ثم بعد أن أمرنا بالصدق في القول والعمل، أمرنا أن نكون صفا واحدا في قتال العدو. ومقتضى ذلك أننا نكون صفا واحدا في أمور الحياة كلها، فلا جهاد إلا مع انتظام الأحوال وصدق الأفعال والأقوال في جميع الأمور. فإذا انتظم داخلنا وصدَقنا في جميع معاملاتنا، وكنا يدا واحدة-يئس منا العدو وانتصرنا عليه.
ولذلك قال بعد أن حثنا على الصدق :﴿ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ﴾.
وسميت السورة " سورة الصف " أخذا من هذه الآية.
ثم وصمت السورة بني إسرائيل بالعناد والكفر على لسان رسولين كريمين هما موسى وعيسى عليهما السلام، إذ زاغوا عنادا، فختم الله على قلوبهم عندما كذبوا موسى، وجاء بعده عيسى مصدقا بالتوراة مبشرا بمحمد صلى الله عليه وسلم فكذبه قومه أيضا. فليكن لك يا محمد أسوة بمن سبق من الأنبياء الذين صبروا على إيذاء قومهم وتكذيبهم. إن الله قد قضى أن من قام بالحق منصور، ويا أيها المسلمون : إن الإيمان بالله والجهاد في سبيله هما الخلّتان اللتان تفوزون بهما في الدارين، إذ لا فوز في الدنيا والآخرة إلا بعلم وعمل. والإيمان أفضل ما في العلم، والجهاد أفضل ما في العمل. فلتكن فيكم الخصلتان والله يضمن لكم ثلاث خلال : غفران الذنوب، ودخول الجنة، والنصر المصحوب بالفتح القريب﴿ وبشر المؤمنين ﴾. لماذا لا تقتدون بحواريّي عيسى إذ قالوا :﴿ نحن أنصار الله ﴾، ونصرناهم على أعدائهم فأصبحوا ظاهرين عليهم. فإن أخلصتم في القول والعمل، وصدقتم في جهادكم ونصركم لدينكم-ينصركم الله ويُظهركم على عدوكم. وقد صدق الله وعده.
ﰡ
﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ ّ.
قال ابن عباس : كان أناس من المؤمنين يقولون : لَوَدِدْنا أن الله دلّنا على أحبِّ الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيّه أن أحب الأعمال إليه إيمانٌ بالله لا شكّ فيه، وجهادٌ في سبيله. فلما فُرضَ الجهادُ كره ذلك ناسٌ من المؤمنين وشقّ عليهم أمرُه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم بيّن الله شدة قبحِ مخالفة القول للعمل وأنه بلغ الغاية في بُغض الله له فقال :﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾.
إن أبغضَ شيء عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، فتحَلُّوا بالصدق، والوفاء بالوعد، وجميل الخصال تنتصروا.
ثم مدح الذين صدقوا وقاتلوا في سبيله بعزم وإخلاص فقال :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾.
إن الله تعالى يحب النظامَ في كل شيء، وهو يحبُّ الذين يقاتلون في سبيله منتظمين في أماكنهم كأنهم بنيانٌ متلاحمُ الأجزاء، كأنه قطعة واحدة، فالنظام أساسُ بنيان الأمة، وأن وعدَ الله حقّ، وقد وعد المجاهدين بالنصر إذا أخلصوا وصدَقوا وحافظوا على النظام. وقد سبقتنا الأممُ المتحضّرة بالنظام ودقة المحافظة عليه، في جميع أعمالها.
والجهادُ يبدأ في البيت بالتربية الإسلامية الصحيحة البعيدة عن التزمُّت والتعصب، وفي المدرسة وفي المزارع والحقول، والتجارة، وفي المصانع، وباكتساب العلوم وإجادتها وإتقان استعمالها كما أتقنها أسلافُنا الأولون. فالصناعة والعلم والزراعة من الأمور الضرورية في حياتنا، فإذا أتقنّاها باتَ يمكننا أن نجاهدَ جهادا حقيقيا، فلا جهادَ إلا بعلمٍ وعمل وتصنيع.
أزاغ الله قلوبهم : صرفها عن قبول الحق.
وبعد أن هذّب المؤمنين وعلّمهم أن يكونوا صادقين في أقوالهم وأفعالهم، وحضّهم على اتّباع النظام في الجهاد، ذَكَرَ أن حالهم يشبه حالَ موسى مع قومه حين ندبَهم للقتال فلم يطيعوه، بل آذوه أشدَّ الإيذاء، فوبّخهم الله على ذلك بقوله تعالى :
﴿ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِي.... ﴾.
اذكر يا محمد، لقومك حين قال موسى لقومه : يا قومي، لمَ تُؤذونني وتخالِفون أَمري، وأنتم تعلمون أنّي رسولُ الله إليكم ؟
فأصرّوا على المخالفة والعصيان.
فلما أصروا على الانحراف، صرف الله قلوبهم عن الهدى ﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين ﴾ الذين خرجوا عن طاعته.
﴿ فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾، فلمّا جاء الرسولُ الكريم أحمدُ، عليه صلوات الله وسلامه، بالأدلة الواضحة والمعجزات الباهرة، كذّبوه وقالوا : هذا الذي جئتنا به سحرٌ مبين.
ومثلُ هذه الآية قوله تعالى :﴿ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ].
وفي هذا تسلية لرسوله الكريم على ما أصابه من قومه ومن غيرهم من الجاحدين، وأن الأنبياء مِن قبله نالهم الأذى وكذّبهم أقوامهم. وفيه أيضا تهذيبٌ وتربية للمؤمنين بأن لا يؤذوا النبي بل يُخلِصوا في إيمانهم.
من أشدُّ ظلماً وعدواناً ممن اختلقَ على الله الكذب، وهو يدعو إلى الإسلام ! لقد دعاهم الرسولُ الكريم إلى نبذ الشِرك، ودعاهم إلى الإيمان بالله وحده فلم يؤمنوا، وأثاروا حوله الشكوك والافتراءات، ﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾ الّذين يفترون على الله الكذب.
بأفواههم : يعني بأكاذيبهم وأباطيلهم.
والله متم نوره : والله مظهرٌ دينَه، وقد صدق.
ثم بين الله تعالى أنهم حاولوا إبطالَ الدِين وردَّ المؤمنين عنه، لكنّهم لم يستطيعوا وخابوا في سعيهم فقال :﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾.
إن هؤلاء الجاحدين من قريشٍ، وبني إسرائيل في المدينة، والمنافقين معهم، حاولوا القضاءَ على الإسلام بالدسائس والأكاذيب فخذلَهم الله تعالى، وأظهر دِينه فهو الدينُ القيم الذي أنار الكون، وخاب سعيهم.
﴿ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون ﴾.
قراءات :
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص وخلف : متم نوره بضم الميم والإضافة بجر نوره. والباقون : متم نوره بتنوين متم، ونصب نوره.
ودين الحق : الدين الصحيح.
ثم بين الله تعالى أنه أرسل رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم بالقرآن الذي هدى الناس وأنار الكون، وبدينِ الإسلام الحق، ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون ﴾، وقد وردت هاتان الآيتان في سورة التوبة، مع تغيير بسيط في الألفاظ في الآية الأولى.
قراءات :
قرأ ابن عامر : ننجيكم من عذاب أليم بفتح النون الثانية وبتشديد الجيم. والباقون : ننجيكم بضم النون الأولى وإسكان الثانية وكسر الجيم دون تشديد.
﴿ وَبَشِّرِ المؤمنين ﴾ يا محمد، بهذه النعم، وأن الله تعالى نصَرَهم لأنهم آمنوا حقيقة، وجاهدوا جهاداً كبيرا ولم ينتظروا من أحدٍ أن يساعدَهم وهم قاعدون.. كما يفعل العرب والمسلمون اليوم.
أنصار الله : الناصرون لدينه.
ظاهرين : غالبين.
ثم أمر الله تعالى المؤمنين أن يعملوا ويجدّوا ويكونوا أنصار الله في كل حين، فلا يتخاذلوا ولا يتناحروا ويتحاربوا، وأن لا يتوكلوا فيقعدوا ويطلبوا النصر، بل عليهم أن يعملوا ويجاهدوا حتى يكتب الله لهم النصر. فقال :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله ﴾ فاستعدّوا وأعدّوا من قوتكم ما استطعتم، ولا تنتظروا من أعدائكم أن يحلّوا لكم قضيتكم وينصروكم.
وكيف ينصرونكم والبلاء منهم، وهم الذين يدعمون عدوكم ويمدّونه بالمال والسلاح ! ! .
وخلاصة القول : كونوا أنصار الله في جميع أعمالكم وأقوالكم واستعدّوا دائما، كما استجاب الحواريّون لعيسى.
﴿ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ﴾، وأنتم أيها المسلمون، في هذا العصر إذا كنتم تريدون أن تبقوا في بلادكم وأن تستردوا الأراضي المقدسة وما اغتُصب من وطنكم، على يد اليهود والدولة الكبرى حليفتهم والمؤيدة لهم، فجاهدوا جهادا حقيقيا في سبيل الله ينصركم الله، وتصبحوا ظاهرين غالبين.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : كونوا أنصارا لله بالتنوين. وقرأ الباقون : كونوا أنصار الله بالإضافة. وقرأ نافع وحده : من أنصاريَ إلى الله بفتح الياء. والباقون : أنصاري إلى الله.