبيان:
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أي إذا كان في الوجود قوم يخافون الله، ويشفقون في أهليهم من عذاب الله كما تقدم في الآيات السابقة، فوجب عليك أيها الرسول الإتيان بما أمرت به من التذكير، فاثبت على ما أنت عليه من تذكير الناس وموعظتهم، ولا يثبّطنك قولهم: كاهن أو مجنون، فلست بحمد الله وإنعامه بكاهن كما يقول جهلة كفار قريش، ولا مجنون، والكاهن:
هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي، ويخبر عن الماضي بالأخبار الخفية، وليس ما تقوله كهانة، فإنك إنما تنطق بالوحي الذي أمرك الله
74
بإبلاغه. والمجنون: هو الذي يتخبطه الشيطان من المس، في عرف العرب.
وممن قال: إنه كاهن كما تقدم: شيبة بن ربيعة، وممن قال: إنه مجنون عقبة بن أبي معيط.
لا تبال بهذا، فإنه قول باطل متناقض، لأن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر، والمجنون مغطى على عقله، ولست بما عرف عنك من رجاحة العقل أحد هذين.
ثم أنكر الله تعالى عليهم قولا آخر في الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال:
أَمْ يَقُولُونَ: شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أي بل يقولون: إنه شاعر ننتظر به حوادث الأيام، فيموت كما مات غيره، أو يهلك كما هلك من قبله، فنستريح منه ومن شأنه وينقضي ما جاء به من هذا الدين.
ثم هددهم الله وتهكم بهم قائلا لرسوله صلى الله عليه وسلم:
- قُلْ: تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أي قل لهم أيها الرسول:
انتظروا موتي أو هلاكي، فإني معكم من المنتظرين لعاقبة الأمر، وقضاء الله فيكم، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة، وأنا واثق من نصر الله تعالى.
- أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي أأنزل عليهم ذكر أم أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض؟ وهي دعوى أن القرآن سحر أو كهانة أو شعر، وقولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم: كاهن وشاعر مع قولهم: مجنون، فالشاعر غير الكاهن وغير المجنون، فالأول ينطق بالحكمة، والثاني يذكر الخرافات، والثالث زائل العقل، وكانت عظماء قريش توصف بأنهم أهل الأحلام والنهى والعقول، فتهكم الله بعقولهم التي لا تميز بين الحق والباطل.
75
أم إنهم قوم طغوا وتجاوزوا الحد في العناد والعصيان والضلال عن الحق، واغتروا وقالوا ما لا دليل عليه سمعا، ولا مقتضى له عقلا.
وعلى هذا تكون أَمْ متصلة، كما ذكر الرازي، وذكر غيره «١» أن أم في الموضعين منقطعة، أي بل أتأمرهم عقولهم، بل أطغوا وجاوزوا الحد؟ أي لكن عقولهم تأمرهم بهذه الأقاويل الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور، وهم قوم طاغون ضلّال معاندون.
أَمْ يَقُولُونَ: تَقَوَّلَهُ، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ أي أتقولون: كاهن، أم تقولون: شاعر، أم تقوله أي اختلقه وافتراه من عند نفسه، يعنون القرآن. فرد الله تعالى عليهم: بل إن كفرهم وكونهم لا يؤمنون بالله ولا يصدقون بما جاء به رسوله هو الذي يحملهم على هذه الأقوال المتناقضة، والمطاعن المفتراة الكاذبة.
ثم رد عليهم ردا آخر فيه تحدّ لهم، فقال:
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ أي إن صدقوا في قولهم: إن محمدا تقوله وافتراه من عند نفسه، فليأتوا «٢» بمثل هذا القرآن في نظمه وحسن بيانه وبديع أسلوبه، مع أنه كلام عربي، وهم أساطين البيان، وفرسان البلاغة والفصاحة، والممارسون لجميع أساليب العربية من نظم ونثر.
والحقيقة أنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس، ما جاؤوا بمثله، ولا بعشر سور من مثله، ولا بسورة من مثله.
(١) قال أبو حيان في (البحر المحيط: ٨/ ١٥١) : والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة، وقد تقدم في الإعراب أن أم كلها في الآيات منقطعة بمعنى (بل والهمزة) وهو رأي ابن الأنباري وغيره من النحاة.
