ﰡ
(١) - أَلِفْ لاَمْ رَا وَتُقْرَأُ مُقَطَّعَةً. اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، هذِهِ هِيَ آيَاتُ القُرْآنِ المُحْكَمِ الذِي أَحْكَمَهُ اللهُ فِي أُسْلُوبِهِ وَمَعَانِيهِ، وَبَيَّنَهُ لِعِبَادِهِ.
(٢) - يَسْتَنْكِرُ اللهُ تَعَالَى تَعَجُّبَ الكُفَّارِ مِنْ إِرْسَالِ المُرْسَلِينَ مِنَ البَشَرِ، فَيَقُولُ: عَجِيبٌ أَمْرُ هَؤُلاءِ الكُفَّارِ أَنْ يُنْكِرُوا إِنْزَالَ الوَحْيِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَأَنْ يَعُدُّوا ذَلِكَ أَمْراً عَجِيباً يَتَفَكَّهُونَ بِهِ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ مُحَمَّداً ﷺ رَسُولاً أَنْكَرَتِ العَرَبُ ذَلِكَ، أَوْ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: اللهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَراً مِثْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً....).
وَمَهَمَّةِ الرَّسُولِ هِيَ أَنْ يُنْذِرَ الكَافِرِينَ بِعَذَابِ جَهَنَّمَ، إِذَا اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَأَنْ يُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ بِمَا قَدَّمُوهُ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: مِنْ صَوْمٍ وَصَلاَةٍ وَتَسْبِيحِ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَجِهَادٍ لِلْكَافِرِينَ...
أَمَّا الكَافِرُونَ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّسُولَ لَسَاحِرٌ ظَاهِرُ الِّسْحِر (مُبِينٌ)، يُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ، وَيَجْذِبُها إِلى الإِيمَانِ بِاللهِ، وَاحْتِقَارِ الحَيَاةِ وَلَذَّاتِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهُمُ الكَاذِبُونَ فِي ذَلِكَ.
مُبِينٌ - ظَاهِرٌ وَاضِحٌ.
قَدَمَ صِدْقٍ - سَابِقَةَ فَضْلٍ وَمَنْزِلَةً رَفِيعَةً.
(٣) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ جَمِيعاً، وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا فِيهِما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَلَمَّا أَتَمَّ خَلْقَ الوُجُودِ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَجَلاَلِهِ، يُدَّبِرُ أَمْرَ الكَوْنِ وَالخَلاَئِقِ وَلاَ يُشْغِلُهُ شَأْنٌ مِنْ شَأْنٍ، وَلاَ يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ المُلِحِّينَ، وَلاَ يُلْهِيهِ الكَبِيرُ عَنِ الصَّغِيرِ، وَلاَ يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ رَبُّكُمْ فَأَفْرِدُوهُ بِالعِبَادَةِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلاَ يُسْتَنْكَرُ مِنْ رَبِّ هَذا الخَلْقِ، وَمُدَبِّرِهِ أَنْ يُفِيضَ مَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ عَلَى مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ، يَهْدِيهِمْ بِهِ لِمَا فِيهِ صَلاَحُهُمْ وَكَمَالُهُمْ، أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ يَا أَيُّها المُشْرِكُونَ فِي أَمْرِكُمْ؟ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَ اللهِ آلِهَةً غَيْرَهُ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ المُتَفَرِّدُ بِالخَلْقِ؟
اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ - اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ.
(٤) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ الخَلاَّقُ العَظِيمُ، وَأَنَّ الخَلاَئِقَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لاَ يَتْرُكُ مِنْهُمْ أَحَداً حَتَّى يُعِيدَهُ كَمَا كَانَ بَدَأَهُ، وَهَذَا وَعْدٌ مِنْهُ حَقٌّ لاَ مِرْيَةَ فِيهِ، وَلاَ شَكَّ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا بَدَأَ الْخَلْقَ أَوَّلَ مَرَّةٍ يُعِيدُهُ. وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ يَجْزِي الَّذِينَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، مِنَ المُؤْمِنِينَ، بِالعَدْلِ (بِالقِسْطِ) وَيُوَفِّيهِمْ جَزَاءَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، كَمَا يَجْزِي الذِينَ كَفَرُوا عَلَى كُفْرِهِمْ بِعَدْلِهِ التَّامِّ، وَسَيَكُونُ شَرَابُهُمْ مِنْ مَاءٍ شَدِيدِ الحَرَارَةِ، وَسَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً.
حَمِيمٍ - مَاءٍ بَالِغِ الغَايَةِ فِي شِدَّةِ الحَرَارَةِ.
(٥) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عُمَّا خَلَقَ مِنَ الآيَاتِ الدَّالَةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً، وَجَعَلَ القَمَرَ نُوراً، وَهَكَذا فَاوَتَ تَعَالَى بَيْنَ ضِيَاءِ الشَّمْسِ، وَبَيْنَ نُورِ القَمَرِ، وَقَدَّرَ لِلقَمَرِ مَنَازِلَ (وَهِيَ ٢٨ مَنْزِلاً)، لِيَعْرِفَ النَّاسُ عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ، وَلَمْ يَخْلُقِ اللهُ ذَلِكَ الخَلْقَ عَبَثاً وَبَاطِلاً وَتَسْلِيَةً، وَإِنَّمَا خَلَقَهُ بِالْحَقِّ، وَهُوَ تَعَالَى يُفَصِّلُ الآيَاتِ الدَّالَةِ عَلَى أُلُوهِيَّتِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ لِكَيْ يَتَدَبَّرَهَا الخَلْقُ.
(وَقِيلَ إِنَّ الضَّوْءَ مَا كَانَ مِنْ ذَاتِ الشَّيءِ كَالشَّمْسِ وَالنَّارِ، وَالنُّورِ مَا كَانَ مُكْتَسَباً مِنْ خَارِجِ الشَّيءِ كَالقَمَرِ يَسْتَمِدُّ نُورَهُ مِنْ ضُوءِ الشَّمْسِ).
قَدَّرَهُ مَنَازِلَ - صَيَّرَ القَمَرَ ذَا مَنَازِلَ يَسِيرُ فِيهَا.
(٦) - إِنَّ فِي تَعَاقُبِ الليْلِ وَالنَّهَارِ، إِذَا ذَهَبَ هَذا جَاءَ ذَاكَ، لاَ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، وَفِي تَقَارُضِهِمَا الطُّولَ وَالقِصَرَ، يَطُولُ هذا وَيَقْصُرُ ذَاكَ، وَفِيمَا خَلَقَ اللهُ فِي هَذا الكَوْنِ العَظِيمِ الوَاسِعِ... لَدَلاَئلِ َعَظِيمَةً عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَحِكْمَتِهِ لِمَنْ يَخْشَوْنَ اللهَ، وَيَخَافُونَ سُخْطَهُ وَعِقَابَهُ (يَتَّقُونَ).
(٧) - إِنَّ الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالبَعْثِ وَلِقَاءِ اللهِ فِي الآخِرَةِ، وَاعْتَقَدُوا وَاهِمِينَ أَنَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا هِيَ مُنْتَهَاهُمْ، وَلَيْسَ بَعْدَهَا حَيَاةٌ، فَاطْمَأَنُّوا بِهَا، وَلَم يَعْمَلُوا لِمَا بَعْدَهَا، وَغَفَلُوا عَنْ آيَاتِ اللهِ الدَّالَةِ عَلَى البَعْثِ وَالحِسَابِ...
(٨) - فَهَؤُلاَءِ سَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لِيَصْلِيَهُمْ بِنِيرَانِهَا، وَسَيَجْعَلُهَا مَأْوًى لَهُمْ وَمَنْزِلاً، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَعَلَى مَا اكْتَسَبُوا فِي دُنْيَاهُمْ مِنَ المَعَاصِي وَالآثَامِ وَالخَطَايَا وَالإِجْرَامِ.
(٩) - أَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَاتَّقَوْهُ، وَتَبَصَّرُوا بِمَا خَلَقَ اللهُ فِي الكَوْنِ، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ إِيمَاناً وَيَقِيناً، وَعَمِلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ مِنْ صَالِحَاتِ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ وَأَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَاتِ سَتَكُونُ لَهُمْ نُوراً يَهْدِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى طَرِيقِ الجَنَّةِ التِي وَعَدَهُمْ بِهَا رَبُّهُمْ، وَهِيَ جَنَّةُ رِفهٍ وَنَعِيمٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ فِي جَنَبَاتِهَا.
(١٠) - يَبْدَؤُونَ كُلَّ دُعَاءٍ وَثَنَاءٍ عَلَى اللهِ بِكَلِمَةِ (سُبْحَانَكَ الَّلهُمَّ) أَيْ تَقْدِيساً وَتَنْزِيهاً لَكَ يَا رَبِّ. وَيُجِيبُهُمْ رَبُّهُمْ بِكَلِمَةِ (سَلامٌ) وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى السَّلاَمَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَتُحَيِّيهِمُ المَلاَئِكَةُ بِقَوْلِهِمْ (سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)، وَيُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِكَلِمَةِ سَلاَمٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً﴾ وَفِي آخِرِ كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، مِنْ دُعَاءٍ يُنَاجُونَ بِهِ رَبَّهُمْ، أَوْ مَطْلَبٍ يَطْلُبُونَهُ مِنْ إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ يَقُولُونَ: (الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) (وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ إِذَا قَالُوا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ أَتَاهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ").
دَعْوَاهُمْ - دُعَاؤُهُمْ.
(١١) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ حِلْمِهِ وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ، وَيَقُولُ إِنَّهُ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِذَا دَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ بِالشَّرِّ فِي حَاَل ضَجَرِهِمْ وَغَضَبِهِمْ، لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لاَ يُرِيدُونَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ لُطْفاً مِنْهُ، وَرَحْمَةً بِهِمْ.
أَمَّا إِذَا دَعَوا لأَنْفُسِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ بِالخَيْرِ وَالبَرَكَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ. وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوِ اسْتَجَابَ لَهُمْ فِي كُلِّ دَعْوَةٍ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ لأَهْلَكَهُمْ. وَيَتْرُكُ اللهُ تَعَالَى الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَلاَ يَرْجُونَ لِقَاءَهُ فِي الآخِرَةِ، سَادِرِينَ فِي غَيِّهِمْ، مُسْتَمِرِّينَ فِي طُغْيَانِهِمْ، مُتَحَيِّرِينَ لاَ يَهْتَدُونَ إِلَى الخُرُوجِ مِمَّا هُمْ فِيهِ، حَتَّى يَجِيءَ اليَوْمُ الذِي وَعَدَهُمُ اللهُ بِهِ.
(وَقَدْ يَكُونُ المَعْنَى: لَوْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَجِّلُ لِلنَّاسِ إِجَابَةَ دُعَائِهِمْ وَاسْتِعْجَالِهِمْ فِي الشَّرِّ فِيمَا فِيهِ مَضَرَّتُهُمْ، فِي النَّفْسِ وَالمَالِ وَالوَلَدِ - كَمَا اسْتَعْجَلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللهِ بِالعَذَابِ الذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ - كَاسْتِعْجَالِهِمْ بِالخَيْرِ الذِي يَطْلُبُونَهُ بِدُعَائِهِمْ اللهَ، لَقَضَى إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ قَبْلَ وَقْتِهِ الطَّبِيعِيِّ المُحَدَّدِ لَهُمْ، كَمَا أَهْلَكَ الذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، وَاسْتَعْجَلُوا بِالعَذَابِ مِنْ قَبْلِهِمْ).
