ﰡ
قد شجاني الحمامُ حين تغنَّى | بفراق الأحباب من فوقِ لينة |
سَبَبُ النّزول: لما نقض اليهود «بنو النضير» العهد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حاصرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمر بقطع نخيلهم وإِحراقه إِهانةً لهم وإِرعاباً لقلوبهم، فقالوا يا محمد: ألست تزعم أنك نبيٌ؟ وأنك تنهى عن الفساد؟ فما بالك تأمر بقطع الأشجار وتحريقها؟ فأنزل الله تعالى ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله..﴾ الآية.
التفسِير: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي نزَّه الله تعالى ومجَّده وقدَّسه جميع ما في السموات والأرض من ملك، وإِنسان، وجماد، وشجر كقوله تعالى ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإِسراء: ٤٤] قال ابن كثير: يخبر تعالى أن جميع ما في السموات والأرض يبسح له ويُمجده ويقدِّسه ويُوحِّده ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ أي وهو العزيز في ملكه، الحكيمُ في صنعه ﴿هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ﴾ بيانٌ لبعض أثار قدرته تعالى الباهرة وعزته الظاهرة أي هو جلَّ وعلا الذي أخرج يهود بني النضير من مساكنهم بالمدينة المنورة ﴿لأَوَّلِ الحشر﴾ أي في أول مرة حُشروا وأخرجوا فيها من جزيرة العرب، إِذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك قال البيضاوي: لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة صالح «بني النضير» على ألاَّ يكونوا معه ولا عليه، فلما ظهر يوم بدر قالوا: إنه النبي المنعوتُ في التوراة بالنصرة لا تُردُّ له راية، فلما هُزم المسلمون يوم أُحد ارتابوا ونكثوا، وخرج «كعب بن الأشرف» في أربعين راكباً إِلى مكة وحالفوا «أبا سفيان» فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «محمد بن مسلمة» أخا كعبٍ من الرضاعة فقتله غيلةً، ثم صبَّحهم بالكتائب وحاصرهم، حتى صالحوه على الجلاء، فجلا أكثرهم إلى الشام، ولحقت طائفة بخيبر، فذلك قوله ﴿هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر﴾ قال الألوسي: ومعنى ﴿لأَوَّلِ الحشر﴾ أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي اول ما حُشروا وأُخرجوا، ونبَّه بلفظ ﴿أول﴾ على أنهم لم يصبهم جلاءٌ قبله ﴿مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ﴾ أي ما ظننتم أيها المؤمنون أن يخرجوا من أوطانهم وديارهم بهذا الذل والهوان، لعزتهم ومنعتهم، وشدة بأسهم، حيث كانوا أصحاب حصون وعقار، ونخيلٍ وثمار ﴿وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله﴾ أي وظنوا أن حصونهم الحصينة تمنعهم من بأس الله، وتدفع عنهم عذابه وانتقامه قال البيضاوي: والأصل أن يُقال: وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم
«نُصرت بالرعب من مسيرة شهر» ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين﴾ أي يهدمون بيوتهم بأيديهم من الداخل، وأيدي المؤمنين من الخارج قال المفسرون: كانوا بنو النضير قبل إِجلائهم عن ديارهم يخربون بيوتهم فيقلعون العُمد، وينقضون السقوف، وينقبون الجدران، لئلا يسكنها المؤمنون حسداً منهم وبغضاً، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب من ظاهرها ليقتحموا حصونهم ﴿فاعتبروا ياأولي الأبصار﴾ أي فاتعظوا بما جرى عليهم يا ذوي العقول والألباب ﴿وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء﴾ أي ولولا أن الله تعالى قضى عليهم بالخروج من أوطانهم مع الأهل والأولاد ﴿لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا﴾ أي لعذبهم في الدنيا بالسيف كما فعل بإِخوانهم بني قريظة ﴿وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار﴾ أي ولهم مع عذاب الدنيا عذاب جهنم المؤبد ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي ذلك الجلاء والعذاب بسبب أنهم خالفوا الله وعادوه وعصوا أمره، وارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم، ونقضٍ للعهود في حق رسوله ﴿وَمَن يُشَآقِّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ أي ومن يخالف أمر الله، ويعادِ دينه فاللهُ ينتقم منه لأن عذابه شديد، وعقابه أليم ﴿وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: ١٠٢].. ثم أخبر تعالى أن كل ما جرى من المؤمنين من قطع النخيل، وإِحراق بعض الأشجار المثمرة، فإنما كان بأمر الله وإِرادته فقال ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله﴾ أي ما قطعتم أيها المؤمنون من شجرة نخيل، أو تركتموها كما كانت قائمة على سوقها فبأمر الله وإِرادته ورضاه ﴿وَلِيُخْزِيَ الفاسقين﴾ أي وليغيظ اليهود ويذلهم، بقطع أشجارهم ونخيلهم قال الرازي: المعنى إِنما أذن تعالى في ذلك حتى يزداد غيظ الكفار، وتتضاعف حسرتهم، بسبب نفاذ حكم أعدائهم في أعزَّ أموالهم قال المفسرون: لما حصار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بني النضير، كان بعض الصحابة قد شرع يقطع ويحرق في نخيلهم، إِهانةً لهم وإِرعاباً لقلوبهم، فقالوا: ما هذا الإِفساد يا محمد؟ إِنك كنت تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة ﴿وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ﴾ أي وما أعاد الله وردَّه غنيمة على رسوله من أموال يهود بني النضير ﴿فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ﴾ أي لم تسيِّروا إِليه خيلكم ولا ركابكم، ولا تعبتم في تحصيله قال القرطبي: يقال: وجف البعير وجيفاً إِذا أسرع السير، وأوجفه صاحبه إِذا حمله على السير السريع، والركاب، ما يُركبُ من الإِبل، والمعنى: لم تقطعوا إِليها شُقةً، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإِنما كانت من المدينة على ميلين، فافتتحها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلحاً، وأجلاهم عنها وأخذ أموالهم، فجعلها الله
. ثم بيَّن تعالى حكم الفيء عامةً وهو ما يغنمه المسلمون بدون حرب فقال ﴿مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى﴾ أي ما جعله الله غنيمةً لرسوله بدون قتال من أموال الكفار قال ابن عباس: هي قريظة، والنضير، وفدك، وخيبر ﴿فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ أي فحكمها أنها لله تعالى بضعها حيث يشاء، ولرسوله يصرفها على نفسه وعلى مصالح المسلمين ﴿وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين﴾ أي ولأقرباء الرسول من بني هاشم وعبد المطلب، ولليتامى الذين مات آباؤهم، وللمساكين ذوي الحاجة والفقر ﴿وابن السبيل﴾ أي وللغريب المنقطع في سفره قال في التسهيل: لا تعارض بين هذه الآية وبين آية الأنفال، فإِن آية الأنفال في حكم الغنيمة التي تؤخذ بالقتال وإِيجاف الخيل والركاب، فتلك يؤخذ منها الخمس ويقسم الباقي على الغانمين، وأما هذه ففي «حكم الفيء» وهو ما يؤخذ من الكفار من غير قتال فلا تعارض بينهما ولا نسخ، وقد قرر الفقهاء الفرق بين الغنيمة والفيء، وأنَّ حكمهما مختلف، فالغنيمة ما أُخذت بالقتال، والفيءُ ما أُخذ صلحاً، وانظر كيف ذكر هنا لفظ الفيء ﴿مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ﴾ وذكر في الأنفال لفظ الغنيمة ﴿واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ [الأنفال: ٤١] ! ﴿ {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ﴾ أي لئلا ينتفع بهذا المال ويستأثر به الأغنياء دون الفقراء، مع شدة حاجة الفقراء للمال قال القرطبي: أي فعلنا ذلك كيلا يتقاسمه الرؤساء والأغنياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لأن أهل الجاهلية كانوا إِذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرياعُ ثم يصطفي منها أيضاً ما يشاء قال