(٢) الفاء للتعقيب، أي إذا كان الأمر كذلك، فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى به ليصحح كلامهم، ويبطل كلامه.
76
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- أمر الله نبيه محمدا ﷺ بالثبات على التذكير والوعظ لقومه بالقرآن، دون مبالاة بمطاعن كفار قريش، فليس هو بالكاهن ولا بالشاعر ولا بالمجنون، وإنما هو صادق النبوة، وقد عرف بين قومه أنفسهم برجاحة العقل، وأصالة الرأي.
٢- لقد انتظر الكفار المعاندون سوءا أو هلاكا بالنبي ﷺ تخلصا منه ومن دينه، فعجل الله لهم الهلاك في معركة بدر وغيرها. قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر، أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء، وأن أباه مات شابا، فربما يموت كما مات أبوه.
٣- وفي حال حياتهم أورد القرآن عدة تقريعات وتوبيخات لهم بأسلوب التهكم:
أولها- أنه لا عقل لهم بنحو سليم، إذ لو كان لهم عقل سليم لميزوا بين الحق والباطل، والمعجز وغيره، ولما أوقعوا أنفسهم في تناقضات حين وصفوا محمدا ﷺ بأوصاف متناقضة، فقالوا: إنه كاهن، شاعر، مجنون. والجنون لا يتفق مع الكهانة ونظم الشعر اللذين يتطلبان حذاقة وذكاء وإبداعا وقوة خيال.
ثانيها- أنهم قوم طغوا وتجاوزوا الحد بغير عقول.
ثالثها- زعمهم أن محمدا تقوّل القرآن، أي اختلقه وافتراه من تلقاء نفسه، والتقول يراد به الكذب.
رابعها- أنهم لم يؤمنوا بالله ورسوله جحودا وعنادا واستكبارا، وقد صح عندهم إعجاز القرآن، وإلا فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أي بقرآن يشبهه من تلقاء
77
أنفسهم إِنْ كانُوا صادِقِينَ في أن محمدا ﷺ افتراه.
فإن كان شاعرا ففيكم الشعراء البلغاء، والكهنة الأذكياء، ومن يرتجل الخطب والقصائد ويقص القصص، فليأتوا بمثل ما أتى به.
إثبات الخالق وتوحيده بالأنفس والآفاق
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٣٥ الى ٤٣]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩)
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣)
البلاغة:
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التوبيخ والتقريع لهم.
المفردات اللغوية:
مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ من غير خالق، فلذلك لا يعبدونه. أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ الذين خلقوا أنفسهم؟ وبما أنه لا يعقل مخلوق بغير خالق، ولا معدوم يخلق، فلا بد لهم من خالق هو الله الواحد، فلم لا يوحدونه ويؤمنون برسوله ﷺ وكتابه الكريم؟! أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وهم لا يستطيعون ذلك، فلا يقدر على خلقهما إلا الله الخالق القادر، فلم لا يعبدونه؟! بَلْ لا يُوقِنُونَ به، وإلا لآمنوا بنبيه، ولو أيقنوا بأن الخالق هو الله لما أعرضوا عن عبادته.
78
خَزائِنُ رَبِّكَ خزائن رزقه، حتى يرزقوا النبوة والرزق وغيرهما، فيخصوا من شاؤوا بما شاؤوا. الْمُصَيْطِرُونَ القاهرون الغالبون على الأشياء المسلطون عليها يدبرونها كيف شاؤوا، من سيطر على كذا: إذا تسلط عليه وأقام عليه، مثل بيطر وبيقر. سُلَّمٌ مرتقى إلى السماء، والسلم: كل ما يتوصل به إلى غيره من الأماكن العالية. يَسْتَمِعُونَ فِيهِ يستمعون عليه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن، وينازعوا النبي ﷺ بزعمهم إن ادعوا ذلك. بِسُلْطانٍ بحجة قوية. مُبِينٍ أي بحجة واضحة تصدّق استماعه.
أَمْ لَهُ الْبَناتُ بزعمكم. وَلَكُمُ الْبَنُونَ الذكور، فيه تسفيه آرائهم وإشعارهم بأن من هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء، فضلا عن الاطلاع على الغيوب. أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أم تطلب منهم أجرة على تبليغ الرسالة. مَغْرَمٍ من التزام غرامة أو غرم: وهو التزام الإنسان ما ليس عليه.