فِي طُغْيَانِهِمْ - فِي تَجَاوُزِهِم الحَدَّ فِي الكُفْرِ.
يَعْمَهُونَ - يَعْمُونَ عَنِ الرُّشْدِ، أَوْ يَتَحَيَّرُونَ فِي الضَّلاَلَةِ.
لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ - لأَهْلَكَهُمْ وَأَبَادَهُمْ.
(١٢) - إِنَّ الإِنْسَانَ كَثِيرُ التَّضَجُّرِ وَالقَلَقِ إِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ وَالشَّرُّ، فَإِذا مَسَّهُ السُّوءُ أَكْثَرَ مِنَ التَّضَرُّعِ إِلَى اللهِ، وَالدُّعَاءِ لَهُ، رَاجِياً كَشْفَ مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، وَهُوَ قَاعِدٌ، وَهُوَ قَائِمٌ، وَفِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ. فَإِذَا فَرَّجَ اللهُ كَرْبَهُ وَشِدَّتَهُ أَعْرَضَ وَنَأَى، وَذَهَبَ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَدْعُ اللهَ رَبَّهُ.
وَيَذُمُّ اللهُ تَعَالَى مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُمْ مِنَ النَّاسِ، وَأَسْمَاهُمْ بِالمُسْرِفِينَ. وَقَدْ حَسَّنَ مَسْلَكُ هَؤُلاَءِ الدَّاعِينَ للهِ فِي الشِّدَّةِ، وَالنَّاسِينَ لَهُ فِي الرَّخَاءِ، لِمُشْرِكِي مَكَّةَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنْ أَعْمَالِ السُّوءِ وَالشِّرْكِ، حَتَّى إِنَّهُمْ اسْتَعْجَلُوا بِالعَذَابِ الذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَمِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِ الصَّبْرُ عَلَى الشَّدَائِدِ، وَالشُّكْرُ عَلَى اليُسْرِ، وَفِي كِلاَ الحَالَيْنِ خَيْرٌ لَهُ.
الضُّرُّ - الجُهْدُ وَالبَلاَءُ وَالشِّدَّةُ.
دَعَانَا لِجَنْبِهِ - اسْتَغَاثَ بِنَا لِنَكْشِفَ مَا نَزَلَ بِهِ وَهُوَ مُلْقىً إِلَى جَنْبِهِ.
مَرَّ - اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَلَمْ يَتَّعِظْ.
(١٣) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَهْلَ مَكَّةَ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنَ العَذَابِ فِي الأَقْوَامِ السَّابِقَةِ (القُرُونِ) الذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنَ البَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَكَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ لأَنَّهُمْ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا لَوْ تَرَكَهُمُ اللهُ، فَاعْتَبِرُوا يَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَكَمَا أَهْلَكَ اللهُ مَنْ قَبْلَكُمْ، كَذَلِكَ يَفْعَلُ اللهُ بِالمُجْرِمِينَ مِنْكُمْ.
القَرْنُ - القَوْمُ المُقْتَرِنُونَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ.
ظَلَمُوا - بِالكُفْرِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ.
(١٤) - ثُمَّ اسْتَخْلَفَكُمْ اللهُ تَعَالَى فِي الأَرْضِ، بَعْدَ أَنْ أَهْلَكَ السَّابِقِينَ، وَذَلِكَ بِمَا آتَاكُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ، فِي الدِّينِ وَالدُّنْيا، لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَكُونُ أَعْمَالُكُمْ فِي خِلاَفَتِكُمْ، وَيَظْهَرُ مَا تَخْتَارُونَهُ لأَنْفُسِكُمْ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ عِصْيَانٍ بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُمْ مَا حَلَّ بِمَنْ سَبَقَكُمْ.
وَقَالَ قُتَادَةُ: صَدَقَ اللهُ رَبُّنا، مَا جَعَلَنَا خُلَفَاءَ إِلاَّ لِيَنْظُرَ إِلَى أَعْمَالِنَا، فَأَرُوا اللهَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ خَيْراً بِالليْلِ أَو النَّهَارِ. وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الخِلاَفَةَ مَنُوطَةٌ بِالأَعْمَالِ لِكَيْلا يَغْتَرَّ النَّاسُ بِمَا سَيَنَالُونَهُ، وَيَظُنُّوا أَنَّهُ بَاقٍ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ بِمَنْجَاةٍ مِنْ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ فِي الظَّالِمِينَ.
(١٥) - كَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ إِذَا قَرَأَ النَّبِيُّ ﷺ القُرْآنَ عَلَيْهِمْ قَالُوا لَهُ: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ، وَضَعْ قُرْآناً غَيْرَهُ لَيْسَ فِيهِ مَا لاَ نُؤْمِنُ بِهِ مِنَ البَعْثِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ، وَلاَ مَا نَكْرَهُهُ مِنْ ذَمٍّ لآلِهَتِنَا. وَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ آمِراً نَبِيَّهُ ﷺ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنَّنِي عَبْدٌ مَأْمُورٌ، وَرَسُولٌ أُبَلِّغُ مَا يَأْمُرُنِي بِهِ رَبِّي، وَأتَّبِعُ أَوَامِرَهُ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِي، وَلاَ مِمَّا تُجِيزُهُ لِي رِسَالَتِي، أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وَإِنِّي أَخَافُ، إِنْ أَنَا عَصَيْتُ أَمْرَهُ، عَذَابَ يَوْمٍ شَدِيدِ الخَطَرِ وَالهَوْلِ.
(١٦) - وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّنِي إِنَّمَا جِئْتُكُمْ بِهَذا القُرْآنِ بِإِذِنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَوُ شَاءَ اللهُ أَنْ لاَ أَتْلُوَهُ عَلَيْكُمْ مَا تَلَوْتُهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ لاَ يُعْلِمَكُمْ بِهِ بِإِرْسَالِي إِلَيْكُمْ، لَمَا أَرْسَلَنِي، وَلَمَا أَدْرَاكُمْ بِهِ، وَلكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْكُمْ بِهَذَا العِلْمِ لِتَهْتَدُوا، وَتَكُونُوا خَلائِفَ فِي الأَرْضِ. فَقَدْ عِشْتُ فِيكُمْ وَبَيْنَكُمْ سِنِينَ طَوِيلَةً مِنْ عُمْرِي لَمْ أُبَلِّغْكُمْ خِلاَلَهَا شَيئاً، لأنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَوْحَى إلَيَّ بِرِسَالَتِهِ، فَلَمَّا أَوْحَى إِلَيَّ، وَأَمَرَنِي بِأَنْ أُبَلِّغَكُمْ أَوَامِرَهُ فَعَلْتُ، أَلَيْسَ لَكُمْ عُقُولٌ تُمَيِّزُونَ بِهَا بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ؟
(وَلَمَّا سَأَلَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ عَنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ لَهُ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لاَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبَ لِيَكْذِبَ عَلَى اللهِ).
لاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ - لاَ أَعْلَمَكُمْ بِهِ بِوَاسِطَتِي.
(١٧) - لاَ أَحَدَ أَكْثَرُ ظُلْماً، وَلاَ أَشَدُّ إِجْرَاماً مِنْ رَجُلٍ تَقَوَّلَ عَلَى اللهِ، وَكَذَبَ عَلَيْهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَلاَ أَظْلَمَ مِنْ رَجُلٍ كَفَرَ بِاللهِ، وَكَذَّبَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ، وَبِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رُسُلِهِ، وَلاَ يُفْلِحُ المُجْرِمُونَ الذِينَ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا كَافِرِينَ.
لاَ يُفْلِحُ المُجْرِمُونَ - لاَ يَفُوزُونَ بِمَطْلُوبٍ.
(١٨) - وَهَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ الذِينَ يَعْبُدُونَ آلِهَةً غَيْرَ اللهِ هِيَ فِي الحَقِيقَةِ أَصْنَامٌ مِنْ حِجَارَةٍ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَهَا لِتَكُونَ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ، اسْأَلْهُمْ يَا مُحَمَّدُ: هَلْ تُخْبِرُونَ اللهَ بِشَرِيكٍ لَهُ لاَ يَعْلَمُ اللهُ لَهُ وُجُوداً فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ مَلاَئِكَةٍ، وَفِي الأَرْضِ مِنْ خَوَاصِّ خَلْقِه؟ وَلَوْ كَانَ لَهُ شُفَعَاءَ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ لَكَانَ هُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْكُمْ، إِذْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ.
ثُمَّ نَزَّهَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةَ عَنْ شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ.
سُبْحَانَهُ - تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ اسْمُهُ تَعَالَى.
(١٩) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الشِّرْكَ حَادِثٌ فِي النَّاسِ، كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّ النَّاسَ كَانُوا جَمِيعاً أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلاَمِ، ثُمَّ وَقَعَ الاخْتِلاَفُ بَيْنَ النَّاسِ، وَعُبِدَتِ الأَصْنَامُ وَالأَوْثَانُ وَالأَنْدَادُ، فَبَعَثَ اللهُ الرُّسُلَ بِآيَاتِهِ وَبِيِّنَاتِهِ وَحُجَجِهِ البَالِغَةِ، وَبَرَاهِينِهِ الدَّامِغَةِ، لِهِدَايَتِهِمْ وَإِزَالَةِ الاخْتِلاَفِ بَيْنَهُمْ، وَأَيَّدَ الرُّسُلَ بِكُتُبِهِ وَوَحْيهِ، وَلَوْلاَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ أَحَداً إِلاَّ بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَجَّلَ الخَلْقَ إِلَى أَجَلٍ مَوْعُودٍ، هُوَ يَوْمُ القِيَامَةِ، لَقَضَى بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَأَسْعَدَ المُؤْمِنِينَ، وَأَعْنَتَ الكَافِرِينَ.
(٢٠) - وَيَقُولُ الكُافِرُونَ: لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ آيَةٌ وَمُعْجِزَةٌ مِنْ رَبِّهِ، كَمَا أُعْطِيَ المُرْسَلُونَ مِنْ قَبْلِهِ، كَأَنْ يُحَوِّلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَباً، أَوْ يُزِيحَ عَنْهُمْ جِبَالَ مَكَّةَ، وَيَجْعَلَ مَكَانَهَا بَسَاتِينَ وَأَنْهَاراً، أَوْغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ اللهُ. فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ الغَيْبَ وَالعَوَاقِبَ فِي الأُمُورِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ حَتَّى تَرَوا مَا سَأَلْتُمْ، فَانْتَظِرُوا حُكْمَ اللهِ فِيَّ وَفِيكُمْ. وَلَوْ عَلِمَ اللهُ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اسْتِرْشَاداً وَتَثْبِيتاً لأَجَابَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا، وَلَكِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَسْأَلُونَ عِنَاداُ، فَلَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَا طَلَبُوهُ، ثُمَّ اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ لأَهْلَكَهُمْ، كَمَا أَهْلَكَ مَنْ كَذَّبَ قَبْلَهُمْ، وَهُوَ تَعَالَى لاَ يُرِيدُ إِهْلاَكَهُمْ لأَمْرٍ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ.
