ﰡ
التفسِير: ﴿ياأيها المزمل﴾ أي يا أيها المتلفف بثيابه، وأصله المتزمل وهو الذي تلفف وتغطى، وخطابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذا الوصف ﴿ياأيها المزمل﴾ فيه تأنيسٌ وملاطفة له عليه السلام قال السهيلي؛ إن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك معاتبته سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعلي حين غاضب فاطمة وقد نام ولصف بجنبه التراب قم أبا تراب، إشعاراً بأ، هـ ملاطفٌ له، وغير عاتب عليه، والفائدة الثانية، التنبيهُ لكل متزمل راقد ليله، لتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى، لأنه الاسم المشتق من الفعل، يشترك فيه المخاطب، وكل من اتصف بتلك
. ثم بعد أن أمره تعالى باطراح النوم، وقيام الليل، وتدبر القرآن وتفهمه، انتقل إلى بيان السبب في هذه الأوامر الثلاثة، ذات التكليف الصعب الشاق فقال ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ أي سننزل عليك يا محمد كلاماً عظيماً
. ثم بيَّن تعالى فضل إحياء الليل بالعبادة فقال ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الليل﴾ أي إن ساعات الليل وأوقاته التي فيها التفرغ والصفاء، وما ينشئه المرء ويحدثه من طاعةٍ وعابدة، يقوم لها من مضجعه بعد هدأةٍ من الليل ﴿هِيَ أَشَدُّ وَطْأً﴾ أي هي أشد على المصلي وأثقل من صلاة النهار، لأن الليل جعل للنوم والراحة، فقيامه على النفس أشد وأثقل، ومن شأن هذه الممارسة الصعبة أن تقوّي النفوس، وتشد العزائم، وتصلب الأبدان، ولا ريب أن مصاولة الجاحدين أعداء الله تحتاج إلى نفوس قوية، وأبدان صلبة ﴿وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾ أي أثبتُ وأبينُ قولاً، لأن الليل تهدأ فيه الأصوات، وتنقطع فيه الحركات، فتكون النفس أصفى، والذهن أجمع، فإن هدوَّ الصوت في الليل، وسكون البشر فيه، أعون للنفس على التدبر والتفطن، والتأمل في أسرار القرآن ومقاصده ﴿إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً﴾ أي إن لك في النهار تصرفاً وتقلباً، واشتغالاً طويلاً في شئونك، فاجعل ناشئة الليل لتهجدك وعبادتك قال في التسهيل: السبحُ هنا عبارة عن التصرف في الأعمال والأشغل والمعنى: يكفيك النهار للتصرف في أشغالك، وتفرغ بالليل لعبادة ربك.. وربع أن قرر الخطاب الإِلهي هذه المقدمات التي هي بمثابة تمهيدٍ وبساطٍ للدعوة، انتقل إلى أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتبليغ الدعوة، وتعليمه كيفية السير فيها عملاً، بعد أن مهدها له نظراً فقال ﴿واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ أي استعن على دعوتك بذكر الله ليلاً ونهاراً، وانقطع إليه انقطاعاً تاماً في عبادتك وتوكلك عليه، ولا تعتمد في
. ثم قال تعالى متوعداً ومتهدداً صناديد قريش ﴿وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة﴾ أي دعني يا محمد وهؤلاء المكذبين بآياتي، أصحاب الغنى، والتنعم في الدنيا، والترف والبطر فأنا أكفيك شرهم قال الصاوي: المعنى اتركني أنتقم منهم، ولا تشفع لهم، وهذا من مزيد التعظيم له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإِجلال قدره ﴿وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً﴾ أي وأمْهِلهمْ زمناً يسيراً حتى ينالوا العذاب الشديد قال المفسرون: أمهلهم الله تعالى إلى أن هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة، فلما خرج منها سلَّط عليهم السنين المجدبة وهو العذاب العام، ثم قتل صناديدهم ببدر وهو العذاب الخاص.. ثم وصف تعالى ما أعده لهم من العذاب في الآخرة فقال ﴿إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً﴾ أي إنَّ لهم عندنا في الآخرة قيوداً عظيمة ثقيلة يقيدون بها، وناراً مستعرة هي نار الجحيم يحرقون بها قال في التسهيل: الأنكال جمع نِكْل وهو القيد من الحديد، وروي أنها قيود سودٌ من نار ﴿وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ﴾ أي وطعاماً كريهاً غير سائق، يغصُّ به الإِنسان وهو الزقوم والضريع قال ابن عباس: شوك من نار يعترض في حلقوهم لا يخرج ولا ينزل ﴿وَعَذَاباً أَلِيماً﴾ أي وعذاباً وجيعاً مؤلماً، زيادة على ما ذكر من النكال والأغلال.. ثم ذكر تعالى وقت هذا العذاب فقال ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال﴾ أي يوم تتزلزل الأرض وتهتز بمن عليها اهتزازاً عنيفاً شديداً هي وسائر الجبال، وذلك يوم القيامة ﴿وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً﴾ أي وتصبح الجبال على صلابتها تلاً من الرمل سائلاً متناثراً، بعد أن كانت صلبة جامدة قال ابن كثير: أي تصير الجبال ككثبان الرمال، بعد ما كانت جحارة صماء، ثم إنها تُنسف نسفاً فلا يبقى منها شيء إلا ذهب كقوله تعالى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً﴾ [طه: ١٠٥١٠٧] أي لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع.. ذكر تعالى العذاب
. وبعد أن ذكر الله أخذه لفرعون، وأن ملكه وجبروته لم يدفعا عنه العذاب، عاد فذكَّر كفار مكة بالقيامة وأهوالها ليبيّن لهم أنهم لن يفلتوا من العذاب كما لم يفلت فرعون مما حدث له فقال ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً﴾ أي كيف لا تحذون وتخافون يا معشر قريش عذاب يوم هائل إن كفرتم بالله ولم تؤمنوا به؟ وكيف تأمنون ذلك اليوم الرهيب الذي يشيب فيه الوليد من شدة هوله، وفظاعة أمره؟ قال الطبري: وإنما تشيب الولدان من شدة هوله وكربه، وذلك حين يقول الله لآدم: أخرج من ذريتك بعث النار، من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعون، فيشيب هنالك كل وليد.. ثم زاد في وصفه وهوْله فقال ﴿السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ﴾ أي السماء متشققة ومتصدّعة من هول ذلك اليوم الرهيب العصيب ﴿كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً﴾ أي كان وعده تعالى بمجيء ذلك اليوم واقعاً لا محالة، لأن الله لا يخلف الميعاد ﴿إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ﴾ أي إن هذه الآيات المخوّفة، التي فيها القوارع والزواجر، عظةٌ وعبرةٌ للناس ﴿فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ أي فمن شاء من الغافلين الناسين، أن يستفيد من هذه التذكرة قبل فوات الأوان، فليسلك طريقاً موصلاً إلى الرحمن، بالإِيمان والطاعة، فالأسبابُ ميسرة، والسبل معبَّدة، قال المفسرون: والغرض الحضُّ على الإِيمان وطاعة الله عَزَّ وَجَلَّ، والترغيب في الأعمال الصالحة، لتبقى ذخراً في الآخرة.. ثم عادت الآيات الكريمة للحديث عمَّا بدأته في أول السورة من قيام الليل فقال تعالى ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ﴾ أي إن
﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: ١٧١٨] ﴿والله يُقَدِّرُ الليل والنهار﴾ أي والله جلا وعلا هو العالم بمقادير الليل والنهار، وأجزائهما وساعاتهما، لا يفوته علم ما تفعلون من قيام هذه الساعات في غلس الظلام ابتغاء رضوانه، وهو تعالى المدبّر لأمر الليل والنهار ﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ أي علم تعالى أنكم لن تطيقوا قيام الليل كله ولا معظمه، فرحمكم ورجع عليكم بالتخفيف قال الطبري: أي علم ربكم أن لن تطيقوا قيامه، فتاب عليكم بالتخفيف عنكم ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن﴾ أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، وإنما عبَّر عن الصلاة بالقراءة، لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة قال ابن عباس: سقط عن أصحاب رسول الله قيام الليل وصارت تطوعاً، وبقي ذلك فرضاً على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.. ثم بين تعالى الحكمة في هذا التخفيف فقال ﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى﴾ أي علم تعالى أنه سيوجد فيكم من يعجزه المرضُ عن قيام الليل، فخفف عنكم رحمة بكم ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله﴾ أي وقوم آخرون يسافرون في البلاد للتجارة، يطلبون الرزق وكسب المال الحلال ﴿وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي وقوم آخرون وهم الغزاة المجاهدون، يجاهدون في سبيل الله لإِعلاء كلمته ونشر دينه، وكل من هذه الفرق الثلاثة يشقُّ عليهم قيام الليل، فلذلك خفف الله عنهم، ذكر تعالى في هذه الآية الأعذار التي تكون للعباد تمنعهم من قيام الليل، فمنها المرض، ومنها السفر للتجارة، ومنها الجهاد في سبيل الله، ثم كرر الأمر بقراءة ما تيسر من القرآن تأكيداً للتخفيف عنهم قال الإِمام الفخر: أما المرضى فإنهم لا يمكنهم الاشتغال بالتهجد لمرضهم، وأما المسافرون والمجاهدون فيهم مشغولون في النهار بالأعمال الشاقة، فلو لم يناموا في الليل لتواليت أسباب المشقة عليهم، فلذلك خفف الله عنهم وصار وجوب التهجد منسوخاً في حقهم ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ أي فصلوا ما تيسَّر لكم من صلاة الليل، واقرءوا في صلاتكم ما تيسر من القرآن ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ أي وأدوا الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل، والزكاة الواجبة عليكم إلى مستحقيها قال المفسرون: قلَّما يُذكر الأمر بالصلاة في القرآن، إلا ويُقرن معه الأمر بالزكاة، فإن الصلاة عماد الدين بين العبد وربه، والزكاة عماد الدين بينه وبين إِخوانه، والصلاة أعظم العبادات البدنية، والزكاة أعظم العبادات المالية ﴿وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ أي تصدقوا في
. ختم تعالى السورة بإِرشاد المنفقين المحسنين، إلى أن يطلبوا من الله الصفح والعفو، إذ ربما كانوا لم يخلصوا النية في الإِنفاق، أو لم يحسنوا العمل في الإِقراض، فيضعوا النفقة في غير مواضعها، أو ينفقوها فيما لهم فيه غرض وشهوة، وهو ختم يتناسق مع موضوع الإِنفاق، فسبحان منزل القرآن بأوضح بيان!!
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين ﴿انقص مِنْهُ.. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ وبين ﴿المشرق.. والمغرب﴾ وبين ﴿الليل والنهار﴾.
٢ - جناس الاشتقاق ﴿أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً﴾.
٣ - تأكيد الفعل بالمصدر مثل ﴿رَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً﴾ ﴿رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ ﴿فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً﴾ زيادة في البيان والإِيضاح.
٤ - الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً﴾ ولو جرى على الأصل لقال إنا أرسلنا إليهم، والغرض من الالتفات التقريع والتوبيخ على عدم الإِيمان.
٥ - المجاز المرسل ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن﴾ أراد به الصلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل، لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة.
٦ - ذكر العام بعد الخاص ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ﴾ عمَّم بعد ذكر الصلاة، والزكاة، والإِنفاق ليعم جميع الصالحات.
٧ - الاستعارة التبعية ﴿وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ شبَّه الإِحسان إلى الفقراء والمساكين بإقراض رب العالمين، وهو من لطيف الاستعارة.
٨ - السجع المرصَّع مثل ﴿إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً﴾ الخ.