مُثْقَلُونَ محملون الثقل، فلذلك زهدوا في اتباعك ولم يسلموا.
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي علم الغيب. فَهُمْ يَكْتُبُونَ ذلك ويحكمون بناء عليه. أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً تدبير مكيدة وشر، وهو كيدهم في دار الندوة. فَالَّذِينَ كَفَرُوا يحتمل العموم والخصوص، فيشمل جميع الكفار، أو كفار قريش، فيكون ذلك تسجيلا للكفر عليهم.
الْمَكِيدُونَ المغلوبون المهلكون، الذين يحيق بهم الكيد، أو يعود وبال كيدهم عليهم، وهو قتلهم يوم بدر. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعينهم ويحرسهم من عذابه. سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها لله، وهو اسم علم للتسبيح. عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم أو شركة ما يشركون به وعن الذين يشركون.
المناسبة:
بعد أن رد الله تعالى على ما زعم كفار قريش من أن محمدا كاهن أو شاعر أو مجنون، ذكر الدليل من الأنفس والآفاق على صدقه، وإبطال تكذيبهم لرسالته، وإنكارهم للخالق، وإثبات التوحيد بخلقهم وخلق السموات والأرض، علما بأن إثبات الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه وهو الحشر.
ثم طمأن الله نبيه بأن كيدهم له لا يضره شيئا، وأن الله ناصره، ومظهر دينه، ولو كره الكافرون.
79
التفسير والبيان:
هذه الآيات لإثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى:
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ هذا رد على إنكار الخالق الواحد، فهل وجدوا من غير موجد، أم هم أوجدوا أنفسهم؟ وإذا كان الأمران منتفيين بشهادة العقل والحس والواقع وبإقرارهم، فالله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا.
أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، بَلْ لا يُوقِنُونَ وهل خلقوا السموات والأرض وما فيهما من العجائب والغرائب وأسباب الحياة والمعيشة؟ إنهم في الواقع لا يستطيعون ادعاء ذلك، والحقيقة أن عدم إيقانهم من قولهم بأن الله هو الخالق هو الذي حملهم على التكذيب وإنكار رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لو أيقنوا حقا بأن الله هو الخالق ما أعرضوا عن عبادته.
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أي هل هم يملكون خزائن الله من النبوة والرزق وغيرهما، فيتصرفوا فيها كيف شاؤوا، أم هم المسلطون على المخلوقات يدبرون أمرها كيف يشاءون؟ الواقع أن الأمر ليس كذلك، بل الله عز وجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ، فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بل أيقولون: إن لهم سلّما منصوبا إلى السماء يصعدون به، أي مرقاة إلى الملأ الأعلى، ويستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحى إليهم، ويطلعون على علم الغيب؟
فليأت مستمعهم إليهم على صحة ما هم فيه بحجة ظاهرة واضحة، كما أتى محمد ﷺ بالبرهان الدال على صدقه. الواقع ليس لهم سبيل إلى ذلك، فليس لهم دليل ولا حجة على ما يقولون.
80
وبعد الرد على إنكار الألوهية، رد الله تعالى على من قال: الملائكة بنات الله، فقال:
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أي بل أتجعلون لله البنات، وتخصون أنفسكم بالبنين؟ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، فمن كان هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء، ولا يستبعد منه إنكار البعث، وجحد التوحيد.
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً، فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أي بل أتسألهم أجرة يدفعونها إليك على تبليغك الرسالة، فهم من التزام غرامة تطلبها منهم محمّلون غرما ثقيلا، فلا يسلمون ولا يجيبون دعوتك؟ الواقع لست تسألهم على ذلك شيئا، ولا تطلب منهم أدنى شيء يشق عليهم ويثقلهم. وهذا يدل على أنه لم يطلب منهم أجرا ما.
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي بل أيدّعون أن عندهم علم الغيب، وهو ما في اللوح المحفوظ، فيكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب؟ ليس الأمر كذلك، فإنه لا يعلم أحد الغيب إلا الله. قال قتادة: لما قالوا: نتربص به ريب المنون، قال الله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ حتى علموا متى يموت محمد صلى الله عليه وسلم، أو إلى ما يؤول إليه أمره.