(٢١) - وَإِذَا أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُشْرِكِينَ بِالفَرَجِ بَعْدَ الكَرْبِ، وَبِالرَّخَاءِ بَعْدَ شِدَّةٍ أَصَابَتْهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.. ، لَمْ يَشْكُرُوا اللهَ عَلَى أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُمْ الضُّرَّ وَالبَلاَءَ، وَبَادَرُوا إِلَى المَكْرِ السَّيِّىءِ، وَقَابَلُوا فَضْلَ اللهِ بِالإِمْعَانِ فِي الكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللهِ، فَإِذَا كَانَتِ الرَّحْمَةُ مَطَراً أَحْيَا الأَرْضَ، وَأَنْبَتَ الزَّرْعَ بَعْدَ جَدْبٍ وَقَحْطٍ، نَسَبُوا ذَلِكَ إِلَى الكَوَاكِبِ وَالأَنْوَاءِ وَالأَصْنَامِ، وَإِذَا كَانَتْ نَجَاةً مِنْ هَلَكَةٍ، وَأَعْوَزَهُمْ مَعْرِفَةُ عِلَلِهَا وَأَسْبَابِهَا، عَزَوْا ذَلِكَ إِلَى المُصَادَفَةِ، وَإِذَا كَانَ سَبَبُهَا دُعَاءَ نَبِيٍّ أَنْكَرُوا إِكْرَامَ اللهِ لِنَبِيِّهِ.
فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ اللهَ أَسْرَعَ مِنْكُمْ مَكْراً، وَأَشَدَّ اسْتِدْرَاكاً، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِهْلاَكِكُمْ، وَعَلَى تَعْجِيلِ العُقُوبَةِ لَكُمْ، وَلَكِنَّ كَلِمَتَهُ تَعَالَى سَبَقَتْ بِتَأْجِيلِ حِسَابِ النَّاسِ حَتَّى يَوْمَ الحَشْرِ، الذِي لاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ مَوْعِدَهُ.
وَمَلائِكَةُ الرَّحْمَنِ المُوكَّلُونَ بِإحْصَاءِ أَعْمَالِ العِبَادِ وَتَسْجِيلِهَا عَلَيْهِمْ، يُسَجِّلُونَ مَا تَمْكُرُونَ، وَسَيُحَاسِبُكُمُ اللهُ عَلَى أَعْمَالِكُمْ جَمِيعَها.
ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ - نَائِبَةٍ أَصَابَتْهُمْ كَالجُوعِ وَالقَحْطِ.
لَهُمْ مَكْرٌ - دَفْعٌ وَطَعْنٌ وَاسْتِهْزَاءٌ.
اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً - أَسْرَعُ جَزَاءً وَعُقُوبَةً.
(٢٢) - وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي وَهَبَ النَّاسَ القُدْرَةَ عَلَى السَّيْرِ فِي البَرِّ مُشَاةً وَرُكْبَاناً، وَفِي البَحْرِ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ السُّفُنِ وَالمَرَاكِبِ (الفُلْكِ)، وَهُوَ الذِي يَحْفَظُهُمْ وَيَكْلَؤُهُمْ بِعِنَايَتِهِ وَرِعَايَتِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا فِي السَّفِينَةِ، وَجَرَتْ بِهِمْ إِلَى غَايَتِهَا بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ مُوَاتِيَةٍ، وَفَرِحُوا بِسُرْعَةِ سَيْرِهَا رَافِلِينَ سُعَدَاءَ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتِ السَّفِينَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ عَاصِفَةٌ، وَأَحَاطَ بِهِمُ المَوْجُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ هَالِكُونَ، فَأَخَذُوا يَدْعُونَ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لاَ يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئاً، وَلاَ يَدْعُونَ مَعَهُ صَنَماً وَلاَ وَثَناً، وَيُفْرِدُونَهُ بِالدُّعَاءِ وَالابْتِهَالِ، وَيَقُولُونَ يَا رَبِّ إِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنَ الحَالِ التِي نَحْنُ فِيها لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَلَنَكُونَنَّ مِنَ المُخْلِصِينَ فِي عِبَادَتِكَ، وَلَنْ نُشْرِكَ بِكَ أَحَداً، كَمَا أَفْرَدْنَاكَ بِالدُّعَاءِ.
رِيحٌ عَاصِفٌ - رِيحٌ شَدِيدَةُ الهُبُوبِ.
أُحِيطَ بِهِم - أَحْدَقَ بِهِم الهَلاَكُ.
(٢٣) - فَلَمَّا أَنْجَاهُمُ اللهُ تَعَالَى مِمَّا نَزَلَ بِهِمْ، مِنَ الشِّدَّةِ وَالكُرْبَةِ، نَقَضُوا عَهْدَهُمْ، وَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ، وَمُبَادَرَةِ النَّاسِ بِالظُّلْمِ وَالبَغْيِ وَالاعْتِدَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَيُخَاطِبُ تَعَالَى هَؤُلاَءِ المُفْسِدِينَ الطُّغَاةَ وَيَقُولُ لَهُمْ: يَا أَيُّهَا الغَافِلُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ أَمَا كَفَاكُمْ بَغْياً عَلَى المُسْتَضْعَفِينَ مِنْكُمْ اغْتِرَاراً بِقُوَّتِكُمْ؟ إِنَّكُمْ فِي الحَقِيقَةِ إِنَّمَا تَبْغُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، لأنَّ عَاقِبَةَ بَغْيِكُمْ وَوَبَالَهُ إِنَّمَا يَعُودَانِ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّكُمْ إِنَّمَا تَتَمَتَّعُونَ بِبَغِيِكُمْ مُدَّةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الزَائِلَةِ، وَهِيَ تَنْقَضِي سَرِيعاً، وَالعِقَابُ عَلَى هَذا البَغْيِ بَاقٍ ثُمَّ تَصِيرُونَ إِلَى اللهِ فَيُخْبِرُكُمْ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ، وَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا أَوْفَى الجَزَاءِ. فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمِدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ.
يَبْغُونَ - يَعْتَدُونَ وَيُفْسِدُونَ.
(٢٤) - ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي جَمَالِهَا وَبَهْجَتِهَا، ثُمَّ فِي سُرْعَةِ فَنَائِهَا، بِالنَّبَاتِ الذِي أَخْرَجَهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الأَرْضِ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهَا مِنَ المَطَرِ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا، وَمِمَّا تَأْكُلُ الحَيَوَانَاتُ (الأَنْعَامُ) حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زِينَتَهَا الفَانِيَةَ (زُخْرُفَها) وَازَّيَّنَتْ بِمَا خَرَجَ فِي رُبَاهَا مِنْ زُهُورٍ نَضِرَةٍ مُخْتَلِفَةِ الأَشْكَالِ وَالأَلْوَانِ، كَمَا تَتَزَيَّنُ العَرُوسُ لَيْلَةَ زَفَافِهَا، وَظَنَّ أَهْلُهَا، الذِينَ زَرَعُوهَا وَغَرَسُوهَا، أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى جَزَازِهَا وَحَصَادِهَا، وَجَنْيِ ثِمَارِهَا، وَالتَّمَتُّعِ بِهَا، فَبَيْنَمَا هُمْ يَأْمُلُونَ ذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهَا صَاعِقَةٌ، أَوْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بَارِدَةٌ فَأَيْبَسَتْ أَوْرَاقَها، وَأَتْلَفَتْ ثِمَارَها، فَأَصْبَحَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حِيناً قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَكَذا يُبَيَّنُ اللهُ الحُجَجَ وَالآيَاتِ، لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ، فَيَعْتَبِرُونَ بِهَذَا المَثَلِ، فِي زَوَالِ الدُّنْيَا عَنْ أَهْلِهَا سَرِيعاً، مَعَ اغْتِرَارِهِمْ بِهَا.
مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا - حَالُها فِي سُرْعَةِ زَوَالِهَا وَانْقِضَائِهَا.
زُخْرُفَهَا - نَضَارَتَهَا وَبَهْجَتَهَا وَزِينَتَهَا بِأَلْوَانِ النَّبَاتِ.
أَمْرُنا - مَا يَجْتَاحُهَا مِنَ الآفَاتِ وَالعَاهَاتِ.
حَصْيداً - كَالنَّبَاتِ المَحْصُودِ بِالمَنَاجِلِ.
كَأَنْ لَمْ تُغْنِ بِالأَمْسِ - كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حِيناً قَبْلَ ذَلِكَ.
(٢٥) - لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى الدُّنْيا وَسُرْعَةِ زَوَالِهَا، رَغَّبَ فِي الجَنَّةِ، وَدَعَا إِلَيْهَا، وَسَمَّاهَا دَارَ السَّلاَمِ، لِسَلاَمَتِهَا مِنَ الآفَاتِ وَالنَّقَائِصِ وَالنَّكَبَاتِ، وَلِشُعُورِ مَنْ يَدْخُلُونَهَا بِالاطْمِئْنَانِ وَالسَّلاَمَةِ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى الطَّرِيقِ المُوصِلِ إِلَيْهَا مِنْ أَقْصَرِ الطُّرُقِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ المُسْتَقِيمُ.
(٢٦) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الذِينَ يَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ اللهِ، وَيُحْسِنُونَ العَمَلَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا، سَيَكُونُ جَزَاؤُهُمُ الحُسْنَى مِنَ اللهِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ (وَهَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ)، وَسَيُضَاعِفُ اللهُ لَهُمْ ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ (وَزِيَادَةٌ)، وَسَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، وَسَيُعْطِيهِمْ مَا لاَ عَيْنَ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ﴾ :(الحُسْنَى الجَنَّةُ. وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). وَلاَ يَغْشَى وُجُوهَهُمْ قَتَامٌ أَسْوَدُ، مِمَّا يَعْتَرِي وُجُوهَ الكَفَرَةِ، مِنَ القَتَرَةِ وَالغَبَرَةِ، وَلاَ يَلْحَقُ بِالمُؤْمِنِينَ صَغَارٌ وَلاَ هَوَانٌ وَلاَ ذِلَّةٌ.
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى يَصِفُ المُؤْمِنِينَ فِي آيَةٍ أُخْرَى ﴿فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً.﴾ لاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ - لاَ يَغْشَى وُجُوهَهُمْ وَلاَ يَعْلُوهَا.
قَتَرٌ - غُبَارُ أَسْوَدُ.
ذِلَّةٌ - أَثَرُ هَوَانٍ.
(٢٧) - أَمَّا المُجْرِمُونَ الذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَكَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، فَإِنَّهُ تَعَالَى سَيَجْزِيهِمْ عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا مِنْ عِقَابٍ فِي الآخِرَةِ، دُونَ زِيَادَةٍ أَوْ مُضَاعَفَةٍ، وَتَعْتَرِيهِمْ (تَرْهَقُهُمْ) ذِلَّةٌ مِنْ مَعَاصِيهِمْ، وَيَعْلُوهُمُ الخَوْفُ مِنْهَا، وَلَنْ يَجِدُوا، فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، مَنْ يَعْصِمُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَتُصْبِحُ وُجُوهُهُمْ سُوداً مِنَ الغَمِّ وَالكَآبَةِ، كَأَنَّمَا عَلَتْهَا قِطَعٌ مِنْ ظَلاَمِ الَّلْيِل الحَالِكِ، وَهَؤُلاَءِ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ يَدْخُلُونَهَا وَيَخْلُدُونَ فِيهَا أَبَداً.
عَاصِمٌُ - مَانِعٌ يَمْنَعُ سُخْطَهُ وَعَذَابَهُ.
أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ - كُسِيَتْ وَأُلْبِسَتْ.
مَكَانَكُمْ - الزَمُوا مَكَانَكُمْ.
فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ - فَفَرَّقْنا بَيْنَهُمْ، وَقَطَعْنا وَصْلَهُمْ.