المفسرون: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قسم أموال بني النضير على المهاجرين فإِنهمه كانوا حنيئذٍ فقراء، ولم يُعط الأنصار منها شيئاً فإِنهم كانوا أغنياء، فقال بعض الأنصار: لنا سهمنا من هذا الفيء فأنزل الله هذه الآية ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ أي ما أمركم به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فافعلوه، وما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإِنه إِنما يأمر بكل خير وصلاح، وينهى عن كل شرٍّ وفساد قال المفسرون: والآية وإِن نزلت في أموال الفيء، إِلا أنها عامة في كل ما أمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو نهى عنه من واجبٍ، أو مندوب، أو مستحب، أو محرم، فيدخل فيها الفيء وغيره، عن ابن مسعود أنه قال: «لعن اللهُ الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيِّرات خلق الله» فبلغ ذل امرأةً من بني أسد يُقال لها «أم يعقوب» وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت: ما حديثٌ بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا} ﴿وذكرته له، فقال ابن مسعود: وما لي لا ألعنُ من لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في كتاب الله تعالى؟ فقالت المرأةُ: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته﴾ فقال: إن كنتِ قرأتيه
. ثم مدح تعال الأنصار وبيَّن فضلهم وشرفهم فقال ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي والذين اتخذوا المدينة منزلاً وسكناً وآمنوا قبل كثيرٍ من المهاجرين وهم الأنصار قال القرطبي: أي تبوءوا الدار من قبل المهاجرين، واعتقدوا الإِيمان وأخلصوه، والتبوء: التمكن والاستقرار، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِليهم ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ أي يحبون إِخوانهم المهاجرين ويواسونهم بأموالهم قال الخازن: وذلك أنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم، وأشركوهم في أموالهم ﴿وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ﴾ أي ولا يجد الأنصار حزازةً وغظياً وحسداً مما أعطي المهاجرون من الغنيمة دونهم قال المفسرون: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قسم أماول بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إِلا ثلاثة منهم، فطبت أنفس الأنصار بتلك القسمة ﴿وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ أي يفضلون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية الحاجة الفاقة إِليه، فإِيثارهم ليس عن غنى عن المال، ولكنه عن حاجة وفقر، وذلك غاية الإِيثار ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي ومن حماه الله وسلم من البخل فقد أفلح ونجح، والشُحُّ هو البخل الشديد مع الجشع والطمع، وهو غريزة في النفس ولذلك أضيف إِليها، قال ابن عمر: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إِنما الشحُّ أن تطمع عنيه فيما ليس له وفي الحديث
«واتقوا الشُحَّ فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم علىأن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» ﴿والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين المستحقين للإِحسان والفضل، وهم التابعون لهم بإِحسان إلى يوم القيامة {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا
اللغَة: ﴿شتى﴾ متفرقة تشتَّت جمعهم أي تفرق ﴿خَاشِعاً﴾ ذليلاً خاضعاً ﴿مُّتَصَدِّعاً﴾ مشتققاً تصدَّع البنيان أي تشقق ﴿القدوس﴾ المنزَّه عن كل نقص وعيب ﴿المؤمن﴾ المصدّق لرسله بالمعجزات ﴿المهيمن﴾ الرقيب على كل شيء ﴿العزيز﴾ القويُ الغالب ﴿الجبار﴾ العظيم القاهر، صاحب العظمة والجبروت ﴿المتكبر﴾ المبالغ في الكبرياء والعظمة ﴿البارىء﴾ المبدع المخترع ﴿المصور﴾ خالق الصور.