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي إن كنتم تعلمون الغيب فأنتم كاذبون، وإن كنتم تظنون أنكم تقدرون عليه، فأنتم غالطون، فإن الله يصونه عنكم وينصره عليكم، فإن كنتم تريدون تدبيرا أو مكرا برسول الله ﷺ لإهلاكه، فالكافرون هم الممكور بهم، المجزيون بكيدهم. ولام فَالَّذِينَ كَفَرُوا لهؤلاء الكفار أو للجنس، فيشملهم وغيرهم. وتنكير الكيد إشارة إلى وقوع العذاب بغتة من حيث لا يشعرون. وصرح بقوله: فَالَّذِينَ كَفَرُوا للدلالة على كون الكافر مكيدا في مقابلة كفره، لا في مقابلة إرادته الكيد.
81
أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي بل ألهم إله غير الله يحرسهم من عذاب الله؟ تنزه الله عن الشريك والمثيل والنظير وعن كل ما يعبدونه سواه. وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله، وتنزيه الله نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- إن إثبات وجود الله ووحدانيته وقدرته على الحشر هو خلق الأنفس والآفاق، أي خلق الإنسان والحيوان والنبات من غير سابق وجود، وخلق السموات والأرض بعد العدم، فالخلق دليل على وجود الله تعالى، وهو الدليل الأعظم الذي ذكره القرآن الكريم، كما قال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل ١٦/ ١٧].
والانفراد بالخلق دليل على وحدانية الخالق، لأن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد. والخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه وهو الحشر.
وإذا أقر الكفار بأن ثمّ خالقا، فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة دون الأصنام، ومن الإقرار بأنه قادر على البعث.
وهم يقرون بأنه لا يعقل وجودهم من غير رب خلقهم وقدّرهم، كما يقرون إذا سئلوا عن خالق السموات والأرض بأنه هو الله، فلم لا يوقنون بالحق، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان ٣١/ ٢٥].
٢- أنكر القرآن على الكفار اعتراضهم على نبوة محمد ﷺ بأنه هل عندهم خزائن الرحمة والغيب والرزق حتى يختاروا للنبوة من أرادوه، أو أنهم المصيطرون على العالم الغالبون حتى يدبروا أمر العالم على حسب مشيئتهم؟
82
٣- ثم أنكر القرآن على الكفار قدرتهم على شيء من علم الغيب، ومضمون ذلك: أيدّعون أن لهم مرتقى إلى السماء ومصعدا وسببا يستمعون الأخبار، ويصلون به إلى علم الغيب، كما يصل إليه محمد ﷺ بطريق الوحي، فإذا صح ذلك فليأت مستمعهم على صحة ادعائه بحجة بيّنة أن هذا الذي هم عليه حق.
وهذا تتميم للدليل السابق لإثبات النبوة.
٤- سفّه القرآن أحلام كفار قريش وأمثالهم وقرّعهم ووبخهم في قولهم:
الملائكة بنات الله، وهذا إشارة إلى نفي الشرك. فهل يعقل أن يكون لله البنات، وللبشر البنون؟ ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار البعث.
٥- ثم أكد الحق سبحانه صدق نبوة عبده محمد ﷺ بدليل أنه لا يطلب أجرا على تبليغ الرسالة، فهم من المغرم الذي يطالبهم به مجهدون لما كلفهم به. ثم أضاف دليلا آخر وهو أنه ليس عندهم علم بالغيب يكتبون للناس ما أرادوه من علم الغيب.
٦- أخبر الله تعالى بأنه عاصم نبيه محمدا ﷺ من السوء والشر ومكائد أعدائه، فإنهم إن أرادوا به شرا ومكيدة ومكرا كما دبروا في دار الندوة، فإنهم المهزومون المغلوبون الممكور بهم الذين يعود عليهم وبال الكيد: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر ٣٥/ ٤٣] وذلك أنهم قتلوا ببدر، وأظهر الله دين الإسلام.