(٢٩) - وَيُصِرُّ الشًّرَكَاءُ الذِينَ كَانَ المُشْرِكُونَ يَعُبُدونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَشْعُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَلاَ يَعْلَمُونَ بِهَا، وَيَقُولُونَ لَهُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَنَا وَنَحْنُ لاَ نَدْرِي بِكُمْ، وَاللهُ شَهِيدٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، إِنَّا مَا دَعَوْنَاكُمْ إِلَى عِبَادَتِنَا، وَلاَ أَمَرْنَاكُمْ بِهَا، وَلاَ رَضِينَا مِنْكُمْ بِذَلِكَ. وَفِي هَذا تَبْكِيتٌ عَظِيمٌ لِلَّذِينَ عَبَدُوا مَعَ اللهِ غَيْرَهُ.
(٣٠) - فِي ذَلِكَ المَوْقِفِ تَعْلَمُ كُلُّ نَفْسٍ مَا قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَتَلْقَى جَزَاءَهُ، وَفِي هَذا المَوْقِفِ المَهُولِ يُوقِنُ المُشْرِكُونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَيَبْطُلُ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ، فَلاَ يَجِدُونَ أَحَداً يُنْقِذُهُمْ، أَوْ يَنْصُرُهُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ.
تَبْلُو - تَخْتَبِرُ أَوْ تَعْلَمُ أَوْ تَعَايِنُ.
(٣١) - اسْأَلِ المُشْرِكِينَ يَا مُحَمَّدُ: مَنِ الذِي يُنْزِلُ المَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ فَيَشُقُّ الأَرْضَ شَقّاًُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِئَتِهِ، وَيُخْرِجُ لَكُمُ الزرُوعَ وَالفَوَاكِهَ وَالنَّبَاتَ مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ؟ وَمَنِ الذِي وَهَبَكُمْ قُوَّةَ السَّمْعِ وَالإِبْصَارِ، وَلَوْ شَاءَ لَذَهَبَ بِهَا، وَلَسَلَبَكُمْ إِيَّاهَا؟ وَمَنْ هُوَ الذِي يُخْرِجُ بِقُدْرَتِهِ العَظِيمَةِ، وَمَنَّتِهِ الكُبْرَى، الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ، وَالمَيِّتَ مِنَ الحَيِّ؟ وَمَنْ هُوَ الذِي يَتَوَّلَى تَدْبِيرَ أَمْرِ الخَلِيقَةِ جَمِيعاً بِمَا أَوْدَعَهُ فِي كُلٍّ مِنْهَا مِنَ السُّنَنِ، وَبِيَدِهِ مَلَكُوتِ كُلِّ شَيءٍ، وَهُوَ المُتَصَرِّفُ وَالحَاكِمُ المُطْلَقُ فِي الكَوْنِ كُلِّهِ، لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ؟ إِنَّهُمْ بِلاَ شَكِّ سَيَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ اللهُ وَحْدَهُ، وَهُمْ يَعِلَمُونَ ذَلِكَ، فَقُلْ لَهُمْ: أَفَلاَ تَخَافُونَ عِقَابَهُ أَنْ تَعْبُدُوا مَعَهُ آلِهَةً غَيْرَهُ؟
(٣٢) - فَهَذَا، الذِي اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّهُ فَاعِلُ كُلَّ ذَلِكَ، هُوَ رَبُّكُمْ وَإلهُكُمْ الحَقُّ الثَّابِتُ بِذَاتِهِ، المُحْيِي لِغَيْرِهِ، الذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يَتَفَرَّدَ بِالعِبَادَةِ، وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَمَنْ تَجَاوَزَ الحَقَّ وَصَلَ إِلَى الضَّلاَلِ. فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَهِيَ الهُدَى، إِلَى عِبَادَةِ الشُّرَكَاءِ وَالوُسَطَاءِ وَالأَنْدَادِ وَهِيَ الضَّلاَلُ؟
رَبُّكُمُ الحَقُّ - الذِي ثَبَتَتْ رُبُوبِيَّتُهُ بِالحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ ثُبُوتاً لاَ رَيْبَ فِيهِ.
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ - فَكَيْفَ تَسْتَجِيزُونَ العُدُولَ عَنِ الحَقِّ إِلَى الكُفْرِ وَالضَّلاَلِ.
(٣٣) - وَكَمَا حَقَّتْ كَلِمَةُ اللهِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالأُلُوهِيَّةِ، وَبِأَنَّ الحَقَّ لَيْسَ بَعْدَهُ إِلاَّ الضَّلالُ، لِمَنْ تَنَكَّبَ عَنْهُ، كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ اللهِ وَوَعِيدُهُ عَلَى الذِينَ خَرَجُوا مِنْ حَظِيرَةِ الحَقِّ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ مَعَ اللهِ آلهَةً أُخْرَى، أَنَّهُمْ سَيَبْقَونَ أَشْقِيَاءَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِمَا دَعَتْهُمْ إلَيْهِ الرُّسُلُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالإِيمَانِ وَالهُدَى، مَهْمَا تَكُنِ الآيَةُ بَيِّنَةً، وَالحُجَّةُ ظَاهِرَةً، لأنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ إلاَّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ.
حَقَّتْ - ثَبَتَتْ وَوَجَبَتْ.
(٣٤) - قُلْ لَهُمْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ: هَلْ أَحَدٌ مِنْ شُرَكَائِكُمْ الذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ مَعَ اللهِ، أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ، مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْدَادِ، مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْشِىءَ الخَلْقَ ابْتِدَاءً، ثُمَّ يُعِيدُهُ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ فَنَائِهِ؟ فَإِذَا عَجَزُوا عَنِ الإِجَابَةِ فَقُلْ لَهُمْ: اللهُ هُوَ الذِي أَنْشَأَ الخَلْقَ ابْتِدَاءً، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى إِعَادَتِهِ، لأنَّ الإِعَادَةَ أَسْهَلُ مِنَ الابْتِدَاءِ.
وَبِمَا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنْ شُرَكاَءَهُم لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِنَ الخَلْقِ، وَلاَ إِعَادَةِ الخَلْقِ، فَقُلْ لَهُمْ كَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنِ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَهُوَ الحَقُّ وَالرَّشَادُ، إِلَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَنْدَادِ وَهِيَ البَاطِلُ وَالضَّلاَلَةُ؟
تُؤْفَكُونَ - تُصْرَفُونَ.
(٣٥) - وَقُلْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَهْدِي إلَى الحَقِّ وَالرَّشَادِ، بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الهِدَايَةِ التِي تَتَمُّ بِهَا حِكْمَةُ الخَلْقِ، فَهَلْ مِنْ مَعْبُودَاتِكُمُ التِي جَعَلْتُمُوهَا شُرَكَاءَ للهِ مَنْ يَسْتَطِيعُ التَّمْييزَ بَيْنَ الهُدَى وَالضَّلاَلِ، فَيُرْشِدُ غَيْرَهُ إلى طَرِيقِ الحَقِّ؟ وَبِمَا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، فَقُلْ لَهُمْ: مَنْ هُوَ الأَحَقُّ بِأَنْ يُتَّبَعَ: الذِي يَهْدِي الضَّالِينَ، وَيَفْتَحُ عُيُونَ العُمْيِ لِيُبْصِرُوا الحَقَّ وَالآيَاتِ، أَمِ الذِي لاَ يَسْتَطِيعُ هِدَايَةَ نَفْسِهِ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَهْدِيَهُ غَيْرُهُ، فَمَا بَالُكُمْ تَضِلُّونَ؟ وَكَيْفَ سَوَّيْتُمْ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَعَدَلْتُمْ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ إلَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ وَالأَنْدَادِ؟
لاَ يَهْدِي - لاَ يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ.
وَقَلِيلٌ مِنْ هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ حَقٌّ، وَأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ، وَجَحَدُوا آيَاتِهِ، وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ اسْتِكْبَاراً وَعِنَاداً.
وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُهُ رُؤُوسُ الكُفْرِ وَأَتْبَاعُهُمُ الذِينَ يُقَلِّدُونَهُمْ، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ.
(٣٧) - لاَ يَصِحُّ وَلاَ يَعْقِلُ أَنْ يَفْتَرِيَ بَشَرٌ القُرْآنَ عَلَى اللهِ، وَيَنْسُبَهُ إِلَيْهِ. فَمَا فِي القُرْآنِ مِنْ مَعْلُومَاتٍ، وَتَشْرِيعَاتٍ، وَعُلُومٍ بِالغَيْبِ، وَآدَابٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ سَامِيَّةٍ، وَأُسْلُوبٍ رَفِيعٍ فِي الصِّيَاغَةِ، هِيَ أَشْيَاءُ لاَ يَقْدِرُ البَشَرُ أَن يأتِيَ بِمِثْلِهَا. وَقَدْ تَحَدَّاهُمُ اللهُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بٍِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَعَجَزُوا. وَإِذَا أَضَفْنَا إِلَى ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّداً ﷺ عُرِفَ فِي حَيَاتِهِ كُلِّهَا بِالأَمِينِ فِي قَوْمِهِ، فَمَا كَانَ لِيَتْرُكَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكْذِبَ عَلَى اللهِ، لِذَلِكَ لاَ بُدَّ مِنَ القَوْلِ: إِنَّ هَذا القُرآنَ مُنَزَّلٌ وَحْياً مِنَ اللهِ عَلَى رَسُولِهِ، وَهُوَ مُصَدِّقٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ السَّابِقُونَ، وَمُتَّفَقٌ مَعَهُ فِي الدَّعْوَّةِ إِلَى الدِّينِ الحَقِّ، مِنَ الإِيمَانِ الكَامِلِ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَبِاليَوْمِ الآخِرِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِمَا كُتِبَ مِنَ الشَرَائِعِ وَالأَحْكَامِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ يَتْرُكُ مَجَالاً لِعَاقِلٍ أَنْ يَرْتَابَ فِيهِ، وَأنْ يَشُكَّ فِي أَنَّهُ مُنْزَلٌ مِنْ رَبِّ العَالِمِينَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
(٣٨) - وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَقُولُوا: إِنَّ مُحَمَّداً افْتَرَى القُرْآنَ وَنَسَبَهُ إِلَى اللهِ، فَإِذَا كَانَ القُرْآنُ مِنْ صُنْعِ مُحَمَّدٍ، فَأَنْتُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ تَصْنَعُوا مِثْلَهُ، لأنَّ مُحَمَّداً مِنْكُمْ، فَأْتُوا بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَادْعُوا جَمِيعَ مَنْ تَعْرِفُونَ، وَمَنْ تَسْتَطِيعُونَ دَعْوَتَهُمْ لِمُسَاعَدَتِكُمْ فِي ذَلِكَ. فَإِذَا عَجَزْتُمْ عَنِ الإِتْيَانِ بِهَذِهِ السُّورَةِ - وَأَنْتُمْ عَاجِزُونَ حَتْماً - فَاعْلَمُوا أَنَّ هَذا القُرْآنَ لَيْسَ مِنْ صُنْعِ البَشَرِ، وَأَنَّهُ مُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُفْتَرَى عَلَى اللهِ.