التفسِير: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ﴾ تعجيبٌ من الله تعالى لرسوله من حال المنافقين أي ألا تعجب يا محمد من شأن هؤلاء المنافقين الذين أظهروا خلاف ما أضمروا؟ ﴿يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب﴾ أي يقولون ليهود بني قريظة والنضير الذين كفروا برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾ أي لئن أخرجتم من المدينة لنخرجنَّ معكم منها قال في التسهيل: نزلت في عبد الله بن أُبي بن سلول وقوم من المنافقين، بعثوا إِلى بني النضير وقالوا لهم: اثبتوا في حصونكم فإِنا معكم كيف ما تقلبت حالكم، وإِنما جعل المنافقين إِخوانهم لأنهم كفار مثلهم ﴿وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً﴾ أي ولا نطيع أمر محمد في قتالكم، ولا نسمع من أحدٍ إِذا أمرنا بخذلانكم ﴿وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ﴾ أي ولئن قاتلكم أحد لنعاوننكم على عدوكم ونكون بجانبكم ﴿والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما قالوه ووعدوهم به.. ثم أخبر الله عن حال المنافقين بالتفصيل فقال ﴿لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ﴾ أي لئن أخرج اليهود لا يخرج المنافقون معهم ﴿وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ﴾ أي ولئن قوتل اليهود لا ينصرهم المنافقون ولا يقاتلون معهم قال القرطبي: وفي هذات دليل على صحة نبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جهة أمر الغيب، لأنه أُخرجوا فلم يخرجوا معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم كما أخبر عنه القرآن ﴿وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾ أي ولئن جاءوا لنصرتهم وقاتلوا معهم على سبيل الفرض والتقدير فسوف ينهزمون، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين قال الإِمام الفخر: أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا فإِن المنافقين لا يخرجون معهم وقد كان الامر كذلك، فإِن بن النضير لما أُخرجوا لم يخرج معهم المنافقون وقُوتلوا كذلك فما نصروهم وأما قوله تعالى ﴿وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ﴾ لهذا على سبيل الفرض والتقدير أي بتقدير أنهم أرادوا نصرتهم لا بدَّ وأ، يتركوا تلك النصرة وينهزموا {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي
. ثم أخبر تعالى عن اليهود والمنافقين بأنهم جبناء من شدة الهلع، وأنهم لا يقدرون على قتال المسلمين إِلا إِذا كانوا متحصنِّين في قلاعهم وحصونهم فقال ﴿لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ﴾ أي لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين إِلا إِذا كانوا في قرى محصَّنة بالأسوار والخنادق ﴿أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ﴾ أي أو يكونوا من وراء الحيطان ليتستروا بها، لفرط جبنهم وهلعهم ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ أي عداوتهم فيما بينهم شديدة ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى﴾ أي تظنهم مجتمعين على أمرٍ ورأي في الصورة ذوي ألفةٍ واتحاد، وهم مختلفون غاية الاختلاف لأن أراءهم مختلفة، وقلوبهم متفرقة قال قتادة: أهل الباطل مختلفةٌ آراؤهم، مختلمفة أهواءهم، مختلفةٌ شهادتهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾ أي ذلك التفرق والشتات هو انتفاء عقولهم، فهم كالبهائم لا تتفق على حالة ﴿كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً﴾ أي صفةُ بني النضير فيما وقع لهم من الجلاء والذل، كصفةِ كفار مكة فيما وقع لهم يوم بدر من الهزيمة والأسرار قال البيضاوي: أي مثل اليهود كمثل أهل بدر، أو المهلكين من الأمم الماضية في زمان قريب ﴿ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ أي ذاقوا سوء عاقبة إِجرامهم في الدنيا ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي ولهم عذاب شديد موجعٌ في الآخرة ﴿كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر﴾ أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال، كمثل الشيطان الذي أغرى الإِنسان بالكفر ثم تخلى عنه وخذله ﴿فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ﴾ أي فلما كفر الإِنسان تبرأ منه الشيطان وقال ﴿إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين﴾ أي