٧- أعاد الله تعالى إثبات التوحيد ونفي الشرك، فقال موبخا: هل لهم إله غير الله يخلق ويرزق ويمنع، تنزّه الله وتعالى وتقدس عن نسبة الشرك له أو أن يكون له شريك، فإن الشريك دليل العجز، والإله الحق يتميز بالقدرة المطلقة التي تشمل الكون كله وما فيه من مخلوقات حتى تصح الدينونة والخضوع والانقياد والعبادة له دون غيره.
83
وهذا تصريح بالمقصود الكلي من الآيات، لذا وبخهم على إشراكهم، ونزه نفسه عن ذلك بقوله: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن إشراكهم وعن الذين يشركون.
الإعراض عن الكفار لمكابرتهم في المحسوسات
[سورة الطور (٥٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٩]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩)
الاعراب:
كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً ساقِطاً إما مفعول به ثان، أو حال.
يَوْمَهُمُ مفعول يُلاقُوا. ويَوْمَ لا يُغْنِي منصوب على البدل من يَوْمَهُمُ وليس بمنصوب على الظرف.
وَإِدْبارَ النُّجُومِ إدبار بكسر الهمزة: مصدر أدبر يدبر إدبارا، وتقديره: وسبّحه وقت إدبار النجوم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقرئ بفتح الهمزة، على أنه جمع دبر: وهو منصوب لأنه ظرف زمان.
البلاغة:
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً أسلوب الفرض والتقدير، أي لو رأوا ذلك لقالوا ما قالوا.
بِأَعْيُنِنا مجاز عن الحفظ.
84
المفردات اللغوية:
كِسْفاً قطعة. يَقُولُوا من فرط طغيانهم وعنادهم. سَحابٌ مَرْكُومٌ أي هذا سحاب تراكم بعضه على بعض، نرتوي به، ثم لا يؤمنون. والآية جواب قولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء ٢٦/ ١٨٧].
فَذَرْهُمْ اتركهم وأعرض عنهم. حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يموتون أو يقتلون. يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي لا يفيد شيئا من الإغناء في ردّ العذاب. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون من عذاب الله تعالى في الآخرة. وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بكفرهم، وهو يحتمل العموم والخصوص فإن كان العذاب هو عذاب القبر فالذين ظلموا عام في كل ظالم، وإن كان العذاب هو عذاب يوم بدر فالذين ظلموا هم أهل مكة. عَذاباً دُونَ ذلِكَ أي دون عذاب الآخرة، أي في الدنيا قبل موتهم، كعذاب الجوع والقحط سبع سنين، والقتل يوم بدر، أو عذاب القبر.
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم وتبليغ الرسالة، ولا يضق صدرك بعنائهم وإعراضهم وجدالهم. فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا بمرأى منا، نراك ونحفظك ونكلؤك، وجمع مبالغة بكثرة أسباب الحفظ. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قارنا التسبيح بالتحميد، فقل: سبحان الله وبحمده حِينَ تَقُومُ من منامك أو من مجلسك أو إلى الصلاة، أي من أي مكان قمت. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ نزهه بقولك: سبحان الله، وخصه بالليل وقدمه على الفعل، لأن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء. وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي عقب غروبها سبحه أيضا، أي إذا أدبرت النجوم من آخر الليل.
المناسبة:
بعد تفنيد مزاعم المشركين في الحشر والمعاد، والألوهية والوحدانية، والنبوة والشرك، وإثبات المعاد والتوحيد وصدق النبوة ونفي الشرك، أجاب الله تعالى عن بعض مقترحاتهم بإسقاط قطعة من السماء تعذيبا لهم، وبين مدى مكابرتهم في إنكار المحسوسات، فضلا عن المعقولات، ثم أمر نبيه بالإعراض عنهم، والصبر على مساوئهم ومكائدهم، فإن الله ناصرك عليهم وحافظك، وأخبره بأن العذاب واقع بهم في الدنيا قبل الآخرة، وقوّى معنوية نبيه بالاعتصام بالله، والإقبال على طاعته، وذكره صباحا ومساء، نهارا وليلا حين يقوم من منامه أو من مجلسه أو بعد غياب النجوم، وإصباح الصباح.