(٣٩) - بَلْ سَارَعَ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ إِلَى تَكْذِيبِ القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ يَتَدَبَّرُوا مَا فِيهِ، وَيَقِفُوا عَلَى مَا احْتَوَاهُ مِنَ الأَدِلَّةِ، وَالحُجَجِ الدَّالَّةِ عَلَى سُمُوِّهِ وَكَمَالِهِ وَإِعْجَازِهِ، وَقَبْلَ أَنْ يَقِفُوا عَلَى تَفْسِيرِهِ وَبَيَانِ أَحْكَامِهِ بِسُؤَالِ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ كَذَّبَ مِثْلَ هَذا التَّكْذِيبِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الأُمَمِ السَّابِقَةِ، بِلاَ تَبَصُّرٍ وَلاَ تَدَبُّرٍ، فَعَاقَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، وَدَمَّرَهُمْ تَدْمِيراً، فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ بِتَكْذِيبِهِمْ، رَسُولَ رَبِّهِمْ، لِتَعْلَمَ مَصِيرَ مَنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، لأنَّ هَذِهِ هِيَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ.
(٤١) - وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِكَ، مَعَ وُضُوحِ الأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِكَ فِيمَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيهِ، فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ لِي جَزَاءَ عَمَلِي، وَلَكُمْ أَنْتُمْ جَزَاءَ أَعْمَالِكُمْ، وَلَنْ يَحْمِلَ أَحَدٌ شَيْئاً مِنْ وِزْرِ أَحَدٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ بَرِيءٌ مِنْ عَمَلِ الآخَرِ، وَلاَ يُؤَاخِذُ أَحَدٌ بِعَمَلِ غَيْرِهِ.
وَكَمَا أَنَّكَ، أَيُّهَا الرَّسُولُ، لَمْ تُؤْتَ القُدْرَةِ عَلَى إِسْمَاعِ الصُّمِّ الذِينَ فَقَدُوا حَاسَّةَ السَّمْعِ، فَكَذَلِكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْتَ أَنْ تُسْمِعَ إِسْمَاعاً نَافِعاً، مَنْ هُمْ فِي حُكْمِهِمْ، وَهُمُ الذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ.
يَنْظُرُ إِلَيْكَ - يُعَايِنُ دَلاَئِلَ نُبُوَّتِكَ.
بِالقِسْطِ - بِالعَدْلِ.
(٤٨) - وَيُمْعِنُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِاليَوْمِ الآخِرِ، فَيَسْتَعْجِلُونَ بِهِ سَاخِرِينَ مُتَهَكِّمِينَ، وَيَقُولُونَ: مَتَى يَكُونُ هَذا الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ مِنَ العَذَابِ، إِنْ كُنْتَ يِا مُحَمَّدُ وَأَصْحَابُكَ صَادِقِينَ فِيمَا تَعِدُونَنَا بِهِ مِنْ حَشْرٍ وَحِسَابٍ وَجَزَاءٍ؟
(٤٩) - قُلْ لِهَؤُلاَءِ المُسْتَعْجِلِينَ بِالعَذَابِ: إِنِّي بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً، وَلاَ أَمْلِكُ إِنْزَالَ العَذَابِ بِالكُفَّارِ المُعَانِدِينَ، وَلاَ تَحْقِيقِ النَّصْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، يُحَقِّقُهُ مَتَى شَاءَ، وَلِكُلِّ أَمَّةٍ أَجَلٌ، فَإَذَا جَاءَ الأَجَلُ فَلاَ يَمْلِكُ أَحَدٌ أَنْ يُقَدِّمَهُ أَوْ يُؤَخِّرَهُ سَاعَةً عَنِ الوَقْتِ الذِي حَدَّدَهُ اللهُ لَهَا.
(٥٠) - قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ الكَرِيمُ لِهَؤُلاَءِ المُسْتَعْجِلِينَ بِالعَذَابِ: أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِكُمْ، وَمَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَفْعَلُوهُ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ الذِي تَسْتَعْجِلُونَهُ، فِي وَقْتِ مَبِيتِكُمْ بِاللَّيْلِ، أَوْ وَقتِ اشْتِغَالِكُمْ بِلَهْوِكُمْ وَلَعِبِكُمْ وَأُمُورِ مَعَايِشِكُمْ نَهَاراً؟ وَأَيَّ عَذَابٍ يَسْتَعْجِلُ بِهِ هَؤُلاَءِ المُجْرِمُونَ المُكَذِّبُونَ؟ أَهُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا أَمْ عَذَابُ يَوْمِ القِيَامَةِ؟ وَاسْتِعْجَالِهِمْ بِالعَذَابِ أَيّاً كَانَ فَهُو جَهَالَةٌ.
أَرَأَيْتُمْ - أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِكُمْ أَوْ عَنْ عَذَابِ اللهِ.
بَيَاتاً - وَقْتَ البَيَاتِ أَيْ لَيْلاً؟
(٥١) - وَحِينَ يَقَعُ العَذَابُ يُعْلِنُونَ إِيمَانَهُمْ، وَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا، كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى.
وَيُقَرِّعُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَسْلَكِهِمْ هَذَا فَيَقُولُ لَهُمْ: أآمَنْتُمْ بِهِ الآنَ حِينَمَا وَقَعَ، وَكُنْتُمْ قَبْلاً تُكَذِّبُونَ بِهِ، وَتَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَتَسْتَعْجِلُونَ بِهِ؟
الآنَ - الآنَ تُؤْمِنُونَ بِوُقُوعِ العَذَابِ.
وَيَسْتَنْبِونَكَ - وَيَسْتَخْبِرُونَكَ مُسْتَهْزِئِينَ عَنِ العَذَابِ.
إِي وَرَبِّي - نَعَمْ وَرَبِّي.
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ - وَمَا أَنْتُمْ فَائِتِينَ مِنْ عَذَابِ اللهِ بِالْهَرَبِ.
وَحِينَئِذٍ تَتَرَدَّدُ النَّدَامَةَ وَالحَسْرَةَ فِي سَرَائِرِ المُجْرِمِينَ الظَّالِمِينَ، عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ، وَمَا كَفَرُوا بِآيَاتِهِ، وَيَقْضِي اللهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ بَيْنَ العِبَادِ، بِالعَدْلِ وَالقِسْطِ وَلاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ شَيْئاً.
أَسَرُّوا النَّدَامَةَ - أَخْفَوا الغَمَّ وَالحَسْرَةَ.
(٥٥) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، وَأَنَّ وَعْدَهُ حَقٌّ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةً، وَأَنَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيهِ يَرْجِعُ النَّاسُ جَمِيعاً، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ لاَ يَمْلِكُونَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ شَيْئاً يَفْتَدُونَ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ.
(٥٦) وَأَنَّهُ القَادِرُ عَلَى خَلْقِ الحَيَاةِ، وَعَلَى إِعْدَامِهَا، وَهُوَ العَلِيمُ بِمَا تَفَرَّقَ مِنَ الأَجْسَامِ، وَتَمَزَّقَ فِي أَقْطَارِ الأَرْضِ وَالبِحَارِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الخَلْقُ حِينَ يَبْعَثُهُمْ وَيَحْشُرُهُمْ لِلْحِسَابِ.
(٥٧) - يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ بِإِنْزَالِهِ القُرْآنَ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدُ ﷺ وَفِيهِ زَاجِرٌ عَنِ الغَيِّ، وَعَنِ الفَوَاحِشِ، وَفِيهِ شِفَاءٌ لِلصُّدُورِ مِنَ الشُّكُوكِ وَالرِّيَبِ، وَالقُرْآنُ يَهْدِي المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَأْخُذُونَ بِهِ، وَيُؤَدِّي بِهُمْ إِلَى إِدْخَالِهِمْ فِي رَحْمَةِ اللهِ.
(٥٩) - نَزَلَتْ هذِهِ الآيَةُ، إِنْكاراً عَلَى المُشْرِكِينَ، فِيمَا كَانُوا يُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَهُ، مِنَ البَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالوَصَائِلِ، وَقَدْ أَنْكَرَ اللهُ تَعَالَى فِعْلَ مَنْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللهُ، وَفِعْلَ مَنْ أَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللهُ، بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالهَوَى، وَلاَ مُسْتَنَدَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلاَ دَلِيلَ، لأنَّ حَقَّ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ للهِ، وَيَسْأَلُهُم اللهُ تَعَالَى عَمَّنْ أَذِنَ لَهُمْ بِهِ؟ هَلْ جَاءَهُمْ بِهِ وَحْيٌ مِنَ اللهِ، أَمْ أَنَّهُمْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ. وَبِمَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ فَهُمْ مُفْتَرُونَ.
أَرَأَيْتُمْ - أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِكُمْ.
أَذِنَ لَكُمْ - أَعْلَمَكُمْ بِهَذا التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ.
يَفْتَرُونَ - يُكْذِبُونَ فِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَيهِ تَعَالَى.
(٦٠) - أَيُّ شَيءٍ يَكُونُ ظَنُّهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، الذِي تُجْزَى فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ؟ أَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُتْرَكُونَ بِلا عِقَابٍ عَلَى جَرِيمَةِ افْتِرَاءِ الكَذِبِ عَلَى اللهِ، وَتَعَمُّدِهِ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ بِرُبُوبِيَّتِهِ؟ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ مِنْ أَرْزَاقٍ، وَكُلِّ مَا شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ الأَصْلَ فِيمَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الرِّزْقِ الإبَاحَةَ، وَهُوَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ عَلى مَا كَانَ ضَارّاً بِهِمْ، وَحَصْرَ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِي أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ وَالأَفْضَالِ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " إِذَا آتَاك اللهُ مَالاً فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ "). (رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ).
(٦١) - يُخْبِرُ اللهَ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمٌ بَجِمِيعِ أَحْوَالِ رَسُولِهِ وَأُمُورِهِ، سَوَاءٌ مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌ بِهِ، أَوْ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِشُؤُونِ الدَّعْوَةِ، وَأَنَّهُ لاَ يَتْلُو مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مِنْ قُرْآنٍ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ اللهُ تَعَبُّداً وَتَهَجُّداً بِهِ، أَوْ تَبْلِيغاً لَهُ لِلنَّاسِ، وَلاَ يَقُومُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، مِنَ المُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ، بِعَمَلٍ صَالِحٍ أَوْ غَيْرِ صَالِحٍ، كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ، إِلاَّ كَانَ اللهُ تَعَالَى رَقِيباً عَلَيْهِمْ فَيَحْفَظُهُ لَهُمْ، وَيَجْزِيهِمْ بِهِ، وَأَنَّهُ تَعَالَىلاَ يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيءٌ صَغُرَ أَوْ كَبُرَ حَتَّى وَلَوْ كَانَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، أَوْ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، فَكُلُّ شَيءٍ مُحْصًى عِنْدَهُ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ.
تَكُونُ فِي شَأْنٍ - فِي أَمْرٍ هَامٍ مُعْتَنَى بِهِ.
تَُفِيضُونَ فِيهِ - تَشْرَعُونَ وَتَخُوضُونَ فِيهِ.
مَا يَعْزُبُ - مَا يَبْعُدُ - وَمَا يَغِيبُ.
مِثْقَالِ ذَرَّةٍ - وَزْنِ ذَرَّةٍ.
(٦٣) - وَيَقُولُ تَعَالَى مُعَرِّفاً (أَوْلِيَاءَ اللهِ) : بِأَنَّهُمُ الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَكَانُوا يَتَّقُونَ اللهَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَيُرَاقِبُونَهُ فِي سِرِّهِمْ وَعَلاَنِيَّتِهِمْ، فَلاَ يَقُومُونَ إِلاَّ بِمَا يُرْضِي اللهَ رَبَّهُمْ.