أخاف عذاب الله وانتقامه إن كفرتُ به قال في التسهيل: هذا مثلُ، مثَّل، مثَّل اللهُ للمنافقين الذين أغووا يهود بني النضير ثم خذلوهم بعد ذلك بالشيطان الذي يُغوي ابن آدم ثم يتبرأ منهن والمراد بالشيطان والإِنسان هنا الجنس، وقولُ الشيطان ﴿إني أَخَافُ الله﴾ كذبٌ منه ورياءٌ لأنه لو خاف الله لامتثل أمره وما عصاه ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي فكان عاقبة المنافقين واليهود، مثل عاقبة الشيطان والإِنسان، حيث صارا إِلى المؤبدة ﴿وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين﴾ أي وذلك عقاب كل ظالم فاجر، منتهكٍ لحرمات الله والدين.. ولمَّا ذكر صفات كلٍ من المنافقين واليهود وضرب لهم الأمثال، وعظ المؤمنين بموعظةٍ حسنة، تحذيراً من أن يكونوا مثل من تقدم ذكرهم فقال ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله﴾ أي خافوا الله واحذروا عقابه، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ
﴿وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر﴾ [النحل: ٧٧] والتنكير فيه للتفخيم والتهويل ﴿واتقوا﴾ كرَّره للتأكيد ولبيان منزلة التقوى التي هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله﴾ [النساء: ١٣١] ﴿الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ أي ولا تكونوا يا معشر المؤمنين كالذين تركوا ذكر الله ومراقبته وطاعته، فأنساهم حقوق أنفسهم والنظر لها بما يصلحها قال أبو حيان: وهذا من المجازاة على الذنب بالذنب، تركوا عبادة الله وامتثال أوامره، فعوقبوا على ذلك بأن أنساهم حظَّ أنفسهم، حتى لم يقدموا له خيراً ينفعها ﴿أولئك هُمُ الفاسقون﴾ أي أولئك هم الفجرة الخارجون عن طاعة الله ﴿لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة﴾ أي لا يتساوى يوم القيامة الأشقياء والسعداء، أهل النار وأهل الجنة في الفضل والرتبة ﴿أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون﴾ أي أصحاب الجنة هم الفائزون بالسعادة الأبدية في دار النعيم، وذلك هو الفوز العظيم.. ثم ذكر تعالى روعة القرآن، وتأثيره على الصمِّ الراسيات من الجبال فقال ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله﴾ أي لو خلقنا في الجبل عقلاً وتمييزاً كما خلقنا للإِنسان، وأنزلنا عليه هذا القرآن، بوعده ووعيده، لخشع وخضع وتشقق، خوفاً من الله تعالى، ومهابةً له وهذا تصويرٌ لعظمة قدر القرآن، وقوة تأثيره، وأنه بحيث لو خوطب به جبلٌ على شدته وصلابته لرأيته ذليلاً متصدعاً من خشية الله، والمراد منه توبيخ الإِنسان بأنه لا يتخشع عند تلاوة القرآن، بل يعرض عما فيه من عجائب وعظائم، فهذه الآية في بيان عظمة القرآن، ودناءة حال الإِنسان وقال في البحر: والغرضُ توبيخ الإِنسان على قوسة قلبه، وعدم تأثره بهذا الذي لو أُنزل على الجبلُ لتخشَّع وتصدَّع، وإِذا كان الجبل على عظمته وتصلبه يعرض له الخشوع والتصدع، فابن آدم كان أولى بذلك، لكنه على حقارته وضعفه لا يتأثر ﴿وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي وتلك الأمثال نفصّلها ونوضحها للناس لعلهم يتفكرون في آثار قدرة الله ووحدانتيه فيؤمنون.. ثم لما وصف القرآن بالرفعة والعظمة، أتبعه بشرح عظمة الله وجلاله فقال ﴿هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي هو جلَّ وعلا الإِله المعبود بحقٍ لا إِله ولا رب سواه ﴿عَالِمُ الغيب والشهادة﴾ أي عالم السر والعلن، يعلم ما غاب عن العباد مما لم يبصروه، وما شاهدوه وعلموه ﴿هُوَ الرحمن الرحيم﴾ أي هو تعالى ذو الرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة ﴿هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ كرر اللفظ اعتناءً بأمر التوحيد أي لا معبود ولا رب سواه ﴿الملك﴾ أي المالك لجميع المخلوقات، المتصرف في خلقه بالأمر والنهي، والإِيجاد والإِعلام ﴿القدوس﴾ أي المنزَّه عن القبائح وصفات الحوادث قال في التسهيل: القُدُّوسُ مشتقٌ من التقديس وهو التنزه عن صفات المخلوقين، وعن كل نقص وعيب، والصيغة
﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ [الكهف: ٤٩] وقال البيضاوي: أي ذو السلامة من كل نقص وآفة، وهو مصدر وصف به للمبالغة ﴿المؤمن﴾ أي المصدِّق لرسله بإِظهار المعجزات على أيديهم ﴿المهيمن﴾ أي الرقيبُ الحافظ لكل شيء وقال ابن عباس: الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء ﴿العزيز﴾ أي القادر القاهر الذي لا يُغلب ولا يناله ذل ﴿الجبار﴾ أي القهار العالي الجناب الذي يذل له من دونه قال ابن عباس: هو العظيم الذي إِذا أراد أمراً فعله، وجبروتُ الله عظمته ﴿المتكبر﴾ أي الذي له الكبرياء حقاً ولا تليق إِلا به وفي الحديث القدسي ﴿العظمة إِزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي﴾ قال الإِمام الفخر: واعلم أن المتكبر في وصفة الناس صفة ذم، لأن المتكبر هو الذي يُظهر من نفسه الكِبْر، وذلك نقصٌ في حق الخلق، لأنه ليس له كبر ولا علوٍ، بل ليس له إِلا الذلة والمسكنة، فإِذا أظهر العلو كان كاذباً فكان مذموماً في حق الناس، وأما الحقُّ سبحانه فله جميع أنواع العلو والكبرياء، فإِذا أظهر فقد أرشد العباد إِلى تعريف جلاله وعظمته وعلوه، فكان ذلك في غاية المدح في حقه جل وعلا، ولهذا قال في آخر الآية ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تنزَّه الله وتقدَّس في جلاله وعظمته، عمَّا يلحقون به من الشركاء والأنداد ﴿هُوَ الله الخالق البارىء﴾ أي هو جل وعلا الإِله الخالق لجميع الأشياء، الموجد لها من العدم، المنشىء لها بطريق الاختراع ﴿المصور﴾ أي المبدع للأشكال على حسب إرادته ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ﴾ [آل عمران: ٦] قال الخازن: أي الذي يخلق صورة الخلق على ما يريده ﴿لَهُ الأسمآء الحسنى﴾ أي له الأسماء الرفعية الدالة على محاسن المعاني ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض﴾ أي ينزهه تعالى عن صفات العجز والنقص جميع ما في الكون بلسان الحال أو المقال قال الصاوي: ختم السورة بالتسبيح كما ابتدأها به إشارة إلى أنها المقصود الأعظم، والمبدأ والنهاية، وأن غاية المعرفة بالله تنزيه عظمته عما صورته العقول ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ أي العزيز في ملكه، الحكيم في خلقه وصنعه.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - طباق السلب ﴿مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله﴾ [الحشر: ٢].
٢ - المقابلة اللطيفة بين ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ﴾ وبين ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧].
٣ - وضع الضمير بين المبتدأ والخبر لإِفادة الحصر ﴿أولئك هُمُ الصادقون﴾ [الحشر: ٨].
٤ - الاستعارة اللطيفة ﴿تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: ٩] شبَّه الإِيمان المتمكن في نفوسهم، بمنزلٍ ومستقريٍ للإِنسان نل فيه وتمكَّن منه حتى صار منزلاً له، وهو ومن لطيف الاستعارة.
٦ - الطباق بين جميعاً وشتى في قولهم ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى﴾.
٧ - التشبيه التمثيلي ﴿كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر..﴾ وجه الشبه منتزع من متعدد.
٨ - الكناية اللطيفة ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ كنَّى عن القيامة بالغد لقربها.
٩ - الطباق بين ﴿الغيب.. والشهادة﴾ وبين ﴿الجنة.. والنار﴾ الخ.
لطيفَة: أخرج الشيخان عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «جاء رجلٌ إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: إني مجهود أي اشتد بي الجوع والفاقة فأرسل إِلى بعض نسائه يسألها هل عند شيء؟ فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إِلا الماء، ثم أرسل إِلى أُخرى فقال مثل ذلك، وقلن كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: من يضيفه هذه الليلة ي رَحِمَهُ اللَّهُ؟ فقام رجل من الأنصار يقال له» أبو طلحة «فقال أنا يا رسول الله!! فانطلق به إِلى رحله أي إلى منزله فقا لها: هذا ضيف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا تدخري عنه شيئاً وأكرميه، فقالت: ما عندي إلا قوتُ الصبيان، فقال علّليهم بشيء ونوِّميهم، فإِذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل ثم قومي إِلى السراج كي تصلحيه فأطفئيه، فقعلت فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين، فلما أصبح غدا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما نظر إِليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تبسم، ثم قال: لقد عجب الله من صنيعكما الليلة بصاحبكما وأنزل الله ﴿وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ..﴾ » [الحشر: ٩] الآية.