85
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن عناد المشركين ومكابرتهم للمحسوس، فيقول:
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا: سَحابٌ مَرْكُومٌ أي إن ير هؤلاء المشركون قطعة من نار السماء ساقطة عليهم لتعذيبهم، لما صدقوا ولما أيقنوا، ولما انتهوا عن كفرهم، بل يقولون: هذا سحاب متراكم ملقى بعضه على بعض، نرتوي به. وهذه غاية المكابرة، لأنهم ينكرون ما تبصره الأعين وتشاهده النفوس.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر ١٥/ ١٤- ١٥].
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ أي إذا كان هذا شأنهم وتبين أنهم لا يرجعون عن كفرهم، فدعهم يا محمد ولا تأبه بهم حتى يلقوا أو يأتي يوم مجازاتهم بأعمالهم السيئة الذي يحدث فيهم هلاكهم السريع، وهو يوم موتهم أو قتلهم وهو يوم بدر، وهو الظاهر في الآية كما قال البقاعي، لأنهم عذبوا فيه، أو يوم النفخة الأولى يوم القيامة، لأن صعقته تعم جميع الخلائق، وهو قول الجمهور، كما ذكر أبو حيان.
وإسقاط كلمة الإشارة قبل كلمة سَحابٌ أي هذا سحاب لوضوح الأمر وظهور العناد، كما أن كلمة يَقُولُوا تدل على العناد.
يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي ذلك اليوم يوم لا ينفعهم فيه مكرهم ولا كيدهم الذي كادوا به رسول الله ﷺ في الدنيا، ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع ولا ينصرهم ناصر، بل هو واقع بهم لا محالة.
86
والكيد: هو فعل يسوء من نزل به، وإن حسن ممن صدر منه. وإنما قال تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي... للرد على ما كانوا يعتقدون أنه أحسن أعمالهم.
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي وإن للظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي وكيد النبي وعبادة الأوثان عذابا في الدار الدنيا وهو قتلهم يوم بدر، أو هو مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا، وذهاب الأموال والأولاد، والقحط والجوع سبع سنين قبل يوم بدر الذي حدث في السنة الثانية من الهجرة، غير أن أكثرهم لا يعلمون ما سينزل بهم من عذاب الله وبأسه وبلاياه، لعلهم يرجعون عما هم عليه من الكفر والعناد، ولو كشف عنهم العذاب لعادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه. والمراد بالأكثر الكل على عادة العرب حيث تعبر عن الكل بالأكثر، أو هم في أكثر أحوالهم لم يعلموا.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة ٣٢/ ٢١].
وجاء في الحديث لبيان عودة الكفار بعد جلاء العذاب إلى كفرهم: «إن المنافق إذا مرض وعوفي، مثله في ذلك كمثل البعير، لا يدري فيما عقلوه، ولا فيما أرسلوه».
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي إلى أن يحكم الله أو لقضاء الله، والمعنى: واصبر أيها الرسول على أذى هؤلاء القوم، ولا تبال بهم، إلى أن يقع بهم العذاب الذي وعدناهم به، فإنك بمرأى ومنظر منا، وفي حفظنا وحمايتنا وتحت كلاءتنا، والله يعصمك من الناس، ونزّه ربك عما لا يليق به لإنعامه عليك تنزيها مصحوبا بالحمد، حين تقوم من مجلسك، أي من كل مجلس جلسته، فتقول: (سبحان الله وبحمده) أو (سبحانك اللهم وبحمدك) أو حين تقوم إلى الصلاة، كما قال الضحاك:
«سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك، ولا إله غيرك».
87
روى مسلم في صحيحة عن عمر أنه كان يقول هذا في ابتداء الصلاة، ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره عن النبي ﷺ أنه كان يقول ذلك.
وقال أبو الجوزاء: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي من نومك من فراشك، واختاره ابن جرير، ويتأيد هذا القول
بما رواه الإمام أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت عن رسول الله ﷺ قال: «من تعارّ من الليل «١»، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي- أو قال: ثم دعا- استجيب له، فإن عزم فتوضأ، ثم صلى قبلت صلاته».
ويتأيد الرأي الأول في كون التسبيح والتحميد بعد كل مجلس بما
أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم في المستدرك وابن مردويه وابن أبي شيبة عن أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله ﷺ يقول بآخر عمره إذا أراد أن يقوم من المجلس:
«سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك».