(٦٤) - وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُتَّقُونَ، لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا بِالنَّصْرِ وَالعِزَّةِ، وَبِإِلْهَامِهِم الحَقَّ وَالخَيْرَ، وَبِالاسْتِخْلاَفِ فِي الأَرْضِ مَا أَقَامُوا شَرْعَ اللهِ، وَنَصَرُوا دِينَهُ الحَقَّ، وَأَعْلَوا كَلِمَتَهُ (وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " إِنَّ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا العَبْدُ، أَوْ تُرَى لَهُ، وَهِيَ فِي الآخِرَةِ الجَنَّةُ ") (رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عن رَسول الله ﷺ). وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ لاَ يُبَدَّلُ (لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ)، وَلاَ يُغَيَّرُ وَلاَ يُخْلَفُ، بَلْ مُقَرَّرٌ ثَابِتٌ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ. وَهَذِهِ البُشْرَى بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ هِيَ الفَوْزُ العَظِيمُ.
إِنَّ العِزَّةَ لله ِ- إِنَّ القَهْرَ وَالغَلَبَةَ للهِ تَعَالَى فِي مُلْكِهِ.
(٦٦) -يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَأَنَّ مَنْ فِيهِمَا عَبِيدٌ لَهُ، وَهُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيءٍ، وَلاَ مَالِكَ لِشَيءٍ سِوَاهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِلهاً مَعْبُوداً مَا يَعْبُدُهُ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ مِنَ الأَوْثَانِ وَالأَصْنَامِ؟ وَهَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ الذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ، وَيَدْعُونَهُمْ فِي الشَّدَائِدِ، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِالقَرَابِينِ، لاَ يَتَّبِعُونَ شُرَكَاءَ للهِ، لأَنَّهُ تَعَالَى لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَهُمْ لاَ يَتَّبِعُونَ فِي الحَقِيقَةِ فِيمَا يَقُولُونَهُ إَِلاَّ الظَّنَّ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ هَؤُلاَءِ أَوْلِيَاءُ اللهِ، وَشُفَعَاءُ عِنْدَهُ، وَوُسَطَاءُ لَدَيْهِ، وَهُمْ فِي اتِّبَاعِ الظَّنِّ لَيْسُوا إِلاَّ مُتَخَرِّصِينَ يَقُولُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
التَّخَرُّصُ - التَّقْدِيرُ لِلشَّيءِ الذِي لاَ يَجْرِي عَلَى قِيَاسٍ، كَتَقْدِيرِ مَا عَلَى الشَّجَرَةِ مِنْ ثِمَارٍ.
(٦٧) - وَاللهُ هُوَ الذِي جَعَلَ اللَّيْلَ لِيَسْكُنَ فِيهِ النَّاسُ، وَيَسْتَرِيحُوا فِيهِ مِنْ نَصَبِهِمْ وَتَعَبِهِمْ، وَجَعَلَ لَهُمُ النَّهَارَ مُضِيئاً (مُبْصِراً) يَسْتَطِيعُونَ الإِبْصَارَ فِيهِ لِيَسْعَوا فِي تَأْمِينِ رِزْقِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ، وَقَضَاءِ مَصَالِحِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ الاخْتِلاَفِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَبَيْنَ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِمَا، لآيَاتٌ وَبَرَاهِينُ عَلَى وُجُودِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَظَمَّتِهِ، لِقَومٍ يَسْمَعُونَ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنَ التَّذْكِيرِ بِحِكْمَتِهِ، فَيَعْتَبِرُونَ بِهَا، وَيَسْتَدِّلُونَ بِهَا عَلَى عَظَمَةِ الخَالِقِ.
(٦٨) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى مُتَنَكِّراً عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ للهِ وَلَداً: إِنَّهُ تَقَدَّسَ اسْمُهُ وَتَنَزَّهَ غَنِيٌّ عَمَنْ سِوَاهُ، وَكُلُّ شَيءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ مِمَّا خَلَقَ، وَكُلُّ شَيءٍ مَمْلُوكٌ لَهُ وَعَبْدٌ؟ ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: لَيْسَ لَدَيْكُمْ أَيُّها المُتَخَرِّصُونَ المُفْتَرُونَ مِنْ دَلِيلٍ (سُلْطَانٍ)، عَلَى مَا تَقُولُونَ مِنْ كَذِبٍ وَبُهْتَانٍ. ثُمَّ يَسْتَنْكِرُ تَعَالَى قَوْلَ مَنْ يَقُولُونَ بِلاَ عِلْمٍ، وَلاَ بِيِّنَةٍ يُؤَيِّدُونَ بِهَا صِحَّةَ قَوْلِهِمْ (إِنَّ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ)، فَكَيْفَ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ قَوْلاً لاَ تَعْلَمُونَ حِقِيقَتَهُ وَتَنْسِبُونَهُ إِلَيْهِ؟
مِنْ سُلْطَانٍ - مِنْ حُجَّةٍ أَوْ بُرْهَانٍ أَوْ دَلِيلٍ.
سُبْحَانَهُ - تَنَزَّهَ اسْمُهُ وَتَقَدَّسَ.
(٧٠) - إِنَّهُمْ يَتَمَتَّعُونَ فِي الدُّنْيا الفَانِيَةِ، وَمَتَاعُهُمْ فِيهَا قَلِيلٌ حَقِيرٌ، مُدَّةَ حَيَاتِهِم القَصِيرَةِ فِي الدُّنْيا، ثُمَّ يُرْجَعُونَ إِلَى اللهِ فَيُذِيقَهُمْ فِي الآخِرَةِ العَذَابَ الشَّدِيدَ المُؤْلِمْ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللهِ الكَذِبَ فِيمَا ادَّعُوا مِنَ الإِفْكِ وَالبُهْتَانِ.
(٧١) - يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ عَمَّا يُلاَقِيهِ مِنْ إِيذَاءِ قَوْمِهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِمَا يَقُصُّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ. وَيَبْدَأُ تَعَالَى بِقِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَيَقُولُ تَعَالَى: أَخْبِرْ يَا مُحَمَّدُ كُفَّارَ مَكَّةَ الذِينَ يُكَذِبُونَكَ خَبَرَ نُوحٍ مَعْ قَوْمِهِ الذِينَ كَذَّبُوهُ، كَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ، وَدَمَّرَهُمْ بِالغَرَقِ أَجْمَعِينَ، وَلَيْحَذَرْ هَؤُلاَءِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ البَلاَءِ وَالهَلاَكِ وَالدَّمَارِ مَا أَصَابَ أُوْلَئِكَ.
لَقَدْ قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ ثَقُلَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي بَيْنَكُمْ (كَبُرَ)، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْكُمْ تَذْكِيرِي إِيَّاكًُمْ بِآيَاتِ اللهِ، وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، فَإِنِّي قَدْ وَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى اللهِ الذِي أَرْسَلَنِي، وَاعْتَمَدْتُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَإِنِّي لاَ أُبَالِي بِكُمْ، وَلاَ أَكُفُّ عَنْكُمْ، سَوَاءَ عَظُمَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي أَوْ لاَ، فَاجْتَمِعُوا أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ، مِنَ الأَصْنَامِ الذِينَ تَدْعُونَهُمْ، وَلاَ تَتْرُكُوا أَمْرَكُمْ مُلْتَبَساً عَلَيْكُمْ (غَمَّةً)، بَلْ كُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ، لِكَيْلا تَتَحَوَّلُوا عَنْهُ، وَافْصِلُوا أَمْرَكُمْ مَعِيَ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ مُحِقُّونَ فَاقْضُوا إِلَيَّ، وَافْعَلُوا مَا تَسْتَطِيعُونَ، وَلاَ تُؤَخِرُونِي سَاعَةً وَاحِدَةً (وَلاَ تُنْظِرُونَ).
كَبُرَ عَلَيْكُمْ - إَقَامَتِي بَيْنَكُمْ دَهْراً طَوْيلاً.
فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ - اعْزِمُوا وَصَمِّمُوا عَلَى كَيْدِكُمْ.
وَشُرَكَاءَكُمْ - مَعَ شُرَكَائِكُمْ.
غَمَّةً - ضِيقاً شَدِيداً، أَوء مُلْتَبَساً مُبْهَماً.
(٧٣) - فَلَمَّا أَصَرُّوا عَلى تَكْذِيبِهِ، بَعْدَ أَنْ قَامَتْ عَلَيهِمُ الحُجَّةُ، نَجَّى اللهُ نُوحاً وَالمُؤْمِنِينَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ، وَجَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ يَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَوَارَثُونَ الإِيمَانَ بِاللهِ، وَأَغْرَقَ اللهُ تَعَالَى الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَآيَاتِهِ، وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ، فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ هَؤُلاَءِ الذِينَ جَاءَهُمُ النَّذِيرُ مِنْ رَبِّهِمْ، فَاستَخَفُّوا بِهِ.
جَعَلْنَاهُمْ خَلائَِف - خُلَفَاءَ يَخْلُفُونَ الأُمَمَ التِي أَهْلَكَهَا اللهُ.
(٧٤) - ثُمَّ ضَلَّ النَّاسُ الذِينَ أَتَوْا بَعْدَ نُوحٍ، وَعَبَدُوا الأَصْنَامَ وَالأَوْثَانَ، فَأَرْسَلَ اللهُ إِلَيهِمْ رُسُلاً بِالحِجَجِ وَالآيَاتِ الدَّالَةِ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِمْ، وَعَلَى مَا جَاءَهُمْ بِهِ الأَنْبِيَاءُ، فَمَا اسْتَقَامَ لِقَوْمٍ مِنْ أُوْلَئِكَ الأَقْوَامِ أنْ يُؤْمِنَ المُتَأَخِّرُ مِنْهُمْ بِمَا كَذَّبَ بِهِ المُتَقَدِّمُ، لأنَّ التَّكْذِيبَ سَبَقَ التَّبَصُّرَ وَالاعْتِبَارَ. وَكَمَا طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِ مَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الأُمَمِ، حَتَّى حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ العَذَابِ، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ المُعْتَدِينَ مِمَّنْ خَلَفُوا قَوْمَ نُوحٍ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً.
نَطْبَعُ - نَخْتِمُ.
(٧٥) - ثُمَّ اللهُ بَعَثَ الرُّسُلَ، الذِينَ أَتَوا بَعْدَ نُوحٍ، مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْرَافِ قَوْمِهِ (مَلَئِهِ - وَقَدْ خَصَّ اللهُ تَعَالَى الأَشْرَافَ بِالذِّكْرِ لأنَّ الدَهْمَاءَ كَانُوا تَبَعاً لَهُمْ). وَكَانُوا قَوْماً رَاسِخِينَ فِي الإِجْرَامِ وَالظُّلْمِ وَالفَسَادِ، وَقَدْ أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى وَهَارُونَ بِآيَاتٍ وَحُجَجٍ وَبَرَاهِينَ، عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ، وَعَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِمَا، فَاسْتَكْبَرُ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ، وَالانْقِيَادِ لَهُ، وَقَدْ ارْتَكَبُوا بِرَفْضِهِم الاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَّةِ اللهِ إِثْماً عَظِيماً.
(٧٧) - وَقَالَ لَهُمْ مُوسَى مُوَّبِخاً، وَمُسْتَنْكِراً قَوْلَهُمْ َاتِّهَامَهُمْ إِيَّاهُ بِالسِّحْرِ: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ الوَاضِحِ الظَّاهِرِ، لَمَّا جَاءَكُمْ، إنَّهُ سِحْرٌ، فَهَلْ هَذَا سِحْرٌ، وَإِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ فِي قَرَارَةِ نُفُوسِكُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِسِحْرٍ، وَلاَ يَنْجَحُ السَّاحِرُونَ وَلاَ يُفْلِحُونَ، لأَنَّ السِّحْرَ بَاطِلٌ.