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي وإذا قمت من نومك فسبّحه واذكره واعبده في بعض الليل، وفي آخر الليل حين أفول النجوم، لأن العبادة حينئذ أشق على النفس وأبعد عن الرياء. وقال مقاتل: أي صلّ المغرب والعشاء، وقيل: ركعتي الفجر. قال الرازي: والظاهر أن المراد من وَإِدْبارَ النُّجُومِ وقت الصبح حيث يدبر النجم، ويخفى، ويذهب ضياؤه بضوء الشمس. وحينئذ يكون قوله: حِينَ تَقُومُ المراد به النهار، وقوله:
وَمِنَ اللَّيْلِ ما عدا وقت النوم.
(١) تعارّ الرجل من الليل: إذا هب من نومه مع صوت [.....]
88
ونظير الآية: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ، عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسرار ١٧/ ٧٩] وهذا يتفق مع
الحديث الصحيح: «خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوّع».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- شأن الكفار وديدنهم العناد ومكابرة المحسوسات، حتى إنهم لو رأوا بأعينهم أمارات العذاب النازل عليهم من السماء كالشهب والصواعق، لما أيقنوا وظلوا على كفرهم، وزعموا أنه سحاب محفّل بالمطر متراكم بعضه على بعض، وليس صواعق. وهذا جواب قولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء ٢٦/ ١٨٧] وقولهم: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الإسراء ١٧/ ٩٢].
٢- هددهم الله تعالى بالهلاك السريع وأمر نبيه ﷺ بتركهم والإعراض عنهم حتى يوم بدر، أو يوم يموتون أو يوم النفخة الأولى في يوم القيامة حيث يأتيهم فيه من العذاب ما تشيب منه الرؤوس وتزول به العقول. وليس قوله:
فَذَرْهُمْ للتخلي عن دعوتهم إلى الإسلام، والقول بأن ذلك منسوخ بآية القتال ضعيف كما ذكر الرازي، وإنما المراد التهديد.
٣- في ذلك اليوم الذي يلاقونه لا ينفعهم فيه شيء من مكرهم وما كادوا به النبي ﷺ في الدنيا، وما تآمروا به عليه، ولا يجدون فيه ناصرا ينصرهم من الله، أو مانع يمنعهم من عذاب الله. وقوله: يَوْمَ لا يُغْنِي فيه تمييز يوم الكفار والفجار عن يوم المؤمنين حيث قال تعالى فيه: يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة ٥/ ١١٩].
89
٤- للكفار عذابان: عذاب جهنم في الآخرة، وهو الأدهى والأمر، لأنه عذاب خالد دائم، وعذاب في الدنيا قبل موتهم وهو أخف من عذاب الآخرة بالتعرض لمصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد، والجوع والجهد والقحط سبع سنين، وقد عذب به أهل مكة، والقتل في المعارك كمعركة يوم بدر الذي قتل فيه زعماء قريش، ولكن أكثر الكفار لا يعلمون أن العذاب نازل بهم، ولا ما يصيرون إليه في الآخرة أو الدنيا.
٥- الصبر مفتاح الفرج، لذا أمر الله نبيه وكل مؤمن بالصبر على قضاء ربه فيما حمّله من رسالته، وأعلمه بأنه بمرأى ومنظر من الله يراه ويسمع ما يقول ويفعل، والله حافظه وحارسه وراعيه.
٦- إن الإقبال على طاعة الله والاعتصام بقوته وقدرته وتفويض الأمور إليه يقوي النفس البشرية، وينفخ فيها روح الجدّ والعزيمة والإقدام والجرأة على أداء رسالة الحياة، لذا أمر الله تعالى نبيه ﷺ وكل مؤمن بتسبيح الله وحمده كل وقت وعقب كل مجلس، وبالصلاة، والتهجد ليلا. وقد سبق إيراد الآيات والأحاديث الآمرة والمرغبة بكل ما ذكر، ومنها
حديث الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جلس في مجلس، فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك»
وأخرج الترمذي أيضا عن ابن عمر قال: «كنا نعدّ لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم: رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الغفور» «١».
وفي الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيّوم السموات والأرض
(١) قال الترمذي عن كل من الحديثين: حديث حسن صحيح غريب.
90
ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحقّ، ووعدك الحق، وقولك الحقّ، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حقّ، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدّمت وما أخرت، وأسررت وأعلنت، أنت المقدّم وأنت المؤخّر، لا إله إلا أنت، ولا إله غيرك».
وعن ابن عباس أيضا أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ من الليل، مسح النوم عن وجهه، ثم قرأ الآيات العشر الأواخر من سورة [آل عمران] أي من قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (١٩٠) إلى آخر السورة.
91

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النجم
مكيّة، وهي اثنتان وستون آية.
تسميتها:
سميت سورة النجم، لأن الله تعالى افتتحها بالقسم بالنجم، وأل للجنس، أي بنجوم السماء وقت سقوطها وغربها، لأن النجم إذا كان في وسط السماء لم يهتد به الساري، لأنه لا يعلم المغرب من المشرق والجنوب من الشمال، فإذا مال إلى الأفق عرف به هذه الجهات، والميل إلى أفق المغرب أولى بالذكر، لأن الناظر إليه يستدل بغروبه على الجهة.
مناسبتها لما قبلها:
ترتبط هذه السورة بما قبلها بوجوه أربعة:
١- إن سورة الطور ختمت بقوله: وَإِدْبارَ النُّجُومِ وافتتحت هذه السورة بقوله: وَالنَّجْمِ.
٢- في سورة الطور ذكر تقوّل القرآن وافتراؤه، وهذه السورة بدئت بذلك وردت عليه.
٣- ذكر في الطور ذرية المؤمنين، وأنهم تبع لآبائهم، وفي هذه السورة ذكرت ذرية اليهود في آية: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ (٣٢).
92
٤- في حق الآباء المؤمنين قال تعالى في الطور: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (٢١) أي ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين، مع نفعهم بعمل آبائهم، وقال في النجم في حق الكفار أو أبناء الكفار الكبار: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (٣٩).
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السورة المكية المعنية بأصول العقيدة، وهو إثبات الرسالة وصدق الرسول ﷺ في تلقي القرآن بالوحي عن الله، والتوحيد والكلام على الأصنام وبيان عدم جدواها، والتحدث عن قدرة الله عز وجل، وعن البعث والنشور.
افتتحت السورة بإثبات ظاهرة الوحي بوساطة جبريل عليه السلام، والكلام عن (المعراج) وقرب النبي ﷺ من ربه، ورؤيته عجائب ملكوت الله تعالى، ومشاهدته جبريل على صورته الحقيقية الملكية مرتين.
ثم قرّعت المشركين على عبادة الأوثان والأصنام، ووصفتها بأنها عبادة باطلة لآلهة مزعومة لا وجود لها، ووبختهم أيضا على جعل الملائكة إناثا، وتسميتهم إياها: بنات الله، وبيان أن الملائكة لا تملك الشفاعة إلا بإذن الله تعالى.
ثم وصفت الجزاء العادل يوم القيامة، حيث يجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وذكرت أوصاف المحسنين، ونددت بإعراض الكافرين عن الإسلام، وأعلمت الناس جميعا أن المسؤولية فردية شخصية، فيسأل كل إنسان عن سعيه وعمله، ولا تتحمل نفس إثم أو وزر نفس أخرى، ولا تقبل تزكية المرء نفسه.
93
وأبانت السورة إحاطة علم الله بما في السموات والأرض ومظاهر قدرة الله تعالى في الإحياء والإماتة، والإغناء والإفقار، وخلق الإنسان من النطفة، والبعث والحشر والنشر.
وهددت المشركين الذين أنكروا الوحدانية والرسالة والبعث بالإهلاك كإهلاك أقوام أخرى أشداء، كعاد وثمود وقوم نوح ولوط.
وختمت بالتعجب من استهزاء المشركين بالقرآن وإعراضهم عنه، وأمر المؤمنين بالعبادة الخالصة لله تعالى.
فضلها:
أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أن سورة النجم أول سورة أعلن النبي ﷺ بقراءتها، فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون.
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود أيضا قال: «أول سورة أنزلت فيها سجدة: وَالنَّجْمِ فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب، فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا»
وهو أمية بن خلف.
وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب، فإنه رفع حفنة من تراب، وقال: يكفي هذا.
فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك.
94
Icon