(٧٨) - وَقَالَ لِمُوسَى: أَجِئْتَنا لِتَصْرِفَنَا عَنِ الدِّينِ الذِي وَجَدْنَا آبَاءَنَا يَتِّبِعُونَهُ، لِتَكُونَ، لَكَ وَلأَخِيكَ هَارُونَ، العَظَمَةُ وَالرِّئَاسَةُ وَالسُّلْطَانُ، وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنْ كِبْرِيَاءِ المُلْكِ، وَالعَظَمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ التَّابِعَةِ لَهَا، فِي أَرْضِ مِصْرَ كُلِّها، فَنَحْنُ لَنْ نُؤْمِنَ بِمَا جِئْتَنا بِهِ.
لِتَلْفِتَنَا - لِتَصْرِفَنَا وَتَلْوِينَا.
(٧٩) - وِإِذِ ادَّعى فِرْعَوْنُ عِنَاداً وَعُتُوّاً أَمَامَ قَوْمِهِ، أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى هُوَ سِحْرٌ، وَذَلِكَ لِيُزِيلَ مِنْ نُفُوسِهِمْ أَثَرَ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنَ المُعْجِزَاتِ وَالآيَاتِ، قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ: إِنَّهُ سَيَرُدُّ عَلَى سِحْرِ مُوسَى بِسِحْرٍ مِثْلِهِ، وَأَمَرَ مَنْ حَوْلَهُ أَنْ يَجْمَعُوا لَهُ كُلَّ سَاحِرٍ عَالِمٍ مُتَعَمِّقٍ فِي فُنُونِ السِّحْرِ (عَلِيمٍ).
(٨٢) - وَسَيُحِقُّ اللهُ الحَقَّ بِإِرَادَتِهِ، وَيُثَبِّتَهُ وَيَنْصُرَهَ، وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ذَلِكَ.
(٨٣) - وَأَظْهَرَ اللهُ الحَقَّ عَلَى البِاطِلِ، فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَالْتَقَفَتْ جَمِيعَ مَا أَلْقَاهُ السَّحَرَةُ، وَمَوَّهُوا بِهِ عَلَى النَّاسِ. وَكَانَ ذَلِكَ نَصْراً عَظِيماً لِمُوسَى مِنْ رَّبِهِ، وَلَكِنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ اسْتَمَرُّوا فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. وَلَمَّا أُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ للهِ اسْتِغْفَاراً وَتَوْبَةً، وَرَجَاءً أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ، قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ: إِنَّهُ سَيُعَاقِبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِتَقْطِيعِ أَيْدِيْهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ مِنْ خِلاَفٍ، وَسَيَصْلِبَهُمْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، لأَنَّهُمْ آمَنُوا لِمُوسَى قَبْلَ أَنْ يَأَذْنَ هُوَ لَهُمْ بِذَلِكَ - كَمَا جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ -. وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ لِمُوسَى إِلاَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّبَابِ مِنْ قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ آمَنُوا بِهِ وَهُمْ خَائِفُونَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أَنْ يَضْطَرُّوهُمْ بِالعَذَابِ وَالنَّكَالِ إِلَى الرُّجُوعِ عَنِ الإِيمَانِ بِرَبِّهِمْ (يَفْتِنَهُمْ)، وَذَلِكَ لأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مُسْتَكْبِراً مُتَعَالِياً فِي الأَرْضِ، مُسْرِفاً فِي كُفْرِهِ، وَفِي أَمْرِهِ كُلِّهِ، وَمُبَالِغاً فِيهِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَخَافَ مِنْهُ.
أَنْ يَفْتِنَهُمْ - أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ وَيُعَذِّبَهُمْ.
ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ - طَائِفَةٌ مِنْ شَبَابِ قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
(٨٤) - وَلَمَّا أَعْلَنَ جَمَاعَةُ مُوسَى لَهُمْ إِيمَانَهُمْ بِاللهِ وَبِرِسَالاَتِهِ، وَهُمْ خَائِفُونَ مِنَ العَذَابِ وَالفِتْنَةِ، قَالَ لَهُمْ مُوسَى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ إِيمَاناً حَقّاً، فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا، وَبِوُعُودِهِ ثِقُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مُذْعِنِينَ، إِذْ إِنَّ الإِيمَانَ لاَ يَكُونُ يَقِيناً إِلاَّ إِذَا صَدَّقَهُ العَمَلُ، وَهُوَ الإِسْلاَمُ للهِ وَحْدَهُ.
(٨٥) - فَرَدُّوا عَلَيْهِ قَائِلِينَ: بِأَنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ. ثُمَّ تَوَجَّهُوا بِالدُّعَاءِ إِلَى اللهِ قَائِلِينَ: رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا عُرْضةً لِفِتْنَةِ هَؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ، وَلاَ تُظْفِرْهُمْ بِنَا فَيُمَارِسُوا عَلَيْنَا ضَغْطاً لِرَدِّنَا عَنْ دِينِنَا (وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ لاَ يُكْمِلُ إِلاَّ بِالصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ، وَالدُّعَاءِ لاَ يُسْتَجَابُ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَقْرُوناً بِاتِّخَاذِ الأَسْبَابِ، بِأَنْ يَعْمَلَ الإِنْسَانُ جَمِيعَ مَا يَسْتَطِيعُ عَمَلَهُ).
لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً - لاَ تَجْعَلْنَا مَوْضِعَ اخْتِبَارٍ بِالعَذَابِ.
(٨٦) - وَأَنْقِذْنَا يَا رَبُّ بِرَحْمَتِكَ وَلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، الذِينَ كَفَرُوا بِالْحَقِّ وَجَحَدُوهُ، وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا بِكَ وَتَوَكَّلْنَا عَلَيْكَ. (وَكَانَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ يَسْتَعْبِدُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيُكَلِّفُونَهُمْ بِأَشَقِّ الأَعْمَالِ وَأَحَطِّهَا وَأَقْذَرِهَا).
(٨٧) - قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ إِظْهَارَ صَلاَتِهِمْ خَوْفاً مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، أَنْ يَتَّخِذَا لِقَوْمِهِمِا بُيُوتاً فِي مِصْرَ، وَأَنْ يَجَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بُيُوتَهُمْ قِبَلَ القِبْلَةِ، لِيُصَلُّوا فِيهَا، وَهُمْ مُتَجِّهُونَ جَمِيعاً جِهَةً وَاحِدَةً، لأَنَّ الاتِّحَاَد فِي الاتِجَاهِ يُسَاعِدُ عَلَى اتِّحَادِ القُلُوبِ. ثُمَّ يَأْمُرُهُمُ اللهُ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ بِحِفْظِ اللهِ إِيَّاهُمْ وَبِالثَّوَابِ وَالنَّصْرِ القَرِيبِ وَالفَرَجِ.
تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا - اتَّخِذَا وَاجْعَلاَ لَهُمْ.
قِبْلَةً - مَسَاجِدَ أَوْ مُصَلَّى جِهَةَ القِبْلَةِ.
(٨٨) - بَعْدَ أَنْ أَعَدَّ مُوسَى قَوْمَهُ مَا اسْتَطَاعَ لِلْخُرُوجِ بِهِمْ مِنْ مِصْرَ، وَغَرَسَ فِي قُلُوبِهِمْ الإيمَانَ، وَالثِّقَةَ بِاللهِ، وَحُبَّ العِزَّةِ وَالكَرَامَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، تَوَجَّهَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ أَنْ يُتِمَّ أَمْرَهُ، وَدَعَا عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، لِمَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الكُفْرِ وَالعُتُوِّ وَالضَّلاَلِ، وَلَمَّا رَفَضُوهُ مِنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ وَالهُدَى، فَقَالَ: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مِنْ أَثَاثِ الدُّنْيا، وَمَتَاعِهَا وَزُخْرُفِها، وَمِنَ الأَمْوَالِ الجَزِيلَةِ، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ إِسْرَافَهُمْ فِي الضَّلاَلِ، وَافْتِتَانِ الجَهَلَةِ بِمَا أَعْطَيتَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ إِذْ ظَنُّوا أَنَّكَ إِنَّمَا أَعْطَيْتَهُمْ هذا لأَنَّكَ تُحِبُّهُمْ. رَبَّنَا أَهْلِكْ أَمْوَالَهُمْ وَامْحَقْها (اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ)، وَاطْبَعْ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَزِدْهَا قَسْوَةً حَتَّى لاَ تَلِينَ، وَلاَ يَصِلَ إِلَيْهَا الإِيمَانُ، لِيَسْتَحِقُّوا عَذَابَكَ الشَّدِيدَ.
اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ - أَهْلِكْ أَمْوَالَهُمْ وَأَذْهِبْهَا وَامْحَقْهَا.
اشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ - اطْبَعْ عَلَيْهَا.
(٩٠) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا خَرَجُوا بِدُونِ إِذْنِ فِرْعَوْنَ اشْتَدَّ حَنَقُهُ عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى المَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَجْمَعُونَ لَهُ الجُيُوشَ مِنْ أَقَالِيمِ مَمْلَكَتِهِ، فَرَكِبَ وَرَاءَهُمْ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَجُيُوشٍ كَثِيفَةْ، فَلَحِقُوا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، وَهُمْ عَلَى سَاحِلِ البَحْرِ، فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ، قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: إِنَّهُمْ مُدْرِكُونَ. فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: لاَ. وَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بَعَصَاكَ البَحْرَ، فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ، وَمَرَّ مُوسَى وَقَوْمُهُ بَيْنَ طَرَفَيِّ المَاءِ. فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ المَاءِ مِنَ الطَّرَفِ الآخَرِ مِنَ البَحْرِ، وَصَلَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ إِلَى حَافَةِ البَحْرِ، فَاقْتَحَمَ المَمَرَّ وَرَاءَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَمِيعاً فِي البَحْرِ أَطْبَقَ عَلَيْهِمُ المَاءَ فَأَغْرَقَهُمْ جَمِيعاً.
وَلَمَّا غَشِيَ المَوْجُ فِرْعَوْنَ، وَشَعَرَ بِدُنُوِّ أَجَلِهِ، وَأنَّهُ لاَ مُنْقِذَ لَهُ قَالَ إِنَّهُ آمَنَ أَن لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهَ، الذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَفِي ذَلِكَ اسْتِجَابَةً لِدَعْوَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ، أَنْ يَشَُّد عَلَى قَلْبِ فِرْعَوْنَ فَلاَ يُؤْمِنْ حَتَّى يَرَى العَذَابَ الأَلِيمَ.
بَغْياً وَعَدْواً - ظُلْماً وَاعْتِدَاءً.
(٩١) - وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ قَائِلاً: أَتُؤْمِنُ الآنَ حِينَمَا أَدْرَكَكَ الغَرَقُ، وَقَدْ جَاءَتْكَ البَيِّنَاتُ مِنْ قَبْلُ، وَرَأَيْتَ مِنْ مُعْجِزَاتِ اللهِ، فَعَصَيْتَ وَكُنْتَ مِنَ المُسْتَكْبِرِينَ المُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ؟ فَدَعْوَاكَ الإِسْلاَمَ الآنَ لاَ تُقْبَلُ مِنْكَ، وَلاَ تَنْفَعُكَ.
الآنَ - الآنَ تُؤْمِنُ حِينَ أَيْقَنْتَ بِالهَلاَكِ.
(٩٢) - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ شَكُّوا فِي مَوْتِ فِرْعَوْنَ، فَأَمَرَ اللهُ البَحْرَ أَنْ يُلْقِيهِ بِجَسَدِهِ سَوِيّاً بِلاَ رُوحٍ، لِيَتَحَقَّقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مَوْتِهِ وَهَلاَكِهِ، فَتَكُونَ تِلْكَ آيَةً لَهُمْ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ، وَصِدْقِ وَعْدِهِ لِرَسُولِهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ غَافِلُونَ عَنْ آيَاتِ اللهِ، لاَ يَتَّعِظُونَ بِهَا، وَلاَ يَعْتَبِرُونَ.
(وَكَانَ هَلاَكُ فِرْعَونَ وَنَجَاةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، " فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى المَدِينَةِ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ: مَا هَذا الذِي تَصُومُونَهُ؟ فَقَالُوا يَوْمَ ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ. فَقَالَ النَّبِيُّ لأَصْحَابِهِ أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوهُ "). (رَوَاهُ البُخَارِيُّ).
آيَةً - عِبْرَةً وَعِظَةً وَنَكَالاً.
(٩٣) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ النَّعَمِ فِي الدُّنْيا، فَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ هَيَّأَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مُلْكَ فِلَسْطِينَ، وَانْتِزَاعِهَا مِنْ أَيْدِي العَمَالِيقِ الجَبَابِرَةِ، بَعْدَ أَنْ نَكَلُوا عَنْ قِتَالِهِمْ، وَتَاهُوا فِي صَحَرَاءِ التِّيْهِ (سِينَاءَ) أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَرَزَقُهْمِ فِي هَذِهِ الأَرْضِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَهِيَ الرِّزْقُ الحَلاَلُ النَّافِعُ، فَمَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ مِنَ المَسَائِلِ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بِقِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ، وَالوُقُوفِ عَلَى أَحْكَامِهَا، أَنَّ نَبِيّاً مِنْ وِلْدِ إِسَمَاعِيلَ سَيُبْعَثُ. فَقَبْلَ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَعَلَى الإِقْرَارِ بِهِ وَبِبِعْثَتِهِ. فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللهِ، كَفَرَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَآمَنَ بِهِ آخَرُونَ، وَسَيَقْضِي اللهُ بَيْنَهُمْ، يَوْمَ القِيَامَةِ، فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَيُبَيِّنُ المُحِقَّ مِنَ المُبْطِلَ، لأنَّ هَذا الاخْتِلاَفَ لاَ سَبِيلَ إِلَى إِزَالَتِهِ فِي الدُّنْيَا.
المُبَوَّأُ - مَكَانَ الإِقَامَةِ.
بَوَّأْنَا - أَنْزَلْنَا وَأَسْكَنَّا.
مَبَوَّأَ صِدْقٍ - مَنْزِلاً صَالِحاً مُرْضِياً.
(٩٤) - فَإِنَّهُ كَانَ فِي نَفْسِكَ شَكٌّ، مِمَّا أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ، مِنَ القُرْآنِ، وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنَ الشَّوَاهِدِ، مِنْ قِصَّةِ هُودٍ وَنُوحٍ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ فَرْضاً وَتَقْدِيراً، فَاسْأَلْ مَنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِالكُتُبِ التِي جَاءَتْ قَبْلَكَ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا جَاءَ فِي هَذِه ِالكُتُبِ مِنَ البِشَارَةِ بِبَعْثِكِ رَسُولاً مِنَ اللهِ إِلَى النَّاسِ، وَحِينَئِذٍ تَعْلَمُ يَقِيناً أَنَّ الذِي جَاءَكَ مِنْ رَّبِكِ هُوَ الحَقُّ، فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُتَشَكِّكِينَ.
(وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ العَرَبِ أَنْ يُقَدِّرُوا الشَّكَّ فِي الشَّيءِ لِيَبْنُوا عَلَيْهِ مَا يَنْفِي احْتِمَالَ وُقُوعِهِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ لابْنِهِ: إنْ كُنْتَ ابْنِي فَكُنْ شُجَاعاً).
المُمْتَرِينَ - المُتَشَكِّكِينَ، المُتَزَلْزِلِينَ.
(٩٥) - لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ الوَاضِحُ بِأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّ هَؤُلاَءِ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى يَعْلَمُونَ صِحَّةَ ذَلِكَ، وَيَجِدُونَ نَعْتَكَ وَصِفَتَكَ فِي كُتُبِهِمْ، فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُتَشَكِّكِينَ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ، فَتَكُونَ مِنَ الخَاسِرِينَ الذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.
(٩٦) - الذِينَ قَضَى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ، لِمَا عَلِمَ مِنْ عِنَادِهِمْ وَتَعَصُّبِهِمْ، لَن يُؤْمِنُوا مَهْمَا أَجْهَدْتَ نَفْسَكَ فِي دَعْوَتِهِمْ إِلَى الإِيمَانِ.
(٩٧) - حَتَّى وَلَوْ جِئْتَهُمْ بِجَمِيعِ الآيَاتِ الكَوْنِيَّةِ وَالمُعْجِزَاتِ، فَإِنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ. وَهَؤُلاَءِ الكَفَرَةُ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يَرَوْا العَذَابَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَيُحِسُّوا بِهِ، كَمَا تَمَّ عَلَى فِرْعَوْنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَلِمَةَ الإِيمَانِ حَتَى أَدْرَكَهُ الغَرَقُ.
(٩٨) - لَمْ تُوجَدْ قَرْيَةٌ آمَنَ أَهْلُهَا جَمِيعاً بِنَبِيِّهِمْ، مِمَّنْ سَلَفَ مِنَ القُرْى، إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ، وَهُمْ أَهْلُ نِينَوَى، وَمَا كَانَ إِيمَانُهُمْ إِلاَّ تَخَوُّفاً مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمُ العَذَابُ الذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، فَبَعْدَ أَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ نَبِيِّهِمْ مُغَاضِباً، وَعَايَنُوا أَسْبَابَ العَذَابِ، جَأَرُوا إِلَى اللهِ بِالدُّعَاءِ، وَاسْتَغَاثُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَى رَبِّهِ، وَأَحْضَرُوا أَطْفَالَهُمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَدَوَابَّهُمْ، وَسَأَلُوا اللهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُمُ العَذَابَ الذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، فَعِنْدَمَا رَحِمَهُمُ اللهُ، وَكَشَفَ عَنْهُمُ العَذَابَ، وَمَتَّعَهُمُ اللهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا إِلَى زَمَنٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ الوَقْتُ الذِي يَعِيشُ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ.
عَذَابُ الخِزْي - الذُّلُّ وَالهَوَانُ.
وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لاَ تَسْتَطِيعَ إِكْرَاهَ النَّاسِ عَلَى الإِيمَانِ، وَلاَ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الرِّسَالَةِ التِي بَعَثَكَ اللهُ بِهَا.
(١٠١) - يُرْشِدُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ إِلَى التَّفَكُّرِ فِيمَا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنَ الآيَاتِ التِي لاَ تُحْصَى، وَالتِي يَعْقِلُهَا ذَوُو الأَلْبَابِ، وَكُلُّها تَدُلُّ عَلَى أُلُوهِيَّةِ اللهِ، وَوُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ. وَلَكِنَّ مَا هِيَ فَائِدَةُ الرُّسُلِ وَالآيَاتِ وَالحُجَجِ وَالبَرَاهِينِ لِقَوْمٍ جِاحِدِينَ، لاَ يُتَوَّقَعُ إِيمَانُهُمْ، لأَنَّهُمْ لَنْ يُوَجِّهُوا أَنْظَارَهُمْ إِلَى الاعْتِبَارِ بِالآيَاتِ، وَالاسْتِدْلاَلِ بِهَا عَلَى مَا تَدِلُّ عَلَيْهِ مِنْ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ (وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ).
(١٠٣) - ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالذِينَ آمَنُوا، وَنُهْلِكَ المُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ. وَإِنْجَاءُ الرُّسُلِ وَالمُؤْمِنِينَ مِنَ العَذَابِ وَالهَلاَكِ، الذِي يُنْزِلُهُ اللهُ بِالكَافِرِينَ المُكَذِّبِينَ، حَقٌّ أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّتُهُ.
(١٠٤) - قُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلنَّاسِ: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ صِحَّةِ الدِّينِ الذِي أَدْعُو إِلَيْهِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنَ لَكُمْ أَنَّهُ الحَقُّ، فَاسْمَعُوا وَصْفَهُ، وَاعْرِضُوهُ عَلَى عُقُولِكُمْ، وَانْظُرُوا فِيهِ، لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ لا مَدْخَلَ فِيهِ لِلشَّكِّ: إِنِّي لاَ أَعْبُدُ الحِجَارَةَ التِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ رَبِّكُمْ وَخَالِقِكُمْ، بَلْ أَعْبُدُ اللهَ الذِي يَتَوَفَّى الخَلْقَ إِذَا شَاءَ، وَيَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ إِذَا أَرَادَ، وَمِثْلُ هَذا الإلهِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُعْبَدَ، وَأَنْ يُخَافَ مِنْهُ وَيُتَّقَى، وَقَدْ أُمِرْتُ بِأَنْ أَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ المُسْتَسْلِمِينَ لأَمْرِهِ تَعَالَى.
أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ - اصْرِفْ ذَاتَكَ كُلَّهَا لِلدِّينِ الحَنِيفِيِّ.
حَنِيفاً - مُنْحَرِفاً عَنِ الشِّرْكِ.
(١٠٦) - وَلاَ تَدْعُ إلهاً غَيْرَ اللهِ تَعَالَى دُعَاءَ عِبَادَةٍ، لاَ عَلَى سَبِيلِ الاسْتِقْلاَلِ، وَلاَ عَلَى سَبِيلِ الاشْتِرَاكِ، فَغَيْرَ اللهِ لاَ يَنْفَعُ وَلاَ يَضُرُّ، فَإِنْ فَعَلْتَ هَذَا، وَدَعَوْتَ غَيْرَهُ، كُنْتَ إِذَاً مِنَ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَلاَ ظُلْمَ لِلنَّفْسِ أَكْبَرُ مِنْ ظُلْمِ الشِّرْكِ بِاللهِ.
وَهَذا النَّهْيُ مُوَجَّهُ لِلأُمَّةِ لأَنَّهُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ مَعْصُومٌ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الأُمُوِر.
(١٠٨) - يَأْمُرُ اللهُ رَسُولَهُ ﷺ بِأَنْ يُخْبِر النَّاسَ جَمِيعاً، أَنَّ الذِي جَاءَهُمْ بِهِ هُوَ الحَقُّ الذِي لاَ مِرْيَةَ فِيهِ، فَمَنْ اهْتَدَى وَاتَّبَعَهُ، فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ عَنْهُ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ وَبَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: أِنَّهُ رَسُولُ اللهِ إِلَى الخَلْقِ كَافَّةً، وَإِنَّهُ نَذِيرٌ لَهُمْ غَيْرُ مُوَكَّلٍ بِهِدَايَتِهِمْ، وَلاَ بِمُسَيْطِرٍ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا الهَادِي هُوَ اللهُ.
بِوَكِيلٍ - بِحَفِيظٍ مَوْكُولٍ إِلَيْهِ أَمْرُكُمْ.
(١٠٩) - وَتَمَسَّكْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ، وَأَوْحَاهُ إِلَيْكَ، وَاصْبِرْ عَلَى مُخَالَفَةِ مَنْ خَالَفَكَ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى يَقْضِيَ اللهَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَهُوَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ وَالقَاضِينَ بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ.