تفسير سورة هود

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة هود من كتاب تفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1419 هـ

تبدأ سورة هود( ١ ) بقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير( ١ ) ﴾ : وتبدأ الآية بحروف توقيفية مقطعة من الحروف التي تبدأ بها بعض سور القرآن الكريم، أي : أن كل حرف من تلك الحروف ينطق بمفرده، والحرف-كما نعلم-له اسم، وله مسمى، ونحن حين نكتب أو نتكلم نكتب أو ننطق بمسمى الحرف لا باسمه.
ولكن بعض سور القرآن الكريم تبدأ بحروف نقرأها باسم الحرف، وما عداها ينطق فيها بمسميات الحرف.
وإن أردنا معرفة الفارق بينهما، فنحن نقرأ في أول سورة البقرة ونقول :" ألف. لام. ميم " رغم أنها مكتوبة :﴿ الم( ١ ) ﴾( ٢ ) [ البقرة ] : إذن : فنحن ننطقها بمسميات الحروف عكس قراءتنا لقول الحق سبحانه :﴿ ألم نشرح( ٣ ) لك صدرك ﴾[ الشرح ] : ونحن ننطقها بأسماء الحروف.. لماذا ؟
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سمعها هكذا من جبريل عليه السلام، والقرآن أصله سماع، وأنت لا تقرأ قرآنا إلا إذا سمعت قرآنا ؛ لتعرف كيف تقرأ الحروف المقطعة بأسماء الحروف، وتقرأ بقية الآيات بمسميات الحروف.
وكنا قديما قبل أن نحفظ القرآن " نصحح " اللوح، أي : أن يقرأ الفقيه أولا ليعلمنا كيف نقرأ أن نحفظ.
والذي يتعب الناس أنهم يريدون أن يقرأوا القرآن الكريم دون أن يجلسوا إلى فقيه أو دون أن يستمعوا إلى قارئ للقرآن.
ونقول لهم : إن القرآن ليس كتابا عاديا نقرأه، إن القرآن كتاب له خاصية مميزة، فصور الحروف تختلف، فمرة ننطق اسم الحرف، ومرة نقرأ مسمى الحرف.
وقوله الحق سبحانه :﴿ الم ﴾ في أول سورة هود ؛ يجعلنا نلحظ أنه من العجيب في فواتح السور-التي بدأت بهذه الحروف-أن القرآن مبنيّ على الوصل دائما، فأنت لا تأتي إلى آخر الآية وتقف، لا، بل كل القرآن وصل، مثلما نقرأ قول الله سبحانه :﴿ مدهامتان( ٤ )( ٦٣ )فبأي آلاء( ٥ ) ربكما تكذبان( ٦٥ )فيهما عينان نضاختان( ٦ )( ٦٦ ) ﴾[ الرحمن ].
وإن كان هناك فاصل بين كل آية وغيرها، إلا أن الآيات كلها مبنية على الوصل.
وفي آخر سورة يونس يقول الحق سبحانه :﴿ .. وهو خير الحاكمين( ١٠٩ ) ﴾[ يونس ].
فلو لم تكن موصولة لنطقت الحرف الأخير مبينا على السكون، ولكنك تقرأه منصوبا بالفتحة. وهي موصولة بما بعدها ( بسم الله الرحمن الرحيم ).
ومن العجيب أن فواتح السور مع أنها مكونة من حروف مبينة على الوصل إلا أننا نقرأ كل حرف موقوفا، فلا نقول :{ ألف لام ميم " بل نقول :" ألف لام ميم ".
وكذلك نقرأ في أول سورة مريم " كاف هاء ياء عين صاد "، ولا نقرأ الحروف بتشكيلها الإعرابي، وهذا يدل على أن لها حكمة لا نعرفها.
وفي القرآن آيات بدئت بحرف واحد مثل قول الحق سبحانه :﴿ ص والقرآن ذي الذكر( ١ ) ﴾[ ص ]، وقول الحق سبحانه :﴿ ق والقرآن المجيد( ١ ) ﴾[ ق ]، وقوله الحق سبحانه :﴿ ن والقلم وما يسطرون( ٧ )( ١ ) ﴾[ القلم ] : ونلحظ أن الحرف في هذه السورة ليس آية، ولكنك تقرأ قول الحق سبحانه :﴿ حم( ١ ) ﴾( ٨ ) [ الشورى ] : وهي آية، وكذلك تقرأ قول الحق سبحانه :﴿ عسق( ٢ ) ﴾[ الشورى ] كآية مع أنها حروف مقطعة، وتقرأ قول الحق سبحانه :﴿ كهيعص( ١ ) ﴾[ مريم ] كآية بمفردها.
وتقرأ قول الحق سبحانه :﴿ طه( ١ ) ﴾[ طه ] كأية بمفردها. وكذلك تقرأ الحق :﴿ يس( ١ ) ﴾[ يس ] كأية بأكملها.
وتجد أيضا :﴿ المص( ١ ) ﴾[ الأعراف ] كآية. و﴿ طسم( ١ ) ﴾[ الشعراء، والقصص ] كآية.
ونجد أيضا﴿ المر.. ( ١ ) ﴾[ الرعد ] ملتحمة بما بعدها في آية واحدة.
وتقرأ في أول سورة النمل :﴿ طس( ١ ) ﴾ ملتحمة بما بعدها في آية واحدة.
إذن : فالمسألة لا نسق لها، ومعنى ذلك أن لكل موقف وكل حرف حكمة، والحكمة نجدها حين نتأمل العالم المادي في الحياة، فنفطن إلى عبر الله سبحانه وتعالى فآيات الكون المحسّة، ويجد الدليل على صدق الله تعالى فيما لم نعلم.
ومثال ذلك : حين ينزل الإنسان في فندق راق فهو يجد لكل غرفة مفتاحا، وهذا المفتاح لا يفتح إلا باب غرفة واحدة، ولكن في كل طابق من طوابق الفندق هناك مفتاح مع المسئول عن الطابق يسمى " سيد المفاتيح " وهو يفتح كل غرف الطابق، وقد صنعوا ذلك ؛ حتى لا يفتح كل نزيل غرفة الأخر.
ومع التقدم العلمي جعلوا الآن لكل غرفة بطاقة الكترونية، ما إن يدخلها الإنسان من فتحة معينة من باب الغرفة حتى ينفتح الباب، وكل غرفة لها بطاقة معينة، وأيضا يوجد مع مسئول الطابق في الفندق بطاقة واحدة، تفتح كل غرف الطابق.
وأنت حين تقرأ فواتح السور فافهم أن كل آية لها مفتاح، وكل حرف في هذه الفواتح قد يشبه المفتاح، وإن لم يكن معك المفتاح ذو الأسنان التي تفتح باب الغرفة ؛ فلن تنفتح لك السورة.
إذن : فكتاب الله له مفاتيح، ونحن نقرأ حروفا مقطّعة على أنها آية، أو نقرأها كجزء من آية.
وتقول من قبل القراءة :" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ( ٩ ) لتخلص نفسك من الأغيار المناقضة لمنهج قائل القرآن، ثم تضع البطاقة الخاصة مثل قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ الم( ١ ) ﴾[ البقرة ]. فينفتح لك باب القراءة.
وهكذا نعرف أن هناك مفتاحا، وأن هناك فاتحا.
وخذ فواتح السور على أنها مفاتيح، وكل مفتاح له شكل ونحت معين، إن نقلته لسورة أخرى فهو لا يفتحها.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ الر ﴾ وهي مكونة من ثلاثة حروف، مثل﴿ الم ﴾، وقد وردت في خمس سور من القرآن الكريم هي : يونس، وهود، ويوسف، وإبراهيم، والحجر.
ولكن ﴿ الم ﴾ تقرأ كآية، ولكنها هنا في مقدمة سورة " هود " جزء من آية رغم أنك تقرأها مثلها مثل سورة يونس، وسورة هود، وسورة يوسف، وسورة إبراهيم، وتقرأها كآية.
وأيضا ( المص ) هي أربعة حروف تقرأها آية في سورة الأعراف، وهناك أربعة حروف في أول سورة الرعد، وتقرأها كجزء من آية في سورة الأعراف.
إذن : فليس هناك قانون لهذه الحروف التي في أوائل السور، بل كل حرف له خصوصية لم تتكشف كل أسرارها بعد( ١٠ )، لهذا ذهب بعض المفسرين إلى قولهم " الله أعلم بمراده ".
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ الر كتاب أحكمت آياته( ١ ) ﴾[ هود ] : والله سبحانه يقول مرة عن القرآن أنه :﴿ كتاب ﴾ ومرة يقول :﴿ قرآن( ٦١ ) ﴾[ يونس ].
والقرآن يقرأ، والكتاب يكتب، وشاء الحق سبحانه ذلك ؛ ليدلّك على أن الحافظ للقرآن مكانان : صدور، وسطور. فإن ضلّ الصدر، تذكر السطر.
ولذلك حين أراد المسلمون الأوائل جمع القرآن( ١١ )، ومطابقة ما في الصدور على ما في السطور، وضعوا أسسا لتلك العملية الدقيقة، من أهمها ضرورة وجود شاهدين على كل آية، ووقفوا عند آخر آيتين في سورة التوبة( ١٢ )، ولم يجدوا إلا شاهدا واحدا هو " خزيمة "، وصدّقوا " خزيمة " وكتبوا الآيتين عنه ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد منحه وساما، حين قال عنه :" من شهد له خزيمة فهو حسبه " ( ١٣ ).
إذن : فإطلاق صفة الكتاب على القرآن، سببها أنه مكتوب، وهو قرآن ؛ لأنه مقروء.
ولم تكن الكتابة في الأزمنة القديمة مسألة سهلة، فلم يكن يكتب إلا النفيس من الأعمال، أو لأن القرآن كتاب ؛ لأنه في الأصل مكتوب في اللوح المحفوظ.
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى واصفا القرآن :﴿ كتاب أحكمت آياته.. ( ١ ) ﴾[ هود ] : ومادة الحاء والكاف والميم( ١٤ ) تدل على أمر محس وهو إتقان البناء، بحيث يمنع عنه الفساد ؛ فلا خلل فيه، ولا تناقض، ولا تعارض ولا انهيار.
ولابد من توازن هندسي لكل فتحة في البناء ؛ حتى لا تكون الفتحات التي في البناء متوازية على خط واحد، فتحدث شروخ في الجدران أو انهيار البناء كله. هذا هو إحكام البناء في عالم المحسّات. وشاء الحق سبحانه أن يصف القرآن، وهو الجامع لكل المنهج بأنه :﴿ كتاب أحكمت آياته.. ( ١ ) ﴾[ هود ] : فخذوا من هذا الإحكام( ١٥ ) ما يمنع فسادكم ؛ لأن القرآن جاء على هيئة تمنع الفساد فيه، وعقد معه الفساد يكون الإصلاح والصلاح.
ولو نظرت إلى أن القرآن الكريم في اللوح المحفوظ ستجده قد نزل جملة واحدة، ومن اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وجاء الوحي بعد ذلك حسب الأحداث التي تتطلب الأحكام، وقد نثر الحق سبحانه في القرآن أحكاما وفصولا ونجوما.
إذن : فالقرآن قد أحكم أولا، ثم فصل( ١٦ ).
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ كتاب أحكمت آياته ثم فصلت.. ( ١ ) ﴾[ هود ].
والفواصل الكبيرة في القرآن هي السور، والفواصل الصغيرة هي الآيات، وأراد المسلمون أن يشجعوا حفظ القرآن، فقسموه إلى ثلاثين جزءا، وكل جزء قسموه إلى حزبين، وكل حزب قسموه إلى أربعة أرباع، لكن التفصيل الذي جاء لنا من القرآن أنه سور، وكل سورة هي مجموعة من الآيات.
وقد يكون المعنى أن القرآن قد أحكم وفصّل ؛ لأنه نزل منهجا جامعا من الله سبحانه وتعالى.
وحين تنظر إليه تجده منوّعا، فمرة يتكلم في العقيدة وقمتها، ومرة يتكلم في النبوة وموكبها الرسالي، والمعجزات، ومرة يتكلم في الأحكام، ومرة يتكلم في القصص، والأخلاقيات، والكونيات. ومرة يتكلم في علم الفرائض( ١٧ ).
إذن : فهو مفصل في اللفظ أو في المعنى، وهو يتناول معاني كثيرة، وكل معنى تتطلبه العقيدة، قمة في الشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويتناول الجزئيات حتى أدق التفاصيل.
أو أحكم نزولا ؛ لأنه قد نزل مرة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم فصّل حسب الحوادث، وهذا ادعى إلى أن تتعلق النفس بكل نجم من نجوم القرآن حين ينزل وقت طلبه.
وأنت حين تعد لنفسك صيدلية صغيرة في البيت، قد تأتي فيها بكل الأدوية، لكن إن أصابك صداع، فقد تفتش عن أقراص " الأسبرين " فلا تجدها. أما إذا أرسلت إلى الصيدلية الكبيرة، فسوف تجد " الأسبرين " حين تحتاجه.
وكذلك حين تكون ظمآن، قد تفتح ثلاجة بيتك فلا تجد زجاجة الماء رغم أنها أمامك، وذلك بسبب لهفة العطش.
إذن : فنزول القرآن منجما شاءه الحق_سبحانه-لتنتعش النفس الإنسانية وهي تعشق استقبال القرآن.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وقرآنا فرقناه( ١٨ ) لتقرأه على الناس على مكث( ١٩ ) ونزلناه تنزيلا( ١٠٦ ) ﴾[ الإسراء ].
وقد جاء في القرآن على لسان الكافرين :﴿ لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة.. ( ٢٢ ) ﴾[ الفرقان ].
فيكون الرد من الحق سبحانه :﴿ .. كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا( ٣٢ ) ﴾[ الفرقان ].
ولو كان القرآن قد نزل مرة واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما التفت الناس إلى كل ما جاء فيه، ولكن شاء الحق سبحانه وتعالى أن ينزل القرآن منجّما( ٢٠ ) على الرسول صلى الله عليه وسلم، ليكون في كل نجم تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المواقف المختلفة، والرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك أمته من بعده في حاجة إلى تثبيتات متعددة حسب الأحداث التي تعترضهم، ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ .. كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا( ٢١ )( ٣٢ ) ﴾[ الفرقان ].
فساعة أن يسمع المؤمنون نجما من نجوم القرآن، يكونون أقدر على استيعابه وحفظه وتطبيق الأحكام التي جاءت فيه.
ولم ينزل الحق سبحانه آية واحدة، بل أنزل آيات، بدليل أنهم إن جاءوا بحكم ما، فهو سبحانه وتعالى ينزل الحق في هذا الحكم وأكثر تفصيلا ؛ ولذلك يقول سبحانه :﴿ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا( ٣٣ ) ﴾[ الفرقان ].
ولو نزل القرآن جملة واحدة، فكيف يعالج أسئلتهم التي جاءت في القرآن :﴿ يسألونك
١ سورة هود هي سورة الحادية عشرة في ترتيب سور القرآن، وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وغيرهما. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية، وهي قوله تعالى:{وأقم الصلاة طرفي النهار..(١١٤)﴾[هود]. وعدد آياتها (١٢٣) آية.
سميت باسم نبي الله هود عليه السلام، الذي أرسل إلى قوم ثمود، ذكر فيها اسم النبي هود ٥ مرات. وذكر في سورة الشعراء آية ١٢٤، وفي الأعراف آية ٦٥.
قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شيبتني هود وأخواتها: الواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت"أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (١/٣٥٨).
قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله في "نوادر الأصول": فالفزع يورث الشيب، وذلك أن الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسد وتحت كل شعرة منبع، ومنه يعرق، فإذا نشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر فابيض، كما ترى الزرع الأخضر بسقائه، فإذا ذهب سقاؤه يبس فابيض.
فالنفس تذهل بوعيد الله، وأهوال ما جاء به الخبر عن الله، فتذبل، وينشف ماءها ذلك الوعيد والهول الذي جاء به، فمنه تشيب.
وسورة هود، فيها ذكر الأمم، وما حل بهم من عاجل بأس الله تعالى، فأهل اليقين إذا تلوها تراءى على قلوبهم من ملكه وسلطانه ولحظاته البطش بأعدائه، فلو ماتوا من الفزع لحق لهم، ولكن الله تبارك وتعالى اسمه يلطف بهم في تلك الأحايين حتى يقرءوا كلامه. نقله القرطبي في تفسيره (٤/٣٣١٩).
.
٢ ﴿الم﴾ ذكرت في افتتاح ست سور هي: البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة. وتحسب آية مستقلة..
٣ أي: وسعناه معنويا، وأنزلنا عنه الضيق والهم. والمراد: أرضيناك وسررناك. أو هو شق الصدر فعلا حسيا. أو هم معا.[القاموس القويم]..
٤ مدهامتان: سوداوان من شدة خضرتهما وكثرة الظلال وهذا كناية عن النعيم التام (وهو وصف للجنتين اللتين ورد ذكرهما في قول الله تعالى في آية:﴿ومن دونهما جنتان(٦٢)﴾[الرحمن]..
٥ الآلاء: النعم، مفردها: إلي أو إلى (بكسر الهمزة، وبفتحها) قال تعالى:﴿.. فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون(٦٩)﴾[الأعراف]، وقال تعالى:﴿فبأي آلاء ربك تتمارى(٥٥)﴾[النجم].[القاموس القويم-بتصرف]..
٦ نضاختان: فوراتان بالماء لا ينقطعان. ويخرج ماؤهما غزيرا، ونضاخة: صيغة مبالغة تدل على الكثرة.[تفسير الجلالين: ص ٤٧٠]و[القاموس القويم] بتصرف..
٧ يسطرون: يكتبون. من سطر الكتاب أي: جعله سطورا..
٨ ﴿حم﴾: ذكرت في افتتاح سبع هي: غافر، وفصلت، والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف. وتحسب آية مستقلة-والله أعلم بمعناها.[القاموس القويم]. وتسمى الحواميم..
٩ قال عز وجل:﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم(٩٨)﴾[النحل]، عن عطاء قال: الاستعاذة واجبة لكل قراءة في الصلاة أو غيرها. أورده السيوطي في الدر المنثور(٥/١٦٥) طبعة الفكر، وعزاه لعبد الرزاق في المصنف وابن المنذر..
١٠ قال السيوطي في "الإتقان في علوم القرآن"(٣/٢١):"المختار فيها أنها من الأسرار التي لا يعلمها إلا الله تعالى. عن عامر الشعبي: أنه سئل عن فواتح السور. فقال: إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا الكتاب فواتح السور".
قال ابن كثير في تفسيره (١/٣٧):"مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا وهي: أ ل م ص ر ك هـ ى ع ط س ح ق ن-يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر"..

١١ المقصود به هنا جمع القرآن عل عهد أبي بكر رضي الله عنه، بعد أن اشتد القتل بقراء القرآن في الغزوات، فأشار عليه عمر بجمع القرآن، فأرسل إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه وقال له: إنك شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. فأخذ زيد يجمعه من العسب(هو سعف النخيل) واللخاف (حجارة بيض عريضة رقاق) وصدور الرجال. انظر الإتقان في علوم القرآن (١/١٦٥)..
١٢ هاتان الآيتان هما:﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم(١٢٨) فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم(١٢٩)﴾[التوبة]..
١٣ أخرجه الحاكم في مستدركه(٢/١٨) والطبراني في معجمه الكبير(٤/١٠١) من حديث خزيمة بن ثابت. قال الهيثمي في المجمع (٩/٣٢٠):"رجاله كلهم ثقات"..
١٤ أحكم الأمر: أتقنه. قال تعالى:﴿ثم يحكم الله آياته..(٥٢)﴾[الحج]، أي: يبينها ويجعلها متقنة مقنعة محكمة، وآيات محكمة: متقنة مقنعة واضحة، وقيل: محكمة غير منسوخة أو محكمة غير متشابهة فلا تحتاج إلى تأويل، قال تعالى:﴿منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات..(٧)﴾]آل عمران]، وقال تعالى:﴿فإذا أنزلت سورة محكمة..(٢٠)﴾[محمد]
أي: متقنة.[القاموس القويم]..

١٥ قال القرطبي في تفسيره(٤/٣٣٢٠):"أحسن ما قيل في معنى:﴿أحكمت آياته..(١)﴾[هود] قول قتادة، أي: جعلت محكمة كلها لا خلل فيها ولا باطل، والإحكام منع القول من الفساد، أي: نظمت نظما محكما، لا يلحقها تناقض ولا خلل"..
١٦ فصل الشيء: جعله أقساما متميزة واضحة، قال تعالى:﴿.. وكل شيء فصلناه تفصيلا(١٢)﴾[الإسراء]، وقال تعالى:﴿آيات مفصلات..(١٣٣)﴾[الأعراف] أي: معجزات مبينات واضحات، وقال تعالى:﴿ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم..(٥٢)﴾[الأعراف]..
١٧ الفرائض المعنى بها علم المواريث، أخذا مما فرضه الله لكل واحد من أصحاب الفروض..
١٨ قرئت هذه الكلمة بقراءتين: فرقناه، فرقناه (بتشديد الراء)-فعلى القراءة الأولى فمعناه: فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا منجما على الوقائع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة، قاله عكرمة عن ابن عباس.
-وعلى القراءة الثانية فمعناه: أنزلناه آية مبينا مفسرا، قال ابن عباس أيضا. ولهذا قال:﴿لتقرأه على الناس..(١٠٦)﴾أي: لتبلغه الناس وتتلوه عليهم:﴿على مكث﴾أي: مهل.﴿ونزلناه تنزيلا﴾ أي: شيئا بعد شيء. تفسير ابن كثير (٣/٦٨)..

١٩ مكث: أقام في مكانه، وتفيد التأني وعدم العجلة. وقوله تعالى:﴿لتقرأه على الناس على مكث..(١٠٦)﴾[الإسراء] أي: على مهل وتأن بغير عجلة في أزمنة متطاولة. وقال تعالى:﴿فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به..(٢٢)﴾[النمل] أي: استمر الهدهد في غيبته مدة طويلة. وقال تعالى:﴿وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض..(١٧)﴾[الرعد] أي: يبقى مدة طويلة فيها فيزيدها خصبا. وقال تعالى:﴿امكثوا إني آنست نارا..(١٠)﴾[طه] أي: أقيموا في مكانكم منتظرين.[القاموس القويم]..
٢٠ منجما: مفرقا؛ لأن القرآن أنزل على سماء الدنيا جملة واحدة، ثم أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم آية آية، وكان بين أول ما نزل منه وآخره عشرون سنة.[لسان العرب، مادة: نجم] فنزول القرآن كان منجما حسب مقتضى حال الدعوة، فالآيات المكية تناولت العقيدة وتقويم العادات، وإعلاء القيم والتمهيد لعبادة الله، والآيات المدنية تناولت العبادات والمعاملات لإقامة صرح العدالة في المجتمع..
٢١ رتلناه ترتيلا: أنزلناه مرتلا منسقا مجودا حسن التأليف [القاموس القومي] قال ابن منظور في اللسان "أي: أنزلناه على الترتيل، وهو ضد العجلة والتمكث فيه"..
إذن : فقد أحكمت آيات الكتاب وفصّلت لغاية هي : ألا نعبد إلا الله.
والعبادة هي طاعة العابد للمعبود فيما أمر، وفيما نهى.
وهكذا نجد أن العبادة تقتضي وجود معبود له أمر وله نهي، والمعبود الذي لا أمر له ولا نهي لا يستحق العبادة، فهل من عبد الصنم تلقّى منه أمرا أو نهيا ؟
وهل من عبد الشمس تلقّى منها أمرا أو نهيا ؟
إذن : فكلمة العبادة لكل ما هو غير الله هي عبادة باطلة ؛ لأن مثل تلك المعبودات لا أمر لها ولا نهي، وفوق ذلك لا جزاء عندها على العمل الموافق لها أو المخالف لها.
والعبادة بدون منهج " افعل " و " لا تفعل " لا وجود لها، وعبادة لا جزاء عليها ليست عبادة.
وهنا يجب أن نلحظ أن قول الحق سبحانه :﴿ ألا تعبدوا إلا الله.. ( ٢ ) ﴾[ هود ]، غير قوله سبحانه :﴿ اعبدوا الله.. ( ٧٢ ) ﴾[ المائدة ].
ولو أن الرسل تأتي الناس وهم غير ملتفتين إلى قوة يعبدونها ويقدسونها لكان على الرسل أن يقولوا للناس :﴿ اعبدوا الله.. ( ٥٩ ) ﴾[ الأعراف ]، ولكن هنا يقول الحق سبحانه :﴿ ألا تعبدوا إلا الله.. ( ٢ ) ﴾[ هود ] : فكأنه سبحانه يواجه قوما لهم عبادة متوجهة على غير من يستحق العبادة ؛ فيريد سبحانه أولا أن ينهي هذه المسألة، ثم يثبت العبادة لله.
إذن : فهنا نفي وإثبات، مثل قولنا :" أشهد ألا إله إلا الله "، هنا ننفي أولا أن هناك إلها غير الله، ونثبت الألوهية لله سبحانه.
وأنت لا تشهد هذه الشهادة إلا إذا وجد قوم يشهدون أن هناك إلها غير الله تعالى، ولو كانوا يشهدون بألوهية الإله الواحد الأحد سبحانه ؛ لكان الذهن خاليا من ضرورة أن نقول هذه الشهادة( ١ ).
ولكن قول الحق سبحانه :﴿ ألا تعبدوا إلا الله.. ( ٢ ) ﴾[ هود ] : معناه النفي أولا للباطل، وإذا نفي الباطل لابد أن يأتي إثبات الحق، حتى يكون كل شيء قائما على أساسا سليم.
ولذلك يقال :" درء( ٢ ) المفسدة مقدّم دائما على جلب المنفعة " فالبداية ألا تعبد الأصنام، ثم وجّه العبادة إلى الله سبحانه.
وما دامت العبادة هي طاعة الأمر، وطاعة النهي، فهي-إذن-تشمل كل ما ورد فيه أمر، وكل ما ورد فيه نهي.
وإن نظرت إلى الأوامر والنواهي لوجدتها تستوعب كل أقضية الحياة من قمة الشهادة بأن لا إله إلا الله، إلى إماطة( ٣ ) الأذى عن الطريق( ٤ ).
وكل حركة تتطلبها الحياة لإبقاء الصالح على صلاحه أو زيادة الصالح ليكون أصلح، فهذه عبادة. إذن : فالإسلام لا يعرف ما يقال عنه " أعمال دنيئة "، و " أعمال شريفة "، ولكنه يعرف أن هناك عاملا دنيئا وعاملا شريفا.
وكل عامل يعمل عملا تتطلبه الحياة بقاء للصالح أو ترقية لصلاحه وعد الإفساد، فهذا عامل شريف ؛ وقيمة كل امرئ فيما يحسنه.
وهكذا نجد أن كلمة العبادة تستوعب كل أقضية الحياة ؛ لأن هناك أمرا بما يجب أن يكون، وهناك نهيا عما يجب ألا يكون، وما لم يرد فيه نهي لك الخيار في أن تفعله أو لا تفعله، فإذا نظرت إلى نسبة ما تؤمر به، ونظرت إلى ما تنهي عنه بالنسبة لأعمال الحياة، لوجدت أنها نسبة لا تتجاوز خمسة في المائة من كل أعمال الحياة، ولكنها الأساس الذي تقوم عليه كل أوجه الحياة.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان " ( ٥ ).
وأعداء الإسلام يحاولون أن يحددوا الدين في هذه الأركان الخمسة، ولكن هذه الأركان هي الأعمدة التي تقوم عليها عمارة الإسلام.
وأركان الإسلام هي إعلان استدامة الولاء لله تعالى، وكل أمر من أمور الحياة هو مطلوب للدين ؛ لأنه يصلح الحياة.
وهكذا نجد أن العلم بالدين ضرورة لكل إنسان على الأرض، أما العلوم الأخرى فهي مطلوبة لمن يتخصص فيها ويرتقي بها ليفيد الناس كلهم، وكلما كان المتفوق من المسلمين كان ذلك تدعيما لرفعة الإسلام.
إذن : فالقاسم المشترك في الحياة هو العلم بالدين، ولكن يجب أن نفهم هذه القضية على قدرها، فلا يأتي إنسان لا يعرف صحيح الدين ليتكلم والعول( ٦ )، والرد( ٧ ) ؛ لأن المسلم قد تمر حياته كلها ولا يحتاج رأيا في قضية التوريث، أو أن يتعرف على المستحقين للميراث وأنصبتهم، وغير ذلك.
وإن تعرّض المسلم لقضية مثل هذه، نقول له : أنت إذا تعرضت لقضية مثل هذه فاذهب إلى المختصين بهذا العلم، وهم أهل الفقه والفتوى، لأنك حين تتعرض لقضية صحية تذهب إلى الطبيب، وحين تتعرض إلى قضية هندسية تذهب إلى المهندس، وإن تعرضت لعملية محاسبية تذهب إلى المحاسب، فإن تعرضت إلى أي أمر ديني، فأنت تسأل عنه أهل الذكر( ٨ ).
وأنت إذا نظرت إلى العبادة، تجد أنها تتطلب كل حركة في الحياة، وسبق أن ضربت لذلك مثلا وقلت : هب أن إنسانا يصلي، ولا يفعل شيئا في الحياة غير الصلاة، فمن أين له أن يشتري ثوبا يستر به عورته ما دام لا يعمل عملا آخر غير الصلاة، وهو إن أراد أن يشتري ثوبا، فلا بد له من عمل يأخذ مقابله أجرا، ويشتري الثوب من تاجر التجزئة، الذي اشترى الأثواب من تاجر الجملة، وتاجر الجملة اشتراها من المصنع، في الدين ؛ لأن العلم بالدين يقتضي اللجوء على أهل الذكر.
فإن قيل : الدين للجميع، نقول : صدقت بمعنى التدين للجميع، أما العلم بالدين فله الدراسة المتفقهة( ٩ ).
وأهل الذكر أيضا في العلوم الأخرى يقضون السنوات لتنمية دراساتهم، كما في الطب أو الهندسة أو غيرهما، وكذلك الأعمال المهنية تأخذ من الذي يتخصص فيها وقتا وتتطلب جهدا، فما بالنا بالذي يصلح أسس إقامة الناس في الحياة، وهو التفقه في الدين.
لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ .. فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون( ١٢٢ ) ﴾[ التوبة ].
فنحن لا نطلب من كل مسلم-مثلا-أن يدرس المواريث ليعرف العصبة( ١٠ ) وأصحاب الفروض( ١١ )، وأولى الأرحام( ١٢ )، والمصنع قام بتفصيل الثياب بعد أن نسجها مصنع آخر، والمصنع الآخر نسج الثياب من غزل القطن أو الصوف. والقطن جاء من الزراعة، والصوف جاء من جز( ١٣ ) شعر الأغنام.
وهكذا تجد أن مجرد الوقوف أمام خالقك لتصلي يقتضي أن تكون مستور العورة في صلاتك، هذا الستر يتطلب منك أن تتفاعل مع الحياة بالعمل.
وانظر لنفسك واسألها : ماذا أفطرت اليوم ؟
وأقلّ إجابة هي : أفطرت برغيف وقليل من الملح، وستجد أنك اشتريت الرّغيف من البقال، وجاء البقال بالرغيف من المخبز، والمخبز جاء بالدقيق من المطحن، والمطحن أنتج الدقيق بعد طحن الغلال التي جاءت من الحق. وكذلك تمت صناعة آلات الطحن في مصانع أخرى قد تكون أجنبية.
وهكذا تمت صناعة الرغيف بسلسلة هائلة من العمليات، فهناك الفلاح الذي حرث، وهناك مصمم آله الطحن الذي درس الهندسة، وهناك عالم " الجيولوجيا " الذي درس طبقات الأرض ليستخرج الحديد الخام من باطنها، وهناك مصنع الحديد الذي صهر الحديد الخام ؛ ليستخلص منه الحديد النقي الصالح للتصنيع.
وهكذا تجد أن كل حركة في الحياة قد خدمت قضية دينك، وخدمت وقوفك أمام خالقك لتصلي، فلا تقل :" سأنقطع للعبادة " بمعنى أن تقصر حياتك على الصلاة فقط، لأن كل حركة تصلح في الحياة هي عبادة، وإن أردت ألا تعمل في الحياة، فلا تنتفع بحركة عامل في الحياة. وإذا لم تنتفع بحركة أي عامل في الحياة، فلن تقدر أن تصلي، ولن تقدر أن يكون لك قوة لتصلي.
إذن : فالعبادة هي كل حركة تتطلبها الحياة في ضوء " افعل " و " لا تفعل " ( ١٤ ).
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير( ١٥ ) وبشير( ١٦ )( ٢ ) ﴾[ هود ] : والنذير( ١٧ ) : هو من يخبر بشر زمنه لم يجيء، لتكون هناك فرصة لتلافي العمل الذي يوقع في الشر، والبشير هو من يبشّر بخير سيأتي إن سلك الإنسان الطريق إلى ذلك الخير.
إذن : الإنذار والبشارة هي أخبار تتعلق بأمر لم يجيء.
وفي الإنذار تخويف ونوع من التعليم، وأنت حين تريد أن تجعل ابنك مجدا في دراسته ؛ تقول له : إن لم تذاكر فسوف تكون كابن فلان الذي أصبح صعلوكا تافها في الحياة.
إذن : فأنت تنذر ابنك ؛ ليتلافى من الآن العمل الذي يؤذي به إلى الفشل الدراسي.
وكذلك يبشر الإنسان ابنه أو أي إنسان آخر بالخير الذي ينتظره حين يسلك الطريق القويم.
إذن : فالعبادة هي كل حركة من حركات الحياة ما دام الإنسان متّبعا ما جاء بالمنهج الحق في ضوء " افعل " و " لا تفعل "، وما لم يرد فيه " افعل " و " لا تفعل " فهو مباح.
وعلى الإنسان المسلم أن يبصّر نفسه، ومن حوله بأن تنفيذ أي فعل في ضوء " افعل " هو العمل المباح، وأن يمتنع عن أي فعل في ضوء " لا تفعل " ما دام الحق سبحانه وتعالى قد نهى عن مثل هذا الفعل، وعلى المسلم تحرّي الدقة في مدلول كل سلوك.
ونحن نعلم أن التكليفات الإيمانية قد تكون شاقة على النفس، ومن اللازم أن نبيّن للإنسان أن المشقة على النفس ستأتي له بخير كبير.
ومثال ذلك : حين نجد الفلاح وهو يحمل السماد العضوي من حظيرة البهائم ؛ ليضعه على ظهر الحمار ويذهب به إلى الحقل ؛ ليخلطه بالتربة، وهو يعمل هذا العمل بما فيه من مشقة انتظار ليوم الحصاد.
ويبيّن الحق-سبحانه وتعالى-هنا على لسان رسوله أن الأمر بعدم عبادة أي كائن غير الله، هو أمر من الله سبحانه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو نذير وبشير من الله.
وقول الحق سبحانه وتعالى : ألا تعبدوا إلا الله.. ( ٢ ) }[ هود ] : فيه نفي لعبادة غير الله، وإثبات لعبودية الله تعالى.
وهذا يتوافق ويتسق مع الإنذار والبشارة( ١٨ ) ؛ لأن عبادة غير الله تقتضي نذيرا، وعبادة الله في الإسلام تقتضي بشيرا.
ولأن الحق سبحانه وتعالى هو خالق الإنسان ويعلم ضعف الإنسان، ومعنى هذا الضعف أنه قد يستولي عليه النفع العاجل، فيذهبه عن خير آجل أطول منه، فيقع في بعض من غفلات النفس.
لذلك بيّن الحق سبحانه أن من وقع في بعض غفلات النفس عليه أن يستغفر الله ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يبخل برحمته على أحد من خلقه.
وإن طلب العبد المذنب مغفرة الله، فسبحانه قد شرع التوبة، وهي الرجوع عن المعصية إلى طاعة الله تعالى.
ولا يقع عبد في معصية إلا لأنه تأبّى على منهج ربه، فإذا ما تاب واستغفر، فهو يعود إلى منهج الله سبحانه، ويعمل على ألا يقع في ذنب جديد.
١ لأن الشهادة تكون في قضية وعلى قضية، فالذي يشهد أن لا إله إلا الله: فقد نفى الألوهية لغير الله، وأثبتها له؛ لأن المقام يقتضي ذلك، فهذا إحكام في المبنى والمعنى، فقوله تعالى:﴿ألا تعبدوا إلا الله..(٢)﴾[هود] فقد قصر العبادة لله، أما الشهادة على القضية فالكون بما فيه ومن فيه يثبت ألوهية الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي بيده الملك، وهو على كل شيء قدير..
٢ درء: دفع وإبعاد. قال تعالى:﴿ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله..(٨)﴾[النور] أي: ويدفع عنها عذاب الحد أن تشهد هذه الشهادة، وبقية الحكم في سورة النور في الآيتين رقمي (٩، ٨).[القاموس القويم]..
٣ إماطة الأذى عن الطريق: تنحيه وإبعاده عن طريق الناس حتى لا يؤذيهم. والأذى قد يكون أحجارا أو أي شيء قد يؤذي الناس ويعوق سيرهم في الطريق..
٤ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون-أو بضع وستون شعبة-فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". أخرجه مسلم في صحيحه(٣٥) كتاب الإيمان، وكذا أخرجه البخاري في صحيحه(٩) دون: أفضلها، وأدناها..
٥ متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه(٨)، ومسلم(١٦) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما..
٦ العول في اللغة: الارتفاع. وعند الفقهاء: زيادة في سهام ذوي الفروض، ونقصان كمن مقادير أنصبتهم في الإرث. وهي مسألة تظهر عند حساب الأنصبة، فيضطر مقسم التركة إلى الزيادة في جانب والنقصان في جانب..
٧ الرد: أي: رد ما فضل من التركة إلى أصحاب الفروض بنسبة فروضهم، عند عدم استحقاق الغير، ويتحقق ذلك بأركان ثلاثة:
١- وجود صاحب الفرض.
٢- بقاء فائض من التركة.
٣- عدم العاصب.
راجع تفصيلات هذه المسائل وتطبيقاتها في كتاب (فقه) للشيخ سيد سابق، وغيره من كتب الفقه..

٨ يقول رب العزة سبحانه وتعالى:﴿.. فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون(٧)﴾[الأنبياء]..
٩ الفقه: الفهم، وفقه يفقه فهو فقيه: صار عالما فاهما. والفقه في الاصطلاح: علم أحكام العبادات والمعاملات وهو فرع من فروع المعارف الدينية. قال تعالى:﴿.. فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا(٧٨)﴾[النساء]. وقال تعالى:﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين..(١٢٢)﴾[التوبة] أي: ليدرسوا أحكام الدين وليتعلموها. بالقاموس القويم-بتصرف]..
١٠ العصبة: هم بنو الرجل وقرابته لأبيه. والمقصود بهم في المواريث الذين يصرف لهم باقي التركة بعد أن يأخذ أصحاب الفروض أنصباءهم المقدرة لهم. وأمثلتهم الأخ والعم، والأب إذا بقي شيء بعد تقسيم التركة يأخذه بالتعصيب بجانب الفرض الذي فرضه الله له..
١١ أصحاب الفروض هم الذين لهم فرض-أي: نصيب-وهما اثنا عشر: أربعة من الذكور، وهم: الأب والجد الصحيح وإن علا، والأخ لأم، والزوج. وثمان من الإناث، وهن: الزوجة، والبنت، والأخت الشقيقة، والأخت لأب، والأخت لأم، وبنت الابن، والأم، والجدة الصحيحة وإن علت، ولكل منهم نصيب مقدر ذكره القرآن الكريم..
١٢ أولو الأرحام هم كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة. ذهب مالك والشافعي إلى عدم توريثهم، ويكون المال لبيت المال، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى توريثهم، في حالة عدم وجود أصحاب الفروض والعصبات..
١٣ جز الشعر والصوف: قطعه..
١٤ افعل: أمر من الآمر وهو الله. ولا تفعل: نهي من الله. والأمر يعطي الفرض والسنة والمستحب. والنهي يعطي الحرام، والمكروه السكوت عنه مباح، هذا هو التكليف الشرعي، وهو مبدأ الاختيار، وهذا التكليف الشرعي يندرج تحته الأمر بفعل الخير، سواء كان تعبديا أو معاشيا، ومن هنا تعتدل موازين العدل الاجتماعي..
١٥ النذير: الذي ينذر الكافرين والمشركين والعصاة بعذاب الله. وقال تعالى:﴿إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا..(١١٩)﴾[البقرة] وقال تعالى:﴿فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين..(٢١٣)﴾[البقرة]..
١٦ البشير: الذي يبشر القوم بالخبر السار، وهو هنا بمعنى الرسول الذي يبشر المؤمنين بثواب الله وجنته ونعيمه جزاء على إيمانهم وعبادتهم. قال تعالى:﴿فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا(٩٧)﴾[مريم]. أي: قوما شديدي الخصومة. وقال تعالى:﴿وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات..(٢٥)﴾[البقرة].[القاموس القويم-بتصرف]..
١٧ النذير: الإنذار والمنذر، وجمعه نذر. قال تعالى:﴿ما جاءنا من بشير ولا نذير..(١٩)﴾[المائدة] والنذير هنا: هو الرسول المنذر بالعذاب، وقوله:﴿فكيف كان عذابي ونذر(١٦)﴾[القمر] يحتمل إنذاراتي، ويحتمل نتائج إنذاراتي، أي عقوباتي التي انذروا بها، وحذفت ياء المتكلم تخفيفا. راجع القاموس القويم ص ٢٥٩، ٢٥٨ ج ٢..
١٨ البشرى والبشارة: ما يعطي للمبشر بالخير السار. والبشير الذي يبشر القوم بالأخبار المحبوبة، والرسول بشير؛ لأته يبشر المؤمنين بالجنة وبثواب الله. يقول الحق:﴿إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا(٨)﴾[الفتح]، ويقول الحق:﴿وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا(٤٧)﴾[الأحزاب] القاموس القويم باختصار..
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا( ١ ) حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير( ٣ ) ﴾ :
وهكذا يبيّن الحق سبحانه أن على العبد أن يستغفر من ذنوبه السابقة التي وقع فيها، وأن يتوب من الآن، وأن يرجع إلى منهج الله تعالى، لينال الفضل من الحق سبحانه.
المطلوب-إذن-من العبد أن يستغفر الله تعالى، وأن يتوب إليه.
هذا هو مطلوب الله من العاصي ؛ لأن درء( ٢ ) المفسدة مقدّم على جلب( ٣ ) المصلحة، وحين يعجل العبد بالتوبة إلى الله تعالى فهو يعلم أن ذنبا قد وقع وتحقق منه، وعليه ألا يؤجل التوبة إلى زمن قادم ؛ لأنه لا يعلم إن كان سيبقى حيا أم لا.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى.. ( ٣ ) ﴾[ هود ]، والحق سبحانه يجمل قضية إتباع منهجه في قوله تعالى :﴿ .. فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى( ١٢٣ ) ﴾[ طه ]، وقال في موضع آخر :﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة.. ( ٩٧ ) ﴾[ النحل ] : فالحياة الطيبة في الدنيا وعدم الضلال والشقاء متحققان لمن اتبع منهج الله تعالى.
وظن بعض العلماء أن هذا القول يناقض في ظاهره قول النبي صلى الله عليه وسلم بأن " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " ( ٤ ). و " إن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل( ٥ ) فالأمثل " ( ٦ ).
وقال بعض العلماء : فكيف نقول :﴿ يمتعكم متاعا حسنا.. ( ٣ ) ﴾[ هود ] : هنا نقول : ما معنى المتاع ؟
المتاع : هو ما تستمتع به وتستقبله بسرور وانبساط.
ويعلم المؤمن أن كل مصيبة في الدنيا إنما يجزيه الله عليها حسن الجزاء، ويستقبل هذا المؤمن قضاء الله تعالى بنفس راضية ؛ لأن ما يصيبه قد كتبه الله عليه، وسوف يوافيه بما هو خير منه.
وهناك بعض من المؤمنين قد يطلبون زيادة الابتلاء.
إذن : فالمؤمن كل أمره خير ؛ وإياك أن تنظر إلى من أصابته الحياة بأية مصيبة على أنه مصاب حقا ؛ لأن المصاب حقا هو من حرم من الثواب.
ونحن نجد في القرآن قصة العبد الصالح الذي قتل غلاما كان أبواه مؤمنين، فخشي العبد الصالح أن يرهقهما طغيانا وكفرا، فهذا الولد كان فتنة، ولعله كان سيدفع أبويه إلى كل محرم، ويأتي لهما بالشقاء( ٧ ).
إذن : فالمؤمن الحق هو الذي يستحضر ثواب المصيبة لحظة وقوعها.
ومنّا من قرأ قصة المؤمن الصالح الذي سار في الطريق من المدينة إلى دمشق، فأصيبت رجله بجرح وتلوث هذا الجرح، وامتلأ بالصديد مما يقال عنه في الاصطلاح الحديث " غرغرينة " وقرر الأطباء أن تقطع رجله، وحاولوا أن يعطوه " مرقّدا " أي : مادة تخدّره، وتغيب به عن الوعي ؛ ليتحمل ألم بتر الساق، فرفض العبد الصالح وقال : إني لا أحب أن أغفل عن ربي طرفة عين.
ومثل هذا العبد يعطيه الله سبحانه وتعالى طاقة على تحمّل الألم ؛ لأنه يستحضر دائما وجوده في معية الله، ومفاض عليه من قدرة الله وقوته سبحانه.
وحينما قطع الأطباء رجله، وأرادوا أن يكفنوها وأن يدفنوها، فطلب أن يراها قبل أن يفعلوا ذلك، وأمسكها ليقول : اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو، فإني قد عوفيت في أعضاء.
إذن : فصاحب المصيبة حين يستحضر الجزاء عليها، إنما يحيا في متعة، ولذلك لا تتعجب حين يحمد أناس خالقهم على المصائب ؛ لأن الحمد يكون على النعمة، والمصيبة( ٨ ) قد تأتي للإنسان بنعمة أوسع مما أفقدته.
ولذلك نجد اثنين من العارفين بالله وقد أراد أن يتعالم كل منهما على الآخر ؛ فقال واحد منهما : كيف حالكم في بلادكم أيها الفقراء ؟
-والمقصود بالفقراء هم العبّاد الزاهدون ويعطون أغلب الوقت لعبادة الله تعالى-فقال العبد الثاني : حالنا في بلادنا إن أعطينا شكرنا، وإن حرمنا صبرنا.
فضحك العبد الأول وقال : هذا حال الكلاب في " بلخ " ( ٩ ) أي : أن الكلب إن أعطيته يهز ذيله، وإن منعه أحد فهو يصبر.
وسأل العبد الثاني العبد الأول : وكيف حالكم أنتم ؟ فقال : نحن إن أعطينا آثرنا( ١٠ )، وإن حرمنا شكرنا.
إذن : فكل مؤمن يعيش في منهج الله سبحانه وتعالى فهو يستحضر في كل أمر مؤلم وفي كل أمر متعب، أن له جزاء على ما ناله من التعب ؛ ثوابا عظيما خالدا من الله سبحانه وتعالى. ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ يمتعكم متاعا حسنا.. ( ٣ ) ﴾[ هود ] : والحسن هنا له مقاييس، يقاس بها اعتبار الغاية ؛ فحين تضم الغاية على الفعل تعرف معنى الحسن.
ومثال ذلك : هو التلميذ الذي لا يترك كتبه، بل حين يأتي وقت الطعام، فهو يأكل وعيناه لا تفارقان الكتاب.
هذا التلميذ يستحضر متعة النجاح وحسنه ونعيم التفوق، وهو تلميذ يشعر بالغاية وقت أداء الفعل.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية :﴿ ويؤت كل ذي فضل فضله.. ( ٣ ) ﴾[ هود ] : أي : يؤتي كل ذي فضل مجزول( ١١ ) لمن لا فضل له، فكأن الحق سبحانه ينمي الفضل للعبد.
ومثال ذلك : الفلاح الذي يأخذ من مخزن غلاله إردبا من القمح لينذره في الأرض ؛ ليزيده الله سبحانه وتعالى بزراعة هذا الإردب، ويصبح الناتج خمسة عشر إردبا.
والفضل هو الجر الزائد عن مساويه، فمثلا هناك فضل المال قد يكون عندك، أي : زائد عن حاجتك، وغيرك لا يملك مالا يكفيه، فإن تفضلت ببعض من الزائد عندك، وأعطيته لمن لا مال عنده فأنت تستثمر هذا العطاء عند الله سبحانه وتعالى.
والحق سبحانه وتعالى قد يعطيك قوة، فتعطي ما يزيد منها لعبد ضعيف.
وقد يكون الحق سبحانه قد أسبغ( ١٢ ) عليك فضلا من الحلم، فتعطي منه لمن أصابه السفه وضيق الخلق.
إذن : فكل ما يوجد عند الإنسان من خصلة طيبة ليست عند غيره من الناس، ويفيضها عليهم، فهي تزيد عنده لأنها تربو( ١٣ ) عند الله، وأن لم يفضها على الغير فهي تنقص.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون( ١٤ )( ٣٩ ) ﴾[ الروم ].
ويقول الحق سبحانه وتعالى في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ ويؤت كل ذي فضل فضله.. ( ٣ ) ﴾[ هود ].
وبعض من أهل المعرفة يفهم هذا القول الكريم بأن الإنسان الذي يفيض على غيره مما آتاه الله، يعطيه الحق سبحانه بالزيادة ما يعوضه عن الذي نقص، أو أنه سبحانه وتعالى يعطي كل صاحب فضل فضل ربه، وفضل الله تعالى فوق كل فضل. ثم يقول الحق سبحانه :﴿ .. وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير( ٣ ) ﴾[ هود ] : فإن أعرضوا عنك فأبلغهم أنك تخاف عليهم من عذاب اليوم الآخر، ويوصف العذاب مرة بأنه كبير، ويوصف مرة بأنه عظيم، ويوصف مرة بأنه مهين ؛ لأنه عذاب لا ينتهي ويتنوع حسب ما يناسب المعذب، فضلا عن أن العذاب الذي يوجد في دنيا الأغيار هو عذاب يجري في ظل المظنة بأنه سينقضي، أما عذاب اليوم الآخر فهو لا ينقضي بالنسبة للمشركين بالله أبدا.
١ المتاع: يطلق على الكثير والقليل باعتباره مصدرا، ويجمع على أمتعة باعتبار ما ينتفع به وما يتمتع به. قال تعالى:﴿ابتغاء حلية أو متاع..(١٧)﴾[الرعد] أي: وصنع أشياء ينتفع بها. وقوله تعالى:﴿بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق..(٢٩)﴾[الزخرف]. أي: أطلت مدة انتفاعهم بالحياة ونعمها، ومتعه ومتّعه بمعنى واحد. وقال تعالى:﴿نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين(٧٣)﴾[الواقعة] أي: متاعا للمسافرين التاركين ديارهم خاوية. أو متاعا للجائعين.(انظر: ابن كثير ٤/٢٩٧)..
٢ الدرء: الدفع والإبعاد..
٣ الجلب: سوق الشيء من موضع إلى آخر. وجلب الشيء: طلبه وكسبه.[لسان العرب: مادة (ج ل ب)]..
٤ أخرجه مسلم في صحيحه(٢٩٥٦) وابن ماجه في سننه(٤١١٣) من حديث أبي هريرة. قال النووي في شرح مسلم(١٨/٣٠٥):"معناه: أن كل مؤمن مسجون ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة مكلف بفعل الطاعات الشاقة، فإذا مات استراح من هذا، وانقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقصان. وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قتله وتكديره بالمنغصات، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد"..
٥ الأمثل فالمثل: أي الأشرف فالأشرف، والأعلى فالأعلى في الرتبة والمنزلة. يقال: هذا أمثل من هذا، أي: أفضل وأدنى إلى الخير. وأماثل الناس: خيارهم.[لسان العرب-مادة: مثل]..
٦ أخرجه أحمد في مسنده(١/١٧٢) والترمذي في سننه(٢٣٩٨) وابن ماجه(٤٠٢٣) من حديث سعد ابن أبي وقاص. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وتمام الحديث:"ويبتلى الرجل على حسب دينه، وما زال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض، ليس عليه خطيئة"..
٧ يقول رب العزة سبحانه في سورة الكهف عن موسى عليه السلام والعبد الصالح الذي صحبه موسى ليتعلم منه:﴿فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت نكرا(٧٤) قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا(٧٥)﴾[الكهف]. ويقول سبحانه على لسان العبد الصالح:﴿.. سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا(٧٨) أما السفينة فكانت لمساكين يعلمون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا(٧٩) وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا(٨٠) فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما(٨١)﴾[الكهف]..
٨ قال الشيخ:"ذل البلاء خير من عزة النعماء"..
٩ بلغ: مدينة من مدن خراسان من بلاد ما وراء النهر..
١٠ أي: عن نالنا العطاء فإننا نؤثر غيرنا به. أي: نفضلهم على أنفسنا..
١١ الجزل: الكثير العظيم من كل شيء، والجزل الكريم المعطاء[المعجم الوسيط: مادة (ج ز ل)]..
١٢ أسبغ: أنعم وأجزل العطاء. وسبوغ الشيء: تمامه واتساعه.[المعجم الوسيط: مادة (س ب غ) بتصرف]. وقال تعالى:﴿وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة..(٢٠)﴾[لقمان]..
١٣ ربا الشيء يربوا: زاد ونما، وأربيته: نميته..
١٤ أضعف الرجل: نما ماله وزاد واتسع، فصار أضعافا. واسم الفاعل مضعف:﴿.. فأولئك هم المضعفون(٣٩)﴾[الروم] أي: الذين يأخذون ثواب أعمالهم أضعافا مضاعفة. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية (٣/٤٣٤):"أي: من أعطى عطية يريد أن يرد عليه الناس أكثر مما أهدى لهم، فهذا لا ثواب له عند الله. بهذا فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والشعبي، وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه، إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، قاله الضحاك واستدل بقوله تعالى:﴿ولا تمنن تستكثر(٦)﴾[المدثر]. أي: لا تعط العطاء تريد أكثر منه.
وقال ابن عباس: الربا رباءان: فربا لا يصح، يعني: ربا البيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل يريد فضلها وأضعافها ثم تلا هذه ﴿وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله..(٣٩)﴾[الروم] وإنما الثواب عند الله في الزكاة..

ويقول الحق من بعد ذلك :﴿ إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير( ٤ ) ﴾ :
أي : إلى الله مرجعكم( ١ ) في الإيجاد والإمداد، والبداية والنهاية، وبداية النهاية التي لا انتهاء معها وهي الآخرة، فيثيب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، فيؤتي سبحانه لكل ذي عمل صالح في الدنيا أجره، وثوابه في الآخرة.
ومن كثرت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار.
وفي الدنيا من زادت حسناته على سيئاته وعاش بين القبض والبسط.
والقبض والبسط هو إقبال على الله بتوبة وباعتراف بالذنب، والإقرار بالذنب هو بداية التوبة.
ومن كثرت سيئاته على حسناته كان في ظنك( ٢ ) العيش وقلق النفس.
ويؤتي الحق سبحانه كل ذي فضل فضله، فمن عمل لله عز وجل ؛ وفقه الله فيما يستقبل على طاعته، والذين أعرضوا يخاف عليهم من عذاب يوم كبير.
﴿ .. وهو على كل شيء قدير( ٤ ) ﴾[ هود ] : لأنه سبحانه القادر على الإيجاد وعلى الإمداد، وعلى البداية والنهاية المحدودة، وبداية الخلود إما إلى جنة وإما إلى نار، فهو القادر على كل شيء.
١ المرجع: الرجوع، أو اسم زمان، أو اسم مكان، يقول الحق:﴿ثم إلي مرجعكم..(٥٥)﴾[آل عمران] أي: رجوعكم، أو زمن رجوعكم، أو مكان الرجوع، ومثل ذلك قوله تعالى:﴿ثم إلينا مرجعكم..(٢٣)﴾[يونس]..
٢ الضنك: ضيق العيش. ومنه قوله تعالى:﴿ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا..(١٢٤)﴾[طه] قال ابن كثير في تفسيره (٣/١٦٨):"فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن نتنعم ظاهره، وليس ما شاء، واكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة"..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ ألا إنهم يثنون( ١ ) صدورهم ليستخفوا( ٢ ) منه ألا حين يستغشون( ٣ ) ثيابهم يعلم ما يسرون ما يعلنون إنه عليم بذات الصدور( ٤ )( ٥ ) ﴾ :
وإذا وجدت " ألا " في أول الكلام فأنت تعلم أنها للتنبيه، ومعنى التنبيه أنه أمر يوقظ لك السامع إن كان غافلا ؛ لأنك تحب ألا تفوته كلمة من الكلام الذي تقوله.
وحين تنبه بغير أداء الأسلوب الذي تريده منه، هنا يكون التنبيه قد أخذ حقه، ومن بعد ذلك يجيء الكلام الذي تقوله، وقد تهيّأ ذهن السامع لاستقبال ما تقول.
ف " ألا " -إذن-هي أداة تنبيه ؛ لأن الكلام ستار بين المتكلم والمخاطب، والمخاطب لا يعرف الموضوع الذي ستكلمه فيه، والمتكلم هو الذي يملك زمام الموقف، وهو يهيئ ذهنه لترتيب ما يقول من كلمات، أما المستمع فسوف يفاجأ بالموضوع ؛ حتى لا يفاجأ ولا تضيع منه الفرصة ليلتقط كلمات المتكلم من أولها، فهو ينبهه بأداة تنبيه ليستمع( ٥ ).
ويقول الحق سبحانه هنا :﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه.. ( ٥ ) ﴾[ هود ].
ويقال : ثنيت الشيء أي : طويته، وجعلته جزئين متصلين فوق بعضهما البعض.
وحين يثنى الإنسان صدره، فهو يثنيه إلى الأمام ناحية بطنه، ويداري بذلك وجهه، والغرض هنا من مداراة الوجه هو إخفاء الملامح ؛ لأن انفعال مواجيد( ٦ ) النفس البشرية ينضح على الوجوه.
وهم كارهون للرسول صلى الله عليه وسلم، وحاقدون عليه ؛ ولا يريدون أن يلحظ الرسول صلى الله عليه وسلم ما على ملامحهم من انفعالات تفضح مواجيدهم الكارهة.
ومثل ذلك جاء من قوم نوح عليه السلام، حين قال الحق سبحانه على لسان نوح :﴿ وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابهم في آذانهم واستغشوا( ٧ ) ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا( ٧ ) ﴾[ نوح ] : ومن البداهة أن نعرف أن الإصبع لا تدخل كلها إلى الأذن، إنما الأنملة( ٨ ) تسد فقط فتحة السمع، وعدّل القرآن الكريم ذلك بمبالغة تكشف موقف نوح-عليه السلام-، فكل منهم أراد أن يدخل إصبعه في أذنه حتى لا يسمع أي دعوة، وهذا دليل كراهية، وهذه شهادة ضدهم ؛ لأنهم يفهمون أنهم لو سمعوا فقد تميل قلوبهم لما يقال.
ولذلك نجد القرآن الكريم وهو ينقل لنا ما قاله مشركو مكة لبعضهم البعض :
﴿ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا( ٩ ) فيه.. ( ٢٦ ) ﴾[ فصلت ].
فكأنهم تواصلوا بالتشويش على القرآن، ثقة منهم في أن القرآن لو تناهى( ١٠ ) إلى الأذن فقد يؤثر في نفسية السامع ؛ لأن النفس البشرية أغيار، وقد تأتي للنفس ما يجعلها تميل دون أن يشعر صاحبها.
ولو كان هذا القرآن باطلا، فلماذا خافوا من سماعه ؟
ولكنه الغباء في العناد والكفر.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ إلا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه إلا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون.. ( ٥ ) ﴾ :[ هود ] وهم قد استغشوا ثيابهم ليغطوا وجوههم ؛ مداراة للانفعالات التي تحملها هذه الوجوه( ١١ )، وهي انفعالات كراهية، أو أنها قد تكون انفعالات أخرى، فساعة يسمع واحد منهم القرآن قد ينفعل لما يسمع، ولا يريد أن يظهر الانفعال.
إذن : فالانفعال قد يكون قسريا( ١٢ )، وكان كفار قريش رغم كيدهم وحربهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يتسللون ناحية بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا القرآن، وكانوا يضبطون بعضهم البعض هنالك، ويدّعى كل منهم أنه إنما مرّ على بيت النبي صلى الله عليه وسلم مصادفة( ١٣ ).
وفي ذلك يقول الشاعر :
اذكروهم وقد تسلّل كلّ بعد ما انفضّ مجلس السّمّار( ١٤ )
اختلاسا يسعى لحجرة طه لسماع التنزيل في الأسحار( ١٥ )
عذرهم حسنه فلما تراءوا عللوها ببارز الأعذار
وجاء الحق سبحانه وتعالى هنا في نفس الآية ب " ألا " في قوله :﴿ .. ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور( ٥ ) ﴾[ هود ] :
فهم إن داروا على محمد صلى الله عليه وسلم، فهل هم قادرون على المداراة على رب محمد ؟ والذي لا يدركه بصر محمد فربُّ محمد سيعلمه به.
وما دام الحق سبحانه يعلم ما يسرون، فمن باب أولى أنه سبحانه وتعالى يعلم ما يعلنون.
والحق سبحانه وتعالى غيب، وربما ظن ظان أنه قد يفلت منه شيء، ولكن الحق سبحانه يحصى ولا يحصى عليه، فإن ظن ظان أن الحق سبحانه يعلم الغيب فقط ؛ لأنه غيب، فهذا ظن خاطئ ؛ لأنه يعلم السر والعلن، فهو عليم بذات الصدور، وكلمة " عليم " صيغة مبالغة( ١٦ )، وهي ذات في كنهها العلم.
وقول الحق سبحانه :﴿ .. عليم بذات الصدور( ١٧ )( ٥٠ ) ﴾[ هود ] : نجد فيه كلمة ﴿ ذات ﴾ وهي تفيد الصحبة، و( ذات الصُّدور ) أي : الأمور المصاحبة للصدور.
ونحن نعلم أن الصدر محل القلب، ومحل الرئة، والقلب محل المعتقدات التي انتُهي إليها، وصارت حقائق ثابتة، وعليها تدور حركة الحياة.
ويقصد ب ﴿ ذات الصُّدور ﴾ أي : المعاني التي لا تفارق الصدور، فهي صاحبات دائمة الوجود في تلك الصدور، سواء أكانت حقدا أو كراهية، أو هي الأحاسيس التي لا تظهر في الحركة العادية، سواء أكانت نية حسنة أو نية سيئة.
وكل الأمور التي يسمونها ذات الصدور، أي : صاحبات الصدور، وهي القلوب، وكأن الجرم( ١٨ ) نفسه وهو القلب معلوم للحق سبحانه وتعالى، فخواطره من باب أولى معلومة.
١ يثنون صدورهم: يطوونها على عداوة المسلمين، ويكنون لهم البغض والكراهية..
٢ الاستخفاء: طلب الخفاء والاختفاء. ومن جهلهم يريدون الاستخفاء من الله تعالى، وهوة سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. قال تعالى:﴿إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء(٥)﴾[آل عمران]. وقال تعالى:﴿إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما(٥٤)﴾[الأحزاب]..
٣ يستغشون ثيابهم: يتغطون بها مبالغة في الاستخفاء.[كلمات القرآن]..
٤ ذكر الواحدي في "أسباب النزول" (ص ١٥٣) أن هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب، ويطوي بقلبه ما يكره.
وقال الكلبي: كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم يظهر له أمرا يسره، ويضمر في قلبه خلاف ما يظهر..

٥ وردت ألا في القرآن على أوجه:
الأول: التنبيه، فتدل على تحقق ما بعدها، وتدخل على الجملتين الاسمية والفعلية، نحو﴿.. ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون(١٣)﴾[البقرة]،﴿ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم..(٨)[هود].
الثاني والثالث: التحضيض والعرض، ومعناهما طلب الشيء، لكن الأول طلب بحث، والثاني طلب بلين، وتختص فيهما بالدخول على الجملة الفعلية نحو:{ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم..(١٣)﴾
[التوبة]،﴿.. ألا تحبون أن يغفر الله لكم(٢٢)﴾[النور]..

٦ مواجيد: مفرد موجدة. وقد وجد فلان وجدا: حزن أو غضب. والمراد: انفعالات النفس البشرية [المعجم الوسيط: مادة (و ج د)] بتصرف..
٧ استغشوا ثيابهم: تغطوا بها كي لا يروا نوحا ولا يسمعوا كلامه. قاله ابن عباس. ذكره السيوطي في (الدر المنثور)(٨/٢٨٩) طبعة دار الفكر..
٨ الأنملة: عقدة الإصبع أو سلاماها. وهي أيضا: المفصل الأعلى من الإصبع الذي فيه الظفر. والجمع: أنامل.[المعجم الوسيط مادة (ن م ل)]..
٩ اللغو: ما لا يعتد به من كلام وغيره، ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع.[المعجم الوسيط]. والغوا فيه: ائتوا باللغو والباطل عند قراءته[كلمات القرآن]. قال ابن عباس: بالتصفير والتخليط على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن. ذكره السيوطي في الدر المنثور(٧/٣٢١) وعزاه لابن أبي حاتم..
١٠ تناهى: بلغ ووصل. الإنهاء: الإبلاغ. أنهيت إله الخبر: أبلغته له.(لسان العرب-مادة: نهى)..
١١ قال قتادة: أخفى ما يكون العبد إذا حنى ظهره، واستغشى ثوبه، واضمر في نفسه همه. ذكره القرطبي في تفسيره(٤/٣٣٢٤)..
١٢ قسريا: أي خارجا عن إرادة الإنسان..
١٣ قال وذلك أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا. فجمعهم الطريق، فتلاوموا. وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم على مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا. وهكذا إلى ليلة ثالثة حتى قال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا.(سيرة ابن هشام ١/٣١٥)..
١٤ السمار: هم الناس يسمرون بالليل، ويكون عادة في ضوء القمر..
١٥ الأسحار: جمع سحر، وهو الثلث الأخير من الليل إلى مطلع الفجر. قال تعالى:﴿وبالأسحار هم يستغفرون(١٨)﴾[الذاريات]..
١٦ عليم: صيغة مبالغة من العلم، أي: بالغ العلم لا حد لعلمه سبحانه..
١٧ الصدر: مقدم مبالغة كل شيء وأوله، وصدر الإنسان معروف، وبداخله أضلاعه وقلبه ورئتاه. وفي الصدر تظهر آثار الانفعال انقباضا في الحزن وانشراحا في السرور، قال الحق سبحانه:﴿ألم نشرح لك صدرك(١)﴾[الشرح] وقال:﴿.. إن الله عليم بذات الصدور(١١٩)﴾[آل عمران] أي: بالأسرار المصاحبة للصدور[القاموس القويم باختصار]..
١٨ جرم كل شيء: جسمه. والمقصود القلب البشري نفسه..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وما من دابة( ١ ) في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها( ٢ ) كل في كتاب مبين( ٦ ) ﴾ :
وحين يذكر القرآن الكريم لقطة توضح صفة ما، فهو يأتي بما يتعلق بهذه الصفة، وما دام الحق سبحانه عليما بذات الصدور، فهذا علم بالأمور السلبية غير الواضحة، والحق سبحانه يعلم الإيجابيات أيضا، فهو يعلم النية الحسنة أيضا، ولكن الكلام هنا يخص جماعة يثنون صدورهم.
وجاء في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، وبين انه عليم بكل شيء.
وقال سبحانه :﴿ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها.. ( ٦ ). ﴾.
و حين يذكر القرآن الكريم لقطة توضح صفة ما، فهو يأتي بما يتعلق بهذه الصفة، وما دام الحق سبحانه عليما بذات الصدور، فهذا علم بالأمور السلبية غير الواضحة، والحق سبحانه يعلم الإيجابيات أيضا، فهو يعلم النية الحسنة أيضا، ولكن الكلام هنا يخص جماعة يئنون صدورهم.
وجاء في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، وبيَّن أنه عليم بكل شيء وقال سبحانه :﴿ وما من دابَّة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها.. ( ٦ ) ﴾[ هود ]. والدابة : كل ما يدب على الأرض، وتستخدم في العرف الخاص للدلالة على أي كائن على الأرض غير الإنسان.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه :﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم.. ( ٣٨ ) ﴾[ الأنعام ].
وذكر الحق سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام أنه شغل-حينما-كلّف- بخواطر عن أهله، وتساءل : كيف أذهب لأداء الرسالة وأترك أهلي ؟
فأوحى له الله سبحانه أن يضرب حجرا فانفلق الحجر عن صخرة، فأمره الحق سبحانه أن يضرب الصخرة، فضربها فانفلقت ليخرج له حجر، فضرب الحجر فانشق له عن دودة تلوك( ٣ ) شيئا كأنما تتغذى به، فقال : عن الذي رزق هذه في ظلمات تلك الأحجار كلها لن ينسى أهلي على ظهر الأرض. ومضى موسى عليه السلام إلى رسالته.
وهذا أمر طبيعي ؛ لأن الحق سبحانه خالق كل الخلق، ولا بد أن يضمن له استبقاء حياة واستبقاء نوع ؛ فاستبقاء الحياة بالقوت( ٤ )، واستبقاء النوع بالزواج والمصاهرة.
إذن : فمن ضمن ترتيبات الخلق أن يوفر الحق سبحانه وتعالى استبقاء الحياة بالقوت، واستبقاء النوع بالتزاوج.
ولذلك نقول دائما : يجب أن نفرق بين عطاء الإله وعطاء الرب، فالإله سبحانه هو رب الجميع، لكنه إله من آمن به.
وما دام الحق سبحانه هو رب الجميع، فالجميع مسئولون منه ؛ فالشمس تشرق على المؤمن وعلى الكافر، وقد يستخرج الكافر من الشمس طاقة شمسية وينتفع بها، فلماذا لا يأخذ المؤمن بالأسباب ؟ والهواء موجود للمؤمن وللكافر ؛ لأنه عطاء ربوبية، فإن استفاد الكافر من الهواء ودرسه، واستخدم خواصه أكثر من المؤمن ؛ فعلى المؤمن أن يجّد ويكّد في الأخذ بالأسباب.
إذن : فهناك عطاء للربوبية يشترك فيه الجميع، لكن عطاء الألوهية إنما يكون في العبادة، وهو يخرجك عن مراداتك إلى مرادات ربك، فحين تطلب منك شهواتك أن تفعل أمرا فيقول لك المنهج : لا( ٥ ).
وفي هذا تحكم منك في الشهوات، وارتقاء في الاختيارات، أما في الأمور الحياتية الدنيا، فعطاء الربوبية لكل كائن ليستبقى حياته.
وهنا يقول الحق سبح : وكلمة " على " تفيد أن الرزق حق للدابة، لكنها لم تفرضه هي على الله سبحانه وتعالى، ولكنه سبحانه قد ألزم نفسه بهذا الحق.
ويقول سبحانه :﴿ ويعلم مستقرها ومستودعها.. ( ٦ ) ﴾[ هود ] : ولأنه سبحانه هو الذي يرزق الدابة فهو يعلم مستقرها وأين تعيش ؛ ليوصل إليها هذا الرزق.
والمستقر : هو مكان الاستقرار، والمستودع : هو مكان الوديعة.
والحق سبحانه يعلمنا بذلك ليطمئن كل إنسان أن رزقه يعرف عنوانه، والإنسان لا يعلم عنوان الرزق.
فالرزق يأتي لك من حيث لا تحتسب، لكن السعي إلى الرزق شيء آخر ؛ فقد تسعى إلى رزق ليس لك، بل هو رزق لغيرك.
فمثلا : أنت قد تزرع أرضك قمحا فيأتي لك سفر للخارج، وتترك قمحك ؛ ليأكله غيرك، وتأكل أنت من قمح غيرك.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ .. ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين( ٦ ) ﴾[ هود ] : أي : أن كل أمر مكتوب، وهناك فرق بين أن تفعل ما تريد، ولكن لا يحكم إرادتك مكتوب ؛ فما يأتي على بالك تفعله، وبين أن تفعل أمرا قد وضعت خطواته في خطة واضحة مكتوبة، ثم تأتي أفعالك وفقا لما كتبته.
ومن عظمة الخالق سبحانه أنه كتب كل شيء، ثم يأتي كل ما في الحياة وفق ما كتب.
والدليل على ذلك-على سبيل المثال-أن الله سبحانه كان يوحي إلى رسول بالسورة من القرآن الكريم، وبعد ذلك يسرى( ٦ ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فيتلو السورة على أصحابه، فمن يستطيع الكتابة فهو يكتب، ومن يحفظ فهو يحفظ.
ثم يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فيقرأ السورة كما كتبت، ويأتي كل نجم من القرآن في مكانه الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته، فكيف كان يحدث ذلك ؟
لقد حدث ذلك بما جاء به الحق سبحانه، وأبلغه لرسوله صلى الله عليه وسلم :
﴿ سنقرئك فلا تنسى( ٦ ) ﴾[ الأعلى ].
١ قال الدابة: اسم فاعل، وغلب على غير العاقل، ويستوي فيه المذكر والمؤنث، وقد يشمل العاقل وغيره، كقوله تعالى:﴿وبث فيها من كل دابة..(١٦٤)[البقرة] تشمل الإنسان وغيره، وكذلك قوله:{ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة..(٢٩)﴾[الشورى]، الدابة تشمل الكائنات الحية في الأرض والسماء، وفيها دليل على أن السماء كائنات حية وعاقلة.
أما قوله تعالى:﴿و كأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم..(٦٠)﴾[العنكبوت]، الدابة هنا كل حيوان ما عدا الإنسان بدليل (وإياكم)..

٢ مستقرها: موضع استقرارها في الأصلاب أو في الأرحام ونحوها. ومستودعها: موضع استيداعها في الأرحام ونحوها، أو في الأصلاب.[كلمات القرآن] للشيخ حسنين محمد مخلوف..
٣ قال لاك الشيء يلوكه لوكا: مضغه.[اللسان: مادة (ل و ك)]..
٤ القوت: ما يمسك الرمق من الرزق. وفي الصحاح: هو ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام.[لسان العرب: مادة(ق و ت)]..
٥ وأصحاب المنهج الذين قاموا به وعليه، ويقول الله في حقهم:﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون(٣٠) نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون(٣١) نزلا من غفور رحيم(٣٢)﴾[فصلت]..
٦ التسرية: انكشاف الوحي عنه صلى الله عليه وسلم، بما فيه من شدة تؤدي إلى أن يتصبب رسول الله صلى الله عليه وسلم عرقا..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه( ١ ) على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا( ٢ ) ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين( ٧ ) ﴾ :
وقد تعرض القرآن الكريم لمسألة خلق الأرض والسماء أكثر من مرة.
وقلنا من قبل : إن الحق سبحانه وتعالى قد شاء أن يخلق الأرض والسماوات في ستة أيام من أيام الدنيا، وكان من الممكن أن يخلقها في أقل من طرفة عين بكلمة " كن " وعرفنا أن هناك فارقا بين إيجاد الشيء، وطرح مكونات إيجاد الشيء.
ومثال ذلك-ولله المثل الأعلى-حين يريد الإنسان صنع " الزبادي "، فهو يضع جزءا من مادة الزبادي-وتسمى " خميرة " -في كمية مناسبة من اللبن الدافئ، وهذه العملية لا تستغرق من الإنسان إلا دقائق، ثم يترك اللبن المخلوط بخميرة الزبادي، وبعد مضي أربع وعشرين ساعة يتحول اللبن المخلوط بالخميرة إلى زبادي بالفعل.
وهذا يحدث بالنسبة لأفعال البشر، فهي أفعال تحتاج إلى علاج، ولكن أفعال الخالق سبحانه وتعالى لا علاج فيها ؛ لأنها كلها تأتي بمكلمة " كن ".
أو كما قال بعض العلماء : إن الله شاء أن يجعل خلق الأرض والسماوات في ستة أيام، وقد أخذ بعض المستشرقين من هذه الآية، ومن آيات أخرى مجالا لمحاولة النيل من القرآن الكريم، وأن يدّعوا أن فيه تعارضا، فالحق سبحانه وتعالى هنا يقول :﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام.. ( ٧ ) ﴾[ هود ]. وجاءوا إلى آية التفصيل وجمعوا ما فيها من أيام، وقالوا : إنها ثمانية أيام، وهي قول الحق سبحانه :﴿ قل أئنكم لتفكرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا( ٣ ) ذلك رب العالمين( ٩ ) وجعل فيها رواسي( ٤ ) من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها( ٥ ) في أربعة أيام سواء للسائلين ( ١٠ ) ثم استوى إلى السماء وهي دخان( ٦ ) فقال لها للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين( ١١ ) فقضاهن( ٧ ) سبع سموات في يومين.. ( ١٢ ) ﴾[ فصلت ] : وهنا قال بعض المستشرقين : لو كانت هذه هي قصة الخلق للأرض والسماوات لطابقت آية الإجمال آية التفصيل.
وقال أحدهم : لنفرض أن عندي عشرة أرادب من القمح، وأعطيت فلانا خمسة أرادب وفلانا ثلاثة أرادب، وفلانا أعطيته إردبين، وبذلك ينفد( ٨ ) ما عندي ؛ لأن التفصيل مطابق للإجمال.
وادّعى هذا البعض من المستشرقين أن التفصيل لا يتساوى مع الإجمال. ولم يفطنوا على أن المتكلم هو الله سبحانه وتعالى، وهو يكلم أناسا لهم ملكة أداء وبيان وبلاغة وفصاحة ؛ وقد فهم هؤلاء ما لم يفهمه المستشرقون.
هم فهموا، كأهل فصاحة، أن الحق-سبحانه وتعالى-قد خلق الأرض في يومين، ثم جعل فيها رواسي وبارك فيها، إما في الأرض أو في الجبال، وقدّر فيها أقواتها، وكل ذلك تتمة للحديث عن الأرض.
ومثال ذلك : حين أسافر إلى الإسكندرية فأنا أصل إلى مدينة طنطا في ساعة-مثلا-وإلى الإسكندرية في ساعتين، أي : أن ساعة السفر التي وصلت فيها إلى طنطا هي من ضمن ساعتي السفر إلى الإسكندرية.
وكذلك خلق الأرض والرواسي وتقدير القوت، كل ذلك في أربعة أيام( ٩ ) متضمنة يومي خلق الأرض( ١٠ )، ثم جاء خلق السماء في يومين.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وكان عرشه على الماء.. ( ٧ ) ﴾[ هود ] : كل هذه المسائل الغيبية لها حجة أساسية، وهي أن الذي أخبر بها هو الصادق، فلا أحد يشك أن الأرض والسماوات مخلوقة، ولا أحد يشك في أن السماوات والأرض أكبر خلقا من خلق الناس، وليس هناك أحد من البشر ادّعى أنه خلق الأرض أو خلق السماوات.
وكل المخترعات البشرية نعرف أصحابها، مثل : المصباح الكهربي، والهاتف، والميكروفون، والتليفزيون، والسيارة، وغيرها.
ولكن حين نجيء إلى السماوات والأرض لا نجد أحدا قد ادعى أنه قد خلقها.
وقد أبلغنا الحق سبحانه أنه هو الذي خلقها، وهي لمن ادّعاها إلى أن يظهر معارض، ولن يظهر هذا المعارض أبدا.
وكل هذا الخلق من اجل البلاء :﴿ ليبلوكم( ١١ ) أيكم أحسن عملا.. ( ٧ ) ﴾[ هود ] : أي : ليختبركم أيكم أحسن عملا( ١٢ )، ولكن من الذي يحدد العمل ؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
وهل الحق سبحانه في حاجة إلى أن يختبر مخلوقاته ؟
لا، فالله سبحانه يعلم أزلا كل ما يأتي من الخلق، ولكنه سبحانه أراد بالاختبار أن يطابق ما يأتي منهم على ما علمه أزلا ؛ حجة عليهم.
وهكذا فاختبار الحق سبحانه لنا اختبار الحجة علينا.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ .. ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين( ٧ ) ﴾[ هود ] : وهنا يصور الحق-سبحانه وتعالى-تكذيب المعاندين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يلقون بالألفاظ على عواهنها( ١٣ ) من قبل أن تمر على تفكيرهم.
فلو أنهم قد مروا بهذه الكلمات على تفكيرهم ؛ لاستحال منطقيا أن يقولوها.
والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرهم ببلاغ الحق سبحانه وتعالى بأنهم مبعوثون من بعد الموت.
وهذا كلام إخباري بأنهم إن ماتوا-وهم سيموتون لا محالة-سيبعثهم الله سبحانه، فما كان منهم إلا أن قالوا :﴿ .. إن هذا إلا سحر مبين( ٧ ) ﴾[ هود ] : والخبر الذي يقوله لهم هو خبر، فما موقع السحر منه ؟ إنهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك إلا من نص القرآن الكريم، وهم يقولون عن القرآن الكريم إنه سحر، فكأن النص نفسه من السحر الذي حكموا به على القرآن.
وأوضحنا من قبل أن إبطال قضية السحر في القرآن دليله منطقي مع القول ؛ لأنهم إن كانوا قد ادعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن محمدا-في عرفهم-قد سحر القوم الذين اتبعوه.
فالساحر له تأثير على المسحور، والمسحور لا دخل له في عملية السحر، فإذا كان محمد قد سحر القوم الذين اتبعوه، فلماذا لم يسحر هؤلاء المنكرين لرسالته ؛ بنفس الطريقة التي سحر بها غيرهم ؟
وحيث إنهم قد بقوا على ما هم عليه من عناد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على أن المسألة ليست سحرا، ولو كان الأمر كذلك لسحرهم جميعا.
وقولهم :﴿ .. إن هذا إلا سحر مبين( ٧ ) ﴾[ هود ] : يدل على أنه سحر محيط، لا سحر لأناس خاصين، فكلمة ﴿ سحر مبين ﴾ تعني : سحرا محيطا بكل من يريد سحره.
وبقاء واحد على الكفر دون إيمان برسول الله يدل على أن المسألة ليست سحرا.
١ العرش في اللغة: سرير الملك. وقد سمى سبحانه سرير ملكة سبأ بالعرش، فقال سبحانه:﴿.. ولها عرش عظيم(٢٣)﴾[النمل]. وعرش الباري سبحانه لا يحد، ذكره رب العزة في كتابه (٢١ مرة) مضافا إليه سبحانه..
٢ ليبلوكم: ليختبركم، وهو أعلم بأمركم.
أحسن عملا: أطوع لله وأروع عن محارمه.[كلمات القرآن]..

٣ الند: المثل والنظير. وجمعه: أنداد. وقال تعالى:﴿فلا تجعلوا لله أندادا..(٢٢)﴾[البقرة] أي: أمثالا شركاء. تعالى الله عما يقولون [القاموس القويم] بتصرف..
٤ رسا الشيء يرسوا رسوا: ثبت ورسخ، وأرساه: جعله ثابتا راسخا، وأرسى السفينة: ثبتها على الشاطئ فلا تسير. والمراد بالرواسي: الجبال لأنها تثبت الأرض حتى تستقر ولا تميل. قال تعالى:﴿وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم..(١٥)﴾[النحل] وقال تعالى:﴿والجبال أرساها(٣٢)﴾[النازعات].[القاموس القويم-بتصرف]..
٥ الأقوات: جمع قوت. وهو ما يمسك الرمق من الرزق. وفي الصحاح للجوهري: هو ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام.[اللسان-مادة: قوت]..
٦ ﴿ثم استوى إلى السماء وهي دخان..(١١)﴾[فصلت]. الدخان: بخار الماء المتصاعد منها حين خلقت الأرض. ذكره ابن كثير في تفسيره [٤/٩٣]..
٧ قال فقضاهن: خلقهن. فالقضاء هنا بمعنى الخلق. وهي من الكلمات التي تأتي على وجوه كثيرة من المعاني، ومن معانيها:
الفراغ:﴿فإذا قضيتم مناسككم..(٢٠٠)﴾[البقرة].
الأمر:﴿وإذا قضى أمرا..(١١٧)﴾[البقرة].
العهد:﴿إذ قضينا إلى موسى الأمر..(٤٤)﴾[القصص]
الوصية:﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه..(٢٣)﴾[الإسراء]..

٨ نفد-ينفد نفدا ونفادا: فني وذهب وانقطع ولم يبق، من النفاد، وهو الانتهاء. وقال تعالى:﴿ما عندكم ينفد وما عند الله باق..(٩٦)﴾[النحل]..
٩ اليوم: في علم الفلك الحديث مقدار دوران الأرض حول محورها مرة، ومدته أربع وعشرون ساعة تقريبا، وجمعه أيام. وأيام العرب: وقائعهم الحربية. وأيام الله أيام حلت فيها نقم الله وعذابه على الأمم الماضية العاصية، وأيامه التي أنعم فيها على أمم مطيعة صالحة.
ويوم الدين: يوم القيامة. ويم حنين: حدثت فيه موقعة حنين. واليوم عند الله مقداره يختلف عن اليوم عندنا فأحيانا يكون ألف سنة، ولكل نجم يومه، ولكل كوكب يومه. قال تعالى:﴿.. وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون(٤٧)﴾[الحج]. وقد يكون المقدار خمسين ألف سنة، مصدقا لقوله تعالى:﴿.. في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة(٤)﴾[المعارج]، وبهذا التقدير نفهم معنى قوله تعالى في خلق السماوات والأرض:﴿فقضاهن سبع سموات في يومين..(١٢)﴾[فصلت] فالله أعلم بمقدار هذين اليومين.[القاموس القويم-بتصرف]..

١٠ ولذلك قال أبو يحيى زكريا النصاري في كتابه "فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن: ص ٣٧٣:"يوما خلق الأرض من جملة الأربعة بعدهما، والمعنى في تتمة أربعة أيام، وهي مع يومي خلق السماوات ستة أيام. يوم الأحد والاثنين لخلق الأرض، ويوم الثلاثاء والأربعاء للجعل المذكور في الآية وما بعده، ويم الخميس والجمعة لخلق السماوات"..
١١ بلوت الشيء- ألوه بلوا وبلاء: امتحنته واختبرته، قال تعالى:﴿ونبلوكم بالشر والخير فتنة..(٣٥)﴾[الأنبياء] أي: نختبركم بالشر والنعم، أو بالخير والنعم؛ لنعلم مدى صبركم أو شكركم ومدى إيمانكم أو كفركم. وقوله تعالى:﴿هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت..(٣٠)﴾[يونس] أي: تعرف حقيقة عملها الذي قدمته كما يعرف المختبر الشيء الذي يختبره. وقوله تعالى:﴿.. ونبلو أخباركم(٣١)﴾[محمد]أي: نعرف صدقها من كذبها. ومن أغراض البلاء والابتلاء إظهار حقيقة العمل والتمييز بين العمل الحسن وغيره؛ تمهيدا للثواب أو العقاب.[القاموس القويم] بتصرف..
١٢ قال عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا:﴿أيكم أحسن عملا..(٧)﴾[هود]. قال:"أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله" أورده القرطبي في تفسيره(٤/٣٣٢٧) والسيوطي في الدر المنثور (٤/٤٠٤) وعزاه لابن جرير الطبري وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه بنحوه..
١٣ ألقى الكلام على عواهنه: لم يتدبره، وقيل: هو إذا لم يهتم أصاب أو أخطأ، وقيل: إذا تهاون به. وقال ابن الأثير: العواهن أن تأخذ غير الطريق في السير أو الكلام، جمع عاهنة. وعهن الشيء: أي: أرسل الكلام على ما حضر منه وعجل، من خطأ وصواب. أي: عدم التفكير في الكلام قبل التلفظ به وإلقاؤه على علاته.[اللسان: مادة (ع هـ ن)] بتصرف..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة( ١ ) معدودة( ٢ ) ليقولن ما يحبسه( ٣ ) ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق( ٤ ) بهم ما كانوا به يستهزئون( ٨ ) ﴾ :
وساعة تجد ﴿ لئن ﴾فافهم اللام الأولى التي بعد " و " إنما جاءت ؛ لتدل على أن الكلام فيه قسم مؤكد، وإن كان محذوفا، واكتفى باللام عن القسم، وتقديره :" والله لئن ".
والقسم يأتي لتأكيد المقسم عليه بالمقسم به، وتأكيد المقسم عليه إنما يأتي أن هناك من يشك فيه. فأنت لا تقسم لإنسان تلقاه وتقول له : والله لقد كنت عند فلان بالأمس.
إذن : فالقسم يأتي لشك طرأ( ٥ ) عند السامع، وأنت لا تقسم ابتداء.
ويأتي القسم على مقدار مراتب الشك، وتأكيدا بأدواته.
والقرآن الكريم يقول هنا :﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة.. ( ٨ ) ﴾[ هود ].
فالواو هنا هي واو القسم، وهنا أيضا شرط، والقسم يحتاج لجواب، والشرط أيضا يحتاج إلى جواب.
وإذا اجتمع الشرط والقسم فبلاغة الأسلوب تكتفي بجواب واحد، مثلما نقول :" والله إن فعلت كذا لفعلن معك كذا ".
وهكذا يغني جواب القسم عن جواب الشرط. والمتقدم سواء أكان قسما أو شرطا هو الذي يغني جوابه عن الآخر.
مثلما نقول :" والله إن جاء فلان لأكرمته "، فالقسم هنا متقدم، وأغنى جوابه عن جواب الشرط. وإن قلت : إن جاءك فلان والله لتكرمه، فهنا الشرط هو المتقدم. واثنان متحدان، لكن غاية ما هناك أن القسم تأكيد والشرط تأسيس، فإذا تقدم ذو خبر على الاثنين-على الشرط وعلى القسم- نأتي بجواب الشرط فورا، مثلما نقول :" زيد والله إن جاءك أكرمه " ؛ لأن الشرط كما قلنا تأسيس، والقسم تأكيد، ويرجع هنا الشرط، لأن التأسيس أولى من التأكيد.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه.. ( ٨ ) ﴾[ هود ] : والجواب هنا للقسم، وهو يغني عن جواب الشرط : أي : أن العذاب يؤخّر.
وقد أوعد الحق-سبحانه-الكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم بأن يعذبهم، وكان العذاب للأمم السابقة هو عذاب استئصال، منهم من أرسل الله سبحانه عليه عاصفة، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من أغرقهم ومنهم من خسف( ٦ ) به الأرض.
فكان مهمة الرسل السابقين أن يبلغوا الدعوة، ثم تتولى السماء تأديب الكافرين بالرسالات.
ولكن الحق سبحانه وتعالى قد شاء أن يفضّل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم كلها، وأن تعذّب الكافرين في المعارك.
وحين يتوعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعذاب، فللعذاب ميلاد، وقد يؤخّر ليرى المحيطون بالكافرين الضلال والفساد، فإذا ما وقع عذاب الله سبحانه على هؤلاء الكافرين، فلن يحزن عليهم أحد.
وهكذا أراد الله سبحانه الإمهال والإملاء( ٧ ) ليكون لهما معنى واضح في الحياة، والإملاء للظالم( ٨ ) ؛ لتزداد مظالمه زيادة تجعل الأمة التي يعيش فيها تكره ظلمه، فإذا وقع عليه عذاب، لا يعطف عليه أحد.
ونحن نعلم أن النفس البشرية بنت المشهد، فحين يقتل واحد وتمر سنوات على قضيته، ثم يصدر الحكم بإعدامه، فالناس تنسى لذعة القتل الأول، وتعطف على القاتل حين يصدر الحكم بإعدامه.
ولذلك أقول دائما : إن من دواعي استمرار الجرائم إبطاءات المحاكمة، تلك الإبطاءات التي تجعل عواطف الناس مع المجرم ؛ لأن مشهد المقتول أولا قد انتهى من ذاكرتهم.
ولكن لو استحضر الناس-وقت العقوبة-ظرف الجريمة ؛ لفرحوا بالحكم على القاتل بالقتل.
وذلك نجد الحق-سبحانه وتعالى-حينما يريد أن يعذب أحدا يقول :﴿ .. وليشهد عذابهما طائفة( ٩ ) من المؤمنين( ٢ ) ﴾[ النور ] : وذلك ليتم التعذيب أمام المجتمع الذي شقي بإفسادهم وشقي بمظالمهم، فمن يعتدى على عرضه، ويرى عذاب المعتدي فهو يشفى.
وهنا يبيّن الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : لقد توعدتهم بالعذاب. ونحن نبطن العذاب بالإمهال لهم، ولكنهم جعلوا من ذلك مناط السخرية والاستهزاء والتهكم، وتساءلوا : أين هو العذاب ؟
ونحن نجد القرآن يقول على ألسنتهم :﴿ وقالوا ربنا عجل لنا قطنا( ١٠ ) قبل يوم الحساب( ١٦ ) ﴾[ ص ] : والقط : هو جزاء العمل، وهو مأخوذ من القط أي : القطع.
والعذاب إنما يتناسب مع الجرم، فإن كانت الجريمة كبيرة فالعذاب كبير، وإن كانت الجريمة صغيرة فالعذاب يكون محدودا، فكان العذاب موافقا للجريمة.
ومن العجيب أن منهم من قال :﴿ .. اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم( ٣٢ ) ﴾[ الأنفال ].
وجاء على ألسنتهم ما أورده القرآن الكريم في قولهم :﴿ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا( ١١ ).. ( ٩٢ ) ﴾[ الإسراء ] : ولا شك أن الإنسان لا يتمنى ولا يرجو أن يقع عليه العذاب، ولكنهم قالوا ذلك تحديا وسخرية واستهزاء.
وشاء الحق سبحانه وتعالى ألا يعذب الكافرين المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما عذب الكافرين الذين عاصروا الرسالات السابقة ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم.. ( ٣٣ ) ﴾[ الأنفال ].
فضلا عن أن هناك أناسا منهم ستروا إيمانهم، لأنهم لا يملكون القوة التي تمكنهم من مجابهة( ١٢ ) الكافرين، ولا يملكون القوة ليرحلوا إلى دار الإيمان بالهجرة، وحتمت عليهم ظروفهم أن يعيشوا مع الكافرين.
وهناك في سورة الفتح ما يوضح ذلك، حين قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا( ١٣ ) أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات أم تعلموهم أن تطئوهم( ١٤ ) فتصيبكم منهم معرة( ١٥ ) بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا( ١٦ ) لعبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما( ٢٥ ) ﴾[ الفتح ] : أي : لو تميّز الكافرون عن المؤمنين لسلّط الحق سبحانه العذاب الأليم على الكافرين، لكن لو دخل المسلمون بجيشهم الذي كان في الحديبية على مكة، ودارت هناك معركة، فهذه المعركة ستصيب كل أهل مكة، وفيهم المؤمنون المنثورون بين الكافرين، وهم غير متحيزين في جهة بحيث يوجه المسلمون الضربة للجانب الكافر.
إذن : فلو ضرب المسلمون المقاتلون، لضربوا بعضا من المؤمنين( ١٧ )، وهذا ما لا يريده الحق سبحانه وتعالى.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة.. ( ٨ ) ﴾[ هود ] والأمة : هي الطائفة أو الجماعة من جنس واحد، مثل أمة الإنس، وأمة الجن، وأمة النمل.. وغير ذلك من خلق الله.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا( ١٨ ) في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون( ٣٨ ) ﴾[ الأنعام ] : والأمة : طائفة يجمعها نظام واحد وقانون واحد، وأفرادها متساوون في كل شيء، فتكون كل واحدة من هذه الأمم أمة. وهناك الأمة : الطائفة من الزمن. مثل قوله الحق سبحانه :﴿ وقال الذي نجا منهما وادكر( ١٩ ) بعد أمة.. ( ٤٥ ) ﴾[ يوسف ] : أي : أن هذا الذي تذكر بعد فترة من الزمن، وقد تكون الفترة المسماة " أمة "، هي الزمن الذي يتحمل جيلا من الأجيال.
الأمة-إذن-هي جماعة وطائفة لها جنس يجمعها، ولها تميزات أفرادية، وهي تلتقي في معنى عام.
فأمة الإنسان هي حيوان ناطق مفكر، وهناك قدر عام يجمع كل إنسان، ولكن هناك تفاوتات في المواهب.
ولا توجد نفس بشرية تملك موهبة الهندسة والطب والتجارة والصيدلة والمحاسبة ؛ لأن كل حرفة من تلك الحرف تحتاج على دراسة.
ولا يملك إنسان من العمر ما يتيح له التخصص في كل تلك المجالات ؛ ولذلك يتخصص كل فرد في مجال ؛ ليخدم غيره فيه، وغيره يتخصص في مجال آخر ويخدم الباقين، وهكذا.
وفي هذا تكافل اجتماعي، يشعر فيه كل فرد بأنه يحتاج للآخرين، وأنه لا يستطيع أن يحيا مستقلا بذاته عن كل الخلق.
ولو عرف واحد كل الحرف التي في الدنيا، من طب وهندسة وقضاء، وسباكة، ونجارة، وزراعة، وغيرها فلن يسأل عن الباقين ؟
لذلك شاء الله سبحانه وتعالى أن تلتحم المجتمعات ضرورة وقسرا، لا تفضّلا من أحد على أحد.
والذي يكنس الشارع أو يعمل في تنظيف الصرف الصحي لا يفعل ذلك تفضّلا، بل يفعل ذلك احتياجا ؛ لأنه يحتاج إلى العمل والرزق ؛ لأن جسمه يحتاج على الطعام، وإلى الستر بالملابس، وأولاده يطلبون الطعام والمأوى والملبس، ولولا ذلك لما عمل في تلك المهنة.
وإذا اخلص في عمله فالله سبحانه يحببه فيها، وإن ارتقت أحواله، يظل في هذا العمل ؛ لأنه عشق إتقان مهنته.
ولقد رأيت رجلا كان يعمل في هذه المهنة، ويحمل الأقذار على كتفه، وحين وسّع الله عليه، اشترى عربة يجرها حمار ليحمل فيها ما ينزحه من تلك المجاري.
وحين وسّع الله عليه أكثر ؛ اشترى سيارة فيها ماكينة شفط للقاذورات، وصار يجلس على الكرسي، ويدير " موتور " نزح المجاري لداخل خزان السيارة المخصص لذلك.
إذن : فارتباطات المجتمع لابد أن تنشأ عن حاجة، لا عن تفضّل ؛ لأن التفضل ليس فيه إلزام بالعمل، لكن الحاجة هي التي فيها إلزام بالعمل ؛ لتسير حركة الحياة.
ومن يعشق عمله إلى أي وضع كان، يوفقه الله تعالى فيه أكثر ؛ لأنه احترم قدر الله تعالى في نفسه، ولم يستنكف( ٢٠ )، ويعطيه الله سبحانه كل الخير من هذا العمل، بقدر حبه للعمل وإخلاصه فيه.
وإن نظرت إلى العظماء في كل مهنة مهما صغرت، فستجد أن تاريخهم بدأ بقبولهم لقدر الله سبحانه وتعالى فيهم.
ونحن نعلم أن قيمة كل امرئ فيما يحسنه ؛ ولذلك تجد الأمة مكونة من ومواهب متكاملة لا متكررة، حتى يحتاج كل إنسان إلى عمل غيره.
ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا( ٢١ ).. ( ٣٢ ) ﴾[ الزخرف ] : لأن أحدا لا يسخّر الآخر لعمل إلا إذا كان المسخر في حاجة إلى هذا العمل.
ولذلك تجد من يطرق بابك ويسأل : ألا تحتاج إلى سائق ؟ ألا تحتاج إلى خادم ؟
وصاحب الحاجة هو الذي يعرض نفسه ؛ لعله يجد العمل الذي يتقنه.
ولذلك يجب ألا يتصور أهل أي إنسان أنه حين يخدم في أي حرفة من الحرف أنه يخدم المخدوم، لا.. إنه يخدم حاجة نفسه.
وهكذا تترابط الأمة ارتباط حاجات، لا ارتباط تفضل.
وقد قال الحق سبحانه وتعالى عن سيدنا إبراهيم عليه السلام :﴿ إن إبراهيم كان أمة( ٢٢ ).. ( ١٢٠ ) ﴾[ النحل ] : لأن هناك مواهب متعددة قد اجتمعت فيه، وهي مواهب لا تجتمع إلا في أمة من الناس.
وكلمة " أمة " تطلق على الزمن، وتطلق على الجماعة من كل جنس، وتطلق على الرجل الجامع لكل خصال الخير.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة( ٢٣ ).. ( ٨ ) ﴾[ هود ] : وعادة ما تأتي كلمة ﴿ معدودة ﴾ لتفيد القلة ؛ مثل قول الحق سبحانه :﴿ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين( ٢٤ )( ٢٠ ) ﴾[ يوسف ] : وما دام الثمن بخسا فلا بد أن تكون الدراهم معدودة.
والسبب في فهمنا لكلمة " معدودة " أنها تفيد القلة، هو أننا لا نقبل على عدّ الشيء إلا مظنة إننا قادرون على عدّه ؛ لأنه قليل، لكن مالا نقبل على عدّه فهو الكثير.
ومثال ذلك : أن أحدا لم يعد الرمل، أو النجوم.
ولذلك جاء قول الحق سبحانه :﴿ وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها.. ( ٣٤ ) ﴾[ إبراهيم ] : و " إن " -كما نعلم-تأتي للشك، ونعم الله سب
١ الأمة: اسم مشترك، يقال على ثمانية أوجه:
١-فالأمة تكون الجماعة، كقوله:﴿وجد عليه أمة من الناس..(٢٣)﴾[القصص].
٢-والأمة: أتباع الأنبياء عليهم السلام.
٣-والأمة: الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به، كقوله تعالى:﴿إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا..(١٢٠)﴾[النحل].
٤-والأمة: الدين والملة، كقوله تعالى:﴿إنا وجدنا آباءنا على أمة..(٢٢)﴾[الزخرف].
٥-والأمة: الحين والزمان، كقوله تعالى:﴿ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة..(٨)﴾[هود].
٦- والأمة: القامة، وهو طول الإنسان وارتفاعه.
٧- والأمة: الرجل المنفرد بدينه وحده ولا يشركه فيه أحد. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يبعث زيد بن عمرو بن نفيل لأمة وحده".
٨-والأمة: الأم. يقال: هذه أمة زيد، يعني أم زيد
[راجع تفسير القرطبي (٤/٣٣٢٧)، ولسان العرب]..

٢ أمة معدودة: إلى أمد معدود أي: أجل محدد. والأمة في هذا الموضع: الأجل والحين. وقال تعالى في سورة يوسف:﴿وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله..(٤٥)﴾[يوسف]..
٣ يحبسه: يمنعه..
٤ حق بهم: نزل بهم، وأحاط بهم. وقال تعالى:﴿.. وحاق بآل فرعون سوء العذاب (٤٥)﴾[غافر][مختصر تفسير الطبري] بتصرف..
٥ طرأ الشك: حدث ووقع في عقل السامع مما يستدعي من المتكلم أن يقسم على ما يقول ليصدقه سامعه..
٦ قال عز وجل:﴿فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون(٤٠)﴾[العنكبوت]، أما الذين عذبوا بالحاصب-وهي الريح العاتية الشديدة البرد الحاملة لحصباء الأرض-فهم قوم عاد.
أما ثمود فقد أخذتهم الصيحة، وأما من عوقب فهو قارون، وأما من عوقب بالغرق فهو فرعون ووزيره هامان وجنودهما..

٧ الإملاء: الإرجاء والإمهال. قال تعالى:﴿وأملي لهم إن كيدي متين(١٨٣)﴾[الأعراف].[المعجم الوسيط] بتصرف..
٨ عن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله عز وجل ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ:﴿وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد(١٠٢)﴾[هود] أخرجه البخاري في صحيحه(٤٦٨٦) ومسلم(٢٥٨٣) البر والصلة..
٩ طائفة: جماعة. قيل: ثلاثة. وقيل: أربعة، عدد شهود الزنا. والمراد بالعذاب في هذه الآية الكريمة هو حد الزنا لغير المحصن. وتمام الآية ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين(٢)﴾[النور][تفسير الجلالين]بتصرف..
١٠ قطنا: أي: نصيبنا من العذاب الذي أوعدته.[كلمات القرآن للشيخ محمد مخلوف]. وقط الشيء وقططه: قطعه.[المعجم الوسيط]..
١١ كسفا: قطعا.[مختصر تفسير الطبري]و[كلمات القرآن].
والكسفة (بكسر وسكون السين وفتح الفاء): القطعة من الشيء. والجمع: كسف، وكسف.
وقد قرئت كسفا بفتح السين، وقرئت بتسكينها.[المعجم الوسيط: مادة (ك س ف)]..

١٢ المجابهة: أي: المواجهة والرد على الخصوم. وقد جبهه: أي: صك جبهته، أو قابله بما يكره، أو رده عن حاجته.[المعجم الوسيط] بتصرف..
١٣ الهدى: البدن التي ساقها الرسول صلى الله عليه وسلم عند الحرم، وهو من مناسك الحج. ومعكوفا: محبوسا وممنوعا عن الوصول على مكان النحر وهو الحرم.[تفسير الجلالين وكلمات القرآن] بتصرف..
١٤ تطئوهم: تهلكوهم مع الكفار..
١٥ معرة: مكروه ومشقة أو سبة..
١٦ تزيلوا: تميزوا من الكفار في مكة.[كلمات القرآن] للشيخ مخوف..
١٧ لذلك قال تعالى:﴿يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا(٩٤)﴾[النساء].
ومن أسباب نزول هذه الآية أن المقداد بن الأسود قتل أعرابيا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كان رجل مؤمن يخفي لإيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه، فقتله، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل" أورده ابن كثير في تفسيره(١/٩٤) وعزاه للبراز. وعزاه السيوطي في الدر المنثور (٢/٦٤٤) للدارقطني في الأفراد والطبراني من حديث ابن عباس..

١٨ ما فرطنا: أي: أن الجميع علمهم عند الله، ولا ينسى واحدا من جميعها من رزقه وتدبيره سواء أكان بريا أو بحريا. قاله ابن كثير في تفسيره(٢/١٣١)..
١٩ جرم اذكر: أصلها اذتكر. على وزن افتعل، قلبت تاء الافتعال دالا وذال الفعل دالا، وأدغمت الدالان. ومنه قوله تعالى:﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر(١٧)﴾[القمر]..
٢٠ الاستنكاف: الاستكبار والامتناع وان تأخذه الأنفة من فعل الشيء. ومنه قوله تعالى:﴿لن يستنكف المسيح أن يكون عبد لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا(١٧٢)﴾[النساء]..
٢١ سخريا: مسخرا في العمل، مستخدما فيه.[كلمات القرآن] أي: يستخدم بعضهم بعضا في الأعمال المختلفة حسب إجادة كل منهم لها. وقد جعل الله تعالى ذلك سببا للمعاش في الدنيا؛ ليترابط الناس ويتألفوا، ولا ينعزل كل منهم بعيدا عن الآخرين فتفسد الحياة..
٢٢ سئل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت في قوله تعالى:﴿إن إبراهيم كان أمة قانتا لله..(١٢٠)﴾[النحل] قال: الأمة معلم الخير، والقانت: المطيع لله. ذكره ابن كثير في تفسيره(٢/٥٩٠)..
٢٣ أمة معدودة: طائفة من الأيام قليلة.[كلمات القرآن]..
٢٤ شروه: باعوه. قيل: هم السيارة (القافلة) تبايعوا يوسف-عليه السلام-بثمن بخس: قليل. وقيل: حرام؛ لأنه كان حراما عليهم لا يحل لهم أكل ثمنه. وكانوا فيه من الزاهدين: قيل: هم السيارة كانوا فيه زاهدين، لا يعلمون كرامته على الله تعالى ونبوته.[مختصر تفسير الطبري].
وذكر الجلالان في تفسيرهما أن "بخس" أي: ناقص. وان الدراهم المعدودة عشرون أو اثنان وعشرون درهما. وان إخوته هم الذين كانوا فيه من الزاهدين، فجاء به السيارة الذين اشتروه على مصر، فباعه الذي اشتراه بعشرين دينارا وزوجي نعل وثوبين.[تفسير الجلالين] بتصرف..

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور( ١ )( ٩ ) ﴾ :
وهنا أيضا تبدأ الآية الكريمة بقوله سبحانه :﴿ ولئن ﴾ وهذا يعني أن اللام قد سبقت لتدل على القسم، وكأنه يقول : لئن أذقنا الإنسان رحمة، ثم نزعناها منه لوقع في اليأس. وهنا أيضا قسم وشرط، والقسم متقدم، فالجواب يكون للقسم.
وكلمة ﴿ أذقنا ﴾ توضح أن الإذاقة محلها الأول الفم، ومعناها : تناول الشيء لإدراك طعمه : حلو أو مر، لاذع أو غير لاذع، قلوي أم حامض.
ومن العجيب في دقة التكوين الإنساني أن كل منطقة في اللسان لها طعم تنفعل له، فطرف اللسان ينفعل لطعم معين، ووسط اللسان ينفعل لطعم آخر، وجوانب اللسان تنفعل لطعم ثالث، وهكذا. كل ذلك في عضو واحد شاء له الحق سبحانه هذه الدقة في التركيب.
وكل " حلمة " من مكوّنات اللسان لها شيء تحس به ؛ ولذلك نجد الإنسان يذوق الطعام، فيقول : إن الطعام ينقصه الملح، أو يذوق الحلوى-مثل الكنافة-فيقول : إن السكر المحلاة به مضبوط.
وكذلك حرارة الجسم، يقيس الإنسان حرارته، فإن وجدها سبعة وثلاثين درجة ونصف الدرجة ؛ فيقول : إنها حرارة طبيعية. وإن نقصت حرارة الإنسان عن ذلك يقال : إنه مصاب بالهبوط. وإن ارتفعت يقال : مصاب بالحمى.
وهذا قياس للحرارة بالجملة لجسم الإنسان، ولها المنافذ الخاصة بها. ولكن كل عضو في الجسم تلزمه درجة حرارة خاصة به ليؤدي عمله.
فالكبد إن قلّت درجة حرارته عن أربعين درجة لا يؤدي مهمته. وجسم الإنسان فيه جوارح متعددة ؛ وحرارة العين مثلا تسع درجات ؛ أنها لو زادت حرارتها عن ذلك لانفجرت العين، وحرارة الأذن ثماني درجات.
وأنت لا تستطيع أن تأتي بأشياء مختلفة الحرارة وتضعها مع بعضها، ولكن الحق سبحانه وتعالى شاء ذلك بالنسبة للجسم الإنساني.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ولئن أذقنا الإنسان.. ( ٩ ) ﴾[ هود ] : والذوق هو للإدراك( ٢ )، لا للأكل، فأنت حين تشتري فاكهة يقول لك البائع :" تفضّل ذق " فتأخذ واحدة منها لتستطيب طعمها. فالذوق-إذن-هو تناول الشيء لإدراك طعمه.
والنعمة( ٣ ) حين يشاء الحق سبحانه وتعالى أن تصيب الإنسان، ثم تنزع منه، هنا يصاب الإنسان بالقلق أو الحزن أو الهلع، أو اليأس.
والنعمة مهما قلّت فالإنسان يستطيبها، وإن نزعت منه فهو يئوس كفور.
واليأس : هو قطع الأمل من حدوث شيء، ولأن الإنسان لا يملك الفعل، ولو كان يقدر عليه لما يئس. والمؤمن لا ييأس أبدا ؛ لأن الله سبحانه هو القائل :﴿ .. إنه لا ييأس من روح( ٤ ) الله إلا القوم الكافرون( ٨٧ ) ﴾[ يوسف ] : اليأس-إذن- هو أن تقطع الأمل من أمر مراد لك، ولا تملك الوسائل لتحققه.
والذي ييأس هو الذي ليس له إله يركن إليه ؛ لأن الله تعالى هو الركن الرشيد الشديد، والمؤمن إن فقد شيئا يقول :" إن الله سيعوّضني خيرا منه ".
أما الذي لا إيمان له بإله فهو يقول :" إن هذه الصدفة قد لا تتكرر مرة أخرى ".
فالإنسان الذي يسرق منه جنيه قد يحزن، ولكن إذا ما كان عنده في المنزل عشرة جنيهات فهو يحزن قليلا على الجنيه المفقود.
والإنسان لا ييأس إلا عند عدم يقينه بمصدر يرد عليه ما يريده، ولكن حين يؤمن بمصدر يرد عليه ما يريده فلا تجده يائسا قانطا.
والمؤمن يعلم أن النعمة لها واهب، إن جاءت شكر الله عليها، وإن سلبت منه، فهو يعلم أن الحق سبحانه قد سلبها لحكمة( ٥ ).
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا :﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة.. ( ٩ ) ﴾[ هود ] : ونحن نعلم أن الإنسان مقصود به كل أبناء آدم-عليه السلام-وهم كثيرون، منهم المؤمن، ومنهم الكافر.
وهنا تأتي كلمة " الإنسان " على إطلاقها، ولكن الحق سبحانه وتعالى يستثني المؤمن في موضع آخر حين يقول الحق سبحانه :﴿ والعصر( ١ ) إن الإنسان لفي خسر( ٦ )( ٢ ) إلا الذين آمنوا.. ( ٣ ) ﴾[ العصر ] : و " الإنسان " مفرد يدل على الإنسان في كل مدلولاته، ويستثنى من نوع الإنسان من آمن به.
فإن رأيت كلمة إنسان فاعلم أن المراد بالإنسان أفراد الإنسان كلهم.
والإنسان لو عزل نفسه عن منهج الله تعالى فهو في خسران إلا إذا ابتع منهج الله، فالمنهج يحميه من الزلل، وتسير غرائزه إلى ما أراد الحق سبحانه لها.
فقد خلق الحق سبحانه الغرائز لمهام أساسية، فغريزة الجوع تجعل الإنسان يطلب الطعام، والعطش أراده الله سبحانه وتعالى لينتبه الإنسان إلى طلب الارتواء بالماء.
وغريزة بقاء النوع تدفع الإنسان للزواج، وغريزة حب الاستطلاع هي التي تدفع الإنسان إلى كشف المخترعات.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل عن الساهين عن استكشاف آيات الله تعالى :
﴿ وكأين من آية( ٧ ) في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرون( ١٠٥ ) ﴾[ يوسف ] : والباحث العلمي التجريبي المعملي ينظر في ظواهر الكون ليستطلع أسرار الكون.
وهناك فارق بين حب الاستطلاع لاكتشاف أسرار الكون، وحب الاستطلاع لأخبار الناس.
إن حب الاستطلاع عموما هو مدار التقاءات الكون، ولكن الدين والخلق هو الذي يوجه حب الاستطلاع.
إذن : فالقرائن لها مهمة يجب ألا تنفلت إلى غيرها، والدين قد جاء ليعلى من الغرائز ويوجهها على مهامها.
لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ ولا تجسسوا( ٨ ).. ( ١٢ ) ﴾[ الحجرات ] : أي : لا تتبعوا العورات( ٩ ) ؛ لأننا لو أبحنا لواحد أن يتتبع عورات الناس ؛ لأبحنا لكل الآخرين أن يتتبعوا عوراته.
وحين منع الحق-سبحانه وتعالى-الإنسان من تتبّع عورات غيره، فهو قد حماه من تتبع عوراته.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه.. ( ٩ ) ﴾[ هود ] : وكلمة " النزع " تفيد أن الإنسان حريص على ما وهبه له الله تعالى من خير وصحة وعافية ويسر. وحين تؤخذ منه النعمة فهو يقاوم.
والنزع يعني : استمساك المنزوع منه بالشيء المنزوع.
ولذلك يقول الحق سبحانه في سورة آل عمران :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء.. ( ٢٦ ) ﴾[ آل عمران ] : كان الموجود في الملك يتشبث به جدا.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها( ١٠ ) منه إنه ليئوس كفور( ٩ ) ﴾[ هود ].
وفي نفس السورة يأتي الاستثناء، فيقول الحق سبحانه :﴿ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير( ١١ ) ﴾[ هود ].
وسنأتي لها بالخواطر من بعد ذلك.
ويقول الحق-سبحانه وتعالى-في المقابل لمن نزعت منه الرحمة واليئوس الكفور :
﴿ ولئن أذقناه نعماء( ١١ ) بعد ضراء مسته( ١٢ ) ليقولن ذهب السيئات( ١٣ ) عني إنه لفرح( ١٤ ) فخور( ١٥ ) ( ١٠ ) ﴾ :
١ يئوس: صيغة مبالغة من اليأس. أي: يظل يائسا قانطا من رحمة الله وخيره. وكفور: صيغة مبالغة من الكفر أي: قليل الشكر على النعم، وكفران النعم هو جحدها وعدم شكر الله عليها.[مختصر تفسير الطبري] بتصرف..
٢ الإدراك يكون بالحواس، وبالإدراك يحصل الانفعال الوجداني، وعن طريق الوجدان يكون الاختيار، فالذوق هو تناول الشيء لإدراك طعمه فيحصل الاختيار..
٣ نعم ينعم فهم ناعم، من باب فرح، ويأتي من باب كرم، نعمة ونعمة بفتح النون وكسرها. ونعيما كان في رغد من العيش، وفي تمتع به. والنعيم ما يتلذذ به من مأكل وملبس وصحة، يقول الحق:﴿.. في جنات النعيم(٩)﴾[يونس] أي: التي فيها كل نعيم. والنعمة بالفتح: النعيم، وتطبق على ما يتمتع به الإنسان من وسائل الرفاهية. يقول الحق:﴿وذرني والمكذبين أولي النعمة..(١١)﴾[المزمل] في الدنيا، والنعمة بكسر النون. مصدر بمعنى النعيم. وتطلق على المتاع والخير الذي يتمتع به الإنسان يقول الحق:﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها..(١٨)﴾[النحل] القاموس القويم. بتصرف..
٤ روح الله: رحمته وفرجه، ولطفه بالعباد بغزالة كربهم. بكلمات القرآن] بتصرف. واليأس هو انقطاع الأمل، ولا ينقطع أمل الإنسان في الله سبحانه وتعالى إلا إذا كان كافرا..
٥ عن صهيب الرومي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لحد إلا للمؤمن، عن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له: أخرجه مسلم في صحيحه(٢٩٩٩)..
٦ الخسر: الهلاك والنقصان..
٧ وكأين: بمعنى "وكم". وآية هنا: عبرة وحجة، كالشمس والقمر وغيرهما من آيات الله سبحانه وتعالى، يرونها ويعاينونها ولا يتفكرون فيها.[مختصر تفسير الطبري]
وقد أخرج أبو الشيخ الأصبهاني عن الضحاك في تفسير معنى الآية: يعني شمسها وقمرها ونجومها وسحابها. وفي الأرض، ما فيها من الخلق والأنهار والجبال والمدائن والقصور. ذكره السيوطي في الدر المنثور (٤/٥٩٣)..

٨ لا تجسسوا: أي: لا تتجسسوا، حذف منه إحدى التاءين-لغرض بلاغي-والمراد: عدم تتبع عورات الناس ومعايبهم بالبحث عنها.[تفسير الجلالين] بتصرف..
٩ العورة: ما يستره من جسمه حياء. والعورة: الخلل والعيب. والبيت عورة: أي فيه خلل وقوله:﴿يقولون إن بيوتنا عورة..(١٣)﴾[الأحزاب] أي: فيها خلل يخشى أن يدخل الأعداء منه، وذلك ليرجعوا عن الجهاد. القاموس القويم باختصار..
١٠ المقصود الرحمة التي انعم الله بها عليه..
١١ النعماء: أثر النعمة على بدن وحياة الإنسان، فتكون ملازمة له..
١٢ الضارء: أثر الفقر والشدة. وقال تعالى:﴿والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس..(١٧٧)﴾[البقرة]. وقال تعالى:﴿ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء..(٤٢)﴾[الأنعام].
ومسته: أصابته.[تفسير الجلالين ومختصر تفسير الطبري] بتصرف..

١٣ السيئات: المصائب والشدائد والعسر..
١٤ فرح: صيغة مبالغة من الفرح، وهو البطر بالنعمة [كلمات القرآن]..
١٥ فخور: صيغة مبالغة من الفخر، أي: كثير الفخر بما نال من الناس، وفخور على الناس بما أوتي، وغير شاكر لله تعالى على نعمه.[مختصر تفسير الطبري، وتفسير الجلالين] بتصرف..
وهنا نجد الضراء هي الموجودة، والنعماء هي التي تطرأ، عكس الحالة الأولى، حيث كانت الرحمة-من خير ويسر- هي الموجودة.
فالنزع في الأولى طرأ على رحمة موجودة، والنعماء طرأت على ضرّاء موجودة.
وهناك فرق بين نعماء ونعمة، وضراء وضر ؛ فالضر هو الشيء الذي يؤلم النفس، والنعمة هي الشيء الذي تتنعم به النفس.
لكن التنعّم والألم قد يكونان في النفس، ولا ينضح أي منهما على الإنسان، وإن نضح على الإنسان أثر النعمة يقال فيها " نعماء "، وإن نضح عليه أثر من الضر يقال :" ضراء ".
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني.. ( ١٠ ) ﴾[ هود ] : ولا يفطن من يقول ذلك إلى المذهب الذي أذهب السيئات ؛ لأن السيئة لا تذهب وحدها.
ولو كان القائل مؤمنا لقال : رفع الله عني السيئات. لكنه غير مؤمن ؛ لذلك يغرق في فرح كاذب وفخر لا أساس له.
ويصفه الحق سبحانه وتعالى بقوله :﴿ .. إنه لفرح فخور( ١٠ ) ﴾[ هود ] : وكأن الفرح بالنعمة أذهله( ١ ) عن المنعم، وعمن نزع منه السيئة.
وأما الفخر، فنحن نعلم أن الفخر هو الاعتداد بالمناقب( ٢ )، وقد تجد إنسانا يتفاخر على إنسان آخر بأن يذكر له مناقب وأمجادا لا يملكها الآخر.
ونحن نعلم أن التميز لفرد ما يوجد في المجتمع، ولكن أدب الإيمان يفرض ألا يفخر الإنسان بالتميز.
وذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر " ( ٣ ).
وفي إحدى المعارك نجده صلى الله عليه وسلم أن يقول :" أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " ( ٤ ). وقد اضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك ؛ لأن الكافرين في تلك المعركة ظنوا أنهم حاصروه هو ومن معه وأنه سوف يهرب، لكنه صلى الله عليه وسلم بشجاعته أعلن :" أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " ( ٥ ) وكان أقرب المسلمين إلى مكان الأعداء الكافرين وفي مواجهتهم.
ونحن نجد المتصاعدين أو المتنافسين، واحدهم يدخل على الآخر بصوت ضخم ليهز ثقة الطرف الآخر بنفسه.
والفخور إنسان غائب بحجاب الغفلة عن واهب المناقب التي يتفاخر بها، ولو كان مستحضرا لجلال الواهب لتضاءل أمامه، ولو اتجهت بصيرة المتكبر والفخور إلى الحق سبحانه وتعالى لتضاءل أمامه، ولردّ كل شيء إلى الواهب.
ومثال ذلك في القرآن الكريم هو قول الحق سبحانه على لسان صاحب موسى عليهما السلام :﴿ وما فعلته( ٦ ) عن أمري.. ( ٨٢ ) ﴾[ الكهف ] : وهذا سلوك العابد المتواضع.
أما حال الفخورين اللاهين عن الحق سبحانه وتعالى، فقد صوره القرآن في قول قارون :﴿ إنما أوتيته( ٧ ) على علم عندي.. ( ٧٨ ) ﴾[ القصص ].
وكان مصيره هو القول الحق :﴿ فخسفنا( ٨ ) به وبداره الأرض.. ( ٨١ ) ﴾[ القصص ].
ولذلك قلنا : إنك تحصن كل نعمة عندك بقولك عند رؤيتها :" بسم الله ما شاء الله " ؛ لتتذكر أن هذه النعمة لم تأت بجهدك فقط، ولكنها جاءت لك أولا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وذلك لتبقى عين الواهب حارسة للنعمة التي عندك.
أما حين تنسى الواهب فلن يحفظ تلك النعمة لك. ونحن نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى لم يمنع الفرح المنبعث عن انشراح الصدر والسرور بنعمة الله بل طلبه منا في قوله سبحانه :﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا.. ( ٥٨ ) ﴾[ يونس ] :
ولكن الحق سبحانه يطلب من المؤمن أن لا يكون الفرح المنبعث لأتفه الأسباب، والملازم له، وإلا كان من الفرحين الذين ذمهم الله تعالى( ٩ ).
١ الذهول عن الشيء: أن يشغلك عنه أمر آخر. ذهل عن الشيء: تركه على عمد أو غفل عنه أو نسيه لشغل.[اللسان، مادة: ذهل]..
٢ مناقب: جمع منقبة، وهي كرم الفعل. وكريم المناقب: حسن الخلق كريم الفعال.[اللسان] بتصرف..
٣ أخرجه مسلم في صحيحه(٢٢٧٨) والبيهقي في دلائل النبوة(٥/٤٧٦) من حديث أبي هريرة. وعند الحاكم في مستدركه (٢/٦٠٤) وصححه من حيث جابر بن عبد الله بلفظ:"أنا سيد ولد آدم ولا فخر" دون ذكر يوم القيامة..
٤ نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على جده عبد المطلب، لا إلى أبيه عبد الله، فقد كان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة، وكان سيد أهل مكة، وكان مشتهرا عندهم أن عبد المطلب بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه سيظهر، وسيكون شأنه عظيما، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم تذكيرهم بذبك وتنبيههم بأنه صلى الله عليه وسلم لابد من ظهوره على الأعداء، وأن العاقبة له لتقوى نفوسهم. نقله النووي في شرحه لصحيح مسلم(١٢/٣٦٠)..
٥ وذلك أن رجلا سأل البراء بن عازب: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، وكانت هوزان يومئذ رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، وهو يقول:"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب".
أخرجه مسلم في صحيحه (١٧٧٦) كتاب الجهاد، والبخاري في صحيحه(٤٣١٧) من حديث البراء بن عازب..

٦ المقصود ما فعله الخضر عليه السلام من: خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار الذي كان سينهار..
٧ أوتيته: أي: اكتسبته. يقصد المال الذي رزقه الله إياه، ولكن قارون ادعى أن علمه هو الذي جلب له المال، فكفر بنعمة الله عليه، فاستحق عقاب الله..
٨ الخسف: خسف الله الأرض: جعلها تهبط وتغور يقول الحق:﴿فخسفنا به وبداره الأرض..(٨١)﴾[القصص] وخسف القمر: نقص نوره، وخسوف الشمس يقع في أواخر الشهر العربي في أيام المحاق، وسببه توسط القمر بين الأرض والشمس، فيحجب القمر الشمس، فإن كان الحجب كليا كان خسوفا، وإن كان جزئيا كان كسوفا. وجاء في اللسان الخسف: سؤوخ الأرض بما عليها أي: ابتلاعها ما فوقها. وخسف الله به الأرض أي: أغابه فيها. القاموس القويم باختصار..
٩ فقال عن قوم موسى أنهم قالوا لقارون:﴿.. لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين(٧٦)﴾[القصص] أي: الأشرين البطرين الذين لا يعترفون بنعمة الله عليهم. وقال تعالى:﴿لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم..(٢٣)﴾[الحديد]..
يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك :
﴿ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير( ١١ ) ﴾ :
وكلمة ﴿ صبروا ﴾( ١ ) هنا موافقة للأمرين اللذين سبقا في الآيتين السابقتين، فهناك نزع الرحمة، وكذلك هناك " نعماء " من بعد " ضرّاء "، وكلا الموقفين يحتاج للصبر ؛ لأن كلا منا مقدور للأحداث التي تمر به، وعليه أن يصبر لملحظية حكمة القادر سبحانه.
وبدأ الحق سبحانه وتعالى هذه الآية بالاستثناء، فقال جلا وعلا :﴿ إلا الذين صبروا.. ( ١١ ) ﴾[ هود ] : ولولا هذا الاستثناء لكان الكل-كل البشر- ينطبق عليهم الحكم الصادر في الآيتين السابقتين، حكم باليأس والكفر، أو الفرح والفخر دون تذكّر واهب النعم سبحانه.
ولكن هذا الاستثناء قد جاء ليطمئن الذين صبروا على ما قد يصيبهم في أمر الدعوة، أو ما يصيبهم في ذواتهم ؛ لا من الكافرين ؛ لكن بتقدير العزيز العليم.
أو أنهم صبروا عن عمل إخوانهم المؤمنين.
إذن : فالصبر معناه حدّ النفس بحيث ترضى عن أمر مكروه نزل بها( ٢ ). والأمر المكروه له مصادر عدة، منها :
*أمر لا غريم( ٣ ) لك فيه كالمرض مثلا.
*أو أن يكون لك غريم في الأمر ؛ كأن يسرق منك متاع، أو يعتدى عليك، وفي هذه الحالة تنشغل برغبة الانتقام، وتتأجج نفسك برغبة النيل من هذا الغريم، أكثر مما تتأجج في حالة عدم وجود الغريم، فحين يمرض الإنسان فلا غريم له.
وفي حالة الرغبة في الانتقام فالصبر يختلف عن الصبر في حالة عدم وجود الغريم.
ولذلك عرض الحق سبحانه وتعالى لتأتي الصبر حسب هذه المراحل، فسيدنا لقمان يقول لابنه :﴿ .. واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور( ٤ )( ١٧ ) ﴾[ لقمان ].
وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور( ٤٣ ) ﴾[ الشورى ] : وفي هذه الآية " لام " التوكيد لتؤكد أن هذا الأمر يحتاج إلى عزم قوى ؛ لأن لي فيها غريما يثير غضبي.
فساعة أرى من ضربني أو أهانني أو سرقني أو أساء إليّ إساءة بالغة فالأمر هنا يحتاج صبرا وقوة وعزيمة.
أما في الحالة الأولى-حالة عدم وجود غريم-فالحق سبحانه يكتفي فقط بالقول الكريم :﴿ واصبر على ما أصابك.. ( ١٧ ) ﴾[ لقمان ].
ولكنه سبحانه أضاف في الآية الأخرى " اللام " لتأكيد العزم، وليضيف سبحانه في حالة وجود غريم طلب الغفران، فيقول سبحانه :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور( ٤٣ ) ﴾[ الشورى ] : وهكذا نجد المستثنى، وهم الصابرون على ألوانهم المختلفة.
وهنا يقول سبحانه :﴿ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات.. ( ١١ ) ﴾[ هود ] : وما دام هنا صبر، فالصبر لا يكون إلا على إيذاء. ولكن إياك أن يكون الإيذاء من خصمك في الإيمان، أو من خصمك في ما دون الإيمان، صارفا لك عن نشاطك في طاعة الله سبحانه ؛ لأن الصبر لا يعني أن تكبت غضبك وتعذب نفسك بهذا الكبت بما يصرفك عن مهامك في الحياة، بل يسمح لك الحق سبحانه أن تتخلص من غلك وحقدك، بمعايشة الإيمان الذي يخفف من غلواء الغضب.
ولكسر حدة الغل أباح لك الحق سبحانه وتعالى أن تعتدي على من اعتدى عليك بمثل ما اعتدى ؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يريد لك أن تظل في حالة غليان بالغضب أو القهر بما يمنعك من العمل، بل يريد الحق سبحانه أن تتوجه بطاقاتك إلى أداء عملك.
ولذلك لا يلزمك الحق سبحانه إلا بحكم العدل فيقول عز وجل :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم.. ( ١٩٤ ) ﴾[ البقرة ].
ولكن هناك القادر على التحكم في نفسه، ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ والكاظمين الغيظ( ٥ ).. ( ١٣٤ ) ﴾[ آل عمران ] : ومعنى كظم الغيظ : أن الغيظ موجود، لكن صاحبه لا يتحرك بنزوع انتقامي، مثلما تقول :" كظمت القربة " لأن حامل القربة لو لم يكظم الماء فيها، لتفلّت الماء منها، أي : أنه يحبس الماء فيها.
وكظم الغيظ درجة ومنزلة، قد لا تكون إيجابية ؛ لأن الغيظ ما زال موجودا ؛ ولذلك تأتي مرحلة أرقى، وتتمثل في قول الحق سبحانه :﴿ والعافين عن الناس.. ( ١٣٤ ) ﴾[ آل عمران ] : أي : أن تخرج الغيظ من قلبك وتتسامح.
إذن : فأنت هنا أمام مراحل ثلاث : أن تردّ الاعتداء عليك بمثله، والمثليّة في رد الاعتداء أمر لا يمكن أن يتحقق، فمن صفعك صفعة، كيف تستطيع أن تضبط كمية الألم في الصفعة التي تردها إليه ؟
إن المتحكم في ردّ الاعتداء هو الغضب، والغضب لا يقيس الاعتداء بمثله، فلا يتحقق العدل المطلوب ؛ لهذا يكون الصبر خيرا مصدقا لقوله تعالى :﴿ .. ولئن صبرتم لهو خير للصابرين( ١٢٦ ) ﴾[ النحل ] : فإن أزدت من قوة صفعتك تكون معتديا.
ولعلنا نذكر مسرحية " تاجر البندقية " لشكسبير، وبطلها هذا التاجر اليهودي الذي أقرض رجلا مالا، وكان صكّ القرض يفرض أن يقتطع اليهودي رطلا( ٦ ) من لحم المقترض إن تأخّر في السداد.
وتأخر المقترض في السداد، وأراد المرابي اليهودي أن يقتطع رطلا من لحم المقترض، وعرض الأمر على القاضي، وكان القاضي رجلا حكيما، وأراد أن يصدر حكما يلتمس فيه العدالة، فقال القاضي : لا مانع أن تأخذ رطلا من لحم الرجل ؛ هات السكين، واقطع رطلا واحدا بلا زيادة أو نقصان ؛ لأننا سنأخذ مقابل تلك الزيادة من لحمك أنت وبنفس السكين، وكذلك إن قطعت من اللحم ما يقل عن الرطل، فسنقطع الناقص لك من لحمك أنت عقابا لك.
وتردّد المرابي اليهودي ؛ لأن الجزار-أيّ جزار-لا يمكن أن يضبط يده ليقطع رطلا مكتمل الوزن، بل يقطع أحيانا ما يزيد عن الوزن المطلوب، ويقطع أحيانا ما يقل عن الوزن المطلوب، ثم يكمل أو ينقص الوزن حسب كل حالة.
وانسحب المرابي اليهودي وتنازل عن دعواه، والذي دفعه إلى ذلك هو عدم قدرته على أخذ المثل، فلو كان قد ارتقى قليلا في مشاعره لما وصل إلى هذا الحكم.
والحق سبحانه وتعالى يحضنا( ٧ ) على أن نرد العدوان بمثله، وأن أردنا الارتقاء فلنكظم الغيظ، وإن أردنا الارتقاء أكثر فلنخرج الغيظ من القلب ولكن من العافين عن الناس( ٨ ) ؛ لننال محبة الله تعالى ؛ لأنه سبحانه يقول :
﴿ .. والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين( ١٣٤ ) ﴾[ آل عمران ] : وفي هذا يرتقي المؤمن بمنهج الله سبحانه، فيجعل المعتدى عليه هو الذي يحسن.
وحين تريد أن تفسر حب الله سبحانه للمحسنين فلسفيا أو منطقيا أو اقتصاديا، ستجد القضية صحيحة، والله سبحانه وتعالى يقول :﴿ وليعفوا وليصفحوا( ٩ ) ألا تحبون أن يغفر الله لكم( ١٠ ).. ( ٢٢ ) ﴾[ النور ] : فإن أساء( ١١ ) أخوك إليك سيئة، فإما أن ترد بالمثل، أو تكظم الغيظ أو ترقى إلى العفو، وبذلك تكون من المحسنين ؛ لأنك إذا كنت قد ارتكبت سيئة، وعلمت أن الله سبحانه وتعالى يغفرها لك، ألا تشعر بالسرور ؟
إذن : فما دمت تريد أن يغفر الله تعالى لك السيئة عنده، فلماذا لا تعفو عن سيئة أخيك في حقك ؟
وقول الحق سبحانه :﴿ ألا تحبون أن يغفر الله لكم.. ( ٢٢ ) ﴾[ النور ] : وقد جاء الحق سبحانه هنا من ناحية النفس، فجعل عفو العبد عن سيئة العبد بحسنة، فلعفو العبد ثمن عند الله تعالى ؛ لأن العبد سيأخذ مغفرة الله تعالى، وفوق ذلك فأنت تترك عقاب المسيء والانتقام منه لربك، وعند التسليم له راحة.
ولو اقتصصت أنت ممن أساء إليك، فقصاصك على قدر قوتك، أما إن تركته إلى قدرة الله تعالى، فهذا أصعب وأشق ؛ لأنك تركته إلى قوة القوى.
وهكذا ينال العافي عن المسيء مرتبة راقية ؛ لأنه جعل الله-سبحانه وتعالى-في جانبه.
وهناك من يقول : كيف يأمر الدين الناس بأن يحسنوا لمن أساء إليهم ؟
ويعلل ذلك بأنه أمر ضد النفس.
ونقول : إن الإحسان إلى المسيء هو مرحلة ارتقاء، وليست تكليفا( ١٢ ) أصيلا ؛ لأن الحق سبحانه قد أباح أن نرد العدوان بمثله، ثم حث المؤمن على أن يكظم غيظه، أو يرتقي إلى العفو وأن يصل إلى الإحسان، وكل هذه ارتقاءات اليقين بالله سبحانه وتعالى.
وانظر إلى نفسك-ولله المثل الأعلى ومنزّه سبحانه عن كل مثل-إن أردت أن تطبق الأمر على ذاتك حين تجد ولدا من أولادك قد اعتدى على أخيه، فقلبك وعواطفك وتلطفاتك تكون مع المعتدي عليه.
ومن يقول : كيف يكلّفني الشرع بأن أحسن إلى من أساء إليّ ؟
نقول له : تذكّر قول الحسن البصري رضي الله عنه( ١٣ ) :" أفلا أحسن لمن جعل الله في جانبي ".
ولو طبّق العالم هذه القاعدة بيقين وإخلاص لصارت الحياة على الأرض جنة معجلة، التسامح، قوامها القرب، ومنهجها الحب.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير( ١١ ) ﴾[ هود ].
وإن تساءل أحد : ولماذا ينالون المغفرة ؟
نقول : لأنهم صبروا وغفروا ؛ لذلك يهديهم الله تعالى مغفرة من عنده، لأنه صبر على الإساءة، وغفر لمن أساء، فلا بد أن يثيبه الله تعالى، لا بالمغفرة فقط، ولكن بالأجر الكبير أيضا( ١٤ ).
١ والذين صبروا ماضيا، وصابروا حالا ومستقبلا هم أهل الفلاح مصدقا لقوله تعالى:﴿يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون(٢٠٠)﴾[آل عمران]..
٢ ويكون الصبر مطلوبا أيضا عند امتناع النعمة امتحانا لإيمان المؤمن فعن أبي سعيد الخدري أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده:"ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر" متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه(٦٤٧٠) ومسلم في صحيحه(١٠٥٣) كتاب الزكاة..
٣ الغريم: الدائن، والمدين. والجمع: غرماء. والمراد بالغريم هنا: الخصم أو العدو.[اللسان، والمعجم الوسيط] بتصرف..
٤ والصبر: إما صبر على المأمورات أو صبر على المحذورات، أو صبر على المقدرات، فمن توافرت فيه هذه المقامات كل من أهل العزم. وعزم الأمور معزوماتها التي يعزم عليها لوجوبها.[تفسير الجلالين]..
٥ الكاظمين الغيظ: الحابسين غيظهم في قلوبهم.[كلمات القرآن].
وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من كظم غيظا، وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله سبحانه وتعالى على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور ما شاء" أخرجه أحمد في مسنده (٣/٤٤٠) وأبو داود في سننه(٤٧٧٧) والترمذي في سننه(٢٤٩٣، ٢٠٢١) وقال: حسن غريب..

٦ الرطل: معيار يوزن به أو يكال، يختلف باختلاف البلاد، وهو في مصر اثنتا عشرة أوقية، والأوقية اثنا عشر درهما. والجمع: أرطال.[المعجم الوسيط]..
٧ الحض: الحث والتشجيع على فعل شيء.[اللسان] بتصرف، وقال تعالى:﴿إنه كان لا يؤمن بالله العظيم(٣٣) ولا يحض على طعام المسكين(٣٤)﴾[الحاقة]..
٨ عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من سره أن يشرف له البنيان، وترفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه"أخرجه الحاكم في مستدركه (٢/٢٩٥) عن أبي بن كعب وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه" قال الذهبي:"فيه أبو أمية ضعفه الدارقطني وإسحاق لم يدرك عبادة"..
٩ صفح عن رجل: أعرض عنه أو عفا عنه ولم يؤاخذه بذنبه. قال تعالى:﴿.. وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم(١٤)﴾[التغابن]. وقال تعالى:﴿.. وإن الساعة آتية فاصفح الجميل(٨٥)﴾[الحجر].[اللسان] بتصرف..
١٠ تمام الآية:﴿ولا يأتل أولا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم(٢٢)﴾[النور].
وقد نزلت هذه الآية في شأن أبي بكر الصديق الذي حلف أن لا يعطي ابن خالته مسطح بن أثاثة ما كان يعطيه من قبل من النفقة بسبب ما تكلم به في حق عائشة مع من تكلم، وهو ما يسمى بحادثة الإفك. فأنزل سبحانه الآية، فقال أبو بكر: والله إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع على مسطح النفقة التي كانت عليه وقال: لا أنزعها منه أبدا. راجع تفسير ابن كثير (٣/٢٧٥) وأسباب النزول للواحدي (ص ١٨٥) ط. المكتبة الثقافية..

١١ أساء إساءة: فعل السوء ضد أحسن، وأساء العمل لم يحسنه، والمسيء اسم فاعل من أساء، والسيئ القبيح، والمنكر، والسيئة: مؤنث السيئ بمعنى القبيح. والسوءة: ما يقبح إظهاره وينبغي ستره "القاموس القويم" باختصار..
١٢ لأن التكليف إلزام، والعفو من الفضل، وفي التعامل بالفضل ارتقاء..
١٣ هو الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، تابعي، كان إمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمنه، وهو أحد العلماء الفقهاء النساك. ولد بالمدينة ٢١ هـ، وشب في كنف علي بن أبي طالب، كان يدخل على الولاة يأمرهم وينهاهم، سكن البصرة وتوفي بها عام ١١٠ هـ عن ٩٠ عاما..
١٤ ومغفرة الله في مقابل صبر العبد وغفرانه لإساءة المسيء محدودة بحدود طاقة البشر، أما غفران الله ففيه شمول الكريم وعفو الحكيم؛ لأن عفوه مصحوب بالأجر، والجر كبير من أكبر وهو الله سبحانه..
ويقول سبحانه بعد ذلك :
﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل( ١ )( ١٢ ) ﴾ :
وهنا نجد الحق سبحانه يأتي بصيغة الاستفهام في قوله تعالى :﴿ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك.. ( ١٢ ) ﴾[ هود ] : وهو استفهام في معرض النهي.
ولله المثل الأعلى-أنت قد تقول لابنك لتحثه على الاجتهاد :" لعلك سررت من فشل فلان " وفحوى( ٢ ) هذا الخطاب، استفهام في معرض النهي، وهو استفهام يحمل الرجاء.
وهنا تجد أن الراجي هو ربك-سبحانه وتعالى-الذي أرسلك بالدعوة.
ولذلك يأتي قول الحق سبحانه مبيّنا : لا يضيق صدرك يا رسول الله من هؤلاء المتعنتين، الذين يريدون أن يخرجوك عن مقامك الذي تلحّ دائما في التأكيد عليه، فأنت تؤكد لهم دائما أنك بشر( ٣ )، وكان المفروض فيهم أن تكون مطلوباتهم منك على مقدار ما أقررت على نفسك، فأنت لم تقل أبدا عن نفسك إنك إله، ليطلبوا منك آيات تخالف النواميس( ٤ )، بل أنت مبلّغ عن الله تعالى.
وإياك أن يضيق صدرك فلا تبلغهم شيئا مما أنزل إليك ؛ لأن البلاغ هو الحجّة عليهم، فلو ضاق صدرك منهم، وأنقصت البلاغ الموكّل إليك ؛ لأنهم كلما أبلغوا بآية كذّبوها، فاعلم أن الله سبحانه وتعالى سوف يزيد عقابهم بقدر ما كذّبوا.
وكلمة " ضائق " ( ٥ ) اسم فاعل، ويعني أن الموصوف به لأن يظل محتفظا بهذه الصفة لتكون لازمة له، ولكنها تعبر عن مرحلة من المراحل، مثلما نقول :" فلان ناجر " أي : أنه قادر على القيام بأعمال النجارة مرة واحدة-أو قليلا-ولا يحترف هذا العمل.
وكذلك كلمة " ضائق " وهي تعبذر في مرحلة لا أكثر من فرط ما قابلوا الرسول صلى الله عليه وسلم من إنكار، وما طالبوا به من أشياء تخرج عن نطاق إنسانيته، فقد طالبوا هنا أن ينزل عليه كنز.
وقد جاء الحق سبحانه بذكر مسألة الكنز ؛ ليدلنا على مدى ما عندهم من قيم الحياة، فقيمة القيم عندهم تركّزت في المال ؛ ولذلك تمنّوا لو أن هذا القرآن قد نزل على واحد من الأثرياء، مصداقا لقول الحق سبحانه :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم( ٦ ) ( ٣١ ) ﴾[ الزخرف ]. إذن : فلم يكن اعتراضهم على القرآن، بل على من نزل عليه القرآن.
وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها، طلبوا أن ينزل إليه كنز، وقد ظنوا أن الثراء سيلهيه هو ومن معه عن الدعوة إلى الله تعالى ونسوا أنهم قد عرضوا الثورة عليه من قبل( ٧ ).
وهكذا وضح لمن عرض عليه هذا الأمر أن مسألة الكنز لا تشغله صلى الله عليه وسلم.
والكنز( ٨ )-لغويا-هي الشيء المجتمع، فإن كانت الماشية-مثلا-مليئة باللحم يقال لها :" مكتنزة لحما " ولكن كلمة " الكنز " أطلقت على الشيء الذي هو ثمن لأي شيء، وهو الذهب.
ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.. ( ٣٤ ) ﴾[ التوبة ].
ونحن نعلم أن هناك فارقا بين الرزق المباشر والرزق غير المباشر، فالرزق مباشر هو ما تنتفع به، طعاما أو شرابا، وهناك شيء يأتي لك بالرزق الغير مباشر ؛ لكنه لا يغني عن الرزق المباشر المستمر( ٩ ).
فلو أن إنسانا في صحراء ومعه قناطير( ١٠ ) مقنطرة من الذهب، ولا يجد طعاما ولا شربة ماء، ماذا يفعل له الذهب ؟ ولو عرض عليه إنسان آخر رغيف خبز وشربة ماء مقابل كل ما يملك من ذهب لوافق على الفور. وهنا لا يكون التقييم أن قنطار الذهب مقابل الرغيف وشربة الماء، ولكن قنطار الذهب هنا مقابل استمرار الحياة وضرورة الحاجة.
إذن : معنى كلمة " كنز " هو نقد الذهب والفضة مجتمعا، ويقال عنه بالعامية عندنا في مصر :" نقود تحت البلاطة "، ولكن إذا أدّى صاحب هذا النقد حقّ الله تعالى فيما ادّخره، لا يعتبر كنزا ؛ لأن الشرط في الكنز أن يكون مخفيا، والزكاة التي تخرج من المال المدّخر توضح للمجتمع أن صاحب المال لا يخفي ما عنده.
ولذلك لا يسمّى الكنز إلاّ للشيء المجتمع وممنوع منه حق الله تعالى، فإن أدّي حق الله سبحانه فقد رفعت عنه الكنزية ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ .. والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم( ٣٤ ) ﴾[ التوبة ] : ومن هذا القول الكريم نفهم أن من يملك مالا ويؤدّي حقّ الله فيه، لا يعتبر كنزا( ١١ )، وحين تنقص الزكاة المال في ظاهر الأمر، فهي تدفع الإنسان إلى أن يحسن استثمار هذا المال ؛ حتى لا يفقده على مدار أربعين عاما، بحكم أن زكاة المال هي اثنان ونصف في المائة ؛ ولذلك يحاول صاحب المال أن يثمّره، وهو بذلك يهيّئ فرصة لغير واجد وقادر لأن يعمل، وبذلك تقلّ البطالة.
وقد تكون أنت صاحب المال ؛ لكنك لا تفهم أسرار التجارة والصناعة، فتشارك من يفهم في التجارة أو الصناعة، وبذلك تفتح أبواب فرص عمل لمن لا عمل له وقادر على إدارة العمل.
هذه هي إرادة الحق سبحانه وتعالى في أن يجعل من تكامل المواهب نماء وزيادة، تكامل مواهب الوجد-النقود-ومواهب الجهد، وبين الوجد والجهد تنشأ الحركة، ويتفق صاحب المال مع صاحب الجهد على نسب الربح حسب العرض والطلب ؛ لأن كل تبادل إنما يخضع لهذا الأمر-العرض والطلب-لأن مثل هذا التعاون بين الواجد والقادر ينتج سلعة، والسلعة لا هوى لها، ولكن من يملك السلعة ومن يشتري السلعة لهما هوى، فمالك السلعة يرغب في البيع بأعلى سعر، ومن يرغب في شراء السلعة يريدها بأقل سعر، لكن السلعة نفسها لا هوى لها.
وما دام العرض والطلب هو الذي يتحكّم في السلع، فهذا توازن في ميزان الاقتصاد( ١٢ ).
وعلى السبيل المثال : إن عرضت اللحوم بسعر مرتفع، فكبرياء الذات في النفس البشرية تدفع غير القادر لأن يقول : إن تناول اللحم يرهقني صحيّا. ويتجه إلى الأطعمة الأخرى التي يقدر على ثمنها ؛ لأن السلعة هي التي تتحكم، أما إذا تدخل أحد في تسعير السلع، بأن اكتنز المال، ولم يخرجه للسوق لاستثماره، حينئذ تختفي قدرة الحركة لصاحب المال، ولا يجد صاحب الموهبة مجالا لإتقان صنعته.
وقول الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية :﴿ لولا( ١٣ ) أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك.. ( ١٢ ) ﴾[ هود ] : فكلمة " لولا " -كما نعلم-للتمني، وهم تمنوا الكنز أولا، ثم طلبوا مجيء مَلك، وكيف ينزل الملك ؟ أينزل على خلقته أم على غير خلقته بأن يتجسد على هيئة رجل ؟
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا.. ( ٩ ) ﴾[ الأنعام ] : وإن نزل المَلك على هيئة رجل فكيف يتعرّفون إلى أصله كمَلك ؟ وهذا غباء في الطلب.
وأيضا قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا( ٩٤ ) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا( ٩٥ ) ﴾[ الإسراء ] : ولو أنزله الحق سبحانه ملكا فسوف يكون من نفس طبيعتهم البشرية، وسوف يلتقي بهم ويتكلم معهم، ولن يستطيعوا تمييزه عن بقية الناس وسوف يكذّبونه أيضا.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه ردّا لهم عن هذا الطلب :﴿ إنما أنت نذير( ١٤ ).. ( ١٢ ) ﴾[ هود ] : وهذا الكلام موجّه من الله سبحانه للرسول صلى الله عليه وسلم ليلقّنه الحجة التي يرد بها عليهم، وقد قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه إنه نذير وبشير، وقد طلب غيركم الآيات، وحين جاءت الآيات التي طلبوها لم يؤمنوا، بل ظلّوا على تكذيبهم ؛ فنكّل الحق سبحانه بهم( ١٥ ).
إذن : فالعناد بالكفر لا ينقلب إلى إيمان بمجرد نزول الآيات، والحق سبحانه هو القائل :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون.. ( ٥٩ ) ﴾[ الإسراء ] : أي : أن الآيات التي طلبها الكافرون لم يأت بها الله سبحانه ؛ لأن الأولين قد كذّبوا بها ؛ ولذلك يبلغ الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم هنا بقوله :﴿ إنما أنت نذير.. ( ١٢ ) ﴾[ هود ] : وهو صلى الله عليه وسلم قد نزل عليه القرآن بالنذارة والبشارة( ١٦ ).
وينهي الحق سبحانه وتعالى الآية بقوله :﴿ .. والله على كل شيء وكيل( ١٢ ) ﴾[ هود ] : وأنت حين توكّل إنسانا في البيع والشراء والهبة والنّقل، وله حرية التصرف في كل ما يخصك، وترقب سلوكه، فإن أعجبك ظللت على تمسك بتوكيله عنك، وإن لم يعجبك تصرفه فأنت تلغي الوكالة، هذا في المجال البشري، أما وكالة الله سبحانه وتعالى على الخلق( ١٧ ) فهي باقية أبدا، وإن أبى الكافرون منهم.
١ وكيل: قائم به حافظ له [كلمات القرآن]. والوكيل: الحافظ الأمين والناصر المعين. قال تعالى:﴿.. وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل(١٧٣)﴾[آل عمران]. وقال تعالى:﴿.. قل لست عليكم بوكيل(٦٦)﴾[الأنعام] أي: حافظ..
٢ فحوى القول: مضمونه ومرماه الذي يتجه إليه القائل. والجمع: فحاو، وفحاوى.[المعجم الوسيط]..
٣ أكد رسول الله صلى عليه وسلم على هذا المعنى في أحاديث شريفة كثيرة جدا:
-منها حديث رافع بن خديج قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهم يأبرون النخل، يقولون يلقحون النخل، فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال لعلكم أو لم تفعلوا كان خيرا فتركوه، فنفضت. قال: فذكروا ذلك له، فقال:"إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر". أخرجه مسلم في صحيحه(٢٣٦٢) كتاب الفضائل.
-وعن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة:. أخرجه مسلم في صحيحه (٢٦٠٣)..

٤ النواميس: القوانين الإلهية التي يخضع لها الكون..
٥ الضيق (بكسر والفتح للضاد وسكون الباء) ضد السعة، في الماديات والمعنويات.
واسم فاعل ضائق، قال تعالى:﴿وضائق به صدرك..(١٢)﴾[هود] وقوله:﴿وضاق بهم ذرعا..(٧٧)﴾[هود]. أي: وجد ضيقا في صدره، ومنه:﴿ولقد نعلم أنك تضيق صدرك بما يقولون(٩٧)﴾[الحجر]، وقوله:﴿.. ولاتك في ضيق مما يمكرون(١٢٧)﴾[النحل] وقرئ بفتح الضاد وبكسرها. والمعنى: ولا يضيق صدرك بسبب مكرهم.(القاموس القويم باختصار)..

٦ المراد القريتين: مكة والطائف. وقد اختلف العلماء في تحديد اسم الرجل العظيم المقصود. فمن مكة: الوليد بن المغيرة أو عتبة بن ربيعة. ومن الطائف: عروة بن مسعود أو عمير بن عبد يا ليل. قال ابن كثير في تفسيره (٤/١٢٧):"الظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان"..
٧ ذلك أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا قال يوما وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا؟ فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة (الشرف) في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع. قال: يا بن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمر دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا... حتى إذا فرغ عتبة، قال له صلى الله عليه وسلم:"أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني. قال: أفعل، فقال:﴿حم(١) تنزيل من الرحمن الرحيم(٢) كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون(٣)﴾[فصلت]. ثم مضى صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه. فلما عاد إلى قومه قال لهم: خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.[من سيرة النبي لابن هشام ١/٢٩٤، ٢٩٣-بتصرف]..
٨ كنز المال يكنزه كنزا: جمعه وادخره. قال تعالى:﴿.. هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون(٣٥)﴾[التوبة] وقال تعالى:﴿.. والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم(٣٤)﴾[التوبة] والضمير راجع إلى الفضة لقربها في الذكر، ولأنها أقل قيمة، فمن يبخل بها يبخل بالذهب من باب أولى.[القاموس القويم]..
٩ الرزق المباشر ما تقتضي به الحوائج بسيولة الاستمرار، والغير مباشر تقتضي به الحوائج بصعوبة الحاجة والضرورة..
١٠ قناطير: جمع قنطار، وهو معيار مختلف المقدار عند الناس، وهو بمصر في زماننا مائة رطل، وهو ٤٤، ٩٢٨ من الكيلو جرمات. وقد يقصد بالقنطار: المال الكثير.[المعجم الوسيط]..
١١ قال القرطبي في تفسيره (٤/٣٠٥١):"اختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أم لا، فقال قوم: نعم. ورواه أبو الضحى عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه، قال على: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته، ولا يصح.
وقال ابن عمر: ما أدى زكاته بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض. ومثله عن جابر، وهو الصحيح"..

١٢ قصد في أمره يقصد كضرب قصدا: اعتدل فيه وسلك مسلكا وسطا، مثل قوله تعالى:﴿واقصد في مشيك..(١٩)﴾[لقمان] أي: اعتدل وتوسط فيه وقال:﴿فمنهم مقتصد..(٣٢)﴾[لقمان] أي: معتدل غير منحرف يقول الحق:﴿.. منهم امة مقتصدة(٦٦)﴾[المائدة] والاقتصاد الآن أصبح علما له مناهجه، وهو فن إدارة المال، ولا يخرج التعريف الحديث عن ما ذهبت إليه اللغة، وأشار إليه القرآن الكريم (القاموس القويم بزيادة اقتضاها المقام)..
١٣ لولا: حرف شرط لا يعمل، ويدل على امتناع الجواب لوجود الشرط. وقد تستعمل كأداة عرض وتخصيص مثل (هلا) فتخص بالدخول على الفعل المضارع في مثل قوله تعالى:﴿.. لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون(٤٦)﴾[النمل] وتدخل على الفعل الماضي الذي في تأويل المضارع مثل قوله تعالى:﴿لولا أنزل عليه كنز..(١٢)﴾[هود] أي: لولا ينزل عليه كنز. وقوله تعالى:﴿لولا أخرتني إلى أجل قريب..(١٠)﴾[المنافقون] أي: لولا تؤخرني.[القاموس القويم] بتصرف..
١٤ النذير: الرسول المنذر بالعذاب. قال تعالى:﴿أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم..(٦٣)﴾[الأعراف]..
١٥ وفي هذا يقول سبحانه:﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون(١٠٩) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون(١١٠)﴾[الأنعام]..
١٦ يقول رب العزة سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم:﴿إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا..(١١٩)﴾[البقرة]..
١٧ الوكيل: الحافظ الأمين والناصر والمعين. قال تعالى:﴿.. وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل(١٧٣)﴾[آل عمران]، فوكالة الله على خلقه أي: رعايتهم بالرزق والحفظ والنصرة..
يقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ أم يقولون افتراه( ١ ) قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين( ١٣ ) ﴾ :
وفي قول الحق سبحانه وتعالى هنا بيان للون آخر من مصادمة الكافرين لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم والإيمان به، فقالوا : إن محمدا قد افترى القرآن.
الافتراء : هو الكذب المتعمّد، ومعنى الكذب المتعمد أنه كلام يخالف واقعا في الكون.
فإذا كان الواقع نفيا وأنت قلت قضية إثبات ؛ تكون قد خالفت الواقع، كأن يوجد في الكون شرّ ما ثم تقول أنت : لا يوجد شرّ في هذا المكان، وهكذا يكون الواقع إيجادا والكلام نفيا.
وكذلك أن يكون في الواقع نفي وفي الكلام إيجاب، فهذا أيضا كذب ؛ لأن الصدق هو أن تتوافق القضية الكلامية مع الواقع الكوني، فإن اختلفت مع الواقع الكوني صار الكلام كذبا.
والكذب نوعان : نوع متعمد، ونوع غير متعمد. والكذب خرق واقع واختلاق غير موجود. ويقال : خرقت الشيء أي : أنك أتيت لواقع وبدّلت فيه.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ وخرقوا( ٢ ) له بنين وبنات بغير علم.. ( ١٠٠ ) ﴾[ الأنعام ]، ﴿ وتخلقون إفكا( ٣ ).. ( ١٧ ) ﴾[ العنكبوت ] : أي : تأتون بشيء من عدم، وهو من عندكم فقط.
ويقول الله سبحانه تعالى :﴿ .. وإن هم إلا يخرصون( ٤ )( ١١٦ ) ﴾[ الأنعام ].
وحين اتهموا محمدا صلى الله عليه وسلم بهتانا بأنه افترى القرآن جاء الرد من القرآن الكريم بمنتهى البساطة، فانتم-معشر العرب-أهل فصاحة وبلاغة، وقد جاء القرآن الكريم من جنس ونوع نبوغكم، وما دمتم قد قلتم : إن محمدا قد افترى القرآن، وأن آيات القرآن ليست من عند الله، فلماذا لا تفترون مثله ؟
وما دام الافتراء سهلا بالنسبة لكم، فلماذا لا تأتون بمثل القرآن ولو بعشر سور منه ؟ وأنتم قد عشتم مع محمد منذ صغره، ولم يكن له شعر، ولا نثر، ولا خطابة، ولا علاقة له برياضاتكم اللغوية، ولم يزاول الشعر أو الخطابة، ولم يشترك في أسواق البلاغة والشعر التي كانت تعقد في الجاهلية مثل سوق عكاظ.
وإذا كان من لا رياضة له على الكلام ولا على البلاغة، قد جاء بهذا القرآن ؛ فليكن لديكم-وأنتم أهل قدرة ودربة ورياضة على البلاغة أن تأتوا ببعض من مثله، وإن كان قد افترى القرآن فلماذا لا تفترون مثله ؟
وأنتم تعرفون المعارضات التي تقام في أسواق البلاغة عندكم، حين يقول شاعر قصيدة، فيدخل معه شاعر آخر في مباراة ليلقي قصيدة أفضل من قصيدة الشاعر الأول، ثم تعقد لجان تحكيم تبيّن مظاهر الحسن ومظاهر السوء في أي قصيدة.
ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن-كما تقولون-فأين أنتم ؟ ألم تعرفوه منذ طفولته ؟ ولذلك يأمر الحق سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول :﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت( ٥ ) فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون( ١٦ ) ﴾[ يونس ].
فهل أثر عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال شعرا أو ألقى خطبة أو تبارى( ٦ ) في عكاظ( ٧ ) أو المربد أو ذي المجاز( ٨ ) أو المجنّة( ٩ )، وتلك هي أسوق البلاغة ومهرجاناتها في تلك الأيام ؟
هو لم يذهب إلى تلك الأماكن منافسا أو قائلا.
إذن : أفليس الذين تنافسوا هناك أقدر منه على الافتراء ؟ ألم يكن امرؤ القيس شاعرا فحلا ؟ لقد كان، وكان له نظير يعارضه.
وكذلك كان عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلّزة اليشكرى، كما جاء في عصور تالية آخرون مثل : جرير والفرزدق.
إذن : فأنتم تعرفون من يقولون الشعر ومن يعارضونهم من أمثالهم من الشعراء.
إذن : فهاتوا من يفترى مثل سور القرآن، فإن لم تفتروا، فمعنى ذلك أن القرآن ليس افتراء.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا :﴿ أو يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات.. ( ١٣ ) ﴾[ هود ] : فهل كانوا قادرين على قبول التحدي، بأن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن الكريم في البيان الآسر( ١٠ ) وقوة الفصاحة وأسرار المعاني ؟
لقد تحدّاهم بأن يأتوا-أولا-بمثل القرآن( ١١ )، فلم يستطيعوا، ثم تحدّاهم بأن يأتوا بعشر سور، فلم يستطيعوا، وتحداهم بأن يأتوا بسورة( ١٢ )، ثم تحدى أن يلتوا ولو بحديث مثله، فلم يستطيعوا.
وهنا جاء الحق سبحانه بالمرحلة الثانية من التحدي، وهو أن يأتوا بعشر سور، ولم يكتف الحق سبحانه بذلك، بل طالبهم أن يدعوا مجمعا من البلغاء، فقال سبحانه :﴿ وادعوا من استطعتم من دون الله.. ( ١٣ ) ﴾[ هود ] : أي : هاتوا كلّ شركائكم وكل البلغاء، من دون الله تعالى.
الحق سبحانه وتعالى هنا يقطع عليهم فرصة الادّعاء عليه سبحانه حتى لا يقولوا : سوف ندعو الله ؛ ولذلك طالبهم الحق سبحانه أن يجنّبوه ﴿ وادعوا من استطعتم من دون الله عن كنتم صادقين( ١٣ ) ﴾[ هود ] : أي : إن كنتم صادقين في أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن( ١٣ )، وبما أنكم أهل ريادة في الفصاحة فلتفتروا عشر سور من مثل القرآن، أنتم ومن تستطيعون دعوتهم من الشركاء.
لذلك كان الرد الحكيم من الله في قول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون( ١٤ ) ﴾ :
١ الافتراء: اختلاق الكذب.﴿أم يقولون افتراه..(١٣)﴾بهود] أي: اخترع القرآن واختلقه من عند نفسه، وقال تعالى:﴿قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات..(١٣)﴾[هود] أي: مكذوبات كما تدعون.[القاموس القويم]..
٢ خرق الأمر أو الكلام: كذبه واخترعه. قال تعالى:﴿وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم..(١٠٠)﴾[الأنعام] أي: نسبوا له بنين وبنات كذبا واختراعا بغير علم.[المعجم الوسيط]..
٣ الإفك: الكذب والافتراء الباطل. وقال تعالى:﴿.. وذلك إفكهم وما كانوا يفترون(٢٨)﴾[الأحقاف]. وقال تعالى:﴿إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم..(١١)﴾[النور]..
٤ يخرصون: يكذبون. ويستعمل الخرص في القرآن بمعنى الكذب أو الظن الخاطئ. قال تعالى:﴿.. وإن هم إلا يخرصون(١١٦)﴾[الأنعام] أي: يكذبون أو يخمنون ويظنون ولا يعلمون حقيقة الأمر على سبيل اليقين.[القاموس القويم-١/١٩١]..
٥ لبث: أقام واستقر. وقال تعالى عن يونس عليه السلام:﴿فلولا أنه كان من المسبحين(١٤٣) للبث في بططنه إلى يوم يبعثون(١٤٤)﴾[الصافات]. وقال سبحانه عن نوح عليه السلام:﴿فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما..(١٤)﴾[العنكبوت]. وقال تعالى:﴿.. فلبث سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى(٤٠)﴾[طه]..
٦ التباري: التنافس والتسابق..
٧ سوق عكاظ: سوق بقرب مكة، كان العرب يجتمعون بها كل سنة، فيقيمون شهرا يبتاعون ويتفاخرون ويتناشدون، وسميت عكاظا بهذا، ويقال: تعاكظ القوم: تعاركوا وتفاخروا[انظر لسان العرب-مادة عكظ]..
٨ ذو المجاز: موضع بمنى-وقيل عند عرفات-كان يقام فيه سوق في الجاهلية.[اللسان مادة: جوز]..
٩ المجنة: موضع على بعد أميال من مكة، كان بها سوق من أسواق العرب..
١٠ الآسر: الذي يأخذ بألباب الناس وعقولهم..
١١ وذلك في قول الله سبحانه:﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا(٨٨)﴾[الإسراء] أي: معينا..
١٢ يقول رب العزة سبحانه:﴿وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله..(٢٣)﴾[البقرة]. ويقول سبحانه:﴿أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين(٣٨)﴾[يونس]..
١٣ القرآن: يطلق على كتاب الله المعجز، المكتوب في المصاحف، الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلق مجازا مرسلا علاقته الجزئية على الصلاة، كقوله تعالى:﴿وقرأن الفجر..(٧٨)﴾[الإسراء] أي: صلاة الفجر (القاموس القويم باختصار)..
والخطاب هنا موجّه إلى الذين ادعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن، أو أن الخطاب موجّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال في الآية السابقة :﴿ قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات( ١ ) وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين( ١٣ ) فأن لم يستجيبوا لكم.. ( ١٤ ) ﴾[ هود ]أي : إن لم يردّوا على التحدي، فليعلموا وليتيقّنوا أن هذا القرآن هو من عند الله تعالى، بشهادة الخصوم منهم( ٢ ).
ولماذا عدل الحق سبحانه هنا الخطاب، ويقال :﴿ فإن لم يستجيبوا لكم( ٣ ).. ( ١٤ ) ﴾[ هود ] : أي : من تدعونهم، ثم قال سبحانه :﴿ فاعلموا أنما أنزل بعلم الله.. ( ١٤ ) ﴾[ هود ] : وقد قال الحق سبحانه ذلك ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مطالب بالبلاغ وما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين مطلوب منه أن يبلغوه، وإن لم يستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم أو للمؤمنين، ولم يأت أحد مع من يتهم القرآن بأنه مفترى من محمد.
وقد يكون هؤلاء الموهوبون خائفين من التحدي ؛ لأنهم عرفوا أن القرآن حق، وإن جاءوا ليفتروا مثله فلن يستطيعوا، ولذلك فاعلموا-يا من لا تؤمنون بالقرآن-أن القرآن :﴿ أنما أنزل بعلم الله.. ( ١٤ ) ﴾[ هود ] : إذن : فالخطاب يكون-مرّة-موجّها للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته.
ولذلك عدل الحق سبحانه عن ضمير الإفراد إلى ضمير الجمع في قوله تعالى :
﴿ فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله.. ( ١٤ ) ﴾[ هود ] : أي : ازدادوا علما أيها المؤمنون بأن القرآن أنما نزل من عند الله.
والعلم-كما نعلم-مراحل ثلاث : علم يقين، وعين يقين، وحق يقين( ٤ ).
أو أن الخطاب موجّه للكافرين الذين طلب القرآن منهم أن يدعوا من يستطيعون دعاءه ليعاونهم في معارضة القرآن :﴿ فاعلموا أنما أنزل بعلم الله.. ( ١٤ ) ﴾[ هود ].
وأعلى مراتب العلم عند الحق سبحانه الذي يعلم كل العلم أزلا، وهو غير علمنا نحن، الذي يتغير حسب ما يتيح لنا الله سبحانه أن نعلم، فأنت قد تكون عالما بشيء وتجهل أشياء، أو علمت شيئا وغابت عنك أشياء.
ولذلك تجد الأطباء، وأصحاب الصناعات الدقيقة وغيرهم من الباحثين والعلماء يستدرك بعضهم البعض، فحين يذهب مريض لطبيب مثلا ويصف له دواء لا يستجيب له، فيذهب المريض إلى طبيب آخر، فيستدرك على الطبيب الأول، فيصف دواء، وقد لا يستجيب له المريض مرة ثانية، وهنا يجتمع الأطباء على هيئة " مجمع طبي " يقرر ما يصلح أولا يصلح للمريض.
ويستدرك كلّ منهم على الآخر إلى أن يصلوا إلى قرار، والذي يستدرك هو الأعلم ؛ لن الطبيب الأول كتب الدواء الذي أرهق المريض أو لم يستجب له، وهو قدحكم بما عنده مكن علم، كذلك بقية الباحثين والعلماء.
وما دام فوق كل ذي علم عليم ؛ فالطبيب الثاني يستدرك على الطبيب الأول.. وهكذا.
ولكن أيوجد أحد يستدرك على الله سبحانه وتعالى ؟ لا يوجد.
وما دام القرآن الكريم قد جاء بعلم الله تعالى، فلا علم لبشر يمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن :﴿ فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو.. ( ١٤ ) ﴾[ هود ] : وجاء الحق سبحانه هنا بأنه لا إله إلا هو ؛ حتى لا يدّعي أحد أن هناك إلها آخر غير الله.
وذكر الله سبحانه هنا أن هذا القرآن قد نزل في دائرة :﴿ لا إله إلا هو.. ( ١٤ ) ﴾[ هود ] : وما دام الحق سبحانه قد حكم بذلك فلنثق بهذا الحكم. مثال ذلك : هو حكم الحق سبحانه على أبي لهب( ٥ ) وعلى امرأته( ٦ ) بأنهما سيدخلان النار( ٧ ) فهل كان من الممكن أن يعلن أبو لهب إسلامه، ولو نفاقا ؟ طبعا لا ؛ لأن الذي خلقه علم كيف يتصرف أبو لهب.
لذلك نجد بعد سورة المسد( ٨ ) التي قررت دخول أبي لهب النار، قول الحق سبحانه :﴿ قل هو الله أحد( ١ ) ﴾[ الإخلاص ] : أي : أن الحق سبحانه ما دام قد أصدر حكمه بأن أبا لهب سيدخل وزوجه النار، فلن يقدر أحد على أن يغيّر من حكمه سبحانه، فلا إله إلا هو.
وينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى :﴿ .. فهل أنتم مسلمون( ١٤ ) ﴾[ هود ] :
وهذا استفهام، أي : طلب للفهم، ولكن ليس كل استفهام طلبا للفهم، فهذا الاستفهام هنا صادر عن إرادة حقيقية قادرة على فرض الإسلام على من يستفهم منهم.
ولكنه سبحانه شاء أن يأتي هذا الاستفهام على لسان رسوله ليقابله جواب، ولو لم يكن السائل واثقا أنه لا يوجد إلا الإسلام لما قالها، ولو لم يكن السائل واثقا أنه لا جواب إلا أن يسلم السامع، ما جعل جواب السامع حجة على السامع.
وقائل هذا الكلام هو الخالق سبحانه، ولله المثل الأعلى، وهو سبحانه منزّه عن كل مثل، تجد إنسانا يحكي لك أمرا بتفاصيله، ثم يسألك : هل أنا صادق فيما قلت لك ؟.. وهو يأتي بهذا الاستفهام ؛ لأنه واثق من أنك ستقول له : نعم، وأنت صادق.
وإذا نظرنا في آية تحريم الخمر والميسر-على سبيل المثال-نجد الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ إنما يريد الشيطان( ٩ ) أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون( ١٠ )( ٩١ ) ﴾[ المائدة ] :
وكان هذا الاستفهام يحمل صيغة الأمر بأن : انتهوا من الخمر والميسر، واخجلوا مما تفعلون.
إذن : فقول الحق سبحانه في آخر الآية الكريمة :﴿ .. فهل أنتم مسلمون( ١٤ ) ﴾ : يعني : أسلموا، واتركوا اللجاجة( ١١ ) بأن القرآن قد جاء من عند محمد، أو أنه افتراه، بل هو من عند الله سبحانه الذي لا إله إلا هو.
١ مفتريات: مختلقات مكذوبات كما تدعون..
٢ وعن القرآن قال عتبة بن ربيعة لقومه بعد حوار طويل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لإثنائه عن المضي في دعوته:"خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم"[سيرة ابن هشام ١/٢٩٤]..
٣ قال تعالى:﴿فإن لم يستجيبوا لكم..(١٤)﴾[هود] ولم يقل: لك. قيل: هو على تحويل المخاطبة من الإفراد إلى الجمع تعظيما وتفخيما، وقد يخاطب الرئيس بما يخاطب به الجماعة.
وقيل: الضمير في "لكم" وفي"فاعلموا" في "لكم"، وفي "فاعلموا" للمشركين، والمعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المعاونة، ولا تهيأت لكم المعارضة:﴿فاعلموا أنما أنزل بعلم الله..(١٤)﴾[هود].[قاله القرطبي في تفسيره: ٤/٣٣٣١]..

٤ هذا التقسيم ذهب إليه أهل الحقيقة والمعارف من وحي التريض العلمي والروحي والمشهدي..
٥ أبو لهب هو أحد أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب، وكنيته أبو عتبة سمي أبا لهب لشدة احمرار وجهه كأنه اللهب..
٦ كانت امرأته من سادات نساء قريش، وهي أم جميل، واسمها أوى بنت حرب بن أمية، وهي أخت أبي سفيان، وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده..
٧ وذلك في قول الله عز وجل عن أبي لهب وامرأته في سورة المسد:﴿سيصلى نارا ذات لهب(٣) وامرأته حمالة الحطب(٤)﴾[المسد]
وسبب نزول هذه السورة كما أخرج البخاري في صحيحه(٤٩٧١): عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء، فصعد الجبل، فنادى "يا صباحاه" فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا: نعم. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهي: ألهذا جمعتنا؟ تبا لك. فأنزل الله:﴿تبت يدا أبي لهب وتب(١)﴾[المسد] إلى آخرها..

٨ لأن مسد الحبل [كنصر] مسدا: أجاد فتله. والمسد الليف قال تعالى:﴿في جيدها حبل من مسد(٥)﴾[المسد أ]: من ليف خشن."القاموس القويم"..
٩ الشيطان كل عاد متمرد من الإنس أو الجن، والشيطان من الجن مخلوق خبيث خلق من الناس، وهو عدو للإنسان يغريه بالشر، إلا من حفظه الله بالإيمان. يقول الحق:﴿وحفظناها من كل شيطان رجيم(١٧)﴾[الحجر]، وكذلك كل من التجأ إلى الله، فالله حافظه من كيد الشيطان.[القاموس القويم-بتصرف]..
١٠ لأن أخرج ابن جرير في تفسيره عن أبي بريدة عن أبيه قال: بينا نحن قعود على شراب لنا، ونحن على رملة، ونحن على ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطية لنا، ونحن نشرب الخمر حلا، إذ قمت حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، إذ نزل تحريم الخمر:﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون(٩٠) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون(٩١)﴾[المائدة] فجئت إلى أصحابي فقرات عليهم إلى قوله:(هل أنتم منتهون) قال: وبعض القوم شربته في يده، قد ضرب بعضها، وبقي بعض في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام، ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا: انتهينا ربنا. ذكره ابن كثير في تفسيره (٢/٩٥)..
١١ اللجاجة: اختلاط الأصوات وارتفاعها. والمقصود التشويش على القرآن بادعاءات باطلة..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون( ١ )( ١٥ ) ﴾ :
وكان الكافرون( ٢ ) قد تكلموا بما أورده الحق سبحانه على ألسنتهم وقالوا :
﴿ لولا أنزل عليه كنز.. ( ١٢ ) ﴾[ هود ] : فهم-إذن-مشغولون بنعيم الدنيا وزينتها.
والحياة تتطلب المقومات الطبيعية للوجود، من ستر عورة، وأكل لقمة وبيت يقي الإنسان ويؤويه. أما الزينة فأمرها مختلف، فبدلا من أن يرتدي الإنسان ما يستر العورة، يطلب لنفسيه الصوف الناعم شتاء، والحرير الأملس صيفا، وبدلا من أن يطلب حجرة متواضعة تقيه من البرد أو الحر، يطلب لنفسه قصرا.
وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة( ٣ ) من الذهب والفضة والخيل المسومة( ٤ ) والأنعام والحرث( ٥ ).. ( ١٤ ) ﴾[ آل عمران ] : وكل هذه أشياء تدخل في متاع الحياة الدنيا، ويقول الحق سبحانه :﴿ .. ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب( ٦ )( ١٤ ) ﴾[ آل عمران ] : إذن : ما معنى كلمة " زينة " ؟
معنى كلمة " زينة " أنها حسن أو تحسين طارئ على الذات، وهناك فرق بين الحسن الذاتي والحسن الطارئ من الغير.
والمرأة-على سبيل المثال-حين تتزين فهي تلبس الثياب الجميلة الملفتة، وتتحلّى بالذهب البرّاق، فهو المعدن الذي يأخذ نفاسته( ٧ ) من كثرة تلألئه الذي يخطف الأبصار، ولا تفعل ذلك بمغالاة إلا التي تشك في جمالها.
أما المرأة الجميلة بطبيعتها، فهي ترفض أن تتزين ؛ ولذلك يسمونها في اللغة :" الغانية " ( ٨ )، أي : التي استغنت بجمالها الطبيعي عن الزينة، ولا تحتاج إلى مداراة كبر أذنيها بقرط( ٩ ) ضخم، ولا تحتاج على مداراة رقبتها بعقد ضخم، ولا تحاول أن تداري معصمها الريان بسوار( ١٠ )، وترفض أن تخفي جمال أصابعها بالخواتم. وحين تبالغ المرأة في ذلك التزين فهي تعطي الانطباع المقابل.
وقد يكون المثل الذي أضربه الآن بعيدا عن هذا المجال، لكنه يوضح كيف يعطي الشيء المبالغ فيه المقابل له.
وفي ذلك يقول المتنبي( ١١ ) :
الطّيب أنت إذا أصابك طيبه**** والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
وهو هنا يقول : إن الطيب إذا ما أصاب ذلك الإنسان الموصوف، فالطيب هو الذي يتطيّب، كما أن الماء هو الذي يغسل إذا ما لمس هذا الإنسان، وكذلك تأبى المرأة الجميلة أن تزيّن نحرها( ١٢ ) بقلادة( ١٣ ) ؛ لأن نحرها بدون قلادة يكون أكثر جمالا. ويقال عن مثل هذه المرأة " غانية " ؛ لأنها استغنت بجمالها.
ويقال عن جمال نساء الحضر : إنه جمال مصنوع بمساحيق، وكأن تلك المساحيق مثبتة على الوجه بمعجون كمعجون دهانات الحوائط، وكان كل واحدة تفعل ذلك قد جاءت بسكين من سكاكين المعجون لتملأ الشقوق المجعدة في وجهها.
ولحظة أن يسيح هذا المعجون ترتبك، ويختل مشهد وجهها بخليط الألوان ؛ ولذلك يقال :
حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب، إذن : فالزينة هي تحسين الشيء بغيره، والشيء يستغنى عن الزينة.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون( ١٤ ) ( ١٥ ) ﴾[ هود ] : أي : إن كفرتم بالله فهو سبحانه لا يضن عليكم في أن يعطيكم مقومات الحياة زينتها ؛ لأنه رب، و هو الذي خلقكم واستدعاكم إلى الوجود، وقد ألزم الحق سبحانه نفسه أن يعطيكم ما تريدون من مقومات الحياة وزينتها ؛ لأنه سبحانه هو القادر على أن يوفّي بما وعد.
وهو سبحانه يقول هنا :﴿ نوف إليهم أعمالهم.. ( ١٥ ) ﴾[ هود ] : أي : أنهم إن أخذوا بالأسباب فالحق سبحانه يلزم نفسه بإعطاء الشيء كاملا غير منقوص.
وهم في هذه الدار الدنيا لا يبخسون في حقوقهم، فمن يتقن عمله يأخذ ثمرة عمله.
وهذا القول الكريم يحلّ لنا إشكالا كبيرا نعاني منه، فهناك من يقول : إن هؤلاء المسلمين الذين يقولون : لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويقيمون الصلاة، ويبنون المساجد، بينما قوم متخلفون ومتأخرون عن ركب الحضارة، بينما نجد الكافرين وهم يرفلون( ١٥ ) في نعيم الحضارة.
ونقول : إن لله تعالى عطاء ربوبية للأسباب، فمن أحسن الأسباب حتى لو كان كافرا، فالأسباب تعطيه، ولكن ليس له في الآخرة من نصيب ؛ لأن الحق سبحانه يقول :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا( ١٦ )( ٢٣ ) ﴾[ الفرقان ] : والحق سبحانه يجزي الكافر الذي يعطي خيرا للناس بخير في الدنيا ويجزي الصادق الذي لا يكذب من الكفار بصدق الآخرين معه في الدنيا، ويجزي من يمدّ يده بالمساعدة من الكفار بمساعدة له في الدنيا.
وكلها أعمال مطلوبة في الدّين، ولكنّ الكافر قد يفعلها، فيردّ الله سبحانه وتعالى له ما فعل في الدنيا، وإن كان قد فعل ذلك ليقال : إن فلانا عمل كذا، أو فلانا كان شهما في كذا، فيقال له :" عملت ليقال وقد قيل " ( ١٧ ).
وإذا كان الكافرون يأخذون بالأسباب ؛ فالحق سبحانه يعطيهم ثمرة ما أخذوا به من الأسباب.
ويجب أن نقول لمن يتهم المسلمين بالتخلّف : لقد كان المسلمون في أوائل عهدهم متقدمين، وكانوا سادة حين طبّقوا دينهم، ظاهرا وباطنا، شكلا ومضمونا.
وعلى ذلك فالتخلف ليس لازما ولا ملازما للإسلام، وإنما جاء التخلّف لأننا تركنا روح الإسلام وتطبيقه.
وإن عقدنا مقارنة بين حال أوربا حينما كانت الكنيسة هي المسيطرة، كنا نجد كل صاحب نشاط عقلي مبدع ينال القتل عقوبة على الإبداع، وكانت تسمى تلك الأيام في أوربا " العصور المظلمة ".
وحينما جاءت الحروب الصليبية وعرفت أوربا قوة الإسلام والمسلمين، ودحرهم( ١٨ ) المسلمون، بدأوا في محاولة الخروج على سلطان البابا والكنسية، وعندما فعلوا ذلك تقدّموا.
هم-إذن-عندما تركوا سلطان البابا تقدموا، ونحن حين تركنا العمل بتعاليم الإسلام تخلّفنا. إذن : فأيّ الجرعتين خير ؟
إن واقع الحياة قد أثبت تقدّم المسلمين حين أخذوا بتعاليم الإسلام، وتخلفوا حين تركوها.
وهكذا.. فمعيار التقدّم هو الأخذ بالأسباب، فمن أخذ بالأسباب وهو مؤمن نال حسن خير الدنيا وحسن ثواب الآخرة، ومن لم يؤمن وأخذ بالأسباب نال خير الدنيا ولم ينل ثواب الآخرة.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب( ١٩ ) بقيعة( ٢٠ ) يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده.. ( ٣٩ ) ﴾[ النور ].
وهكذا يفاجأ بالإله الذي كذّب به.
والحق سبحانه يقول :﴿ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف( ٢١ ) لا يقدرون مما كسبوا على شيء.. ( ١٨ ) ﴾[ إبراهيم ] :
إذن : فمن أراد الدنيا وزينتها، فالحق الأعلى سبحانه يوفّيه حسابه ولا يبخسه من حقه شيئا، فحاتم الطائي-على سبيل المثال-أخذ صفة الكرم، وعنترة أخذ صفة الشجاعة، وكل إنسان أحسن عملا أخذ أجره، ولكن عطاء الآخرة هو لمن عمل عمله لوجه الله تعالى، وآمن به.
وحتى الذين دخلوا الإسلام نفاقا وحاربوا مع المسلمين، أخذوا نصيبهم من الغنائم، ولكن ليس لهم في الآخرة من نصيب.
إذن : فالوفاء يعني وجود عقد، وما دام هناك عقد بين العامل والعمل، وأتقن العامل العمل فلا بد أن يأخذ أجره دون بخس ؛ لأن البخس هو إنقاص الحق.
١ بخسه حقه: نقصه حقه ولم يوفه إياه، قال تعالى:﴿ولا تبخسوا الناس أشياءهم..(٨٥)﴾[الأعراف]. والثمن البخس: القليل الناقص عن مثله،﴿وشروه بثمن بخس..(٢٠)﴾[يوسف].
٢ اختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: نزلت في الكفار قاله الضحاك، واختاره النحاس، بدليل الآية التي بعدها:﴿أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار..(١٦)﴾[هود]، أي: من آتى منهم بصلة رحم أو صدقة فكافئه بها في الدنيا، بصحة الجسم، وكثرة الرزق. لكن لا حسنة له في الآخرة.
وقيل: المراد بالآية المؤمنون، أي: من أراد بعمله ثواب الدنيا عجل له الثواب ولم ينقص شيئا في الدنيا، وله في الآخرة العذاب لأنه جرد قصده للدنيا. وقيل: هو الأهل الرياء، وفي الخبر أنه يقال لأهل الرياء:"صمتم وصليتم وتصدقتم وجاهدتم وقرأتم ليقال ذلك فقد قيل ذلك" ثم قال:"إن هؤلاء أول من تسعر بهم النار".
وقيل: الآية عامة في كل من ينوي بعلمه غير الله تعالى، كان معه أصل إيمان أو لم يكن.[تفسير القرطبي ٤/٣٣٣١]..

٣ القناطير: جمع قنطار وهو معيار مختلف المقدار عند الناس، وهو بمصر في زماننا: مائة رطل، وهو ٤٤، ٩٢٨ من الكيلوجرامات، وقد يقصد بها المال الكثير-كما في الآية الكريمة. وقال تعالى:﴿ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك..(٧٥)﴾[آل عمران].
والقناطير المقنطرة: أي: المضاعفة، أو المحكمة المحصنة.[كلمات القرآن للشيخ حسنين مخلوف. والمعجم الوسيط]..

٤ الخيل المسومة: أي: المرسلة للرعي، أو المعلمة بعلامات.[القاموس القويم]..
٥ الأنعام: الإبل والبقر والضان والمعز.
والحرث: المزروعات.[كلمات القرآن]..

٦ المآب: المرجع. وحسن المآب: أي: المرجع الحسن.[كلمات القرآن]..
٧ نفس الشيء نفاسة: كان عظيم القيمة فهو نفيس. وقيل: منه التنافس، كل يريد أن يكون أنفس من غيره، أو يحرز ما هو أنفس وأعظم قيمة. قال تعالى:﴿.. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون(٢٦)﴾[المطففين] أي: فليتسابقوا لإحرازه لأنفسهم..
٨ الغانية من النساء: التي غنيت بالزوج. ووهي أيضا التي غنيت بحسنها وجمالها عن الحلي. وقيل: هي التي تطلب ولا تطلب. وقيل: الغانية الجارية الحسناء، ذات زوج كانت أو غير ذات زوج. سميت غانية لأنها غنيت بحسنها عن الزينة.[لسان العرب-مادة: غنى]..
٩ القرط: ما يعلق في شحمة الأذن من در أو ذهب أو فضة أو نحوها. والجمع: أقراط، وقروط..[المعجم الوسيط]..
١٠ السوار: حلية من الذهب مستديرة كالحلقة تلبس في المعصم. والجمع: أسورة، وأساور.[المعجم الوسيط]..
١١ هو: أحمد بن الحسين، شاعر حكيم، ولد بالكوفة في محلة تسمى "كندة" عام ٣٠٣هـ، نشأ بالشام، ادعى النبوة في بادية السماوية(بين الكوفة والشام). ولذلك سمي بالمتنبي، ثم رجع عن دعواه بعد أسره، توفي عام ٣٥٤ هـ عن ٥٢ عاما..
١٢ النحر: أعلى الصدر، وهو موضع القلادة..
١٣ القلادة: كل ما يوضع حول الرقبة من عقود وحلي وذهب وغيره، وسميت الأضاحي قلائد مجازا مرسلا علاقته الملازمة؛ لأن الذبائح كانت تعلم بقلادات في أعناقها. قال تعالى:﴿ولا الهدي ولا القلائد..(٢)﴾[المائدة]. أي الأضاحي ذوات القلائد..
١٤ البخس: الإنقاص. وبخسه بخسا: نقصه حقه ولم يوفه. قال تعالى:﴿ولا تبخسوا الناس أشياءهم..(٨٥)﴾[الأعراف] [القاموس القويم]..
١٥ رفل: جر ذيل ثوبه وتبختر في مشيه. ويرفلون في النعيم: أي: يعيشون في رفاهية فرحين بما لديهم من نعيم.[المعجم الوسيط] بتصرف..
١٦ الهباء المنثور: الغبار المتطاير في الجو. وقوله تعالى:﴿فجعلناه هباء منثورا..(٢٣)﴾[الفرقان] أي: كل عمل عملوه كالهباء المنثور، لا يعتد به، ولا قيمة له.[القاموس القويم]..
١٧ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لن يقال: جريء، فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به، فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت القرآن وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت. ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار.
ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد. فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقى في النار.[أخرجه مسلم في صحيحه (١٩٠٥) كتاب الإمارة]..

١٨ دحره يدحره دحرا ودحورا: دفعه وطرده وأبعده مهانا. ودحره في الحرب: هزمه. قال تعالى:﴿.. ويقذفون من كل جانب(٨) دحورا ولهم عذاب واصب(٩)﴾[الصافات][القاموس القويم]..
١٩ السراب: ما تراه في نصف النهار في الأرض الفضاء كأنه ماء وليس بماء. ويقول الله تعالى:﴿وسيرت الجبال فكانت سرابا(٢٠)﴾[النبأ] أي: صارت لا حقيقة لها، أي: تشبه السراب في أنها لا حقيقة لها، أو كالأرض المسطوحة التي يظهر فيها السراب.[القاموس القويم]..
٢٠ القاع والقيعة: ما استوى من الأرض وانخفض عما يحيط به من الجبال والأكمات. قال تعالى:﴿ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا(١٠٥) فيذرها قاعا صفصفا(١٠٦) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا(١٠٧)﴾[طه]
قاعا صفصفا: مكانا منخفضا مستويا معتدلا، لا ارتفاع فيه ولا اعوجاج. وقوله تعالى:﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة..(٣٩)﴾[النور]أي: بمكان منخفض مستو مما يظهر فيه السراب عادة.[القاموس القويم]..

٢١ عصفت الريح، تعصف عصفا وعصوفا: اشتد هبوبها، والريح عاصف وعاصفة فهي تذكر وتؤنث، والريح العاصفة أحيانا تدمر كل شيء تمر عليه. قال تعالى:﴿ولسليمان الريح عاصفة..(٨١)﴾ [الأنبياء] وقال تعالى:﴿جاءتها ريح عاصف..(٢٢)﴾[يونس] وقال تعالى:﴿فالعاصفات عصفا(٢)﴾[المرسلات] هي الرياح الشديدة. بالقاموس القويم]..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط( ١ ) ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون( ١٦ ) ﴾ :
إذن : فالنار مثوى هؤلاء الذين عملوا من أجل الدنيا دون إيمان بالله، فقد أخذوا حسابهم في الدنيا، أما عملهم فقد حبط في الآخرة، والحبط هو انتفاخ الماشية حين تأكل شيئا أخضر لم ينضج بعد، ويقال في الريف عن ذلك :" انتفخت البهيمة " أي : أن هناك غازات في بطنها، وقد يظنها الجاهل سمنة، لكن هذا الانتفاخ يزول بزوال سببه.
وعمل الكافرون إنما يحبط في الآخرة ؛ لأنه باطل.
١ حبط العمل: بطل ولم يحقق ثمرته. وقال تعالى:﴿ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله..(٥)﴾[المائدة]، وأحبط الله عمله: أبطله وضيقه هباء. قال تعالى:﴿.. فأحبط أعمالهم(٩)﴾[محمد][القاموس القويم]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :﴿ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية( ١ ) منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون( ١٧ ) ﴾ :
والبينة( ٢ ) هي بصيرة الفطرة السليمة التي تلفت الإنسان إلى وجود واجب الوجود، وتوضّح للإنسان أن هذا الكون الجميل البديع لابدّ له من واجد. وهكذا تكون الهداية بالبصيرة والفطرة.
والعربي القديم حين سار في الصحراء ووجد بعرا ملقى في الصحراء، ورأى أثر قدم، فقال : " البعرة( ٣ ) تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، وسماء ذات أبراج( ٤ ) وأرض ذات فجاج( ٥ ) وبحار ذات أمواج، أفلا يدل كلّ ذلك على اللطيف الخبير ؟ " ( ٦ ). وهكذا اهتدى الرجل بالفطرة، وهي بيّنة من الله.
وقد أودع الله سبحانه في كل إنسان فطرة، وبهذه الفطرة( ٧ ) شهدنا في عالم الذّرّ.
وفي ذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا.. ( ١٧٢ ) ﴾[ الأعراف ] : إذن : فالبيّنة هي إيمان الفطرة المركوز في ذرات الأشياء.
وقد تضبب( ٨ ) الشهوات هذا الإيمان، فلا يحمل نفسه على المنهج فيرسل الحق سبحانه رحمة منه رسلا تذكّرنا بالبينات الأولى، وتدلنا على العلل والأحكام حتى تنضمّ البينة من الرسل على البينة من الفطرية في الكائن.
وهكذا يبيّن الحق سبحانه وتعالى مناط( ٩ ) الاقتناع بدين الله، فقد يكون هذا الأمر مجهولا للخلق، فيريد سبحانه أن يبين لنا أن هذا الجهل هو جهل غير طبيعي ؛ لأن الفطرة السليمة تهتدي قبل أن يجيء رسول يلفتنا إلى القوة العليا التي تدبّر حركة هذا الكون.
وقد ضربت من قبل مثلا لذلك بمن سقطت به طائرة في الصحراء، لا ماء فيها ولا طعام ولا أنيس ولا مأوى، ثم غلبه النوم فنام، وحين استيقظ وجد مائدة منصوبة عليها أطايب الطعام وأطيب الشراب، ووجد صوانا( ١٠ ) منصوبا ليأوي إليه ؛ فلا بد لهذا الإنسان أن يدور بفكره سؤال : من صنع هذا ؟
وهو سيسأل نفسه هذا السؤال قبل أن يستمتع بشيء من هذا، خصوصا وأنه لم يجد أحدا يقول له : أنت في ضيافتي. إذن : فلا بد أن يفكر بعقله.
وكذلك الإنسان الذي طرأ على الوجود، ومنا ادّعى واحد من خلق الله تعالى أنه خلق هذا الوجود، وما ادّعى احد أنه خلق السماوات والأرض، وما ادّعى أحد أنه سخّر كلّ ما في الكون لخدمة الإنسان( ١١ ).
وكان من الواجب على الإنسان قبل أن ينعم بهذا، أن يفكر : ومن الذي صنع له كل ذلك ؟ فإذا جاء رسول من جنس الإنسان ليقول له : أنا جئت لحل لك اللغز المطلوب لك.
هنا كان على الإنسان أن يرهف سمعه لذلك الرسول ؛ لأنه قد جاء ليحلّ للإنسان أمرا يشغل باله.
ومن لطف الله سبحانه بنا أنه لم يطلب منا مقدّما أن نفكر في ذلك، بل تركنا فترة طويلة بلا تكليف في هذه الدنيا، لينعم الإنسان بخير ربه، وبعد ذلك إذا ما جاء اكتمال الرشد ونضج، ولم يكن مكرها ؛ فالحق سبحانه وتعالى يكلفه بتكاليف الإيمان.
ولا بد للإنسان أن يتساءل : فكل شيء-مهما كان تافها-لابد له من صانع، والمصباح الذي يضيء دائرة قطرها ٢٠ مترا، عرفنا صانعه، ودرسنا المعامل التي أنجزته، والإمكانات التي تم استخدامها، المواد التي صنع منها، أفلا نعرف تاريخ هذه الشمس، ومن جعلها لا تحتاج إلى صيانة ولا إلى وقد ولا إلى قطع غيار، وتنير نصف الكرة الأرضية ؟
هذه مسالة كان يجب أن نبحثها ؛ لنرى آفاق تلك البينة، بينة نور وقوة وفطرة، يهبها الله للإنسان المفكر ؛ ليهتدي إلى أن وراء هذا الكون خالقا مدبرا.
فإذا ما جاء الإنسان مثله ليقول له : إن خالق الدنيا هو الله تعالى، وهو سبحانه يطلب منك كذا وكذا، كان أمرا منطقيا وطبيعيا أن نسمع لهذا الإنسان ونطابق ما يقول على إحساس الفطرة ورؤية البينات.
إذن : فنحن نصل إلى المجهول أولا بالفطرة، وقد نصل بالبديهة التي لا تشوبها( ١٢ ) أدنى شبهة، فأنت حين ترى دخانا تعتقد بالبديهة أن هناك نارا، وحين تسير في الصحراء وترى خضرة ؛ ألا تعتقد أن هناك مياها ترويها ؟
هذه-إذن- أمور تعرفها بالبديهة، ولا تحتاج إلى بحث أو جهد.
وهناك أمور قد تتطلب منك جهدا عقليا تبحث به عما بعد المقدمات، مثل الجهد العقلي الذي استدل به العربي على أن هناك إلها خالقا يدير هذا الكون، فستدل من البعرة على وجود البعير( ١٣ )، وأن أثر القدم يدل على المسير، واستنتج من ذلك أن الكواكب ذات الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والبحار ذات الأمواج، كلها أمور تدل على وجود اللطيف الخبير.
كل هذه الأمور لم يقدر العقل إلا على الحكم عليها جملة، وإن لم يعرف التفصيل.
لقد عرف العقل أن وراء هذا الكون خالقا، صانعا، حكيما، لكنه لم يعرف اسما له، وهذا أمر لا يعرفه الإنسان بالعقل، ولا يعرف أيضا ما هو المنهج المطلوب لهذا الخالق، وبماذا يجزي المطيع له، ولا بماذا يعاقب العاصي له.
إذن : لا بد من بلاغ عن الله تعالى يدل على القوة التي اقتنعت بها جملة.
والمفكرون بالعقل في الكون يعلمون أن وراء هذا الكون خالقا، لكن لا يعرفون اسمه، ولا مطلوبه.
إذن : فأنت لا تعرف اسم الله إلا منه، عن طريق الوحي إلى رسوله، ولا تعرف مطلوب الله إلا من الرسول الذي أنزل عليه البلاغ.
ومن رحمة الله بالإنسان أنه سبحانه قد أرسل رسولا، ومع هذا الرسول معجزة هي القرآن ؛ لأن العقل حتى يهتدي إلى قوة القادر الأعلى سبحانه، فإنها ستظل بالنسبة له مبهمة، وحين أنزل الحق سبحانه القرآن الكريم فقد أنزله رحمة بعباده وبينة لهم.
﴿ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد( ١٤ ) منه.. ( ١٧ ) ﴾[ هود ] : فالقرآن حجة ونور، وهو يهدي البصيرة الفطرية الموجودة في الإنسان ﴿ ويتلوه شاهد منه.. ( ١٧ ) ﴾، وهو من أنزل عليه الوحي، ويخبرنا عن الحق سبحانه وتعالى ما يوضح لنا أن الخالق الأعلى والقوة المطلقة هو الله سبحانه، ويوضح لنا الشاهد مطلوب الله تعالى. ونحن هنا أمام ثلاثة شهود :
الشاهد الأول : هو الحجة والبينة.
والشاهد الثاني : هو البرهان والبصيرة التي يهتدي إليها العقل، والرسول هو من يبين لنا المنهج بعد الإجمال.
وهذا الرسول جاء من قبله كتاب موسى :﴿ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة.. ( ١٧ ) ﴾[ هود ] : وهذا هو الشاهد الثالث.
ومن لا يلتفت إلى المدلول بالأدلة الثلاثة مقصّر ؛ فمن عنده تلك البينة، ومن سمع الشاهد من الرسول، والشاهد الذي قلبه، وهو كتاب موسى عليه السلام وشاهد( ١٥ ) بعده إلى نفس قوم موسى لابد أن يقوده ذلك إلى الإيمان.
وقول الحق سبحانه :﴿ أولئك يؤمنون به.. ( ١٧ ) ﴾[ هود ] : إشارة إلى من التفتوا على الأدلة : بينة، وشاهدا، وشاهدا من قبله.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ ومن يكفر به من الأحزاب( ١٦ ) فالنار موعده.. ( ١٧ ) ﴾ ]هود ] : والكفر-كما علمنا-هو الستر، والكفر في ذاته دليل على الإيمان، فلا يكفر أحد بغير موجود.
فوجود المكفور به سابق على الكفر، والكفر طارئ عليه. إذن : فالكفر طارئ على الإيمان ؛ لأن الإيمان هو أصل الفطرة.
﴿ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار( ١٧ ) موعده.. ( ١٧ ) ﴾[ هود ] : وكلمة " أحزاب " جمع حزب. والحزب هو الجماعة الملتقية على مبدأ تتحمس لتنفيذه، مثل الأحزاب التي نراها في الحياة السياسية، وهي أحزاب بشرية تتصارع في المناهج والغايات، وهم أحرار في ذلك ؛ لأنهم يتصارعون بفكر البشر.
أما في العقيدة الأولى، فمن المخطط الأعلى، وهو الحق سبحانه وتعالى، فالمنهج يأتي منه ؛ لأن هذا المنهج يوصل إليه ؛ لذلك قال الله سبحانه عمّن يتبعون منهجه :﴿ أولئك حزب الله.. ( ٢٢ ) ﴾[ المجادلة ] : أي : أنهم يدخلون في حزب يختلف عن أحزاب البشر التي تختلف أو تتفق في فكر البشر.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده.. ( ١٧ ) ﴾[ هود ] : والمقصود بهم كفار قريش عبدة الأوثان، والصائبة( ١٨ ) واليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل منهم جماعة تمثل حزبا، ويقول عنهم الحق سبحانه :﴿ .. كل حزب بما لديهم فرحون( ٥٣ ) ﴾[ المؤمنون ] : ومن يكفر من هؤلاء برسالة رسول الله وبرسول الله فالجزاء هو النار، وبذلك بين لنا الحق سبحانه أن هناك حزبين : حزب الله، والأحزاب الأخرى، وهما فريقان كل منهما مواجه للآخر.
ويقول الحق سبحانه لرسوله، والمراد أيضا أمة محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ فلا تك في مرية( ١٩ ) منه.. ( ١٧ ) ﴾[ هود ] : أي : لا تكن يا رسول الله في شك من ذلك ؛ لأن رسالتك وبعثتك تقوم على أدلة البينة والفطرة والهدى والنور المطلوب من الله تعالى، والشاهد معك، كما شهد لك من جاء من قبلك أنك جئت بالمنهج الحق :﴿ إنه الحق من ربك.. ( ١٧ ) ﴾[ هود ].
والحق-كما علمنا من قبل-هو الشيء الثابت الذي لا يعتريه تغيير، وهذا الحق لا يمكن أن يأتي إلا من إله لا تتغير أفعاله.
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ .. ولكن أكثر الناس لا يؤمنون( ١٧ ) ﴾[ هود ] : وهؤلاء لا يؤمنون عنادا ؛ لأن الأدلة منصوبة بأقوى الحجج، ومن يمتنع عليها هو مجرد معاند.
والحق سبحانه يقول في مثل هؤلاء المعاندين :﴿ وجحدوا( ٢٠ ) بها واستيقنتها( ٢١ ) أنفسهم ظلما وعلوا.. ( ١٤ ) ﴾[ النمل ] : أي : أنهم مع كفرهم يعلمون صدق الأدلة على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى صدق بعثته، فيكون كفرهم حينئذ كفر عناد ؛ لأن الأدلة منصوبة بأقوى الحجج، فيكون من يمتنع على الإيمان بهذه الأدلة إنسانا معاندا.
١ المرية: الجدل والشك وكذلك التماري والامتراء والمرء والمماراة. قال تعالى:﴿فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا..(٢٢)﴾[الكهف]، وقال تعالى:﴿فلا تكونن من الممترين(١٤٧)﴾[البقرة] وقال تعالى:﴿فبأي آلاء ربك تتمارى(٥٥)﴾[النجم] [القاموس القويم] بتصرف..
٢ بان الشيء يبين بيانا: ظهر واتضح، فهو بين وهي بينة أي: ظاهرا، وظاهرة. ويستعمل البين والبنية بمعنى المظهر والمظهرة، والموضح والموضحة. قال تعالى:﴿كم آتيناهن من آية بينة..(٢١١)﴾[البقرة] أي: واضحة لاشك فيها، أو هي مبينة للحق مؤيدة له، مظهرة لأمره، وكذلك قوله تعالى:﴿لولا يأتون عليهم بسلطان بين..(١٥)﴾[الكهف] أي: ظاهر واضح أو موضح مظهر للحق [القاموس القويم]..
٣ البعرة: واحد البعر، وهو رجيع(ورث) ذوات الخف والظلف من الحيوانات..
٤ الأبراج: جمع برج، وهي منازل الأفلاك في السماء أو هي الكواكب. وقيل: هي النجوم.[لسان العرب: مادة: برج]..
٥ الفجاج: جمع فج. وهو الطريق الواسع بين جبلين. ومنه قوله تعالى:﴿والله جعل لكم الأرض بساطا(١٩) لتسلكوا منها سبلا فجاجا(٢٠)﴾[نوح]. وقال:﴿وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون(٣١)﴾[الأنبياء]..
٦ هذه العبارات من خطبة خطبها قس بن ساعدة الإيادي في الجاهلية. كان أولها: أيها الناس، اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. انظر البيان والتبيين للجاحظ (١/٣٠٨)..
٧ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" أخرجه أحمد في مسنده (٢/٢٣٣) والطيالسي (٢٤٣٣)، والترمذي (٢١٣٨)..
٨ الضب والتضيب: تغطية الشيء ودخول بعضه في بعض. والضبابة: سحابة تغشي الأرض كالدخان وقيل: الضباب والضبابة: ندى كالغبار يغشي الأرض بالغدوات [لسان العرب-مادة: ضبب]..
٩ مناط الشيء: كل مت تعلق به من أمور. ونيط به الشيء: وصل به.[اللسان: مادة (ن و ط) بتصرف]..
١٠ الصوان: الدعاء الذي تصان فيه الثياب، أو توضع فيه الأطعمة. انظر [اللسان-مادة صون]..
١١ يقول تعالى في سورة النحل:﴿وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون(١٢) وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون(١٣) وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون(١٤)﴾[النحل]..
١٢ أي: لا تختلط به شبهة، أي: الفكر عن الأهواء.
والشوب: ما اختلط بغيره من الأشياء، وبخاصة السوائل، قال تعالى:﴿ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم(٦٧)﴾بالصافات]. ويقال: سقاه الذوب بالشوب: العسل بما يشاب به من ماء أو لبن.[المعجم الوسيط]..

١٣ البعرة: رجيع (ورث) ذوات الخف وذوات الظلف من الحيوانات. والبعير: وما صلح للركوب والحمل من الإبل، وذلك إذا استكمل أربع سنوات. ويقال للجمل والناقة: بعير. والجمع: أباعر، وأباعير، وبعران.[المعجم الوسيط]..
١٤ لأن في تأويل هذا الشاهد أقوال كثيرة ذكرها القرطبي في تفسيره(٤/٣٣٣٤).
أنه محمد صلى الله عليه وسلم.
أنه جبريل عليه السلام.
أنه علي بن أبي طالب.
القرآن في نظمه وبلاغته، والمعاني الكثيرة منه في اللفظ الواحد.
الإنجيل. فهو يتلو القرآن في التصديق وإن كان قلبه.
العقل الذي يتلو معرفة الله التي أشرقت لها القلوب.
قال ابن كثير في تفسيره(٢/٤٤٠) بعد أن ذكر الأقوال الثلاثة الأولى:"الأول والثاني هو الحق، وكلاهما قريب في المعنى؛ لأن كلا من جبريل ومحمد صلوات الله عليهما بلغ رسالة الله تعالى، فجبريل إلى محمد ومحمد إلى الأمة، وقيل: هو علي، وهو ضعيف لا يثبت له قائل. المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة، والفطرة تصدقها وتؤمن بها"..

١٥ المقصود به هنا الإنجيل الذي أرسل به عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل..
١٦ الأحزاب: جمع حزب. وهو الجماعة من الناس اجتمعوا على أمر واحد سواء أكان خيرا أو شرا. يقول تعالى عن حزب الخير:﴿.. أولئك حزب الله إلا إن حزب الله هم المفلحون(٢٢)﴾[المجادلة]. وقال تعالى عن حزب الشر:﴿استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون(١٩)﴾[المجادلة].
والمقصود بالأحزاب هنا أهل الملل كلها من غير ملة الإسلام. قاله القرطبي في تفسيره (٤/٣٣٣٥)..

١٧ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" أخرجه مسلم في صحيحه-كتاب الإيمان-حديث (٢٤٠)..
١٨ الصابئون: يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام. وقيل: هم عباد الملائكة، أو عباد الكواكب والنجوم، أو عباد النار. قال تعالى:﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين..(٦٢)﴾[البقرة] فهم غير اليهود والنصارى [انظر: القاموس القويم ١/٣٦٥]..
١٩ مرية: الجدل والشك. وهناك قراءة بضم الميم.[القاموس القويم]..
٢٠ المقصود جحد الحق يجحده جحودا: أنكره وهو يعلمه. وجحد النعمة: أنكرها ولم يشكرها. وجحد بالآية: كفر بها.
وقال تعالى:﴿وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله..(٥٩)﴾[القاموس القويم]..

٢١ استيقن الأمر واستيقن به: مثل أيقنه وأيقن به، من اليقين وهو الشيء الثابت الواضح الذي لا شك فيه. واستيقنتها أنفسهم: أي: علمتها نفوسهم علما واضحا.[القاموس القويم]..
يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ ومن أظلم ممن افترى( ١ ) على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد( ٢ ) هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين( ١٨ ) ﴾ :
هذه الآية تبدأ بخبر مؤكد في صيغة استفهام، حتى يأتي الإقرار من هؤلاء الذين افتروا على الله كذبا، والإقرار سيد الأدلة.
والواحد من هؤلاء المفترين إذا سمع السؤال وأدار ذهنه في الظالمين، فلن يجد ظلما أفدح ولا أسوأ من الذي يفتري على الله كذبا، ويقر بذلك.
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يأتي هذا الخبر في صيغة استفهام، ليأتي القرار اعترافا بهذا الظلم الفظيع.
وهؤلاء المكذبون يعرضون على الله مصداقا لقول الحق سبحانه :﴿ أولئك يعرضون على ربهم.. ( ١٨ ) ﴾[ هود ] : والعرض إظهار الشيء الخفي لنقف على حاله.
ومثال ذلك في حياتنا : هو الاستعراض العسكري حتى يبيّن الجيش قوته أمام الخصوم، وحتى تبلغ الدولة غيرها من الدول بحجم قوتها.
وكذلك نجد الضابط يستعرض فرقته ليقف على حال أفرادها، ويقيس درجة انضباط كل فرد فيها وحسن هندامه، وقدرة الجنود على طاعة الأوامر.
ومثال آخر من حياتنا : فنحن نجد مدير المدرسة يستعرض تلاميذها لحظة إعلان نتائج الامتحان، ويرى المدير والتلاميذ خزي المقصر منهم أو الذي لو يؤد واجبه بالتمام.
فما بالنا بالعرض على الله تعالى، حين يرى المكذبون حالهم من الخزي ؟
ذلك أنهم سيفاجأون بوجود الله الذي أنكروه افتراء ؛ لأن الحق سبحانه يقول :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة( ٣ ) يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عند.. ( ٣٩ ) ﴾[ النور ] : فأيّ خزي-إذن-سيشعرون به ؟ !
ويظهر الحق سبحانه وتعالى ما كان مخفيا منهم حين يعرض الكل على الله تعالى مصداقا لقوله سبحانه :﴿ وعرضوا على ربك صفا.. ( ٤٨ ) ﴾[ الكهف ]، وكذلك يعرضون على النار ؛ لأن الحق سبحانه هو القائل :﴿ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا( ٤ ).. ( ٤٦ ) ﴾[ غافر ] : وهكذا يظهر الخزي والخجل والمهانة على هؤلاء الذين افتروا على الله تعالى.
وهو سبحانه يعلم كل شيء أزلا، ولكنه سبحانه شاء بذلك أن يكشف الناس أمام بعضهم البعض، وأمام أنفسهم، حتى إذا ما رأى إنسان في الجنة إنسانا في النار، فلا يستثير هذا المشهد شفقة المؤمن ؛ لأنه يعلم أن جزاء المفتري هو النار.
ويا ليت الأمر يقتصر على هذا الخزي، بل هناك شهادة الأشهاد ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يقول في نفس الآية :﴿ ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم.. ( ١٨ ) ﴾[ هود ] : والأشهاد جمع له مفرد، هو مرة " شاهد "، مثل " صاحب " و " أصحاب "، ومرة يكون المفرد " شهيد " مثل " شريف " و " أشراف ".
والأشهاد منهم الملائكة ؛ لأن الحق سبحانه يقول :﴿ ما يلفظ( ٥ ) من قول إلا لديه رقيب عتيد( ٦ )( ١٨ ) ﴾[ ق ].
وكذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وإن عليكم لحافظين( ٧ )( ١٠ ) كراما كاتبين( ١١ ) يعلمون ما تفعلون( ١٢ ) ﴾[ الانفطار ].
أو شهود من الأنبياء الذين بلغوهم منهج الله ؛ لأن الحق سبحانه يقول :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا( ٨ )( ٤١ ) ﴾[ النساء ] : وأيضا الشهيد على هؤلاء هو المؤمن من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فيبلّغها إلى غيره، مصداقا لقول الحق سبحانه :﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس.. ( ١٤٣ ) ﴾[ البقرة ] : وكلمة " الشهادة " تعني : تسجيل ما فعلوا، وتسجل أيضا أنهم بلّغوا المنهج وعاندوه وخرجوا عليه، فارتكبوا الجريمة التي تقتضي العقاب، لأن العقوبة لا تكون إلا بجريمة، ولا تجريم إلا بنص، ولا نص إلا بإعلام.
ولذلك نجد القوانين التي تصدر من الدولة تحمل دائما عبارة " يعمل بالقانون من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية ".
إذن : فعمل الأشهاد أن يعلنوا أن الذين أنكروا الرسالة والرسول قد بلغوا المنهج، وبلّغوا أن إنكار هذا المنهج وإنكار هذا الرسول هو الجريمة الكبرى، وأن عقوبة هذا الإنكار هي الخلود في النار.
ولأن الحق سبحانه وتعالى هو العدل نفسه ؛ لذلك فلا عقاب إلا بالتأكد من وقوع الجريمة، لذلك لابد من شهادات متعددة، وكذلك يأتي الشاهد من الملائكة، وهو من جنس غير جنس المعروضين، ويأتي الشاهد من الأنبياء وهو من جنس البشر إلا انه معصوم.
وكذلك يأتي الشاهد من الإخوة المؤمنين الذين يشهدون أنهم قد بلغوا منهج الإيمان، ثم تأتي شهادة هي سيدة الشهادات كلها، وهي شهادة الأبعاض على الكل.
يقول الحق سبحانه :﴿ ويم يحشر أعداء الله على النار فهم يوزعون( ٩ )( ١٩ ) حتى إذا جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون( ٢٠ ) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون( ٢١ ) ﴾[ فصلت ] : فالجوارح تنطق لتقيم الحجة على أولئك المذنبين.
وسؤال المذنبين عن كيفية وقوع النطق لا لزوم له ؛ لذلك نجد السؤال هنا " لم " ؛ لأن الجوارح كانت هي أدوات المذنبين في ارتكاب الجرائم ؛ لأن اليد هي التي امتدت لتسرق، واللسان هو الذي نطق قول الزور، والقلب هو الذي حقد، والساق هي التي مشت على المعصية.
والإنسان-كما نعلم-مركّب من جوارح، وهذه الجوارح لها أجهزة تكوّن الكل الإنساني ومدير كل الجسم هو العقل، فهو الذي يأمر اليد لتمتد وتسرق، أو تمتد لتربت على اليتيم ؛ والعين تأخذ أوامرها من العقل، فإما أن يأمرها بأن تنظر إلى جمال الكون، وتعتبر بما تراه من أحداث، أو يأمرها بأن تنظر على الحرام.
إذن : الجوارح خادمة مطيعة مسخّرة لذلك الإنسان وإرادته، لكن الأمر يختلف في الآخرة، حيث لا أمر لأحد إلا الله.
والحق سبحانه القائل :﴿ .. لمن الملك اليوم لله الواحد القهار( ١٦ ) ﴾[ غافر ] : فالجوارح تقول يوم القيامة لأصحابها : كنا نفعل ما تأمروننا به من المعاصي رغما عنا ؛ لأننا كنا مسخّرين لكم في الدنيا، والآن انحلّت إرادتكم عنا فقلنا ما أجبرتمونا على فعله.
وهكذا تعترف الأشهاد، مصداقا لقول الحق سبحانه :﴿ .. ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين( ١٨ ) ﴾[ هود ] : وما داموا قد كذبوا على ربهم، فالمكذوب عليه هو الله، ولابد أن يطردهم من الرحمة، وهم قد ارتكبوا قمة الظلم وهو الشرك به والإلحاد( ١٠ ) وإنكار الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة.
١ افترى القول: اختلقه واخترعه. وافترى عليه الكذب: اخترعه. ويقول تعالى:﴿أم يقولون افتراه..(٣٨)﴾[يونس] أي: اخترع القرآن واختلقه من عند نفسه..
٢ الأشهاد: أي: الشهداء بالحق، وأشهاد: جمع شهيد، مثل أيتام جمع يتيم، والشهيد صفة مشبهة.[القاموس القويم]. وفي تعيين الأشهاد في هذه الآية أقوال: الملائكة الحفظة-الأنبياء والرسل. وقال قتادة: الخلائق أجمع. قاله القرطبي في تفسيره (٤/٣٣٣٦)..
٣ السراب: ما يرى في نصف النهار على الأرض الفضاء كأنه ماء، وليس بماء. وهو ظاهرة متعلقة بخداع البصر. والبقيعة: الأرض المستوية المنخفضة عما يحيط بها من مرتفعات وكذلك "القاع". يقول تعالى:﴿ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا(١٠٥) فيذرها قاعا صفصفا(١٠٦) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا(١٠٧)﴾[طه][القاموس القويم]. والأرض الصفصف هي الأرض المستوية الملساء أي: إن الجبال تزول فلا يكون لها أثر، ولا ترى في مكانها ارتفاعا ولا هبوطا ولا عوجا..
٤ الغدو: الدخول في أول النهار. والعشي: أخر النهار. وهذه الآية قيلت في حق فرعون وآله. وتمامها:﴿.. ويم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب(٤٦)﴾[غافر] وهذه الآية أصل في إثبات عذاب القبر عند أهل السنة. انظر:[تفسير ابن كثير ٤/٨١]..
٥ اللفظ: إخراج الشيء من الفم. والمراد به: التكلم. واللفظ: الرمي والإلقاء عامة. ومنه حديث ابن عمر أنه سئل عما لفظ البحر فنهي عنه. أراد ما يلقيه البحر من السمك إلى جانبه من غير اصطياد [اللسان: مادة لفظ]..
٦ الرقيب العتيد: الحاضر المستعد لإثبات ما يتكلم به الإنسان في كتاب الحسنات والسيئات.[القاموس القويم]..
٧ الحافظون: أي: الملائكة الرقباء والمحافظون عليكم. يقول تعالى:﴿إن كل نفس لها عليها حافظ(٤)﴾[الطارق] أي: ملك حافظ لها رقيب عليها. ويقول تعالى:﴿وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة..(٦١)﴾[الأنعام] أي: ملائكة يحفظونكم ويراقبون أعمالكم.[القاموس القويم]..
٨ عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي القرآن. قال: فقلت يا رسول الله اقرأ عليك وعليك أنزل. قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، فقرأت النساء حتى إذا بلغت:﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا(٤١)﴾[النساء]. رفعت رأسي أو غمزني رجل على جنبي، فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل. أخرجه مسلم في صحيحه(٨٠٠) والبخاري في صحيحه (٥٠٥٥)..
٩ يوزعون: يمنعون عن التفرق ويجمعون في مكان واحد. والوزع و: الكف والمنع. يقال: وزعت الجيش إذا حبست أولهم على آخرهم، فيمتنع عليهم التفرق والانتشار.[انظر: لسان العرب-مادة: وزع]..
١٠ الملحد: العادل المائل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه. يقال: قد ألحد في الدين أي: حاد عنه. والإلحاد الظلم في الحرم، وهو أيضا الشك في الله، والميل عن الإيمان به [انظر: لسان العرب-مادة لحد]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا( ١ ) وهم بالآخرة هم كافرون( ١٩ ) ﴾ :
وهنا يحدثنا القرآن عن هؤلاء الذين كفروا بالله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يكتفوا بكفرهم، بل تمادوا وأرادوا أن يصدوا غيرهم عن الإيمان.
وبذلك تعدّوا في الجريمة، فبعد أن أجرموا في ذواتهم ؛ أرادوا لغيرهم أن يجرم.
وسبق أن أنزل الحق سبحانه خطابا خاصّا بأهل الكتاب، الذين سبق لهم الإيمان برسول سابق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أعماهم الطمع في السلطة الزمنية فطمسوا الآيات المبشرة برسول الله في كتبهم، وهم بذلك إنما صدّوا عن سبيل الله، وأرادوا أن تسير الحياة معوجة.
يقول الحق سبحانه :﴿ قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون( ٩٩ ) ﴾[ آل عمران ] :
وقد أرسل الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ليعدل المعوجّ من أمور المنهج. والعوج هو عدم الاستقامة والسوائية، وقد يكون في القيم، وهي ما قد خفي في المعنويات، فتقول : أخلاق فيها عوج، وأمانة فلان فيها عوج.
ويقول الحق سبحانه :﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا( ٢ )( ١ ) ﴾[ الكهف ] : وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الله سبحانه :﴿ ويبغونها عوجا.. ( ١٩ ) ﴾[ هود ]، وأما في الأمور المحسة فلا يقال :" عِوَج "، بل يقال :" عَوَج "، فأنت إذا رأيت شيئا معوجا في الأمور المحسة تقول : عَوج( ٣ ).
لكننا نقرأ في القرآن قول الحق سبحانه :﴿ ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا( ١٠٥ ) فيذرها قاعا صفصفا( ٤ )( ١٠٦ ) لا ترى فيها عوج ولا أمتا( ٥ )( ١٠٧ ) ﴾[ طه ] : وقد أوردها الحق سبحانه هنا بهذا الشكل لدقة الأداء القرآني ؛ لأن هناك عوجا حسيا يحسه الإنسان، مثلما يسير الإنسان في الصحراء ؛ فيجد الطريق منبسطا ثم يرتفع على ربوة ثم ينبسط مرة أخرى، ثم يقف في الطريق جبل، ثم ينزل إلى واد، وأي إنسان يرى مثل هذا الطريق يجد فيه عوجا.
أما إذا كنت ترى الأرض مبسوطة مسطوحة كالأرض الزراعية، فقد تظن أنها أرض مستوية، ولكنها ليست كذلك ؛ بدليل أن الفلاح حين يغمر الأرض بالمياه، يجد بقعة من الأرض قد غرقت بالماء، وقطعة أخرى من نفس الأرض لم تمسها المياه، وبذلك نعرف أن الأرض فيها عوج لحظة أن جاء الماء، والماء-كما نعلم-هو ميزان كل الأشياء المسطوحة.
ولذلك حين نريد أن نحكم استواء جدار أو أرض، فنحن نأتي بميزان الماء ؛ لأنه يمنع حدوث أي عوج مهما بلغ هذا العوج من اللطف والدقة التي قد لا تراها العين المجردة.
وفي يوم القيامة يأتي أصحاب العوج في العقيدة، ويصورهم الحق سبحانه في قوله :﴿ يومئذ يتبعون الداعي لا عوج( ٦ ) له وخشعت الأصوات( ٧ ) للرحمن فلا تسمع إلا همسا( ١٠٨ ) ﴾[ طه ] : هم-إذن-يصطفّون بلا اعوجاج، كما يصطف المجرمون تبعا لأوامر من يقودهم إلى السجن، في ذلة وصغار( ٨ ) ولا ينطقون إلا همسا.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون( ١٩ ) ﴾[ هود ]. والسبب في صدّهم عن سبيل الله أنهم يريدون الحال معوجا ومائلا، وأن ينفّروا الناس من الإيمان ليضمنوا لأنفسهم السلطة الزمنية ويفسدون في الأرض ؛ لأن مجيء الإصلاح بالإيمان أمر يزعجهم تماما، ويسلب منهم ما ينتفعون به بالفساد.
١ عوج: مال وانحنى ولم يكن معتدلا. وعاج عوجا (بفتح العين والواو)، وعوجا (بكسر العين وفتح الواو). قال تعالى:﴿قرآنا عربيا غير ذي عوج..(٢٨)﴾[الزمر] أي: قرآنا مستقيما في مبادئه وأحكامه. وقال تعالى:﴿ويبغونها عوجا..(١٩)﴾[هود] أي: أن الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله يريدون سبيل الله معوجة. بالقاموس القويم]..
٢ ﴿ولم يجعل له عوجا﴾: أي: أنه قرآن مستقيم سليم في أحكامه ومبادئه ولا اعوجاج فيه.[القاموس القويم] بتصرف..
٣ قال ابن منظور في اللسان (مادة عوج):"هو بفتح العين مختص بكل شخص مرئي كالأجسام، وبالكسر بما ليس بمرئي كالرأي والقول، وقيل: الكسر يقال فيهما معا، والأول أكثر"..
٤ ﴿فيذرها قاعا صفصفا﴾: القاع: الأرض المستوية المنخفضة عما حولها. والصفصف: الأرض الملساء المستوية. أي: أن الجبال نزول، فلا يكون لها أثر.[القاموس القويم].
وذكر ابن كثير في تفسيره أن الله تعالى يذهب الجبال عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييرا، فيجعلها-أي: الأرض-قاعا صفصفا، أي: بساطا واحدا، والقاع هو المستوى من الأرض، والصفصف تأكيد لمعنى استواء الأرض يومئذ، وقيل: الذي لا نبات فيه والأول أولى وإن كان الآخر مرادا أيضا باللازم ولهذا قال:﴿لا ترى فيها عوجا ولا أمتا﴾ أي: لا ترى في الأرض يومئذ واديا ولا رابية ولا مكانا منخفضا ولا مرتفعا. قاله ابن عباس وعكرمة وآخرون.(ابن كثير ٣/١٦٥)..

٥ ﴿لا ترى فيها عوجا ولا أمتا(١٠٧)﴾[طه]: أي: أنها ملساء مستوية، لا انحراف فيها يمنة ولا يسرة، فلا ميل فيها مطلقا ولا انخفاض فيها ولا ارتفاع.[القاموس القويم]..
٦ ﴿يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له﴾ أي: يوم القيامة الذي يرون فيه هذه الأحوال والأهوال فيستجيبون مسارعين على الداعي حيثما أمروا بادروا إليه، ولو كان هذا في الدنيا لكان انفع لهم. وقال قتادة: لا عوج له أي: لا يميلون عنه وخشعت: سكنت.[تفسير ابن كثير: ٣/١٦٥]..
٧ خشعت الأصوات: فتت وهدأت، كناية عن شدة الرهبة والخوف يوم القيامة. بالقاموس القويم-١/١٩٤]..
٨ الصغار (بفتح الصاد المشددة): الخضوع في ذل ومهانة.[لسان العرب-مادة: صغر]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ أولئك لم يكونوا معجزين( ١ ) في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون( ٢٠ ) ﴾ :
والإعجاز هو الامتناع، وأعجزت فلانا، أي : برهنت على أنه ممتنع عن الأمر وغير قادر عليه.
وقد تجلّى الإعجاز-على سبيل المثال-في عجز هؤلاء الذين أنكروا أن القرآن معجزة أن يأتي بآية من مثله. والمعجز في الأرض هو من لا تقدر عليه.
ويبيّن لنا الحق سبحانه في هذه الآية أن هؤلاء الكافرون لا يعجزون الله في الأرض، بدليل أن هناك نماذج من أمم قد سبقت وكفرت، فمنهم من أخذته الريح، ومنهم من خسف الله بهم الأرض، ومنهم من غرق، وإذا انتقلوا إلى الآخرة فليس لهم ولي أو نصير من دون الله ؛ لأن الولي هو القريب منك، ولا يقرب منك إلا من تحبه، ومن ترجو خيره.
فإذا قرب منك إنسان له مواهب فوق مواهبك، نضح عليك من مواهبه، وإذا كان من يقرب منك قويا وأنت ضعيف، ففي قوته سياج لك، وإن كان غنيا، فغناه ينضح عليك، وإن كان عالما أفادك بعلمه، وإن كان حليما أفادك بحلمه لحظة غضبك، وكل صاحب موهبة تعلو موهبتك وأنت قريب منه، فسوف يفيدك من موهبته.
والولي هو النصير أيضا ؛ لأنك أول ما تستصرخ سيأتي لك القريب منك.
وهؤلاء الذين يصدّون عن سبيل الله لن يجدوا وليّا ولا نصيرا في الآخرة-وإن وجدوه في الدنيا-لأن ككل إنسان في الآخرة سيكون مشغولا بنفسه :
﴿ يوم ترونها تذهل( ٢ ) كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد( ٢ ) ﴾[ الحج ].
ويقول الحق سبحانه :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز( ٣ ) عن والده شيئا.. ( ٣٣ ) ﴾[ لقمان ].
وكذلك يقول الحق سبحانه :﴿ يوم يفر المرء من أخيه( ٣٤ ) وأمه وأبيه( ٣٥ ) وصاحبته ونبيه( ٣٦ ) لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه( ٣٧ ) ﴾[ عبس ] : إذن : فهؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله لا يعجزون الله في الأرض، ولا يجدون الولي أو النصير في الآخرة، بل :﴿ يضاعف لهم العذاب.. ( ٢٠ ) ﴾[ هود ] :
ونحن نفهم الضّعف على أنه الشيء يصير مرتين، ونظن أن في ذلك قوة، ونقول : لا ؛ لأن الذي يأتي ليسند الشيء الأول ويشفع له، كان الأول بالنسبة له ضعيف.
إذن : فالمضاعفة هي التي تظهر ضعف الشيء الذي يحتاج على ما يدعمه. ومضاعفة العذاب أمر منطقي لهؤلاء الذين أرادوا الأمر عوجا، وصدوا عن سبيل الله تعالى، وأرادوا بذلك إضلال غيرهم.
وقول الحق سبحانه :﴿ يضاعف لهم العذاب.. ( ٢٠ ) ﴾[ هود ]، لا يتناقض مع قوله الحق :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى( ٤ ).. ( ١٦٤ ) ﴾[ الأنعام ] : لأن هؤلاء الذين صادوا عن سبيل الله ليس لهم وزر واحد، بل لهم وزران : وزر الضلال في ذواتهم، ووزر الإضلال لغيرهم.
وهناك آية تقول :﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما( ٥ )( ٦٨ ) يضاعف له العذاب.. ( ٦٩ ) ﴾[ الفرقان ] : أي : أن من يفعل ذلك يلق مضاعفة العذاب.. لماذا ؟
لأنه كان أسوة لغيره في أن يرتكب نفس الجرم.
والحق سبحانه وتعالى لا يريد للذنوب أن تنتشر، ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يحض على أن يرى المؤمنون من ارتكب الجرم لحظة العقاب، مثلما يقول سبحانه في الزنا :﴿ وليشهد عذابهما طائفة( ٦ ) من المؤمنين( ٢ ) ﴾[ النور ] : وحين يرى المؤمنون وقوع العقوبة على جريمة ما، ففي ذلك تحذير من ارتكاب الجرم، وحد من وقوع الجرائم.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يضاعف العذاب لأولئك الذين صدّوا عن سبيل الله، وأرادوا إضلال غيرهم، فارتكبوا جريمتين :
أولاهما : ضلالهم.
والثانية : إضلالهم لغيرهم. ولذلك تجد بعضا من الذين أضلّوا يقولون يوم القيامة :﴿ .. لربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين( ٢٩ ) ﴾[ فصلت ].
ويقولون أيضا :﴿ .. ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا( ٧ ) فأضلونا السبيلا( ٦٧ ) ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا( ٦٨ ) ﴾[ الأحزاب ].
إذن : فالدعوة إلى الانحراف إضلال، وعمل الشيء بالانحراف إضلال ؛ لأنه أسوة أمام الغير.
ومضاعفة العذاب لا تعني الإحراق مرة واحدة في النار ؛ لأن الحق سبحانه لو تركنا للنار لتحرقنا مرة واحدة لانتهى الإيلام ؛ ولذلك أراد الحق سبحانه أن يكون هناك عذاب بعد عذاب. يقول الحق سبحانه :﴿ كلما نضجت( ٨ ) جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.. ( ٥٦ ) ﴾[ النساء ] : فهو عذاب على الدوام.
أو أن العذاب الذي ضاعف له لون آخر، فهناك عذاب للكفر، وهناك عذاب للإفساد.
يقول الحق سبحانه :﴿ .. زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون( ٨٨ ) ﴾[ النحل ] : فالعذاب على الكفر لا يلغي العذاب على المعاصي التي يرتكبها الكافر( ٩ ).
فإذا كانت الشاة القرناء يقتصّ للشاة الجلحاء منها( ١٠ )، أي : أن الشاة التي لها قرون وتنطح الشاة التي لا قرون لها، فيوم القيامة يتم القصاص منها، رغم أنه لا حساب للحيوانات ؛ لأنها لا تملك الاختيار، ولكنها سوف تستخدم كوسيلة إيضاح لميزان العدالة.
ويقول الحق سبحانه :﴿ .. يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع( ١١ ) وما كانوا يبصرون( ٢٠ ) ﴾[ هود ] : أي : ما كانوا يستطيعون الاستفادة من السمع رغم وجود آلة السمع، فلم يستمعوا لبلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا استطاعوا الاستفادة من أبصارهم ليروا آيات الله سبحانه وتعالى في الكون، فكأنهم صم عمي، أو يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والإبصار.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه :﴿ اسمع بهم وأبصر( ١٢ ).. ( ٣٨ ) ﴾[ مريم ] : أي : أن سمعهم وأبصارهم ستكون سليمة وجيدة في الآخرة.
١ أعجزه: جعله عاجزا عن نيله وأفلت منه، فلم يقدر عليه. قال تعالى:﴿.. إنهم لا يعجزون(٥٩)﴾[الأنفال] أي: لا يعجزون الله إدراكهم وتعذيبهم وأخذهم بذنوبهم، فلن يفلتوا. وقال تعالى:﴿لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار..(٥٧)﴾[النور][القاموس القويم-٢/٧]..
٢ تذهل: تغفل عما ترضعه، كناية عن شدة الهول والفزع. والذهول عن الشيء: تركه عن عمد أو الغفلة عنه ونسيانه لشغل.[لسان العرب-مادة: ذهل]..
٣ جاز: اسم فاعل من الفعل جزي. وجزي عنه: قضى الحق عنه آو كفى بدلا منه في أمر. وقال تعالى:﴿واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا..(٤٨)﴾[البقرة].
أي: لا تغني ولا تقضي. والمراد بقوله تعالى:﴿واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا..(٣٣)﴾[لقمان]. أي: أن كلا منهما غير دافع عن الآخر شيئا من العذاب [القاموس القويم] بتصرف..

٤ وزر الشيء يزره وزرا: حمله. ويأتي في الأحمال الثقيلة، ويستعار للذنوب. والمراد بقوله تعالى:﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى..(١٦٤)﴾[الأنعام]. أي: لا تحمل نفس ذنب نفس أخرى.[القاموس القويم]..
٥ ومن يفعل ذلك يلق أثاما: أي: أن من يفعل تلك الذنوب والآثام ينل جزاء إثمه ويعاقب عليه. والإثم: فعل ما نهى الله تعالى عنه.[القاموس القويم]..
٦ طائفة: جماعة أو فرقة من الناس. ذهب الإمام مالك إلى أن الطائفة أربعة نفر فصاعدا لأنه لا يكفي شهادة في الزنا إلا أربعة شهداء فصاعدا. وبه قال الشافعي وقال ربيعة: خمسة. وقال الحسن البصري: عشرة. انظر[ابن كثير(٣/٢٦٢)]..
٧ السادات والكبراء: قال طاوس: السادات هم أشراف القوم وعظماؤهم. والكبراء: هم العلماء. قاله ابن كثير في تفسيره (٣/٥١٩) وعزاه لابن آبي حاتم..
٨ نضج اللحم: لينه وصلاحيته لن يؤكل. والمارد: احترقت جلودهم..
٩ لأن لم يؤمن بالدين الذي يجب أن يؤمن به، لهذا لم ينج من العذاب، ويعذب أيضا لمخالفته لمنهج الله إن كان مؤمنا برسول، أو لم يؤمن بالرسل ولكن كان مخالفا للفطرة..
١٠ عن لأبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال:"لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء: أخرجه مسلم في صحيحه(٢٥٨٢) كتاب البر والصلة. والجلحاء: هي الشاة ذهب شعر مقدم رأسها، وهي هنا بمنزلة الجماء التي لا قرن لها..
١١ السمع: حسن الأذن، ويطلق على الأذن، وعلى الآذان، بلفظه لأنه مصدر. وقال تعالى:﴿ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة..(٧)﴾[البقرة] أي: ختم على آذانهم فلا تسمع، والمارد: أنهم يسمعون ولا يفهمون.[القاموس القويم]..
١٢ أسمع بهم وأبصر: فعل تعجب من "سمع" ومن"بصر" أي: ما أدق سمعهم وبصرهم، وما أعجب شأنهم يوم القيامة، إذ يرى كل أعماله في الدنيا، ويسمع كل ما قاله في لحظات ليشهد على نفسه. بالقاموس القويم]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون( ٢١ ) ﴾ :
إذن : فهم خسروا أنفسهم ؛ لأنهم بظلم النفس وإعطائها شهوة عاجلة زمنها قليل، أخذوا عذابا آجلا زمنه خالد.
وفي هذا ظلم للنفس، وهذه قمة الخيبة، وهذا يدل على اختلال الموازين.
وأنت قد تظلم غيرك فتأخذ من عنده بعضا من الخير لتستفيد به، وبذلك تظلم الغير لصالح نفسك.
وظلم النفس يعني أنك تعطيها متعة عاجلة وتغفل عنها عذابا آجلا، والمتعة العاجلة لها مدة محدودة، أما العذاب فلا مدة تحدده.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ .. وضل( ١ ) عنهم ما كانوا يفترون( ٢١ ) ﴾[ هود ] : أي : لم يهتد إليهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله، ولو كان لهؤلاء الذين عبدوهم قوة يوم القيامة ؛ لهرعوا إليهم ليستنقذوهم من العذاب، ولكنهم بلا حول ولا قوة ؛ لأن الحق سبحانه قد حكم على هؤلاء الكافرين، وقال :﴿ .. وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير( ٧٤ ) ﴾[ التوبة ]، وكذلك هؤلاء الآلهة المعبودة من دون الله تعالى، أو شركاء مع الله، لا يهتدون إليهم، حتى بفرض قدرتهم على النصرة، فتلك الآلهة أو الشركاء لا يهتدون إليهم، ولا يعرفون لهم مكانا.
وقول الحق سبحانه :﴿ وضل عنهم.. ( ٢١ ) ﴾[ هود ] : أي : غاب وتاه عنهم.
وقوله سبحانه :﴿ .. ما كانوا يفترون( ٢١ ) ﴾[ هود ] : أي : ما كانوا يدّعونه كذبا.
١ ضل الكافر: غاب عن الحجة المقنعة، وعدل عن الطريق المستقيم ولم يعرف الحق.
والضلال: النسيان والضياع؛ وضل الشيء: خفي وغاب، فهو فعل لازم.
وضل المسافر الطريق: لم يعرفه فهو متعد [القاموس القويم-بتصرف]...

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ لا جرم( ١ ) أنهم في الآخرة هم الأخسرون( ٢٢ ) ﴾ :
واختلف العلماء في معنى كلمة ﴿ لا جرم ﴾، والمعنى العام حين تسمع كلمة ﴿ لا جرم ﴾ أي : حق وثابت، أو لابد من حصول شيء محدد.
وحين يقول الحق سبحانه :﴿ لا جرم أن لهم النار ( ٦٢ ) ﴾[ النحل ] : أي : حقّ وثبت أن لهم النار ؛ نتيجة ما فعلوا من أعمال، وتلك الأعمال مقدمة بين يدي عذابهم، فحين نسمع ﴿ لا جرم ﴾ ومعها العمل الذي ارتكبوه، تثق في أنه يحق على الله-سبحانه-أن يعذبهم.
وقال بعض العلماء( ٢ ) : إن معنى :﴿ لا جرم ﴾ حق وثبت. وقال آخرون( ٣ ) : أن معنى ﴿ لا جرم ﴾ هو لابد ولا مفر.
والمعنيان ملتقيان لأن انتفاء البدّية( ٤ ) يدل على أنها ثابتة. وكان يجب على العلماء أن يبحثوا في مادة الكلمة، ومادة الكلمة هي " الجرم "، والجرم : هو القطع( ٥ )، ويقال : جرم يده، أي : قطع يده.
وقول الحق سبحانه هنا :﴿ لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون( ٢٢ ) ﴾[ هود ] : أي : لا قطع لقول الله فيهم بأن لهم النار، ولا شيء يحول دون ذلك أبدا، ولابد أن ينالوا هذا الوعيد ؛ وهكذا التقى المعنى ب " لابد ".
إذن : فساعة تسمع كلمة " لا جرم "، أي : ثبت، أو لابد من حدوث الوعيد.
وأيضا تجد كلمة " الجريمة " مأخوذة من " الجرم "، وهي قطع ناموس مستقيم، فحين نقرر ألا يسرق أحد من أحد شيئا، فهذا ناموس مستقيم، فإن سرق واحد من آخر، فهو قد قطع الأمن والسلام للناس، وأيّ جريمة هي قطع للمألوف الذي يحيا عليه الناس.
وأيضا يقال : جرم( ٦ ) الشيء أي : اكتسب شرّه، ومنه الجريمة، ولذلك يقال : من الناس من هو " جارم " وهي اسم فاعل من الفعل :" جرم "، مثل كلمة " كاتب " من الفعل " كتب " و " مجروم عليه " وهي اسم مفعول، مثلها مثل " مكتوب ".
فإن أخذت الجريمة من قطع الأمر السائد في النظام، فهؤلاء الذين افتروا على الله وظلموا وصدوا عن سبيل الله، فلا جريمة في أن يعذبهم الله بالنار.
ومثل هذه العقوبة ليست جريمة ؛ لأن العقوبة على الجريمة ليست جريمة، بل هي منع للجريمة( ٧ ). وهكذا تلتقي المعاني كلها، فحين نقول :﴿ لا جرم ﴾ فذلك يعني أنه لا جريمة في الجزاء ؛ لأن الجريمة هي الآثام العظيمة التي ارتكبوها.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها.. ( ٤٠ ) ﴾[ الشورى ] :
وقد سمّاها الحق سيئة ؛ لأنها تسيء إلى المجتمع، أو تسيء إلى الفرد نفسه.
ولهذا يقول الحق سبحانه :﴿ وإن عاقبتهم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به.. ( ١٢٦ ) ﴾[ النحل ] : وهكذا نجد أن هناك معاني متعددة لتأويل قول الحق سبحانه :﴿ لا جرم ﴾، فهي تعني : لا قطع لقول الله في أن المشركين سيدخلون النار، أو لابد أن يدخلوا النار، أو حق وثبت أن يدخلوا النار، أو لا جريمة من الحق سبحانه عليهم أن يفعل بهم هكذا ؛ لأنهم هم الذين فعلوا ما يستحق عقابهم.
ويقول الحق سبحانه :﴿ لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون( ٢٢ ) ﴾[ هود ] : وكلمة ( الأخسرون ) جمع " أخسر " ( ٨ ) وهي أفعل تفضيل لخاسر، وخاسر اسم فاعل مأخوذ من الخسارة.
والخسارة في أمور الدنيا أن تكون المبادلة إجحافا( ٩ ) لواحد، كأن يشتري شيئا بخمسة قروش وكان يجب أن يبيعها بأكثر من خمسة قروش، لكنه باعها بثلاثة قروش فقط، فبعد أن كان يرغب في الزيادة، باع الشيء بما ينقص عن قيمته الأصلية.
ومن يفعل ذلك يسمى " خاسر "، والخسارة في الدنيا موقوتة بالدنيا، ومن يخسر في صفقة قد يربح في صفقة أخرى. ولنفترض أنه قد خسر في كل صفقات الدنيا، فما أقصر وقت الدنيا ! لأن كل ما ينتهي فهو قصير، لكن خسارة الآخرة لا نهاية لها.
ويقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ قل هل ننبئكم( ١٠ ) بالأخسرين أعمالا( ١٠٣ ) الذين( ١١ ) ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا( ١٠٤ ) ﴾[ الكهف ] :
وهكذا وصفهم الحق سبحانه مرة بأنهم الأخسرون، ومرة يقول سبحانه واصفا الحكم عليهم :﴿ .. ألا ذلك هو الخسران المبين( ١٥ ) ﴾[ الزمر ] : وهو خسران محيط يستوعب كل الأمكنة. وشاء الحق سبحانه بعد ذلك أن يأتي بالمقابل لهؤلاء، في ذلك فيض من الإيناسات المعنوية ؛ لأن النفس حين ترى حكما على شيء تأنس أن تأخذ الحكم المقابل على الشيء المقابل.
فحين يسمع الإنسان قول الحق سبحانه :﴿ إن الأبرار( ١٢ ) لفي نعيم( ١٣ ) ﴾[ الانفطار ].
فلا بد أن يأتي على الذهن تساؤل عن مصير الفجار، فيقول الحق سبحانه :﴿ وإن الفجار( ١٣ ) لفي جحيم( ١٤ ) ﴾[ الانفطار ] : وهذا التقابل يعطي بسطة النفس الأولى وقبضة النفس الثانية، وبين البسطة والقبضة توجد الموعظة، ويوجد الاعتبار.
ويأتي الحق سبحانه هنا بالمقابل للمشركين الذين صدوا عن سبيل الله، فصاروا إلى النار، والمقابل هم المؤمنون أصحاب العمل الصالح.
فيقول الحق سبحانه :
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا( ١٤ ) إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون( ٢٣ ) ﴾ :
١ لا جرم: لا محالة ولا بد، وتحولت إلى معنى القسم فصارت بمنزلة قولنا: حقا. وهي هنا بمعنى "حقا". وقد وردت في القرآن في خمسة مواضع:
الأول: سورة هود-آية ٢٢ وهي التي بصدد تفسيرها هنا.
الثاني:﴿لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين(٢٣)﴾[النحل]
الثالث:﴿.. لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون(٦٢)﴾[النحل]
الرابع:﴿لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون(١٠٩)﴾[النحل]
الخامس:﴿لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة..(٤٣)﴾[غافر]..

٢ قاله الخليل بن أحمد الفراهيدي، وسيبويه. ف"لا" و"جرم" عندهما كلمة واحدة، و"أن" عندهما في موضع رفع. وهذا قول الفراء ومحمد بن يزيد. انظر تفسير القرطبي (٤/٣٣٣٨)..
٣ قال المهدوي: وعن الخليل أيضا أن معناها لابد ولا محالة. وهو قول الفراء أيضا. ذكره الثعلبي. انظر تفسير القرطبي (٤/٣٣٣٨)..
٤ البد: النصيب من كل شيء. ولا بد منه: لا مفر.[المعجم الوسيط]..
٥ الجرمة: ما قطع من البسر (التمر).[المعجم الوسيط]..
٦ جرم الشيء، جرما: قطعه وغلب على فعل الشر. يقال: جرم أذنب وجنى جناية، وجرم المال: كسبه من أي وجده. وجرمه: حمله على فعل شر أو ذنب أو جرم. قال تعالى:﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا..(٨)﴾[المائدة] أي: لا يحملنكم بغض قوم على عدم العدل..
٧ ولذلك قال سبحانه:﴿ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون(١٧٩)﴾[البقرة] قال ابن كثير في تفسيره (١/٢١١):"إذا علم القاتل أنه يقتل أنكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس. قال أبو العالية: جعل الله القصاص حياة، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل"..
٨ أخسر: صيغة افعل التفضيل، وتفيد المبالغة في المعنى، أي: أكثر وأشد خسارة.[راجع: لسان العرب-مادة: خسر]..
٩ الجحف والمجاحفة: أخذ الشيء واجترافه. والجحف: شدة الجرف. والإجحاف: الظلم الشديد.[انظر: لسان العرب: مادة جحف]..
١٠ أنبأه بالشيء، ونباه به: أخبره به وذكر له قصته. والنبأ: الخبر، أو الخبر ذو الشأن والقصة ذات البال. والإنباء أيضا: التحدث، ومنه قوله تعالى:﴿ونبئهم عن ضيف إبراهيم(٥١)﴾[الحجر]. أي: حدثهم.[القاموس القويم ٢/٢٥٠]..
١١ الآية عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول وهو مخطئ وعمله مردود، فتجدهم يعتقدون أنهم على شيء وأنهم مقبولون محبوبون، وهذا مثل قوله تعالى:﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب (٣٩)﴾[النور].[تفسير ابن كثير ٣/١٠٧] بتصرف..
١٢ الأبرار: جمع بر، وهو الرجل الصادق الصالح صاحب الطاعة والإحسان. والبار: هو الذي يبر والديه فيحسن إليهما.[لسان العرب-مادة: برر] بتصرف..
١٣ الفجار: جمع فاجر، وهو المنبعث في المعاصي، غير مكثرت ولا مبال، وهو أيضا من بالغ في العصيان وجهر به.[القاموس القويم ٢/٧٣]بتصرف..
١٤ اخبتوا إلى ربهم: تواضعوا وخشوا وساروا في الطريق المستقيم المطمئن الواسع. وقال تعالى:﴿.. وبشر المخبتين(٣٤)﴾[الحج]. أي: الخاشعين. والخبت: المكان الواسع المطمئن من الأرض.[القاموس القويم]..
الإيمان-كما نعلم-أمر عقدي( ١ )، يعلن فيه الإنسان إيمانه بإله واحد موجود، ويلتزم بالمنهج الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن آمن بالله تعالى ولم يعمل العمل الصالح يتلقّ العقاب ؛ لأن فائدة الإيمان إنما تتحقق بالعمل الصالح.
لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول لنا :﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا( ٢ ) ولكن قولوا أسلمنا.. ( ١٤ ) ﴾[ الحجرات ] : أي : اتبعتم ظاهر الإسلام.
وهكذا نعرف أنه يوجد متيقّن بصحة واعتقاد بأن الإله الواحد الأحد موجود، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلّغ عن الله عز وجل ؛ لكن العمل الذي يقوم به الإنسان هو الفيصل بين مرتبة المؤمن، ومرتبة المعلم.
فالذي يحسن العمل هو مؤمن، أما من يؤدي العمل يتكاسل وإتباع لظواهر الدين، فهو المسلم، وكلاهما يختلف عن المنافق الذي يدّعي الحماس إلى أداء العبادات، لكنه يمكر ويبيّت( ٣ ) العداء للإسلام الذي لا يؤمن به.
كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسبق الناس إلى صفوف الصلاة، وكانوا مع هذا يكتمون الكيد ويدبرون المؤامرات ضد النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم.. ( ٢٣ ) ﴾[ هود ] : هذا القول يبيّن لنا أن معيار الإيمان إنما يعتمد على التوحيد، وإتقان أداء ما يتطلبه منهج الله سبحانه، وأن يكون كل ذلك بإخبات وخضوع، ولذلك يقال : ربّ معصية أورثت ذلاّ وانكسارا، خير من عبادة أورثت عزّا واستكبارا : أي : أن المؤمن عليه ألا يأخذ العبادة وسيلة للاستكبار( ٤ ).
وكلمة ﴿ أخبتوا ﴾ أي : خضعوا خشية لله تعالى، فهم لا يؤدون فروض الإيمان لمجرد رغبتهم في ألاّ يعاقبهم الله، لا بل يؤدون فروض الإيمان والعمل الصالح خشية لله.
وأصل الكلمة من " الخبت " وهي الأرض السهلة المطمئنة المتواضعة، وكذلك الخبت في الإيمان.
ويصف الحق سبحانه أهل الإيمان المخبتين بأنهم :﴿ .. أولئك أصحاب الجنة فيها خالدون( ٢٣ ) ﴾[ هود ] : أي : الملازمون لها، وخلودهم في الجنة يعني أنهم يقيمون في النعيم أبدا، ونعيم الجنة مقيم ودائم، على عكس نعيم الدنيا الذي قد يفوته الإنسان بالموت، أو يفوت النعيم الإنسان بالسلب( ٥ ) ؛ لأن الإنسان في الدنيا عرضة للغيار، أما في الآخرة، فأهل الإيمان أصحاب العمل الصالح المخبتون لربهم، فهم أهل النعيم المقيم أبدا.
وهكذا عرض الحق سبحانه حال الفريقين : الفريق الذي ظلم نفسه بافتراء الكذب على الله، وصدوا عن سبيل الله، وابتغوا الأمر عوجا، هؤلاء لن يعجزوا( ٦ ) الله، وليس لهم أولياء يحمونهم من العذاب المضاعف.
وهم الذين خسروا أنفسهم، ولن يجدوا عونا من الآلهة التي عبدوها من دون الله، ولا شيء بقادر على أن يفصل بينهم وبين العذاب، وهم الأخسرون.
أما الفريق الثاني فهم الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحة بخشوع وخشية ومحبة لله سبحانه وتعالى، وهم أصحب الجنة الخالدون فيها.
إذن : فلكل فريق مسلكه وغايته.
١ قال ابن منظور في اللسان (مادة عقد):"اعتقد كذا بقلبه، وليس له معقود، أي: عقد رأى. وفي الحديث: أن رجلا كان يبايع وفي عقدته ضعف، أي: في رأيه ونظره في مصالح نفسه". فالإيمان أمر يعتقده القلب..
٢ الإيمان هو اعتقاد القلب الجازم الذي لا يداخله شك بالأمور الغيبية من إيمان بالله واليوم الآخر والكتب والرسل مما لا يراه الناس، أما الإسلام فهو الالتزام الظاهري بأحكام الدين من صلاة وصيام وغيرهما وإن لم يكن في القلب إيمان. فالإيمان وحسنه أمر يعمله الله من قلب كل عبد..
٣ بيت أمرا: دبره في خفاء، كأنه دبره في الليل ليخفيه. يقول تعالى:﴿ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا(٨١)﴾[النساء].[القاموس القومي-١/٨٩]..
٤ الاستكبار: التعاظم والتجبر على الناس وظلمهم بغير الحق، وصيغة استفعل تشعر بتكلف وادعاء الشيء، فالمستكبر يدعي أو يظن في نفسه أنه كبير..
٥ السلب: هو سلب النعمة من الإنسان..
٦ أعجزه: جعله عاجزا عن نيله، وأفلت منه فلم يقدر عليه. قال تعالى:﴿ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون(٥٩)﴾[الأنفال] أي: لا يعجزون الله إدراكهم وتعذيبهم وأخذهم بذنوبهم فلن يفلتوا..
لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون( ٢٤ ) ﴾ :
والفريقان هما من تحدثنا عنهما من قبل.
وكلمة " الفريق " تعني : جماعة يلتقون عند غاية وهدف واحد، مثلما نقول : فريق كرة القدم أو غيره من الفرق، فهي جماعات، وكل جماعة منها لها هدف يجمعها.
ونحن نجد الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ .. فريق في الجنة وفريق في السعير( ١ )( ٧ ) ﴾[ الشورى ] : وكلمة ﴿ الفريقين ﴾ جاءت في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ؛ لأن كل فرقة تضم جماعة مختلفة عن الجماعة الأخرى، ولهؤلاء متعصبون، والآخرين متعصبون.
ويضرب الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية المثل بسيّدى الحواس الإدراكية في الإنسان، وهما السمع والبصر، فهما المصدران الأساسيان عند الإنسان لأخذ المعلومات، إما مسموعة، أو مرئية، ثم تتكون لدى الإنسان قدرة الاستنباط( ٢ ) والتوليد مما سمعه بالأذن ورآه بالعين.
ولذلك قال لنا الحق سبحانه :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون( ٧٨ ) ﴾[ النحل ] :
إذن : فما دام الحق سبحانه قد جعل السمع والأبصار والأفئدة مصادر تأتي منها ثمرة، هي المعلومات وتمحيصها( ٣ )، فالحق سبحانه يستحق الشكر( ٤ ) عليها.
ونحن نعلم أن الطفرات( ٥ ) الحضارية وارتقاءات العلم، إنما تأتي بمن سمع ومن رأى، ثم جاءت من الاستنباط أفكار تطبيقية تفيد البشرية.
ومثال ذلك : هو من رأى إناء طعام وله غطاء، وكان بالإناء ماء يغلى، فارتفع الغطاء عن الإناء.
هذا الإنسان اكتشف طاقة البخار، واستنبط أن البخار يحتاج حيّزا أكبر من حيز السائل الموجود في الإناء ؛ لذلك ارتفع الغطاء عن الإناء، وارتقى هذا الاكتشاف ليطور كثيرا من أوجه الحياة.
ولو أن كل إنسان وقف عند ما يسمعه أو يراه ولم يستنبط منه شيئا لما تطورت الحياة بكل تلك الارتقاءات الحضارية.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا.. ( ٢٤ ) ﴾[ هود ] : ولن يشك كل من الأعمى أو الأصم أن من يرى أو من يسمع هو خير منه، ولا يمكن أن يستوي الأعمى بالبصير، أو الأصم بمن يسمع.
وهكذا جاء الحق سبحانه وتعالى بالأشياء المتناقضة، ليحكم الإنسان السامع أو القارئ لهذه الآية، وليفصل بحكم يذكّره بالفارق بين الذي يرى ومن هو أعمى، وكذلك بين من يسمع ومن هو أصم، ومن الطبيعي ألا يستويان.
لذلك ينهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى :﴿ أفلا تذكرون ﴾ أي : ألا تعتبرون بوجود هذه الأشياء.
ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد قال لنا :﴿ .. فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور( ٤٦ ) ﴾[ الحج ] : أي : أن الإنسان قد يكون مبصرا، أو له أذن تسمع، لكنه لا يستخدم حاسة الإبصار أو حاسة السمع فيما خلقت من أجله في التقاط مجاهيل الأشياء.
وبعد أن بيّن الحق سبحانه وصف كل طرف وصراعه مع الآخر، واختلاف كل منهما في الغاية، والصراع الذي بينهما تشرحه قصص الرسل عليهم السلام.
ويقول الحق سبحانه في بعض من مواضع القرآن الكريم، وفي كل موضع لقطات من قصة أي رسول، واللقطة التي توجد في سورة قد تختلف عن اللقطة التي في سورة أخرى.
ومثال ذلك : أن الحق سبحانه قد تكلم في سورة يونس عن نوح وموسى وهارون ويونس عليهم السلام، وهنا-في سورة هود-تأتي مرة أخرى قصة نوح عليه السلام، فيقول سبحانه وتعالى :
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير( ٦ ) مبين( ٢٥ ) ﴾ :
١ السعير: النار المشتعلة المتقدة المتوهجة. يقول تعالى:﴿وإذا الجحيم سعرت(١٢)﴾[التكوير] أي: أوقدت بشدة. ويراد بالسعير: نار جهنم. ويقول تعالى:﴿.. مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا(٩٧)﴾[الإسراء] أي: زدناهم نارا هائجة موقدة مشتعلة..
٢ الاستنباط: استخراج الماء من باطن الأرض. ومن المجاز: استنبط الرأي الصحيح: استخرجه ببحثه وفكره كمن يستخرج ماء من البئر. يقول تعالى:﴿ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم..(٨٣)﴾[النساء].
٣ تمحيص الشيء: اختباره وفحصه بدقة. [المعجم الوسيط] بتصرف.
وقال تعالى:﴿وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين(١٤١)﴾[آل عمران]. أي: يطهرهم ويخلصهم من العيوب ومن المنافقين ويقضي على الكافرين. وقال تعالى:﴿وليمحص ما في قلوبكم..(١٥٤)﴾[آل عمران] أي: يطهر الإيمان الذي في قلوبهم من الوساوس والشكوك.[القاموس القويم]..

٤ الشكر: مقابلة النعمة بالقول والفعل والنية، فيثنى على المنعم بلسانه، ويذيب نفسه في طاعته ويعتقد أنه موليها..
٥ طفرات: جمع طفرة، وهي وثبة في ارتفاع. وقد طفر يطفر: وثب في ارتفاع.[انظر لسان العرب]..
٦ نذير: الرسول المنذر بالعذاب. وأنذره: حذره، وانذره شيئا: اعلمه إياه وعرفه به وبما يترتب عليه من ضرر في مدة تكفي للتحفظ منه. أي: خوفه منه ليبتعد عنه. قال تعالى:﴿إنا أنذرناكم عذابا قريبا..(٤٠)﴾[النبأ] وقال تعالى:﴿ولقد أنذرهم بطشتنا..(٣٦)﴾[القمر]. وقال تعالى:﴿قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين(٤٩)﴾[الحج].[القاموس القويم ٢/٢٥٨] بتصرف..
والآية توضّح مسألة إرسال نوح عليه السلام كرسول لقومه، وعلى نوح الرسول أن يمارس مهمته وهي البلاغ، فيقول :﴿ .. إني لكم نذير مبين( ٢٥ ) ﴾[ هود ]. ونحن نلحظ أن همزة ( إن ) في إحدى قراءتي الآية تكون مكسورة، وفي قراءة أخرى تكون مفتوحة( ١ )، أما في القراءة بالكسر فتعني أن نوحا عليه السلام قد جاء بالرسالة فبلغ قومه وقال :﴿ .. إني لكم نذير مبين( ٢٥ ) ﴾[ هود ]، وأما في القراءة الأخرى بالفتح فتعني أن الرسالة هي :﴿ إني لكم نذير مبين( ٢٥ ) ﴾[ هود ].
فكأن القراءة الأولى تعني الرواية عن قصة البلاغ، والقراءة الثانية تحدد مضمون الرسالة :﴿ .. إني لكم نذير مبين( ٢٥ ) ﴾[ هود ].
والقراءة الأولى فيها حذف القول، وحذف القول كثير في القرآن، مثل قوله تعالى :﴿ والملائكة يدخلون عليهم( ٢ ) من كل باب( ٢٣ ) سلام عليكم بما صبرتم.. ( ٢٤ ) ﴾[ الرعد ].
وهذا يعني أن الملائكة يدخلون على المؤمنين في الجنة من كل باب( ٣ )، وساعة الدخول يقول الملائكة :﴿ سلام عليكم بما صبرتم.. ( ٢٤ ) ﴾[ الرعد ]، وقول نوح عليه السلام :﴿ .. إني لكم نذير مبين( ٢٥ ) ﴾[ هود ] : نعلم منه أن النذير-كما قلنا من قبل-هو من يخبر بشرّ لم يأت وقته بعد، وحتى يستعد السامع لملاقاته، وما دام نبي الله نوحا قد جاء نذيرا، فالسياق مستمر ؛ لأن الحق سبحانه قال في الآية التي قبلها :﴿ مثل الفريقين.. ( ٢٤ ) ﴾[ هود ] : أي : أن هناك فريقا عاصيا وكافرا وله نذير، أما الفريق الآخر فله بشير، بخير قادم ليستعد السامع أيضا لاستقباله بنفس مطمئنة.
والفريق الكافر الذي يستحق الإنذار، يأتي لهم الحق سبحانه بنص الإنذار في قوله تعالى :
﴿ أن لا تعبدوا إلا الله( ٤ ) إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم( ٢٦ ) ﴾ :
١ قراءة الفتح قراها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي. قاله القرطبي في تفسيره (٤/٣٣٤٠) أي: أرسلناه بأني لكم نذير مبين..
٢ الضمير في (عليهم) عائد على أولي الألباب الذين وصفهم ربهم بصفات استحقوا بها دخول جنات عدن. قال تعالى:﴿أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب(١٩) الذين يوفون بعهد الله ولا ينقون الميثاق(٢٠) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب(٢١) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار(٢٢)﴾[الرعد]..
٣ للجنة أبواب، عدها بعض العلماء ثمانية أبواب، اتسدلالا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ-أو فيسبغ الوضوء-ثم يقول: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" أخرجه مسلم في صحيحه (٢٣٤) من حديث عقبة بن عامر..
٤ وذلك أنهم كانوا يعبدون مع الله سبحانه أصناما، وهي التي ورد ذكرها في سورة نوح-آية ٢٣ ﴿وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (٢٣)﴾[نوح] وهم أسماء رجال صالحين، لما ماتوا عمل الناس على هيئتهم أصناما تذكرهم بأعمالهم، ثم تقادم الزمن فأصبحوا يعبدونها من دون الله.[انظر: تفسير ابن كثير ٤/٤٢٦]..
ونحن نعلم أن نوحا عليه السلام محسوب على قومه، وهم محسوبون عليه ؛ ولذلك نجده خائفا عليهم ؛ لأن الرباط الذي يربطه بهم رباط جامع قوي.
وكذلك نجد الحق سبحانه يحنّن قلوب المرسل إليهم لعلهم يحسنون استقبال الرسول.
ومثال ذلك : قول الحق سبحانه :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا.. ( ٦٥ ) ﴾[ الأعراف ] : ولأن الرسول أخ لهم فلن يغشّهم أو يخدعهم.
واستقبل الملأ من قوم نوح الأمر بما يقوله الحق سبحانه عنهم :{ فقال الملأ ( ١ ) كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا
بادي الرأي( ٢ ) وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين( ٢٧ ) } :
١ الملأ: أشراف القوم أو جميعهم..
٢ الذين هم أراذلنا: أي: أفقرنا وأحقر الناس في نظرنا.
بادي الرأي: ظاهره الذي لا روية فيه، أي: رأي سطحي غير متعمق.
وقرىء "بادىء الرأي": أي: بدء الرأي وأوله من غير روية أيضا[القاموس القويم]..

والملأ-كما نعلم-هم وجوه القوم، وهم السادة الذين يملأون العيون مهابة، ويتصدون أي مجلس.
وهناك مثل شعبي في بلادنا يوضح ذلك المعنى حين يقول :" فلان يملأ العين ".
أي : أن العين حين تنظر إليه لا تكون فارغة، فلا جزء في العين يرى غيره.
ويقال أيضا :" فلان قيد النواظر " أي : أنه إذا ظهر تقيّدت به كل النواظر، فلا تلتفت إلى سواه، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كانت فيه مزايا تجذب العيون إليه بحيث لا تتحول عنه.
والمراد بذلك هو الحاشية المقربة، أو الدائرة الأولى التي حول المركز، فحول كل مركز هناك دوائر، والملأ هم الدائرة الأولى، ثم تليهم دائرة ثانية، ثم ثالثة وهكذا، والارتباك إنما ينشأ حين يكون للدائرة أكثر من مركز، فتتشتت الدوائر.
وردّ الذين يكوّنون الملأ على سيدنا نوح قائلين :﴿ ما نراك إلا بشرا مثلنا.. ( ٢٧ ) ﴾[ هود ] : أي : أنه لا توجد لك ميزة تجعلك متفوقا علينا، فما الذي سوّدك( ١ ) علينا لتكون أنت الرسول ؟
وقولهم هذا دليل غباء ؛ لأن الرسول ما دام قد جاء من البشر، فسلوكه يكون أسوة، وقوله يصلح للإتباع، ولو كان الرسول من غير البشر لكان من حق القوم أن يعترضوا ؛ لأنهم لن يستطيعوا اتخاذ الملاك( ٢ ) أسوة لهم.
ولذلك بيّن الحق سبحانه هذه المسألة في قوله تعالى :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا( ٩٤ ) ﴾[ الإسراء ].
وجاء الرد منه سبحانه بأن قل لهم :﴿ .. لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا( ٩٥ ) ﴾[ الإسراء ] : إذن " فالرسول إنما يجيء مبلّغ منهج وأسوة( ٣ ) سلوك، فإذا لم يكن من جنس البشر، فالأسوة لن تصلح، ولن يستطيع إلا البلاغ فقط.
ومثال ذلك : أنت حين ترى الأسد في أي حديقة من حدائق الحيوان، يصول ويجول، ويأكل النّيئ المقدم له من الحارس، أتحدثك نفسك أن تفعل مثله ؟.. طبعا لا، لكنك إن رأيت فارسا على جواد ومعه سيفه، فنفسك قد تحدثك أن تكون مثله.
وهكذا نجد أن الأسوة تتطلب اتحاد الجنس ؛ ولذلك قلنا : إن الأسوة هي الدليل على إبطال من يدّعي الألوهية لعزير( ٤ ) أو لعيسى عليهما السلام.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان الملأ الكافر من قوم نوح :
﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا.. ( ٢٧ ) ﴾[ هود ] : والأراذل( ٥ ) جمع " أرذل "، مثل قولنا :" أفاضل قوم "، وهي جمع " أفضل "، والأرذل هو الخسيس الدانىء في أعين الناس. ورذال المال أي : رديئه. ورذل كل شيء هو نفايته.
ونرى في الريف أثناء مواسم جمع " القطن " عملية " فرز " القطن، يقوم بها صغار البنين والبنات، فيفصلون القطن النظيف، عن اللوز الذي لم يتفتح بالشكل المناسب ؛ لأن اللوزة المصابة عادة ما تعاني من ضمور، ولم تنضج النضج الصحيح.
وكذلك يفعل الفلاحون في موسم جمع " البلح "، فيفصلون البلح الجيد عن البلح المعيب. إذن : فرذال كل شيء هو نفايته.
وقد قال الملأ من الكفار من قوم نوح :﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا.. ( ٢٧ ) ﴾[ هود ] : أي : أنهم وصفوا من آمنوا بنوح عليه السلام بأنهم نفاية المجتمع.
وجاء الحق على ألسنتهم بقولهم في موضع آخر :﴿ .. واتبعك الأرذلون( ١١١ ) ﴾[ الشعراء ] : ولم ينف نوح عليه السلام ذلك ؛ لأن الذين اتبعوه قد يكونون من الضعاف، وهم ضحايا الإفساد ؛ لأن القوي في المجتمع لا يقربه أحد ؛ ولذلك فإنه لا يعاني من ضغوط المفسدين، أما الضعاف فهم الذين يعانون من المفسدين ؛ فما إن ظهر المخلّص لهم من المفسدين فلا بد أن يتمسكوا به.
ولكن ذلك لا يعني أن الإيمان لا يلمس قلوب الأقوياء، بدليل أن البعض من سادة وأغنياء مكة استجابوا للدعوة المحمدية مثل : أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم.
ولكن الغالب في دعوات الإصلاح أنه يستجيب لها المطحونون بالفساد، هؤلاء الذين يشعرون بالغليان في مراجل( ٦ ) الألم بسبب الفساد، وما إن يظهر داعية إلى الإصلاح ويريد أن يزحزح الفساد، فيلتفّون حوله ويتعاطفون معه، وإن كانوا غير عبيد، لكن محكومين بالغير، فهم يؤمنون علنا برجل الإصلاح، وإن كانوا عبيدا مملوكين للسادة ؛ فهم يؤمنون خفية، ويحتمل القوي منهم الاضطهاد والتعذيب.
إذن : فكل رسول يأتي إنما يأتي في زمن فساد، وهذا الفساد ينتفع به بعض الناس ؛ وطغيان يعاني منه الكثيرون الواقع عليهم الفساد والطغيان.
ويأتي الرسول وكأنه ثورة على الطغيان والفساد ؛ لذلك يتمسك به الضعفاء ويفرحون به، وتلتف قلوبهم حوله.
أما المنتفعون بالفساد فيقولون : إن أتباعك هم أراذلنا. وكأن هذا القول طعن في الرسول، لكنهم أغبياء ؛ لأن هذا القول دليل على ضرورة مجيء الرسول ؛ ليخلص هؤلاء الضعاف، ويجيء الرسول ليقود غضبة على فساد الأرض، ولينهي هذا الفساد.
وهي غضبة تختلف عن غضبة الثائر العادي من الناس، فالثائر من الناس يرى من يصفق له من المطحونين بالفساد.
لكن آفة( ٧ ) الثائر من البشر شيء واحد، هي أنه يريد أن يستمر ثائرا، ولكن الثائر الحق هو الذي يثور ليهدم الفساد، ثم يهدأ ليبني الأمجاد، فلا يسلط السيف على الكل، ولا يفضّل قوما على قوم، ولا يدلل من طغى عليهم، ويظلم من طغوا.
بل عليه أن يحكم بين الناس بالعدل والرحمة ؛ لتستقيم الأمور، وتذهب الأحقاد، ويعلم الناس كلهم أن الثائر ما جاء ضد طائفة بعينها، وإنما جاء ضد ظلم طائفة لغيرها، فإذا أخذ من الظالم وأعطى المظلوم ؛ فليجعل الاثنين سواء أمام عينيه.
ومن هنا يجيء الهدوء والاستقرار في المجتمع.
إذن : فقد كان قول الكافرين من ملأ قوم نوح :﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا.. ( ٢٧ ) ﴾[ هود ] : هو قول يؤكد وجود الفساد في هذا المجتمع، وأن الضعاف المطحونين من الفساد قد اتبعوا نوحا عليه السلام.
ويقول الحق سبحانه :﴿ بادئ الرأي.. ( ٢٧ ) ﴾[ هود ] : والبادي هو الظاهر ؛ ضد المستتر.
وهناك قراءة أخرى( ٨ ) هي ﴿ بادئ الرأي.. ﴾ : أي : بعد بدء الرأي.
والآية هنا تقول :﴿ بادي الرأي.. ( ٢٧ ) ﴾[ هود ] : أي : ظاهر الأمر، فساعة ما يلقى إلى الإنسان أيّ شيء فهو ينظر له نظرة سطحية، ثم يفكر بإمعان في هذا الشيء.
وساعة يسمع الإنسان دعوى أو قضية، فعليه ألا يحكم عليها بظاهر الأمر، بل لا بد أن يبحث القضية أو الدعوى بتروّ وهدوء.
وهم قد قالوا لنوح عليه السلام : أنت بشر مثلنا، وقد اتبعك أراذلنا ؛ لأنهم نظروا إلى دعوتك نظرة ظاهرية، ولو تعقّبوا دعوتك وتأمّلوها ونظروا في عواقبها بتدبر لما آمنوا بها.
ويكشف الحق سبحانه هذا الغباء فيهم، فقول الملأ بأن الضعفاء كان يجب عليهم أن يتدبروا الأمر ويتمنعوا في دعوة نوح قبل الإيمان به، ينقضه إصرار الضعفاء على الإيمان ؛ لأنه يؤكد أن جوهر الحكم عندهم جوهر سليم ؛ لأن الواحد من هؤلاء الضعفاء لا يقيس الأمر بمقياس من يملك المال، ولا بمقياس من يملك الجاه، ولا بمقياس من له سيادة، بل قاس الضعيف هو هؤلاء الأمر بالقلب، الذي تعقّل وتبصّر، وباللسان الذي أعلن الإيمان ؛ لأن الإنسان بأصغريه : قلبه ولسانه( ٩ ).
إذن : فهذا الملأ الكافر من قوم نوح-عليه السلام-قد حكم بأن الضعاف أراذل بالمقاييس الهابطة، لا بالمقاييس الصحيحة.
ولو امتنع هؤلاء الذين يقال عنهم " أراذل " عن خدمة من يقال لهم " سادة " لذاق السادة الأمرّين، فهم الذين يقدّمون الخدمة، ولو لم يصنع النجار أثاث البيت لما كانت هناك بيوت مؤثثة.
ولو امتنع العمال عن الحفر والبناء لما كانت هناك قصور مشيدة.
ولو امتنع الطاهي عن طهي الطعام لما كانت هناك موائد ممتدة، وكل خدمات هؤلاء الضعاف تصب عند الغني أو صاحب المال أو صاحب الجاه.
وهكذا نرى أن الكون يحتاج إلى من يملك الثروة-ولو عن طريق الميراث-ليصرف على من يحتاجه المجتمع أيضا، وهم الضعاف الذين يعطون الخير من كدّهم وإنتاجهم.
إذن : فالضعفاء هم تتمة السيادة.
وحين نمعن النظر لوجدنا أن سيادة الثّريّ أو صاحب الجاه إنما تأتي نتيجة لمجهودات من يقال عنهم : إنهم أراذل.
ولو أنهم تخلّوا عن الثري أو صاحب الجاه، لما استطاع أن يكون سيدا.
ويذكر لنا الحق سبحانه بقية ما قاله الملأ الكافر من قوم نوح :﴿ .. وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين( ٢٧ ) ﴾[ هود ] : وهم-بهذا القول-قد أنكروا أن سيادتكم إنما نشأت بجهد من قالوا عنهم إنهم أراذل، وأنكروا فضل هؤلاء الناس.
ويلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى الآفة التي تنتاب بعض المجتمعات حين يذكر لنا ما قاله الكافرون :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين( ١٠ ) عظيم( ٣١ ) أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا( ١١ ).. ( ٣٢ ) ﴾[ الزخرف ] : إذن : فالحق سبحانه هو الذي قسم المعيشة، وآفة الحكم أن ننظر إلى المرفوع على أنه الغنى، لا، فليس المرفوع هو الغنى، بل هو كل ذي موهبة ليست في سواه.
وما دام مرفوعا في مجال فهو سيخدم غيره فيه، وغيره سيخدمونه فيما رفعوا فيه ؛ لأن المسألة أساسها التكامل.
لذلك لا يديم الله سبحانه غنى أحد أبد الدهر، بل جعل الدنيا دولا١٢ بين الناس.
إذن : فلو عرف هذا الملأ الكافر من قوم نوح- عليه السلام- معنى كلمة الفضل١٣ لما قالوها ؛ لأن الفضل هو الزائد عن المطلوب للكائن، في المحسوسات أو المعاني والفضل يقتضي وجود فاضل ومفضول.
ولينظر كل طاغية في حياته ليرى ما الفاضل فيها ؟
إنه بعض من المال أو الجاه، وكل من يخدم هذا الطاغية هم أصحاب الفضل ؛ لأن سيادة الطاغية مبنية على عطائهم.
فهم أصحاب الفضل، مادام الفضل هو الأمر الزائد عن الضروري.
إذن : فحقيقة ارتباط العالم بعضه ببعض، هو ارتباط الحاجة لا ارتباط السيطرة، ولذلك حين نرى مسيطرا يطغى، فنحن نقول له : تعقل الأمر ؛ لأنك ما سيطرت إلا بأناس من الأراذل، فإظهار قوته تكون بمن يجيدون تصويب السلاح، أو بمن تدربوا على إيذاء البشر، فهو يبنى سيادته ببعض الأرذال، كوسائل لتحقيق سيطرته.
وقول الكافر من ملأ نوح – عليه السلام- :﴿ وما نرى لكم علينا من فضل... ( ٢٧ ) ﴾[ هود ] : يكشف أنهم قد فهموا الفضل على أنه الغنى، والجاه والمناصب، وهم قد أخطأوا الفهم. وينهى الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ .. بل نظنكم كاذبين ( ٢٧ ) ﴾[ هود ] : والظن١٤ هو الراجح، والمرجوح هو الهم ؛ وهذا يثبت أن في الإنسان فطرة تستيقظ في النفس كومضات، فالمتكبر يمضي في كبره إلى أن تأتي له ومضة من فطرته، فيعرف أن الحق حق، وأن الباطل باطل.
وحين جاءت هذه الومضة في نفوس هذا الملأ الكافر، قالوا :﴿ .. بل نظنكم كاذبين ( ٢٧ ) ﴾[ هود ]. ولم يقولوا : " نعتقد أنكم كاذبون ".
١ سودك علينا: جعل لك السيادة والرياسة علينا فتأمرنا وتنهانا..
٢ إذ كيف يتخذون الملاك أسوة لهم، وهو من جنس غير جنسهم. وله أحكام وقدرات تختلف عن قدراتهم، فلا يصلح الاحتجاج بأفعال الملائكة على غيرهم من الأجناس. ولذلك عندما قال مشركو مكة:﴿.. لولا أنزل عليه ملك﴾وقيل:﴿ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون(٨) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون(٩)﴾[الأنعام].[بتصرف من تفسير ابن كثير ٢/١٢٤]..
٣ الأسوة: القدرة. والمراد بها هنا: القدرة الحسنة التي ينبغي على الجميع الاقتداء بها. قال تعالى:﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة..(٢١)﴾[الأحزاب]..
٤ عزير: هو رجل صالح من بني إسرائيل جعله اليهود ابنا لله وعبدوه لعلمه بالتوراة وحفظه لها كما في الكتب حرفا بحرف [القاموس القومي ٢/١٨]، و[تفسير ابن كثير ٢/٣٤٨]، وهو الذي ورد في ذكره في سورة البقرة في قوله تعالى:﴿أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال إني يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر على حمارك ولنجعلنك آية للناس وأنظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير(٢٥٩)﴾[البقرة].
٥ رذل الشيء، رذالة ورذلة: صار خسيسا رديئا، فهو رذل.
والأرذل: اسم تفضيل يفيد المبالغة في الصفة. وقال تعالى في سورة النحل:﴿ومنكم من يرد إلى أرذل العمر..(٧٠)﴾[النحل] أي: إلى الهرم والعجز. وقال تعالى:﴿قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون(١١١)﴾[الشعراء]، أي: أخس الناس، في نظرنا. وقال تعالى:﴿الذين هم أراذلنا..(٢٧)﴾[هود]. أي: أفقرنا وأحقر الناس في نظرنا.[القاموس القويم]..

٦ المراجل: جمع مرجل، وهو كل ما طبخ فيه من قدر وغيرها. وقيل: هو القدر المصنوع من النحاس خاصة.[انظر: اللسان، مادة: رجل]..
٧ آفة الشيء: الخطأ الذي فيه، أو نقصه، أو عيبه.[راجع: لسان العرب-مادة أوف]..
٨ قال القرطبي في تفسيره (٤/٣٣٤٢):"يجوز أن يكون "بادي الرأي" من بدأ يبدأ وحذف الهمزة. وحقق أبو عمرو الهمزة فقرأ "بادي الرأي" أي أول الرأي، أي: اتبعوك حين ابتدءوا ينظرون، ولو أمعنوا النظر والفكر لم يتبعوك، ولا يختلف المعنى ها هنا بالهمز وترك الهمز"..
٩ هذا من أمثال العرب: المرء بأصغريه، وأصغراه قلبه ولسانه. قال ابن منظور في لسان العرب:"معناه: أن المرء يعلوا الأمور، ويضبطها بجنانه ولسانه"..
١٠ المقصود بالقريتين: مكة والطائف. وقد اختلف العلماء في المقصود بالرجلين، ذكر ابن كثير هذا الاختلاف، ثم قال:"الظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان" تفسير ابن كثير (٤/١٢٧)..
١١ سخريا: أي: يسخر بعضهم بعضا في الأعمال لاحتياج هذا إلى هذا وهذا إلى هذا. قاله السدي وغيره.(تفسير ابن كثير (٤/١٢٧) ونقل ابن منظر في اللسان:"سخريا: عبيدا وإماء وأجراء".
راجعه على الأصل وخرج أحاديثه صاحب الفضيلة الشيخ/محمد السنراوي المستشار بالأزهر والأستاذ/عادل أبو المعاطي..

١٢ - الدولة: اسم للشيء الذي يتداول، والدولة: الفعل والانتقال من حال إلى حال [بتصرف من لسان العرب- مادة: دول]..
١٣ - فالفضل بمفهوم الكفرة يخالف الفضل في مفهوم المؤمن: فالفضل عند الكافر هو المال والسلطان، وفي مفهوم المؤمن هو الاصطفاء والعطاءات والهبات الإلهية التي يصطفي الله سبحانه بها الرسل والأنبياء والمخلصين من عباده..
١٤ - الظن: ما يحصل في النفس عن أمارة، فهو شك راجح، وفعله من أفعال الرجحان. والظن: مصدر، والظن: اسم لهذا الخاطر الذي يحصل في النفس. قال تعالى: ﴿.. إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا (٢٨)﴾ [النجم] وجمعه: ظنون. وقال تعالى: ﴿.. وتظنون بالله الظنونا(١٠)﴾ [الأحزاب] الظنونا بألف في الوصل، وفي الوقف، وبغير ألف قراءة [القاموس القويم]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة١ من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ( ٢٨ ) ﴾ :
وقول نوح عليه السلام :﴿ أرأيتم ﴾ أي : أخبروني إن كنت على بينة موهوبة من الله تعالى ونور وبصيرة وفطرة بالهداية، وآتاني الحق سبحانه :﴿ رحمة ﴾ أي : رسالة، بينما خفيت هذه المسألة عنكم، فهل أجبركم على ذلك ؟ لا ؛ لأن الإيمان لا بد أن يأتي طواعية بعد إقناع ملموس، وانفعال مانوس، واختيار بيقين٢.
وحين ننظر في قوله :﴿ .. أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ( ٢٨ ) ﴾[ هود ] :
نجد الهمزة الاستفهامية ثم الفعل " نلزم " ثم كاف المخاطبة، وهنا نكون أمام استفهام، وفعل، وفاعل مطمور في الفعل، ومفعول أول هو كاف المخاطبة، ومفعول ثان هو الرحمة.
إذن فلا إلزام من الرسول لقومه بأن يؤمنوا ؛ لأن الإيمان يحتاج إلى قلوب٣، لا قوالب، وإكراه القوالب لا يزرع الإيمان في القلوب.
والحق سبحانه يريد من خلقه قلوبا تخشع، لا قوالب تخضع، ولو شاء سبحانه لأرغمهم وأخضعهم٤ كما أخضع الكون كله له، فهو سبحانه القائل :﴿ أأنتم أشد خلقا أم السماء... ( ٢٧ ) ﴾[ النازعات ] : فالحق سبحانه وتعالى أخضع السماء والشمس والقمر٥، وكل الكون، وهو سبحانه يقول لنا :﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.. ( ٥٧ ) ﴾ [ غافر ] : والكون كله يخضع لمشيئة الله سبحانه وتعالى.
وقد خلق الحق سبحانه الملائكة وهم جنس أعلى من البشر، وقال سبحانه عنهم :
﴿ .. لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( ٦ ) ﴾ [ التحريم ] :
إذن : فالحق سبحانه وتعالى لو أراد قوالب لأخضع الخلق كلهم لعبادته، ولكنه سبحانه وتعالى يريد قلوبا تخشع ؛ ولذلك يقول تبارك وتعالى :﴿ لعلك باخع٦ نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( ٣ ) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( ٤ ) ﴾ [ الشعراء ] : وهكذا نعلم أن الحق سبحانه منزه عن رغبة إخضاع القوالب البشرية، بل شاء سبحانه أن يجعل الإنسان مختارا ؛ ولذلك لا يكره الله سبحانه أحدا على الإيمان.
والدين لا يكون بالإكراه، بل بالطواعية والرضا.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل :( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي٧.. ( ٢٥٦ ) }[ البقرة ] : وهكذا يطلب الحق سبحانه من الخلق أن يعرضوا أمر الإيمان على العقل، فالعقل بالإدراك ينفعل متعجبا لإبداع المبدع، وعند الإعجاب ينزع إلى اختيار بيقين المؤمن.
يقول الحق :﴿ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ( ١٩٠ ) ﴾ [ آل عمران ].
والإكراه إنما يكون على أمر غير متبين، أما الدين فأمر يتبين فيه الرشد ؛ لأن المنهج حين يطلب منك ألا تسرق غيرك، فهو يضمن لك ألا يسرقك الغير، وحين يأمرك ألا تنظر إلى محارم غيرك، فهو يحمي محارمك، وحين يأمرك ألا تغتاب أحدا، وألا تحقد على أحد، ففي هذا كله راحة للإنسان.
إذن : فما يطلبه المنهج هو كل أمر مريح للإنسان، وأنت إن نظرت في مطلوبات المنهج فلن تجدها مطلوبة منك وحدك، ولكن مطلوبة من الناس لك أيضا. وهو تبادل مراد من الله لإعمار الكون أخذا وعطاء.
ولذلك لا يحتاج مثل هذا الرشد إلى إكراه عليه، بل تجد فيه البينة واضحة فاصلة بينه وبين الغي.
والآفة أن بعضا من الناس يستخدمون هذه الآية في غير موضعها، فحين تطلب من مسلم أن يصلي تجده يقول لك :﴿ لا إكراه في الدين... ( ٢٥٦ ) ﴾[ البقرة ] :
ولك أن تقول له : لا إكراه في الحمل على الدين والإيمان به، لكنك إذا آمنت بالدين فإياك أن تكسره، بتعطيل منهجه أو الإعراض عنه.
ولذلك يشدد الحق سبحانه عقوبة الخروج من الدين ؛ لأن الحق سبحانه لم يكره أحدا على الدخول في الدين، بل للإنسان أن يفكر ويتدبر ؛ لأنه إن دخل في الدين وارتكب ذنبا فسيلقى عقاب الذنب ؛ لأنه دخل برغبته واختاره بيقينه، فالمخالفة لها عقابها إذن : فالدخول إلى الإيمان لا إكراه فيه، ولكن الخروج من الدين يقتضي إقامة الحد على المرتد٨ ومعاقبة العاصي على عصيانه.
وعندما يعلم الجميع هذا الأمر فهم يعلمون أن الحق سبحانه وتعالى قد جعل الصعوبة في الدخول إلى الدين عن طريق تصعيب آثار الخروج منه.
١ - البينة: الحجة الواضحة الموضحة للحق: والبينة: الظاهرة الواضحة التي لا شك فيها، أو هي مبينة للحق مؤيدة له، مظهرة لأمره. قال تعالى: ﴿كم آتيناهم من آية بينة...(٢١١)﴾ [البقرة]. [القاموس القويم] بتصرف..
٢ - يقول الحق سبحانه: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق...(٥٣)﴾ [فصلت]..
٣ - القلوب لها حكومة خاصة، يقو ل الحق: ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (٢٤)﴾ [محمد] ويقول: ﴿الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم.. (٢)﴾ [الأنفال] فإيمان القلوب إيمان العابدين، وإيمان القوالب إيمان المكرهين والمرائين والمنافقين، وهناك فرق بين قبول اليقين ومنطق المكرهين..
٤ - ورب العزة سبحانه يقول: ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين(٩٩)﴾ [يونس]، ويقول أيضا: ﴿.. ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين (٣٥)﴾ [الأنعام]..
٥ - يقول الحق: ﴿الشمس والقمر بحسبان (٥) والنجم والشجر يسجدان (٦) والسماء رفعها ووضع الميزان (٧)﴾ الرحمان] ويقول الحق: ﴿تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (٤٤)﴾ [الإسراء]..
٦ - بخع نفسه، بخعا وبخوعا: قتلها هما وغيظا وحزنا. وقال تعالى: ﴿فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنون بهذا الحديث آسفا (٦)﴾ [الكهف]..
٧ - الغي: الضلال والانهماك في الجهل..
٨ - حد المرتد في شريعة الإسلام هو القتل، فقد روى البخاري في صحيحه (١٢/٢٦٧- فتح) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه)، وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس) أخرجه مسلم في صحيحه (١٦٧٦).
ولكن يجب أن ينتبه إلى أنه لا يحكم بارتداد أحد إلا بعد صدور ما يدل على كفره دلالة قطعية لا تحتمل التأويل، حتى نسب إلى الإمام مالك أنه قال: (من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها ويحتمل الإيمان من وجه، حمل أمره على الإيمان).
ولا يطبق حد الردة إلا بعد الاستتابة لمدة ثلاثة أيام..

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان نوح عليه السلام :﴿ ويا قوم لا أسألكم عليه١ مالا إن٢ أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ﴾ :
ومثل هذا القول بمعناه جاء مع كل رسول، ففي مواضع أخرى يقول الحق سبحانه :﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا... ( ٩٠ ) ﴾[ الأنعام ] : لأن العوض في التبادل قد لا يكون مالا، بل قد يكون تمرا، أو شعيرا أو قطنا أو غير ذلك، والأجر-كما نعلم- هو أعم من أن يكون مالا أو غير مال ؛ لذلك يقول الحق سبحانه هنا :﴿ لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله... ( ٢٩ ) ﴾[ هود ] : وهكذا نجد أن الحق سبحانه قد أغلى الأمر.
وقول الرسول :﴿ إن أجري٣ إلا على الله... ( ٢٩ ) ﴾ [ هود ] : هو قول يدل على أن الأمر الذي جاء به الرسول هو أمر نافع ؛ لأن الأجرة لا تستحق إلا مقابل المنفعة.
ونحن نعلم أن مبادلة الشيء بعينه أو ما يساويه ؛ تسمى شراء، أما أن يأخذ الإنسان المنفعة من العين، وتظل العين ملكا لصاحبها، فمن يأخذ هذه المنفعة يدفع عنها إيجارا، فكأن نوحا عليه السلام يقول : لقد كنت أستحق أجرا لأنني أقدم لكم منفعة، لكنني لن آخذ منكم شيئا، لا زهدا في الأجر، ولكني أطمع في الأجر ممن هو أفضل منكم وأعظم وأكبر.
ولأن هذا الملأ الكافر قد وصف من اتبع نوحا بأنهم أراذل٤ ؛ لذلك يأتي الرد من نوح عليه السلام :﴿ وما أنا بطارد الذين آمنوا... ( ٢٩ ) ﴾[ هود ] : ويوضح هذا الرد ان نوحا عليه السلام لا يمكن أن يطرد إنسانا من حظيرة الإيمان لأنه فقير، فاليقين الإيماني لا علاقة له بالثروة أو الجاه أو الفقر والحاجة. ولا يخلى رسول مكانا من أتباعه الفقراء ليأتي الأغنياء، بل الكل سواسية أمام الله سبحانه وتعالى.
والحق سبحانه يقول :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي٥ يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين٦ ( ٥٢ ) ﴾[ الأنعام ] : وقد جعل الحق سبحانه هؤلاء الذين يطلق عليهم كلمة " أراذل " فتنة، فمن تكبر بسبب فقر وضعف أتباع الرسل، فليغرق في كبره.
لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وكذلك فتنا٧ بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ٨ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين( ٥٣ ) ﴾[ الأنعام ].
وأيضا يأمر الحق سبحانه رسوله بأن يضع عينه على هؤلاء الضعاف، وألا يصرف عنهم أو عن أي واحد منهم، فيقول الحق سبحانه :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد٩ عيناك عنهم.. ( ٢٨ ) ﴾[ الكهف ] : جاء هذا القول حتى لا ينشأ فساد أو عداء بين المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقال : " فلان مقرب منه " ؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس ؛ يوزع نظره على كل جلسائه، حتى يظن كل جالس أن نظره لا يتحول عنه.
وفي هذه الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان سيدنا نوح-عليه السلام- وصفا لهؤلاء الضعاف الذين آمنوا :
﴿ إنهم ملاقوا ربهم.. ( ٢٩ ) ﴾[ هود ] : وفي هذا بيان أن نوحا –عليه السلام- لن يطرد هؤلاء الضعاف المؤمنين، فلو طردهم وهم الذين سيلقون الله تعالى، أيسمح نوح عليه السلام أن يقال عنه أمام الحق-تبارك وتعالى- إنه قد طرد قوما آمنوا برسالته ؟ طبعا لا.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه يحاسب رسله، والمرسل إليهم، فهو سبحانه القائل :
﴿ فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين١٠( ٦ ) ﴾[ الأعراف ] : إذن : فنوح –عليه السلام- يعلم أنه مسؤول أمام ربه، ولكن هذا الملأ الكافر من قومه يجهلون ؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في نهاية هذه الآية الكريمة على لسان نوح عليه السلام :﴿ ... ولكني أراكم قوما تجهلون ( ٢٩ ) ﴾ [ هود ] : أي : أنهم لا يفهمون مهمة نوح عليه السلام، وأنه مسؤول أمام ربه.
١ - أي: لا أسألكم على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله والإيمان به مالا أو غيره..
٢ -إن- هنا- نافية، بمعنى: "ما" أو "ليس" أي: ما اجري إلا على الله..
٣ - آجره يؤجره إيجارا: أجر من فلان الدار وغيرها: اكتراها منه، وآجره يؤاجره مؤاجرة استأجره اتخذه أجيرا والإجارة: الأجر على العمل: عقد تمليك نفع مقصود من العين بعوض، والأجرة عوض العمل والانتفاع، والأجر الذي يكفي العامل للعيش والأجر الحقيقي القوة الشرائية للنقد الذي يحصل عليه العامل والأجرة: الأجر. والأجير من يعمل بأجر وأعظم الأجر عطاء الله "المعجم الوجيز" بتصرف..
٤ - - والأراذل جمع رذل، وقيل: الواحد أرذل والجمع أراذل، وقد غلبت عليه الاسمية وإن كان وصفا [التبيان في إعراب القرآن]..
٥ - أي: نهارا وليلا. والمراد أنهم دائمو الدعاء لله رب العالمين.
٦ -نزلت هذه الآية في بضعة نفر من فقراء وضعفاء المسلمين منهم: ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال. فقد قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهؤلاء فاطردهم، فدخل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل، فأنزل الله تعالى الآية. أخرجه النيسابوري في أسباب النزول (ص ١٢٤)..
٧ - فتنا: اختبرنا، والفتنة: الاختبار بالنار، واستعيرت لكل اختبار شديد. وقال تعالى: ﴿ما أنتم عليه بفاتنين(١٦٢)﴾ [الصافات]..
٨ - منّ عليه: أنعم عليه وأحسن إليه. وقال تعالى: ﴿لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم...(١٦٤)﴾ [آل عمران] [القاموس القويم]..
٩ - عدت عينه عنه: تجاوزته وأهملت النظر إليه واستحسنت غيره، كناية عن الإعراض وعدم الاهتمام قال تعالى: ﴿ولا تعد عيناك عنهم...(٢٨)﴾ [الكهف] أي: لا تتركهم ولا تهملهم. [القاموس القويم]..
١٠ - قوله تعالى: ﴿فلنسلن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين (٦)﴾ [الأعراف] كقوله: ﴿ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين(٦٥)﴾ [القصص] وكقوله: ﴿ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب(١٠٩)﴾ [المائدة] فيسأل الله عن الاستجابة للرسل، ويسأل الرسل عن البلاغ.
ومن النص القرآني نأخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) [ابن كثير بتصرف ص ٢٠٦ جـ ٢]..

ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتم أفلا تذكرون ( ٣٠ ) ﴾ :
وهنا يوضح نوح عليه السلام أنه لا يقدر على مواجهة الله إن طرد هؤلاء الضعاف ؛ لأن أحدا لن ينصر نوحا على الله- عز وجل- لحظة الحساب، فهناك يوم لا ملك فيه لأحد إلا الله، ولا أحد يشفع إلا بإذنه سبحانه، ولا أحد بقادر على أن ينصر أحدا على الله تعالى ؛ لأنه القاهر فوق كل خلقه.
والنصر- كما نعلم- يكون بالغلبة، أما الشفاعة فهي بالخضوع، والحق سبحانه لا يأذن لأحد أن يشفع في طرد مؤمن من حظيرة الإيمان.
وفي هذا القول تذكير من نوح عليه السلام لقومه ؛ ولذلك قال الحق سبحانه :
﴿ ... أفلا تذكرون ( ٣٠ ) ﴾ [ هود ] : أي : يجب ألا تأخذكم الغفلة، وتنسيكم ما يجب أن تتذكروه.
وكما جاء الحق سبحانه بالتذكر، وهو الأمر الذي بدوامه يبعد الإنسان الغفلة، جاء الحق سبحانه أيضا بالتفكر، وهو التأمل لاستنباط شيء جديد عن طريق إعمال العقل بالتفكر، الذي يجعل الإنسان في تأمل يقوده إلى تقديس وتنزيه الخالق، وبهذا يصل الإنسان إلى الحقائق التي تكشف له معالم الطريق.
وجاء الحق- سبحانه- أيضا بالتدبر، أي : ألا يأخذ الإنسان الأمور بظواهرها، أو أن ينخدع بتلك الظواهر١، بل لا بد من البحث في حقائق الأشياء.
لذلك يقول الحق جل وعلا :﴿ أفلا يتدبرون٢ القرآن... ( ٨٢ ) ﴾[ النساء ] : أي : أفلا يبحثون عن الكنوز الموجودة في المعطيات الخلفية للقرآن.
والتدبر هو الذي يكشف المعاني الخفية خلف ظواهر الآيات، والناس يتفاضلون في تعرضهم لأسرار كتاب الله حين ينظرون خلف ظواهر المعاني.
ولذلك نجد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : " ثوروا القرآن " ٣ أي : قلبوا معاني الآيات لتجدوا ما فيها من كنوز، ولا تأخذوا الآيات بظواهرها، فعجائب القرآن لا تنقضي.
١ - وقد قال عز وجل: ﴿وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون (٦) يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (٧)﴾ [الروم] وقد كان هذا تعقيبا منه سبحانه لقصة الروم وأنهم سيتنصرون على الفرس في بضع سنين، وقد استغرب الناس يومئذ ذلك، بسبب اهتمامهم بظواهر الحياة الدنيا دون النظر إلى عواقب الأمور وسير الأمم من قبل وأقدار الله في تصريف شؤون خلقه..
٢ - تدبر: تأمل في أدبار الأمور وعواقبها ونهاياتها، أو تأمل ليعرف حقائق الأمور. وقال تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (٢٤)﴾ [محمد] أي: هل عجزوا وعموا فلا يتأملون معاني القرآن ويبصرون ما فيه من حكم بالغة فيؤمنون به. وبين همزة الاستفهام وفاء العطف فعل محذوف دائما والمعنى: أعجزوا فلا يتدبرون [القاموس القويم]..
٣ - ذكره ابن منظور في اللسان (مادة: ث و ر)، قال: "وفي حديث عبد الله: أثيروا القرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين، وفي رواية: علم الأولين والآخرين. قال شمر: تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء به في تفسيره ومعانيه. وقيل: لينقر عنه ويفكر في معانيه وتفسيره وقراءته"..
ويقول الحق سبحانه وتعالى مواصلا ما جاء على لسان سيدنا نوح :﴿ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب١ ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ( ٣١ ) ﴾ :
وهكذا يسد نوح-عليه السلام- على هذا الملأ الكافر كل أسباب إعراضهم عن الإيمان، فإن ظنوا أن الإيمان يتطلب ثراء، فنوح لا يملك خزائن الله، وهو لا يملك أكثر من هذا الملأ، وإن طلبوا أن يكشف لهم الغيب، فالغيب علمه عند الله تعالى وحده.
ولم يدع نوح أنه من جنس آخر وغير البشر، إنما هو بشر مثلهم، لا يملك ما يجبرهم به على الطاعة، ثراء، أو جاها، أو علم غيب.
ولن يطرد نوح عليه السلام من آمن من الضعاف الذين تزدريهم وتحتقرهم وتتهكم عليهم عيون هذا الملأ الكافر ؛ لأن نوحا يخشى سؤال الله –عز وجل- له إن سد في وجوه الضعاف أبواب الإيمان.
ولا بد من وقفة هنا عند قول الحق سبحانه :﴿ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري٢ أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا... ( ٣١ ) ﴾ [ هود ] : ونلحظ هنا أن الخطاب قد حول إلى الغيبة٣، فلم يخاطب نوح عليه السلام الضعاف ويقول لهم : إن الله سيمنع عنكم الخير، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو العليم بما في نفوسهم، ولو قال نوح لهم مثل هذا القول لكان من الضالمين.
اللام في كلمة ﴿ للذين ﴾ تعني الحديث عن الضعاف، لا حديثا إلى الضعاف.
ومجيء " اللام " بمعنى " عن " له نظائر٤، مثل قول الحق سبحانه :﴿ ... وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين ( ٤٣ ) ﴾ [ سبأ ] : وهم هنا لا يقولون للحق، ولكنهم يقولون عن الحق، وهكذا جاءت " اللام " بمعنى " عن " ٥.
وهكذا أوضح نوح- عليه السلام- أنه لو طرد من يقال عنهم " أراذل "، لكان معنى ذلك أنه يعلم النوايا، ونوح- عليه السلام- يعلم يقينا أن الله هو الأعلم بما في النفوس ؛ لذلك لا يضع نوح نفسه في موضع الظلم لا لنفسه ولا لغيره.
١ - غاب الشيء يغيب غيبا وغيبة وغيابا وغيوبا يعد فهو غائب، والجمع غيب وغياب. والغيب كل ما غاب عنك، وجمعه غيوب وفي التنزيل: د.. علام الغيوب (١٠٩)} [المائدة] وقوله تعالى: ﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (٥٩)﴾ [الأنعام]..
٢ - تزدري: تحتقر. والازدراء: الاحتقار والانتقاص والعيب [لسان العرب].
٣ - وهذا يعرف في أساليب البلاغة بالالتفات، وهو نقل الكلام من أسلوب إلى آخر، أي: من المتكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها، بعد التعبير بالأول. (انظر الإتقان في علوم القرآن- للسيوطي) (٣/٢٥٣)..
٤ -من أمثلة اللام بمغنى "عن" أيضا، قوله تعالى: ﴿وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه...(١١)﴾ [الأحقاف] أي: عنهم وفي حقهم، لا أنهم خاطبوا به المؤمنين، وإلا لقيل: "ما سبقتمونا"..
٥ - اللام: حرف يجر الظاهر والمضمر، ويؤدي عدة معان منها: انتهاء الغاية، والملك، وشبه الملك، والدلالة على التمليك، والدلالة على شبه التمليك، والدلالة على النسب، والتعدية المجردة، والتعليل، والتوكيد المحض، والتقوية، والدلالة على القسم والتعجب معا، والدلالة على التعجب بغير قسم، والدلالة على العاقبة المنتظرة، والدلالة على التبليغ، والدلالة على التبيين، وأن تكون بمعنى "بعد"، وأن تكون بمعنى "قبل" وأن تكون بمعنى "من البيانية"، وأن تكون للمجاوزة (بمعنى: عن)، وأن تكون لتوكيد النفي، وأن تكون بمعنى "مع"، وأن تكون بمعنى "عند"... وانظر تفصيل ذلك في [النحو الوافي: [٢/٤٧٢-٤٨١)]..
يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك :
﴿ قالوا يا نوح قد جادلتنا١ فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين( ٣٢ ) ﴾ :
والجدال هو قول كلام يقابل كلاما آخر، والقصد عند كل طرف متكلم أن يزحزح الطرف الآخر عن مذهبه بحجة أو بشبهة، بهدف إسقاط المذهب.
إذن : فالجدال هو مناقشة طرفين، يتقاسمان الكلام بهدف أن يقنع أحدهما الآخر بأن ينصرف عن مذهبه هو إلى مذهب القائل.
وكلمة " الجدال " مأخوذة من " الجدْل " أي : الفتل، وفتل الحبل إنما يأتي من أخذ شعرات من الكتان أو الحرير أو أي مادة مثل هذا أو ذاك، ثم ضم شعرتين إلى بعضهما، ثم القيام بلف كل شعرتين أخريين، وهكذا حتى يتم اكتمال الحبل.
ويقال للرجل القوي : " مفتول العضلات "، أي : أن عضلاته ليست رخوة أو ضعيفة، بل مفتولة، أي : متداخلة ومشدودة.
وحين تنظر إلى الجهاز العضلي فأنت تندهش لقدرة الحق سبحانه وتعالى الذي خلق كل عضلة بشكل وأسلوب معين، يتيح لها أن تتآزر وتتعاون مع غيرها من العضلات لأداء الحركات المطلوبة منها.
فحين يرفع الإنسان رأسه فهو يحتاج لحركة أكثر من عضلة، وحين تعمل اليد فهي تحرك أكثر من عضلة، ولو تعطلت حركة عضلة واحدة، لامتنعت الحركة المقابلة لها.
وهم قد قالوا لنوح عليه السلام :﴿ قد جادلتنا فأكثرت جدالنا... ( ٣٢ ) ﴾ [ هود ] : ونحن نعلم أن نوحا عليه السلام عاش ألف عام إلا خمسين عاما، ومعنى ذلك أن جداله معهم أخذ وقتا طويلا.
والجدال يختلف عن المراء٢، لأن الجدال إنما يكون الحق، والمراء يكون بعد ظهور الحق.
الجدال –إذن- مطلوب، والحق سبحانه هو القائل :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن.. ( ١٢٥ ) ﴾ [ النحل ]، وكذلك يقول سبحانه وتعالى :{ قد سمع الله قول التي٣ تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله... ( ١ ) [ المجادلة ] : إذن : فالجدال مطلوب لنصل إلى الحق، شرط أن يكون جدلا حسنا، لا احتكاك فيه ولا إيذاء٤.
وهناك فارق بين احتكاك الآراء، وتحكك الآراء، فالتحكك كالتلكك، وهو الرغبة في عدم الوصول إلى الحق، لكن الاحتكاك هو الذي يوصل إلى الحق، مثلما نحك الزناد بقطعة من حديد فتولد الشرر لنرى الحق، أما التحكك٥ فهو يوارى ويطمس الحقيقة.
والمِراء هو الجدال بعد أن يظهر الحق، وهو مأخوذ من مرى٦ الضرع، فحين يقومون بإنزال اللبن من ضرع الناقة أو البقرة، فالضرع يكون ملآن، وينزل منه اللبن بشدة وقوة، وبعد أن ينتهي حلب الضرع، يظل من يحلبها ممسكا بحلمات الناقة أو الجاموسة، ويستحلب ما بقى من اللبن، ويقال لهذا الجزء الأخير " المريى ".
ولذلك أخذوا من هذه العملية كلمة " المراء "، وهو ما بعد ظهور الحق.
وهناك بجانب الجدال والمراء، والاحتكاك، والتحكك، الحجاج ؛ والمراد بالحجاج هو إظهار حجة الخصم على الخصم.
١ - جادل: خاصم بالحق والباطل. واستعمل في الباطل في قوله تعالى: ﴿ها انتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا...(١٠٩)﴾ [النساء] واستعمل في الحق في قوله تعالى: ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن..(١٢٥)﴾ [النحل]، وقد نهى الله سبحانه حجاج بيته الحرام عن الجدال بكل أنواعه صيانة لعلاقة المحبة بينهم، قال تعالى: ﴿فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج..(١٩٧)﴾ [البقرة]. [القاموس القويم]..
٢ - المراء: المماراة والجدال. وأصل المراء في اللغة أن يستخرج الرجل من مناظره كلاما ومعاني الخصومة وغيرها.
من: مريت الشاة إذا حلبتها واستخرجت لبنها. [انظر اللسان] والمراء والممارة يحمل معاني الشك والريبة في الأمر مما يستدعي جدالا أكثر وأعمق وأطول، وهذا منهى عنه..

٣ - هي امرأة يقال لها خولة بنت ثعلبة، اشتكت زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة: يا رسول الله، أكل مالي، وأفني شبابي ونشرت له بطني، حتى إذا كبرت سنى وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك. قالت عائشة رضي الله عنها: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: ﴿قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله...(١)﴾ [المجادلة] وزوجها هو: أوس بن الصامت. انظر تفسير ابن كثير (٤/٣١٨) وأسباب النزول للواحدي (ص ٢٣١)..
٤ - يقول تعالى: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن...(١٢٥)﴾ [النحل] أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، كقوله تعالى: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم...(٤٦)﴾ [العنكبوت] انظر: ابن كثير (٢/٥٩١)..
٥ - التحكك: التحرش والتعرض. وإنه ليتحكك بك، أي: يتعرض لشرك [اللسان- مادة: حكك]..
٦ - المريُ: مسح ضرع الناقة لتدر اللبن والمرى: الناقة تدر على من يمسح ضروعها. وقيل: هي الناقة الكثيرة اللبن. [اللسان: مادة-مرى].
وجاء في المصباح المنير: ماريته أماريه مماراة ومراء: جادلته. وتقدم القول إذا أريد بالجدال الحق أو الباطل. ويقال: ماريته إذا طعنت في قوله تزييفا للقول وتصغير للقائل، ولا يكون [المراء] إلا اعتراضا بخلاف الجدال فإنه يكون ابتداء واعتراضا، وامترى في أمر: شك فيه. بتصرف صـ ٥٧٠..

وبعد أن ملوا من جدال نوح- عليه السلام- طلبوا أن ينزل بهم العذاب الذي أنذرهم به، وقد استبطأوا مجيء هذا العذاب ؛ لأن نوحا عليه السلام عاش بينهم ألف سنة إلا خمسين، وقالوا :﴿ .. فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( ٣٢ ) ﴾ [ هود ] : وكأنهم- بهذا القول- قد أخرجوا نوحا مخرج من بيده أن يأتي بالعذاب، أو يمنع العذاب، وهذه مسألة لا يملكها نوح، بل هي ملك لله سبحانه وتعالى.
ولذلك ينبههم نوح عليه السلام. ﴿ قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين( ٣٣ ) ﴾ :
لأن الحق سبحانه هو الذي يقدر للعذاب أوانا، ويقدر لكل تعذيب ميلادا، ولا يعجل الله بعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.
وهم لن يعجزوا الله تعالى ولن يفلتوا منه ؛ لأنه لا توجد قوة في الكون يمكن أن تمنع مشيئة الله تعالى، أو أن تتأبى١ عليه.
١ - تتأبى: تتمنع وترفض الانصياع والطاعة. ورب العزة سبحانه يقول: ﴿إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (٩٣)﴾ [مريم]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان نوح عليه السلام :
﴿ ولا ينفعكم نصحي١ إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم٢ هو ربكم وإليه ترجعون ]( ٣٤ ) ﴾ :
والمعنى هنا : إن كان الله سبحانه يريد أن يغويكم فلن تنتفعوا بالنصيحة إن أردت أن أنصحكم ؛ لأن الآية بها تعدد الشرطين.
ومثال ذلك من حياتنا : حين يطرد ناظر المدرسة طالبا، عقابا له على خطأ معين، فالطالب قد يستعطف الناظر، فيقول الناظر : " إن جئتني غدا أقبل اعتذارك إن كان معك والدك ".
وقول الناظر : " إن كان معك والدك " وهو شرط متأخر، ولكنه كان يجب أن يتقدم.
وفي الآية الكريمة- التي نحن بصددها- جاء الشرط الأول متأخرا، ولكن هل يغوي الله سبحانه عباده ؟
لا، إنه سبحانه يهديهم، والغواية هي الضلال٣ والبعد عن الطريق المستقيم.
والحق سبحانه يقول عن محمد صلى الله عليه وسلم. ﴿ ما ضل صاحبكم وما غوى٤ ( ٢ ) ﴾[ النجم ].
وقال سبحانه عن آدم عليه السلام حين أكل من الشجرة :﴿ ... وعصى آدم ربه فغوى ( ١٢١ ) ﴾ [ طه ].
ونحن يجب ألا نقع في الآفة التي يخطئ البعض بها، حين يستقبلون ألفاظ العقائد على أساس ما اشتهر به اللفظ من معنى ؛ فالألفاظ لها معان متعددة.
لذلك لا بد أن نعرض كل معاني اللفظ لنأخذ اللفظ المناسب للسياق.
ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه :﴿ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا٥( ٥٩ ) ﴾ [ مريم ] : وقوله سبحانه هنا :﴿ فسوف يلقون غيا ﴾ : أي : سوف يلقون عذابا، لأن غيهم كان سببا في تعذيبهم، فسمى العذاب باسم مسببه.
ومثل قول الحق سبحانه :﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها... ( ٤٠ ) ﴾ [ الشورى ] : والحق سبحانه لا يسيء لعباده، ولكنهم هم الذين يسيئون لأنفسهم، فسمى ما يلقاهم من العذاب سيئة٦.
وكذلك " الغي " يرد بمعنى " الإغواء "، ويرد معنى الأثر الذي يترتب عن الغي من العذاب.
وقد عرض الحق سبحانه وتعالى في كتابه صورا متعددة للإغواء، فآدم عليه السلام حين تنكب٧ عن الطريق، وأكل من الشجرة المحرمة رغم تحذير الحق سبحانه له ألا يقربها، قال الحق سبحانه وتعالى في هذا الموقف :﴿ ... وعصى آدم ربه فغوى( ١٢١ ) ﴾ [ طه ] : وقد فعل آدم عليه السلام ذلك بحكم طبيعته البشرية، فأراد الله تعالى أن يعلمه أنه إذا خالف المنهج في " افعل " و " لا تفعل " ستظهر عورته وتبدو له سواءته٨ : وهكذا أخذ آدم عليه السلام التجربة ليكون مستعدا لاستقبال المنهج والوحي.
وقد ذكر لنا الحق سبحانه كلمات الشيطان بقوله :﴿ قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ( ٣٩ ) ﴾ [ الحجر ]، ولكن هل أغوى الله- سبحانه –الشيطان ؟
إن الحق سبحانه لا يغوي، ولكنه يترك الخيار للمكلف إن شاء أطاع، وإن شاء عصى.
ولو أنه سبحانه وتعالى جعلنا مؤمنين لما كان لنا اختيار٩، فإن أطاع الإنسان نال عطاء الله، وإن ضل، فقد جعل الله له الاختيار، ووجهه لغير المراد مع صلاحيته للمراد.
إذن : فالاختيار ليس مقصورا على الإغواء بل فيه الهداية أيضا، والإنسان قادر على أن يهتدى، وقادر على أن يضل١٠.
١ - نصح له ونصحه نصحا ونصيحة: تحرى ما يصلح له وأراد له الخير والنفع ودله عليه. ونصح له الود: أخلصه. ونصح لله: أطاعه وأخلص لدينه. ونصح للرسول: صدقه وأخلص له ولم يخالف أمره سرا ولا علنا، ومن النصح بمعنى الإرشاد والدلالة على الخير، يقول تعالى: ﴿.. ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين(٧٩)﴾ [الأعراف]، ويقول: ﴿.. وأنا لكم ناصح أمين (٦٨)﴾ [الأعراف]. [القاموس القويم]..
٢ - أغواه: أضله وأوقعه في الغي والضلال. قال تعالى: ﴿فأغويناكم إنا كنا غاوين (٣٢)﴾ [الصافات]..
٣ - ضل: غابت عنه الحجة وعدل عن الحق. والضلال: النسيان والضيع. وضل الشيء: خفي وغاب فهو يأتي لازما كما في المثال السابق.
ويأتي متعديا مثل: ضل المسافر الطريق، وقد نفى الله عن رسوله الضلال والغواية، وأثبت له أنه هو الناطق منه وبه وله، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وما ينطق عن الهوى (٣) إن هو إلا وحي يوحى (٤)﴾ [النجم] القاموس القويم مع تفسير البرهان باختصار..

٤ - غوى: يغوي غيا، وغوى يغوى غواية: انهمك في الجهل، وهو ضد الرشد. وغوى بمعنى خاب وضل؛ لأنه انهمك في الجهل..
٥ - الغي: سمي به واد في جهنم وفسر بذلك قوله: ﴿... فسوف يلقون غيا (٥٩)﴾ [مريم] أي: جزاء الغي، أو يدخلون وادي الغي في جهنم [القاموس القويم]..
٦ - وهذا يعرف بالمشاكلة، وهو ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته، ومثاله قوله تعالى: ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها..(٤٠)﴾ [الشورى]؛ لأن الجزاء حق لا يوصف بأنه سيئة. مثله قوله تعالى: ﴿ومكروا ومكر الله..(٥٤)﴾ [آل عمران] فإطلاق المكر في جانب الباري تعالى إنما هو لمشاكلة ما معه. انظر: الإتقان في علوم القرآن (٣/٢٨١)..
٧ - نكب عن الشيء وعن الطريق: عدل. وتنكب فلان عنا: مال عنا. وتنكبه: تجنبه. [انظر: لسان العرب]. ويقول تعالى: ﴿وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون(٧٤)﴾ [المؤمنون]. أي: مائلون منحرفون عنه..
٨ - السواءات- جمع سوءة: وهي كل ما يقبح إظهاره وينبغي ستره، قال تعالى: ﴿فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين (٣١)﴾ [المائدة]..
٩ -يقول تعالى: ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (٩٩)﴾ [يونس]. ويقول سبحانه: ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي...(٢٥٦) [البقرة]. فإن الإنسان مخير في البدائل، أما القضايا التي لا يستطيع تبديلها فهي خصوصية الخالق، ويفهم من كلام فضيلة الشيخ أن إبليس من الجن لإثبات حق الاختيار له..
١٠ - قال تعالى عن الإنسان: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (٣)﴾ [الإنسان]، فالله قد جعل الإنسان مهيأ لأن يسلك أحد السبيلين: سبيل الهدى، وسبيل الضلال، ثم دله سبحانه على الطريق الصواب المستقيم، وترك له حرية الاختيار، فإما شاكرا لنعمة الدلائل إلى الخير، فيكون مؤمنا وإما كافرا فيكون كافرا..

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ أم يقولون افتراه١ قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون( ٣٥ ) ﴾ :
جاء هذا القول في صلب قصة نوح –عليه السلام- وقد يكون مما أوحى به الله سبحانه لنوح عليه السلام، أو يكون المراد به أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا الكلام.
والافتراء- كما نعلم- هو الكذب المتعمد الذي يناقض واقعا.
وانظروا إلى كل ما جاء بالمنهج ليلتزم به الفرد، ستجدون أنه ملزم للجميع، وستكون الفائدة التي تعود عليك بالتزام الجميع- بما فيهم أنت- فائدة كبيرة، فإن قال لك المنهج : لا تسرق ؛ فهذا أمان لك من أن يسرقك الناس.
ولذلك فساعة تسمع للمنهج، لا تنظر إلى المأخوذ منك، بل التفت إلى المأخوذ لك.
وعلى ذلك لا يمكن أن يكون المنهج افتراء.
ونحن نعلم أن المنهج يؤسس في المجتمعات مقاييس عادلة للاستقامة، وحين يشرع الحق سبحانه تشريعا، قد يبدو لك أنه يحد من حريتك، ولكنه في الواقع يحقق لك منافع متعددة، ويحميك من أن يعتدى الآخرون عليك.
وكان الرد على الاتهام بالافتراء يتمثل في أمرين : إما أن يفتروا مثله، أو أن يتحمل هو وزر إجرام الافتراء.
وإن لم يكن قد افتراه، فعليهم يقع وزر إجرامهم٢ باتهامه أنه قد افترى.
وأسلوب الآية الكريمة يحذف عنهم البراءة في الشطر الأول منها، ولو جاء بالقول دون احتباك، لقال سبحانه : قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنتم براء منه، وإن لم أفتر فعليكم إجرامكم وأنا بريء.
وجاء الحذف من شق المقابل من شق آخر، وهذا ما يسمى في اللغة " الاحتباك " ٣.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله... ( ٢٤٩ ) ﴾[ البقرة ] : والفئة القليلة تكون قلتها في الأفراد والعتاد وكل لوازم الحرب، والفئة الكثيرة، تظهر كثرتها في العدة والعدد وكل لوازم الحرب، والفئة القليلة إنما تغلب بإذن الله تعالى.
وهكذا يوضح الحق سبحانه أن الأسباب تقضي بغلبة الفئة الكثيرة، لكن مشيئته سبحانه تغلب الأسباب وتصل إلى ما شاءه الله تعالى.
ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى :﴿ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة... ( ١٣ ) ﴾ [ أل عمران ] : وحذف سبحانه صفة الإيمان عن الفئة الأولى، كما حذف عن الفئة الثانية صفة أنها تقاتل في سبيل الطاغوت٤ والشيطان، وهذا يسمى " الاحتباك ".
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قال الحق سبحانه :﴿ قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ( ٣٥ ) ﴾ [ هود ].
ولكن الحق سبحانه وتعالى شاء أن يبين لنا قول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم حين خاطب قومه، فقال سبحانه :﴿ .. قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون ( ٢٥ ) ﴾[ سبأ ] : فلم يقل : " عما تجرمون " فلم يقابل إيذاءهم القولي والمادي له بإيذاء قولي.
وكذلك ذكر الحق سبحانه ما جاء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم :
﴿ ... وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ( ٢٤ ) ﴾ [ سبأ ] : وهذا ارتقاء في الجدل يناسب رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أنزلها الله على العالم كله.
١ - افترى القول: اختلقه واخترعه. وقوله تعالى: ﴿أم يقولون افتراه...(٣٥)﴾ [هود] أي: يقولون: اخترع القرأن واختلقه من عند نفسه. وقال تعالى: ﴿قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات...(١٣)﴾ [هود] أي: مكذوبات- كما تدعون. [القاموس القويم]..
٢ - آثام الذنوب فيما افتروه..
٣ - الاحتباك: من أساليب البلاغة العربية، وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني أن يحذف نظيره في الأول كقوله تعالى: ﴿وادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء...(١٢)﴾ [النمل]. والتقدير: تدخل غير بيضاء، وأخرجها تخرج بيضاء، فحذف من الأول "غير بيضاء" ومن الثاني "وأخرجها" وقال الزركشي: هو أن يجتمع في الكلام متقابلان، فيحذف من كل واحد منهما مقابلة لدلالة الآخر عليه، كقوله تعالى: ﴿أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون (٣٥)﴾ [هود]. والتقدير: "إن افتريته فعلي إجرامي وأنتم براء منه، وعليكم إجرامكم وأنا بريء مما تجرمون" [الإتقان في علوم القرآن: ٣/١٨٢، ١٨٣]..
٤ - الطاغوت: مصدر يدل على المبالغة، ويسمى به الشيطان الصنم، وكل ما عبد من دون الله، وكل ما يغري بالشر والداعي للضلال والفتنة..
وبعد ألف عام إلا خمسين من جدال نوح عليه السلام لقومه، قال له الحق سبحانه وتعالى :﴿ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن١ فلا تبتئس٢ بما كانوا يفعلون ( ٣٦ ) ﴾ :
ومجيء " إلا " هنا ليس للاستثناء، ولكنها اسم بمعنى " غير " أي : لن يؤمن من قومك غير الذي آمن.
ولهذا نظير في قمة العقائد حين قال الحق سبحانه :﴿ ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.. ( ٢٢ ) ﴾ [ الأنبياء ] : و " إلا " هنا أيضا بمعنى " غير "، ولو كانت " إلا " بمعنى الاستثناء لعنى ذلك أن الله سبحانه- معاذ الله- سيكون ضمن آلهة آخرين، لذلك لا يصلح هنا أن تكون " إلا " للاستثناء، بل هي بمعنى " غير "، وتفيد معنى الوحدانية لله عز وجل وتفرده بالألوهية.
والآية التي نتناولها بخواطرنا تؤكد أنه لا يوجد غير من آمن بنوح- عليه السلام- من قومه، سوف يؤمن ؛ فقد ختم الله المسألة.
وهذا يعطينا تبريرا لاجتراء نوح- عليه السلام- على الدعاء على الذين لم يؤمنوا من قومه بقوله :﴿ ... رب لا تذر٣ على الأرض من الكافرين ديارا٤ ( ٢٦ ) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ( ٢٧ ) ﴾ [ نوح ] : وكان تبرير ذلك أنه عليه السلام قد دعاهم إلى الإيمان زمانا طويلا فلم يستجيبوا، وأوحى له الله تعالى أنهم لن يؤمنوا. وقال له سبحانه :﴿ .. فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ( ٣٦ ) ﴾[ هود ] : والابتئاس هو الحزن المحبط، وهم قد كفروا وليس بعد الكفر ذنب.
١ - عن ابن عباس: كانوا ثمانين نفسا منهم نساؤهم. وعن كعب الأحبار: كانوا اثنين وسبعين نفسا. وقيل: كانوا عشرة، وقيل: إنما كان نوح وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث، وكنائنه الأربع، نساء هؤلاء الثلاثة وامرأة يام. انظر تفسير ابن كثير (٢/٤٤٥)..
٢ - ابتأس الرجل: اكتأب وحزن. ولا تبتئس: لا تحزن. يقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه والابتئاس: الحزن في استكانة. [لسان العرب- مادة: بأس]..
٣ - يذره: يتركه ويدعه. وهذا الفعل لم يستعمل منه في القرآن الكريم إلا المضارع والأمر، فمن المضارع قوله تعالى: ﴿أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض..(١٢٧)﴾ [الأعراف] وقوله تعالى: ﴿وقالوا لا تذرن آلهتكم..(٢٣)﴾ [نوح] أي: لا تتركن آلهتكم. ومن الأمر قوله تعالى: ﴿ذرني ومن خلقت وحيدا (١١)﴾ [المدثر] أي: اتركني أنتقم منه وأعاقبه على جرائمه ضد الدين والقرآن، وهو أسلوب تهديد ووعيد [القاموس القويم]..
٤ -الديار: من يسكن الدار، أو من يتحرك فيها ويدور فيها بحرية، ويقال: ما بالدار ديار، أي: ما فيها أحد. وقوله تعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا (٢٦)﴾ [نوح]. أي: لا تترك أحدا منهم حيا. [القاموس القويم] بتصرف..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ واصنع١ الفلك٢ بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( ٣٧ ) ﴾ :
وهكذا علم نوح بمسألة الإغراق من خلال الوحي له بصنع السفينة، ومعنى " اصنع " أي : اعمل الصنعة، وهناك فرق بين الصنعة والحرفة، فالصنعة أن توجد معدوما، كصانع الأكواب، أو صانع الأحذية، أو صانع النجف، أو صانع الكراسي، أما الذي يقوم على صيانة الصنعة فهو الحرفي.
وهناك عملية أخرى للاستنباط مثل مهنة الزارع الذي يحرث الأرض ويبذر فيها الحب ويرويها ليستنبط منها النباتات، ويسمى صاحب هذه المهنة " زارع " أو " فلاح " ؛ لأن اقتيات الحياة المباشر يأتي من الزراعة.
أما الصانع فيأتي بشيء من متطلبات الحياة، في تطورها ويوجد آلة أو يصنع جهازا لم يكن موجودا، والحرفي هو الذي يصون تلك الآلة، أما التاجر فهو الذي يقوم بعملية تجمع كل ذلك، ويكون هو الوسيلة بين منتج الشيء والمستهلك، فالتاجر يكون لعرض الأشياء بغية البيع والشراء.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا لنوح عليه السلام :﴿ واصنع الفلك... ( ٣٧ ) ﴾[ هود ] : أي : أوجد شيئا من عدم، إلا أن هذا الشيء سيصنع من شيء آخر موجود، لأن نوحا عليه السلام قد زرع من قبل شجرة وعاشت معه كل هذه المدة الطويلة، وتضخمت في الجذع والفروع.
وبدأ نوح عليه السلام في عملية شق الشجرة ليصنع منها السفينة التي بلغ طولها- كما قيل٣-ثلاثمائة ذراع٤ وبلغ عرضها خمسين ذراعا، وبلغ ارتفاعها ثلاثين ذراعا ومكونة من ثلاثة أدوار لتسع المؤمنين، وزوجين من كل نوع من حيوانات الأرض ودوابها وهوامها وسباعها ووحوشها.
ونحن قد علمنا أن الشجرة التي زرعها نوح عليه السلام قد تضخمت جدا لطول المدة التي قضاها نوح في دعوته لقومه ؛ ونعلم أيضا أن جذع الشجرة ينمو دائريا بمقدار دائرة كل عام. وحين نقطع جذع الشجرة نجد أن قطر الجذع مكون من دوائر، وكل دائرة تمثل عاما من عمرها.
وهكذا بلغ حجم الشجرة ما يساعد نوحا عليه السلام على أن يصنع السفينة.
وقد علمه الحق سبحانه بالوحي وإلهام الخواطر كيف يصنع السفينة، ألم يلهم الله سبحانه نبيه داود عليه السلام في مسألة الحديد ؟ وقال لنا سبحانه أنه- جل وعلا- قد أمر الجبال أن تؤوب٥ معه وكذلك الطير، فألان له الحديد٦ دون نار :
﴿ يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد( ١٠ ) أن اعمل سابغات... ( ١١ ) ﴾[ سبأ ]
هكذا أخبرنا الحق سبحانه أن الحديد صار لينا دون نار- بإذنه سبحانه- ليصنع منه داود دروعا كبيرة مستوفية للظهر والصدر، لتحمي معاطب٧ الإنسان.
وقد أوحى الحق سبحانه لداود عليه السلام أن يصنع تلك الدروع بطريقة عجيبة، بأن يجعلها سابغات٨.
والسابغة هي المسرودة، مثل الحصير، حيث يوضع العود بجانب العود، ويربط الأعواد كلها بطريقة تسهل من فرد الحصير أو لفه.
وفي نفس الآية يبين لنا الحق سبحانه كيفية الوحي لداود عليه السلام بتلك الصناعة الدقيقة، فيقول سبحانه :﴿ وقدر في السرد٩... ( ١١ ) ﴾[ سبأ ] : أي : أنك يا داود حين تنسج١٠ الحديد اللين- بإذن الله تعالى- لتجعله دروعا عليك أن تصنع تلك الدروع بتقدير دقيق كي لا تكون الدرع ضيقة على صدر المقاتل فتضيق حركته، وتقلل من قدرته على النفس، فيلهث بسرعة، ولا يستطيع مواصلة القتال.
وكذلك يجب ألا تكون الدرع واسعة على صدر المقاتل ؛ حتى لا تساعد سعة الدرع سيف الخصم، فيضرب الدرع نفسه صدر المقاتل، وتكون قوة الدرع مضافة إلى قوة سيف الخصم، ولكن حين تكون الدرع قادرة على الإحاطة بالجسم دون أن يكبل الحركة، فهذه هي الدرع المناسبة للقتال.
وقد أتقن داود عليه السلام صناعة تلك الدروع بتلك الهندسة الدقيقة التي أوحى الحق سبحانه بها إليه، فقد صنعها بأمر الحق الأعلى سبحانه حين قال له :﴿ وقدر... ( ١١ ) ﴾ وكلمة قدر تعطي معنى التقدير والإتقان.
فعلى الذين يصنعون الأشياء عليهم أن يعلموا أن القرآن الكريم لحظة يوجه إلى الإتقان في الأداء والعمل، فإنه يعلمنا طريقة التقدير والإتقان في العمل والإبداع فيه، لنتخذ من هذا التوجيه نبراسا١١ نسير عليه ؛ ليكون العمل صالحا، وأنت ترى من يتقن صنعته وهو يقول : " الله "، وكأن هذا القول اعتراف الفطرة الأولى بقدرة الحق سبحانه على أن يهب الإنسان طاقة الإتقان والإبداع.
ويقول الحق سبحانه أيضا في تعليمه لداود عليه السلام.
﴿ وعلمناه صنعة لبوس١٢... ( ٨٠ ) ﴾[ الأنبياء ] : وهكذا يلقي الله تعالى الخاطر في قلب الرسول أو النبي أن " افعل كذا "، فيفعل.
وحين ننظر إلى حضارة مصر القديمة، نجد كل علومها وفنونها في التحنيط والألوان والنحت، كانت من اختصاص الكهنة الذين يمثلون السلطة الدينية، ولم يكتب هؤلاء الكهنة أسرار تلك العلوم، فلم يستطع أحد من المعاصرين أن يتعرف عليها. وهكذا نجد أن كل أمر في أصوله ؛ مصدره السماء.
وفي قصة نوح عليه السلام نجد الحق سبحانه يقول :﴿ واصنع الفلك١٣ بأعيننا ووحينا ولاتخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( ٣٧ ) ﴾
ومعنى " بأعيننا " هو بحفظنا وبرعايتنا. وكلمة " بأعيننا " تفيد شمول الحفظ وكمال الرعاية.
ألم يقل الحق سبحانه في مسألة تخص رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ؟
﴿ واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا١٤.. ( ٤٨ ) ﴾ [ الطور ].
وكذلك قال سبحانه في قصة سيدنا موسى عليه السلام :﴿ ... ولتصنع على عيني ( ٣٩ ) ﴾ [ طه ] : وأنقذ الحق سبحانه موسى عليه السلام من الفرعون الذي كان يقتل أطفال بني إسرائيل، وألقى الله تعالى المحبة لموسى في قلب زوجة الفرعون، وقال سبحانه :﴿ وألقيت عليك محبة مني... ( ٣٩ ) ﴾ [ طه ] : لأن موسى عليه السلام حين كان طفلا رضيعا قد ألقى في اليم١٥، والتقطه رجال الفرعون، لكن زوجة الفرعون قالت لزوجها طالبة لموسى الحياة :﴿ قرة عين لي ولك١٦... ( ٩ ) ﴾ [ القصص ] : ونحن نجد أن عدو موسى وقومه، يلتقط موسى ليعيش في كنفه ورعايته، وكأن الله سبحانه يقول لهم : سأجعلكم تربون من يتولى قهركم.
وقول الحق سبحانه :﴿ واصنع الفلك بأعيننا... ( ٣٧ ) ﴾[ هود ] : أي : إنك إن توقفت لأية عقبة، فسوف نلهمك بما تواجهه به تلك العقبة.
وحين صنع نوح عليه السلام الفلك احتاج لألواح خشبية، ولا بد أن تتماسك تلك الألواح، ولم تكن المسامير قد اخترعت بعد، فأوحى له الله تعالى أن يربط الألواح بالحبال المجدولة، وقد فعل هذا أحد مكتشفي أمريكا في العصر الحديث، حين صنع سفينة من نبات البردي وربطها بالحبال المجدولة القوية.
وقال الحق سبحانه في طريقة صنع سفينة نوح عليه السلام :
﴿ وحملناه على ذات ألواح ودسر١٧ ( ١٣ ) ﴾[ القمر ] : أي : أن نوحا عليه السلام قد أحضر ألواحا من الخشب وربطها بحبال مجدولة، وأحكم الربط بقدر مقتدر بما لا يسمح بتسرب الماء إلى داخل السفينة.
مثلما تصنع البراميل الخشبية في عصرنا، حيث يصنعها الصانع من قطع خشبية مستطيلة، ويرتبها ثم يحكم ربطها بإطار قوي، وحين يوضع فيها أي سائل، فالخشب يتشرب من هذا السائل ويتمدد ليسد المسام، فلا ينضح السائل من البرميل ؛ لأن الخشب هو المادة الوحيدة التي تتمدد بالبرودة على العكس من كل المواد التي تتمدد بالحرارة.
ولذلك نجد النجار الحاذق١٨ في صنعته هو من يصنع الأثاث أو الأبواب أو الشبابيك في الفصول الرتيبة١٩ ؛ لأنه إن صنعها في الصيف، سنجد الخشب وهو منكمش، فإذا ما جاء الشتاء تمدد ذلك الخشب وسبب عدم إحكام إغلاق الأبواب والنوافذ، وكذلك إن صنعها في الشتاء والخشب متمدد سيأتي الصيف وتنكمش الأبواب، وتكون لها متاعبها، فلا يسهل ضبط إغلاق الأبواب أو ضبط أي صندوق أو شباك بإحكام.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ .. ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون٢٠ ( ٣٧ ) ﴾ [ هود ] : أي : لا تحدثني في أمر المغفرة لمن ظلموا أنفسهم بالكفر، وهم من ارتكبوا الظلم العظيم، وهو الكفر في القمة العقدية، وهي الإيمان بالله تعالى واحدا أحدا لا شريك له : لذلك استحقوا العقاب، وهو الإغراق.
وهكذا علم نوح عليه السلام أن صنع السفينة مرتبط بلون العقاب الذي سيقع على من كفروا برسالته، فهو ومن آمنوا معه سوف ينجون، أما من كفر فلسوف يغرق.
ويبين الحق سبحانه وتعالى ذلك حين يقول :
﴿ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ٢١ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا٢٢ منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ( ٣٨ ) ﴾ :
١ - الصنع: معناه الإحداث والإنشاء، ويكون بقصد وإرادة وتدبير، ولذلك لا يقال: صنع الحيوان كذا وقال تعالى: ﴿إنما صنعوا كيد ساحر...(٦٩﴾ [طه] أي: أن الذي صنعوه وأحدثوه كيد وسحر. وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام: ﴿.. ولتصنع على عيني (٣٩)﴾ أي: تربى محروسا بعنايتي. وقوله تعالى: ﴿واصنع الفلك بأعيننا...(٣٧) [هود] أي: تحت عنايتنا ورعايتنا. [القاموس القويم] بتصرف..
٢ - الفلك: السفينة للمذكر والمؤنث، وللواحد والجمع. يقول الحق. {وترى الفلك مواخر فيه...(١٤)﴾ [النحل] والفلك: المدار تسبح فيه النجوم السماوية، يقول الحق، ﴿.. كل في فلك يسبحون ٣٣))﴾ [الأنبياء] [القاموس القويم- باختصار]..

٣ - ذكره قتادة. وفيها أقوال أخرى. واجتمع الرأي على أن ارتفاعها في السماء كان ثلاثين ذراعا، ثلاث طبقات، كل طبقة عشرة اذرع، فالسفلى للدواب والوحوش، والوسطى للإنس، والعليا للطيور وكان بابها في عرضها، ولها غطاء من فوقها مطبق عليها. انظر تفسير ابن كثير (٢/٤٤٤)..
٤ - الذراع: مقياس للأطوال يقدر بـ ٧٥ سنتيمتر أو أقل. والذراع من الإنسان: من المرفق إلى أطراف الأصابع..
٥ - تؤوب: تسبح معه وترجع التسبيح، قال ابن كثير في تفسيره (٣/٥٢٧): "التأويب في اللغة هو الترجيع فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها)..
٦ - قال الحسن البصري وقتادة والأعمش وغيرهم: كان داود لا يحتاج أن يدخله نارا ولا يضربه بمطرقة، بل كان ءيفتله بيده مثل الخيوط. ذكره ابن كثير في تفسير (٣/٥٢٧)..
٧ - المعاطب: المهالك. واحدها معطب. والعطب: الهلاك يكون في الناس وغيرهم. عطب (بكسر الطاء) عطبا وأعطبه: أهلكه. [اللسان: مادة (ع ط ب) والمراد: الأماكن التي إذا طعن فيها المقاتل قد تؤدى إلى هلاكه..
٨ - الدرع السابغة: الواسعة التي تطول إلى الأرض فتغطى الكعبين [اللسان- مادة: سبغ]..
٩ - السرد: نسج حلقات الدرع وإحكام صنعها. وسرد الأديم والجلد يسرده سردا: خرزه وثقبه بالمخرز في تتابع واتساق؛ ولهذا سمى نسج الدروع سردا؛ لما فيه من دقة وتتابع واتساق، وقدر في السرد. أي: أحكم العمل في سرد الدروع، أي: في أثناء نسجها. أي: أحكم السرد، وأتقن النسج. [القاموس القويم]..
١٠ - النسج: ضم الشيء إلى الشيء. ونسج الشيء ينسجه نسجا فانتسج، ونسجت الريح التراب: سبحت بعضه إلى بعض، والريح تنسج الماء: إذا ضربت متنه فانتسجت له طرائق كالحبكـ، ونسجت الريح الورق الهشيم: جمعت بعضه إلى بعض. ومن معاني النسج: حياكة الثوب، وربما سمى الدراع (صانع الدروع) نساجا. [اللسان: مادة (ن س ج) بتصرف]..
١١ - النبراس: المصباح، أو الشيء المنير. [المعجم الوسيط] بتصرف..
١٢ - اللبوس: ما يلبس. والمراد بها هنا: الدروع التي تلبس في الحرب [القاموس القويم]..
١٣ - الفلك: السفينة. ولفظة الفلك تقع للمذكر والمؤنث والمفرد والجمع. قال تعالى: ﴿فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون (١١٩)﴾ [الشعراء] جعله مفردا مذكرا. وقال تعالى: ﴿وترى الفلك مواخر فيه..(١٤)﴾ [النحل] جعل الفلك جمعا ووصفه بقوله: "مواخر" أي: السفن..
١٤ - أي: اصبر على أذاهم، ولا تبالهم، فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا، والله يعصمك من الناس. تفسير ابن كثير (٤/٢٤٥)..
١٥ - اليم: مجتمع الماء الكثير، سواء أكان ماء عذبا أو مالحا، وقد ورد هذان المعنيان في القرآن:
- قال تعالى: ﴿إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى (٣٨) أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليقله اليم بالساحل..(٣٩)﴾ [طه] فهو هنا الماء العذب. والمقصود نيل مصر.
-وقال تعالى: ﴿فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم..(١٣٦)﴾ [الأعراف] فهو هنا الماء المالح والمقصود خليج السويس امتداد البحر الأحمر..

١٦ - قرة عين لي ولك: أي: مبعث سرور لي ولك. [القاموس القويم]..
١٧ - دسر الدسار في الشيء: دفعه فيه بقوة. والدسار: المسمار أو حبل من ليف تشد به ألواح السفينة وجمعه (دُسر).
قال تعالى: ﴿وحملناه على ذات ألواح ودسر (١٣)﴾ [القمر] كناية عن موصوف هو السفينة. وقال مجاهد: الدسر أضلاع السفينة. وقال عكرمة والحسن: هو صدرها الذي يضرب به الموج. وقال الضحاك: الدسر طرفاها وأصلها. ذكراه ابن كثير في التفسير (٤/٢٦٤)..

١٨ - الحذاق: الماهر في عمله. حذق الشيء: مهر فيه. [انظر اللسان]..
١٩ - الرتيبة: الثابتة التي لا توصف ببرد أو حر..
٢٠ - الغرق هو أن يغمر الماء الشخص حتى يموت، يقول الحق: ﴿حتى إذا أدركه الغرق..(٩٠)﴾ [يونس] أن تمكن منه، وغرق كفرح فهو غرق وغارق وغريق. وجمع الأخير غرقى، واسم المفعول منه مغرق، قال تعالى: ﴿.. فكان من المغرقين (٤٣)﴾ [هود] [القاموس القويم صـ ٥١ جـ٢]..
٢١ - ملا: جماعة منهم..
٢٢ - سخر منه وبه من باب فرح سخرا وسخرا وسخرا وسخرية وسخريه: هزى به. قال تعالى: ﴿.. قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون (٣٨)﴾ ﴿هود﴾ [القاموس القويم].
وكان السادة والكبراء من ملأ نوح يمرون عليه وهو يصنع السفينة يسخرون منه، بما يعني : ها هو بعد أن ادعى النبوة يتحول إلى نجار، ثم يتساءلون : كيف تصل هذه السفينة من " الموصل " إلى البحر ؟
ولم يكونوا قد عملوا ما علمه نوح عليه السلام من أن الماء هو الذي سوف يأتي ليحمل السفينة.
ونحن نلحظ في قول الحق سبحانه :﴿ ويصنع الفلك.. ( ٣٨ ) ﴾[ هود ] : تنفيذ الأمر الذي صدر من الله سبحانه وتعالى إلى نوح عليه السلام حين قال سبحانه :﴿ واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون( ٣٧ ) ﴾ [ هود ].
ثم يقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه١ ويحل٢ عليه عذاب مقيم ( ٣٩ ) ﴾ :
ونلحظ في قول الحق سبحانه :﴿ فسوف ﴾ ﴿ تعلمون ﴾ أن الفعل الذي يعلمه نوح عليه السلام وهو أمر الإغراق سيحدث مستقبلا ؛ لأن أي حدث- كما نعلم- له أكثر من صورة، فإن جاء الكلام عن الحدث بعد وقوعه ؛ كان الفعل ماضيا، وإن جاء الكلام وقت وقوع الحدث كان الفعل مضارعا.
وإن جاء الكلام عن حدث لم يأت زمنه فالأمر يقتضي أن نسبق الكلام عن الحدث بحرف " السين " كأن نقول : " سيعلمون " وهذا عن الاستقبال القريب، أما عن الاستقبال البعيد فتأتي كلمة " سوف ".
ونحن نعلم أن نوحا عليه السلام قضى العديد من السنين وهو يصنع السفينة٣ ؛ ولذلك جاء ب " سوف " لتدل على أوسع مدى زمني.
وما الذي سوف يعلمونه ؟ إنه العذاب، أيأتي لنوح ومن معه أم يأتي للذين كفروا من ملأ نوح ؟
لذلك يقول الحق سبحانه على لسان نوح عليه السلام :﴿ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه... ( ٣٩ ) ﴾[ هود ] : وفي هذا القول ما يؤكد أن نوحا عليه السلام يعلم أن العذاب سوف يأتيهم ؛ لأنهم كفروا وسخروا وقالوا :﴿ .. فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( ٣٢ ) ﴾[ هود ].
وقول الحق سبحانه :﴿ .. ويحل عليه عذاب مقيم ( ٣٩ ) ﴾[ هود ] : نجد فيه كلمة ﴿ يحل ﴾ وهي ضد الرحيل، وتفيد النزول من أعلى إلى مكان الإقامة، فحل بالمكان، أي : نزل ليقيم به، والضد هو الرحيل أو الترحال.
وقول الحق سبحانه :﴿ مقيم ﴾ يعني أن العذاب الذي سيحل بهم عذاب دائم٤.
١ - خزي يخزى: هان وافتضح وخجل. وأخزاه فلان ويخزيه: أهانه وفضحه. قال تعالى: ﴿ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته...(١٩٢)﴾ [آل عمران]..
٢ - يحل: ينزل عليهم. وقال تعالى: ﴿... ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى (٨١)﴾ [طه] [القاموس القويم]..
٣ - قال زيد بن أسلم: مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها، ومائة سنة يعملها. ذكره القرطبي في تفسيره (٤/٣٣٤٩]..
٤ - جاء في تفسير الآية عند القرطبي (٤/٣٣٥١) ما يفيد أن هنا نوعين من العذاب.
-الأول: ﴿عذاب يخزيه﴾ وهو في الدنيا.
-الثاني: ﴿عذاب مقيم﴾ وهو عذاب الآخرة..

ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك :
﴿ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور١ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك٢ إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ( ٤٠ ) ﴾ :
وكلمة ﴿ حتى ﴾ تدل على الغاية وكلمة ﴿ أمرنا ﴾ تدل على الطوفان، ثم الأمر من الحق سبحانه بأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، ومن آمن معه وكانوا قلة قليلة.
إذن : ففي قصة نوح عليه السلام أكثر من مرحلة، أمر من الله تعالى بقوله :﴿ واصنع الفلك.. ( ٣٧ ) ﴾[ هود ] : وعمل من نوح عليه السلام بأن يصنع، وقد استغرق هذا الفعل وقتا طويلا من نوح عليه السلام إلى أن جاء أمر الطوفان الذي يدل عليه قول الحق سبحانه :﴿ وفار التنور... ( ٤٠ ) ﴾[ هود ] : ومعنى كلمة ﴿ فار ﴾ أي : أن الماء قد وصل إلى درجة الغليان.
فالماء يحتوي على هواء بدليل أن السمك يتنفس من الماء، وحين نغلي الماء نرى فقاقيع الهواء وهي تخرج من الماء، ثم يثقل الماء إلى أن تشتد سخونة الغليان، فيفور الماء منثورا خارج إناء الغليان.
و " التنور " هو المكان الذي تتم فيه عملية الخبز، وخروج الماء من التنور هو علامة مميزة يعلمها نوح عليه السلام ليحمل من يريد نجاتهم، من المؤمنين، ومن متاع الدنيا كله.
وكانت العلامة هي خروج الماء من غير مظانه وهو التنور.
واختلف العلماء٣ في تفسير كلمة " التنور " فمنهم من قال : إن التنور هو المكان الذي كان آدم عليه السلام يخبز فيه، أو هو المكان الذي كانت تعمل فيه حواء، أو هو بيت نوح، أو هو بيت سيدة عجوز.
وكل تلك التفسيرات لا تفيد ولا تضر، المهم أن فوران التنور كان علامة بين نوح عليه السلام وربه، وأنه إذا ما فار التنور فعلى نوح أن يحمل من كل زوجين اثنين.
وقول الحق سبحانه :﴿ احمل فيها من كل زوجين اثنين... ( ٤٠ ) ﴾[ هود ] : تعني : أن يحمل من كل الكائنات، وتدل على ذلك كلمة ﴿ كلٍ ﴾ المنونة- وتفيد التعميم- أي : احمل في السفينة من كل شيء، تطلبه حياة الناجين من جميع أصناف النباتات والحيوانات، حتى الخنزير كان ضمن ما حمله نوح عليه السلام.
والذين يقولون إن تحريم الخنزير جاء ؛ لأن نوحا عليه السلام لم يحمله معه، لم يفطنوا إلى أهمية الخنزير كحيوان يأكل القاذورات وينظف الأرض منها، لأن كل كائن له مهمة، وليست مهمة الكائنات فقط أن يأكلها الإنسان.
وكلمة :﴿ زوجين اثنين... ( ٤٠ ) ﴾[ هود ] : تدل على أن كلمة " زوج " ٤ هي مفرد ؛ بدليل قول الحق سبحانه :﴿ وخلق منها زوجها.. ( ١ ) ﴾[ النساء ].
إذن : كلمة " زوج " تعني مفرد معه مثله، كزوج من الأحذية مثلا.
أقول ذلك حتى لا نأخذ كلمة " الزوج " على أنها اثنان ؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في آية أخرى :
﴿ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل الذكرين حرّم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ( ١٤٣ ) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين... ( ١٤٤ ) ﴾[ الأنعام ] : وحين نجمع العدد سنجده ثمانية، ولو كانت كلمة " زوج " تطلق على الاثنين لصار العدد في تلك الآية الكريمة ستة عشر.
ويوضح القرآن الكريم أن كلمة " زوج " مفرد في قول الحق سبحانه :﴿ ألم يك نطفة٥ من مني يمنى٦ ( ٣٧ ) ثم كان علقة٧ فخلق فسوى٨ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى( ٣٩ ) ﴾ [ القيامة ] : إذن : فالذكر زوج، والأنثى زوج أيضا.
وواصل نوح عليه السلام تنفيذ أمر الحق سبحانه :﴿ .. احمل فيها من زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ( ٤٠ ) ﴾[ هود ].
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يستبقي الحياة بنجاة كل ما تحتاجه الحياة بالسفينة، ويقال : إنهم عاشوا في تلك السفينة عامين. ٩
١ - التنور: مكان تفجر الماء. والكانون الذي يخبز فيه. قال تعالى: ﴿وفار التنور..(٤٠)﴾ [هود] أي: تفجرت الأرض بماء كثير، أو تفجرت بما يشبه فوران النار في التنور. والتنور: مجتمع ماء الوادي وكل ذلك يدل على كثرة الماء، وعلى قوة اندفاعه. [القاموس القويم].
٢ - أهل من باب فرح وضرب ونصر أهلا وأهولا: تزوج، وأهل المكان عمر بأهله. والأهل الأقارب والعشيرة والزوجة، وأهل الدار أصحابها، وأهل النبي أتباعه، وأهل الكتاب هم أصحاب الديانات السماوية، قال تعالى: ﴿.. يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (٧٧)﴾ [المائدة] [القاموس القويم باختصار]..
٣ - ذكر القرطبي في تفسيره هذه الاختلافات على سبعة أقوال، فلتراجع هناك (١/٣٣٥١، ٣٣٥٢)، ثم قال: "قال النحاس: هذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ وهي تجتمع في أن ذلك كان علامة" اهـ بتصرف. أما ابن كثير فقد رجح قول ابن عباس أن التنور هو وجه الأرض، أي: صارت الأرض عيونا تفور حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار، صارت تفور ماء. قال ابن كثير: "هذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف" وذكر باقي الأقوال ولكنه وصفها بالغرابة. [تفسير ابن كثير ٢/٤٤٥]..
٤ - الزوج: كل واحد مع آخر من جنسه مع اختلاف المهمة لأن في اختلاف المهمة تكامل الغاية، يطلق على الذكر والأنثى، فالرجل زوج لامرأة، والمرأة زوج لرجل. والزوج في الحساب خلاف الفرد، وهو كل ما ينقسم قسمين متساويين. والزوج: الشكل أو الصنف يكون له نظير أو نقيض كالرطب واليابس والذكر والأنثى. قال تعالى: ﴿قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين..(٤٠) [هود] أي: احمل في السفينة ذكرا و أنثى من كل نوع. وقال تعالى: {وآخر من شكله أزواج (٥٨)﴾ [ص]. أي: أصناف متزاوجة ذكورة وأنوثة، أو متناقضة كل شيء وضده. [القاموس القويم] بتصرف..
٥ - نطف الماء: سال وقطر. والنطفة: الماء الصافي، وتطلق في القرآن على ماء الرجل أو المرأة، الذي يخلق منه الولد. وقال تعالى: ﴿خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين (٤)﴾ [النحل]..
٦ - منى يمنى: يصب في الرحم. [كلمات القرآن للشيخ حسنين مخلوف]..
٧ - علقة: الدم الجامد الغليظ الذي يعلق بما يمسه. وجمعها: علق. قال تعالى: ﴿فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة..(٥)﴾ [الحج]، وقال تعالى: ﴿ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (١٤)﴾ [المؤمنون] وقال تعالى: ﴿خلق الإنسان من علق (٢)﴾ [العلق] [القاموس القويم]..
٨ - فسوى: فعدله وكمله ونفخ فيه الروح. [كلمات القرآن للشيخ حسنين مخلوف].
٩ - قال عكرمة: ركب نوح عليه السلام في الفلك لعشر خلون من رجب، واستوت على الجودي لعشر خلون من المحرم. فذلك ستة أشهر، وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة. قاله القرطبي في تفسيره (٤/٣٣٥٤) وذكر ابن كثير في تفسيره (٢/٤٤٧) عن ابن عباس أنهم مكثوا في السفينة مائة وخمسين يوما، أي: حوالي خمسة أشهر. فالله أعلم..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها١ ومرساها إن ربي لغفور رحيم( ٤١ ) ﴾ :
هذه هي المرحلة الأخيرة في قصة السفينة، وبدأت القصة بأمر من الله سبحانه لنوح عليه السلام ان اصنع الفلك، ثم تمهيد من نوح لقومه، ثم ظل يصنع الفلك حتى جاءت إشارة البدء بعلامة :﴿ وفار التنور... ( ٤٠ ) ﴾ [ هود ] : وحمل نوح عليه السلام في الفلك- بأمر من الله تعالى- من كل شيء زوجين اثنين، وأهله ومن آمن معه.
وقال نوح عليه السلام لمن آمن :﴿ اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها.. ( ٤١ )[ هود ] : وهذا القول منسوب لنوح عليه السلام ؛ لأنه أضاف :{ .. إن ربي لغفور رحيم ( ٤١ ) ﴾[ هود ] : والركوب يقتضي أن يكون الراكب على المركوب، ومستعل عليه.
والاستعلاء يقتضي أن يكون الشيء المستعلي عليه في خدمة المستعلى، فكأن تسخير الله سبحانه للسفينة إنما جاء ليخدم المستعلي.
ولكن الله تعالى يقول هنا :﴿ اركبوا فيها... ( ٤١ ) ﴾ [ هود ] : ولم يقل : " اركبوا عليها ".
قال الحق سبحانه وتعالى ذلك ؛ ليعطينا لقطة عن طريق صنع السفينة، فقد صنعها٢ نوح عليه السلام بوحي من الله تعالى على أفضل نظام في البواخر، ولم يصنعها بطريقة بدائية، فهم –إذن- لم يركبوها على سطحها، بل تم بناؤها بما يتيح لهم السكن فيها، خصوصا وأن تلك السفينة تحمل وحوشا وهواما وحيوانا بجانب البشر، لذلك كان لا بد من بنائها على هيئة طبقات وأدوار.
وقول الحق سبحانه :﴿ بسم الله مجراها ومرساها.. ( ٤١ ) ﴾ [ هود ] : يبين لنا أنها قد صنعت لتنجي من الغرق ؛ لذلك لا بد أن تسير بالراكبين فيها إلى مكان لا يصله الماء، ولا بد أن يكون هذا المكان عاليا ؛ ليتيح الرسو، كما أتاح الفيضان عملية الجريان.
وهكذا كان جريانها باسم الله، ورسوها بإذنه سبحانه.
وقال نوح عليه السلام :﴿ بسم الله مجراها ومرساها.. ( ٤١ ) ﴾ [ هود ] : يعلمنا أن جريانها إنما يتم بمشيئة الله تعالى وأنهم يركبون فيها، لا لمكانتهم الشخصية، ولكن لإيمانهم بالله تعالى.
ومثال ذلك من حياتها- ولله المثل الأعلى- : نجد القاضي يقول مفتتحا الحكم : " باسم الدستور والقانون " أي : أنه لا يحكم بذاته كقاض، لكنه يحكم باسم الدستور والقانون.
ونوح عليه السلام يقول :﴿ بسم الله مجراها ومرساها.. ( ٤١ ) ﴾ [ هود ] : لأن السفينة لله أمر، ولرسوله صناعة.
ولذلك يقال : " كل شيء لا يبدأ باسم الله فهو أبتر " ٣.
لأنك حين تقبل على فعل شيء، فالأفعال أو الأحداث تحتاج إلى طاقات متعددة، فإن كان الفعل عضليا، فهو يحتاج لقوة، وإن كان الفعل عقليا فهو يحتاج لفكر وروية وأناة، وإن كان فعلا فيه مواجهة لأهل الجاه فهو يحتاج إلى شجاعة، وإن كان من أجل تصفية نفوس فهو يحتاج إلى الحلم.
إذن : فاحتياجات الأحداث كثيرة ومختلفة، ومن أجل أن تحصل على القوة فقد تقول : " باسم القوي القادر " ولكي تحصل على علم ؛ تقول :" باسم العليم "، وتريد الغنى ؛ فتقول : " باسم الغني " وحين تحتاج إلى الحلم تقول : " باسم الحليم "، وعندما تحتاج إلى الشجاعة ؛ تقول : " باسم القهار ".
وقد يحتاج الفعل الواحد لأشياء كثيرة، والذي يغني عن كل ذلك أن تنادي ربك وتتبرك باسم واجد الوجود وهو الله سبحانه وتعالى، ففيه تنطوي كل صفات الكمال والجلال.
وإياك أن تتهيب أو تستحي، بل ادخل على كل أمر باسم الله، حتى لو كنت عاصيا ؛ لأن الحق سبحانه رحمان رحيم.
وقول الحق سبحانه على لسان نوح عليه السلام :﴿ .. إن ربي لغفور رحيم ( ٤١ ) ﴾ [ هود ] : إنما يقصد أن هؤلاء المؤمنين برسالة نوح كانوا من البشر، ولم يطبقوا- كغالبية البشر- كل التكاليف ؛ لأنهم ليسوا ملائكة.
لذلك قدر الحق سبحانه وتعالى إيمانهم وعفا عن بعض الذنوب التي ارتكبوها ولم يؤاخذهم بها.
هذه هي الميزة في قول : " بسم الله الرحمان الرحيم ".
١ -المجرى (بفتح الراء وتمال نحو الكسرة): مصدر ميمي بمعنى الجرى. قال تعالى: ﴿بسم الله مجراها ومرساها..(٤١)﴾ [هود] أي: جريها وإرساؤها ببركة اسم الله وبعنايته ورعايته. [القاموس القويم]..
٢ - الصنع: معناه الإحداث والإنشاء، ويكون بقصد وإرادة وتدبير، ويطلق على الحرفة صناعة، كقوله تعالى ﴿إنما صنعوا كيد ساحر..(٦٩)﴾ [طه] وقال تعالى: ﴿.. إن الله عليم بما يصنعون (٨)﴾ [فاطر]. وتأتي عقب التربية والتعليم بحراستي وعنايتي كما في قوله تعالى: ﴿.. ولتصنع على عيني (٣٩)﴾ [طه] وتطلق على الأبنية العالية والقصور المتينة، كما في قوله تعالى: ﴿وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون (١٢٩)﴾ [الشعراء] [القاموس القويم بتصرف]..
٣ - أبتر: أي مقطوع البركة، لا خير فيه..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك يصف السفينة وركابها :
﴿ وهي تجري١ بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ( ٤٢ ) ﴾ :
وجرت بهم السفينة، لا بين موج هائل فحسب، ولكن كان الموج كالجبال، وهذا يدل على أنها مسيرة بقوة عالية لا تؤثر فيها الأمواج.
١ - الجري: السير السريع. جرى الماء يجري: سار، وجرت السفينة: سارت وأسرعت، قال تعالى: ﴿فيهما عينان تجريان (٥٠)﴾ [الرحمن] وقال تعالى: ﴿وهي تجري بهم في موج كالجبال..(٤٢)﴾ [هود] وهي سفينة نوح عليه السلام. وقال تعالى: ﴿إنما لما طغا الماء حملناكم في الجارية (١١)﴾ [الحاقة] أي: في السفينة المعهودة. وجمع الجارية: الجواري. وقال تعالى: ﴿من آياته الجوار في البحر كالأعلام (٣٢)﴾ [الشورى] وحذفت الياء تخفيفا من الجواري في رسم المصحف. وقوله تعالى: ﴿فالجاريات يسرا (٣)﴾ [الذاريات] قيل: هي السفن. وقيل: هي الرياح، وقيل: هي النجوم والكواكب. وقال تعالى: ﴿والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس..(١٦٤)﴾ [البقرة] [القاموس القويم].
ثم يجيء الحديث عن عاطفة الأبوة حين ينادي نوح ابنه :
﴿ .. ونادى نوح ابنه وكان في معزل١ يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ( ٤٢ ) ﴾[ هود ] : ورفض الابن مطلب أبيه معتمدا على أن الجبل يحميه.
وفي هذا يقول الحق سبحانه مبينا مراد الابن في مخالفة مراد أبيه :﴿ قال سآوي إلى جبل يعصمني٢ من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال٣ بينهما الموج فكان من المغرقين( ٤٣ ) ﴾ :
هكذا ظن ابن نوح أنه سينجو إن آوى٤ إلى جبل، لعل ارتفاع الجبل يعصمه من الغرق، لكن نوحا عليه السلام يعلم أن لا نجاة لكافر، بل النجاة فقط هي لمن رحمه الله بالإيمان.
وهكذا فرق الموج بين نوح وابنه ؛ وغرق الابن.
وأراد الحق سبحانه أن ينهى الكلام عن نوح عليه السلام، فجاء بلقطة استواء السفينة على الجودى.
ويقال : إن جبل الجودى يوجد في الموصل ويقال : إنه ناحية الكوفة، وإن كان هذا القول مجرد علم لا ينفع، والجهل به لا يضر.
١ - المعزل: اسم مكان، قال تعالى: ﴿كان في معزل..(٤٢)﴾ [هود] أي: في موضع عزل نفسه فيه جانبا، ولم ينضم إلى ركاب السفينة مع أبيه نوح عليه السلام. [القاموس القويم]..
٢ - يعصمني: يمنعني ويحميني من الماء فلا أغرق، والعصمة: المنع والحفظ..
٣ - حال بينهما يحول حولا: حجز وفصل. قال تعالى: ﴿.. وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (٤٣)﴾ [هود] أي: حجز الموج وفصل بين نوح عليه السلام، وابنه؛ فكان من المغرقين [القاموس القويم] بتصرف..
٤ - أوى: لجأ إلى جبل ولاذ به؛ طلبا للحماية من الماء الغزير. وأوى إلى المكان، وأوى إليه يأوي أوبا: نزله والتجأ إليه. قال تعالى: ﴿إذ أوى الفتية إلى الكهف..(١٠)﴾ [الكهف] أي: نزلوه والتجئوا إليه. [القاموس القويم]..
ويقول الحق سبحانه :
﴿ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي١ وغيض٢ الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي٣ وقيل بعدا٤ للقوم الظالمين ( ٤٤ ) ﴾ :
والبلع هو مرور الشيء من الحلق ليسقط في الجوف، وساعة أن يأتي في القرآن أمر من الله تعالى مثل :﴿ وقيل يا أرض ابلعي ماءك.. ( ٤٤ ) ﴾ [ هود ] فافهم أن القائل هو من تنصاع له الأرض.
ولم يقل الله سبحانه : " قال الله يا أرض ابلعي ماءك " ؛ لأن هناك أصلا مستعينا وإن لم يقله، والحق سبحانه يريد أن ينمي فينا غريزة وفطنة الإيمان ؛ لأن أحدا غير الله تعالى ليس بقادر على أن يأمر الأرض بأن تبلع الماء.
ويكون أمره سبحانه للسماء :﴿ ويا سماء أقلعي ﴾ أي : أن توقف المطر.
وهكذا يُنهي الحق سبحانه الطوفان الذي أغرق الدنيا بأن أوقف المصب، وأعطى الأمر للمصرف أن يسحب الماء.
ونحن نلاحظ عند سقوط المطر أن شبكة الصرف الصحي تطفح إن كان هناك ما يسد تصريف الماء ؛ لأن أرض المدن حاليا صارت من الأسفلت الذي لا يمتص المياه ؛ ولذلك نجد الجهات المختصة تجند طاقاتها لإصلاح مواسير الصرف الصحي لتمتص مياه المطر حتى لا تتعطل حركة الحياة.
وأقول هنا : إن حسن استخدام الماء من حسن الإيمان ؛ لأني ألحظ أن الناس حين يتوضأون فهم يفتحون صنابير الماء بما يزيد كثيرا عن حاجتهم للوضوء الشرعي، فيجب ألا نرتكب إثم ترك الماء النقي ليضيع دون جدوى٥.
وعلى الناس أن يدخروا الماء، ولا يسيئوا استغلاله ؛ لأن الماء حين يتوفر فهو يحيي الموات، ونحن نحتاج الماء لاستزراع الصحاري، ونحتاج لتخفيف العبء على شبكات الصرف الصحي.
باختصار ؛ نحن نحتاج إلى حسن استقبال نعم الله تعالى وحسن التصرف فيها ؛ لننعم بها، ونسعد بخيرها.
وقول الحق سبحانه :﴿ ويا سماء أقلعي... ( ٤٤ ) ﴾ [ هود ] : أي : اتركي المطر.. ومن ذلك أخذنا كلمة " قلع " الذي يوضع فوق السفن الشراعية الصغيرة، وهو الشراع.
ويقال : " أقلعت المركب " أي : تركت السكون الذي كانت عليه وهي واقفة على الشاطئ.
ويقول الحق سبحانه :﴿ وغيض الماء... ( ٤٤ ) ﴾ [ هود ] : وبناها الحق سبحانه هنا للمجهول ؛ لنعلم أن الله تعالى هو الذي أمر الماء بأن يغيض.
ومادة " غاض " تستعمل لازمة، وتستعمل متعدية٦.
ثم يقول سبحانه :﴿ واستوت على الجودي.. ( ٤٤ ) ﴾ [ هود ] أي : استقرت السفينة على جبل الجودي.
وينهى الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ ... وقيل بعدا للقوم الظالمين ( ٤٤ ) ﴾ [ هود ]. وهو بعد نهائي إلى يوم القيامة.
١ - أقلعي: أمسكي (امتنعي) عن إنزال المطر [كلمات القرآن]. والإقلاع عن الأمر: الكف عنه. وأقلع عن الشيء: كف عنه. وأقلعت السماء: كفت عن المطر [القاموس القويم]..
٢ - غيض الماء: نقص وذهب في الأرض [كلمات القرآن]
وغاض الماء يغيض غيضا: ذهب وابتعلته الأرض [القاموس القويم]..

٣ - استوت على الجودي: استقرت على جبل بقرب الموصل. [كلمات القرآن].
وقيل: إن ذلك كان يوم عاشوراء فصامه نوح ومن كان معه من الوحش والخلق شكرا لله عز وجل. [مختصر تفسير الطبري]..

٤ - بعدا: أي: هلاكا وسحقا. [كلمات القرآن]..
٥ - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ. فقال: ما هذا السرف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: (نعم وإن كنت على نهر جار) أخرجه أحمد في مسنده (٢/٢٢١) وابن ماجه في سننه (٤٢٥) قال البوصيري في الزوائد: "إسناد ضعيف، لضعف حي بن عبد الله وابن لهيعة"..
٦ - وتستعمل "غاض" لازمة، وهي أن تكتفي بفاعلها فلا تحتاج لمفعول به، وذلك مثل: غاض الماء. أي: نقص. وقد تستعمل متعدية أي: تتعدى فاعلها إلى المفعول به. فتقول: أغاض الله ماءه [للبئر] أو: غاضه وغيضه..
وتتحرك عاطفة الأبوة في نوح عليه السلام، ويظهرها قول الحق سبحانه :
﴿ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم١ الحاكمين ( ٤٥ ) ﴾ :
وعاطفة الأبوة عاطفة محمودة، والحق سبحانه يشحن بها قلب الأب على قدر حاجة البنوة، ولو لم تكن تلك العاطفة موجودة، لما تحمل أي أب أو أي أم متاعب تربية الأبناء.
وحتى نعلم أن الأنبياء لا بنوة لهم إلا بنوة الاتباع نجد المثل في إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، حين قال فيه الحق سبحانه :
﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن٢... ( ١٢٤ ) ﴾ [ البقرة ] : أي : أن أداء إبراهيم عليه السلام للتكليف كان على وجه التمام، مثلما أراد أن يرفع القواعد من البيت، فرفعها فوق قامته بالاحتيال، فأحضر حجرا ووقف عليه ليُعلى جدار الكعبة.
وقال له الله تعالى :﴿ إني جاعلك للناس إمام... ( ١٢٤ ) ﴾ [ البقرة ] : لأنك مأمون على منهج الله وقادر على أن تنفذه بدقة، فقال إبراهيم عليه السلام :﴿ ومن ذريتي.. ( ١٢٤ ) ﴾ [ البقرة ].
فقال الحق سبحانه :﴿ .. لا ينال عهدي٣ الظالمين ( ١٢٤ ) ﴾[ البقرة ] : من هذا نعلم أن النبوة ليس لها بنوة، بل النبوة لها أتباع.
ويتضح ذلك أيضا في قول إبراهيم عليه السلام بعد أن استقر في ذهنه قول الحق سبحانه :﴿ .. لا ينال عهدي الظالمين ( ١٢٤ ) ﴾ [ البقرة ].
قال إبراهيم لربه سبحانه طلبا للرزق لمكة وأهلها :﴿ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر... ( ١٢٦ ) ﴾[ البقرة ].
هكذا طلب إبراهيم عليه السلام الرزق للمؤمنين، لكن الحق سبحانه يبين له أن نقل المسألة إلى غير مكانها ؛ فالرزق عطاء ربوبية للمؤمن والكافر، لكن تكليفات الألوهية هي للمؤمن فقط ؛ لذلك قال الحق سبحانه :﴿ ومن كفر.. ( ١٢٦ ) ﴾ [ البقرة ] : أي : أن الرزق يشمل المؤمن والكافر، عطاء من الربوبية.
ونريد أن نقول إن عاطفة الأبوة والأمومة إنما تتناسب مع حاجة الابن تناسبا عكسيا، فإن كان الابن قويا فعاطفة الأبوة والأمومة تقل.
ومثال ذلك : أننا نجد شقيقين أحدهما غني قائم بأمر الأبوين ويتكفل بهما، بينما الابن الآخر فقير لا يقدر على رعاية الأبوين.
وسنلحظ أن قلب الأب والأم يكون مع الفقير، لا مع الغني، فعاطفة الأبوة والأمومة تكون مع الضعيف والمريض والغائب، وكلما كان الابن في حاجة ؛ كانت العاطفة معه.
وفي نداء نوح عليه السلام لربه سبحانه نلحظ أن نوحا كان يملك المبرر طلبات لنجاة الابن ؛ لأن الحق سبحانه أمره بأن يحمل في السفينة من كل زوجين اثنين وكذلك أهله، فأراد نوح عليه السلام أن يطلب النجاة لابنه لأنه من أهله، فقال :﴿ .. رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين [ ٤٥ ] ﴾[ هود ].
إذن : فنوح عليه السلام يملك حق الدعاء ؛ لأنه يطلب تحقق وعد الله تعالى بأن يجمل أهله معه للنجاة.
وحين يقول نوح :﴿ وأنت أحكم الحاكمين ﴾ هو إقرار بأن الله سبحانه لا يخطئ ؛ لأن الابن قد غرق، بل لابد أن ذلك الغرق كان لحكمة.
١ - أحكم: اسم تفضيل يفيد المبالغة في الصفة، أي: أنه سبحانه وتعالى هو أفضل الحاكمين.
وأحكم الأمر: أتقنه. قال تعالى: ﴿ثم يحكم الله آياته...(٥٢)﴾ [الحج] أي: يبينها ويجعلها متقنة مقنعة محكمة. [القاموس القويم]..

٢ - ابتلى: اختبر وامتحن. بكلمات: بأوامر ونواه، فأتمهن: أداهن لله تعالى على الكمال. [كلمات القرآن].
وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم عليه السلام. قال ابن عباس: ابتلاه الله بالمناسك وعنه أيضا: ابتلاه بالطهارة: خمس في الرأس وخمس في الجسد، في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار..

٣ -- العهد: الزمان والوصية والموثق والذمة والأمان. قال تعالى: ﴿الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.. (٦٧)﴾ [البقرة]..
ويقول الحق سبحانه :
﴿ قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين١ ( ٤٦ ) ﴾ :
ويريد الحق سبحانه هنا أن يلفت نبيه نوحا إلى أن أهلية الأنبياء ليست أهلية الدم واللحم، ولكنها أهلية المنهج والاتباع، وإذا قاس نوح-عليه السلام- ابنه على هذا القانون، فلن يجده ابنا له.
ألم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم عن سلمان الفارسي : " سلمان منا آل البيت " ٢.
إذن : فالبنوة بالنسبة للأنبياء هي بنوة اتباع، لا بنوة نسب.
وانظر إلى دقة الأداء في قول الله تعالى :﴿ إنه ليس من أهلك.. ( ٤٦ ) ﴾ [ هود ].
ثم يأتي سبحانه بالعلة والحيثية لذلك بقوله :﴿ إنه عمل غير صالح... ( ٤٦ ) ﴾[ هود ].
فكأن البنوة هنا عمل، وليست ذاتا، فالذات منكورة هنا، والمذكور هو العمل، فعمل ابن نوح جعله غير صالح أن يكون ابنا لنوح.
وهكذا نجد أن المحكوم عليه في البنوة للأنبياء ليس الدم، وليس الشحم، وليس اللحم، إنما هو الاتباع بدليل أن الحق سبحانه وصف ابن نوح بقوله تعالى :﴿ إنه عمل غير صالح ﴾ ولو كان عملا صالحا لكان ابنه.
ويقول الحق سبحانه :
﴿ .. فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ( ٤٦ ) ﴾ :[ هود ] :
والحق سبحانه يطلب من نوح هنا أن يفكر جيدا قبل أن يسأل، فلا غبار على الأنبياء حين يربيهم ربهم.
١ - ﴿إنه ليس من أهلك..(٤٦): أي: ليس من أهل ولايتك ودينك، ولا ممن وعدتك أن تنجيه معك. {إنه عمل غير صالح...(٤٦)﴾: قيل: معناه، أن سؤالك إياي ما تسأله في ابنك المخالف لك عمل غير صالح. ﴿.. إني أعظك أن تكون من الجاهلين (٤٦)﴾: في مسألتك إياي عن ذلك. [مختصر تفسير الطبري].
ووعظه يعظه وعظا وعظة: نصحه بالطاعة وبالعمل الصالح، وأرشده إلى الخير. والموعظة: ما يوعظ به من قول أو فعل. قال تعالى: ﴿.. وموعظة للمتقين (٦٦)﴾ [البقرة]. [القاموس القويم]..

٢ - أخرجه الحاكم في مستدركه (٣/٥٩٨) من حديث عمرو بن عوف المزني. قال الذهبي والعجلوني: سنده ضعيف..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قال رب إني أعوذ١ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ( ٤٧ ) ﴾ :
وهنا يدعو نوح عليه السلام ربه سبحانه وتعالى أن يغفر له ما قاله، وهو هنا يقر بأنه لما أحب أن يسأل نجاة ابنه لم يستطع أن يكتم سؤاله، ولكن الحق سبحانه وتعالى وحده هو القادر على أن يمنع من قلبه مثل هذا السؤال، وهذه قمة التسليم لله تعالى.
وقول نوح عليه السلام :﴿ إني أعوذ بك... ( ٤٧ ) ﴾ [ هود ] : يوضح لنا أن الإنسان لا يعوذ من شيء بشيء إلا إن كانت قوته لا تقدر على أن تمتنع عنه.
ولذلك يستعيذ نوح عليه السلام من أن يسأل ما ليس له به علم، ويرجو مغفرة الله سبحانه وتعالى ورحمته حتى لا يكون من الخاسرين.
١ - عاذ يعوذ عوذا: لاذ ولجأ. وقال تعالى: ﴿قل أعوذ برب الناس (١)﴾ [الناس]، أي": ألجأ إليه، وألوذ به، وأحتمي بحمايته [القاموس القويم]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات١ عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم٢ منا عذاب أليم ( ٤٨ ) ﴾ :
وقول الحق سبحانه :
﴿ اهبط بسلام منا... ( ٤٨ ) ﴾ [ هود ] :
يدل على أن نوحا عليه السلام قد تلقى الأمر بالنزول من السفينة ليباشر مهمته الإيمانية في أرض فيها مقومات الحياة، مما حمل في تلك السفينة من كل زوجين اثنين، ومن معه من المؤمنين الذين أنجاهم الله تعالى، وأغرق من قالوا عليهم إنهم أراذل٣.
وقول الحق سبحانه :﴿ أمم من معك.. ( ٤٨ ) ﴾ [ هود ] : تضمن أهل٤ نوح عليه السلام ومن آمن به، وكذلك أمم الوحوش والطيور والحيوانات والدواب.
أي : أنها إشارة إلى الأمة الأساسية، وهي أمة الإنسان وإلى الأمم الخادمة للإنسان، وهكذا توفرت مقومات الحياة للمؤمنين، ويتفرغ نوح وقومه إلى المهمة الإيمانية في الأرض.
وقول الحق سبحانه :﴿ اهبط٥ بسلام منا... ( ٤٨ ) ﴾ [ هود ] : والمقصود بالسلام هو الأمن والاطمئنان، فلم يعد هناك من الكافرين ما ينغص على نوح –عليه السلام- أمره، ولن يجد من يكدر عليه بالقول :﴿ جادلتنا فأكثرت جدالنا.. ( ٣٢ ) ﴾ [ هود ] : ولن يجد من يتهمه بالافتراء.
ومن بقي مع نوح هم كلهم من المؤمنين، وهم قد شهدوا أن نجاتهم من الغرق قد تمت بفضل المنهج الذي بلغهم به نوح عن الله تعالى.
وقول الحق سبحانه :{ وبركات... ( ٤٨ ) ][ هود ] : يعني أن الحق سبحانه يبارك في القليل ليجعله كثيرا.
ويقال : " إن هذا الشيء مبارك " كالطعام الذي يأتي به الإنسان ليكفي اثنين، ولكنه فوجئ بخمسة من الضيوف، فيكفي هذا الطعام الجميع.
إذن : فالشيء المبارك هو القليل الذي يؤدي ما يؤديه الكثير، مع مظنة أنه لا يفي.
وكان يجب أن تأتي هنا كلمة ﴿ وبركات ﴾ لأن ما يحمله نوح- عليه السلام- من كل زوجين اثنين إنما يحتاج إلى بركات الحق سبحانه وتعالى ليتكاثر ويكفي.
وقول الحق سبحانه :
﴿ ... وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ( ٤٨ ) ﴾ [ هود ] :
هذا القول يناسب الطبيعة الإنسانية، فقد كان المؤمنون مع نوح – عليه السلام- هم الصفوة، وبمضي الزمن طرأت الغفلة على بعض منهم، ويأتي جيل من بعدهم فلا يجد الأسوة أو القدوة، ثم تحيط بالأجيال التالية مؤثرات تفصلهم تماما عن المنهج.
وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :( ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت٦، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها كأثر المجل٧، كمجر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرا٨، وليس فيه شيء، ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله، فيصبح الناس يتبايعون، لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال : إن في بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل : ما أجلده ! ما أظرفه ! ما أعقله ! وما في قلبه مثقال حبة من خردل٩ من إيمان " ١٠.
وهكذا تطرأ الغفلة على أصحاب المنهج، ويقول صلى الله عليه وسلم :( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأيما قلب أشربها١١ نكتت١٢ فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا١٣ كالكوز مجخيا١٤ لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا إلا ما اشرب من هواه " ١٥.
وأعوذ بالله تعالى من طروء فتنة الغفلة على القلوب.
والحق سبحانه يتحدث في هذه الآية عن الذين بقوا مع نوح عليه السلام وهم صفوة من المؤمنين، لكن منهم من ستطرأ عليه الغفلة، وسيمتعهم الله سبحانه وتعالى أيضا بمتاع الدنيا، ولن يضن عليهم، ولكن سيلحقهم العذاب.
فإذا ما جاء جيل على الغافلين فهو يخضع لمؤثرين اثنين :
المؤثر الأول : غفلته هو.
المؤثر الثاني : أسوة الغافلين من السابقين عليه.
ونحن نعلم أن من ذرية نوح عليه السلام " قوم عاد " الذي أرسل الحق سبحانه إليهم هودا عليه السلام، وكذلك " قوم ثمود " الذي أرسل إليهم أخاهم صالحا عليه السلام، وقوم لوط، وهؤلاء جميعا رانت١٦ الغفلة على قلوبهم.
١ - البركة: زيادة الخير والنماء والسعادة. قال تعالى: ﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (٩٦)﴾ [الأعراف] [القاموس القويم ١/٦٥]..
٢ - يمسهم العذاب: يصيبهم ويؤذيهم. وقال تعالى: ﴿... وإذا مسه الشر كان يئوسا (٨٣)﴾ [الإسراء] وقال تعالى: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار..(١١٣)﴾ [هود]. [القاموس القويم]..
٣ - الأراذل: جمع أرذل: وهو الدون من الناس، وقيل: هو الدون في منظره وحالاته. وقيل: هو الرديء من كل شيء. وهم قد اعتبروهم أراذل لأنهم نسبوهم إلى مهنتهم كالحياكة والحجامة. قاله الزجاج [انظر: لسان العرب-مادة: رذل]..
٤ - وقد استثنى الله عز وجل منهم امرأة نوح التي قال عنها رب العزة: ﴿ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين (١٠)﴾ [التحريم] وخيانتهما لنوح كانت في الإيمان. قال ابن عباس: ما زنت امرأة نوح، إنما كانت خيانتهما أنها كانت تخبر أنه مجنون، وكانت تطلع على سره فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح. [انظر: تفسير ابن كثير ٤/٣٩٣]..
٥ - هبط يهبط هبطا، من باب ضرب: نزل من علو إلى سفل، أو انحدر من علو، وفي لغة قليلة هبط يهبط من باب قعد هبوطا، قال تعالى: ﴿وإن منها لم يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله...(٧٤)﴾ [البقرة] كما دك الجبل حينما تجلى الله عليه [القاموس القومي بتصرف].
٦ - الوكت: الأثر اليسير، قاله الهروي، وقال غيره: هو سواد يسير، وقيل: هو لون يحدث مخالف للون الذي كان قبله، [شرح النووي لصحيح مسلم-٢/٥٢٨]..
٧ - المجل: أن يكون بين الجلد واللحم ماء. والمجلة: قشرة رقيقة يجتمع فيها ماء من أثر العمل. مجلت اليد: نفطت من العمل فمرنت وصلبت وثخن جلدها وتعجر وظهر فيها ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة [لسان العرب- مادة: مجل]..
٨ - منتبرا: مرتفعا. وكل ما رفعته فقد نبرته. وانتبر الجرح: ارتفع وورم. [لسان العرب- مادة: نبر] قال النووي في شرحه لمسلم [٢/٥٢٨]: "منه المنبر لارتفاعه وارتفاع الخطيب عليه"..
٩ - الخردل: نوع من أنواع الحبوب التوابل: يضرب مثلا في الصغر، قال تعالى: ﴿يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير (١٦)﴾ [لقمان]..
١٠ - أخرجه البخاري في صحيحه ﴿٧٠٨٦] ومسلم في صحيحه [١٤٣] من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه..
١١ - أي: خالط قلبه حب الفتن. وكأنه أسقاها. ومنه قوله تعالى عن اليهود: {واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم..(٩٣)﴾ [البقرة] أي: خالط قلوبهم حب عبادة العجل من دون الله. [وراجع: لسان العرب- مادة: شرب]..

١٢ - النكت: أن تضرب في الأرض بقضيب فيؤثر فيها: أي: أن الفتنة تترك أثرا في القلب. [راجع: مختار القاموس- مادة: نكت]..
١٣ - مربادا: أسود عليه غبرة: والمقصود من حيث المعنى لا الصورة، ذكره ابن منظور في لسان العرب. والتربد: التلون: يقال: لما رآنى تربد لونه. أي: تراه أحمر مرة، ومرة أخضر، ومرة أصفر، [اللسان]..
١٤ - الكوز المجخي: أي: المائل الذي يكب ويصب ما فيه، فالمجخي هنا هو: الماثل عن الاستقامة والاعتدال، فشبه القلب الذي لا يعي خيرا بالكوز المائل الذي لا يثبت فيه شيء، لأن الكوز إذا مال انصب ما فيه [اللسان- مادة: ج خ ي]..
١٥ - أخرجه أحمد في مسنده (٥/٣٨٦، ٤٠٥) ومسلم في صحيحه (١٠٤) من حديث حذيفة بن اليمان..
١٦ - ران الشيء رينا: صدىء، مأخوذ من الصدأ يعلو السيف فيذهب ببريقه، ويستعار للغشاوة تغطي على القلب بسبب الذنوب، وران الصدأ عليه: غلب عليه وغطأه كله. قال تعالى: ﴿كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (١٤)﴾ [المطففين] أي: غطت غشاوة الذنوب على قلوبهم. [القاموس القويم]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين( ٤٩ ) ﴾ :
وكلمة " تلك " إشارة وخطاب، والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، و " التاء " إشارة إلى السفينة وما تبعها من أنباء الغيب، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم معاصرا لها ولا يعلمها هو، ولا يعلمها أحد من قومه.
وأنت يا رسول الله لم يعلم عنك أنك جلست إلى معلم١، ولم يذكر عنك أنك قرأت في كتاب ؛ ولذلك يأتي في القرآن :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر٢... ( ٤٤ ) ﴾ [ القصص ].
وجاء :﴿ ... وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم٣ أيهم يكفل٤ مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ( ٤٤ ) ﴾. [ آل عمران ].
إذن : فما دامت يا محمد لم تقرأ ولم تتعلم عن معلم فمن علمك ؟ إنما علمك الله سبحانه.
وكأن الله سبحانه وتعالى علم رسوله صلى الله عليه وسلم قصة نوح عليه السلام وأراد بها إلقاء الأسوة وإلقاء العبرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثق بأن كل رسول إنما يصنع حركته الإيمانية المنهجية بعين من الله، وأنه سبحانه لن يسلمه إلى خصومه ولا أعدائه.
ولذلك يأتي القول الكريم :﴿ فاصبر ﴾ ؛ لأنك قد عرفت الآن نتيجة صبر نوح عليه السلام الذي استمر ألف سنة إلا خمسين، ويأتي بعدها قوله سبحانه :﴿ .. إن العاقبة للمتقين ( ٤٩ ) ﴾ [ هود ].
١ - حاول مشركو قريش أن يطعنوا في أن القرآن وحي من عند الله، فقال عنهم سبحانه: ﴿ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (١٠٣)﴾ [النحل] فاتهموه بالتعلم من غلام نصراني أعجمي، وكان بياعا يبيع عند الصفا، يقول ابن كثير في تفسيره (٢/٥٨٦): (ربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية، أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه)..
٢ - ﴿وما كنت﴾: خطاب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم [بجانب الغربي] أي: بجانب الجبل أو الوادي أو المكان الغربي من موسى حين المناجاة: ﴿إذ قضينا إلى موسى الأمر (٤٤)﴾ [القصص]: أي: أوحينا إلى موسى- عليه السلام- الأمر بالرسالة إلى فرعون وقومه. [تفسير الجلالين، ومختصر تفسير الطبري] بتصرف..
٣ - الأقلام – هنا- جمع قلم بمعنى السهم أو خشبة تشبهه، يكتب عليه رمز يدل على مقدار يعطى لمن يخرج باسمه، وكانوا يستعملونه في القمار- وقد نهى الإسلام عن ذلك- وكانوا يستعملون أيضا في القرعة. ومن استعماله في القرعة قوله سبحانه: ﴿إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم...(٤٤)﴾ [آل عمران] فالأقلام هنا: سهام الاقترع، وقد أجريت القرعة ففاز سهم زكريا- عليه السلام- فكفل مريم. [القاموس القويم]..
٤ - كفل يكفل كفلا وكفالة: قام بالتربية والرعاية لمن يكفله. وقول سبحانه: [يكفل مريم]: أي يرعاها ويربيها. وقال تعالى: ﴿وكفلها زكريا..(٣٧)﴾ [آل عمران] أي: جعله كافلا لها. [القاموس القويم]..
تأتي بعد ذلك قصة قوم عاد بعد قصة نوح، ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى لا يرسل رسولا إلا إذا عم الفساد.
إذن : فقد حصلت الغفلة من بعد نوح، وانضمت لها أسوة الأبناء بالآباء فانطمس المنهج، وعز على الموجودين أن يقيموه.
والله سبحانه وتعالى لا يبعث برسل جدد إلا إذا لم يوجد في الأمة من يرفع كلمة الله ؛ لأننا نعلم أن المناعة الإيمانية في النفس الإنسانية قد تكون مناعة ذاتية، بمعنى أن الإنسان قد تحدثه نفسه بالانحراف عن منهج الله، لكن النفس اللوامة تردعه وترده إلى الإيمان.
أما إذا تصلبت ذاته، ولم توجد لديه نفس لوامة، فالمناعة الذاتية تختفي، ولكن قد يقوم المجتمع المحيط بلومه.
ولكن إذا اختفت المناعة الذاتية، والمناعة من المجتمع فلا بد أن يبعث رب العزة سبحانه برسول جديد، وبينة جديدة، وبرهان جديد.
هكذا حدث من بعد نوح عليه السلام.
ولذلك يأتي قول الحق سبحانه :
﴿ وإلى عاد١ أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون٢ ( ٥٠ ) ﴾ :
يفتتح الحق سبحانه الآية بتحنينهم ومؤانستهم بالمرسَل إليهم، فيخبرهم أنه أخوهم، ولا يمكن للأخ أن يريد لهم العنت، بل هو ناصح، مأمون عليهم، وعلى ما يبلغهم به.
وحين يقول لهم :﴿ يا قوم.. ( ٥٠ ) ﴾ [ هود ] : فهذا للإيناس أيضا.
ثم يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده ؛ لأنهم اتخذوا غير الله إلها، وهذا قمة الافتراء.
والله سبحانه لم يقول :﴿ .. إن أنتم إلا مفترون ( ٥٠ ) ﴾ [ هود ] : إلا لأن الفساد قد طمّ٣.
١ - قال ابن كثير في تفسيره (٢/٢٢٤): "هؤلاء هم عاد الأولى الذين ذكرهم الله، وهم أولاد عاد بن إرم، كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف، وهي جبال الرمل" وقد قال القرطبي في تفسيره (٤/٣٣٦٩]: "قيل هم عادان: عاد الأولى، وعاد الأخرى، فهؤلاء هم الأولى، وأما الأخرى فهو شداد ولقمان المذكوران في قوله تعالى: ﴿إرم ذات العماد (٧)﴾ [الفجر]"..
٢ - ﴿.. إن أنتم إلا مفترون (٥٠)[هود] كلمة [إن] هنا نافية بمعنى [ما] النافية، أي: ما أنتم إلا مفترون..
٣ - يقال للشيء الذي يكثر حتى يعلو: قد طم. ويقال: طم الماء إذا كثر. طم: غمر، ولذلك قيل ليوم القيامة: {فإذا جاءت الطامة الكبرى (٣٤)﴾ [النازعات] [راجع: لسان العرب، والقاموس القويم]..

ويقول سبحانه بعد ذلك ما جاء على لسان هود :
﴿ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا١ إن أجري إلا على الذين فطرني٢ أفلا تعقلون ( ٥١ ) ﴾ :
وكأن هودا عليه السلام يقول لهم : ما الذي يشق عليكم فيما آمركم به وأدعوكم إليه، إنني أقدم لكم هذا البلاغ من الله تعالى، ولا أسألكم عليه أجرا، فليس من المعقول أن أنقلكم مما ألفتم، ثم آخذ منكم مالا مقابل ذلك، ولا يمكن أن أجمع عليكم مشقة ترك ما تعودتم عليه وكذلك أجر تلك الدعوة.
وما دمت لن آخذ منكم أجرا، إذن : فلا مشقة أكفلكم بها، كما أنني في غنى عن ذلك الأجر ؛ لأن أجري على من أرسلني.
﴿ ... إن أجري إلا على الذي فطرني٣ أفلا تعقلون ( ٥١ ) ﴾[ هود ] : أي : أن أجري على من خلقني معدا لهذه الرسالة ؛ لأن الفطرة تعني التكوين الأساسي للإنسان.
والحق سبحانه قد أعد هودا عليه السلام ليكون رسولا، ونحن نعلم- أيضا أن الأجر يكون عادة مقابلا للمنفعة.
وسبق أن ضربنا المثل بمن يشتري بيتا، فهو يدفع ثمن البيت لصاحبه، وتسمى هذه العملية بيعا وشراء.
أما إذا استأجر الإنسان بيتا فهو يدفع إيجارا مقابل انتفاعه بالسكن فيه.
وقول هود عليه السلام :﴿ لا أسألكم عليه أجرا... ( ٥١ ) ﴾[ هود ] : يفيد أنه كان من الواجب أن يدفعوا أجرا كبيرا مقابل منفعتهم بما يدعوهم إليه ؛ لأن الأجر الذي تدفعونه في المستأجرات العامة لكم إنما يكون مقابلا لمنافع موقوتة، لكن ما يقدمه لهم هود عليه السلام هو منفعة غير موقوتة !
ولذلك ترك هود عليه السلام الأجر لمن يقدر عليه، وهو الله سبحانه وتعالى. فهو القادر على كل شيء.
وقد أوضحنا من قبل أن كل مواكب الرسل جاءت بهذه العبارة٤ :
﴿ لا أسألكم عليه أجرا... ( ٥١ ) ﴾ [ هود ] : إلا إبراهيم وموسى عليهما السلام ؛ فسيدنا إبراهيم لم يقلها بسبب أبيه، وسيدنا موسى لم يقلها٥ لأن فرعون قال له :
﴿ ألم نربك فينا وليدا... ( ١٨ ) ﴾ [ الشعراء ] : إذن : كان يجب على قوم هود أن يعقلوا الفائدة الجمة، وهي المنهج الرسالي الذي جاء به هود عليه السلام.
١ - كلمة [إن] في هذه الآية الكريمة، نافية بمعنى [ما] النافية؛ أي: ما أجرى إلا على الذي فطرني، أو ليس أجرى إلا على الذي فطرني، وهو الله سبحانه وتعالى. أجر فلان فلانا- من بابي ضرب ونصر- أجرا: أثابه على عمل، أو صار أجيرا له وبالوجهين فسر قوله تعالى: ﴿على أن تأجرني ثماني حجج...(٢٧)]﴾ [القصص] وسمى المهر أجرا مجازا- قال تعالى: ﴿فآتوهن أجورهن..(٦)﴾ [الطلاق] أي مهورهن- وقوله تعالى: ﴿فله أجره عند ربه.. (١١٢)﴾[البقرة] أي ثوابه [القاموس القويم بتصرف]..
٢ - فطر الله الخلق: خلقهم وبدأهم؛ فهو فاطر. قال تعالى: ﴿فاطر السماوات والأرض..(١٤)﴾ [الأنعام] أي: خالقهما. وقوله سبحانه: ﴿فطركم أول مرة..(٥١)﴾ [الإسراء] أي: خلقكم أول مرة في الدنيا. [القاموس القويم]..
٣ - فطر الله الخلق، كنصر: خلقهم وبدأهم، فهو فاطر، قال تعالى: ﴿فاطر السماوات والأرض..(١٤)﴾ [الأنعام] خالقها- وفطر الشيء شقه فطرا والجمع فطور، والاسم الفطرة قال تعالى: ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها..(٣٠)﴾ [الروم] [القاموس القويم باختصار].
٤ - قال نوح عليه السلام: [ سورة يونس، أية ٧٢]،[سورة هود، آية ٢٩]، [الشعراء آية ١٠٩]. وقالها هود عليه السلام: [هود: ٥١]، [الشعرء: ١٢٧] وقالها صالح عليه السلام لقومه ثمود: [الشعراء: ١٤٥] وقالها لوط عليه السلام: [الشعراء: ١٦٤]. وقالها شعيب [الشعراء: ١٨٠]..
٥ - وذلك أن فرعون من على موسى عليه السلام بهذا عند طلبه خروج بني إسرائيل معه، فقال فرعون: ﴿.. ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين (١٨) وفعلت فعلتك التي فعلت وآنت من الكافرين (١٩)﴾ [الشعراء] فلا يتأتى لموسى بعد هذا أن يقول ما قاله إخوانه من الرسل..
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان هود عليه السلام مخاطبا قومه :
﴿ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا١ ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ( ٥٢ ) ﴾ :
وهكذا نعلم أن الاستغفار هو إقرار بالتقصير وارتكاب الذنوب، فنقول : يا رب اغفر لنا.
وساعة تطلب المغفرة من الله تعالى، فهذا إعلان منك بالإيمان، واعتراف بأن تكليف الحق لك هو تكليف حق.
ومادام الإنسان قد طلب من الله تعالى أن يغفر له الذي فات من ذنوب، فعليه ألا يرتكب ذنوبا جديدة، وبعد التوبة على العبد أن يحرص على تجنب المعاصي.
وعلى الإنسان أن يتذكر أن ما به من نعمة فمن الله، وأن الكائنات المسخرة هي مسخرة بأمر الله تعالى، فلا تنسيك رتابة٢ الحياة عن مسببها الواهب لكل النعم.
والحق سبحانه وتعالى حين يرسل رسولا، فأول ما ينزل به الرسول إلى الأمة هو أن يصحح العقيدة في قمتها، ويدعوهم إلى الإيمان بإله واحد يتلقون عنه " افعل " و " لاتفعل ".
وهنا يكون الكلام من هود عليه السلام إلى قومه " قوم عاد "، والدعوة إلى الإيمان بإله واحد وعبادته، والأخذ بمنهجه لا يمكن أن يقتصر على الطقوس فقط من الشهادة بوحدانية الله تعالى، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج.
ولكن عبادة الله تعالى هي أن تؤدي الشعائر والعبادات، وتتقن كل عمل في ضوء منهج الله، فلا تعزل الدين عن حركة الحياة.
والذين يخافون من دخول الإسلام في حركة الحياة، يريدون منا أن نقصر الدين على الطقوس، ونقول لهم : إن الإسلام حينما دخل في حركة الحياة غزا الدنيا كلها، وحارب حضارتين عريقتين ؛ حضارة الفرس في الشرق، وحضارة الرومان في الغرب.
وهؤلاء كانوا أمما لها حضارات قديمة وقوية، وثقافات وقوانين، مع ذلك جاء قوم من البدو الأميين ؛ يقود عقيدتهم رجل أمي٣ أرسله الله سبحانه وتعالى ؛ فيطيح بكل هؤلاء ؛ نظما وثقافات وارتقاءات بمستوى الحياة إلى مستوى طموح العقول.
يريد هؤلاء- إذن- أن يقوقعوا الإسلام في الأركان الخمسة فقط ؛ ليعزلوه عن حركة الحياة.
ونقول لهم : لا، لا يمكنكم أن تقصروا العبادات على الأركان الخمسة فقط ؛ لأن العبادة معناها أن يوجد عابد لمعبود حق، وأن يطيع العابد أوامر المعبود ؛ وتتمثل أوامر المعبود في " افعل " و " لاتفعل " ؛ وما لم يرد فيه " افعل " و " لاتفعل " ؛ فهو مباح ؛ إن شئت فعلته وإن شئت لم تفعله ؛ وبفعله أو عدم فعله لا يفسد الكون.
إذن : فالعبادة هي كل أمر صادر من الله تعالى ؛ فلا تعزلوها في الطقوس ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغنا ؛ وأوضح لنا أن أركان الإسلام الخمس هي التي بنى عليها الإسلام ؛ وليست هي كل الإسلام٤.
إذن : فالإسلام بناء يقوم على أركان ؛ لذلك لا يمكن أن نحصر الإسلام في أركانه فقط ؛ فالإسلام هو كل حركة في الحياة، ولا بد أن تنتظم حركات البشر تبعا لمنهج الله، لتنتظم الحياة كما انتظم الكون من حولنا.
فالعبادة تستوعب كل حركة في الحياة، وقد فهم البعض خطأ أن العبادة تنحصر في باب العبادات في تقسيم الفقهاء، وأغفلوا أن باب المعاملات هو من العبادة أيضا، واستقامة الناس في المعاملات تؤدي إلى انتظام حياة الناس : وفي الآية الكريم التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه :﴿ ويا قوم استغفروا ربكم... ( ٥٢ ) ﴾ [ هود ] : والاستغفار٥ لا يكون إلا عن ذنوب سبقت ؛ وإذا كان هذا هو أول ما قاله هود عليه السلام لقومه ؛ إذن : فالاستغفار هنا عن الذنوب التي ارتكبوها مخالفة لمنهج الرسول الذي جاء من قبله، أو هي الذنوب التي ارتكبوها بالفطرة.
ثم يدعوهم بقوله :﴿ ثم توبوا إليه... ( ٥٢ ) ﴾ [ هود ] : والتوبة تقتضي العزم على ألا تنشئوا ذنوبا جديدة.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية :
﴿ يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم... ( ٥٢ ) ﴾ [ هود ] :
ولقائل أن يقول : وما صلة الاستغفار بهذه المسألة الكونية ؟
ونقول : إن للكون مالكا لكل ما فيه ؛ جماده ونباته وحيوانه ؛ وهو سبحانه قادر، ولا يقدر كائن أن يعصي له أمرا ؛ وهو القادر أن يخرج الأشياء عن طبيعتها ؛ فإذا جاءت غيمة وتحسب أنها ممطرة ؛ قد يأمرها الحق سبحانه فلا تمطر.
مثلما قال سبحانه في موضع آخر من كتابه الكريم :
﴿ فلما رأوه٦ عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم٧ به ريح فيها عذاب أليم ( ٢٤ ) ﴾ [ الأحقاف ] : إذن : فلا تأخذ الأسباب على أنها رتابة ؛ وإنما رب الأسباب يملكها ؛ فإن شاء فعل ما يشاء.
وإذا ما عبدت الله تعالى العبادة التي تنتظم بها كل حركة في الحياة ؛ فأنت تُقبل على عمارة الأرض ؛ وتوفر لنفسك القوت٨ باستنباطه من الأسباب التي طمرها٩ الله سبحانه وتعالى في الأرض.
والقوت- كما نعلم- من جنس الأرض ؛ لذلك لا بد أن نزرع الأرض ؛ وتمد البذور جذورها الضارعة المسبحة الساجدة لله تعالى ؛ فيمطر الحق سبحانه السماء ؛ فتأخذ البذور حاجتها من الماء المتسرب إليها عبر الأرض ؛ ونأخذ نحن أيضا حاجتنا من هذا الماء.
والسماء هي كل ما علاك فأظلك١٠ ؛ أما السماء العليا فهذا موضوع آخر، وكل الأشياء دونها.
وانظروا قول الحق سبحانه :﴿ من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ( ١٥ ) ﴾ [ الحج ] : أي : من كان يظن أن الله تعالى لن ينصر رسوله فليأت بحبل أو أي شيء ويربطه فيما علاه ويعلق نفسه فيه ؛ ولسوف يموت، وغيظه لن يرحل عنه.
﴿ ويرسل السماء عليكم مدرارا.. ( ٥٢ ) ﴾[ هود ] : والمدرار : هو الذي يدر بتتابع لا ضرر فيه ؛ لأن المطر قد يهطل بطغيان ضار، كما فتح الله سبحانه أبواب السماء بماء منهمر.
إذن : المدرار هو المطر الذي يتوالى تواليا مصلحا لا مفسدا.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول حين ينزل المطر :( اللهم حوالينا ولا علينا )١١.
ومتى أرسل المطر مدرارا متتابعا مصلحا ؛ فالأرض تخضر ؛ وتعمر الدنيا ؛ ونزداد قوة إلى قوتنا.
أما من يتولى١٢ ؛ فهو يجرم في حق نفسه ؛ لأن إجرام العبد إنما يعود على نفسه ؛ فلا تظن أن إجرامي أي عبد بالمعصية يؤذي غيره١٣.
والحق سبحانه يقول :﴿ .. ولكن الناس أنفسهم يظلمون ( ٤٤ ) ﴾[ يونس ].
١ - مدرارا: صيغة مبالغة، أي: كثير غزير متتابع. وقال الله سبحانه: ﴿وأرسلنا السماء عليهم مدرارا..(٦)﴾ [الأنعام] أي تدر عليهم مطرا غزيرا. [القاموس القويم] وقد وردت كلمة (مدرارا) في القرآن الكريم ثلاث مرات: في الآيات السادسة من سورة الأنعام، وفي الآية الثانية والخمسين من سورة هود، وفي الآية الحادية عشرة من سورة نوح..
٢ - رتابة الحياة: أي: سيرها على نظام واحد، لا يتخلف، فيبدو لك أنه يسير بنفسه وبذاته وتنسى مسيره ومسببه. قال في اللسان [مادة: رتب]: "الراتب: الثابت الدائم، والرتب: الشيء المقيم الثابت"..
٣ - هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وأمية رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أكد عليه رب العزة في القرآن، فقال: ﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل..(١٥٧)﴾ [الأعراف].
الأمي نسبة إلى الأم، كأنه باق على حالته التي ولد عليها مفطورا بفطرة الله بالتلقي عنه إلهاما ووحيا، فما نطق عن هوى ﴿إن هو إلا وحي يوحى (٤)﴾ [النجم] وهذا الوصف من خصوصيات النبي، وهي تشريف له، لأنه إذا كان أميا وأنزل الله عليه الكتاب المعجز، فلا شك أنه من عند الله والأمية دليل على أن علمه من الله مباشرة، وليس من البشر، ولو لم يكن أميا لقيل أنه قرأ ونقل عن غيره، "من أقوال الشيخ الشعراي" م. س..

٤ - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان) أخرجه البخاري في صحيحه [٨] ومسلم في صحيحه [١٦]..
٥ - غفر الذنب يغفره- كضرب- غفرا وغفرانا ومغفرة. ستره وعفا عنه ولم يعاقب فاعله، قال تعالى: ﴿نغفر لكم خطاياكم...(٥٨)﴾ [البقرة] والغافر: اسم فاعل وغفور وغفار: صيغتان للمبالغة وكلها من أسماء الله الحسنى، وغفران مصدر، والمغفرة مصدر ميمي، واستغفر طلب الغفران لنفسه، قال تعالى: ﴿واستغفر لهم الرسول.. ٦٤﴾ [النساء] طلب من الله أن يغفر لهم. [القاموس القويم باختصار].
٦ -أي: لما رأوا العذاب مستقبلهم اعتقدوا أنه عارض مطر ففرحوا واستبشروا به، وقد كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر. [تفسير ابن كثير ٤/١٦٠]..
٧ - وذلك أنهم قالوا لرسولهم هود عليه السلام: ﴿... فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (٢٢)﴾ [الأحقاف]..
٨ - القوت: الطعام يحفظ على البدن حياته، وجمعه "أقوات" قال تعالى: ﴿وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام..(١٠)﴾ [فصلت] أي: أقوات جميع سكان الأرض من إنسان وحيوان وكل شيء حي إلى آخر الدهر. وأقات النبات أو الحيوان: أمده بقوته الذي يحفظ حياته. وأقات عليه: حفظه وحفظ بقاءه قال تعالى: ﴿.. وكان الله على كل شيء مقيتا (٨٥)﴾ [النساء] أي: غالبا مقتدرا، أو حافظا واقيا حياته. [القاموس القويم] بتصرف..
٩ -طمرها: دفنها وأودعها وخبأها في باطن الأرض. والمطمورة: حقيرة تحت الأرض أو مكان تحت الأرض قد هيء خفيا يطمر فيه الطعام والمال. أي: يخبأ. [لسان العرب- مادة: طمر]..
١٠ - قال الزجاج: السماء في اللغة: يقال لكل ما ارتفع وعلا: قد سما يسمو. وكل سقف فهو سماء. والسماء: كل ما علاك فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت سماء. [اللسان: مادة سمو]..
١١ -أخرجه مسلم في صحيحه (٨٩٧)، والبخاري في صحيحة (٩٣٣)، فعن أنس بن مالك قال: أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه- وما نرى في السماء قزعة- فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال؛ فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"..
١٢ - يتولى: يعرض. والتولي: الإعراض والإدبار. ومنه قوله تعالى: ﴿فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (٨٢)﴾ [آل عمران]..
١٣ -والحق سبحانه يقول: ﴿ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما (١١١)﴾ [النساء] والإثم: الذنب، وعاقبته إنما تعود على نفسه..
ويأتي الحق سبحانه من بعد ذلك بالرد الذي قاله قوم عاد :
﴿ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة١ وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ( ٥٣ ) ﴾ :
وهم هنا ينكرون أن هودا قد أتاهم ببينة أو معجزة.
والبينة –كما نعلم- هي الأمارة الدالة على صدق الرسول.
وصحيح أن هودا هنا لم يذكر معجزته ؛ وتناسوا أن جوهر أي معجزة هو التحدي ؛ فمعجزة نوح عليه السلام هي الطوفان، ومعجزة إبراهيم عليه السلام أن النار صارت بردا٢ وسلاما عليه حين ألقوه فيها.
ونحن نلحظ أن المعجزة العامة لكل رسول يمثلها قول نوح عليه السلام :
﴿ .. يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي٣ وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة٤ ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ( ٧١ ) ﴾ [ يونس ] : أي : إن كنتم أهلا للتحدي، فها أنا ذا أمامكم أحارب الفساد، وأنتم أهل سيطرة وقوة وجبروت وطغيان.
وأحكموا كيدكم ؛ لكنكم لن تستطيعوا قتل المنهج الرباني ؛ لأن أحدا لن يستطيع إطفاء نور الله في يد رسول من رسله ؛ أو أن يخلصوا الدنيا منه بقتله... ما حدث هذا أبدا.
إذن : فالبينة٥ التي جاء بها هود عليه السلام أنه وقف أمامهم ودعاهم إلى ترك الكفر ؛ وهو تحدي القادرين عليه ؛ لأنهم أهل طغيان ؛ وأهل بطش ؛ ومع ذلك لم يقدروا عليه ؛ مثلما لم يقدر كفار قريش على رسولنا صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء ومعه المعجزة الشاملة وهي القرآن الكريم ؛ وسيظل القرآن معجزة إلى أن تقوم الساعة.
ونعلم أن غالبية الرسل- عليهم جميعا السلام- قد جاءوا بمعجزات حسية كونية ؛ انتهى أمدها بوقوعها، ولولا أن القرآن يخبرنا بها ما صدقناها، مثلها مثل عود الثقاب يشتعل مرة ثم ينطفئ.
فمثلا شفى عيسى- عليه السلام- الأكمه٦ والأبرص٧-بإذن ربه- فمن رآه آمن به، ومن لم يره قد لا يؤمن، وكذلك موسى-عليه السلام- ضرب البحر بالعصا فانفلق أمامه ؛ ومن رآه آمن به، وانتهت تلك المعجزات ؛ لكن القرآن الكريم باق إلى أن تقوم الساعة.
ويستطيع أي واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قبل قيام الساعة أن يقول : محمد رسول الله ومعجزته القرآن ؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء رسولا عاما ؛ ولا رسول من بعده ؛ لذلك كان لابد أن تكون معجزته من الجنس الباقي ؛ ومع ذلك قالوا له :
﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا٨ ( ٩٠ ) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ( ٩١ ) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا٩ أو تأتي بالله والملائكة قبيلا١٠ ( ٩٢ ) ﴾[ الإسراء ]، وكل ما طلبوه مسائل حسية ؛ لذلك يأتي الرد :﴿ أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يثلى عليهم... [ ٥١ ) ﴾ [ العنكبوت ].
ومع ذلك كذبوا.
وأضاف قوم عاد :﴿ .. وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ( ٥٣ ) ﴾ [ هود ].
هم- إذن- قد خدعوا أنفسهم بتسميتهم لتلك الأصنام " آلهة " ؛ لأن الإله هو من ينزل منهجا يحدد من خلاله كيف يعبد ؛ ولم تقل الأصنام لهم شيئا ؛ ولم تبلغهم منهجا.
إذن : فالقياس المنقطي يلغى تصور تلك الأصنام كآلهة ؛ فلماذا عبدوها ؟ لقد عبدوها ؛ لأن الفطرة تنادي كل إنسان بأن تكون له قوة مألوه لها ؛ والقوة المألوه لها إن كان لها أوامر تحد من شهوات النفس، فهذه الأوامر قد تكون صعبة على النفس، أما إن كانت تلك الآلهة بلا أوامر أو نواهي فهذه آلهة مريحة لمن يخدع نفسها بها، ويعبدها مظنة أنها تنفع أو تضر.
وهذه هي حجة كل ادعاء نبوة أو ادعاء مهدية١١ في هذا العصر، فيدعي النبي الكاذب النبوة، ويدعوا للاختلاط مع النساء، وشرب الخمر، وارتكاب الموبقات١٢، ويسمى ذلك دينا.
وتجد مثل هذه الدعاوى في البهائية١٣ والقاديانية١٤ ؛ وغيرها من المعتقدات الزائفة.
وقولهم :﴿ وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك.. ( ٥٣ ) ﴾ [ هود ] : يعني : وما نحن بتاركي آلهتنا بسبب قولك.
وقولهم :﴿ .. وما نحن لك بمؤمنين ( ٥٣ ) ﴾ [ هود ] : أي : وما نحن لك بمصدقين، لأن [ آمن ] تأتي بمعني متعددة١٥.
فإن عديتها بنفسها مثل قول الحق سبحانه :﴿ .. وآمنهم من خوف ( ٤ ) ﴾[ قريش ].
وإن عديتها بحرف [ الباء ] مثل قول الحق سبحانه :﴿ ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم.. ( ٦٢ ) ﴾ [ البقرة ] : فالمعنى يتعلق باعتقاد الألوهية.
وإن عديتها بحرف " اللام " ؛ مثل قول الحق سبحانه :﴿ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم.. ( ٨٣ ) ﴾[ يونس ] : تكون بمعنى التصديق.
١ - بينة: أي: دليل وبرهان وحجة واضحة لا شك فيها. وقال تعالى: ﴿كم آتيناهم من آية بينة..(٢١١)﴾ [البقرة] وقال تعالى: ﴿.. حتى تأتيهم البينة (١)﴾ [البينة]. [القاموس القويم] بتصرف..
٢ - البرد: ضد الحر، قال بعض العلماء: جعل الله في النار بردا يرفع حرها، وحرا يرفع بردها، فصارت سلاما عليه. قال أبو العالية: ولو لم يقل "بردا وسلاما" لكان بردها أشد عليه من حرها، ولو لم يقل "على إبراهيم" لكان بردها باقيا على الأبد. انظر تفسير القرطبي (٦/٤٤٨٢)..
٣ - مقامي (بضم الميمي): أي: لإقامتي بينكم. ومنه قوله تعالى: ﴿وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا..(١٣)﴾ [الأحزاب] أي: لا إقامة لكم. راجع تفسير ابن كثير..
٤ - الغمة: التباس الأمر وعدم وضوحه. وقال تعالى: ﴿وظللنا عليكم الغمام..(٥٧)﴾ [البقرة]. [القاموس القويم]..
٥ - أبان الشيء يبين بيانا أي: ظهر واتضح، فهو بين، وهي بينة أي ظاهر وظاهرة، ويستعمل البين والبينة بمعنى المظهر والمظهرة والموضح والموضحة، وبالمعنيين يفسر قوله تعالى: ﴿كم آتيناهم من آية بينة..(٢١١)﴾ [البقرة] أي واضحة لا شك فيها، والبينة الحجة والبرهان يقول الحق: ﴿.. حتى تأتيهم البينة (١) رسول من الله...(٢)﴾ [البينة] وتبين الأمر: وضح وظهر. [القاموس القويم].
٦ -كمه يكمه كمها، فهو أكمه: ولد أعمى، أو فقد بصره فهو أكمه. قال تعالى: ﴿وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله..(٤٩)﴾ [آل عمران] [القاموس القويم].
.

٧ - الأبرص: هو من أصابه داء البرص، وهو مرض جلدي يحدث بقعا بيضاء في الجلد تشوهه، وهو من أعراض مرض الجذام، قال تعالى: ﴿وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني..(١١٠)﴾[المائدة] [القاموس القويم]..
٨ - نبع الماء: خرج من العين. والينبوع: العين يخرج منها الماء غزيرا سهلا. والجمع: ينابيع. قال تعالى: ﴿فسلكه ينابيع في الأرض..(٢١)﴾ [الزمر] [القاموس القويم].
٩ - كسفا: قطعا. والكسفة: القطعة. وقال تعالى: ﴿وإن يروا كسفا من السماء ساقطا... (٤٤)﴾ [الطور]. وقال تعالى: ﴿إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء..(٩)﴾ [سبأ] [القاموس القويم]..
١٠ - القبيل: الجماعة أو العشيرة أو الأعوان المناصرون. قال تعالى: ﴿.. أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (٩٢){[الإسراء] معك ليؤيدوك [القاموس القويم]..
١١ - المقصود هؤلاء الذين يدعون أنهم المهدي المنتظر الذي جاء ذكره في أحاديث رواها البخاري في صحيحه، أنه يأتي في آخر الزمان، ويكون معاصرا لنزول عيسى بن مريم..
١٢ - الموبقات: المهلكات. أوبقه: أهلكه. وقال تعالى: {.. وجعلنا بينهم موبقا (٥٢)﴾ [الكهف] أي: جعلنا تواصلهم في الدنيا موبقا، أي: مهلكا لهم في الـآخرة [لسان العرب- مادة: وبق]..

١٣ - البهائية:/ طائفة ذات عقائد فاسدة، تنسب لـ ": الميرزا حسين على المازندراني" تربى بطهران، ولد عام ١٢٣٣هـ، أفكاره خليط من البوذية والمزدكية واليهودية والإسلام والمسيحية. انظر: حقيقة البابية والبهائية- د. محسن عبد الحميد ١٩٨٥م..
١٤ - القاديانية: تنسب لمرزا غلام أحمد من قاديان بلا هور من إقليم البنجاب بين الباكستان والهند، ولد ١٢٥٢هـ، وادعى النبوة.[القاديانية، نشأتها وتطورها. د. حسن عيسى- دار القلم/الكويت ١٩٨١م]..
١٥ - أمن يأمن: اطمأن ولم يخف. وأمن منه: سلم. وأمن على كذا: اطمأن إليه ووثق به، كقوله تعالى: ﴿قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل...(٦٤)﴾ [يوسف].
وآمن: اسم فاعل. قال تعالى: ﴿رب اجعل هذا البلد آمنا.. (٣٥)﴾ [إبراهيم]. أي: يأمن من يحل به.
وآمنه من خوف: جعله آمنا غير خائف. ومعاني المادة كلها ترجع إلى الثقة والاطمئنان. قال تعالى: ﴿.. وآمنهم من خوف (٤)﴾[قريشٍ] أي: جعلهم آمنين لا يخافون؛ لأنهم جيران الحرم الآمن في البلد الآمن.
والمؤمن: من أسماء الله الحسنى، أي: واهب الأمن وباعث الطمأنينة في قلوب المؤمنين؛ فلا خوف لمن يلجأ إليه سبحانه. قال تعالى: ﴿المؤمن المهيمن..(٢٣)﴾ [الحشر].
وآمن له: أذعن وخضع عن ثقة وحب وتقدير. قال تعالى: [ فآمن لوط..(٢٦)] العنكبوت. وآمن به: صدق به ووثق به عن اقتناع. قال تعالى: [إني آمنت بربكم فاسمعون (٢٥)} [يس].
والإيمان: الإذعان والتصديق. قال تعالى: ﴿يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا..(١٥٨)﴾ [الأنعام] [القاموس القويم] بتصرف..

يقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريئ مما تشركون ( ٥٤ ) ﴾ :
و " إن " التي تفتتح بها الآية الكريمة أداة شرطية، وأداة " إن " الشرطية يأتي بعدها جملة شرط، وجواب شرط، فإن لم تكن كذلك فهي تكون بمعنى النفي ؛ مثل قول الحق سبحانه :﴿ إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم.. ( ٢ ) ﴾ [ المجادلة ].
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ إن نقول إلا اعتراك١... ( ٥٤ ) ﴾[ هود ] : أي : " ما نقول إلا اعتراك ".
وهكذا نعلم أن كلمة " إن " هنا جاءت بمعنى النفي.
و " إلا " هي أداة استثناء، وقبلها فعل هو " نقول "، وإذا وجدت أداة استثناء، ولم يذكر المستثنى منه صراحة، فاعلم أنه واحد من ثلاثة : إما أن يكون مصدر الفعل، وإما أن يكون ظرف الفعل، وإما أن يكون حال الفعل٢.
وعلى ذلك فمعنى الآية الكريمة : وما نقول لك إلا أن آلهتنا أصابتك بسوء ؛ لأنك سفهتهم وأبطلت ألوهيتهم، وجئت بإله جديد من عندك، فأصابتك الآلهة بسوء- يراد به الجنون- فأخذت تخلط في الكلام الذي ليس له معنى.
ويرد عليهم هود عليه السلام بما جاء في نفس الآية :﴿ .. قال إني أشهد الله واشهدوا٣ أني بريء مما تشركون ( ٥٤ ) ﴾ [ هود ]. وهو يشهد الله الذي يثق أنه أرسله، ويحمي ذاته، ويحمي عقله ؛ لأن عقل الرسول هو الذي يدير كيفية أداء البلاغ عن الله.
والحق سبحانه وتعالى لا يمكن أن يرسل رسولا ولا يحميه.
وقد قال الكافرون عن سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أنه مجنون ؛ فأنزل الحق سبحانه وتعالى قوله الكريم :﴿ وما أنت بنعمة ربك بمجنون ( ٢ ) وإن لك لأجرا غير ممنون٤ ( ٣ ) وإنك لعلى خلق عظيم ( ٤ ) ﴾ [ القلم ] : ونحن نعلم أن المجنون لا خلق له، وفي هذا بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قمة العقل ؛ لأنه في قمة الخلق الطيب.
وهنا يشهد هود عليه السلام قومه ويطالبهم أن يرجعوا إلى الفطرة السليمة، ويحكموا : أهو مجنون أم لا، ويشهدهم أيضا أنه بريء من تلك الآلهة التي يشركون بعبادتها من دون الله تعالى.
١ - عراه يعروه: ألم به أو غشيه وأصابه. قال تعالى: ﴿إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء..(٥٤)﴾ [هود] أي: أصابك. قال الفراء: كانوا كذبوه- يعني: هودا عليه السلام- ثم جعلوه مختلطا، وادعوا أن آلهتهم هي التي خبلته لعيبه إياها، قال الفراء: معناه: ما نقول إلا مسك بعض أصنامنا بجنون لسبك إياها. [لسان العرب، والقاموس القويم]..
٢ - يسمى النحاة هذا النوع من أساليب الاستثناء "الاستثناء المفرغ" وهو ما حذف منه المستثنى منه، والكلام غير موجب [أي: منفى] مثل: ما تكلم إلا واحد. ويقول تعالى: [إن نظن إلا ظنا..(٣٢)} [الجاثية] أي: ما نظن إلا ظنا عظيما. انظر تفصيل ذلك في النحو الوافي [٢/٣١٧-٣٣٧]..
٣ - طلبه للشهادة هنا ليس لأنهم أهل للشهادة، ولكن المعنى: وأشهدكم نهاية للتقرير، أي: لتعرفوا أنني بريء من عبادة الأصنام التي تعبدونها. انظر تفسير القرطبي [٤/٣٣٧٠]..
٤ - غير ممنون: أي: غير مقطوع، بل هو دائم، ويحتمل أنه غير مكدر بالمن والتقريع والفخر به. والمعنيان لا يتعارضان [القاموس القويم ٢/٢٤٠]..
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان هود عليه السلام :
﴿ من دونه فكيدوني١ جميعا ثم لا تنظرون ( ٥٥ ) ﴾ :
وقوله :﴿ من دونه ﴾ أي : من دون الله، فهم قد عبدوا أصناما من دون الله سبحانه، ومطلب هود عليه السلام منهم أن يكيدوا له جميعا، وهم كثرة طاغية، وهو فرد واحد ؛ وإن كادت الكثرة المتجبرة لواحد، فمن المتوقع أن يغلبوه، وهو-عليه السلام- هنا يتحداهم ويطلب منهم أن يعملوا كل مكرهم وكيدهم، وأن يقتلوه لو استطاعوا، وهذه قمة التحدي.
والتحدي هنا معجزة ؛ لأن ساعة يتحداهم فهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى ينصره، وهو –عليه السلام- متأكد من قوله :﴿ أشهد الله... ( ٥٤ ) ﴾ [ هود ] : الذي قاله في الآية السابقة، ولا يمكن أن يرمي مثل هذا التحدي جزافا ؛ لأن الإنسان لا يجازف بحياته في كلمة.
وهو لم يقل :﴿ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ( ٥٥ ) ﴾ إلا إذا كان قد آوى إلى ركن شديد، وإنه ينطق بالكلمة عن إيمان بأن الحق سبحانه سيهبه قدرة على نفاذ الكلمة.
وهو قد أشهد الله تعالى، والله سبحانه هو أول من شهد لنفسه ؛ يقول الحق سبحانه :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو.. ( ١٨ ) ﴾ [ آل عمران ].
وكذلك شهدت الملائكة وأولوا العلم٢، والله سبحانه وتعالى حين شهد لنفسه فإنما يطمئننا أنه إذا ألقى أمرا علم أنه منفذا لا محالة.
وقد أشهد هود عليه السلام ربه سبحانه، وهو واثق من حمايته له وما كان الحق سبحانه ليرسل رسولا ليمكن منه قوما يزيحوه من حركة الرسالة.
١ - كان فلانا مكيده كيدا: خدعه ومكر به واحتال لإلحاق الضرر به، والكيد من الله تعالى هو إبطال كيد الكافرين، ومعاقبتهم على ما دبروه من كيد، قال تعالى: ﴿إنهم يكيدون كيدا (١٥) وأكيد كيدا (١٦)﴾ [الطارق]، والكيد مصدر ويطلق على العمل أو الوسيلة التي يتذرع بها الكائد يقول الحق: ﴿فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا.. (٦٤)﴾ [طه] [القاموس القويم بتصرف]..
٢ - يقول رب العزة سبحانه وتعالى: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط..(١٨)﴾ [آل عمران]..
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان هود عليه السلام :﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة١ إلا هو آخذ بناصيتها٢ إن ربي على صراط٣ مستقيم ( ٥٦ ) ﴾ :
يعلن لهم هود عليه السلام حقيقة أنه يتوكل على الله تعالى الذي لا يعلوهم فقط، ولا يرزقهم وحدهم، بل هو الآخذ بناصية كل دابة تدب في الأرض ولها حرية وحركة، والناصية هي مقدم الرأس، وبها خصلة من الشعر.
وحين تريد إهانة واحد فأنت تمسكه من خصلة الشعر هذه وتشده منها.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ يعرف المجرمون بسيماهم٤ فيؤخذ بالنواصي والأقدام ( ٤١ ) ﴾ [ الرحمان ].
وفي آية أخرى يقول الله سبحانه :﴿ كلا لئن لم ينته لنسفعا٥ بالناصية( ١٥ ) ﴾[ العلق ].
إذن : فكيف لم يجرؤ قوم عاد على أن يسلطوا مجموعة ثعابين، وأعدادا من الكلاب المتوحشة – مثلا- على سيدنا هود عليه السلام.
لم يستطيعوا ذلك، وقد أعلن لهم سبب عجزهم عن الإضرار به حين قال لهم :
﴿ .. ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ( ٥٦ ) ﴾[ هود ].
ونحن نلحظ أنه عليه السلام قال في صدر٦ الآية :﴿ ربي وربكم... ( ٥٦ ) ﴾، وفي عجز٧ الآية قال :﴿ .. إن ربي ( ٥٦ ) ﴾، والسبب في قوله :﴿ ربي وربكم.. ( ٥٦ ) ﴾ أنهم كانوا قادحين٨ في مسألة ربوبية الحق سبحانه.
لذلك قال عليه السلام في مجال السيطرة ﴿ ربي وربكم ﴾ أما في عجز الآية فقال :
﴿ .. إن ربي على صراط مستقيم ( ٥٦ ) ﴾ [ هود ] : أي : أن الإله الواحد سبحانه له مطلق العدالة، ولم يأت هنا بشيء يخص أربابهم ؛ لأنه هنا يتحدث عن مطلق عدالة الحق سبحانه.
والحق سبحانه وتعالى على صراط مستقيم في منتهى قدرته، وقهره وسيطرته، ولا شيء يفلت منه، ومع كل قدرة الله تعالى اللامتناهية فهو لا يستعمل قهره في الظلم.
١ - الدابة: اسم فاعل، وغلب على غير العاقل، ويستوي فيه المذكر والمؤنث، وقد يشمل العاقل وغيره، كقوله تعالى: ﴿وبث فيها من كل دابة..(١٦٤)﴾ [البقرة] تشمل الإنسان وغيره. وقوله تعالى: ﴿وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم...(٦٠)﴾ [العنكبوت] الدابة هنا كل حيوان ما عدا الإنسان بدليل كلمة ﴿وإياكم] فالعطف يقتضي المغايرة. وقوله تعالى: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون (٢٢)﴾ [الأنفال] تشمل الحيوان والإنسان الكافر.
وقوله تعالى: ﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة..(٢٩)﴾ [الشورى] والدابة هنا تشمل الكائنات الحية في الأرض والسماء، وفيها دليل على أن في السماء كائنات حية وعاقلة [القاموس القويم] بتصرف..

٢ - الناصية: ما يبرز من الشعر في مقدم الرأس فوق الجبهة، ويسمى مكانه أيضا" ناصية" وأخذ بناصية فلان: قبض عليه وسيطر عليه متمكنا منه.
وقوله تعالى: ﴿ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها..(٥٦)﴾ [هود] أي: مسيطر عليها مالك أمرها متصرف فيها. وقوله تعالى: ﴿.. فيؤخذ بالنواصي والأقدام (٤١)﴾ [الرحمان] أي: يجر المجرمون من نواصيهم وأقدامهم، فتربط ناصية المجرم مع قدميه، ويؤخذ فيلقى في النار عاجزا مهانا. وقوله تعالى: ﴿ناصية كاذبة خاطئة (١٦)﴾ [العلق] مجاز مرسل علاقته الجزئية، أي: صاحبها كاذب خاطئ [القاموس القويم]..

٣ - الصراط: لغة في السراط، وبهما قرئ- بالصاد، والسين- وهو السبيل والطريق للخير والشر، فمن الخير قوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم (٦)﴾ [الفاتحة] وقوله تعالى: ﴿... إن ربي على صراط مستقيم (٥٦)﴾ [هود]. ومن الشر والهلاك، قوله تعالى: ﴿.. فاهدوهم إلى صراط الجحيم (٢٣)﴾ [الصافات] والتعبير بقوله تعالى: ﴿فاهدوهم﴾ على سبيل التهكم والسخرية. [القاموس القويم]..
٤ - السيماء والسيما والسيمة: العلامة، وسوم الشيء: أعلمه يسومه أي: بعلامة [القاموس القويم]..
٥ - سفع بناصيته: قبض عليها فاجتذبها، أي: لنجذبنه من ناصيته إذلالا له، وذلك كناية عن الإذلال والقهر والإهانة [القاموس القويم ١/٣١٦]..
٦ - الصدر: مقدم كل شيء وأوله. والمراد بداية الآية الكريمة..
٧ - عجز كل شيء: مؤخره والمراد: نهاية الآية الكريمة..
٨ - القدح في الشيء: العيب فيه وانتقاصه. [راجع اللسان- مادة: قدح]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ فإن تولوا١ فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ٢( ٥٧ ) ﴾ :
الفعل " تولوا " أصله : " تتولوا "، وفي اللغة : إذا ابتدأ فعل بتاءين يقتصر على تاء واحدة.
وهكذا يكون المعنى : إن تتولوا فقد أبلغتكم المنهج الذي أرسلت به إليكم، ولا عذر لكم عندي ؛ لأن الحق سبحانه لا يعذب قوما وهم غافلون ؛ لذلك أرسلني إليكم.
أو أن الخطاب من الله سبحانه لهود عليه السلام ليبين له : فإن تولوا فقل لهم :﴿ أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم.. ( ٥٧ ) ﴾ [ هود ].
والاستخلاف أن يوجد قوم خلفاء٣ لقوم، إما أن يكونوا عادلين ؛ فلا يقفوا منا لمناهج ولا من الرسالات مثلما وقف قوم عاد.
وإما أن يكونوا غير عادلين، مثل من قال فيهم الحق سبحانه :﴿ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.. ( ٥٩ ) ﴾ [ مريم ] والحق سبحانه قد وعد المؤمنين وعدا طيبا :﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم.. ( ٥٥ ) ﴾ [ النور ] :
إذن : فالاستخلاف إما أن يكون الخلف فيه صاحب عمل صالح، أو أن يبدد المنهج فلا يتبعه، بل يتبع الشهوات.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه :﴿ ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لم يكونوا أمثالكم ( ٣٨ ) ﴾ [ محمد ].
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ولا تضرونه شيئا.. ( ٥٧ ) ﴾[ هود ] : لأن المنهج الذي نزل على الخلق، أنزله الحق سبحانه وتعالى لصلاح العباد، وهو سبحانه خلق أولا بكل صفات الكمال فيه، ولن يزيده العباد وصفا من الأوصاف، ولن يسلبه أحد وصفا من الأوصاف٤.
ولذلك نقول للمتمردين على عبوديتهم لله كفرا، وللمتمردين على المنهج بالمعصية : أنتم ألفتم التمرد ؛ إما التمرد في القمة وهو الكفر بالله، وإما التمرد على أحكام الله بمخالفتها، فلماذا لا يتمرد أحدكم على المرض، ويقول : " لن أمرض " ؟ ولماذا لا يتمرد أحدكم على الموت ويرفض أن يموت ؟
إذن : فما دمت قد عرفت التمرد فيما لك فيه اختيار، فهل تستطيع التمرد على أحكام الله القهرية فيك ؟
إنك لن تستطيع ؛ لأنك مأخوذ بناصيتك. والحق سبحانه إن شاء أن يوقف القلب، فلن تستطيع أن تأمر قلبك بعدم بالتوقف.
لذلك قال هود عليه السلام :﴿ .. ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ( ٥٧ ) ﴾ [ هود ] : فالله سبحانه رقيب ؛ لأنه قيوم قائم على كل أمور كونه.
وبعض الفلاسفة قالوا : إن الله قد خلق الكون، وخلق النواميس٥ والقوانين، ثم تركها تقوم بعملها.
ولهؤلاء نقول : لا ؛ فأنتم أقررتم بصفات الخالق القادر، فأين صفات القيومية لله القائم على كل نفس بما كسبت، وهو سبحانه القائل لعبيده عن نفسه :﴿ لا تأخذه سنة٦ ولا نوم.. ( ٢٥٥ ) ﴾[ البقرة ] : وهو سبحانه حين يقول هذا إنما يطمئن العباد ؛ ليناموا ويرتاحوا ؛ لأنه سبحانه منزه عن الغفلة أو النوم، بل هو سبحانه قيوم.
١ - ولى عن الشيء: انصرف عنه، أو أعرض عنه. وقال تعالى: ﴿... ولوا على أدبارهم نفورا (٤٦)﴾ [الإسراء] أي: أعرضوا. وقال تعالى: ﴿فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ..(٢٠)﴾ [أل عمران] [القاموس القويم]..
٢ - حفيظ: من أسماء الله الحسنى. والحفيظ: الحافظ الأمين الذي يحفظ عباده ويحميهم. قال تعالى: ﴿.. وربك على كل شيء حفيظ (٢١)﴾ [سبأ] [القاموس القويم- بتصرف]..
٣ - خلفه يخلفه من باب نصر: جاء بعده فصار مكانه. والخلف القرن من الناس أي الجيل بعد الجيل، والخلف الولد قال تعالى: ﴿فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة (٥٩)﴾ [مريم] والخليفة من يخلف غيره وجمعها خلفاء وخلائف، يقول الحق: ﴿واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح..(٦٩)﴾ [الأعراف] وقال: ﴿هو الذي جعلكم خلائف في الأرض..(٣٩)﴾ [فاطر] [القاموس القويم ص ٢٠٣، ٢٠٤ جـ١]..
٤ - يقول رب العزة في الحديث القدسي: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أنقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا" أخرجه مسلم في صحيحه [٢٥٧٧]، وأحمد في مسنده (٥/١٥٤) وابن ماجه في سننه (٤٢٥٧) من حديث أبي ذر رضي الله عنه..
٥ - النواميس: القوانين الإلهية التي يخضع لها الكون..
٦ - السنة: النعاس وهو أول النوم. والنعاس ما كان من العين فإذا بصر في القلب صار نوما. وقد فرق المفضل الضبي بينهما فقال: السنة من الرأس، والنعاس من العين، والنوم في القلب. [راجع تفسير القرطبي ٢/ ١١٩٦].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ١ ( ٥٨ ) ﴾ :
وساعة تسمع ﴿ ولما جاء أمرنا ﴾ فأنت تعرف أن هناك آمرا وأمرا مطاعا، وبمجرد صدور الأمر من الآمر سبحانه يكون التنفيذ ؛ لأنه يأمر من له قدرة على التنفيذ.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ إذا السماء انشقت( ١ ) وأذنت لربها وحقت٢ ( ٢ ) ﴾[ الانشقاق ] : إذن : فهي بمجرد السمع نفذت أمر الحق سبحانه.
وحين شاء الحق سبحانه أن ينجي موسى عليه السلام من الذبح الذي أمر به فرعون ؛ أوحى الله سبحانه لأم موسى قائلا :﴿ .. فإذا خفت عليه فألقيه في اليم٣ ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ( ٧ ) ﴾ [ القصص ].
وكيف تفعل أم ذلك ؟
إن كل أم إنما تحرص على ابنها ؛ والذبح لموسى أمر مظنون، والإلقاء في البحر موت محقق٤، لكن أم موسى استقبلت الوحي ؛ ولم تتردد ؛ مما يدل على أنها لم تناقش الأمر بمقاييس البشر، بل بتنفيذ إلهام وارد إليها من الله سبحانه ؛ إلهام لا ينازعه شك أو شيطان.
وبعد ذلك يأمر الله سبحانه البحر :﴿ فليلقه اليم بالساحل٥.. ( ٣٩ ) ﴾ [ طه ] : وقد استقبل البحر الأمر الإلهي ؛ لأنه أمر من قادر على الإنفاذ، كما قام بتنفيذ الضد.
في قصة نوح عليه السلام قال الحق سبحانه :﴿ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور.. ( ٤٠ ) ﴾ [ هود ] : وحدث الطوفان : ليغرق الكافرين.
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ ولما جاء أمرنا.. ( ٥٨ ) ﴾ [ هود ] : يعني : مجيء الأمر بالعذاب للمخالفين لدعوة هود عليه السلام، وقد تحقق هذا العذاب بطريقة خاصة ودقيقة ؛ تتناسب في دقتها مع عظمة الآمر بها سبحانه وتعالى.
فحين تأتي ريح صرصر٦ أو صيحة طاغية، فهذا العذاب من خارجهم، ومادام العذاب من الخارج، وبقوة من قوى الطبيعة الصادرة بتوجيه الله ؛ فقد يعم المكذبين لسيدنا هود، ومعهم المصدقون به وبرسالته، فكيف يتأتى أن تذهب الصيحة إلى آذان المكذبين فقط، وتخرق تلك الآذان ؛ وتترك آذان المؤمنين ؟
إنها قدرة التقدير لا قوة التدمير.
إن موجه الصيحة قد حدد لها من تصيب ومن تترك، وهي صيحة موجهة، مثلها مثل حجارة سيجيل٧ التي رمتها طير أبابيل٨ على أبرهة الحبشي وجنوده ؛ مع نجاة جنود قريش بنفس الحجارة ؛ ولم تكن إصابة بالطاعون كما ادعى بعض من المتفلسفين.
وهذه من أسرار عظمة الحق سبحانه فهو يأخذ بشيء واحد ؛ ولكنه ينجى المؤمن ؛ ويعذب الكافر ؛ فلا يوجد ناموس يحكم الكون بدون قدرة مسيطرة عليه.
يقول المتنبي٩ :
تسود الشمس منا بيض أوجهنا **** وما تسود بيض العين واللمم
وكان حالهما في الحكم واحدة **** لو احتكمنا من الدنيا إلحكم١٠
وهكذا يضرب المتنبي المثل بأن جلوس الواحد منا في الشمس ؛ يجعل بشرة الأبيض تميل إلى السمرة ولا تسود بياض الشعر، لكنك إن تركت شيئا أسود في الشمس فترة لوجدته يميل إلى الأبيض ؛ ويحدث ذلك رغم أن الفاعل واحد ؛ لكن القابل مختلف.
والحق سبحانه يقول هنا :﴿ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا.. ( ٥٨ ) ﴾ [ هود ] : فلا تقل كيف نجوا من العذاب الجامع والعذاب العام ؛ لأن هذه هي الرحمة.
والرحمة-كما نعلم- هي ألا يمس الداء الإنسان من أول الأمر ؛ أما الشفاء فهو يعالج الداء.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.. ( ٨٢ ) ﴾ [ الإسراء ].
ونحن نلحظ هنا أن الحق سبحانه يذكر في نفس الآية الكريمة نجاتين :
النجاة الأولى : من العذاب الجامع ؛ الريح الصرصر ؛ من الصيحة ؛ من الطاغية يقول سبحانه :﴿ .. نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ( ٥٨ ) ﴾[ هود ].
والنجاة الثانية : هي نجاة من عذاب الآخرة الغليظ، فعذاب الدنيا رغم قسوته، إلا أنه موقوت بعمر الدنيا.
أما عذاب الآخرة فهو عذاب بلا نهاية، ووصفه الحق سبحانه بالغلظة.
وغلظ الشيء يعطي له القوة والمتانة، وهو عذاب غليظ على قدر ما يستوعب الحكم.
ولذلك حينما يملك الحق سبحانه رجلا بضع١١ امرأة بعقد الزواج، ويصف ذلك بالميثاق الغليظ، والنفعية هنا متصلة بالعفة والعرض، ولم يملك الرجل النفعية المطلقة من المرأة١٢ التي يتزوجها ؛ فالزوج يمكن من عورة زوجته بعقد الزواج.
يقول الحق سبحانه :﴿ .. وأخذن منكم ميثاقا غليظا١٣ ( ٢١ ) ﴾[ النساء ].
وكانت نجاة هود عليه السلام والمؤمنين معه من العذاب الأول مقدمة للنجاة من العذاب الغليظ.
١ - عذاب غليظ: أي: كبير كثير شديد صعب. [القاموس القويم]..
٢ - حق له [بالبناء للمجهول]: أثبت له. قال تعالى: ﴿وأذنت لربها وحقت (٢)﴾ [الانشقاق] أي: كان حقا ثابتا عليها أن تخضع لأمر الله. [القاموس القويم]..
٣ - اليم: البحر أو النهر العذب. وقد ورد المعنيان في القرآن، فقال تعالى: ﴿فأغرقنا في اليم..(١٣٦)﴾ [الأعراف]، وهو خليج السويس وماؤه ملح، وهو امتداد البحر الأحمر.
وقال تعالى لموسى: ﴿إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى (٣٨) أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل..(٣٩)﴾ [طه] فاليم هنا هو نهر النيل العذب. [القاموس القويم]..

٤ -" أم موسى عاشت في خوف مظنون مصحوب بقلق، فقد يحدث وقد لا يحدث، كما عاشت في خوف محقق وهو إلقاء ابنها في البحر، فالبحر يعني الغرق... ولكن جانب الإلهام جعلها تستقبل الخوف المحقق بالإيمان التقي، فالبحر استقبله، والموج يداعبه، والشاطئ يقبله، والعدو يربيه، وعين الله ترعاه..
٥ - الساحل: شاطئ النهر؛ لأن الموج يأكل منه وينحته ويسحته، قال تعالى: ﴿فليقه اليم بالساحل..(٣٩)﴾ [طه] أي: بشاطئ النهر. [القاموس القويم]..
٦ - الصر: البرد الشديد. قال تعالى: ﴿كمثل ريح فيها صر..(١١٧)﴾ [آل عمران] وقال تعالى: ﴿وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية (٦)﴾ [الحاقة] [القاموس القويم]..
٧ - السجيل: الطين المتحجر، قال تعالى: ﴿.. وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود (٨٢)﴾ [هود] وقال تعالى: ﴿ترميهم بحجارة من سجيل (٤)﴾ [الفيل] [القاموس القويم]..
٨ - أبابيل: جماعات متفرقة لا واحدة لها من لفظها، وهي تفيد الكثرة. قال تعالى: ﴿وأرسل عليهم طيرا أبابيل﴾(٣) [الفيل] القاموس القويم]..
٩ - هو: أبو الطيب أحمد بن الحسين، شاعر حكيم، ولد بالكوفة في محلة تسمى "كندة: عام ٣٠٣هـ، نشأ بالشام، ادعى النبوة في بادية السماوة [بين الكوفة والشام]، ولذلك سمى بالمتنبي، ثم رجع عن دعواه بعد أسره، توفي عام ٣٥٤ هـ عن ٥٢ عاما. [الأعلام لخير الدين الزركلي]..
١٠ - المتنبي رغم أنه أديب له قدرة على إدارة المعاني، فقد تعرض لحقيقة علمية يؤخذ منها الأسرار الخفية، التي تجعل العقل مختارا بتوحيد لقدرة الله سبحانه..
١١ - البضع: النكاح والجماع، والمباضعة: المجامعة ومباشرة الرجل للمرأة [لسان العرب- مادة: بضع]..
١٢ - فللمرأة –مثلا- ذمة مالية خاصة بها، ليس من حق زوجها الاستيلاء على مالها، أو التدخل في كيفية استثماره إلا بعد موافقتها بإرادتها الحرة..
١٣ - ميثاقا غليظا: أي: عظيما كبير الشأن، هو ميثاق الزواج. [القاموس القويم]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وتلك عاد جحدوا١ بآيات ربهم وعصوا رسله٢ واتبعوا أمر كل جبار عنيد٣ ( ٥٩ ) ﴾ :
و " تلك " إشارة إلى المكان الذي عاش فيه قوم عاد ؛ لأن الإشارة هنا لمؤنث، ولنتذكر أن المتكلم هنا هو الله سبحانه وتعالى.
وهكذا فصل بين " عاد " المكان، و " عاد " المكين، وهم قوم عاد ؛ لذلك قال سبحانه :﴿ جحدوا بآيات ربهم.. ( ٥٩ ) ﴾ فهم قد ذهبوا وبقيت آثارهم.
و " عاد " إما أن تطلق على المكان والمحل، وإما أن تطلق على الذوات التي عاشت في المكان، فإذا أشار سبحانه ب ﴿ تلك ﴾ فهي إشارة إلى الديار، والديار لم تجحد بآيات الله ؛ ولذلك جاء بعدها بقوله تعالى :﴿ جحدوا بآيات ربهم.. ( ٥٩ ) ﴾ [ هود ] : والجحود هو النكران مع قوة الحجة والبرهان.
والآيات-كما نعلم- جمع آية، وهي الأمور العجيبة الملفتة للنظر التفاتا يوحي بإيمان بما تنص عليه.
ومن الآيات ما يدل على قمة العقيدة، وهو الإيمان بواجب الوجود ؛ بالله الرب الخالق الحكيم القادر سبحانه وتعالى، مثل آيات الليل والنهار والشمس والقمر، ورؤية الأرض خاشعة إلى آخر تلك الآيات التي في القمة.
وكذلك هناك آيات أخرى تأتي مصدقة لمن يخبر أنه جاء رسولا من عند الله تعالى، وهي المعجزات.
وآيات أخرى فيها الأحكام التي يريدها الله سبحانه بمنهجه لضمان صحة حركة الحياة في خلقه.
وقوم عاد جحدوا بكل هذه الآيات ؛ جحدوا الإيمان، وجحدوا تصديق الرسول بالمعجزة، وأهملوا وتركوا منهج الله جحودا بإعراض٤.
لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وعصوا رسله.. ( ٥٩ ) ﴾[ هود ] : وهود عليه السلام هو الذي أرسله الحق سبحانه إلى قوم عاد، فهل هو المعني بالعصيان هنا ؟
نقول : لا ؛ لأن الله عز وجل قال :﴿ وإذ أخذ الله ميثاق٥ النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه.. ( ٨١ ) ﴾[ آل عمران ].
إذن : فكل أمة من الأمم عندها بلاغ من رسولها بأن تصدق أخبار كل رسول يرسل.
ولذلك قال الحق سبحان :﴿ كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله... ( ٢٨٥ ) ﴾[ البقرة ] : فهم قد انقسموا إلى قسمين : لأن الحق سبحانه يقول :﴿ .. وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد٦ ( ٥٩ ) ﴾ [ هود ] : أي : أن هناك متبعا، ومتبعا.
والمقصود بالجبار العنيد هم قمم المجتمع، سادة الطغيان والصنف الثاني هم من اتبعوا الجبابرة.
ومن رحمته سبحانه أنه حين يتكلم عن الفرق الضالة، فهو يتكلم أيضا عن الفرق المضلة، فهناك ضال في ذاته، وهناك مضل لغيره.
والمضل لغيره عليه وزران٧ : وزر ضلاله في ذاته، ووزر إضلال غيره٨.
أما الذين اتبعوا فلهم بعض العذر ؛ لأنهم اتبعوا بالجبروت والقهر، لا بالإقناع والبينة.
وانظر إلى القرآن الكريم حين يعالج هذه القضية، فيتحدث عن الفئة التي ضلت في ذاتها ويقول :{ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني٩ وإن هم إلا يظنون ( ٧٨ ) [ البقرة ].
ويتحدث الحق سبحانه بعد ذلك عن الفئة المضلة فيقول :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا... ( ٧٩ ) ﴾[ البقرة ].
١ -جحد الحق يجحده جحودا: أنكره، وهو يعلمه، وجحد النعمة: أنكرها ولم يشكرها، وجحد الآية: كفر بها. قال تعالى: ﴿.. ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (٣٣)﴾ [الأنعام] [القاموس القويم]..
٢ - جاءت (رسل) هنا بصيغة الجمع، لا المفرد، قال القرطبي في تفسيره (٤/٣٣٧٣): "يعني هودا وحده، لأنه لم يرسل إليهم من الرسل سواه، ونظيره قوله تعالى: ﴿يا أيها الرسل كلوا من الطيبات..(٥١)﴾ [المؤمنون]. يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جمع هذا لأن من كذب رسولا واحدا فقد كفر بجميع الرسل. وقيل: عصوا هودا والرسل قبله، وكانوا بحيث لو أرسل إليهم ألف رسول لجحدوا الكل"..
٣ - جبار: المتكبر والعنيد: الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له. [تفسير القرطبي ٤/٣٣٧٣]..
٤ - الجحود لا يتأتى إلا عند إغلاق القلب وشرود الفكر وضعف النفس..
٥ - الميثاق والموثق: العهد المؤكد. قال تعالى: ﴿واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به..(٧)﴾ [المائدة] أي: عهده الذي عاهدكم عليه وألزمكم الوفاء به. [القاموس القويم ٢/ ٣١٩]..
٦ - العنيد: صيغة مبالغة. قال تعالى: ﴿واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد (١٥)﴾ [إبراهيم [القاموس القويم] ص ٣٩٠ جـ٢..
٧ - الوزر: الحمل الثقيل والذنب، وجزاء الذنب وعقوبته، والهم والكرب، قال تعالى: ﴿.. فإنه يحمل يوم القيامة وزرا (١٠٠)﴾ [طه] أي: حملا ثقيلا هو ذنبه أو جزاء ذنبه، وقوله تعالى: ﴿ووضعنا عنك وزرك (٢)﴾ [الشرح] أي: همك الذي أتعبك وهو هم البحث عن الدين الحق، فلما جاءته الرسالة زالت هموم نفسه وبدأ يعمل للإسلام في نشاط وهمة لا يحمل إلا هم أمته، أو يكون الوزر هو الذنب الذي كنت تراه ذنبا لشدة حبك لله وخوفك إياه، وقد وضعه عنك وغفره لك. قال تعالى: ﴿ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر..(٢)﴾ [الفتح] فالرسول صلى الله عليه وسلم يرى الهفوات الصغيرة ذنوبا كبيرة فوضعها الله عنه بالمغفرة [القاموس القويم ٢/٣٣٣]..
٨ - قال تعالى عن الذين يضلون غيرهم: ﴿ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون (٢٥)﴾ [النحل]، وقال تعالى عن الكافرين: ﴿وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون (١٣)﴾ [العنكبوت] والأثقال هي الذنوب، ويحملون أثقال من أضلوهم فاتبعوهم في ضلالهم [راجع: القاموس القويم، مادة ثقل]..
٩ - الأماني: جمع أمنية، وهي ما يرغب الإنسان فيه من الخير، فعلمهم من الكتاب ليس أماني كاذبة في دخول الجنة دون أن يصدقها عملهم، ولذلك قال تعالى: ﴿ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب.. دخول الجنة دون أن يصدقها عملهم، ولذلك قال تعالى: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب (١٢٣)﴾ [النساء]. [القاموس القويم ٢/٢٣١] بزيادة يقتضيها المقام..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة١ ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود ( ٦٠ ) ﴾ :
والزمان بالنسبة للخلق ثلاثة أقسام : حياتهم زمن أول، ومن لحظة الموت إلى أن تقوم الساعة زمن ثان وهو زمن البرزخ٢، وساعة يبعثون هي الزمن الثالث.
والحياة الأولى فيها العمل، وحياة البرزخ فيها عرض الجزاء٣، مجرد العرض، والحياة الثالثة هي الآخرة إما إلى الجنة وإما إلى النار.
يقول الحق سبحانه :
﴿ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ( ٢٨ ) ﴾[ البقرة ] : هذه هي الأزمنة الثلاثة- حياة، وبرزخ، وبعث- وكل وقت منها له ظرف. ويعبر القرآن عن هذا، فيقول عن عذاب آل فرعون منذ أن أغرقهم الله سبحانه في البحر :﴿ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا٤ ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ( ٤٦ ) ﴾[ غافر ].
وفي هذا دليل على عرض الجزاء في البرزخ مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار )٥.
إذن : فهنا زمنان : زمن عرضهم على النار غدوا وعشيا، وزمن دخولهم النار.
وهذا يثبت عذاب البرزخ ؛ لأن الإنسان الكافر يرى فيه موقعه من النار٦، ويرى نصيبه من العذاب، ثم تقوم الساعة ليأخذ نصيبه من العذاب.
وبالنسبة لقوم عاد، أذاقهم الله سبحانه العذاب في الدنيا، ثم يدخلهم النار يوم القيامة.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية :﴿ ... ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود ( ٦ ) ﴾[ هود ] : وكلمة " ألا " ٧ هي أداة تنبيه- كما قلنا من قبل- تنبه السامع إلى أهمية ما يلقيه المتكلم حتى لا يجابه السامع بالكلام وهو غافل، ولأن المتكلم هو الذي يقود زمام الكلام، فيجب ألا يستقبله السامع غافلا، فتأتي كلمة " ألا " كجرس ينبه إلى ما بعدها من كلام.
والكلام عن قوم عاد الذين نالوا عذابا في الدنيا بالريح العقيم٨، ثم أتبعوا لعنة في البرزخ، وسوف يستقبلون يوم القيامة باللعنات ؛ فهذه لعنات ثلاث.
وجاء الحق سبحانه وتعالى بحيثية هذه اللعنات مخافة أن يرق قلب السامع من كثرة ما يقع عليهم من لعن، فبين بكلمة " ألا " أي : تنبهوا إلى أن قوم عاد كفروا ربهم.
وللجريمة زمن، وللعقوبة عليها زمن، وكفرهم بربهم حدث في الدنيا، وهو كفر في القمة ؛ لذلك نالوا عقابا في الدنيا.
والخطر كل الخطر أن يتأخر زمن العقوبة عن زمن الجريمة، فلا تأخذكم بهم الرحمة الحمقاء، لأن كفرهم هو الكفر بالقمة العقدية ؛ لذلك تواصل لعنهم في البرزخ، ثم تأتي لهم لعنة الآخرة.
وهم لم يكفروا بنعمة ربهم، بل كفروا بربهم.
والحق سبحانه لم يطلب من أحد عبادته قبل سن التكليف، وقدم لهم كما يقدم لكل الخلق نعمه التي لا تعدو ولا تحصى ؛ ولذلك فهم يستحقون اللعنات وهي الجزاء العادل.
وقد أوضح لهم هود عليه السلام :
﴿ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها٩ إن ربي على صراط مستقيم ( ٥٦ ) ﴾[ هود ] : أي : أن الحق سبحانه عادل.
وأنت حين تسمع جريمتهم ؛ تنفعل وتطلب أقصى العقاب لهم ؛ ولذلك يأتي قول الحق سبحانه :﴿ .. ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود ( ٦٠ ) ﴾[ هود ] :
فأنت لا تكتفي بلعنتهم الأولى، بل تلعنهم مرة أخرى.
ولسائل أن يقول : ولماذا يقول الحق سبحانه هنا :﴿ ... ألا بعدا لعاد قوم هود ( ٦٠ ) ﴾[ هود ].
ونقول : لقد قال الحق سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن :﴿ وأنه أهلك عادا الأولى ( ٥٠ ) ﴾[ النجم : وهذا يوضح لنا أن " عادا " كانت اثنتين : عادا الأولى، وهم قوم عاشوا وضلوا فأهلكهم الله، وهناك عاد الثانية١٠.
١ - اللعنة: اسم مرة، وتستعمل بمعنى المصدر، قال تعالى: ﴿.. ألا لعنة الله على الظالمين (١٨)﴾ [هود] أي: سخطه وغضبه وطرده منصب على الظالمين. [القاموس القويم]..
٢ - البرزخ: الحاجز بين الشيئين، قال تعالى: ﴿مرج البحرين يلتقيان (١٩) بينهما برزخ لا يبغيان (٢٠)﴾ [الرحمان] أي: بين البحرين حاجز من الأرض يحجز كلا منهما في مجراه؛ فلا يبغي ولا يطغى على الآخر. وقال تعالى: ﴿... ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون (١٠٠)﴾ [المؤمنون] أي: حاجز يحجزهم عن الرجوع إلى الدنيا حتى يوم القيامة وتسمى فترة القبور فترة البرزخ، من مات فقد دخل البرزخ إلى يوم القيامة [القاموس القويم]..
٣ - قال تعالى عن عذاب آل فرعون: ﴿النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (٤٦)﴾ [غافر] فهذا عرض للجزاء عليهم، وهو في حد ذاته عذاب..
٤ - الغدو: الدخول في الغداة، أو السير أول النهار. قال تعالى: ﴿غذوها شهر..(١٢)﴾ [سبأ] أي: مدة سير الرياح في وقت الغداة تقطعها القوافل في شهر.
ويقابل الغدو بالعشي وبالآصال، قال تعالى: ﴿النار يعرضون عليها غدوا وعشيا..(٤٦)﴾ [غافر] وقال تعالى: ﴿.. يسبح له فيها بالغدو والآصال (٣٦)﴾ [النور]. [القاموس القويم]..

٥ - أخرجه الترمذي والطبراني في الكبير عن أبي سعيد، والطبراني في الكبير عن أبي هريرة وسندهما ضعيف. وانظر مجمع الزوائد (٣/٤٦) ومسند الفردوس للديلمي (٣/٢٣١)..
٦ - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة) أخرجه البخاري في صحيحه [١٣٧٩] ومسلم في صحيحه [٢٨٦٦]..
٧ ألا: أداة استفتاح وهي مركبة من همزة الاستفهام ومن لا النافية، وتكون للتنبيه فتدل على تحقيق ما بعدها وتقريره كقوله: ﴿ألا إنهم هم السفهاء...(١٣)﴾ [البقرة] وتكون للعرض والتحضيض والحث، كقوله تعالى: ﴿ألا تحبون أن يغفر الله لكم..(٢٢)﴾ [النور] [القاموس القويم ١/٢٧]..
٨ - ذلك كان عذاب قوم عاد، كما قال تعالى: ﴿وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم (٤١)﴾ [الذاريات] والريح العقيم هي التي لا خير فيها- بل هي تهلك وتدمر. وذلك وصف على المجاز بالاختصار [القاموس القويم صـ ٣١ جـ٢]..
٩ الناصية: ما يبرز من الشعر في مقدم الرأس فوق الجبهة. ويسمى مكانه أيضا ناصية- وأخذ بناصية فلان: قبض عليه وسيطر عليه متمكنا منه، قال تعالى: ﴿ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها..(٥٦)﴾ [هود] مسيطر عليها ومالك أمرها متصرف فيها.
[القاموس القويم بتصرف صـ ٢٧٠ حـ٢]..

١٠ - وهذا يتوافق مع ما قاله القرطبي في تفسيره [٤/٣٣٦٩] أنهما عادان، عاد الأولى، وعاد الأخرى، فهؤلاء- أي: قوم هود هم الأولى، وأما الأخرى فهي أقوام عاشت في جزيرة العرب. وهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿إرم ذات العماد (٧)﴾ [الفجر]، ويقول [٣/٢٧٥٢]: "كان بين هود ونوح فيما ذكر المفسرون سبعة آباء. وكانت عاد فيما روى ثلاث عشرة قبيلة، ينزلون رمال عالج، وكانوا أهل بساتين وزروع وعمارة، وكانت فيما روى بنواحي حضر موت إلى اليمن، وكانوا يعبدون الأصنام، ولحق هود حين أهلك قومه- بمن آمن معه بمكة، فلم يزالوا بها حتى ماتوا"..
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ وإلى ثمود١ أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم ٢ من الأرض واستعمركم٣ فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ( ٦١ ) ﴾ :
ونحن نلحظ أن الحق سبحانه يبين لنا هنا أنه أرسل إلى ثمود واحدا منهم هو صالح عليه السلام.
وجاء الحق سبحانه بلفظ [ أخاهم ] ليبين العلاقة التي بين صالح- عليه السلام- وقومه، فهو قد نشأ بينهم، وعرفوه وخبروه، فإذا ما جاءهم بدعوة- وقد لمسوا صدقه- فلا بد أن يؤمنوا بما جاء به من منهج.
وناداهم صالح عليه السلام :[ يا قوم ]، وهي من القيام، يعني : يا من تقومون للأمور، والذي يقوم على الأمر عادة هم الرجال ؛ لأن أمر النساء مستور- دائما- في طي الرجل، فليس كل حكم من أحكام الدين يأتي فيه ذكر المرأة، بل نجد كثيرا من الأحكام تنزل للرجال، والنساء مطويات على الستر في ظل الرجال، والرجل يشقى ويكدح، والمرأة تدير حياة السكنى وتربية الأولاد.
ونحن نجد من النساء ومن الرجال من يتراضون عند الزواج على ألا تخرج المرأة للعمل.
إن للمرأة حق العمل إن احتاجت ولم تجد من يعولها، ولكن إن وجدت من يقوم عليها، فلماذا لا تلفت إلى عمل لا يقل أهمية عن عمل الرجل، وهو رعاية الأسرة ؟
وكذلك نجد من يقوم باسم الحرية بالهجوم على الحجاب، ونقول لمن يفعل ذلك : إذا كنت لم تنتقد التهتك في الملابس، ووصفته بأنه " حرية "، فلماذا تتدخل في أمر الحجاب، ولا تعتبره " حرية " أيضا.
ونعود إلى الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها ﴿ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.. ( ٦١ ) ﴾ والعبادة تقتضي تلقي أوامر الإله المعبود ب " افعل " و " لا تفعل " ٤ في كل حركة من حركات الحياة.
فكان أول شيء طلبه صالح من قومه ثمود ﴿ اعبدوا الله ﴾ وأمر عبادة الله وحده مطلوب من كل أحد، ولا يسع أحدا مخالفته.
﴿ ما لكم من إله غيره.. ( ٦١ ) ﴾[ هود ] : تقرير واقع لا تستطيعون تغييره، فليس لكم إله آخر غير الله، مهما حاولتهم ادعاء آلهة أخرى.
ويقول الحق سبحانه :﴿ هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها.. ( ٦١ ) ﴾ [ هود ].
والإنشاء هو الإيجاد ابتداء من غير واسطة شيء، ويقال : أنشأ، أي : أوجد وجودا ابتداء من غير الاستعانة بشيء آخر.
لذلك لا نقول لمن اخترع : إنه " أنشأ " لأنه استعان بأشياء كثيرة ليصل إلى اختراعه ؛ فقد يكون مستعينا بمادة أخذها من الجبال، وبخبرة تجارب صنعها من سبقوه، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو الذي ينشئ من عدم.
والوجود من العدم قسمان : قسم أوجدته باستعانة بموجود، وقسم أوجدته من عدم محض، وهذا الأخير هو الإنشاء ولا يقدر عليه إلا سبحانه وتعالى.
والحق سبحانه جلت مشيئته في الإنشاء، فهو ينشئ الإنسان من التقاء الزوج والزوجة، وإن أرجعت هذا الإنشاء إلى البداية الأولى في آدم عليه السلام، فستجد أن الحق سبحانه وتعالى قد خلقه من نفس مادة الأرض، والأرض مخلوق من مخلوقات الله.
فمني الزوج وبويضة الزوجة يتكونان من خلاصة الدم، الذي هو خلاصة الأغذية وهي تأتي من الأرض، فسواء رمزت لآدم بإنشائه من الأرض، أو أبقيتها في ذريته، فكل شيء مرده إلى الأرض.
وقول الحق سبحانه :﴿ أنشأكم من الأرض واستعمركم٥ فيها... ( ٦١ ) ﴾[ هود ] : نجد فيه كلمة ﴿ استعمركم ﴾ وساعة ترى الألف والسين والتاء فاعلم أنها للطلب٦، وهكذا يكون معنى كلمة " استعمر " هو طلب التعمير.
ومن الخطأ الشائع تسمية البلاد التي تحتل بلادا أخرى : " دول الاستعمار ".
أقول : إن ذلك خطأ، لأنهم لو كانوا دول استعمار، فهذا يعني أنهم يرغبون في عمارة الأرض، ولكنهم في حقيقة الأمر كانوا يخربون في الأرض ؛ ولذلك كان يجب أن تسمى " دول الاستخراب ".
و﴿ استعمركم فيها ﴾ أي : طلب منكم عمارتها، وهذا يتطلب أمرين اثنين : أن يبقي الناس الأمر الصالح على صلاحه، أو يزيدوه صلاحا.
وكما ضربت المثل من قبل بتحسين وسائل وصول المياه إلى المنازل بعد اكتشاف نظرية الأواني المستطرقة٧، فقد كان الناس يشربون الماء من الترع، ثم تم اختراع كيفية تكرير المياه، ثم جاءت نظرية الأواني المستطرقة، فاستغلها الناس في بناء خزانات عالية، وتوصيل الماء بواسطة مواسير تدخل لكل بيت.
وهكذا تصل المياه النقية لكل منزل، وهكذا يزداد في الأمر الصالح صلاحا.
وأيضا إن استصلحنا الأرض البور، فنحن نزيد الأرض رقعة صالحة لإنتاج الغذاء لمقابلة الزيادة في عدد السكان.
ومادام عدد السكان في زيادة فلا بد من زيادة رقعة الأرض بالاستصلاح ؛ لأن الأزمة التي نعاني منها الآن، هي نتيجة للغفلة التي مرت علينا، فزاد التكاثر عن الاستصلاح، وكان الواجب يقتضي أن نزيد من الاستصلاح بما يتناسب مع الزيادة في السكان.
وهكذا نفهم معنى استعمار الأرض.
ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أنه تجلى على الخلق بصفات من صفاته، فالقوي يعين الضعيف، والحق سبحانه له مطلق القوة، ويهب الخلق من حكمته حكمة، ومن قبضه قبضا، ومن بسطه بسطا، ومن غناه غنى ؛ ولكن الصفات الحسنى كلها ذاتية فيه وموهوبة منه لنا.
والدليل على ذلك أن القوي فينا يصير إلى ضعف، والغني منا قد يصيبه الفقر ؛ حتى لا نفهم أن هذه الصفات ذاتية فينا، وأن الحق سبحانه وتعالى قد أعطانا من صفاته قدرة لنفعل.
ومن أعطاه الله تعالى قدرة ليفعل ؛ عليه أن يلاحظ أنه انتفع بفعل من سبقه، فإن أكل اليوم تمرا- على سبيل المثال- فعليه أن يتذكر أن الذي زرع له النخلة٨ وهو من سبقه، فيلزرع من يأكل البلح الآن نخلة لتفيده بعد سبع سنين-وهو الزمن اللازم لتطرح النخلة بلحأ- وليستفيد بها من يأتي من بعده.
ويقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان صالح عليه السلام لقومه " ثمود " في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ .. فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ( ٦١ ) ﴾[ هود ] : فإن استغفر الإنسان، فالحق سبحانه قريب من كل عبد يستغفر عن ذنوب لا تمثل حقوقا للناس، والله سبحانه وتعالى يجيب لطالب المغفرة٩.
١ - ثمود: قبيلة من العرب الأول. ويقال: إنهم من بقية عاد وهم قوم صالح. [راجع: لسان العرب- مادة ثمد].
٢ - أنشأ الشيء: أوجده وأحدثه وخلقه. وأنشأ الله السحاب" كونه وأظهره في السماء. قال تعالى: ﴿.. وينشئ السحاب الثقال(١٢)﴾[الرعد] أي: يكون السحب الممتلئة بالماء، وأنشأكم من الأرض: خلقكم منها. [القاموس القويم] بتصرف..
٣ - عمر فلان الدار: بناها، وعمر القوم المكان: سكنوه، فهو معمور. وعمرت الدار بأهلها؛ فهي عامرة. قال تعالى: ﴿إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله..(١٨)﴾ [التوبة] أي: يقيم فيها الصلاة ويجلس فيها للعلم ويمكث للاعتكاف، ويبنيها ويحافظ عليها؛ فكل ذلك من عمارتها.
وقوله تعالى: ﴿أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله..(١٩)﴾ [التوبة] أي: أن عمارة المسجد بغير إيمان لا وزن لها؛ فالإيمان هو أساس لقبول الأعمال. واستعمره في المكان: جعله يعمره قال تعالى: ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها..(٦١)﴾ [هود]. [القاموس القويم ٢/٣٥]..

٤ - إن مدار التكليف في حياة الناس لا يخرج عن الأمر والنهي، فمن الأمر نأخذ الفرض والسنة والمستحب والمندوب والتطوع والواجب والحلال، وكل ما يرضي الله لسعادة البشرية، والنهي يكون عن الحرام والمكروه. وحركة الحياة منوطة بافعل كأمر، ولا تفعل كنهى، وفي النهي عند الاستجابة سعادة، وعند المخالفة شقاء..
٥ - استعمركن فيها: أذن لكم في عمارتها واستخراج قومكم منها وجعلكم عمارها. [راجع اللسان: مادة عمر]..
٦ - قال القاضي أبو بكر بن العربي: تأتي كلمة استفعل في لسان العرب على معان:
- منها: استفعل، بمعنى طلب الفعل كقوله: استحملته أي: طلبت منه حملانا.
- وبمعنى: اعتقد، كقولهم: استسهلت هذا الأمر، أي: اعتقدته سهلا، أو وجدته سهلا. واستعظمته أي: اعتقدته عظيما ووجدته.
- وبمعنى: أصبت، كقولهم: استجدته أي: أصبته جيدا.
- ومنها بمعنى: فعل، كقوله: قرفي المكان واستقر. نقله القرطبي في تفسيره [٤/٣٣٧٥]..

٧ - الأواني المستطرقة: عدة أنابيب مختلفة الأحجام والأشكال، متصل بعضها ببعض بأنبوبة أفقية، فإذا وضع سائل في إحدى هذه الأنابيب ارتفع سطح السائل إلى مستوى أفقي واحد. [المعجم الوسيط]..
٨ - النخل شجر الرطب والتمر والبلح، واحده نخلة، وجمع النخلة نخيل قال تعالى: ﴿وهزي إليك بجدع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا (٢٥)﴾ [مريم] وقال تعالى: ﴿ومن النخل من طلعها قنوان دانية..(٩٩)﴾ [الأنعام] وقال تعالى: ﴿أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب..(٢٦٦)﴾ [البقرة]..
٩ - عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) أخرجه الترمذي في سننه [٣٥٤٠] وقال: (حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) وقد أخرجه أحمد في مسنده [٥/١٥٤] والدرامي في سننه [٢/٣٢٢] من حديث أبي ذر الغفاري..
فماذا كان الرد من قوم ثمود ؟
يقول الحق عز وجل ما جاء على ألسنتهم :
﴿ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا١٠ قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب١١ ( ٦٢ ) ﴾[ هود ] :
كانوا ينظرون إلى صالح –عليه السلام- بتقدير ورجاء قبل أن يدعوهم لعبادة الله وحده، ولا إله غيره.
والمرجو هو الإنسان المؤمل فيه الخير، ذكاء، وطموحا، وأمانة، وأية خصلة من الخال التي تبشر بأن له مستقبلا حسنا.
ولكن ما إن دعاهم صالح –عليه السلام- إلى عبادة الله سبحانه وتعالى أعلنوا أنه –بتلك الدعوة- إنما يفسد رجاؤهم فيه وما كانوا يأملونه فيه.
وقد أوضح لهم صالح –عليه السلام- ما أوضحه الرسل من قبله ومن بعده، أن اتخاذ الأصنام أو الأشجار أو الشمس آلهة تعبد هو أمر خاطئ ؛ لأن العبادة تقتضي أوامر ونواهي ينزل بها منهج ؛ يتبعه من يعبدون، وتلك الكائنات المعبودة لا منهج لها، ولا عبادة دون منهج.
وأضاف قوم ثمود :﴿ .. وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب( ٦٢ ) ﴾[ هود ] : والشك هو استواء الطرفين : النفي والإثبات.
إذن : فهم ليسوا على يقين أن عبادتهم لما عبد آباؤهم هي عبادة صادقة، ودعوة صالح عليه السلام لهم جعلتهم يترددون في أمر تلك العبادة ؛ وهذا يظهر أن خصال الخير في صالح عليه السلام جعلتهم يترددون في أمر عبادتهم١.
١ - وأيضا فإنهم في شك من عدوة صالح عليه السلام إلى عبادة إله واحد، فخطابهم هنا موجه لصالح [مما تدعونا] أي: يا صالح. كانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام، أرسل إليها أخوهم صالح يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فسألوا صالحا أن يأتيهم بآية واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاتبة فطلبوا منه أن تخرج لهم منها ناقة عشراء تمخض، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم ليؤمنن به وليتبعنه، فقام إلى صلاته ودعا الله عز وجل فتحركت الصخرة وانشقت عن ناقة يتحرك جنينها بين جنبيها وكانت الناقة تشرب من البئر يوما وتتركه لهم يوما وكانوا يشربون من حلبيها ويملأون ما يشاءون من أوعيتهم، ولكن تسعة نفر اتفقوا على قتلها، فعقروها، فنزل بهم عقاب الله بعد ثلاثة أيام. [تفسير ابن كثير ٢/٢٢٧-٢٢٩] باختصار شديد..
ويقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان صالح عليه السلام لثمود :
﴿ قال يا قوم أرأيتم١ إن كنت على بينة٢ من ربي وآتاني منه رحمة٣ فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير٤ ( ٦٣ ) ﴾ :
وكأن صالحا قد ارتضاهم حكما فقال : أخبروني إذا كنت أنا على بينة من ربي ويقين بأنه أرسلني وأيدني، وأنا إن خدعت الناس جميعا فلن أخدع نفسي، فهل أترك ما أكرمني به ربي وأنزل إلي منهجا أدعوكم إليه ؟ هل أترك ذلك وأستمع لكلامكم ؟ هل أترك يقيني بأنه أرسلني بهذه الرسالة ﴿ وآتاني منه رحمة.. ( ٦٣ ) ﴾. وهي النبوة ؟
﴿ فمن ينصرني من الله إن عصيته.. ( ٦٣ ) ﴾ [ هود ] : وساعة يستفهم إنسان عن شيء في مثل هذا الموقف فهو لا يستفهم إلا عن شيء يثق أن الإجابة ستكون بما يرضيه.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان صالح عليه السلام :﴿ .. فما تزيدونني غير تخسير ( ٦٣ ) ﴾ [ هود ] : ونحن نعلم أن الخسارة ضد المكسب، ومعنى الخسارة أن يقل رأس المال. فهل التخسير واقع منه عليهم أم واقع منهم عليه ؟
إن ثراء الأسلوب القرآني هنا يوضح لنا هذه المعاني كلها، فإن أطاعهم صالح-عليه السلام- وعصى ربه، فهو قد أزاد في خسارته، أو أنه ينسبهم إلى الخسران أكثر، لأنهم غير مهديين، ويريدون له أن يضل ويتبع ما يعبدون من دون الله تعالى.
إذن : فالتخسير إما أن يكون واقعا عليهم من صالح –عليه السلام- وإما أن يكون واقعا منهم على صالح.
١ - رأيتم: أي: أخبروني. [كلمات القرآن].
٢ - بينة: يقين وبرهان وبصيرة، [كلمات القرآن للشيخ حسنين محمد مخلوف]. وهي الحجة الواضحة الموضحة للحق التي تجعل الحق ظاهرا للعيان..
٣ - رحمة: أي نبوة. [تفسير الجلالين]. وقد سبق قول نوح عليه السلام: ﴿قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده..(٢٨)﴾ [هود] قال القرطبي في تفسيره [٤/٣٣٤٣]: "أي: نبوة ورسالة. عن ابن عباس، وهي رحمة على الخلق، وقيل: الهداية إلى الله بالبراهين، وقيل: الإيمان والإسلام"..
٤ - خسره: جعله يخسر، وخسره تخسيرا: أبعده عن الخير، وأهلكه، وقوله تعالى: ﴿.. فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير (٦٣)﴾ [هود] أي: غير إبعاد عن الخير، أو غير إهلاك بعذاب الله [القاموس القويم] وجاء في تفسير الجلالين: [غير تخسير] أي: غير تضليل، وجاء في مختصر تفسير الطبري ﴿.. فما تزيدونني غير تخسير (٦٣)﴾ يقول: ما تزدادون أنتم إلا خسارا، يخسركم حظوظكم من رحمة الله عز وجل..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان صالح عليه السلام :
﴿ ويا قوم هذه ناقة١ الله لكم آية٢ فذروها٣ تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء٤ فيأخذكم عذاب قريب ( ٦٤ ) ﴾ :
وكان قوم صالح قد طلبوا آية، فقالوا له : إن كنت نبينا فأخرج لنا ناقة من تلك الصخرة، وأشاروا إلى صخرة٥ ما، وهم قوم كانوا نابغين في نحت بيوتهم في الجبال. ومن يزر المنطقة الواقعة بين الشام والمدينة، يمكنه أن يشاهد مدائن صالح، وهي منحوتة في الجبال.
وقد قال فيهم الحق سبحانه :﴿ وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين٦ ( ١٤٩ ) ﴾[ الشعراء ] : هم- إذن- قد حددوا الآية، وهي خروج ناقة من صخرة أشاروا إليها، فخرجت الناقة وهي حامل.
وبعد أن وجدت الناقة على وفق ما طلبوها لم يطيقوا أن يعلنوا التصديق، وقد قال لهم صالح عليه السلام :﴿ ويا قوم هذه ناقة الله.. ( ٦٤ ) ﴾[ هود ] : وساعة تسمع شيئا مضافا إلى الله تعالى، فاعلم أن له عظمة بعظمة المضاف إليه.
مثلما نقول : " بيت الله "، وهذا القول إن أطلق فالمقصود به الكعبة المشرفة، وإن حددنا موقعا وقلنا عنه : " بيت الله " فنحن نبني عليه مسجدا، وتكون أرضه قد حكرت لتكون مصلى، ولا يزاول فيها أي عمل آخر.
هكذا تكون الكعبة هي بيت الله باختيار الله تعالى، وتكون هناك مساجد أخرى هي بيوت لله باختيار خلق الله.
ولذلك فبيت الله-باختيار الله- هو قبلة لبيوت الله باختيار خلق الله.
إذن : فإن أضيف شيء لله تعالى، فهو يأخذ عظمة الحق سبحانه وتعالى، وقد قال لهم صالح :﴿ هذه ناقة الله.. ( ٦٤ ) ﴾ وهي ليست ناقة زيد أو ناقة عمرو.
ولم يلتفت قوم صالح إلى ما قاله صالح عليه السلام، ولم يلحظوا أن الشيء المنسوب لله تعالى له عظمة من المضاف إليه.
ومثال ذلك : ابن أبي لهب٧، وكان قد تزوج ابنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحين اشتد عناد أبي لهب للرسول صلى الله عليه وسلم، قال أبو لهب لابنه : طلق بنت محمد، فطلقها، وفعل فعلا يدل على الازدراء٨، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :( أما إني أسأل ألله أن يسلط عليه كلبه )٩.
فقال أبو لهب : إني لأتوجس شر من دعوة محمد.
ثم سافر ابن أبي لهب مع بعض قومه في رحلة، وكانوا إذا ناموا طلب أبو لهب مكانا في وسط رحال الركب كله خوفا على ابنه من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بأسد يقفز من الرحال ويأكل الولد، فهنا نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر إلى الله فقال :( أكلك كلب من كلاب الله ) فكان كلب الله أسدا.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يوضح لهم صالح عليه السلام : هذه الناقة هي الآية التي طلبتموها وقد جاءت من الصخر.
وكان يقدر أن يأتي لهم بالجنس الأرقى من الجماد، وهو النبات، ولكن الحق سبحانه استجاب للآية التي طلبوها وهي من جنس الحيوان.
ونحن نعلم أن الكائنات الأرضية إما أن تكون جمادا، وإما أن يأخذ الجماد صفة النمو فيصير نباتا، وإما أن يأخذ صفة الحس والحركة فيصير حيوانا، وإما أن يأخذ صفة الحس والحركة والفكر فيصير إنسانا.
وكان من الممكن أن يأتي لهم صالح عليه السلام بشجرة من الصخر، وهذا أمر فيه إعجاز أيضا، ولكن الحق سبحانه أرسل الآية كما طلبوها ؛ ناقة من جنس الحيوان، وحامل في الوقت نفسه.
وطالبهم صالح عليه السلام أن يحافظوا عليها ؛ لأنها معجزة، عليهم ألا يتعرضوا لها، وقال لهم :﴿ .. فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ( ٦٤ ) ﴾[ هود ] : وهكذا وعظهم، وطلب منهم أن يتركوها تأكل في أرض الله، وإن مسوها١٠ بسوء ولم يأخذهم عذاب، فمن آمن به لا بد أن يكفر.
إذن : فلا بد أن يأتي العذاب القريب إن هم مسوها.
وهم قد مسوها بالفعل، وهو ما تبينه الآية الكريمة التالية :
﴿ فعقروها١١ فقال تمتعوا١٢ في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب١٣ ( ٦٥ ) ﴾ :
١ - الناقة: أنثى الجمل، ونسبت ناقة صالح لله، لأنها ناقة فقراء الله تسقيهم لبنها، أو لأنها منذورة لله وإن الله حاميها وراعيها، أو لأنها ناقة رسول الله، ونسبت لله تشريفا لها. [القاموس القويم]..
٢ - آية: معجزة دالة على صدق نبوة صالح عليه السلام. [كلمات القرآن]..
٣ - ذروها: دعوهخ أو اتركوها. وهذا الفعل لم يستعمل منه إلا المضارع والأمر؛ فمن المضارع قوله تعالى: ﴿أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض..(١٢٧)﴾ [الأعراف] وقوله تعالى: ﴿وقالوا لا تذرن آلهتكم..(٢٣)﴾ [نوح] أي: لا تتركن آلهتكم، ومن الأمر قوله تعالى: ﴿ذرني ومن خلقت وحيدا (١١)﴾[المدثر] أي: اتركني أنتقم منه وأعاقبه على جرائمه ضد الدين والقرآن، وهو أسلوب تهديد ووعيد. وقوله تعالى: ﴿.. ذرنا نكن مع القاعدين (٨٦)﴾ [التوبة] أي: اتركنا. [القاموس القويم] بتصرف.
وجاء في مختصر تفسير الطبري: ﴿فذروها تأكل في أرض الله..(٦٤)﴾ [هود] أي: اتركوها تأكل من أرض الله، ليس عليكم رزقها ولا مؤونتها..

٤ - ﴿ولا تمسوها بسوء..(٦٤)﴾ أي: لا تقتلوها ولا تنالوها بعقر، [مختصر تفسير الطبري]..
٥ - قال القرطبي في تفسيره [٤/٣٣٧٨]: "قيل: أخرجها من صخرة صماء منفردة في ناحية الحجر يقال لها: الكاثية"..
٦ - فره: أشر وبطر فهو فره، وفره فراهة وفروهة: حذق ومهر ونشط وخف فهو فاره. وقرئ بهما قوله تعالى: ﴿وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين (١٤٩)﴾ [الشعراء] أي: حاذقين نشطين، وقرئ [فرهين] أي: بطرين أشرين. [القاموس القويم]..
٧ - قيل في اسمه ثلاثة أقوال: لهب، عتبة، عتيبة، ذكرها البيهقي في دلائل النبوة [٢/٣٣٨] وقال أيضا: كانت أم كلثوم بنت رسول الله تحت عتيبة بن أبي لهب، وكانت رقية تحت أخيه عتبة بن أبي لهب..
٨ - وذلك أنه لما أنزل الله عز وجل [تبت يدا أبي لهب] قال أبو لهب لا بنيه عتيبة وعتبة: رأسي ورؤوسكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عتبة طلاق رقية، وسألته رقية ذلك وقالت له أم كلثوم بنت حرب بن أمية- وهي حمالة الحطب: طلقها يا بني فإنها قد صبت فطلقها، وطلق عتيبة أم كلثوم، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم حين فارق أم كلثوم فقال: كفرت بدينك، وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا أحبك، ثم تسلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق قميصه، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما إني أسأل الله أن يسلط عليه كلبه) دلائل النبوة للبيهقي (٢/٣٣٨، ٣٣٩]، أورده الهيثمي في مجمع الزوائد [٦/١٩] وعزاه الطبراني مرسلا وقال: فيه زهير بن العلاء وهو ضعيف، وقد أخرجه الحاكم في مستدركه [٢/٥٣٩] من حديث أبي عقرب وصححه. وحسنه ابن حجر في الفتح [٤/٣٩].
.

٩ - الكلب: كل سبع عقور، ومنه الأسد، قال ابن سيده: غلب الكلب على هذا النوع النابح. وقد يكون التكليب واقعا على الفهد وسباع الطير. وفي التنزيل العزيز: ﴿وما علمتم من الجوراح مكلبين..(٤)﴾ [المائدة]، فقد دخل في هذا: الفهد، والبازي، والصقر، والشاهين، وجميع أنواع الجوارح) [انظر اللسان مادة: كلب] وانظر فتح الباري [٤/٣٩].
١٠ - المس: الجنون على تخيل أن الجن مسته كقوله تعالى: ﴿كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس..(٢٧٥)﴾ [البقرة] أي: المصروع الذي لا يعي مسه وماسه مماسة أو مساسا مس كل منها الآخر مفاعلة من الجانبين وتماس الزوجان تلاقت بشراتهما ومن جلد كل منهما جلدا الآخر، ومسه من باب فرح مسا أجري يده عليه من غير حائل ومسته النار أصابته ومسه المرض: أصابه على إعجاز، وقوله تعالى: ﴿لا يمسه إلا المطهرون (٧٩)﴾ [الواقعة] أي: لا يمسك بالمصحف إلا الطاهرون من الحدث الأكبر.[القاموس القويم بتصرف صـ ٢٢٦ حـ٢]..
١١ - العقر: أصل كل شيء، وعقرته: أصبت عقره، كقوله تعالى: ﴿فعقروها..(٦٥)﴾ [هود] أي: أصابوها إصابة قاتلة، أي: نحروها. [القاموس القويم]..
١٢ - تمتع واستمتع بمعنى واحد. ومتع بالشيء، انتفع به، والمتاع: مصدر يسمى به الشيء المنتفع به، والمتاع: كل ما ينتفع به من طعام وأثاثا وأداة ومال. وقال تعالى: ﴿ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون (٣)﴾ [الحجر] وقال تعالى: ﴿.. والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم (١٢)﴾ [محمد]. [القاموس القويم] بتصرف..
١٣ - وعد غير مكذوب: أي: وعد صادق واقع لا محالة؛ وهو من قبيل تأكيد الشيء بنفي نقيضه..
وجلسوا في منازلهم ثلاثة أيام١ ثم جاءهم العذاب.
ولقائل أن يقول : ولم الإمهال بثلاثة أيام ؟
ونقول : إن العذاب إذا جاء فالألم الحسي ينقطع من المعذب، ويشاء الله تعالى أن يعيشوا في ذلك الألم طوال تلك المدة حتى يتألموا حسيا، وكل يوم يمر عليهم تزداد آلامهم من قرب الوعيد الذي قال فيه الله تعالى :﴿ ... وعد غير مكذوب ( ٦٥ ) ﴾[ هود ] : الحق سبحانه هو الذي يعد، وهو القادر على إنفاذ الوعد، ولا تقوم قوة أمامه ؛ لذلك فهو وعد صادق غير مكذوب.
على عكس الإنسان منا حين يعد بشيء، فمن الممكن أن يأتي وقت تنفيذ الوعد ولا يستطيع.
لذلك يقول لنا الحق سبحانه :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ( ٢٣ ) إلا أن يشاء الله ( ٢٤ ) ﴾ [ الكهف ] : لأنك إن قلت : " أفعل ذلك غدا "، وتعد إنسانا بلقائه لكذا وكذا ؛ فقل " " إن شاء الله " ؛ لأن الله تعالى لا يمنع ترتيب أمور لزمن يأتي، وإنما يجب أن يردف من يرتب الأمور " بمشيئة القوي القادر " حتى إذا لم ينجز ما وعد به ؛ يكون قد خرج عن الكذب، لأن الله تعالى لم يشأ، لأن الإنسان إذا وعد، فهو لا يعتمد على إرادته، ولكن مشيئة الله تعالى تعلو كل شيء.
والفعل- كما نعلم- يقتضي فاعلا، ومفعولا، وزمنا، وسببا، دافعا، وقدرة تمكن الإنسان من الفعل، فهل يملك أحد شيئا من كل هذا ؟
إن الإنسان لا يملك نفسه أن يعيش إلى الغد، ولا يملك من يعده أن يوجد غدا حتى يلقاه، ولا يملك أن يظل السبب سببا للقاء ؛ فربما انتهى السبب ولا يملك حين تجتمع الأسباب كلها أن توجد له قدرة وقوة على إنفاذ السبب.
إذن : فإذا قال : " أفعل ذلك غدا مع فلان " ؛ يكون قد جازف وتكلم في شيء لا يملك عنصرا واحدا من عناصره، فقل : " إن شاء الله " أي : أنك تستعين بمشيئة من يملك كل هذه العناصر.
ويعطي الحق سبحانه في كل لقطة إيمانية من اللقطات، قدرته على خلقه فهو سبحانه القائل :﴿ فعقروها٢ فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ( ٦٥ ) ﴾[ هود ] :
وقوله :﴿ في داركم ﴾ لأن من هؤلاء الذين كفروا قوما في مكان يختلف عن مكان آخر يوجد به أيضا قوم كافرون، ومنهم المسافر، ومنهم العائد من سفر، فتتبعهم العذاب حيثما كانوا، فلم ينزل على مكان واحد، إنما نزل على المكين منهم في أي مكان.
ولم ينتج من هذه المسألة إلا واحد اسمه " أبو رغال " ٣، وكان يحج إلى بيت الله، فلم يتبعه عذابه في بيت الله ؛ لأن الله سبحانه طلب منا نحن عباده أن نؤمن من دخل بيته، فهو سبحانه وتعالى أولى بأن يؤمن من دخل البيت الحرام٤، وظل الحجر الذي سيضرب به، أو الصيحة التي كان عليها أن تأخذه، ظلت إلى أن خرج من الحرم فوقعت عليه.. وعم العذاب الكافرين من قوم صالح، وتتبع من في الديار إلا هذا الرجل، وما إن خرج من البيت الحرام حتى وقع عليه العذاب٥.
ولذلك كان قاتل الأب أو الإنسان الذي عليه دم نتيجة أنه ارتكب جريمة قتل، إذا ما دخل البيت الحرام فهو يؤمن إلى أن يخرج، وكانوا يضيقون عليه، فلا يطعمه أحد، ولا يسقيه أحد ليضطر إلى الخروج، فيتم القصاص منه بعد خروجه من البيت الحرام، ولتظل حرمة البيت الحرام مصانة.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه أراد من تحريم القتال في البيت الحرام، صيانة وتكريما للكرامة الإنسانية.
ونحن نعلم أيضا أن كل حدث من الأحداث يقتضي زمانا، ويقتضي مكانا.
وكان العرب دائمي الغارات على بعضهم البعض، فأراد الحق سبحانه أن يوجد مكان يحرم فيه القتال ؛ فخص البيت الحرام بذلك، وأراد سبحانه أن يوجد زمان يحرم فيه القتال ؛ فكانت الأشهر الحرم ؛ لأن الحرب قد تكون سجالا٦ بين الناس وتوقظ فيهم الحمية والأنفة٧ والعزة.
وكل واحد منهم يحب في ذاته أن ينتهي من الحرب، ولكنه لا يحب أن يجبن أمام الناس، فأراد الحق سبحانه أنه يجعل لهم شيئا يتوارون فيه من الزمان ومن المكان، فحرم القتال في الأشهر الحرم.
وما إن تأتي الأشهر الحرم حتى يعلن المقاتل من هؤلاء : لولا الأشهر الحرم لكنت قد أنزلت بخصمي الهزيمة الساحقة، وهو يقول ذلك ليداري كبرياءه ؛ لأنه في أعماقه يتمنى انتهاء الحرب.
وكذلك حين يدخل مقاتل إلى البيت الحرام، هنا يقول من كان يحاربه : لو لم يدخل الحرام ؛ لأذقته عذاب الهزيمة.
وبمضي الزمان وبالمكث في المكان ينعم الناس بالأمن والسلام، وربما عشقوه فانتهوا من الحرب.
١ - ذكر القرطبي في تسفيره (٤/٣٣٧٩] أن عقرها كان يوم الأربعاء، فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت. وأتاهم العذاب يوم الأحد. وإنما قاموا ثلاثة أيام، لأن الفصيل رغا ثلاثا، فصفرت ألوانهم في اليوم الأول، ثم احمرت في الثاني، ثم اسودت في الثالث. وهلكوا في الرابع. وانظر تفسير ابن كثير [٢/٢٢٩].
٢ - العقر: أصل كل شيء، وعقرته-من باب نصر:: أصبتم عقره كقوله تعالى: ﴿فعقروا الناقة..(٧٧)﴾ [الأعراف] أصابوها إصابة قائلة، أي: نحروها، وعقرت المرأة: أصيبت بالعقم، فهي لا تلد فهي عاقر، قال تعالى: ﴿وكانت امرأتي عاقرا...(٥)﴾ [مريم]..
٣ - عن جابر بن عبد الله قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال" "لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فكانت- يعني: الناقة- ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله بها من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله، فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه" أخرجه أحمد في مسنده [٣/٢٩٦] والحاكم في مستدركه [٢/٣٢٠، ٥٦٧] وصحح إسناده. قال الهيثمي [٧/٥٠]: رجال أحمد رجال الصحيح، قلت: هم أيضا رجال الإسناد الأول..
٤ - يقول رب العزة سبحانه: ﴿إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين (٩٦) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا...(٩٧)﴾ [آل عمران] أي: يكون آمنا مطمئنا لا يخاف على نفسه أو ماله، ولذلك قال تعالى: ﴿أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم..(٦٧)﴾ [العنكبوت]..
٥ - ذكر ابن كثير في تفسيره [٢/٢٢٩] "أن جارية كانت مقعدة واسمها كلبة ابنة السلق ويقال لها: الذريعة. وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام، فلما رأت ما رأت من العذاب أطلعت رجلاها، فقامت تسعى كأسرع من شيء، فأتت حيا من الأحياء فأخبرتهم بما رأت وما حل بها ثم استسقتهم من الماء فلما شربت ماتت"..
٦ - الحرب بينهم سجال: أي: نصرتها بينهم متداولة، مرة لهم، وأخرى عليهم. [المعجم الوسيط] بتصرف..
٧ - الأنفة: العزة والحمية والكرامة. [المعجم الوسيط] بتصرف..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ( ٦٦ ) ﴾ :
فحين شاء الحق أن ينزل العذاب بثمود، بعد مضي المدة التي أنذروا بنزول العذاب بعدها، نجى الحق صالحا عليه السلام والذين آمنوا برسالته من الهلاك، فحفظهم رحمة الله، لأنهم آمنوا بما نزل على صالح من منهج، ولم يعان المؤمنون برسالة صالح ما عانى منه قوم ثمود من الذل والفضيحة.
هذا الذل وتلك الفضيحة التي حاقت١ بثمود.
ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ .. إن ربك هو القوي العزيز ( ٦٦ ) ﴾ [ هود ] : هذا خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم تسلية وتسرية عنه وتقوية لعزمه، فالحق سبحانه مقتدر يأخذ كل كافر، ولا يغلبه أحد ولا يعجزه شيء، وفي هذا إنذار لمن كفروا برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
١ - حاق به الشيء أو العذاب يحيق حيقا: نزل به وأصابه وأحاط به، قال تعالى: ﴿ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله...(٤٣)﴾ [فاطر]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين١ ( ٦٧ ) ﴾ :
ويسمى الحق سبحانه هنا العذاب الذي نزل على ثمود " الصيحة " وسماه في موضع آخر الطاغية " :﴿ فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ( ٥ ) ﴾ [ الحاقة ].
وسماه في موضع آخر " صاعقة " فقال سبحانه :{ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ( ١٣ )[ فصلت ].
وفي سورة الأعراف سماه " الرجفة "، وكل من الصاعقة والصيحة والرجفة٢ تؤدي معنى الحدث الذي يدهم٣، ولا يمكن الفكاك منه.
ولقائل أن يقول : لماذا لم يقل الحق سبحانه هنا : " وأخذت الذين ظلموا الصيحة " ؟ لماذا اختفت تاء التأنيث من الفعل، وقال سبحانه :﴿ وأخذ الذين ظلموا الصيحة... ( ٦٧ ) ﴾ ؟ [ هود ] :
ونقول : إن الذي يتكلم هنا هو رب العباد سبحانه، ولا يصح أن نفهم الصيحة على أنها جاءت لتعبر عن صيحة واحدة، فتاء التأنيث تعبر عن الصيحة لمرة واحدة، أما إذا تكررت وصارت صياحا كثيرا تأخذهم كل صيحة من الصياح.
وهنا نلمح أن الصيحة فيها ضعف الأنوثة، أم الصياح ففيه عزيمة وقوة الرجولة، فأراد الحق سبحانه أن يجمع الأمرين، فقال : " أخد " ولم يقل " " أخذت ".
ثم قال سبحانه :﴿ .. فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ٦٧ ) ﴾ [ هود ] : أي : ملقون على ركبهم وعلى جباههم بلا حركة.
١ - جثم جثوما: لزم مكانه لاصقا بالأرض. قال تعالى: ﴿.. فأصبحوا في ديارهم جاثمين (٦٧)﴾ [هود] كناية عن موتهم بحالتهم، فهم هامدون لا صقون بالأرض. [القاموس القويم]..
٢ - رجف يرجف رجفا ورجفانا: تحرك واضطرب بشدة. قال تعالى: ﴿يوم ترجف الأرض والجبال..(١٤)﴾ [المزمل] والرجفة: اسم مرة من الرجف. قال تعالى: ﴿فأخذتهم الرجفة..(٧٨)﴾ [الأعراف] [القاموس القويم]..
٣ - دهمه أمر دهما: فجأه وغشيه. ودهمه القوم: جاءوه مجتمعين مرة واحدة. وأدهمه: ساءه وأرغمه والدهم: العدد الكثير، وجيش دهم: كثير. [المعجم الوسيط]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك.
﴿ كأن لم يغنوا١ فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ( ٦٨ ) ﴾ :
ومادة " غنى " ٢.. " غنى "، أو " غناء " كلها متساوية ؛ لأن الغناء هو الوجود ؛ وجود شيء يغني عن شيء، فالغنى هو وجود مال يغنيك عن غيرك، والغناء هو ما نسمعه من المغنين، والأغنية التي يعجب الإنسان من كلماتها ولحنها، فهو يقيم معها إقامة تطرد ما سواها مما سمع من الكلام على كثرة ما سمع أو قرأ، والغناء هو للإقامة.
والحق سبحانه يقول :﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا٣ كأن لم تغن٤ بالأمس... ( ٢٤ ) ﴾ [ يونس ] : أي : كأنها لم توجد من قبل.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ كأن لم يغنوا فيها... ( ٦٨ ) ﴾ [ هود ] : أي : لم يقيموا فيها، لأنها صارت حصيدا.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية :﴿ ألا إن ثمود كفروا ربهم... ( ٦٨ ) ﴾، وهذه هي حيثية العذاب الذي نزل بهم.
وعادة ما تتعدى كلمة " كفر " بالباء، ويقال : كفروا بربهم، ولكن الحق سبحانه يقول هنا :﴿ ألا إن ثمود كفروا ربهم... ( ٦٨ ) ﴾[ هود ] : والفارق كبير بين المعنيين، فمعنى ﴿ كفروا ربهم ﴾ أي : ستروا وجوده، فلا وجود له، ولكن معنى " كفروا بربهم " هو اعتراف بالله الموجود، لكنهم لم يؤمنوا به.
وقول الحق سبحانه :﴿ كفروا ربهم ﴾ يرد على الملاحدة الذين لا يقرون بوجود الله، لأن ذنب إنكار وجود الله ليس بعده ذنب، ولا يوجد ما هو أكبر منه في الذنوب.
لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ .. ألا بعدا لثمود ( ٦٨ ) ﴾[ هود ] : أي : أنه يستحقون ما وقع عليهم من إهلاك وطرد من رحمة الله، ولن يعطف عليهم أحد لضخامة ذنبهم.
١ - غني القوم في ديارهم: طال مقامهم فيها. قال تعالى: ﴿فأصبحوا في ديارهم جاثمين (٦٧) كأن لم يغنوا فيها...(٦٨)﴾ [هود] [القاموس القويم]..
٢ - غنى يغني غناء وغنى: كثر ماله، فهو غان وغنى، والغنى: من أسماء الله الحسنى. قال تعالى: ﴿وربك الغني ذو الرحمة...(١٣٣)﴾ [الأنعام]. [القاموس القويم]..
٣ - حصد الزرع يحصده حصدا وحصادا: قطعه عند نضجه، ويستعمل الحصد مجازا بمعنى الإهلاك والإبادة. قال تعالى: ﴿.. حتى جعلناهم حصيدا خامدين (١٥)﴾ [الأنبياء] أي: جعلناهم كالزرع المحصود، أي: أهلكناهم، وقال تعالى: ﴿ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد (١٠٠)﴾ [هود]. أي: منها باق، ومنا هالك. [القاموس القويم]..
٤ - أغنيت الدار بأهلها: عمرت بهم، قال تعالى: ﴿فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس.. (٢٤)﴾ [يونس] أي: كأنها لم تعمر. [القاموس القويم ٢/٢١].
.

ويأتي الحق سبحانه في الآية التالية بقصة جديدة من قصص الأنبياء، وهي جزء من قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يقول سبحانه :
﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى١ قالوا سلاما قال سلام فما لبث٢ أن جاء بعجل حنيذ٣( ٦٩ ) ﴾ :
وكلمة " رسل " جمع " رسول "، والرسول هو المرسَل من جهة إلى جهة، وأي إنسان تبعثه إلى جهة ما ؛ اسمه رسول، ولكن المعنى الشرعي للرسول : أن يكون مرسلا من الله.
ويقول الحق سبحانه :﴿ الله يصطفي٤ من الملائكة رسلا ومن الناس... ( ٧٥ ) ﴾[ الحج ] : واصطفاء الملائكة كرسل لتيسير التلقي عن الخالق سبحانه ؛ لأن القوة التي تتلقى عن الخالق سبحانه وتعالى لا بد أن تكون قوة عالية، والإنسان منا لا يقدر على أن يتلقى مباشرة عن الحق سبحانه.
لذلك يأتي لنا الله جل علاه بالرسل، فيصطفي من الملائكة المخصوصين القادرين على التلقي لينزلوا على المصطفى من البشر القادر على حمل الرسالة.
وهكذا نعلم أن الملائكة ليست كلها قادرة على التلقي من الله تعالى، ولا كل البشر بقادرين على التلقي عن الله أو عن الملائكة.
وهذه الحلقات في الإبلاغ أرادها الحق سبحانه، لتؤهل للضعيف أن يأخذ من الأقوى ؛ والبشر يلجأون إلى ذلك في حياتهم.
وسبق أن ضربت المثل، بأننا أثناء الليل نطفئ نور المنزل، لكننا نترك ضوءا خافتا يوضح لنا ملامح البيت، فإن قمنا ليلا من النوم ؛ لا نصطدم بمتاع البيت، فيتحطم ما نصطدم به إن كان أضعف منا، أو نصاب نحن إن اصطدمنا بما هو أقوى منا.
والنور الضعيف يتيح لنا أن نرى مكان مفتاح الضوء القوي.
وكذلك يفعل الله سبحانه وتعالى، فيأتي بمصطفى من الملائكة، يتلقى عن الحق سبحانه ويبلغ الملك من هؤلاء الرسول المصطفى من البشر.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا٥ أو من وراء حجاب٦ أو يرسل رسولا٧ فيوحي بإذنه ما يشاء... ( ٥١ ) ﴾[ الشورى ].
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى.. ( ٦٩ ) ﴾[ هود ] : والبشرى هي الإخبار بشيء يسر قبل أوان وقوعه، وهي عكس الإنذار الذي يعني الإخبار بشيء محزن قبل أوانه.
وقبل أن يوضح الرسل لإبراهيم-عليه السلام- البشارة التي جاءوا من أجلها، يعلمنا الحق سبحانه المقدمات اللازمة للدخول إلى الأماكن، فمن أدب الدخول إلى أي مكان أن نسلم على أهل هذا المكان، والحق سبحانه القائل :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا٨ وتسلموا على أهلها... ( ٢٧ ) ﴾[ النور ].
ولذلك يأتي الحق سبحانه هنا بما قالته الملائكة من قبل إبلاغ البشرى :﴿ قالوا سلاما... ( ٦٩ ) ﴾[ هود ].
وجاء سبحانه برد إبراهيم عليه السلام :﴿ قال سلام... ( ٦٩ ) ﴾[ هود ] : ونحن نلحظ أن السلام جاء على ألسنتهم بالنصب، والرد بالسلام جاء بالرفع، وقولهم :﴿ سلاما ﴾ دل على فعل يوضح التجدد، والرد جاء بكلمة ﴿ سلام ﴾ بالرفع ؛ ليدل على الثبات والإصرار.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها.. ﴾( ٨٦ ) }[ النساء ] : هكذا استقبل إبراهيم عليه السلام رسل الحق سبحانه.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ .. فما لبث٩ أن جاء بعجل حنيذ ( ٦٩ ) ﴾[ هود ] : والعجل هو ولد البقر.
وهناك آيات كثيرة في القرآن تعرضت لقصة إبراهيم عليه السلام في أكثر من موضع من مواضع القرآن، لا بقصد التكرار، ولكن لأن كل لقطة في أي موضع هي لقطة مقصودة لها دلائلها وأسرارها، فإذا جمعت اللقطات فسوف تكتمل لك قصة إبراهيم عليه السلام في شمول متكامل.
وعلى سبيل المثال : يقول الحق سبحانه :﴿ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض... ( ٧٥ ) ﴾[ الأنعام ].
وفي موضع آخر يتعرض الحق سبحانه للتربية اليقينية التي أرادها لإبراهيم، فيقول سبحانه :﴿ فلما جن١٠ عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل١١ قال لا أحب الآفلين ( ٧٦ ) فلما رأى القمر بازغا١٢ قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الظالين ( ٧٧ ) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ( ٧٨ ) إني وجهت وجهي للذي فطر١٣ السماوات والأرض حنيفا١٤ وما أنا من المشركين ( ٧٩ ) ﴾ [ الأنعام ].
إن هذه الآيات تبين وظيفة الحواس إدراكا، ووظيفة الوجدان انفعالا، ووظيفة الاختيار توحيدا وإذعانا بيقين.
ثم يقول الحق سبحانه في موضع آخر على لسان إبراهيم عليه السلام فخاطب عمه باحترام لمكانته التي تساوي منزلة الأب.
يقول الحق سبحانه :
﴿ واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ( ٤١ ) إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ( ٤٢ ) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ( ٤٣ ) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا ( ٤٤ ) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا ( ٤٥ ) ﴾[ مريم ] : فهذه الآية تبين رفق الداعي مع جمال العرض.
فأصر العم على الشرك، فقال إبراهيم عليه السلام :﴿ سأستغفر لك ربي... ( ٤٧ ) ﴾[ مريم ] : وبعد ذلك يتبرأ منه لإصراره على الكفر.
ثم هناك لقطة من يحاجج إبراهيم في ربه :﴿ ألم تر إلى الذي حاج١٥ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت.. ( ٢٥٨ ) ﴾[ البقرة ].
وكانت تلك سفسطة١٦ في القول ناتجة عن عجز في التعبير، فليس إصدار حكم بالقتل على إنسان، ثم العفو عنه، هو إحياء وإماتة، فأخذه إبراهيم عليه السلام إلى منطقة لا يجرؤ عليها أحد، وقال :﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب.. ( ٢٥٨ ) ﴾ [ البقرة ] : وهذه الآية تبين منطق الحق أمام زيف الباطل، ثم يأتي في موضع آخر من القرآن ليبين المقارنة بين فكرة الكفر، وفكرة الإيمان، فيقول سبحانه :﴿ واتل عليكم نبأ إبراهيم ( ٦٩ ) إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ( ٧٠ ) قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ( ٧١ ) قال هل يسمعونكم إذ تدعون ( ٧٢ ) أو ينفعونكم أو يضرون ( ٧٣ ) قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلن ( ٧٤ ) ﴾[ الشعراء ].
وفي هذه الآية أمثلة تحمل جواب الإسكات.
ثم يقول الحق سبحانه، على لسان إبراهيم عليه السلام :﴿ الذي خلقني فهو يهدين ( ٧٨ ) والذي هو يطعمني ويسقين ( ٧٩ ) وإذا مرضت فهو يشفين ( ٨٠ ) والذي يميتني ثم يحيين ( ٨١ ) والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ( ٨٢ ) ﴾ [ الشعراء ].
يقول رب العزة سبحانه في سورة الأنبياء :﴿ ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل ركنا وكنا به عالمين ( ٥١ ) إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ( ٥٢ ) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ( ٥٣ ) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ( ٥٤ ) قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ( ٥٥ ) قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين ( ٥٦ ) ﴾ [ الأنبياء ].
هذه هي التربية اليقينية١٧ التي أرادها الحق سبحانه لإبراهيم عليه السلام ليعلمنا كيف يكون الإيمان ؟
وكان قوم إبراهيم يعبدون آلهة غير الله، لكن إبراهيم عليه السلام توصل إلى عبادة من خلقه وخلق الكون، وهو الصانع الذي يضع قانون صيانة ما يصنع سبحانه وتعالى.
ولذلك نلاحظ قوله :﴿ الذي خلقني فهو يهدين ( ٧٨ ) ﴾[ الشعراء ] : فلم يقل : " الذي خلقني يهديني " لأن هذه دعوى ؛ ستدعى، وسيضع الناس قوانين لأنفسهم، فبين الحق سبحانه أن الذي خلق هو الذي يهدي.
وجاء الحق سبحانه بكلمة " هو " الحصر الأمر حتى لا يشارك الخلق خالقهم فيه، لكن الأمر الذي لم يدع، لم يأت فيه بكلمة " هو " كقوله :﴿ والذي يميتني ثم يحيين ( ٨١ ) ﴾ [ الشعراء ] : فما لا شركة فيه عند الخلق يأتي به القرآن من غير تأكيد الضمير، ولكن في الأمر الآخر يأتي بتأكيد الضمير كقوله :﴿ وإذا مرضت فهو يشفين( ٨٠ ) ﴾[ الشعراء ].
فقد يقال : " إن الطبيب هو الذي يشفيني "، ولكن ذلك غير حقيقي ؛ لأن الله سبحانه هو الذي يضع العلم، وهو الذي خلق الداء وخلق الدواء١٨.
ثم بعد ذلك يقول الحق سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلام :﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد١٩ من البيت.. ( ١٢٧ ) ﴾ [ البقرة ].
إذن : فكل مناسبة تأتي لتأكيد معنى من معاني الإيمان تأتي معها لقطة من لقطات قصة إبراهيم عليه السلام، وإذا جمعت اللقطات كلها تجد قصة إبراهيم كاملة.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى يريد ان يقص على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم القصص، فذلك لتثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم.
﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك... ( ١٢٠ ) ﴾[ هود ] : لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتعرض لكثير من الأحداث، فيذكره الله سبحانه بما حدث للرسل عليهم السلام ويأتي باللقطات الإيمانية ليثبت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ .. قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ( ٦٩ ) ﴾[ هود ].
وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه :﴿ إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون٢٠ ( ٥٢ ) ﴾ [ الحجر ] : وفي آية أخرى يقو الحق سبحانه عن هذا الموقف :
﴿ فأوجس٢١ منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم ( ٢٨ ) ﴾ [ الذاريات ] : أي : أحس في نفسه الخوف، وهذا من أمر المواجيد٢٢ ؛ لأن كل فعل من الأفعال له مقدمات تبدأ بالإدراك، ثم النزوع، ثم الفعل ؛ فحين رآهم إبراهيم عليه السلام أوجس في نفسه خيفة، ثم نزع إلى فعل هو السلام.
والشرع لا يتدخل في الإدراك أو المواجيد، ولكنه يتدخل في النزوع، إلا في أمر واحد من مدركات الإنسان، وهو إدراك الجمال في المرأة.
لذلك أمر الشرع بغض النظر٢٣ ؛ حتى لا يدرك الإنسان ذلك فينزع إلى سلوك ليس له حق فيه، ولأن إدراك حسن المرأة قد يدفع الغرائز إلى السلوك الفوري ؛ لأن الغرائز لا تفصل النزوع عن الوجدان والإدراك.
١ - البشرى والبشارة: ما يعطي للمبشر بالخبر السار، والبشر: مصدر بمعنى البشارة والبشرى، ويطلق كل منها على الخبر السار. وبشره. أخبره بما يسره، قال تعالى: ﴿قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون (٥٤)﴾ [الحجر]..
٢ - لبث: أقام واستقر. وما لبث أن فعل كذا: ما قعد وما توانى، أي: أسرع إلى فعله بغير أي توازن، وقوله تعالى: ﴿.. فما لبث أن جاء بعجل حنيذ (٦٩)﴾ [هود] أي: أسرع فأتى به، وهو دليل العناية الحفاوة بالضيف [القاموس القويم]..
٣ - حنذ اللحم يحنذه حنذا: شواه على الحجارة، فهو حنيذ أي: مشوي. قال تعالى: ﴿.. فما لبث أن جاء بعجل حنيذ (٦٩)﴾ [هود]، ولحمه يكون أطيب من المسلوق والمطبوخ في الماء. [القاموس القويم]..
٤ - اصطفاه: اختاره وآثره وفضله. قال تعالى: ﴿.. يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (٤٢)﴾ [آل عمران] أي: اختارك وفضلك، وقال تعالى: ﴿الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس...((٧٥)﴾ [الحج] أي: يختار الأفضل منهم لرسالاته. [القاموس القويم] بتصرف..
٥ - الوحي: يطلق على الأمر الموحى به من إطلاق المصدر على المفعول به.
قال تعالى: ﴿قل إنما أنذركم بالوحي..(٤٥)﴾ [الأنبياء] أي: بالقرآن الذي أوحاه الله إلي. ويطلق الوحي على الملك الذي أرسله الله إلى الرسول ليبلغه ما أمر الله به، وقوله تعالى: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا..(٥١)﴾ [الشورى] أي: إلهاما من الله، وقذفا في قلب الرسول في سرعة وخفاء. [القاموس القويم ٢/٣٢٥]..

٦ - ﴿أو من وراء حجاب... (٥١)﴾ [الشورى] أي: فاصل بين الألوهية والبشرية، وبطريقة لا يعلمها إلا الله تعالى: [القاموس القويم ٢/٣٢٥]..
٧ - ﴿أو يرسل رسولا...(٥١)﴾ [لشورى] مثل جبريل عليه السلام، فيوحي إلى الرسول بإذن من الله ما أمر الله به [القاموس القويم ٢/٣٢٥]..
٨ - استأنس: ذهب توحشه، واستأنس به وإليه، والهمزة والسين والتاء للطلب في الغالب. فقوله تعالى: ﴿حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها..(٢٧)﴾ [النور] أي: حتى تطلبوا الأنس والألفة والرضا، أو حتى تستشعروا الأنس وتعلموه [القاموس القويم ١/٣٧]..
٩ - ما لبث أن جاء: أي: أسرع بإعداد الطعام وإحضاره لضيوفه، وهذا فيه دلالة قوية على الجود والكرم الذي اتصف به إبراهيم عليه السلام. [القاموس القويم] بتصرف..
١٠ - جن الشيء، يجنه جنا: ستره، ويتضمن الفعل معنى كلمة "أظلم" لأن الظلام يستر كل شيء. وجن الليل: أظلم [القاموس القويم]..
١١ - أفل: غاب وغرب تحت الأفق [كلمات القرآن]..
١٢ - بازغا: طالعا من الأفق منتشر الضوء. [كلمات القرآن]..
١٣ - فطر الشيء: شقه، وفطر الله الخلق: خلقهم وبدأهم فهو فاطر أي ابتدأ خلق السماوات والأرض [القاموس القويم ٢/٨٤]..
١٤ - حنيفا: مائلا عن الباطل، مستقيما على الحق [لسان العرب]..
١٥ - حاجه: نازعه الحجة، فهي مفاعلة من الجانبين، أي: قدم كل منهما حجته؛ ليغلب بها الآخر. قال تعالى: ﴿وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله..(٨٠)﴾ [الأنعام] [القاموس القويم ١/١٤٣]..
١٦ - السفسطة: المغالطة والتضليل بغرض إفحام الخصم وإسكاته. [المعجم الوسيط] بتصرف..
١٧ - اليقين: العلم الثابت الواضح الذي لا شك فيه، ويقال خير يقين لا شك فيه، ويكفي به عن الموت؛ لأنه لا شك فيه، قال تعالى: ﴿واعبد ربك حتى أتيك اليقين (٩٩)﴾ [الحجر] أي: الموت وقال تعالى: ﴿فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين (٢)﴾ [النمل] وأيقن الأمر وأيقن به: علمه علما ثابتا واضحا لا شك فيه [القاموس القويم ٢/٣٧١، ٣٧٢]..
١٨ - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما انزل الله من داء إلا أنزل له شفاء) أخرجه البخاري في صحيحه (٥٦٧٨) وابن ماجه في سننه (٣٤٣٩)..
١٩ - القواعد: جمع قاعدة، وقاعدة البناء: أساسه الذي يقوم عليه. [القاموس القويم ٢/ ١٢٧]..
٢٠ - وجل يوجل: فزع وخاف، وقال تعالى: ﴿قالوا لا توجل..(٥٣)﴾ [الحجر] أي: لا تفزع ولا تخف، وهو وجل، أي: خائف، وقال تعالى: ﴿.. قال إنا منكم وجلون (٥٢)﴾ [الحجر]. وقال تعالى: ﴿إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم..(٢)﴾ [الأنفال]..
٢١ - أوجس نفسه: أضمر الخوف في نفسه. قال تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿فأوجس في نفسه خيفة موسى (٦٧)﴾ [طه] وقال عن إبراهيم عليه السلام: ﴿فأوجس منهم خيفة..(٢٨)﴾ [الذاريات] أي: أحس الفزع والخوف [القاموس القويم]..
٢٢ - المواجيد: جمع موجدة، وهي ما يحس به القلب ويجده الإنسان في نفسه من مشاعر الفرح والحزن والرضا والغضب وغيرها..
٢٣ - ودليل هذا قوله عز وجل: ﴿قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (٣٠)﴾ [النور]..
وهنا بين الحق مواجيد إبراهيم عليه السلام حين قال :﴿ وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف.. ( ٧٠ ) ﴾[ هود ].
وجاء بالمعنى النزوعي حين قال :﴿ قالوا سلاما قال سلام.. ( ٦٩ ) ﴾[ هود ] : وهو حين التأكيد والتثبيت.
وقال الحق سبحانه :﴿ .. فما لبث أن١ جاء بعجل حنيذ ( ٦٩ ) ﴾[ هود ] : وهو : العجل السمين المشوي على الحجارة ؛ لأن الشواء- كما نعلم- قد يكون على اللهب أو على الفحم، أو على الحجارة.
ومثل ذلك يحدث في البلاد العربية حين يأتون بحجر رقيق جدا، ويحمونه على النار، ثم يشوون عليه اللحم، وهذا ما يضمن عدم حدوث تفاعلات بين اللحم والحجر ؛ لأن هناك تفاعلات تحدث من الحديد أو من الفحم ؛ ولذلك فهذه أنظف طريقة للشواء.
أو أن كلمة :﴿ .. بعجل حنيذ ( ٦٩ ) ﴾[ هود ] : أي : ينزل منه الدهن بعد الشواء.
وقول الحق سبحانه :﴿ .. فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ( ٦٩ ) ﴾[ هود ] : لأن طبيعة سيدنا إبراهيم عليه السلام هي محبة الضيوف وإكرامهم.
ومن عادة الكرام أن يعجلوا بإكرام الضيف٢، وتقديم الطعام له، والكريم هو من يفعل ذلك ؛ لأنه لا يعلم ما قد مر على الضيف دون طعام، فإن كان الضيف جائعا ؛ أكل، وإن كان شبعان فهو يعلن ذلك.
ويقول الحق سبحانه ما حدث بعد أن جاء لهم إبراهيم عليه السلام بالعجل المشوي :﴿ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم٣ وأوجس٤ منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( ٧٠ ) ﴾.
وحين رأى إبراهيم أن أيديهم لا تصل إلى الطعام توجس من ذلك شرا ونكرهم، أي : استنكر أنهم لم يأكلوا من طعام قدمه لهم، فهل علم إبراهيم أنهم ملائكة ؟
لقد علم إبراهيم عليه السلام أنهم ملائكة من كلامهم.
وقد بين ذلك قول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآني :﴿ إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون ( ٥٢ ) قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ( ٥٣ ) قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ( ٥٤ ) قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين٥ ( ٥٥ ) قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ( ٥٦ ) قال فما خطبكم أيها المرسلون ( ٥٧ ) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ( ٥٨ ) ﴾[ الحجر ] :
إذن : فهم لم يقولوا له مثلما قالوا للوط عليه السلام :﴿ إنا رسل ربك.. ( ٨١ ) ﴾ [ هود ].
وهنا حين قالوا لإبراهيم عليه السلام :﴿ .. لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( ٧٠ ) ﴾ [ هود ] : أي : أنهم فهموا أن إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم ملائكة ؛ لأن الملك قد يتشكل في هيئة إنسان، مثلما تشكل جبريل عليه السلام أمام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الجن لهم قدرة على التشكيل، إلا أن هناك فارقا بين تشكل الملك وتشكل الجن، فالجن إن تشكل تحكمه الصورة، فإن تشكل في صورة رجل فيمكنك أن تمسك به وتؤذيه.
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" إن عفريتا من الجن تفلت٦ البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان :
﴿ قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب ( ٣٥ ) ﴾[ ص ].
فرددته خاسئا " ٧. إذن : إذا تشكل الجن حكمته الصورة، ويمكن أن نضربه مثلا، أما الملاك إذا تشكل فالصورة لا تحكمه.
وحكم الصورة عند تشكل الجني هي التي تحمينا من مخاوفنا، وهو أيضا يخاف منا مثلما نخاف منه، ولذلك لا يظهر الجني متشكلا في صورة إلا لحظة قصيرة ليختفي على الفور ؛ لأنه يخاف أن تكون قد علمت أن الصورة التي تشكل عليها تحكمه وتستطيع أن تفتك به ؛ لذلك فالجن يخافون من البشر.
وشاء الحق سبحانه ذلك الأمر حتى لا يفزع الجن الناس.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم... ( ٧٠ ) ﴾[ هود ] :
وكلمة ﴿ نكرهم ﴾ تقتضي أن ننظر في مادة النون والكاف والراء " وكلمة " نكر " وكلمة " أنكر " كلتاهما مستعملة في القرآن٨.
والشاعر يقول :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت٩ **** من الحوادث إلا الشيب والصلعا
والاستعمال اللغوي يدل على أن المقابح من ألوان السلوك تسمى منكرات، أي : ينكرها الإنسان بفطرته.
وهنا حين رأى إبراهيم عليه السلام أن أيديهم لا تصل إلى العجل الحنيذ نكرهم، وأوجس في نفسه خيفة، فلاحظوا ذلك، وقالوا :﴿ .. لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( ٧٠ ) ﴾ [ هود ] : وهذا عرف لمن جاءوا، واطمأن ان قومه لم يأتوا بفعل يستحقون عليه العذاب، وخصوصا أن كتب التاريخ تقول : إن امرأة إبراهيم عليه السلام قالت له : ألا تضم ابن أخيك إلى كنفك١٠ هنا ؛ لأن قومه يوشك أن يعمهم الله بالعذاب.
وحين سمعت أن الرسل إنما جاءت إلى قوم لوط سرت من فراستها١١ وتبسمت لأنها تنبهت إلى هذه المسألة.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه :﴿ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ( ٣٢ ) لنرسل عليهم حجارة من طين ( ٣٣ ) مسومة١٢ عند ربك للمسرفين ( ٣٤ ) ﴾ [ الذاريات ].
١ - أن: بمعنى حتى. قاله كبراء النحويين. حكاه القاضي ابن العربي. والمعنى: أي: ما أبطأ عن مجيئه بعجل. ذكره القرطبي في تفسيره (٤/٣٣٨٢)..
٢ - وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على إكرام الضيف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٦٠١٨) وكذا مسلم في صحيحه (٤٧)..
٣ - نكرة: استوحش منه ونفر منه ولم يأنس به. [القاموس القويم] تقول: نكرتك وأنكرتك واستنكرتك إذا وجدته على غير ما عهدته. راجع القرطبي (٤/ ٣٣٨٤)..
٤ -وجس وأوجس: فزع. وأوجس في نفسه: أضمر الخوف في نفسه، وقوله تعالى: ﴿وأوجس منهم خيفة..(٧٠)﴾ [هود] أي: أحس الفزع والخوف. وقال تعالى: ﴿فأوجس في نفسه خيفة موسى (٦٧)﴾ [طه] أي: أضمر الخوف في نفسه حين رأى أعمال السحرة. [القاموس القويم]..
٥ - القانطون: الذين انقطع أملهم في الخير أو يئسوا منه. والقنوط: صيغة مبالغة، أي: شديد اليأس معدوم الأمان. [القاموس القويم]..
٦ - تفلت: أي: تعرض لي فلتة أي: بغتة..
٧ - أخرجه البخاري في صحيحه (٣٤٢٣) ومسلم في صحيحه (٥٤١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٨ - كلمة "نكر" وردت في قوله تعالى: ﴿فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم...(٧٠)﴾ [هود]. وقال تعالى عن سليمان: ﴿قال نكروا لها عرشها..(٤١)﴾ [النمل]. أما أنكر، فقد قال تعالى: ﴿ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون (٨١)﴾ [غافر] وقال تعالى: ﴿ومن الأحزاب من ينكر بعضه...(٣٦)﴾ [الرعد]، وقوله تعالى: ﴿يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون (٨٣)﴾ [النحل]..
٩ - جمع الشاعرين بين اللغتين: ويقال: نكرت لما تراه بعينيك وأنكرت لما تراه بقلبك، قاله القرطبي في تفسيره (٤/٣٣٨٤)..
١٠ - الكنف والكنفة: ناحية الشيء. وكنف الرجل الرجل جعله في كنفه أي: في حفظه وإعانته، وكنفت الرجل: حطته وصنته. [راجع لسان العرب]..
١١ - الفراسة: الفطنة في النظر والتثبت والتأمل للشيء والبصر به، والتفرس: أن تتوسم أمرا ما في شخص ما فيكون كما توسمت، وهذا يكون بأحد أمرين.
١-ما يوقعه الله في قلوب أوليائه بنوع من المكاشفات.
٢-ما يتعلم الدلائل والتجارب فتعرف بها أحوال الناس. [راجع لسان العرب] مع زيادة عندنا..

١٢ - ﴿مسومة عند ربك...(٣٤)﴾ [الذاريات] أي: عليها خواتيم بأسماء المعذبين. وسوم على القوم: أغار عليهم فعاث فيهم بالإفساد والإهلاك. قال تعالى: ﴿.. يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (١٢٥)﴾ [آل عمران] أي: معلمي أنفسهم وخيلهم بعلامات، أو مغيرين على الكفار، وقوله تعالى: ﴿والخيل المسومة.. (١٤)﴾ [آل عمران] أي: المرسلة للرعي، أو المعلمة بعلامات. وقوله تعالى: ﴿سيماهم في وجوههم..(٢٩)﴾ [الفتح]. أي: علامات إيمانهم نور في وجوههم. [القاموس القويم]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وامرأته١ قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( ٧١ ) ﴾ :
فعندما كانت امرأته قائمة على خدمة الضيوف٢، وسمعت كلام الملائكة اطمأنت على أنه لا عذاب على قومهم، وتحققت فراستها فضحكت فأزادها الله سرورا، وبشرتها الملائكة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب.
فبعد دفع العذاب، وبيان أمر العذاب لقوم آخرين مجرمين، تأتي البشارة بتحقيق ما كان إبراهيم عليه السلام وزوجه يصبوان٣ إليه، وإن كانوا أوانها قد فات ؛ لأن زوجة إبراهيم كانت قد بلغت التسعين من عمرها، وبلغ هو المائة والعشرين عاما٤. وفي هذا امتنان على إبراهيم بمجيء ابن الابن أيضا، وكذلك يمتن الله سبحانه على عباده حين يقول :{ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة٥.. ( ٧٢ )[ النحل ].
١ - هي: سارة امرأة إبراهيم عليه السلام من قومه، وهي أم إسحاق عليه السلام جاءها الولد وهي في سن كبيرة، بعد أن ولدت هاجر- لإبراهيم- إسماعيل عليه السلام..
٢ - عن سهل بن سعد أن أبا أسيد الساعدي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا في عرسه فكانت امرأته خادمهم يومئذ وهي العروس. قال: تدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنقعت تمرات من الليلة في تور) أخرجه البخاري في صحيحـــه (٥١٧٦ )، وأحمد في مسند (٣/٤٩٨) وابن ماجه في سننه (١٩١٢)..
٣ - صبا يصبو صبوا صبوا: مال وأحب. قال تعالى: ﴿.. وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين (٣٣)﴾ [يوسف]. أصبو: أميل: وصبا إلى الشيء: حن واشتاق إليه. [القاموس القويم]..
٤ - قال مجاهد: كانت سارة بنت تسع وتسعين سنة. وقال ابن إسحاق: كانت بنت تسعين، وقيل غير هذا، أما إبراهيم فقيل: كان ابن مائة وعشرين سنة، وقيل: ابن مائة سنة، ذكره القرطبي في تفسيره (٤/٣٣٨٨)..
٥ - حفدة: أولاد الأولاد. والحافد: العون والخادم، وولد الوالد، جمعه: حفد وحفد، وحفدة وحفد في عمله: خف ونشط وأسرع فيه فهو حافد، وهو حفيد، وسمى العون أو الخادم أو ولد الولد حافدا لنشاطه وخفته في العون والخدمة [القاموس القويم ١/١٦١]..
﴿ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة١.. ( ٧٢ ) ﴾ [ النحل ].
ولذلك قال الحق سبحانه :
﴿ .. فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( ٧١ ) ﴾ [ هود ] : فالإنسان يجب أن يكون له ابن، ويحب أكثر أن يرى ابن ابنه، لأن هذا يمثل امتدادا له.
وهكذا توالت البشارات، فقد أعلنت الملائكة أنها جاءت لتعذب قوم لوط، هؤلاء الذين اختلف معهم إبراهيم عليه السلام ؛ لما جاءوا به من الفواحش، وكذلك لأن إبراهيم عليه السلام وامرأته قد علما أنهما لم يأتيا بأي أمر يغضب الله تعالى.
والثالثة من البشارات هي الغلام، وكان ذلك حلما قديما عند امرأة إبراهيم عليه السلام لأنها عاقر، واستقبلت امرأة إبراهيم البشارة الأولى بالضحك، واستقبلت البشارة بالابن بالدهشة٢.
وهذا ما يقول فيه الحق سبحانه :
﴿ قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي٣ شيخا إن هذا لشيء عجيب ( ٧٢ ) ﴾
والشيء العجيب هو الذي يخالف نواميس الكون المعتادة، ولكن هناك فرقا بين النواميس٤ وخالق النواميس، الذي هو قادر على أن يخرق النواميس.
وها هو سيدنا إبراهيم يقول في موضع آخر :﴿ أبشرتموني على أن مسني الكبر.. ( ٥٤ ) ﴾ [ الحجر ]، ولم يأت هنا بقول امرأة إبراهيم التي قالت :﴿ يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا.. ( ٧٢ ) ﴾ [ هود ] : وتسمية الزوج بعلا فيها دقة شديدة ؛ لأن البعل هو الذي يقوم بأمر المبعول ولا يحوجه لأحد.
كذلك الزوج يقوم بأمر زوجته فيما لا يستطيع أبوها ولا أخوها أن يقوما به، وهو الإحساس بالأنوثة والإخصاب، وهو أهم ما تطلبه المرأة.
وأيضا سمي النخل بالبعل، لأنه لا يطلب من زراعه أن يسقيه، وإنما يكتفي النخل بما يمتصه من الأرض، وما ينزل له من مطر السماء٥.
وذلك سمي نوع من الفول " بالفول البعلي "، وهو الذي لا يحتاج إلى إرواء.
إذن : فالبعل هو الزوج الذي يقوم على أمر زوجته فلا يحوجها إلى غيره في أي شيء من الأشياء.
١ - حفدة: أولاد الأولاد. والحافد: العون والخادم، وولد الوالد، جمعه: حفد وحفد، وحفدة وحفد في عمله: خف ونشط وأسرع فيه فهو حافد، وهو حفيد، وسمى العون أو الخادم أو ولد الولد حافدا لنشاطه وخفته في العون والخدمة [القاموس القويم ١/١٦١]..
٢ - يقول رب العزة سبحانه عن ذلك في سورة الذاريات: ﴿.. وبشروه بغلام عليم (٢٨) فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم (٢٩) قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم (٣٠)﴾ [الذاريات] صك الوجه: اللطم تعجبا وهو كناية عن الدهشة [القاموس القويم ١/٣٨٠]..
٣ - البعل: الزوج والزوجة، فهو مصدر سمى به بلفظه فلا يؤنث، وجمع البعل: بعولة: قال تعالى: ﴿وهذا بعلي شيخا..(٧٢)﴾ [هود]. وقال تعالى: ﴿وبعولتهن أحق بردهن..(٢٢٨)﴾ [البقرة] أي: وأزواجهن أحق بردهن بعد الطلاق الرجعي، وبعد طلقة بائنة أو طلقتين بائنتين بعقد جديد. [القاموس القويم ١/٧٦].
سمى زوج المرأة بعلا لأنه سيدها ومالكها. والمباعلة: المباشرة. والبعال: النكاح: تبعلت المرأة أطاعت بعلها، وتبعلت له: تزينت. وامرأة حسنة التبعل إذا كانت مطاوعة لزوجها محبة له. [لسان العرب]..

٤ - النواميس: القوانين الإلهية التي يخضع لها الكون.
.

٥ - ذكره ابن منظور في لسان العرب [مادة: ب ع ل]: استبعل الموضع والنخل: صار بعلا راسخ العروق في الماء مستغنيا عن السقي وعن إجراء الماء في نهر أو عاثور إليه. [العاثور: هو البئر]..
وهنا تتعجب زوجة إبراهيم عليه السلام من أمر الإنجاب ؛ لأن هذا شيء عجيب يقع على غير انتظار ؛ ولذلك يرد الملائكة عليها.
ويقول الحق سبحانه عن ذلك :
﴿ قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ( ٧٣ ) ﴾ :
والعجب- إذن- إنما يكون من قانون بشرى، وإنما القادر الأعلى سبحانه له طلاقة القدرة في أن يخرق الناموس. ومن خرق النواميس جاءت المعجزات لتثبت صدق البلاغ من الله تعالى، فالمعجزات أمر خارق للعادة الكونية.
والقصة التي حدثت لإبراهيم عليه السلام وامرأته تكررت في قصة زكريا عليه السلام، والحق سبحانه هو الذي أعطى مريم عليها السلام بشارة التذكير لزكريا عليه السلام حين سألها :﴿ أنى١ لك هذا... ( ٣٧ ) ﴾ [ آل عمران ]، فقالت مريم :
﴿ .. هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ( ٣٧ ) ﴾. [ آل عمران ].
إذن : فالحساب يكون بين الخلق وبعضهم، لا بين الخالق- سبحانه- وخلقه.
ولذلك يأتي قول الحق عز وجل :﴿ هنالك دعا زكريا ربه.. ( ٣٨ ) ﴾[ آل عمران ].
ومادام زكريا عليه السلام قد تذكر بقول مريم :﴿ .. إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ( ٣٧ ) ﴾ [ آل عمران ].
فمن حقه أن يدعو :﴿ قال رب هب لي من لدنك ذرية.. ( ٣٨ ) ﴾[ آل عمران ] : فأوحى له الله سبحانه وتعالى :﴿ يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ( ٧ ) ﴾[ مريم ] : أي : أن الحق سبحانه لم يرزقه الابن فقط، بل وسماه له أيضا باسم لم يسبقه إليه أحد.
وتسمية الله تعالى غير تسمية البشر، فإن كان بعض البشر قد سموا من بعد ذلك بعض أبنائهم باسم " يحيى " فقد فعلوا ذلك من باب الفأل٢ الحسن في أن يعيش الابن.
لكن الحق سبحانه حين يسمى اسما، فقد سماه " يحيى " ليحيا بالفعل، ويبلغ سن الرشد، ثم لا يأتي الموت ؛ لذلك قتل٣ يحيى وصار شهيدا، والشهيد حي عند ربه لا يأتي إليه موت أبدا٤.
وهذا عكس تسمية البشر ؛ لأن الإنسان قد يسمي ابنه " سعيد " ويعيش الابن حياته في منتهى الشقاء.
والشاعر يقول عن الإنسان الذي سمى ابنه " يحيى "
وسميته يحيى ليحيا فلم يكن **** لرد قضاء الله فيه سبيل
وحين نرجع إلى أن مريم عليها السلام هي التي نبهت إلى قضية الرزق من الله، نجد أن زكريا عليه السلام قد دعا، وذكر أنه كبير السن٥ وأن زوجه عاقر.
ولا بد أن زكريا عليه السلام يعرف أن الحق سبحانه وتعالى يعلم كل شيء أزلا٦، ولذلك شاء الله سبحانه أن يطمئن زكريا عليه السلام بأنه سيرزقه الولد ويسميه، ويأتي قول الحق سبحانه وتعالى : كذلك قال ربك... ( ٦ ) }[ مريم ] : ومادام الحق سبحانه وتعالى هو الذي قرر، فلا راد لما أراده، ولذلك يقول سبحانه :﴿ .. هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ( ٩ ) ﴾[ مريم ]
وهكذا توالت الأحداث بعد أن نبهت مريم زكريا عليه السلام : إلى قضية خرق النواميس التي تعرضت هي لها بعد ذلك، حينما تمثل لها الملك بشرا، وبشرها بغلام اسمه المسيح عيسى ابن مريم- عليه السلام-. وتساءلت مريم عن كيفية حدوث ذلك- وهي التي لم يمسسها بشر- فيذكرها الملك بأنها هي التي أجرى الله سبحانه وتعالى على لسانها قوله الحق في أثناء كلامها مع زكريا عليه السلام :﴿ .. إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ( ٣٧ ) ﴾ [ آل عمران ].
وكان لابد من طمأنتها ؛ لأن إنجابها للمسيح عيسى- عليه السلام- دون أب هي مسألة عرض، ويجب أن يتقبل عليها وهي آمنة، غير مرتاب فيها ولا متهمة.
والآية التي نحن بصددها هنا تتعرض لامرأة إبراهيم عليه السلام حين جاءتها البشارة بالطفل، وكيف أوضحت لها الملائكة أنه لا عجب مما قدره الله تعالى وأراده، خلافا للناموس الغالب في خلقه ؛ لأن رحمة الله تبارك وتعالى بكل خير فيها قد وسعت أهل بيت النبوة، ومن تلك الرحمة والبركات هبة الأبناء في غير الأوان المعتاد٧.
ولهذا قال الحق سبحانه هنا :﴿ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت.. ( ٧٣ ) ﴾ [ هود ].
وينهى الحق سبحانه الآية بقوله تعالى :﴿ .. إنه حميد مجيد ( ٧٣ ) ﴾ [ هود ] : أي : أنه سبحانه يستحق الحمد لذاته، وكل ما يصدر عنه يستوجب الحمد له من عباده، فلا حد لخيره وإحسان، ولله تعالى مطلق صفات المجد.
وكلمة " حميد " -في اللغة- من فعيل : وترد على معنيين : إما أن تكون بمعنى فاعل مثل قولنا : " الله رحيم " بمعنى أنه راحم خلقه. وإما أن تكون بمعنى مفعول ؛ كقولنا : " قتيل " بمعنى " مقتول ".
وكلمة " حميد " هنا تأتي بالمعنيين معا : " حامد " و " محمود "، مثل قول الحق سبحانه عن نفسه أنه " الشكور " ؛ لأنه سبحانه يشكر من يشكره على نعمه بطاعته، والله سبحانه " حميد " ؛ لأنه حامد لمن يطيعه طاعة نابعة من الإيمان، والله سبحانه " محمود " ممن أنعم عليهم نعمه السابغة.
والله سبحانه هو المجيد الذي يعطي قبل أن يسأل.
ولذلك نجد عارفا بالله تعالى قد جاءه سائل، فأخرج كيسا ووضعه في يده، ثم رجع إلى أهله يبكي، فقالت له امرأته : وما يبكيك وقد أديت له حق سؤاله ؟ قال : أنا أبكي لأني تركته ليسألن، وكان المفروض ألا أجعله يقف موقف السائل.
والحق سبحانه وتعالى أعطانا، حتى قبل أن نعرف كيف نسأل، ومثال ذلك : هو عطاء الحق سبحانه وتعالى للجنين في بطن أمه، والجنين لم يتعلم الكلام والسؤال.
والحق سبحانه وتعالى في كل لقطة من لقطات القرآن يعطي فكرة اجتماعية مأخوذة من الدين، فها هو ذا سيدنا إبراهيم عليه السلام يقدم العجل الحنيذ للضيوف، ليعلمنا أنه إذا جاء لك ضيف، وعرضت عليه الطعام، ولم يأكل، فلا ترفع الطعام من أمامه، بل عليك أن تسأله أن يأكل، فإن رد بعزيمة، وقال : لقد أكلت قبل أن أحضر إليك، فلك ان ترفع الطعام من أمامه بعد أن أكدت عليه في تناول الطعام.
ويروى بعض العارفين٨ أن سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما قال : ألا تأكلون ؟ قالت الملائكة : لا نأكل إلا إذا دفعنا ثمن الطعام، فقال إبراهيم، بما آتاه الله من حكمة النبوة ووحي الإلهام : ثمنه أن تسموا الله أوله، وتحمدوه آخره٩.
وأنت إذا أقبلت على طعام وقلت في أوله : " بسم الله الرحمان الرحيم " وإذا انتهيت منه وقلت : " الحمد لله " ؛ تكون قد أديت حق الطعام مصداقا لقول الحق سبحانه :﴿ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ( ٨ ) ﴾[ التكاثر ] : وهكذا بين لنا الحق سبحانه أن إبراهيم عليه السلام وزوجه قد اطمأنا على أن الملائكة قد جاءت لهما بالبشرى، وأنها لا تريد بإبراهيم أو بقومه سوءا، بل هي مكلفة بتعذيب قوم لوط.
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ فلما ذهب عن إبراهيم الروح١٠ وجاءته البشرى يجادلنا١١ في قوم لوط( ٧٤ ) ﴾ :
١ - أنى: اسم استفهام بمعنى: من أين. وتأتي بمعنى: كيف مثل قوله تعالى: ﴿فآتوا حرثكم أنى شئتم...(٢٢٣)﴾ [البقرة] أي: كيف شئتم بشرط اتباع الفطرة المستقيمة التي تشير إليها الآية في قوله تعالى: ﴿فآتوا حرثكم أنى شئتم..(٢٢٣)﴾ [البقرة] وجاءت في بعض الآيات صالحة للمعنيين مثل قوله تعالى: ﴿أنى يكون لي غلام..(٤٠)﴾ [آل عمران]. [القاموس القويم صـ ٤١ ح ١]..
٢ - الفأل: ضد الطيرة، والجمع: فئول وأفول، ومنها: التفاؤل، وهو الاستبشار بالخير. [مختار القاموس] بتصرف..
٣ - قال ابن كثير في قصص الأنبياء [ص ٣٩٠]: "ذكروا في قتله أسبابا من أشهرها أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد ان يتزوج ببعض محارمه أو من لا يحل له تزويجها فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك فبقي في نفسها منه، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها استوهبت منه دم يحيى، فوهبه لها فبعثت إليه من قتله وجاء برأسه ودمه في طست إلى عندها، فيقال إنها هلكت من فورها وساعتها"..
٤ - وفي هذا يقول الحق سبحانه: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (١٦٩)﴾ [آل عمران]..
٥ - قال زكريا: ﴿.. رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا (٤)﴾ [مريم] وقال بعد تبشيره بيحيى: ﴿قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا (٨)﴾ [مريم] قال مجاهد: عتيا يعني: نحول العظم. قال ابن كثير في تفسيره [٣/١١٢]: "لم يبق فيه لقاح ولا جماع"..
٦ - الأزل: القدم أصلها "لم يزل"، قال أبو منصور: ومنه قولهم: هذا شيء أزلي، أي: قديم [لسان العرب]..
٧ - قال القرطبي في تفسيره [٤/٣٣٨٩]: "من تلك الهبات والبركات أن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا في ولد إبراهيم وسارة" بتصرف..
٨ - هو عمر بن دينار الجمحي بالولاء أبو محمد الأثرم، ففيه، كان مفتي أهل مكة، فارسي الأصل، مولده بصنعاء ٤٦ هـ ووفاته بمكة [١٢٦هت] عن ٨١ عاما، قال شعبة: ما رأيت أثبت في الحديث منه. الأعلام للزركلي [٥/٧٧]..
٩ - ذكر هذا الأثر السيوطي في الدر المنثور [٤/ ٤٥٠] وفي آخره أن الملائكة نظرت لبعضها البعض وقالوا: "لهذا اتخذك الله خليلا" وعزاه لابن المنذر عن عمرو بن دينار..
١٠ - راعه الشيء يروعه، روعا: أصاب روعه، أي قلبه، والروع: القلب- بضم الراء. وقوله تعالى: ﴿فلما ذهب عن إبراهيم الروع..(٧٤)﴾ [هود] أي: ذهب عنه الخوف والفزع. [القاموس القويم]..
١١ - الجدل: المنازعة في الرأي وشدة الخصومة. قال تعالى: ﴿.. وكان الإنسان أكثر شيء جدلا (٥٤)﴾ [الكهف] أي: أكثر مبالغة في الخصومة وتأييدا للباطل بغير حق. [القاموس القويم]..
والجدل هو أن تأخذ حجة من مقابل ؛ وتعطيه حجة ؛ لتصل إلى حق. والجدل يختلف عن المراء١ فالمراء يعني أنك تعرف الحقيقة وتجادل بالباطل لأنك لا تريد أن تصل إلى الحق.
وقد نهانا الحق سبحانه عن المراء، وأمرنا بأن نجادل بشرط أن يكون الجدال بالتي هي أحسن.
وهنا يبين لنا الحق سبحانه أن إبراهيم بعد أن ذهب عنه الروع وجاءته البشرى بأن الله تعالى سيرزقه بغلام، وعلم إبراهيم من الملائكة أنهم ذاهبون لتعذيب قوم لوط.
﴿ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ( ٣٢ ) لنرسل عليهم حجارة من طين ( ٣٣ ) مسومة٢ عند ربك.. ( ٣٤ ) ﴾[ الذاريات ] : ومجادلة سيدنا إبراهيم في عقاب قوم لوط، لم تكن ردا لأمر الله، ولكن طلبا للإمهال لعلهم يؤمنون ؛ ذلك أن قلب إبراهيم عليه السلام ؛ قلب رحيم.
ولذلك يأتي الحق سبحانه بالعلة في المجادلة في قوله تعالى :
﴿ إن إبراهيم حليم أواه٣ منيب٤ ( ٧٥ ) ﴾ :
١ -ماراه يماريه مماراة ومراء: ناظره وجادله، قال تعالى: ﴿.. فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا (٢٢)﴾ [الكهف] أي: فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أهل الكهف إلا جدالا واضحا يسيرا وقال تعالى: ﴿فبأي آلاء ربك تتمارى (٥٥)﴾ [النجم] أي: تتشكك. [القاموس القويم]..
٢ - مسومة: أي: عليها خواتيم بأسماء المعذبين، قال تعالى: ﴿والخيل المسومة..(١٤)﴾ [آل عمران] أي: المعلمة بعلامات، أو المرسلة للرعي، وقال تعالى: ﴿سيماهم في وجوههم..(٢٩)﴾ [الفتح]، أي: علامة إيمانهم نور في وجوههم. [القاموس القويم]..
٣ - أواه: صيغة مبالغة، أي: كثير التأوه، وغلب على معنى التضرع إلى الله في العبادة، والندم على الذنوب، [القاموس القويم]..
٤ - أناب العبد إلى ربه: رجع إليه، وتاب، وترك الذنوب. قال تعالى: ﴿.. عليه توكلت وإليه أنيب (٨٨)﴾ [هود] أي: إليه أتوب وأرجع، ومنيب: اسم فاعل، وقال تعالى: ﴿من خشي الرحمان بالغيب وجاء بقلب منيب (٣٣)﴾ [ق]أي: بقلب راجع إلى الله. وجاء جمع "منيب" في قوله تعالى: ﴿منيبين إليه واتقوه..(٣١)﴾ [الروم] أي: راجعين إلى تائبين إليه، أي: كونوا تائبين وكونوا متقين. [القاموس القويم]..
إذن : فالعلة في الجدال أنه حليم لا يعجل بالعقوبة، وأواه ؛ أي : يتأوه من القلب، والتأوه رقة في القلب، وإن كان التأوه من الأعلى فهذا يعني الخوف من ألا يكون قد أدى حق الله تعالى، وإن كان التأوه للأقل فهو رحمة ورأفة.
ولذلك فقد طلب إبراهيم عليه السلام من الله تعالى تأجيل العذاب لقوم لوط لعلهم يؤمنون، وتأوهه هنا لله تعالى، وعلى هؤلاء الجهلة بما ينتظرهم من عذاب أليم.
وقال الحق سبحانه في صفات إبراهيم أنه " منيب " أي : يرجع إلى الحكم وإلى الحق في قضاياه.
ألم يقل الحق سبحانه في موضع آخر من كتابه العزيز :﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة١ وعدها إياه... ( ١١٤ ) ﴾[ التوبة ].
وبعد أن بحث إبراهيم عليه السلام عن الحق، وأناب إليه، يبين لنا الله سبحانه وتعالى مظهرية الإنابة في قوله تعالى :﴿ فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه... ( ١١٤ ) ﴾[ التوبة ] : وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها والتي أوضحت تأوه إبراهيم لله عز وجل وتأوهه رحمة بهؤلاء الذين لم يؤمنوا، وهم قوم لوط، وأيضا كانت حجة إبراهيم- عليه السلام- في الجدال ما قاله الحق سبحانه في سورة العنكبوت :﴿ ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ( ٣١ ) قال إن فيها لوطا.. ( ٣٢ ) ﴾[ العنكبوت ].
وكان سؤال إبراهيم للملائكة : كيف تهلكون أهل هذه القرية وفيهم من هو يؤمن بالله وعلى رأسهم نبي من الله هو لوط عليه السلام، وردت عليه الملائكة :﴿ .. نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين٢ ( ٣٢ ) ﴾[ العنكبوت ].
وكأن إبراهيم خليل الرحمان يعلم أن وجود مؤمنين مع الكافرين في قرية واحدة، يبيح له الجدال عن أهل القرية جميعا.
ويتلقى إبراهيم الرد هنا في سورة هود في الآية التالية :
﴿ يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ( ٧٦ ) ﴾ :
١ - وعده شيئا يعده وعدا وعدة: أخبره أنه سيحققه له، أو سيعطيه إياه، وهو فعل يتعدى لمفعولين، وقد يحذف أحد المفعولين للعلم به.
والموعدة: مصدر ميمي، واسم زمان أو مكان. قال تعالى: ﴿إلا عن موعدة وعدها إياه..(١١٤)﴾ [التوبة] أي: عن وعد واحد في مرة واحدة [القاموس القويم ٢/ ٣٤٣.].

٢ - من الغابرين: أي: من الباقين المتخلفين في القرية للهلاك، أو كانت من الماضين الذاهبين أي: من الهالكين، يقال: مضى وذهب بمعنى وهلك ومات. [القاموس القويم]..
وقول الملائكة :﴿ يا إبراهيم أعرض عن هذا.. ( ٧٦ ) ﴾[ هود ] : يعني إبلاغ إبراهيم أن مسألة تعذيب من لم يؤمن من قوم لوط أمر منته ومحسوم، فهم قد جاءوا لينفذوا، لا ليهددوا ؛ وأبلغوا إبراهيم :﴿ إنه قد جاء أمر ربك.. ( ٧٦ ) ﴾[ هود ] : وإذا ما كان الأمر قد جاء من الله، فإبراهيم عليه السلام لأنه [ منيب ] يعلم أن أي أمر من الله تعالى لا بد أن ينفذ، فلا بد أن يتقبل- أمر الحق سبحانه :﴿ .. وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ( ٧٦ ) ﴾[ هود ] : أي : لا أحد بقادر على أن يرد عذاب الله، وكما أن هناك وعدا من الله تعالى غير مكذوب١، فهناك أيضا عذاب غير مردود٢.
ويروى٣ أن إبراهيم عليه السلام في جداله قال للملائكة : إذا كان في قوم لوط خمسون قد آمنوا بالله تعالى، أتعذبونهم ؟ قالوا : لا. قال : وإن كان فيهم عشرة يؤمنون بالله، أتعذبونهم ؟ قالوا : لا. قال : وإن كان فيهم واحد هو لوط ؟ فردت الملائكة :﴿ نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته.. ( ٣٢ ) ﴾[ العنكبوت ] : وانتهى الجدال، وذهبت الملائكة إلى مهمتها التي هي إيقاع العذاب يقوم لوط.
ويقول الحق سبحانه :﴿ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا٤ وقال هذا يوم عصيب٥ ( ٤٤ ) ﴾ : أي : أن لوطا شعر بالسوء، وضاق بهم ذرعا، والذرع مأخوذ من الذراع التي فيها الكف والأصابع وندفع بها الأشياء، وأي شيء تستطيع أن تمد إليه ذراعك لتدفع به، وأن لم تطله ذراعك ؛ قلت : " ضقت به ذرعا " أي : أن يدي لم تطله، وهو أمر فوق قوتي وطاقتي، وفوق ما آتاني الله من الآلات ومن الحيل.
وما الذي يسيء لوطا في مجيء الملائكة ؟
قيل : لأن الملائكة قد جاءوا على الشكل المعروف من الجمال، فحين يقال : " فلان ملاك "، أي : أن شكله جميل٦.
ولوط –عليه السلام- يعلم أن آفة قومه هي إتيان الذكور، وامرأته تعلم هذه الآفة، لكن موقفها من ذلك غير موقف لوط، فهي ترحب بتلك الآفة.
ويقال : إنها تنبهت لمجيء الرجال الحسان- ولم تعرف أنهم ملائكة العذاب- وصعدت إلى سطح المنزل، وصفقت لعل القوم ينتبهون لها، فلم يلتفت لها أحد، فأشعلت نارا فانتبه لها القوم، وأشارت لهم بما يعبر عن مجيء ضيوف يتميزون بالجمال٧.
وهنا قال لوط عليه السلام :﴿ .. هذا يوم عصيب ( ٧٧ ) ﴾[ هود ] :
١ - جاء هذا في حق قوم ثمود مع نبيهم صالح، وذلك أن الله توعدهم بالمكث والتمتع في دارهم ثلاثة أيام بعدها يأتيهم عذاب الله بسبب عقرهم الناقة، يقول سبحانه: ﴿فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب (٦٥)﴾ [هود]..
٢ - غير مردود: أي: غير مصروف عنهم ولا مدفوع. [تفسير القرطبي ٤/٣٣٩٢]..
٣ - أورده السيوطي في الدر المنثور [٤/٤٦٠] وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حذيفة بن اليمان..
٤ - يقال: ضاق بالأمر ذرعا، وذراعا: أي: لم يطقه ولم يقو على احتماله واشتد عليه بسبب الضيق.
قال تعالى: ﴿.. وضاق بهم ذرعا (٧٧)﴾ [هود] أي: اشتد عليه الضيق بسبب وجودهم خوفا عليهم من قومه. [القاموس القويم]، وضاق بهم ذرعا: ضعفت طاقته عن تدبير خلاصهم. [كلمات القرآن للشيخ حسنين مخلوف]..

٥ - يوم عصيب: شديد شره وبلاؤه، [كلمات القرآن]..
٦ - وهذا هو ما قالته صويحبات يوسف عليه السلام، عندما أدخلته امرأة العزيز عليهن: ﴿.. فلما رأيناه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (٣١)﴾ [يوسف]..
٧ - وتلك كانت خيانتها لزوجها لوط عليه السلام، أنها كانت تدل قومها على أضياف لوط ليفعلوا معهم المنكر، وقد قال رب العزة عن امرأة نوح وامرأة لوط: {كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما..(١٠) [التحريم]..
أي : يوم شديد المتاعب.
ويقال : " يوم عصيب " و " يوم عصبصب " ١، ومنه " العصبة " ٢ وهم جماعة يتكاتفون على شيء، ويقوى الفرد بمجموعهم، وقد صدق ظن لوط.
وفي هذا يقول الحق سبحانه عن ذلك :
﴿ وجاء قومه يهرعون٣ إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هم أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد٤ ( ٧٨ ) ﴾ :
١ - قال الفراء: يوم عصيب، وعصبصب: شديد، وقيل: هو الشديد الحر. وقال أبو العلاء: يوم عصبصب بارد ذو سحاب كثير، لا يظهر فيه من السماء شيء [لسان العرب: مادة (ع ص ب) ]..
٢ - العصبة والعصابة: جماعة ما بين العشرة إلى الأربعين، قال تعالى: ﴿ونحن عصبة..(١٤)﴾ [يوسف] قال الأخفش: والعصبة والعصابة جماعة ليس لها واحد [لسان العرب: مادة (ع ص ب)]..
٣ - الهرع: المشيء في اضطراب وسرعة، وأقبل يهرع، وأهرع –مجهولا- فهو مهرع: يرعد من ضعف، أو خوف، والمهروع: المجنون يصرع، [مختار القاموس]..
٤ - الرشيد: من أسماء الله الحسنى، ولم يوصف الله به في القرآن، ورشد يرشد رشدا ورشادا: أصاب وجه الصواب والخير والحق، والرشد: ضد الغي والضلال، والرشد: ضد السفه وسوء التدبير، وبلغ رشده: بلغ كمال عقله وحسن تصريفه للأمور. قال تعالى: ﴿قد تبين الرشد من الغي..(٢٥٦)﴾[البقرة]. وقال تعالى: ﴿ولقد آتينا إبراهيم رشده..(٥١)﴾ [الأنبياء] أي: هديناه إلى الحق والخير والصواب. وقال تعالى- ما جاء على لسان الكفار-: ﴿.. إنك لأنت الحليم الرشيد (٨٧)﴾ [هود] وقصدهم الاستهزاء بنبي الله شعيب- عليه السلام- بوصفه بأنه وحده من بينهم الحليم الرشيد، وهم يعتقدون عكس ذلك. [القاموس القويم ١/٢٦٦] بتصرف..
وقول الحق سبحانه :﴿ وجاء قومه يهرعون إليه.. ( ٧٨ ) ﴾ :
أي : يسرعون إليه في تدافق، والإنسان إذا لم يكن قد مرن على الشر وله به دربة، يكون مترددا خائفا، أما من له دربة فهو يقبل على الشر بجرأة ونشاط.
وكلمة " يهرعون " هي من الألفاظ العجيبة في اللغة العربية، وألفاظ اللغة تجد فيها فعلا له فاعل، كقولنا : " يضرب زيد عمرا " أي : أن الضارب هو " زيد " والمضروب هو " عمرو "، ونقول : " يضرب عمرو " أي : أننا بنينا الفعل للمجهول، وسمى عمرو " نائب فاعل ".
أما في الفعل " يهرع " فلا نجد أحدا يقول : " يُهرع " إلا ويكون بعدها فاعل وليس نائب فاعل، مثلها مثل الفعل " جن " فهل هناك من يأتي لنفسه بالجنون، أم أن الجنون هو الذي جاءه ؟ لا أحد يعرف سبب الجنون ؛ ولذلك بنيت الكلمة للمجهول، ولكن ما يأتي بعدها يكون فاعلا. وهذا من إعجاز البيان القرآني.
وكذلك نقول : " زُكم فلان " فمن الذي أصابه بالزكام ؟ لا نعرف سببا ظاهرا للزكام.
إذن : فإذا جهل الفاعل فنحن نبني الفعل للمجهول، ولكن ما يأتي بعده يكون فاعلا.
وقوله تعالى :﴿ يهرعون إليه... ( ٧٨ ) ﴾[ هود ] : يبين أنهم أقبلوا باندفاع، كأنهم يعشقون ما يذهبون إليه ؛ لأن كلا منهم له دربة على ذلك الفعل المشين، أو أن كلا منهم ذاهب إلى ما يحب دون تهيب، باندفاع من نفسه ودفع من غيره، مثلما تقول : " سنوزع تموينا بالمجان " ؛ هنا تجد الناس يتدافعون، كل منهم من تلقاء نفسه، وغيره يدفعه ليرتد إلى الوراء.
وقوم لوط كانوا على دربة بتلك الفاحشة.
يقول الحق سبحانه عنهم :﴿ ومن قبل كانوا يعملون السيئات.. ( ٧٨ ) ﴾[ هود ] : أي : أن هذه المسألة عندهم كانت محبوبة، ولهم دربة عليها وخفيفة على قلوبهم، ولا حياء يمنعهم عنها.
فالحياء يعني أن بعض الناس يعمل السيئة ويخشى الآخرون أن يفعلوها، لكن إذا ما كانوا كلهم يحبون تلك السيئة، فلن يخجل أحد من الآخر١.
وماذا يكون موقف لوط- عليه السلام- في هذا اليوم العصيب ؟ لقد أقبلوا عليه بسرعة، وفي كوكبة واندفاع، وهو يعلم نياتهم ويعلم سوابقهم، وفكر لوط- عليه السلام- في أن يصرفهم انصرافا من جنس اندفاعهم.
يقول الحق سبحانه :﴿ قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم.. ( ٧٨ ) ﴾ [ هود ] : وقد قال ذلك لأن المرأة مخلوقة لذلك، ومن الممكن أن يتزوجوا من بناته.
وكان العرف في أيام لوط عليه السلام لا يمنع أن يزوج المؤمن ابنته لغير المؤمن ؟ وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى بناته لعتبة بن أبي لهب، وأخرى لأبي العاص بن الربيع ؟ قبل تحريم الحق سبحانه تزويج المؤمنة لغير المؤمن.
فهل كان المقصود : بناته من صلبه أم بنات أمته، أم بنات المؤمنين به ؟ وقد قيل : إنه لم يؤمن بالله إلا لوطا وابنتاه، فكيف يكون الزواج لابنتين من كل هذا العدد من الرجال المتدافعين ؟
وقيل : إنه بحث عن السادة الأقوياء الذين بيدهم القرار، وأراد أن يراضيهم بهذا الزواج ؛ لعلهم يرجعون عن الفواحش والسيئات، وفي هذا طهر لهم، وبذلك يحفظون كرامته أمام ضيوفه.
يقول لوط عليه السلام :﴿ فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي.. ( ٧٨ ) ﴾ [ هود ] : وكلمة " ضيف " ٢- كما نعلم- جاءت هنا مفردة، ولكنها تطلق أيضا على الجمع، والمثنى، وتصلح للدلالة على المذكر وعلى المؤنث أيضا، فإن جاء ضيف واحد تقول : " هذا ضيفي "، وإن جاء اثنان تقول : " هذان ضيفي "، وإن كانت امرأة تقول : " هذه ضيفي "، وإن كانتا امرأتين تقول : " هاتان ضيفي "، وإن جاءت جماعة تقول : " هؤلاء ضيفي " ٣.
والحق سبحان يقول :﴿ هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ( ٢٤ ) ﴾ [ الذاريات ].
وهناك ألفاظ أخرى كذلك في اللغة مثل : كلمة " طفل " ٤ فهي مفرد ؛ ولكنها قد تطلق على الجماعة، إلا أن كلمة " طفل " وجد لها جمع هو " أطفال ".
والحق سبحانه يقول :﴿ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظاهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن٥ أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة٦ من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء.. ( ٣١ ) ﴾[ النور ] :
إذن : فكلمة " طفل " تطلق أيضا، ويراد بها الجماعة.
وهنا يطلب لوط عليه السلام من قومه ألا يخزوه٧ في ضيفه، والخزي فضيحة أمام النفس وأما الناس.
والإنسان قد تهون عليه نفسه ويُقبل على العمل السيء ما لم يره أحد، أما أن يراه الناس، ففي هذا فضح له ؛ فالفضيحة تكون بين جمهرة الناس، والهوان أن يكون العمل السيء بينه وبين نفسه.
ويتساءل لوط عليه السلام :﴿ .. أليس منكم رجل رشيد ( ٧٨ ) ﴾[ هود ] : أي : ألا يوجد بينكم رجل له عقل ومروءة وكرامة٨، يمنع هذه المسألة.
١ - وليس أدل على حبهم الشديد لهذه الفعلة وعدم حيائهم من إتيانهم إياها أنهم كانوا يأتون بها في ناديهم وهو مجلسهم حيث يجتمعون للحديث والتشاور، قال الحق: ﴿أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر..(٢٩)﴾ [العنكبوت] ومما كانوا يأتونه أيضا في مجالسهم: الضراط، والصفير، ولعب الحمام، والسخرية من أبناء السبيل. [القاموس القويم]، والدر المنثور للسيوطي [٦/٤٦١]..
٢ - ضافه يضيفه ضيفا: نزل عنده فهو ضائف، واسم مفعول: مضيف، والضيف: مصدر يوسف به بلفظه فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وقد يجمع على ضيوف، وضيفان، قال تعالى: ﴿قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون (٦٨)﴾ [الحجر] أي: هؤلاء ضيفي فلا تفضحوني بالتعدي عليهم، و"ضيف" هنا بلفظ المفرد وهو لعدد من الملائكة [القاموس القويم]..
٣ - يقول رب العزة سبحانه وتعالى: ﴿قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون (٦٨)﴾ [الحجر]..
٤ - الطفل (بكسر الطاء) هو الصغير من كل شيء، والطفل من الإنسان. الولد مادام صغيرا، ويستوي فيه المفرد وغيره، وجاء الجمع في قوله تعالى: ﴿أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء..(٣١)﴾ [النور] أي: الأطفال، وقوله تعالى: ﴿ثم نخرجكم طفلا..(٥)﴾ [الحج] أي: أطفالا. وجمع الطفل: أطفال، وجاء في القرآن: ﴿وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا..(٥٩)﴾ [النور] [القاموس القويم ١/ ٤٠٣] بتصرف..
٥ - بعلوتهن: أزواجهن..
٦ - الإرب: الحاجة التي تقتضي الاحتيال لها وكذلك الأربة والمأرب، قال تعالى: ﴿أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل..(٣١)﴾ [النور] أي: غير ذوي الحاجة إلى النساء، أي: الذين ليس لهم شهوة لكبرهم أو عجزهم أو صغرهم، وقوله: ﴿.. ولي فيها مآرب أخرى (١٨)﴾ [طه] أي: حاجات وأغراض كثيرة أخرى كاتقاء ضرر أو غير ذلك..
٧ - أخزاه فلان: أهانه وفضحه، قال تعالى: ﴿ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته..(١٩٢)﴾ [آل عمران] ومن دعاء القرآن: ﴿ولا تخزني يوم يبعثون (٨٧)﴾ [الشعراء]، وقال تعالى: ﴿فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي..(٧٨)﴾ [هود] أي: لا تهينوني ولا تفضحوني بإهانة ضيفي، وحذفت ياء المتكلم من كلمة "تخزوني" رسما ونطقا وتخفيفا. [القاموس القويم ١/١٩٢]..
٨ - ومن معاني الرشد أيضا أن يكون شديدا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويكون صالحا مصلحا هاديا مستقيما مرشدا حكيما. انظر تفسير القرطبي [٤/ ٣٣٩٦]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك١ من حق٢ وإنك لتعلم ما نريد ( ٧٩ ) ﴾ :
هذه الآية تحمل رد المتدافعين طلبا للفحشاء من قوم لوط ؛ فقد قالوا له : أنت تعلم مقصدنا، وليس لنا في بناتك أية حاجة نعتبرها غاية لمجيئنا.
وكان هذا يعني الإعراض عن قبول نصحه لهم بالتزوج من بناته بدلا من طلب فعل الفاحشة مع ضيوف لوط، وهم الملائكة الذين جاءوا في هيئة رجال بلغوا مبلغ الكمال في الجمال.
١ - اختلف العلماء في المقصود بالبنات: هل هن بنات لوط فعلا من صلبه؟ أم أن المقصود بهن نساء قومه، فالنبي أب لأمته نساء ورجالا، انظر تفسير ابن كثير (٢/٤٥٣) والقرطبي (٤/٣٣٩٥) والدر المنثور للسيوطي (٤/٤٥٧)..
٢ - قال ابن كثير: "أي: إنك لتعلم أن نساءنا لا أرب لنا فيهن، ولا نشتهيهن" وقد ذكر القرطبي في تفسيره (٤/٣٣٩٧): "أن قوم لوط خطبوا بناته فردهم، وكان من سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا"..
ويأتي الحق سبحانه برد لوط عليه السلام :
﴿ قال لو أن لي بكم قوة أو آوي١ إلى ركن٢ شديد ( ٨٠ ) ﴾ :
وساعة تقرأ كلمة " لو " فهذا هو التمني، أي : رجاء أن يكون له قوة يستطيع أن يدفع بها هؤلاء، وكان لا بد من وجود شرط، مثل قولنا : " لو أن زيدا عندك لجئت "، لكن نجد هنا شرطا ولا جوابا، كأن يقال : " لو أن لي بكم قوة لفعلت كذا وكذا ".
ولذلك يقال إن الملائكة قالت له : إن ركنك لشديد٣ ؛ ولذلك قال :﴿ .. أو آوي إلى ركن شدي ( ٨٠ ) ﴾[ هود ] : والشيء الشديد هو المتجمع تجمعا يصعب فصله، أو المختلط اختلاطا بمزج يصعب تحلله ؛ لأنك حين تجمع الأشياء ؛ فإما أن تجمع أشياء أجناسها منفصلة، ولكنك تربطها ربطا قويا، مثل أن تربط المصلوب على شجرة برباط قوي، لكن كليهما- المصلوب والشجرة- منفصل عن الآخر وله ذاته، وهناك ما يسمى خلطا، وهناك ما يسمى مزجا، والخلط هو أن تخلط أشياء، وكل شيء منها متميز عن غيره بحيث تستطيع أن تفصله، أما المزج فلا يمكن فصل الأشياء الممتزجة ببعضها.
ومثال ذلك : أنك قد نخلط فول التدميس مثلا مع حبات من الفول السوداني، وتستطيع أن تفصل الاثنين بعضهما عن بعض ؛ لأنك جمعتهما على استقلال. ولكن إن قمت بعصر ليمون على كوب من الماء المحلى بالسكر ؛ فهذا مزج يصعب حله.
وقد قال لوط عليه السلام ذلك لأنه لم يكن في منعة من قومه، أهل " سدوم " ويقال : إنها خمس قرى قريبة من " حمص ".
وقد تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول لوط، فقال- فيما رواه البخاري- : " رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد " ٤.
فلهول ما عانى لوط عليه السلام من كرب المفاجأة قال ذلك، وهو يعلم أنه لا يوجد سند أو ركن أشد من الحق سبحانه وتعالى.
١ - أوى المكان: وآوى إليه يأوي أويا، نزله والتجأ إليه. قال تعالى: ﴿ إذ آوى الفتية إلى الكهف..(١٠)﴾ [الكهف] أي: نزلوه والتجأوا إليه. القاموس القويم..
٢ - ركن الشيء: جانبه الأقوى. وقوله تعالى: ﴿.. أو آوي إلى ركن شديد (٨٠)﴾ [هود] أي: ألجأ إلى حصن قوي يحميني، أو إلى رجل قوي يحميني وينصرني عليكم كأنه ركن ممتنع حصين. [القاموس القويم ١/ ٢٧٦].
٣ - أورده السيوطي في الدر المنثور (٤/٤٥٩) وعزاه لابن جرير الطبري عن وهب بن منبه. وركنه الشديد هنا هو الله سبحانه وتعالى..
٤ - أخرجه البخاري في صحيحه (٣٣٧٥، ٤٦٩٤) وأحمد في مسنده (٢/٣٢٦، ٣٣٢، ٣٥٠) وابن ماجه في سننه (٤٠٢٦) من حديث أبي هريرة..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما قالته الملائكة للوط عليه السلام :﴿ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع١ من الليل ولا يتلفت منكم أحدا إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ( ٨١ ) ﴾ :
وهكذا علم لوط- لأول مرة- أنهم رسل من الله تعالى، رغم أنهم حين تكلموا مع إبراهيم لم يقولوا أنهم رسل من الله ؛ ليدلنا على أن إبراهيم عليه السلام كان يعلم أنهم رسل من الحق سبحانه، لكنه لم يكن يعلم سبب مجيئهم.
وهم حين أخبروا لوطا :﴿ إنا رسل ربك لن يصلوا إليك.. ( ٨١ ) ﴾ فمن باب أولى ألا يصلوا إليهم، وتخبر الملائكة لوطا أن يسري بأهله ليلا أي : اخرج بأهلك في جزء من الليل، وقد أوضحت الملائكة أن موعد النكال٢ بقوم لوط هو الصبح :﴿ .. إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ( ٨١ ) ﴾[ هود ].
لذلك قالوا :﴿ فأسر بأهلك بقطع من الليل... ( ٨١ ) ﴾[ هود ] : والمقصود أن يترك ربع الليل الأول، وربعه الآخر، وأن يسير في نصف الليل الذي بعد ربع الليل الأول وينتهي عند ربع الليل الأخير، وقيل : إن أليق ما يكون بالقطع هو النصف.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ ولا يلتفت٣ منكم أحد.. ( ٨١ ) ﴾ [ هود ] : والالتفات : هو الانصراف عن الشيء الموجود قبالتك، ويسمى الانصراف عن المقابل. فهل المقصود هو الالتفات الحسي أم الالتفات المعنوي ؟
نحن نعلم أن لوطا سيصحب المؤمنين معه ؛ من ديارهم وأموالهم، وما ألفوه من مقام ومن حياة ؛ لذلك تنبههم الملائكة ألا تتجه قلوبهم إلى ما تركوه، وعليهم أن ينقذوا أنفسهم، وسيعوضهم الله سبحانه خيرا مما فاتهم.
هذا هو المقصود بعدم الالتفات المعنوي، وأيضا مقصود به عدم الالتفات الحسي.
وتوصي الملائكة لوطا عليه السلام ألا يصحب امرأته معه ؛ لأنها خانته بموالاتها للقوم المفسدين، وإفشائها للأسرار، وعليه أن يتركها مع الذين يصيبهم العذاب.
ولكنها لحظة الخروج ادعت أنها مخلصة للوط، وقالت : سأخرج حيث تخرج، ثم نظرت إلى القوم وقالت : واقوماه ورجعت لتمكث معهم، ولينالها العذاب الذي نالهم في الموعد الذي حددته الملائكة وهو الصبح :(.. إن موعدهم الصبح٤ أليس الصبح بقريب ( ٨١ ) }[ هود ] : وقد تحدد الصبح لإهلاكهم ؛ لأنه وقت الدعة والهدوء فيكون العذاب أشد نكالا.
١ - القطع والقطعة: الجزء المقطوع. قال تعالى: ﴿فأسر بأهلك بقطع من الليل..(٨١)﴾ [هود] والقطع: جمع "قطعة". وقوله تعالى: ﴿كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما..(٢٧)﴾ [يونس] قطعا- بكسر القاف وفتح الطاء- ومظلما: حال من الليل، وقرئ "قطعا"- بكسر القاف وسكون الطاء- أي: جزءا، ونعرب مظلما- على هذه القراءة – نعتا لقوله: "قطعا" أو حالا من الليل. [القاموس القويم ٢/١٢٥]..
٢ - النكال: التنكيل والعقوبة الشديدة الزاجرة. قال تعالى: ﴿فأخذه الله نكال الآخرة والأولى (٢٥)﴾ [النازعات] أي: عذبه الله عذابا شديدا يعد عبرة لغيره في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى: ﴿فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين (٦٦)﴾ [البقرة] أي: جعلها الله- بالعذاب الشديد- عبرة لأهل زمانها، ولمن يأتي بعدها، وللمتقين في كل زمان. وقال تعالى: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله..(٣٨)﴾ [المائدة] أي: عقوبة زاجرة فرضها الله تعالى ليتعظ بها الناس. [القاموس القويم].
.

٣ - التفت الرجل: أمال وجهه ونظر يمنة أو يسرة، أو انحرف ورجع عن وجهته، قال تعالى: ﴿فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يتلفت منكم أحدا..(٨١)﴾ [هود] أي: لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا إلى الخلف، فيرجع وينصرف عن السير معك. [القاموس القويم ٢/١٩٦]..
٤ - قال القرطبي في تفسيره (٤/٣٤٠٠): "يحتمل أن يكون جعل الصبح ميقاتا لهلاكهم، لأن النفوس فيه أودع، والناس فيه أجمع"..
ويقول الحق سبحانه :
﴿ فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود١ ( ٨٢ ) ﴾ :
والحق سبحانه يبين لنا هنا أن الأمر بالعذاب حين يصدر، فالمأمور يستجيب قهرا، ويقال إن قرى قوم لوط خمس : قرية " سدوم " وقرية " دادوما " وقرية " ضعوه "، وقرية " عامورا " وقرية " قتم ".
وقوله تعالى :﴿ جعلنا عاليها سافلها.. ( ٨٢ ) ﴾ [ هود ] أي : انقلبت انقلابا تاما٢.
ويقول القرآن في موضع آخر :﴿ والمؤتفكة٣ أهوى ( ٥٣ ) ﴾[ النجم ] : والمؤتفكة من الإفك وهو الكذب المتعمد، أي : قول نسبة كلامية تخالف الواقع، ولأن من يقول الإفك٤ إنما يقلب الحقيقة إلى غير الحقيقة زعما، ويقلب غير الحقيقة إلى ما يشبه الحقيقة.
كذلك المؤتفكة، أي : القرى التي جعل عاليها سافلها فانقلبت فيها الأوضاع.
ونفذ أمر الله بأن أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود، وهو طين قد تحجر.
والحق سبحانه يقول في آية أخرى٥ ﴿ .. حجارة من طين ( ٣٣ ) ﴾ [ الذاريات.
وكلمة " حجارة " تعطي الإحساس بالصلابة، أما كلمة " طين " فتعطي إحساسا بالليونة، ولكن الطين الذي نزل قد تحجر بأمر الله من الله تعالى، وهو قد نزل منضودا.. أي : يتتابع في نظام، وكأن كل حجر يعرف صاحبه، لأن الحق سبحانه يقول بعد ذلك :
﴿ مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ( ٨٣ ) ﴾ :
١ - السجيل: الطين المتحجر. قال تعالى: ﴿.. وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود (٨٢)﴾ [هود]. [القاموس القويم ١/٣٠٤]..
٢ - ذكر القرطبي في تفسيره (٤/٣٤٠٠) "أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط، فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما فيها، حتى سمع أهل السماء نهيق حمرهم وصياح ديكتهم، لم تنكفئ لهم جرة، ولم ينكسر لهم إناء، ثم نكسوا على رؤوسهم، وأتبعهم الله بالحجارة"..
٣ - المؤتفكة: القرى المنقلبة عند خسفها، قال تعالى: ﴿وأصحاب مدين والمؤتفكات..(٧٠)﴾ [التوبة] هي المخسوفات، وهي قرى قوم لوط، جعل الله عاليها سافلها، وهي المؤتفكة ﴿والمؤتفكة أهوى (٥٣)﴾ [النجم] أي: أسقطها وخسفها. [القاموس القويم]..
٤ - الإفك: الكذب، وأفاك: صيغة مبالغة أي: كثير الكذب، قال تعالى: ﴿تنزل على كل أفاك أثيم (٢٢٢)﴾ [الشعراء]. وقال في سحرة فرعون: ﴿.. فإذا هي تلقف ما يأفكون (١١٧)﴾ [الأعراف]. أي: ما يكذبون ويدعون أنه حق، وهذا يدل على أن السحر تخيل وإيهام، وليس قلبا لحقائق الأشياء، فالحبل حبل والثعبان ثعبان، ولكن الساحر يوهم الناس أنه عمل شيئا ولم يعمل شيئا، [القاموس القويم ].
٥ - كان ذلك في شأن قوم لوط أيضا، قال تعالى فيما قاله إبراهيم عليه السلام للملائكة المرسلين إليه: ﴿قال فما خطبكم أيها المرسلون (٣١) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (٣٢) لنرسل عليهم حجارة من طين (٣٣) مسومة عند ربك للمسرفين (٣٤)﴾ [الذاريات]..
وكلمة " مسومة " أي : معلمة، وكأن كل حجر قد تم توجيه إلى صاحبه، فهذا الحجر يذهب إلى فلان، وذاك إلى فلان، مثل الصواريخ الموجهة إلى البلاد، ولكن الدقة في هذه الحجارة أن كل حجر يعرف على من بالتحديد سوف ينزل بالعذاب، وقد جعلها الحق سبحانه لتعذيب المكين، أي : الإنسان، ولا تدمر البلاد.
وهي مرتبة ؛ لأن الحق سبحانه قال :﴿ .. سجيل منضود١ ( ٨٢ ) ﴾[ هود ] : ووردت كلمة [ سجيل ] أيضا في قوله الحق سبحانه :﴿ .. طيرا أبابيل ( ٣ ) ترميهم بحجارة من سجيل ( ٤ ) ﴾[ الفيل ].
وينهى الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ .. وما هي من الظالمين ببعيد ( ٨٣ ) ﴾[ هود ] : والظالمون هنا مقصود بهم الكافرون برسالة الحق- سبحانه وتعالى- التي تتابعت في الموكب الرسالي وخاتمها هو محمد صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعلم أن القصص القرآني قد نزل تسلية وثباتا بقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكرة بالأسوة :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك.. ( ١٢٠ ) ﴾ [ هود ].
وتحكي القصص المعارك التي قامت بين كل رسول مؤيد بمعجزة من الله، وبين المنكرين له والكافرين به، وقد انتهت كل هذه المعارك بنصرة الرسول على الكافرين، إلا أن الرسل السابقين لم يكلفوا أن يقاتلوا من أجل الإيمان، بل كان عليهم أن يلعنوا الحجة الإيمانية فقط، وأن يبلغوا المنهج، فإن عصى القوم ؛ فالسماء هي التي تتدخل لتأديب المخالفين.
والحق سبحانه يقول :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ( ٦ ) إرم٢ ذات العماد ( ٧ ) التي لم يخلق مثلها في البلاد ( ٨ ) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد٣ ( ٩ ) وفرعون ذي الأوتاد٤ ( ١٠ ) الذين طغوا في البلاد ( ١١ ) فأكثروا فيها الفساد ( ١٢ ) فصب عليهم ربك سوط٥ عذاب ( ١٣ ) إن ربك لبالمرصاد٦ ( ١٤ ) ﴾[ الفجر ] :
ولكن الأمر اختلف بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم، لأن دين محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الذي تقوم عليه الساعة، وقومه مأمونون على البلاغ عن الله تعالى خلافة للرسول صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يعلم حكما من أحكام الله تعالى أن يبلغه ؛ لأنه قائم مقام الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحق سبحانه يقول :﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا٧ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.. ( ١٤٣ ) ﴾[ البقرة ].
إذن : فكل واحد من أمته صلى الله عليه وسلم هو امتداد لرسالة الإسلام، وبدلا من أن السماء كانت تتدخل لتأديب الكافرين، جعل الله سبحانه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقفوا بالقوة أمام الكافرين، لا لفرض الإيمان ؛ لأن الإيمان لا يفرض، ولا يكره عليه ؛ لأنك قد تكره إنسانا في الأمور الحسية، لكنك لا تستطيع أن تملك قلبه، والحق سبحانه يريد الإيمان الغيبي الذي يملك القلوب.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ لعلك باخع٨ نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( ٣ ) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( ٤ ) ﴾[ الشعراء ].
إذن : فالحق سبحانه يريد قلوبا تخشع، لا أعناقا تخضع.
وهكذا فوضت أمة محمد صلى الله عليه وسلم تفويضين : فوضت في نقل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الأجيال، وكل جيل ينقلها إلى الجبل الذي يليه.
وها هو صلى الله عليه وسلم يقول :( نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها إلى من لم يسمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع )٩.
وفوضت أمة محمد صلى الله عليه وسلم في أن تقف من الكافرين موقف تأديب، لا لتفرض الدين ولكن لتحمي حق اختيار الدين، فلم يحدث أن رفع سيف في الإسلام ليفرض دينا ؛ بل رفع السيف ليحمي حرية اختيار الإنسان للدين.
يقول سبحانه :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ( ٢٩ ) ﴾[ الكهف ] : فإذا آمن فعليه الالتزام بالإيمان، فلا يكسر حكما من أحكام الإيمان، وهذا تصعيب للدخول في الإسلام، فمن أين يأتي ادعاء فرض الدين على المخالفين ؟ !
إذن : فقد آمن المؤمن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إيمانين : الإيمان الأول هو أن يؤمن بالإسلام، والإيمان الثاني أن يبلغ الدعوة.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل )١٠.
فهل المقصود بالعلماء هم من يعلمون العلم فقط ؛ لا، بل يقصد كل من يعرف قضية من قضايا الإيمان معرفة سليمة وصحيحة، وينساح بالدعوة في الأرض ليعلم غير المؤمنين ويترك الناس أحرارا في اختيار الدين.
وكذلك يقف المؤمنون برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأية قوة تحارب حرية اختيار الدين.
وهكذا جاءت قصص القرآن لتثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه قد بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو في مكة، فصرخ بالدعوة، لا في آذن القبائل الواهية في أطراف الجزيرة، ولكن في آذان سادة الجزيرة، حتى لا يقال : إنه استضعف قوما فناداهم إلى الإيمان به، ولم يجرؤ على السادة، وهم قريش، التي أخذت السيادة بحكم إقامتها في مكان البيت العتيق، وكان كل العرب يحجبون إلى البيت الحرام، فإذا ما تعرضت قبيلة لقريش بسوء، فقريش قادرة على أن تنال من أبناء تلك القبيلة حين يحجون إلى البيت الحرام.
وهكذا أخذت قريش هيبتها من وجودها حول البيت.
إذن : فالبيت هو الذي صنع السيادة لقريش، وهو الذي صنع السيادة للآلهة المدعاة من الأصنام حين يأتي كل قوم بإلههم من الحجر ؛ ليضعوه في البيت ؛ ليكتسب الحجر قداسة من قداسة البيت.
إذن : فقد أخذت قريش السيادة من البيت الحرام، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلن الدعوة على أسماع السادة، وسفه١١ أحلامهم، ولم يبال بجبروتهم وسيادتهم على الجزيرة.
لكن الحق سبحانه قد شاء ألا يكون انتصار الإسلام على يد السادة من قريش في مكة، بل جاء انطلاق الإسلام من المدينة ؛ لأن الله سبحانه أراد أن يعلم الدنيا كلها أن العصبية لمحمد لم تخلق الإيمان بمحمد.
ولكن الله تعالى قد شاء أن يكون المستضعفون من أطراف الجزيرة هم الذين نصروا الدعوة ؛ فكأن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي خلق العصبية لمحمد للحق الممثل في رسالة محمد، ولم تخلق العصبية لمحمد إيمانا به وبرسالته.
وإذا كان الحق سبحانه قد نعتهم بالظالمين، وبين لهم أن المكان الذي قلب عاليه أسفله، ليس ببعيد عنهم، فهل لهم أن يتخذوا من ذلك عبرة ؟
والظلم –كما نعلم- هو مجاوزة الحق للغير، أي : أن تأخذ حق الغير وتعطيه لغير ذي حق، فإذا كان ظلما في الألوهية، فهذا هو الشرك العظيم، وإن كان ظلما في إعطاء حق من حقوق الدنيا للغير، فهو ظلم للإنسانية، والظلم درجات بحسب الجريمة.
وقد ظلمت قريش نفسها ظلما عظيما ؛ لأنها أشركت بالله ؛ وجعلت له شركاء في الألوهية ؛ وهذا أقصى أنواع الظلم.
والله سبحانه يريد أن يذكر هؤلاء الظالمين بأن عذاب الله حين يجيء، أو أمر الله حين يأتي ؛ لا يمكن أن يقوم أمامه قائم يمنعه، فتنبهوا جيدا إلى أنكم عرضة أن ينزل الله تعالى بكم العذاب كما أنزل بهذه القرى ؛ وهي غير بعيدة عنكم، فالمسافة بين المدينة والشام قد تبدوا مسافة طويلة إلا أن الله تعالى قد جعلهم يمرون عليها في كل رحلة من رحلات الصيف إلى الشام١٢.
إذن : فهي قرى تقع على طريق مسلوكة ؛ ولذلك يقول الحق سبحانه عن موقعها :﴿ وإنها لبسبيل مقيم ( ٧٦ ) ﴾[ الحجر ] : أي : بطريق تمرون عليها، لا يجرفها سيل، ولا يغير معالمها ريح.
بل هي طريق ثابتة مقيمة تمرون عليها حينما تذهبون في رحلة الصيف إلى الشام، فكان من الواجب أن تأخذوا في كل مرور لقطة وعبرة ؛ حتى لا تقعوا في ظلم آخر.
وقد نبهكم الله سبحانه أيضا بمروركم على ديار قوم صالح الذين خاطبهم الحق سبحانه يقول :﴿ أتبنون بكل ريع١٣ آية تبعثون ( ١٢٨ ) وتتخذون مصانع١٤ لعلكم تخلدون ( ١٢٩ ) وإذا بطشتم بطشتم١٥ جبارين ( ١٣٠ ) ﴾[ الشعراء ] : هكذا ترون ديار ثمود وديار عاد وديار لوط وهي خاوية، وكان من الواجب- معشر قريش- ألا تبالغوا في الظلم، وأن تنتبهوا بالعبرة إلى مصير كل من يشرك بالله تعالى.
ويلفتهم الحق سبحانه إلى أنهم لم يكفروا بحق الألوهية فقط، ولكنهم-أيضا- كفروا بشكر النعمة، وظلموا ؛ لأن الله سبحانه هو الذي أنعم عليهم برحلة الشتاء إلى اليمن، وبرحلة الصيف إلى الشام، والرحلتان للتجارة التي تأتي بالزيادة لقريش ؛ لأنهم يخرجون بالأموال ويعودون بالبضائع التي يبيعونها لأهل مكة، ولزوار بيت الله الحرام.
وقد أخذت قريش مهابتها عند كل قوم يمرون عليهم أثناء الرحلتين، من أنهم يعيشون حول البيت الحرام، لذلك يمتن الله سبحانه على قريش في قوله سبحانه :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ( ١ ) ألم يجعل كيدهم في تضليل ( ٢ ) وأرسل عليهم طيرا أبابيل ( ٣ ) ترميهم بحجارة من سجيل ( ٤ ) فجعلهم كعصف مأكول١٦ ( ٥ ) ﴾[ الفيل ] : فالقوم الذين جاءوا ليهدموا البيت الحرام- وهو رمز السيادة- لو هدم وتحول الحجيج إلى صنعاء، لسقطت مهابة قريش، ولكن الله تعالى حمى لبيت وأرسل عليهم طيرا أبابيل، وجعل الذين قصدوه بسوء كعصف مأكول.
لماذا صنع الله تعالى ذلك ؟
تأتي الإجابة في السورة التالية لسورة الفيل حيث يقول الحق سبحانه في سورة قريش :﴿ لإيلاف١٧ قريش ( ١ ) إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ( ٢ ) فليعبدوا رب هذا البيت ( ٣ ) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ( ٤ ) ﴾[ قريش ].
إذن : كان من الواجب حين يمرون على هذه الديار أن يأخذوا منها عبرة، وأنهم- وإن كانوا يمرون على هذه الديار بقصد التجارة وهي سر معاشهم- إذا لم يأخذوا من هؤلاء العبرة فهم يقترفون ظلما جديدا آخر.
لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ .. وما هي من الظالمين ببعيد ( ٨٣ ) ﴾[ هود ].
أو : أن الله سبحانه وتعالى أراد أن ينبه قريشا إلى أن الهلاك الذي نزل بهؤلاء القوم المشركين، ليس ببعيد أن يصيب قريشا، وأن يرسل الله سبحانه على كل واحد من الكافرين به حجرا مسوما يصيبه في مكانه الذي يكون فيه.
والسطحيون- في اللغة- يخطئون فيأخذون على القرآن مآخذ، لا تلتفت إليها الملكة الصحيحة في اللغة، ويقولون : كيف يقول الله :﴿ .. وما هي من الظالمين ببعيد ( ٨٣ ) ﴾[ هود ] : وكلمة " ما هي " مؤنثة، وتقتضي أن يقول : " بعيدة : بدلا من كلمة " بعيد "، أي : أن يكون القول : " وما هي من الظالمين ببعيدة " ونسوا أن المتكلم هو الله تعالى، وأنهم لم يدرسوا اللغة دراسة صحيحة ؛ لأن " فعيل " إن جاءت بمعنى " مفعول "، فهنا يستوي المذكر والمؤنث.
ومثال ذلك من القرآن الكريم أيضا هو قول الحق سبحانه :﴿ .. والملائكة بعد ذلك ظهير١٨ [ التحريم ].
وقول الحق سبحانه :﴿ .. إن رحمة الله قريب١٩ من المحسنين ( ٥٦ ) ﴾ [ الأعراف ].
إذن : فعدم درايتهم باللغة هو الذي جعلهم يخطئون مثل هذا الخطأ.
١ - نضد الشيء ينضده: جعل بعضه فوق بعض، أو بجانب بعض في نظام، فهو منضود ونضيد، أي: منظم، قال تعالى: ﴿والنخل باسقات لها طلع نضيد (١٠)﴾ [ق] أي: مرصوص بنظام. ومثله قوله تعالى: ﴿وطلح منضود (٢٩)﴾ [الواقعة]. أما قوله تعالى: ﴿.. من سجيل منضود (٨٢)﴾ [هود] أي: متتابع منتظم السقوط عليهم. ﴿القاموس القويم]..
٢ - إرم: اسم قبيلة منها "عادة" وقيل: هي مدينة كبيرة لهم، وزعم الكندي في كتابه "فضائل مصر" أنها مدينة الإسكندرية. وقوله تعالى: {... ذات العماد (٧)﴾ [الفجر] يدل على أنها ذات حضارة ومبان عالية [القاموس القويم ١/١٨]..

٣ - جابه يجوبه جوبا: قطعه، وقوله: ﴿.. جابوا الصخر بالواد (٩)﴾ [الفجر] أي: قطعوه ونحتوه وصنعوا منه بيوتهم وأصنامهم، وحذفت ياء "الوادي" في رسم المصحف [القاموس القويم ١/١٣٥]..
٤ - الأوتاد: جمع وتد. والوتد: قطعة مستطيلة من الخشب أو الحديد تثبت في الأرض ثم يشد بها حبل يمسك الدابة أو سقف الخيمة، وشبهت الجبال بالأوتاد؛ لأنها تحفظ توازن الأرض وتثبتها. قال تعالى: ﴿والجبال أوتادا (٧)﴾ [النبأ] وقال أيضا: ﴿وفرعون ذي الأوتاد (١٠)﴾ [الفجر] قيل: هم الجنود الذين يثبتون ملكه. وقيل: إنها أوتاد حقيقة كان يشد إليها من يريد تعذيبهم من الناس، ولعل المراد بها الأهرام التي بناها فرعون، تشبه الجبال، [القاموس القويم٢/٣١٨]..
٥ - السوط: الجلد الذي يضرب به، وسمي سوطا لأنه يخلط الدم باللحم، وقوله تعالى: ﴿فصب عليهم ربك سوط عذاب(١٣)﴾ [الفجر] وعبر عن الضرب بالسوط بالفعل "صب" ليفيد دوام الألم وشموله، كأنه صب ألم الضرب فوقهم صبا فأغرقهم فيه كما يصب الماء على الجسم فيعمه. أو السوط: الخلط، فالعذاب مختلط متنوع، فصب عليهم من العذاب أخلاطا متنوعة. [القاموس القويم]..
٦ - المرصد: اسم مكان الرصد؛ كالمرصاد. قال تعالى: ﴿واقعدوا لهم كل... (٥)﴾ [التوبة]. وقال تعالى: ﴿إن جهنم كانت مرصادا (٢١)﴾ [النبأ] وقال تعالى: ﴿إن ربك لبالمرصاد (١٤)﴾ [الفجر] والمراد: أن الحق سبحانه رقيب عليهم ويحصى جميع ذنوبهم- مهما صغرت- ليعاقبهم عليها.[القاموس القويم ١/٢٦٦ ] بتصرف..
٧ - الوسط: مصدر، ويسمى به الشيء المتوسط، ولأنه مصدر يوصف به المفرد وغيره، بلفظه، قال تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا..(١٤٣)﴾ [البقرة] أي: أمة فاضلة خيرة، خير الأم، فالوسط خير الطرفين، ويؤيده قوله تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس..(١١٠)﴾ [آل عمران]..
٨ - بخع نفسه بخعا وبخوعا: قتلها هما وغيظا وحزنا. قال تعالى: ﴿فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (٦)﴾ [الكهف]. [القاموس القويم]..
٩ - أخرجه أحمد في مسنده (١/٤٣٧) والترمذي في سننه (٢٦٥٧، ٢٦٥٨) وابن ماجه في سننه (٢٣٢) والحميدي (١/٤٧) من حديث عبد الله بن مسعود..
١٠ - أورده السيوطي في الدرر المنتثر (٢٩٣) وقال: لا أصل له. قال الشوكاني في الفوائد المجموعة [ص ٢٨٦]: قال ابن حجر والزركشي: لا أصل له. وانظر كشف الخفاء للعجلوني (٢/٨٣)
ويؤخذ من الحديث أن نوقر من العلماء الصدق والأمانة في البلاغ والذكاء في العرض..

١١ - سفهت الرجل: أي: رميته بالسفه، ونسبته إلى الطيش والجهل، وسفه نفسه: حملها على الجهل والطيش فكأنه جعل نفسه سفيها، قال تعالى: ﴿ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه..(١٣٠)﴾ [البقرة]. وسفه أحلامهم: اتهمهم بالسفه والجهل. والأحلام –هنا- هي العقول [القاموس القويم ١/٣١٧]..
١٢ - وفي هذا يقول سبحانه: ﴿وإن لوطا لمن المرسلين (١٣٣) إذ نجيناه وأهله أجمعين (١٣٤) إلا عجوزا في الغابرين (١٣٥) ثم دمرنا الآخرين (١٣٦) وإنكم لتمرون عليهم مصبحين (١٣٧) وبالليل أفلا تعقلون (١٣٨)﴾ [الصافات]..
١٣ - الريع: -بكسر الراء-: الجبل، أو ما يشبهه من المباني المرتفعة أو المكان المرتفع، قال تعالى: ﴿أتبنون بكل ريع آية تبعثون (١٢٨)﴾ [الشعراء] [القاموس القويم]..
١٤ - ﴿وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون(١٢٩)﴾ [الشعراء] أي أبنية عالية وقصورا متينة تسحنون صنعها راجين أن تخلدوا فيها، ولستم بخالدين. [القاموس القويم]..
١٥ - بطش به بطشا: أخذه بعنف وشدة. قال تعالى: ﴿إن بطش ربك لشديد (١٢)﴾ [البروج]. والجبر: القهر، وجبره: قهره وأكرهه على أمر. والجبار: صيغة مبالغة، والجبار من الناس: العاتي المتمرد المتسلط. وقال تعالى: ﴿قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين..(٢٢)﴾ [المائدة]. وقال تعالى: ﴿.. وخاب كل جبار عتيد (١٥)﴾ [إبراهيم] [القاموس القويم ١/٧٢] بتصرف..
١٦ - كيدهم: سعيهم لتخريب الكعبة. تضليل: تضييع وإبطال وخسار. طيرا أبابيل: جماعات متفرقة متتابعة. سجيل: طين متحجر محرق (آجر) كعصف مأكول: كتبن أكلته الدواب فراثته. [كلمات القرآن- للشيخ حسنين مخلوف]..
١٧ -لإيلاف قريش: اعجبوا لإيلافهم الرحلتين وتركهم عبادة رب البيت [كلمات القرآن]..
١٨ - الظهير: المعين المساعد كأنه يسند ظهر من يعاونه. قال تعالى: ﴿.. وما له منهم من ظهير (٢٢)﴾ [سبأ] وقال تعالى: ﴿.. ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (٨٨) [الإسراء] أي: معينا مساعدا، وقال تعالى: {.. وكان الكافر على ربه ظهيرا (٥٥)﴾ [الفرقان] أي: معاونا أعداء الله ضد الله وضد كتبه وضد رسله- وتعالى الله عما يفعلون [القاموس القويم ١/٤١٨]..
١٩ - قرب الشيء من الشيء يقرب قربا: دنا منه فهو قريب قرب مسافة، فيستوي فيه المذكر والمؤنث، قال تعالى: ﴿.. إن رحمة الله قريب من المحسنين (٥٦)﴾ [الأعراف] أي: مكانها قريب منهم، وأما قرابة النسب فتطابق الموصوف فتقول: هو قريب لي وهي قريبة لي في النسب والرحم. [القاموس القويم ٢/١٠٨]..
ويأتي الحق سبحانه بعد ذلك بقصة أخرى من القصص التي جاء بها الله في هذه السورة لموكب الرسل، فيأتي بقصة شعيب عليه السلام، ويقول سبحانه :
﴿ وإلى مدين١ أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال٢ والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط٣ ( ٨٤ ) ﴾.
و " مدين " هو اسم ابن إبراهيم عليه السلام، ولم يكن هذا الابن موجودا وقت بعثة شعيب، لكن القبيلة التي تناسلت منه سميت باسمه، وكذلك القرية التي أقامت فيها القبيلة سميت باسمه، فإن قلت إن شعيبا أرسل لقبيلة مدين، فهذا قول سليم، وإن قلت إنه أرسل لقرية مدين، فهذا قول سليم أيضا ؛ لأن القرية لا بد لها من سكان.
والحق سبحانه يقول على لسان إخوة يوسف عليه السلام :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها.. ( ٨٢ ) ﴾ [ يوسف ] : والمقصود " أسأل أهل القرية " ٤.
إذن : فمرة يطلق الاسم على المكان، ومرة يطلق المكان ويراد به المكين.
وقد بدأ شعيب رسالته مع قومه من حيث بدأ كل الرسل بالدعوة إلى قمة التدين، وهو أن يعبدوا الله وحده لا شريك له ولا إله غيره، وهذا هو القدر المشترك في كل الرسالات.
والحق سبحانه يقول :﴿ شرع٥ لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي٦ إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب [ ١٣ ] ﴾ [ الشورى ].
إذن : فقمة الدين هي قضية العقيدة الإيمانية، وهي عبادة الله تعالى وحده ولا إله غيره، لأن الحق سبحانه حين يوجه الأوامر التكليفية " افعل " و " لا تفعل " فالله سبحانه لا يوجهها إلا لمن آمن به إلها واحدا، أما الذي لا يؤمن به، فالله سبحانه لا يوجه إليه أي حكم.
ولذلك تجد حيثية كل حكم تكليفي في القرآن مصدرا بقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا.. ( ١٧٨ ) ﴾ [ البقرة ] : سواء أكان الأمر صياما٧، أم قصاصا٨، ففي كل تكليف يصدر بهذا القول، لا بد أن يأتي المعنى : يا من آمنت به إلها قادرا حكيما، اسمع مني التكليف.
ولذلك أقوال دائما : إن علة كل تكليف هي الإيمان بالمكلف، ولا داعي للبحث عن علة أخرى.
فمثلا حين يقال : إن علة الوضوء النظافة، نقول : وإن لم يوجد ماء، فنحن نلمس التراب أو الحجر ثم نمسح وجوهنا في التيمم٩.
إذن : فالمقصد هو أن نتهيأ للصلاة بأي شكل يحقق مقصود العبادة وهو الطاعة للخالق سبحانه وتعالى.
وإياك أن تؤخر تنفيذ الحكم إلى أن تبرره ؛ لأن مبرره هو صدوره عن الله سبحانه وتعالى.
وكذلك كل شيء يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحنن نتبعه، ولا نبحث عن علة له، وإلا لو كنا نؤجل الأحكام إلى أن تثبت تبريراتها العلمية مثل فساد لحم الخنزير بما يحمله من أمراض، ومثل قدرة الخمر على إهلاك المخ وتدمير خلاياه، فضلا عن تدمير خلايا الكبد، فنحن لو كنا قد أجلنا تلك الأحكام، فماذا كان الموقف ؟
لقد طبق المسلمون هذه الأحكام فوز نزولها ؛ لإيمانهم بالمنهج وحبهم في القرب من الله، ثم أثبتت الأيام صدق الله تعالى في تكليفه.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.. ( ٨٤ ) ﴾[ هود ].
وعرفنا أن العبادة ليست محصورة في الصلاة أو الصوم أو الزكاة أو الحج ؛ لأن هذه هي الأركان الأساسية١٠ التي يقوم عليها الإسلام ؛ ولكن الإسلام أيضا هو عمارة الأرض بتنفيذ كل التكاليف١١، وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فإقبال الإنسان على مهنة ما يحتاجها المجتمع هو عبادة، وإذا خلت صنعة من صانع فعلى ولي الأمر أن يكلف ويرغم بعض الناس على تعلمها ؛ وأيضا إتقان الصنعة عبادة.
وقول الحق سبحانه على لسان شعيب عليه السلام. ﴿ ما لكم من إله غيره.. ( ٨٤ ) ﴾ [ هود ] : أي : إياك أن تأخذ حكما تكليفيا من أحد آخر غير الله سبحانه وتعالى، لأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وإياك أن تستدرك١٢ من البشر حكما على الله سبحانه وتعالى، وتظلم نفسك وتقول : " لقد فات الله أن يقول لنا هذا الحكم، ولنأتي لأنفسنا بحكم جديد " ١٣.
إياك أن تستدرك حكما على الله. افهم الحكم أولا، فإن جاء حكما محكما فخذه، وإن كان غير محكم بأن جاء مجملا، أو غير مبين، فانظر باجتهادك إلى أية جهة تصل.
ولذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل من أرسله مبعوثا إلى اليمن فقال :( كيف تصنع إن عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله. قال : فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلوا، قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم )١٤.
وبعد أن دعا شعيب –عليه السلام- آل مدين لعبادة الله سبحانه وحده، وهذا هو الأمر المشترك بين جميع الرسل- عليهم السلام- تأتي الأحكام الأخرى، فمن يعمل فاحشة له علاجه، ومن ينقص في الكيل والميزان، فالرسول يعالج هذا الأمر.
لأن العالم القديم كان عالم انعزال، لا التحام فيه أو مواصلة ؛ فقد يوجد عيب وآفة في مكان، ولا يوجد هذا العيب أو تلك الآفة في مكان آخر.
وكل رسول يأتي ليعالج عيبا محددا في المكان الذي أرسله الله إليه، ولكن رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم جاء- وهو الرحمة المهداة للجميع وخاتم الأنبياء والمرسلين- جاء صلى الله عليه وسلم والدنيا على ميعاد بالالتقاء الإيماني، فلما تقاربت البلاد عن طريق سرعة الاتصالات، وما يحدث في عصرنا الآن بقارة أمريكا نجده عندنا في نفس اليوم أو غدا، فالعالم الآن عالم التقاء، وتعددت الداءات فيه وتوحدت بسبب سرعة الالتقاء عن طريق عدم التمييز بين الخبيث والطيب.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل.
وكانت خيبة آل مدين هي عدم عبادة الله وحده، وكذلك كانت فيهم خسيسة التطفيف١٥ في الكيل والميزان، لذلك يقول الحق سبحانه على لسان شعيب عليه السلام :﴿ ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير.. ( ٨٤ ) ﴾ [ هود ] :
وحين قرأ العلماء هذا القول الكريم لم يلتفتوا إلى أن المراد ليس نقص المكيل والموزون١٦، لأنه لو شاء لقال : " ولا تنقصوا المكيل أو الموزون " هذا إذا نظرنا إلى الأمر ومن وجهة ما يريد البائع، ولكن القول هنا يقصد أن يأخذ كل ذي حق حقه، أن يأخذ المشتري حقه من السلعة، وأن يأخذ البائع حقه في الريح.
إذن : فهذا القول الكريم يشمل البائع والمشتري معا١٧.
والكيل- كما نعرف- هو تعديل شيء بشيء، فإن كان في الخفة والثقل، فالأمر يحتاج إلى ميزان، وإن كان تعديل شيء بشيء في الكم، فهذا يحتاج إلى الكيل، وهذا هو الأمر المشهور في الكيل والميزان، وأي تعديل شيء بشيء يحتاج إلى ما يناسبه ؛ فالقماش مثلا- يتم تعديله بالمتر، والأرض يتم تعديلها بالمساحة ؛ أي : قياس الطول والعرض، وبعض الأشياء تباع بالحجم، وهذا يعني قياس الطول والعرض والارتفاع واستخراج الناتج بعملية ضرب كل منهم في الآخر.
إذن : فالأمر المهم هو أن يأخذ كل إنسان حقه، حتى وإن كان تأجير قوة عامل لينجز عملا، فأنت تعدل زمن وقوة العمل بالأجر الملائم، والأمر المشهور هو الكيل والميزان، لكن بقية التقييمات موجودة ؛ ليأخذ كل ذي حق حقه.
لأن الإنسان لو أخذ غير حقه لاستمرأ أن يأخذ حقوق الناس، ولو أكل بعض الناس حقوق البعض الآخر ؛ لزهد من أكلت حقوقهم في العمل.
وأنت حين تعطي للإنسان أقل مما يستحق، أو تأخذ من جهده فوق ما تدفع له من أجر، تجده يبطئ في العمل، ولا ينجز المطلوب منه على تمام الدقة، ومن هنا يحدث الخلل.
ولذلك أقول : إن إعطاء كل ذي حق حقه يزيد من جودة الأداء في العمل.
وعلينا أن ترك صاحب الطموح ليعمل ؛ بدلا من أن يخزن ماله أو يكنزه ؛ لأن صاحب الطموح حين يقيم مشروعا أو بناء ؛ فهو يفيد الفقراء وينفعهم- حتى وإن كان لا يفكر في ذلك- فالذي يبني عمارة سكنية ينفع الصناع والعمال ومنتجي المواد اللازمة للبناء- دون أن يقصد- وسينتفع العامل الفقير- دون أن يقصد صاحب العمل- وربما انتفع كل الفقراء مما يصنعه صاحب العمل، قبله فيما يفعل.
إذن : فمن المهم أن يأخذ كل إنسان حقه قبل أن يجف عرقه ؛ مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه )١٨.
وهكذا نعلم أن الدين في ظاهر الأمر يحض على الإيثار، وفي واقع الأمر، هو يحرص على تأكيد ثواب الإنسان عند ربه ؛ لأن الذي يؤثر١٩ غيره على نفسه- ولو كان به خصاصة٢٠- لو كان معه مال قليل وأعطاه لآخر عنده ضائقة، وليس عند هذا الآخر مال، هنا يكون صاحب المال القليل قد آثر الآخر على نفسه في ظاهر الأمر، ولكنه سيأخذ أضعاف هذا المال ثوابا من عند الله تعالى٢١.
وهكذا يعلمنا الدين النفعية الراقية، وهي النفعية التي يعاملنا بها الله سبحانه ؛ وحين نترك قانون النفعية ليسيطر على حركة الناس، فنحن نوفر سيولة الانتفاع في المجتمع.
وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها عرفنا أن شعيبا قال لأهل مدين :﴿ ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير... ( ٨٤ ) ﴾ [ هود ] : أي : أنكم يا أهل مدين غير مضطرين لذلك ؛ لأن من يبيع منكم عنده سلع، ومن يشتري إنما يملك نقودا، فاكتفوا بالخير الذي عندكم، وليأخذ كل ذي حق حقه، وهذه قضية يغفل عنها كثير من الناس ؛ فالذي يبيع قد يبيع صنفا واحدا، فإن غش في الكيل أو الميزان، فسوف يغشه ويخدعه غيره في الأصناف الأخرى التي تلزمه لحياته.
وإن اشتغل واحدا في إنقاص الكيل والميزان، فالآخرون سيفعلون مثل ذلك في كل ما يخص حياته ؛ لأن المخادع الواحد، سيلقي مخادعين كثيرين، وهنا يقول شعيب عليه السلام : ما الذي يضطركم إلى ذلك وأنتم بخير ؟ ثم يقول محذرا :﴿ .. وإني أخاف عليكم عذاب٢٢ يوم محيط ( ٨٤ ) ﴾[ هود ] : لأنك حين تنقص شيئا وأنت تبيع أو تزيد شيئا حين تشتري، فأنت لا تخدع من تتعامل معه، وإنما تخدع نفسك.
وكلنا يعلم أن الغفلة قد تطرأ على البائع، وقد تطرأ على المشتري، وقد يحاول بائع أن يستغل غفلة المشتري فيزيد من ثقل الميزان بإصبعه، وقد يحاول المشتري أن يستغل غفلة البائع بأن يرفع كفة الميزان بإصبعه من غير أن يراه البائع، فيأخذ غير حقه، وهذا نوع من خداع النفس ؛ لأن الحق سبحانه إنما يأمر بالاستقامة في البيع والشراء ؛ لأن الانتفاع بأي شيء مهما كثر، فهو موقوت بعمر الإنسان في الدنيا، وعمر الإنسان موقوت، ولكن الذي يغش ويخدع إنما يعرض نفسه لعذاب الله سبحانه في الآخرة٢٣، وهو عذاب بلا أمد ولا نهاية.
وهكذا يسلم الإنسان نفسه لفائدة قليلة في الدنيا الزائلة، ثم يلقي عذابا لا ينتهي في آخرة غير زائلة.
والعذاب في الآخرة عذاب محيط، بمعنى أن المعذب لا يستطيع أن يفلت منه، فأنت في الدنيا بإمكانك أن تحتال في النجاة من العذاب، وقد تلجأ إلى من هو أقوى منك ليحميك، ولكنك في الآخرة تواجه يوما لا بيع فيه ولا خلة٢٤ ولا شفاعة، إن كنت من أهل النار.
١ - قال القرطبي في تفسيره (٤/٣٤٠٤): "في تسميتهم بذلك قولان: أحدهما: أنهم بنو مدين بن إبراهيم، فريق، مدين والمراد بنو مدين. كما يقال مضر والمراد بنو مضر.
الثاني: أنه اسم مدينتهم، فنسبوا إليها، قال النحاس: لا ينصرف مدين لأنه اسم مدينة"..

٢ - كان القمح يكيله كيلا: قدره بمكيال، وهو وعاء له سعة معلومة اتفق الناس على التقدير به. قال تعالى: ﴿وأوفوا الكيل إذا كلتم..(٣٥)﴾ [الإسراء] والكيل: مصدر "كال" ويطلق على المكيال، والمكيال يستخدم لكيل الحبوب، وإذا نقص المكيال نقص ما يكال به، فالله سبحانه وتعالى ينهى عن أن ينقص المؤمن شيئا مما يبيعه للناس، أو ما يكيله لهم. [القاموس القويم ٢/١٨٢] بتصرف، وجمع مكيال: مكاييل، وجمع كيل: أكيال، والكيلة: وعاء يكال به الحبوب ومقداره الآن ثمانية أقداح، والجمع: كيلات. [المعجم الوسيط]..
٣ - يوم محيط: مهلك. [كلمات القرآن]..
٤ - الآية فيها مجاز بالحذف، وهو أحد فنون البلاغة..
٥ - شرع الشيء: بينه وأوضحه، والشرعة والشريعة: ما شرعه الله وبينه من العقائد والأحكام. [القاموس القويم[ بتصرف..
٦ - الاجتباء: الاختيار والاستخلاص والاصطفاء. [القاموس القويم ١/١١٧]..
٧ - يقول رب العزة سبحانه: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (١٨٣)﴾ [البقرة]..
٨ - يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وآداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (١٧٨) ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (١٧٩)﴾ [البقرة]..
٩ - التيمم لغة: القصد. وشرعا: هو طهارة ترابية تقوم مقام المائية عند فقدان الماء حقيقة أو حكما، ويصح إلى تسعة أشخاص. فاقد الماء الكافي، وفاقد القدرة على استعماله، والخائف حدوث مرض أو زيادته، وتأخر برء، وعطش محترم، والخائف مع تلف حال ذي بال. الشرح الصغير للدرديري جـ١ يقول سبحانه: ﴿.. وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيب فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفو غفورا (٤٣)﴾ [النساء]..
١٠ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى لله عليه وسلم أنه قال: (بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا" متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٨) وكذا مسلم (١٦)..
١١ - التكاليف تنحصر في الأمر والنهي. والأمر نأخذ منه الفرض والواجب والسنة والمستحب، سواء كان تعبديا أو اجتماعيا، والنهي نأخذ منه الحرام والمكروه، وعلى اتباع الأمر واجتناب النهي يكون المجتمع الصالح بدليل قوله تعالى: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا..(٧)﴾ [الحشر] وقوله تعالى: ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا..(٣٠)﴾ [فصلت]..
١٢ - استدرك ما فات: تداركه، واستدرك الشيء بالشيء: تداركه به. واستدرك عليه القول: أصلح خطأه، أو أكمل نقصه، أو أزال عنه لبسا. [المعجم الوسيط]..
١٣ - يقول الحق: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا..(٣){[المائدة]..
١٤ - أخرجه أحمد في مسنده [٥/٢٣٠، ٢٣٦، ٢٤٢] وأبود داود في سننه [٣٥٩٢] كتاب الأقضية من حديث معاذ بن جبل..
١٥ - طفف الكيل: طول أعلاه وجعل له طفا فوقه، وذلك حين يضع يده أو يديه بجانبه، فيمنع الحب الزائد من التساقط ثم يسرع بوضعه في إنائه ليأخذ أكثر من حقه ويظلم من يبيع له السلعة. قال تعال: {ويل للمطففين (١) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (٢) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (٣)﴾ [المطففين] فهم مطففون في الحالتين لأنهم يأخذون أكثر من حقهم ويسلمون غيرهم حقه ناقصا. [القاموس القويم ١/٤٠٣]..

١٦ - المكيل: اسم مفعول من [كال]، وهو كل شيء يكال بالمكيال سواء أكان قمحا أو غيره. واسم الفاعل: "كائل". والموزون: اسم مفعول من [وزن] وهو كل شيء يوزن بالميزان، واسم الفاعل: "وازن"..
١٧ - كما يفهم من مراد الشيخ أن إعطاء الحقوق هو التوازن لميزان الحياة..
١٨ - أخرجه ابن ماجه في سننه [٢٤٤٣] من حديث ابن عمر، قال البوصيري في زوائده: إسناد ضعيف، فيه ضعيفان. وأخرجه بهذا اللفظ أيضا الطبراني في معجمه الصغير [١/٢٠] من حديث جابر، وأبو نعيم في الحلية [٧/١٤٢] من حديث أبي هريرة؛ فهو بمجموع هذه الطرق والروايات يرقي إلى مرتبة الحسن، وله أصل في صحيح البخاري عن أبي هريرة- كتاب البيوع-.
١٩ - آثره: اختاره وفضله. قال تعالى: ﴿قالوا تالله لقد آثرك الله علينا...(٩١)﴾ [يوسف] وقال تعالى: ﴿بل تؤثرون الحياة الدنيا (١٦)﴾ [الأعلى] أي: تفضلونها على الآخرة، وقال تعالى: ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة..(٩)﴾ [الحشر] أي: يفضلون غيرهم على أنفسهم كرما ومروءة و تقوى. [القاموس القويم ١/٧]..
٢٠ - الخصاصة: الفقر وسوء الحال والحاجة، وأصل ذلك من الفرجة أو الخلة لأن الشيء إذا انفرج وهي واخنل [لسان العرب: مادة خصص]..
٢١ - يقول رب العزة سبحانه: ﴿مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم (٢٦١)﴾ [البقرة]..
٢٢ - قال القرطبي في تفسيره [٤/٣٤٠٥]: "اختلف في ذلك العذاب فقيل: هو عذاب النار في الآخرة وقيل: عذاب الاستئصال في الدنيا، وقيل: غلاء السعر"..
٢٣ - وهناك عذاب آخر في الدنيا جاءت به أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أورد القرطبي في تفسيره [أ٤/٣٤٠٥] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أظهر قوم البخس في المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالقحط والغلاء)..
٢٤ - الخلة: الصداقة الخالصة المتينة التي تخللت القلب، وجمعها: خلال القاموس القويم] وقال تعالى:﴿.. من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال (٣١)﴾ إبراهيم]..
يقول الحق سبحانه بعد ذلك ما جاء على لسان شعيب مواصلا الحديث إلى أهل مدين :
﴿ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين١( ٨٥ ) ﴾ :
وفي الآية الكريمة السابقة قال الحق سبحانه :﴿ ولا تنقصوا المكيال والميزان.. ( ٨٤ ) ﴾[ هود ] : وهكذا نعلم أن عدم الإنقاص في الكيل والميزان مطلوب، وكذلك توفية المكيال والميزان مطلوبة ؛ لأنهما أمر واحد، والحق سبحانه لا يتكلم عن المكيل ولا عن الموزون إلا بإطلاقهما، وهو كل عمل فيه واسطة بين البائع والمشتري.
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه :﴿ ويل للمطففين ( ١ ) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ( ٢ ) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون٢( ٣ ) ﴾[ المطففين ] : ذلك لأن البائع قد يقول لك : أنت مأمون فزن أنت لنفسك أو كل أنت لنفسك، وقد تخدع البائع فتأخذ أكثر من حقك ؛ وقد يفعل البائع عكس ذلك، وفي مثل هذا بؤس للاثنين.
وهنا يقول شعيب عليه السلام :﴿ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط.. ( ٨٥ ) ﴾ [ هود ] : والحق سبحانه هنا تكلم عن النقص وعن الإيفاء.
ثم يقول سبحانه :﴿ ولا تبخسوا الناس أشياءهم.. ( ٨٥ ) ﴾ [ هود ] : وهذا كلام عام لا ينحصر في مكيل أو موزون، فقد يأتي مشتر ليبخس من قيمة سلعة ما، أو أن يأخذ رشوة لقضاء مصلحة، أو يخطف ما ليس حقا له، أو يغتصب، أو يختلس، وكلها أمور تعني : أخذ غير حق بوسائل متعددة.
ونحن نعلم أن الخطف إنما يعني أن يمد إنسان يده إلى ما يملكه آخر ويأخذه ويجري، أما الغصب، فهو أن يمد إنسان يده ليأخذ شيئا، فيقاومه صاحب الشيء، لكن المغتصب يأخذ الشيء عنوة، أما المختلس فهو المأمون على شيء فاختلسه، والمرتشي هو من أخذ مالا أو شيئا مقابل خدمة هي حق لمن يطلبها.
إذن : فقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ولا تبخسوا الناس أشياءهم.. ( ٨٥ ) ﴾ [ هود ] : تضم أشياء متعددة.
والبخس هو أن تضر غيرك ضررا، بإنقاص حقه، سواء أكان له حجم، أو ميزان، أو كم، أو كيف.
وكلمة " أشياء " مفردها : " شيء "، ويقولون عن الشيء : " جنس الأجناس " فالثمرة يقال لها : " شيء "، وكل الثمر يقال له : " شيء ".
والحق سبحانه وتعالى يوصينا ألا يغرنا أي شيء مهما كان قليلا.
ونحن نلحظ هنا أن كلمة " الناس " جمع، وكلمة " أشياءهم " جمع أيضا، وإذا قوبل جمع بجمع اقتضت القسمة آحادا. أي : لا تبخس الفرد شيئا، وإن قل.
ونجد واحدا من العارفين بالله قد استأجر مطية٣ من خان٤ ليذهب بها من مكان إلى مكان آخر، فلما ركب المطية وقع منه السوط الذي يحركها به، فأوقف الدابة مكانها وعاد ماشيا على قدميه إلى موقع سقوط السوط ليأخذه، ثم رجع ماشيا إلى مكان الدابة ليركبها، فقال له واحد من الناس : لماذا لم ترجع بالدابة إلى موقع السوط لتأخذه وتعود ؛ فأجاب العارف بالله : لقد استأجرتها لأصل بها إلى مكان في اتجاه معين، ولم يتضمن اتفاقي مع صاحبها أن أبحث بها عن السوط.
ونجد عارفا آخر جلس يكتب كتابا، وكان الناس في ذلك الزمان يجففون الحبر الزائد بوضع قليل من الرمال فوق الصفحات المكتوبة، ولم يجد العارف بالله ما يجفف به المكتوب، فأخذ حفنة من تراب بجانب جدار. ثم ذهب إلى صاحب الجدار وقال له : أنا أخذت ترابا من جانب جدارك فقومه٥ فقال صاحب الجدار : والله لورعك٦ لا أقوم، أي : أنه قد تسامح في هذا الأمر.
وينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ .. ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) ﴾ [ هود ].
وكلمة عثا٧، يعْثَى، ويعثو، وعثى. يعثي ؛ كلها تعني : زاول فسادا، أي : أن يعمد الإنسان إلى الصالح في ذاته فيفسده، مثل طمر بئر ماء، أو حفر طريق يسير فيه الناس، وهو كل أمر يخرج الصالح- في ذاته- عن صلاحه.
والمجتمع كله- بكل فرد فيه- مأمور بعدم مزاولة الفساد، ولو طبق كل واحد ذلك لصار المجتمع كله صالحا، ولكن الآفة أن بعض الناس يحب أن يكون غيره غير مفسد، ولكنه هو نفسه يفسد، ولا يريد من أحد أن يعترض عليه.
١ - لا تعثوا: لا تفسدوا أشد الإفساد. [كلمات القرآن] والعثو في الأرض هو الإتلاف والإضلال.
٢ - ويل: عذاب أو هلاك أو واد في جهنم. للمطففين: المنقضين في الكيل والوزن.
اكتالوا: اشتروا بالكيل، ومثله الوزن، يستوفون: يأخذون حقهم كاملا.
كالوهم: أعطوا غيرهم الوزن. وزنوهم: أعطوا غيرهم الوزن.
يخسرون: ينقصون الكيل والوزن. [كلمات القرآن] بتصرف..

٣ - المطية من الدواب: ما يمتطى أي: يركب [تذكر وتؤنث] فالبعير مطية، والناقة مطية. والجمع: مطايا، ومطى [المعجم الوسيط]..
٤ - الخان: المتجر، أو الحانوت، وقد تطلق على الفندق، أو الأمير، أو غيره، وهي كلمة معربة [المعجم الوسيط]..
٥ - التقويم هنا معناه: تقدير ثمنه ليشتريه منه، والقيمة ثمن الشيء بالتقويم، ويقال: كم قامت ناقتك؟ أي: كم بلغت ؟ [انظر لسان العرب-مادة قوم]..
٦ - الورع: اتقاء الشبهات، ولا يتم الورع إلا بحفظ اللسان واجتناب سوء الظن واجتناب السخرية وغض البصر عن المحارم وصدق اللسان والاعتراف بمنن الله وإنفاق المال في الحق، وترك الكثير والمحافظة على التكاليف والاستقامة، الغنية للجيلاني صـ ١٣٤ بتصرف..
٧ - عثا يعثو وعثى يعثي، عثوا وعثيا: أفسد أشد الإفساد قال تعالى: ﴿.. ولا تعثوا في الأرض مفسدين (٨٥)﴾ [هود] ومفسدين حال مؤكدة لمعنى تعثوا. [القاموس القويم ٢/٧]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ بقية١ الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ٢ ( ٨٦ ) ﴾ :
أي : ما يبقى لكم من الأمر الحلال خير لكم ؛ لأن من يأخذ غير حقه يخطئ ؛ لأنه يزيل البركة عن الحلال بالحرام ؛ فمن يأخذ غير حقه يسلط الله عليه أبواب تنهب منه الزائد عن حقه.
وأنت تسمع من يقول : " فلان هذا إنما يحيا في بركة "، أي : أن دخله قليل، ولكن حالته طيبة، ويربي أولاده بيسر، على عكس إنسان آخر قد يكون غنيا من غير حلال، لكنه يحيا في ضنك٣ العيش.
وقد تجد هذا الإنسان قد انفتحت عليه مصارف الدنيا فلا يكفي ماله الصد همومه، لأن الله سبحانه قد جرأ عليه مصارف سوء متعددة.
وقد يستطيع الإنسان أن يخدع غيره من الناس، ولكنه لن يستطيع أن يخدع ربه أبدا٤.
وقول الحق سبحانه :﴿ بقية الله خير لكم... ( ٨٦ ) ﴾[ هود ] : أي : أن الله تعالى يذهب- عمن يراعي حقوق غيره- مصارف السوء.
وسبق أن قلنا قديما : فلننظر إلى رزق السلب لا إلى رزق الإيجاب ؛ لأن الناس في غالبيتها تنظر إلى رزق الإيجاب، بمعنى البحث عن المال الكثير، وينسون أن الحق سبحانه وتعالى قد يسلط مصارف السوء على صاحب المال الكثير الذي جمعه من غير حق، بينما يسلب عن الذي يرعى حقوق الناس تلك المصارف من السوء٥.
ومن يربون أولادهم من سحت٦ أو حرام، لا يبارك الله فيهم ؛ لأن هناك في تكوينهم شيئا حراما. فنجد- على سبيل المثال- ابن المرتشي يأخذ دروسا خصوصية ويرسب، بينما ابن المنضبط والملتزم بتحصيل الكسب الحلال مقبل على العلم وناجح. أو قد يرزق الله تعالى صاحب المال الحرام زوجة لا يرضيها أي شيء، بل تطمع في المزيد دائما،
بينما يعطي الله سبحانه من يرعى حقوق الناس زوجة تقدر كل ما يفعله.
يقول الحق سبحانه :﴿ بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين.. ( ٨٦ ) ﴾ [ هود ] : أي : إن كنتم مؤمنين بأن الله تعالى رقيب، وأنه سبحانه قيوم ؛ فلا تأخذ حقا غير حقك ؛ لأنك لن تستغل إلا نفسك ؛ لأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليك.
وينهى الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ .. وما أنا عليكم بحفيظ ( ٨٦ ) ﴾ [ هود ] : أي : أن شعيبا عليه السلام قد أوضح لأهل مدين : أنا لن أقف على رأس كل مفسد لأمنعه من الإفساد ؛ لأن كل إنسان عليه أن يكون رقيبا على نفسه مادام قد آمن بالله سبحانه، ومادام قد عرف أن الحق سبحانه قد قال :﴿ بقية٧ الله.. ( ٨٦ ) ﴾ [ هود ] : أي : أن ما يبقى إنما تشيع فيه البركة.
وهذه هي فائدة الإيمان : ما أمر به وما ينهى عنه.
وهذا أمر يختلف عن القانون الوضعي ؛ لأن عين القانون الوضعي قاصرة عما يخفى من أمور الناس فكأنها تحميهم من الوقوع تحت طائلته.. أما القانون الإلهي فهو محيط بأحوال الناس المعلنة، والخافية. ومن يتأمل الآيات الثلاث :
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( ٨٤ ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( ٨٦ ) ﴾ [ هود ] : من يتأمل هذه الآيات يجد عناصر الصيانة للحركة في المجتمع كله، والمجتمع إن لم تصن حركته يفسد ؛ لأن حركة المجتمع أرادها الحق سبحانه حركة تكاملية، لا تكرار فيها ؛ ولو تكررت المواهب لما يحتاج أحد إلى مواهب غيره.
والمصلحة العامة تقتضي أن يحتاج كل إنسان إلى موهبة الآخر، فمن يدرس الدكتوراه فهو يحتاج إلى من يكنس الشارع، ومن يعالج الناس ليشفيهم الله نجده يحتاج إلى من يقوم بإصلاح المجاري.
وماذا كان رد أهل مدين على قول شعيب ؟
يقول الحق سبحانه :
﴿ قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد٨ ( ٨٧ ) ﴾ :
١ - البقية: ما بقي من الشيء أو ما استحق أن يبقي لما فيه من النفع والخير للناس، وتطلق البقية على الشيء الباقي. قال تعالى: ﴿بقية الله خير لكم...(٨٦)﴾ [هود] أي: ما أبقاه الله وادخره لكم من الثواب خير. [القاموس القويم ١/٧٩]..
٢ - حفيظ: رقيب عليكم ويجازيكم بأعمالكم. [كلمات القرآن] بتصرف..
٣ - ضنك الشيء: ضاق، والضنك: الضيق من كل شيء وهو مصدر يوصف به؛ فيستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد وغيره. قال تعالى: ﴿ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا..(١٢٤)﴾ [طه] أي: ضيقه غير متسعة. [القاموس القويم ١/٣٩٥]..
٤ - يقول رب العزة: سبحانه: ﴿يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون (٩)﴾ [البقرة]، ويقول سبحانه: ﴿إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم..(١٤٢)﴾ [النساء]، ويقول عز وجل: ﴿وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله..(٦٢)﴾ [الأنفال]..
٥ - يقول الحق سبحانه: ﴿ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (١٢٤) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (١٢٥) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (١٢٦)﴾ [طه]..
٦ - السحت: المال الذي يكتسب من وجه حرام كالرشوة وما أخذ بالغش والخداع، قال تعالى: ﴿سماعون للكذب أكالون للسحت..(٤٢)﴾ [المائدة]، وقال تعالى: ﴿وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت..(٦٢)﴾ [المائدة]. [القاموس القويم] بتصرف..
٧ - جاءت التاء في [بقيت] في رسم القرآن مفتوحة التاء، قال الزركشي في "البرهان ١/٤١٣" / "مدت تاؤه، لأنه بمعنى ما يبقى في أموالهم من الربح المحسوس، لان الخطاب إنما هو فيها من جهة الملك"..
٨ - الحليم: من أسماء الله الحسنى قال تعالى: ﴿.. واعلموا أن الله غفور حليم (٢٣٥)﴾ [البقرة] ووصف الله خليله إبراهيم عليه السلام بقوله: ﴿إن إبراهيم لحليم أواه منيب(٧٥)﴾ [هود] وأما قوله تعالى: ﴿.. إنك لأنت الحليم الرشيد (٨٧)﴾ [هود] فهو وصف بالحلم والرشد على سبيل التهكم من الكفار برسولهم شعيب عليه السلام. [القاموس القويم ١/١٧٠]..
أي : أيأمرك إلهك ودينك أن نترك ما يبعد آباؤنا ؟
ولقائل أن يقول : ولماذا قالوا : " أصلاتك " ؟
نقول : لأن الإسلام بني على خمس١ : أولها شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؛ ويكفي أن يقولها الإنسان مرة واحدة في حياته كلها، ثم إقامة الصلاة، وبعد ذلك إيتاء الزكاة، ثم صوم رمضان، ثم حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.
وأنت إن نظرت إلى هذه الأركان فقد تجد إنسانا لا يملك ما يزكي به أو ما يحج به، وقد يكون مريضا فلا صوم عليه، وهو ينطق بالشهادة مرة واحدة في حياته، ولا يبقى في أركان الدين إلا الصلاة ؛ ولذلك يقال عنها :( عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين )٢ ؛ لأنها الركن الوحيد الذي يعلن العبد فيه الولاء لربه كل يوم خمس مرات، دواما في الولاء لله.
ولا تسقط الصلاة أبدا عن أي إنسان مهما كانت ظروفه، فإن عجز عن الحركة٣ ؛ فله أن يصلي برموش عينيه، وإن عجز عن تحريك رموش عينيه فليجر الصلاة على قلبه، حتى في حال الحرب والمسايفة٤ فالإنسان المسلم يصلي صلاة الخوف٥.
إذن : فالصلاة هي الركن الذي لا يسقط أبدا، ويكرر في اليوم الخمس مرات، وقد أعطاها الحق سبحانه في التشريع ما يناسبها من الأهمية.
وكل تكليفات الإسلام جاءت بوحي من الله سبحانه وتعالى، فجبريل عليه السلام يحمل الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ ويبلغنا الرسول صلى الله عليه وسلم إياه، وتميزت الصلاة وحدها بأن الحق سبحانه قد كلف بها النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء وجوده في الملأ الأعلى ؛ عند سدرة المنتهى٦، وذلك لفرط أهميتها.
ومثال ذلك من حياتنا- ولله المثل الأعلى- نجد الرئيس في أي موقع من مواقع العمل ؛ وهو يستقبل البريد اليومي المتعلق بالعمل، ويحول كل خطاب إلى الموظف المختص ليدرسه أو ليقترح بخصوصه اقتراحا، وإذا وجد الرئيس أمرا مهما قادما من أعلى المستويات ؛ فهو يستدعي الموظف المختص ؛ ويرتب معه الإجراءات والترتيبات الواجب اتخاذها، وإذا كان هذا يحدث في الأمور البشرية، فما بالنا بالتكليف من الله سبحانه وتعالى للرسول ؟
وقد شاء الحق سبحانه أن يكون تكليف الصلاة – لأهميته- هو التكليف الوحيد الذي نال تلك المنزلة ؛ لأنها الركن الذي يتكرر خمس مرات في اليوم الواحد ؛ ولا مناص٧ منه.
فأنت قد لا تنطق الشهادة إلا مرة واحدة ؛ لكنك تقولها في كل صلاة.
وفي الزكاة تضحي ببعض المال ؛ إلا إن كنت قد ورثت وأنت في بطن أمك ؛ ولا بد أن تزكي من مالك ؛ والمال لا يأتي إلا من العمل ؛ والعمل فرع من الوقت ؛ وأنت في الصلاة تضحي بالوقت نفسه ؛ والوقت أوسع من دائرة الزكاة.
وفي الصيام أنت تمتنع عن شهوتي البطن والفرج ؛ من الفجر إلى المغرب ؛ لكنك تمارس كل أنشطة الحياة ؛ أما في الصلاة فأنت تصوم عن شهوتي الفرج والطعام ؛ وتصوم أكثر عن أشياء مباحة لك في الصيام.
وفي الحج أنت تتوجه إلى بيت الله الحرام ؛ وأنت في كل صلاة تتوجه إلى بيت الله الحرام.
وهكذا تجتمع كل أركان الإسلام في الصلاة.
وأهل مدين هنا- في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها- قد هزءوا برسولهم شعيب عليه السلام، وصلاته ؛ مثلما فعل كفار قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أهل مدين لشعيب عليه السلام :﴿ أصلاتك تأمرك.. ( ٨٧ ) ﴾[ هود ].
وظنوا أنهم بهذا القول إنما يتهكمون عليه ؛ لأن شعيبا كان كثير الصلاة ؛ وهم- ككفار قريش- يجعلون أن الصلاة تأمر وتنهى.
﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء٨ والمنكر.. ( ٤٥ ) ﴾[ العنكبوت ] : إذن : فللصلاة٩ أمر، وللصلاة نهي، وما دام قد ثبت لشيء حكم ؛ يثبت له مقابلة، وأنت تسمع من يقول لآخر : أنت تصلي لذلك فأنا أثق في أمانتك وتسمع إنسانا آخر ينصح صديقا بقوله : كيف تسمح لنفسك أن ترتكب هذا الإثم وأنت خارج من الصلاة ؟ ١٠.
وكثير من الناس يغفلون عن أن التقابل في الجهات إنما يحل مشاكل متعددة ؛ فيأخذون جهة ويتركون الأخرى.
ولذلك أقول : مادام الحق سبحانه قد قال إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، فلا بد أنها تأمر بالبر والخير١١.
ومثال آخر : نجده في قول الحق سبحانه عن غرق قوم فرعون :﴿ فما بكت عليهم السماء والأرض... ( ٢٩ ) ﴾ [ الدخان ] : ومادام الحق سبحانه وتعالى قد نفى بكاء السماوات والأرض على قوم فرعون ؛ ففي المقابل فلا بد أنها تبكي على قوم آخرين١٢ ؛ لأن السماوات والأرض من المسخرات للتسبيح، وقال الحق سبحانه عنهما :﴿ إنا عرضنا الأمانة١٣ على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها.. ( ٧٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] : وبهذا القول اختارت كل من السماوات والأرض مكانة الكائنات المسبحة، مصداقا لقول الحق سبحانه :﴿ وإن١٤ من شيء إلا يسبح بحمده ( ٤٤ ) ﴾[ الإسراء ] : فإذا رأت السماوات والأرض إنسانا مسبحا ؛ فلا بد أن تحبه، وإن رأت إنسانا كافرا، معاندا ؛ فلابد أن تكرهه.
ومادامت السماوات والأرض لم تبك على قوم فرعون ؛ فذلك لأنهم ضالون ؛ لأنها لا تبكي إلا على المهديين.
وقد حل لنا الإمام علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- هذه المسألة ؛ فقال :( إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان : موضع في الأرض، وموضع في السماء، أما موضعه الذي في الأرض : فمصلاه، وأما موضعه في السماء فمصعد عمله )١٥.
لأن موضعه الذي كان يصلي فيه ؛ يحرم من أن واحدا كان يصلي فيه، وأما موضعه الذي كان يصعد منه عمله ؛ فيفتقد رائحة عبور العمل الصالح.
فإن أردت بالصلاة الدين ؛ وهي رمز الدين ؛ فللصلاة أمر هو نفس أمر الدين، وهي الأمر بالإيمان الحق، لأن الإيمان المقلد لا نفع له.
إذن : فقد أراد أهل مدين التهكم على دعوة شعيب لهم ؛ وتساءلوا :﴿ أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا.. ( ٨٧ ) ﴾[ هود ] : وهذا القول يحمل أيضا ردهم على دعوته لهم ألا يعبدوا غير الله ؛ فلا إله غيره ؛ وردوا كذلك على دعوته لهم ألا ينقصوا الكيل والميزان ؛ وألا يبخسوا١٦ الناس أشياءهم ؛ وأن يتيقنوا أن ما يبقى عند الله هو الخير لهم، وألا يعثوا١٧ في الأرض مفسدين.
وقالوا : أتنهانا أيضا عن أن نفعل بأموالنا ما نشاء ؟ وكأنهم قد عميت بصيرتهم ؛ لأنهم إن أباحوا لأنفسهم أن يفعلوا بأموالهم ما يشاءون ؛ فغيرهم سيبيحون لأنفسهم أن يفعلوا بأموالهم ما يشاءون ؛ وستصطدم المصالح، ويخسر الجميع.
وقولهم :﴿ .. إنك لأنت الحليم الرشيد ( ٨٧ ) ﴾ [ هود ] : استمرار في التهكم الذي بدءوه بقولهم :﴿ أصلاتك تأمرك أن تترك ما يعبد آباؤنا.. ( ٨٧ ) ﴾ [ هود ] : مثلهم في ذلك مثل منافقي المدينة الذين قالوا للأنصار :﴿ لا تنفقوا على من١٨ عند رسول الله حتى ينفضوا١٩.. ( ٧ ) ﴾ [ المنافقون ] : وكانوا يريدون أن يضربوا المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ؛ وقد قالوا :﴿ رسول الله ﴾ تهكما ؛ وهم يحرضون أثرياء المدينة على تجويع المهاجرين.
ومثلهم –أيضا- مثل قوم لوط حين نهاهم عن فعل تلك الفاحشة ؛ فقالوا تهكما منه وممن آمن معه :﴿ .. أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون٢٠ ( ٨٢ ) ﴾ [ الأعراف ] : فهل تطهرهم علة للإخراج من القرية، ولكنهم قالوا هذا لأنهم لا يريدون أن يكون بينهم من يعكر ما هم فيه.
وهذا مثلما نسمع في حياتنا من يقول : " لا تستعن بفلان لأنه حنبلي ".
هم-إذن- قد قالوا :﴿ ... إنك لأنت الحليم الرشيد ( ٨٧ ) ﴾[ هود ].
وهذا منطق السخرية منه ؛ لأنه لم يوافقهم على عبادة غير الله، ولم يوافقهم على إنقاص الكيل والميزان ؛ ونهاهم عن بخس الناس أشياءهم.
وإذا قيل حكم وهو حق ؛ ويقوله من لا يؤمن به ؛ فهو يقصد به الهزء والسخرية.
وهو لون من التهكم جاء في القرآن الكريم في مواضع متعددة ؛ فنجد الحق سبحانه يقول لمن تجبر وطغى في الدنيا ؛ ويلقى عذاب السعير في الآخرة :﴿ ذق٢١ إنك أنت العزيز الكريم ( ٤٩ ) ﴾ [ الدخان ].
وكذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه٢٢.. ( ٢٩ ) ﴾ [ الكهف ] : وفي كل من القولين تهكم وسخرية، وكذلك قولهم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ أصلاتك تأمرك.. ( ٨٧ ) ﴾[ هود ] : وهذا قول يحمل التهكم بصلاته.
وكذلك قولهم :﴿ .. إنك لأنت الحليم٢٣ الرشيد ( ٨٧ ) ﴾ [ هود ] : يعني التساؤل : كيف يصح لك وأنت العاقل الحليم أن تتورط وتقول لنا :﴿ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.. ( ٨٤ ) ﴾ [ هود ] : وقد قالوا ذلك لأنهم قد ألفوا عبادة الأصنام، وكذلك تهكموا على دعوة لهم بعدم إنقاص الكيل والميزان.
وأيضا لم يقبلوا منه قوله بأن يحسنوا التصرف في المال، والعلة التي برروا بها كل هذا السفه أن شعيبا حليم رشيد ؛ فكيف يدعوهم إلى ما يخالف أهواءهم ؟
ويأتي الحق سبحانه بما قال شعيب -عليه السلام- فيقول جل شأنه :
﴿ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة٢٤ من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن٢٥ أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه وتوكلت وإليه أنيب٢٦ ( ٨٨ ) ﴾ :
١ - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا) متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٨) ومسلم في صحيحه (١٦)..
٢ - قال الحافظ العراقي في تخريجه للإحياء [١/١٤٧]: (رواه البيهقي في الشعب بسند ضعفه من حديث عمر). وقال الملأ على القارئ في "الأسرار المرفوعة (حديث ٥٧٨)": "قال ابن الصلاح في "مشكل الوسيط": إنه غير معروف، وقال النووي في التنقيح: إنه منكر باطل. لكن رواه الديلمي عن علي كما ذكره السيوطي في الدرر المنتثرة (ح ٢٧٩)..
٣ -من حصل له عذر من مرض ونحوه لا يستطيع معه القيام في الفرض يجوز له أن يصلي قاعدا، فإن لم يستطع القعود صلى على جنبه يومئ بالركوع والسجود. راجع فقه السنة [١/٢٣٤]..
٤ - إذا اشتد الخوف والتحمت الصفوف صلى كل واحد حسب استطاعته راجلا أو راكبا مستقبلا القبلة أو غير مستقبلها يومئ بالركوع والسجود كيفما أمكن، ويجعل السجود أخفض من الركوع ويسقط عنه من الأركان ما عجز عنه. [فقه السنة-١/٢١٠]..
٥ - ثبتت صلاة الخوف بكتاب الله، فقال: ﴿وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة..(١٠٢)﴾ [النساء]. قال الإمام أحمد: (ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز) وذكر الشيخ السيد سابق ست كيفيات لصلاة الخوف في فقه السنة [١/٢٠٨-٢١٠] وانظر أحكام القرآن للجصاص [٢/٣٢٢-٣٣٢].
٦ - فرضت الصلاة مباشرة ليلة الإسراء والمعراج لشرفها، ولأنها جماع العبادات، ففيها الشهادة والزكاة والصوم والحج، لذلك لم تسقط عن المكلف، من مفهوم خواطر الشيخ..
٧ -لا مناص: لا بد ولا مهرب. وناص، ينوص: فر هاربا، وناص من المكروه، نجا منه وخلص.
قال تعالى: ﴿.. ولات حين مناص (٣)﴾ [ص] أي: ليس الحين حين فرار وهروب من العذاب المحيط بهم، أو ليس الحين حين نجاة وخلوص من العذاب. [القاموس القويم] بتصرف..

٨ - الفحشاء: الفحش هو العمل القبيح المنكر. قال تعالى: ﴿الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء..(٢٦٨)﴾ [البقرة] أي: يأمركم بالبخل أو فعل القبيح- عامة- ومنه البخل. والفاحشة: الفعلة القبيحة. والفواحش: الأمور القبيحة وقد فحش وفحش فحشا فهو فاحش: أي: جاوز الحد، وفعل القبيح [القاموس القويم ٢/ ٧٣]..
٩ - لأن الصلاة فعلت استجابة لأمر الآمر، وهي تشتمل على آيات القرآن الكريم، والآيات إما آيات آمرة، وإما آيات ناهية، وما فيها من إحرام وركوع وسجود يدل على استقبالها بقلب منيب في استجابة خاشعة، فكل ما فيها هو نافع لك أمرا أو نهيا؛ لذلك كانت الصلاة مدرسة تنهي عن الفحشاء والمنكر..
١٠ -عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا" أخرجه الطبراني في معجمه الكبير [١١/٥٤] وعزاه ابن كثير لابن أبي حاتم في تفسيره، وذكره الهيثمي في المجمع [٢/٢٥٨] وقال: فيه ليث بن أبي سليم ثقة مدلس"..
١١ - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، قال: (إنه سينهاه ما تقول) أخرجه أحمد في مسنده [٢/٤٤٧] والبزار [١/٣٤٦- كشف الأستار] وابن حبان [ص ١٦٧- موارد الظمآن]. قال الهيثمي في المجمع [٢/٢٥٨]: |رجاله رجال الصحيح)..
١٢ - عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد إلا وله في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية ﴿فما بكت عليهم السماء والأرض..(٢٩)﴾ [الدخان]- وذكر- أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملا صالحا يبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكى عليهم)..
١٣ - الأمانة: مصدر أمن فهو أمين، تطلق الأمانة على الوديعة نفسها. قال تعالى: ﴿إن يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها..(٥٨)﴾ [الأحزاب] فالأمانة هنا مستعارة للتكاليف الشرعية من أوامر ونواه وأحكام وعقائد وعبادات وأخلاق. [القاموس القويم ١/٣٥]..
١٤ -إن- هنا- نافية بمعنى "ما" أو "ليس" أي: ما من شيء خلقه الله إلا يسبح بحمد الله تعالى..
١٥ - أورده ابن كثير في تفسيره [٤/١٤٢] وعزاه لابن أبي حاتم أن عباد بن عبد الله قال: سأل رجل عليا رضي الله عنه: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال له: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، إنه ليس من عبد إلا له مصلى ومصعد عمله من السماء، وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا عمل يصعد في السماء، ثم قرأ على رضى الله عنه: ﴿فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين (٢٩)﴾ [الدخان]..
١٦ - بخسه حقه بخسا: نقصه حقه ولم يوفه، قال تعالى: ﴿ولا تبخسوا الناس أشياءهم..(٨٥)﴾ [هود] [القاموس القويم ١/ ٥٦].
١٧ - عثا يعثو: أفسد أشد الإفساد، قال تعالى: ﴿.. ولا تعثوا في الأرض مفسدين (٦٠)﴾ [البقرة]، فكونهم لا يوفون المكيال ولا الميزان لا يخسرونه، ويبخسون الناس أشياءهم هذا هو قمة الإفساد في الأرض..
١٨ - المقصود بهم: المهاجرون الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آخى بينهم وبين الأنصار بعد قدومه إلى المدينة، وكان زعيم هذه المقالة هو عبد الله بن أبي بن سلول، وكان من مقتضى هذه المؤاخاة أن يشارك المهاجر الأنصاري في ماله وداره، بل إن بعض الأنصار وصل به الأمر أن عرض أن يطلق إحدى زوجاته ليتزوجها المهاجري، انظر كتب السيرة وتفسير ابن كثير [٤/٣٧٠]..
١٩ - أي: حتى ينفضوا من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصرفوا عنه، يقال: انفض الناس: تفرقوا وانصرفوا، [راجع القاموس القويم ٢/٨٤]..
٢٠ - قال مجاهد: أي: إنهم يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء. قالوا هذا استهزاء بهم. وقال قتادة عابوهم بغير عيب، وذموهم بغير ذم، انظر: الدر المنثور للسيوطي [٣/٤٩٦]..
٢١ - ذاق الشيء يذوقه وذواقا: أدرك طعمه في فمه وتستعمل مجازا في الإحساس العام، كقوله تعالى: ﴿ليذوقوا العذاب..(٥٦)﴾ [النساء]، ﴿كل نفس ذائقة الموت..(١٨٥)﴾ [آل عمران]، وقوله تعالى: ﴿فلما ذاقا الشجرة..(٢٢)﴾ [الأعراف]. [القاموس القويم صـ ٢٤٧ جـ١].
٢٢ - استغاث: طلب الغوث والمساعدة؛ واستغاث فلانا واستغاث به: استنصره واستعان به. قال تعالى: ﴿فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه..(١٥)﴾ [القصص] أي: استنصره، وغاثه الله يغوثه غوثا، نصره وأعانه، وأغاثه، وغاثه: نصره وأعانه، والمهل [بضم الميم]: المعدن المذاب، والقطران، وعكر الزيت المغلى، والقيح، قال تعالى: ﴿وإن تستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه..(٢٩)﴾ [الكهف] [القاموس القويم ٢/٦٢]..
٢٣ - الحلم: الأناة وضبط النفس والعقل، فهو حليم أي: متأن عاقل ضابط لنفسه بعيد عن الجهل والحمق والطيش.
والحليم: من أسماء الله الحسنى، قال تعالى: ﴿.. واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم (٢٣٥)﴾ [البقرة] ووصف الله خليله إبراهيم بقوله: ﴿إن إبراهيم لحليم أواه منيب (٧٥)﴾ [هود] أما قوله تعالى: ﴿.. إنك لأنت الحليم الرشيد (٨٧)﴾ [هود] فهو وصف بالحلم والرشد على سبيل التهكم من الكفار برسولهم شعيب عليه السلام [القاموس القويم ١/ ١٦٩، ١٧٠].

٢٤ - بينة: حجة وبرهان. وبان الشيء يبين بيانا: ظهر واتضح فهو بين، وهي بينة، أي: ظاهر وظاهرة، ويستعمل البين والبينة بمعنى المظهر والمظهرة والموضح والموضحة، وبالمعنيين يفسر قوله تعالى: ﴿كم آتيناهم من آية بينة..(٢١١)﴾ [البقرة] أي: واضحة لا شك فيها. أو هي مبينة للحق مؤيدة له، مظهرة لأمره. [القاموس القويم]..
٢٥ - إن- هنا- نافية، بمعنى "ما" أو "لا" أي: ما أريد- أو لا أريد- إلا الإصلاح..
٢٦ - أناب العبد إلى ربه: رجع إليه وتاب وترك الذنوب، وقوله تعالى: ﴿.. عليه توكلت وإليه أنيب (٨٨)﴾ [هود] أي: إليه أتوب وأرجع [القاموس القويم]..
وهنا يعلن لهم شعيب – عليه السلام- أنه على يقين من أن الله سبحانه وتعالى قد أعطاه حجة ومنهجا، وقد رزقه الرزق الحسن الذي لا يحتاج معه إلى أحد ؛ فأمور حياته ميسورة١.
وقد يكون المقصود بالرزق الحسن رحمة النبوة.
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان شعيب عليه السلام :﴿ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه.. ( ٨٨ ) ﴾ [ هود ] : أي : أنني أطبق ما أدعوكم إليه على نفسي ؛ فلا أنقص كيلا أو أخسر ميزانا، ولا أبخس أحدا أشياءه ؛ لأني لا أعبد غير الله.
وكلمة " أخالف " ٢ تدل على اتجاهين متضادين، فإن كان قولك بهدف صرف إنسان عن فعل لكي تفعله أنت ؛ تكون قد خالفته " إلى " كذا، وإن كنت تريده أن يفعل فعلا كيلا تفعله أنت ؛ تكون قد خالفته " عن " كذا.
فشعيب –عليه السلام- يوضح لهم أنه لا ينهاهم عن أفعال ؛ ليفعلها هو بل ينهاهن عن الذي لا يفعله ؛ لأن الحق سبحانه قد أمره بألا يفعل تلك الأفعال، فالحق سبحانه هو الذي أوحى له بالمنهج، وهو الذي أنزل عليه الرسالة.
وشعيب- عليه السلام- لا ينهاهم عن أفعال يفعلها هو ؛ لأنه لا يستأثر لنفسه بما يرونه خيرا ؛ فليس في نقص الكيل والميزان ؛ أو الشرك بالله أدنى خير، فكل تلك الأفعال هي الشر نفسه.
ويوضح لهم شعيب –عليه السلام- مهمة النبوة ؛ فيقول :﴿ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت.. ( ٨٨ ) ﴾[ هود ] : فالنبوات كلها لا يرسلها الله تعالى إلا حين يطم٣ الفساد، ويأتي النبي المُرسَل بمنهج يدل الناس إلى ما يصلح أحوالهم ؛ من خلال " افعل " و " لاتفعل " ويكون النبي المرسل هو الأسوة لتطبيق المنهج ؛ فلا يأمر أمرا هو عنه بنجوة٤ ؛ ويطبق على نفسه أولا كل ما يدعو إليه.
ولذلك قال شعيب- عليه السلام- :﴿ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت.. ( ٨٨ ) ﴾[ هود ] : لأن الله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وما يدخل في طوعها.
ويقول شعيب-عليه السلام- بعد ذلك :﴿ .. وما توفيقي إلا بلله عليه توكلت وإليه أنيب ( ٨٨ ) ﴾[ هود ] : وهكذا نعلم أن هناك فرقا بين العمل ؛ وبين التوفيق في العمل ؛ لأن جوارحك قد تنشغل بالعمل ؛ ولكن النية قد تكون غير خالصة ؛ عندئذ لا يأتي التوفيق من الله.
أما إن أقبلت على العمل ؛ وفي نيتك أن يوفقك الله سبحانه لتؤدي هذا العمل بإخلاص ؛ فستجد الله تعالى وهو يصوب لك أي خطأ تقع فيه ؛ وستنجز العمل بإتقان وتشعر بجمال الإتقان، وفي الجمال جلال.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا ما جاء على لسان شعيب عليه السلام :﴿ عليه توكلت ﴾ ؛ أي : أنه لا يتوكل إلا على الله ؛ ولا يصح أن تعطف على هذا القول شيئا ؛ لأنك إن عطفت على هذا القول وقلت " على الله توكلت وعليك " ؛ فتوقع ألا يوفقك الله، لأنك أشركت أحدا غير الله٥.
ونجد في القرآن الكريم قول الحق سبحانه على لسان هود عليه السلام :﴿ توكلت على الله.. ( ٥٦ ) ﴾ [ هود ] : ويجوز لك هنا أن تعطف.
ولك أن تتذكر قول أحد العارفين٦ : " اللهم إني أستغفرك من كل عمل قصدت به وجهك فخالفني فيه ما ليس لك ".
فلا تترك شيئا يزحف على توكلك على الله تعالى ؛ لأنك إليه تنيب ؛ وترجع ؛ كما قال شعيب عليه السلام :﴿ وإليه أنيب ﴾.
١ - الرزق الحسن: الواسع الحلال، وكان شعيب عليه السلام كثير المال، قاله ابن عباس وغيره، وقيل: أراد به الهدى والتوفيق، والعلم والمعرفة، قاله القرطبي في تفسيره [٤/٣٤٠٨]..
٢ - قال أبو حيان في قوله تعالى: ﴿وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه..(٨٨)﴾ [هود] المعنى: لست أريد أن افعل الشيء الذي نهيتكم عنه، من نقص الكيل والوزن واستأثر بالمال. قال ابن عطية وقتادة: لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبه، فعلى هذا الظاهر أن قوله تعالى: ﴿أن أخالفكم..(٨٨)﴾ [هود] في موضع المفعول لأريد، أي: ما أريد مخالفتكم، أي أكون خلفا منكم، ويكون خالف بمعنى خلف نحو جاوز وجاز وتتعلق إلى ما خالفتكم، أي أكون خلفا منكم، ويكون خالف بمعنى خلف نحو جاوز وجاز وتتعلق إلى ما خالفتكم، وقال الزجاج: ما اقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه [تفسير البحر المحيط ٦/ ١٩٨ باختصار]...
٣ - طم الشيء: عظم وعلا. وطم الماء إذا كثر. وجاء السيل فطم كل شيء أي: علاه. والمقصود أن يكثر الفساد وينتشر ويصبح فسادا عاما يعم البلاد والعباد. وانظر [لسان العرب- مادة: طمم]..
٤ - النجوة: ما ارتفع من الأرض فلم يعله السيل. أي: أنه مكان مرتفع. والمقصود: أنك بعيد عما تأمر به. [وانظر اللسان مادة: نجو]..
٥ - عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" أخرجه أحمد في مسنده [٥/٣٨٤] وأبو داود في سننه [٤٩٨٠] والحاكم في مستدركه [٣/٤٦٢] قال النووي في الأذكار [ص ٣١٨]: "هذا إرشاد إلى الأدب، وذلك أن الواو للجمع والتشريك، وثم للعطف والتراخي، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى تقديم مشيئة الله تعالى على مشيئة من سواه"..
٦ - هو: مطرف بن عبد الله بن الشخير، كان يلبس الصوف ويجلس مع المساكين، وقد أورد أبو نعيم هذا الأثر في حلية الأولياء [٢/٢٠٧] وابن رجب الحنبلي في جامع العلوم [ص ٢٧] وقد أورداه تاما والعطف فيه من تمام الدعاء، وليس عطفا مغايرا..
ويقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك :
﴿ ويا قوم لا يجرمنكم١ شقاقي٢ أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد ( ٨٩ ) ﴾ :
يقول لهم شعيب عليه السلام : أرجو ألا تحملكم عداوتكم لي على أن تجرموا جرما ؛ يكون سببا في أن ينزل الحق سبحانه بكم عقابا، مثلما أصاب القوم الذين سبقوكم ؛ من الذين خالفوا رسلهم ؛ فأنزل الله- عز وجل- عليهم العذاب كالغرق، والرجفة، والصيحة، والصاعقة٣ ؛ فاحذروا ذلك.
وشعيب عليه السلام ينصحهم هنا حرصا منه عليهم، على الرغم من علمه أنهم يكنون له العداء ؛ لأنه دعاهم إلى ترك عبادة الأصنام التي عبدها آباؤهم ؛ ونهاهم عن إنقاص الكيل والميزان، وألا يبخسوا الناس أشياءهم ؛ وسبق أن عذب الحق سبحانه المخالفين لشرع الله من الأمم السابقة ؛ ويذكرهم شعيب- عليه السلام- بأقرب من عذبوا زمانا ومكانا ؛ وهم قوم لوط.
١ - جرم الشيء جرما: قطعه؛ وغلب على فعل الشر. يقال: جرم: أذنب وجنى جناية. وجرم المال: كسبه من أي وجه. وجرمه: حمله على فعل شر أو ذنب أو جرم. قال تعالى: ﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا..(٨)﴾ [المائدة] أي: لا يحملنكم بغض قوم على عدم العدل، أي: التزموا العدل حتى مع من تكرهونه، أي: أعدلوا دائما، فالعدل أقرب للتقوى.
وأجرمه: دفعه وحمله على فعل الجرم والشر. وقرئ [ولا يجرمنكم] – بضم الياء من الرباعي المزيد بالهمزة- أي: لا يحملنكم على فعل الجرم والظلم، [القاموس القويم]..

٢ - شاقه مشاقة وشقاقا: خالفه ومنه قوله تعالى: ﴿ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله..(١٣)﴾ [الأنفال].
وقوله تعالى: ﴿وإن تولوا فإنما هم في شقاق...(١٣٧)﴾ [البقرة] أي: في خلاف ونزاع. [القاموس القويم ١/٣٥٣]..

٣ - يقول الحق سبحانه: ﴿فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (٤٠)﴾ [العنكبوت]..
يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك :
﴿ واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود١ ( ٩٠ ) ﴾ :
وهذه الآية تبين لنا أن الحق سبحانه لا يغلق أمام العاصي- حتى المصر على شيء من المعصية- باب التوبة.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط٢ على بعيره وقد أضله في أرض فلاة٣ )٤.
ولنا أن نتخيل بماذا يشعر من فقد بعيره ؛ وهذا البعير يحمل زاد صاحبه ورحله ؛ ثم يعثر الرجل على بعيره هذا.
لابد -إذن- أن يفرح صاحب البعير بالعثور عليه.
والحق سبحانه يقول هنا ما جاء على لساء شعيب –عليه السلام- لقومه :﴿ واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه... ( ٩٠ ) ﴾[ هود ] : ومادمتم ستستغفرونه عن الذنوب الماضية ؛ وتتوبون إليه ؛ بألا تعودوا إلى ارتكابها مرة أخرى ؛ فالحق سبحانه لا يرد من قصد بابه :﴿ .. إن ربي رحيم ودود ( ٩٠ ) ﴾ لأن مغفرته تستر العذاب، ورحمته تمنع العذاب.
وجاء الحق سبحانه هنا بأوسع المعاني : المغفرة، والرحمة، ومعهما صفته " الودود " ؛ وهي من الود ؛ والود هو الحب ؛ والحب يقتضي العطف على قدر حاجة المعطوف عليه.
ولله المثل الأعلى : نرى الأم ولها ولدان : أولهما قادر ثري يأتي لها بما تريد ؛ وثانيهما ضعيف فقير ؛ فنجد قلب الأم- دائما- مع هذا الضعيف الفقير ؛ وتحنن قلب القوي القادر على الفقير الضعيف.
ونجد المرأة العربية القديمة تجيب على من سألها : أي أبنائك أحب إليك ؟ فتقول : الصغير حتى يكبر ؛ والغائب حتى يعود ؛ والمريض حتى يشفى.
إذن : فالحب يقتضي العطف على قدر الحاجة.
ويقول الحق سبحانه في الحديث القدسي :( يا بان آدم ؛ لا تخافن من ذي سلطان ؛ مادام سلطاني باقيا ؛ وسلطاني لا ينفد٥ أبدا. يا بن آدم لا تخش من ضيق رزق ؛ وخزائني ملآنة، وخزائني لا تنفد أبدا. يا بن آدم خلقتك للعبادة ؛ فلا تلعب، وضمنت لك رزقك فلا تتعب، فوعزتي وجلالي إن رضيت بما قسمته لك أرحت قلبك وبدنك ؛ وكنت عندي محمودا ؛ وإن أنت لم ترض بما قسمته لك ؛ فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا، تركض فيها ركض٦ الوحوش في البرية٧ ؛ ثم لا يكون ذلك منها إلا ما قسمته لك. يا ابن آدم خلقت السماوات والأرض ولم أعي٨ بخلقهن ؛ أيعييني رغيف عيش أسوقه لك ؟ يا بن آدم لا تسألني رزق غد كما أطلب منك عمل غد، يا بن آدم أنا لك محب ؛ فبحقي عليك كن لي محبا ).
وهذا الحديث الكريم يبين مدى مودة الله سبحانه لخلقه ؛ تلك المودة التي لا تستوعبها القلوب المشركة.
١ - الودود: من أسماء الله الحسنى، وهو صيغة مبالغة أي: كثير الود. [القاموس القويم ٢/٣٢٦] والود: الحب، قال تعالى: ﴿.. سيجعل لهم الرحمان ودا (٩٦)﴾ [مريم] أي: محبة منه تعالى ومحبة في قلوب الناس..
٢ - سقط على بعيره: أي: صادفه وعثر عليه من غير قصد فظفر به، ومنه قولهم: على الخبير سقطت، قاله ابن حجر العسقلاني في فتح الباري [١١/١٠٨]..
٣ - الفلاة: الصحراء ليس بها ماء ولا أنيس، وهي: القفر من الأرض لأنها فليت عن كل خير أو فطمت وعزلت [لسان العرب]..
٤ - متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه [٦٣٠٨، ٦٣٠٩] وأخرجه مسلم في صحيحه [٢٧٤٤] عن عبد الله بن مسعود. واللفظ للبخاري..
٥ - لا ينفد: لا ينتهي، ونفد ينفد نفدا ونفادا: فني وانقطع ولم يبق منه شيء. قال تعالى: ﴿ما عندكم ينفد وما عند الله باق..(٩٦)﴾ [النحل]. وقال تعالى: ﴿إن هذا لرزقنا ما له من نفاذ (٥٤)﴾ [ص]. أي: أنه رزق دائم لا انقطاع له. [القاموس القويم]..
٦ - الركض: الجري والعدو. قال تعالى: ﴿فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون (١٢)﴾ [الأنبياء] أي: يجرون ويفرون كناية عن الفزع والخوف الشديد. والركض: الضرب بالرجل، قال تعالى: ﴿اركض برجلك..(٤٢)﴾ [ص] أي: اضرب بها. [القاموس القويم]..
٧ - البرية: الصحراء، والجمع: البراري، والبر: ضد البحر. [راجع: مختار الصحاح- مادة: برر]..
٨ - لم أعيى بخلقهن: لم أعجز عنه ولم أطق إحكامه، والإعياء: الكلال والتعب، [من لسان العرب]..
ويأتي الحق –سبحانه وتعالى- بعد ذلك بقول أهل مدين ردا على شعيب- عليه السلام- :﴿ قالوا يا شعيب ما نفقه١ كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك٢ لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ( ٩١ ) ﴾ :
وهذا يضاهي قول مشركي قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا :
﴿ قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب... ( ٥ ) ﴾[ فصلت ].
والإيمان يتطلب قلبا غير ممتلئ بالباطل ؛ ليحسن استقباله ؛ أما القلوب الممتلئة بالباطل، فهي غير قادرة على استقبال الإيمان ؛ إلا إذا أخلت العقول تلك القلوب من الباطل، وناقشت العقول كلا من الحق والباطل، ثم تأذن لما اقتنعت به أي يدخل القلوب.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يطبع ويختم على القلوب الممتلئة بالكفر ؛ فلا يخرج منها الكفر ولا يدخل فيها الإيمان.
ولم يكتف أهل مدين بإعلان الكفر ؛ بل هددوا شعيبا وقالوا :﴿ .. وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ( ٩١ ) ﴾[ هود ] : وهذا التهديد يحمل تحديا، وكأنهم ظنوا أن بقدرتهم الفتك به ؛ لأنهم يبغضون حياته ؛ وأعلنوا حجة واهية ؛ وهي أن رهطه- أي : قومه وأهله ؛ لأن الرهط هم الجماعة التي يتراوح عدد أفرادها بين ثلاثة وعشرة أفراد- ما زالوا على عبادة الأصنام ؛ وأن هذا الرهط سيغضب لأي ضرر يصيب شعيبا ؛ وتناسوا أن الذي أرسل شعيبا –عليه السلام- لا بد أن يحميه، وهم –بتناسيهم هذا- حققوا مشيئة الله –عز وجل- بأن يسخر الكفر لخدمة الإيمان.
ومثال ذلك : هو بقاء عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب على دين قومه ؛ وقد ساهم هذا الأمر في حماية محمد صلى الله عليه وسلم في ظاهر الأسباب.
١ - الفقه: الفهم، وفقه يفقه فهو فقيه: صار عالما فاهما، والفقه في الاصطلاح: علم أحكام العبادات والمعاملات، وهو فرع من فروع المعارف الدينية، قال تعالى: ﴿لا تفقهون تسبيحهم..(٤٤)﴾ [الإسراء] أي: لا تفهمونه. وقال تعالى: ﴿ليتفقهوا في الدين..(١٢٢)﴾ [التوبة] أي: ليدرسوا أحكام الدين وليتعلموها. [القاموس القويم ٢/٨٦]..
٢ - الرهط: جماعة دون العشر من الرجال، ورهط الرجل عشيرته وقبيلته، لا واحد له من لفظه. قال تعالى: ﴿ولولا رهطك لرجمناك..(٩١)﴾ [هود] أي: ولولا عشيرتك من الرجال لرجمناك. وقوله تعالى: ﴿تسعة رهط..(٤٨)﴾ [النمل] من إضافة الشيء إلى ما يبينه. [القاموس القويم ١/ ٢٧٨]..
ثم يأتي الحق سبحانه من بعد ذلك برد شعيب عليه السلام على قومه ؛ فيقول :
﴿ قٌال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا١ إن ربي بما تعملون محيط٢ ( ٩٢ ) ﴾ :
وهنا يتساءل شعيب عليه السلام باستنكار : أوضعتم رهطي في كفة ؛ ومعزة الله تعالى في كفة ؟ وغلبتم خوفكم من رهطي على خوفكم من الله ؟ ! ولم يأبه شعيب عليه السلام باعتزازهم برهطه أمام اعتزازه بربه ؛ لأنه أعلن-من قبل- توكله على الله ؛ ولأنه يعلم أن العزة لله تعالى أولا وأخيرا.
ولم يكتفوا بذلك الاعتزاز بالرهط عن الاعتزاز بالله ؛ بل طرحوا التفكير في الإيمان بالله وراء ظهورهم ؛ لأن شعيبا عليه السلام يقول لهم :﴿ واتخذتموه وراءكم ظهريا... ( ٩٢ ) ﴾ [ هود ] : أي : لم يجعلوا الله- سبحانه- أمامهم، فلم يأبهوا بعزة الله ؛ ولا بحماية الله ؛ وجعلوا لبعض خلقه معزة فوق معزة الله.
ولم يقل :[ ظهريا ] نسبة إلى [ الظهر ]، فعندما ننسب تحدث تغييرات، فعندما ننسب إلى اليمن نقول : يمني، ونقول : يماني، فالنسب هنا إلى الظهري، وهي المنسي والمتروك، فأنت ساعة تقول : أنت طرحت فلانا وراء ظهرك، يعني جعلته بعيدا عن الصورة بالنسبة للأحداث، ولم تحسب له حسابا، إذن : فهناك تغييرات تحدث في باب النسب٣.
ويذكرهم شعيب عليه السلام بقوله :﴿ .. إن ربي بما تعملون محيط ( ٩٢ ) ﴾[ هود ] : أي : أن كل ما تقولونه أو تفعلونه محسوب عليكم ؛ لأن الحق سبحانه لا تخفى عليه خافية، وقد سبق أن عرفنا أن القول يدخل في نطاق العمل ؛ فكل حدث يقال له : " عمل " ؛ وعمل اللسان هو القول ؛ وعمل بقية الجوارح هو الأفعال.
وقد شرف الحق سبحانه القول لأنه وسيلة الإعلام الأولى عنه سبحانه.
١ - الظهري: المنسي المتروك وراء الظهر، يقال: جعله ظهريا، أي: جعله نسيا منسيا، قال تعالى: ﴿واتخذتموه وراءكم ظهريا..(٩٢)﴾ [هود] أي: نسيتم الله وحقوقه عليكم [القاموس القويم ١/٤١٩]..
٢ - المحيط: من أسماء الله الحسنى، أي: المسيطر على كل شيء، وقال تعالى: ﴿.. والله محيط بالكافرين (١٩)﴾ [البقرة] أي: مسيطر عليهم لا يملكون منه هربا ولا فرارا، [القاموس القويم ١/ ١٧٨]..
٣ - النسب باب من أبواب علم الصرف..
يقول الحق سبحانه من بعد ذلك ما جاء على لسان شعيب عليه السلام :
﴿ ويا قوم اعملوا على مكانتكم١ إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ( ٩٣ ) ﴾ :
إذن : فشعيب عليه السلام عند القضية المخالفة ؛ لأن الله تعالى عنده أعز من رهطه ؛ وباعتزازه بربه قد آوى إلى ركن شديد، وبهذا الإيمان يعلن لهم : افعلوا ما في وسعكم، وما في مكنتكم هو ما في مكنة البشر، وسأعمل ما في مكنتي، ولست وحدي، بل معي الله سبحانه وتعالى ؛ ولن تتسامى قوتكم الحادثة على قدرة الله المطلقة.
ومهما فعلتم لمعارضة هذا الإصلاح الذي أدعوكم إليه ؛ فلن يخذلني الذي أرسلني ؛ وما دمتم تريدون الوقوف في نفس موقف الأمم السابقة التي تصدت لموجات الإصلاح السماوية ؛ فهزمهم الله سبحانه بالصيحة، وبالرجفة، وبالريح الصرصر٢، وبالقذف بأي شيء من هذه الأشياء، وقال لهم : اعملوا على مكانتكم، وإياكم أن تتوهموا أني أتودد إليكم ؛ فأنا على بينة من ربي، ولكني أحب الخير لكم، وأريد لكم الإصلاح.
ولم يقل شعيب عليه السلام هذا القول عن ضعف، ولكن قاله ردا على قولهم :﴿ وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك٣ لرجمناك.. ( ٩١ ) ﴾[ هود ] : وأبرز لهم مكانته المستمدة من قوة من أرسله سبحانه وتعالى، وقال :﴿ اعملوا على مكانتكم إني عامل.. ( ٩٣ ) ﴾[ هود ].
وهكذا أوضح لهم : أنا لن أقف مكتوف الأيدي، لأني سأعمل على مكانتي، و﴿ .. سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ( ٩٣ ) ﴾[ هود ] : أي : أن المستقبل سوف يبين من منا على الحق ومن منا على الضلال، ولمن سيكون النصر والغلبة، ومن الذي يأتيه الخزي ؛ أي : أن يشعر باحتقار نفسه وهوانها ؛ ويعاني من الفضيحة أمام الخلق ؛ ومن منا الكاذب، ومن على الحق.
وكان لا بد أن تأتي الآية التالية :
﴿ ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة٤ فأصبحوا في ديارهم جاثمين٥ ( ٩٤ ) ﴾ :
١ - المكانة: رفعة الشأن والرزانة والتؤدة، قال تعالى: ﴿قل يا قوم اعملوا على مكانتكم..(١٣٥)﴾ [الأنعام] أي: برزانة وتؤدة وتبصر. وقرئ: "على مكاناتكم" بالجمع. [القاموس القويم ٢/ ٢٣٢]..
٢ - الريح الصر والصرصر: شديدة البرد، وقيل: شديدة الصوت، قال الزجاج: الصر والصرة شدة البرد [قاله ابن منظور في اللسان]..
٣ - الرهط: جماعة دون العشر من الرجال، ورهط الرجل عشيرته وقبيلته، لا واحد له من لفظه. قال تعالى: ﴿ولولا رهطك لرجمناك..(٩١)﴾ [هود] أي: ولولا عشيرتك من الرجال لرجمناك. وقوله تعالى: ﴿تسعة رهط..(٤٨)﴾ [النمل] من إضافة الشيء إلى ما يبينه. [القاموس القويم ١/٢٧٨]..
٤ - الصيحة: اسم مرة من الصياح، وهو الصوت الشديد. والصيحة: العذاب الذي يصحبه صوت شديد. قال تعالى: ﴿يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج (٤٢)﴾ [ق]. [القاموس القويم]..
٥ - جثم جثوما: لزم مكانه لاصقا بالأرض، قال تعالى: ﴿.. فأصبحوا في ديارهم جاثمين (٩٤)﴾ [هود] كناية عن موتهم بحالتهم فهم هامدون لا صقون بالأرض، [القاموس القويم]..
ونلحظ أن الحق سبحانه قد أورد في هذه السورة : أسلوبين منطوقين أحدهما بالواو، والآخر بالفاء.
الأول :﴿ ولما جاء أمرنا.. ( ٩٤ ) ﴾، في قصة اثنين آخرين من الرسل.
الثاني :﴿ فلما جاء أمرنا.. ( ٦٦ ) ﴾[ هود ] : في قصة اثنين من الرسل١.
وقصة شعيب هي إحدى القصتين اللتين جاء فيهما ﴿ ولما جاء أمرنا ﴾ ولم يأت ب " الفاء " لأنها- كما نعلم- تقتضي التعقيب بسرعة، وبدون مسافة زمنية ؛ وتسمى في اللغة " فاء التعقيب "، مثل قول الحق سبحانه :﴿ ثم أماته فأقبره٢ ( ٢١ ) ﴾[ عبس ].
أما " ثم " فتأتي لتعقيب مختلف ؛ وهو التعقيب بعد مسافة زمنية ؛ مثل قول الحق سبحانه :﴿ ثم إذا شاء أنشره٣ ( ٢٢ ) ﴾[ عبس ] : وقد جاءت " الفاء " مرة في قصة قوم لوط ؛ لأن الحق سبحانه قد حدد الموعد الذي ينزل فيه العذاب، وقال :﴿ .. إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ( ٨١ ) ﴾[ هود ] : فكان لابد أن تسبق " الفاء " هذا الحديث عن عذابهم، فقال :﴿ فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل٤ منضود ( ٨٢ ) ﴾[ هود ].
أما هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فقد قال الحق سبحانه :﴿ ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه... ( ٩٤ ) ﴾[ هود ] : ولم يذكر وعدا ولم يحدد موعد العذاب.
والحق سبحانه يقول :﴿ ولما جاء أمرنا.. ( ٩٤ ) ﴾[ هود ] : وكل أمر يقتضي آمرا، ويقتضي مأمورا ؛ ويقتضي مأمورا به.
والآمر هنا هو الله سبحانه ؛ وهو القادر على إنفاذ ما يأمر به، ولا يجرؤ مأمور ما على مخالفة ما يأمر به الحق سبحانه ؛ فالكون كله يأتمر بأمر خالقه.
إذن : فحين يخبرنا الحق سبحانه وتعالى أن العذاب قد جاء لقوم ؛ فمعنى ذلك أن الأمر قد صدر ؛ ولم يتخلف العذاب عن المجيء ؛ لأن التخلف إنما ينشأ من مجازفة أمر لمأمور قد لا يطيعه، ولا يجرؤ العذاب على المخالفة لأنه مسخر، لا اختيار له.
والقائل هنا هو الله سبحانه صاحب الأمر الكوني والأمر التشريعي ؛ فإذا قال الحق سبحانه حكما من الأحكام وسجله في القرآن ؛ فتيقن من أنه حادث لا محالة ؛ لأن القضية الكونية هي من الحق سبحانه وتعالى، ولا تتخلف أو تختلف مع مشيئته سبحانه، والحكم التشريعي يسعد به من يطبقه ؛ ويشقى من يخالفه.
والحق سبحانه يعطينا مثالا لهذا في قصة أم موسى.. يقول جل شأنه :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم٥.. ( ٧ ) ﴾[ القصص ] : فمنطق البشر يقول : كيف نقول لامرأة : إذا خفت على ابنك ألقيه في البحر ؟ كيف ننجيه من موت مظنون إلى موت محقق ؟
هذا وإن كان مخالفا لسنن العادة إلا أن أم موسى سارعت لتنفيذ أمر الله سبحانه ؛ لأن أوامر الله بالإلهام للمقربين، لا يأتي لها معارض في الذهن.
والحق سبحانه كما أمرها بإلقاء وليدها في اليم، فقالت :﴿ إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ( ٣٨ ) أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم.. ( ٣٩ ) ﴾[ طه ] : كذلك أمر الحق- سبحانه وتعالى- اليم بإلقاء التابوت- وفي داخله موسى- للساحل، ولذلك فيقين أم موسى في أن أوامر الله لا تتخلف، جعلها تسارع في تنفيذ ما أمرها الله به.
والحق سبحانه يريد أن يربب الإيمان، أي : يزيده في قلوب عباده، فهب أن الله قضى بقضية أو أمر بأمر، ثم لم يأت الكون على وفق ما أمر الله، فماذا يكون موقف الناس ؟
فمادام رب العزة سبحانه قد قال فلا بد أن يحدث ما أمر به، فعندما يقول الحق سبحانه :﴿ وإن جندنا لهم الغالبون ( ١٧٣ ) ﴾[ الصافات ].
فلا بد أن تكون الغلبة لجنود الله، فإذا ما غلبوا فافهموا أن شرط الجندية لله قد تخلف، وأن عنصرا من عناصر الجندية قد تخلف وهو الطاعة.
ومثال هذا : الذين خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقاء على الجبل يوم أحد، إنهم خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فماذا يحدث لو أنهم انتصروا مع هذا المخالفة ؟
إذن : فقد انهزم المسلمون الذين اختلت فيهم صفة من صفات جنديتهم لله.
ولابد أن تلتقي القضيتان : القرآنية والكونية ؛ لأن قائل القرآن هو صاحب سنن الكون سبحانه وتعالى.
ولأن أهل مدين هنا قد أعلنوا الكفر ؛ فلا بد أن يأتيهم العذاب.
وسمى الحق سبحانه هنا العذاب بالصيحة ؛ وقال :﴿ .. وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ٩٤ ) ﴾[ هود ].
وسمى الحق سبحانه في سورة الأعراف العذاب الذي لحق بهم : " الرجفة " ؛ فقال :
﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ( ٩١ ) ﴾[ الأعراف ].
وسماه في قصة قوم عاد :﴿ .. بريح صرصر٦ عاتية ( ٦ ) ﴾ [ الحاقة ] : وسماه بالخسف في عذاب قارون.
ومن عظمة التوجيه الإلهي أن العذاب كان ينتقي القوم الكافرين فقط ؛ ولا يصيب الذين آمنوا، بدليل قول الحق سبحانه :﴿ نجينا شعيبا والذين آمنوا معه.. ( ٩٤ ) ﴾[ هود ] : ولا يقدر على ذلك إلا إله قادر مقتدر ؛ يصرف الأمور كما يشاء سبحانه.
وكلمة " نجينا " : من النجاة ؛ أي : أن يوجد بنجوة ؛ وهي المكان العالي، والعرب قد عرفوا مبكرا طغيان الماء ؛ فقد كانوا يقيمون في اليمن ثم بعثرهم السيل مصداقا لقول الحق سبحانه :﴿ لقد كان لسبأ٧ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور ( ١٥ ) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم٨ وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط٩ وأثل١٠ وشيء من سدر١١ قليل ( ١٦ ) ﴾[ سبأ ] : هكذا تفرق العرب من اليمن ؛ وانتشروا في الجزيرة العربية، وكانوا يخافون من الماء- رغم أنه سر الحياة ؛ وفضلوا التعب في البحث عن الماء للشرب لهم ولأنعامهم ؛ بدلا من الوجود بجانب الماء، ومن عداوة الماء جاءت كلمة " نجا " أي : صعد إلى مكان مرتفع.
واستخدمت كلمة " نجا " في كل موقف ينجو فيه الإنسان من الخطر الداهم١٢، فيقال : " نجا من النار " ؛ " ونجا من العدو " ؛ " ونجا من الحيوان المفترس " ؛ وكلها مأخوذة من النجوة، أي : المكان المرتفع، ويقال في الفعل [ نجا ] : نجا فلان، إذا كانت قوته تسعفه ليخلص نفسه من العذاب.
أما إذا كانت قوته غير قادرة على تخليصه من العذاب، فهو يحتاج إلى من ينجيه، ويقال : " أنجاه "، إذا كانت المسألة تحتاج إلى جهد ومعالجة صعبة ليتحقق الفوز ونسب الفعل فيها إلى الله ؛ فقال " نجينا ".
ويأتي الحق سبحانه في مثل هذا الأمر بضمير الجمع، كقوله تعالى :
﴿ وإنا أنزلناه في ليلة القدر١٣( ١ ) ﴾[ القدر ] : فكل شيء فيه فعل من الحق سبحانه وتعالى يأتي الله فيه بضمير الجمع : إنا.
أما إذا كان الشيء متعلقا بصفة من صفات الذات الإلهية، فإن الحق سبحانه يأتي بضمير الإفراد [ أنا ] مثل قوله تعالى :﴿ إنني أنا الله.. ( ١٤ ) ﴾[ طه ].
وقد أنجى الحق سبحانه شعيبا والذين آمنوا معه ؛ لأن شعيبا عليه السلام قال لقومه :﴿ اعملوا على مكانتكم إني عامل.. ( ٩٣ ) ﴾[ هود ] : وكان عمل شعيب عليه السلام فيه صحة وعزيمة التوكل ؛ لذلك أنجاه الله تعالى والذين آمنوا معه، فهو سبحانه لا يريد من عبادة إلا التوجه بالنية الخالصة الصادقة إليه، فإذا توجه العبد بالنية الصادقة إلى الله، فالحق سبحانه يريح العبد، ويعينه بالاطمئنان على أداء أي عمل.
ومجرد الإيمان بالله تعالى والاتجاه إليه بصدق وإخلاص ؛ يفتح أمام العبد آفاقا من النجاح والرفعة.. والمفتاح في يد العبد ؛ لأن الحق سبحانه قد قال في الحديث القدسي :( من ذكرني في نفسه ذكرته في ملأ خير منه )١٤.
إذن : فالمفتاح في يد العبد.
والحق سبحانه هو القائل :( ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ).
وهكذا يترك الحق سبحانه أمر التقرب إليه للعبد، وعندما يتقرب العبد من الله تعالى، فإنه سبحانه يتقرب إلى العبد أكثر وأكثر.
ثم يقول الحق سبحانه في حديث القدسي :( ومن جاءني يمشي أتيته هرولة )١٥ لأن المشي قد يتعب العبد، لكن لا شيء يتعب الحق سبحانه أبدا ؛ لأنه منزه عن ذلك.
إذن : فالحق سبحانه يريد منا أن نخلص النية في الالتحام بمعية الله تعالى، ليضفي علينا ربنا سبحانه من صفات جلاله وصفات جماله١٦.
وانظروا إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الغار.. يقول الحق سبحانه :﴿ إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.. ( ٤٠ ) ﴾[ التوبة ] : أي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى صاحبه عن الحزن بعلة معية الله سبحانه وتعالى، ولا بد أن أبا بكر الصديق قد قال كلاما يفيد الحزن ؛ لأن الحزن لم يأت له من تلقاء نفسه، بل من قانون كوني، حين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا " لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم عن القانون الكوني، لكنه يتكلم عن طلاقة قدرة المكون سبحانه، فقال :( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ )١٧.
فمعية الله أضفت عليهما شيئا من جلاله وجماله، والله سبحانه لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار١٨.
وقد أنجى الحق سبحانه شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منه سبحانه، والرحمة ألا يصيبك شيء.
ومثال ذلك : إن الإنسان يعالج فيشفى، ومرة أخرى يحميه الله من الداء.
ولذلك انتبهوا إلى حقيقة أن القرآن قد جاء بأمرين : شفاء، ورحمة، فإذا كان هناك داء وترجعه إلى منهج الله ؛ فالحق سبحانه يشفيه، والرحمة ألا يصيبك الداء من البداية.
وأما الذين ظلموا فقد أخذتهم الصيحة، وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ وأخذ الذين ظلموا الصيحة.. ( ٦٧ ) ﴾[ هود ].
وفي هذه الآية يقول الحق سبحانه :﴿ وأخذت الذين ظلموا الصيحة.. ( ٩٤ ) ﴾[ هود ] :
لأن القرآن على جمهرته جاء على لغة قريش، لا ليعلى قريشا ؛ ولكن لأن لغة قريش كانت مصفاة من جميع القبائل العربية، فهي تملك صفوة لغة كل القبائل، ولكن لم يكن ذلك يعني أن نطمس بقية القبائل.
ولذلك جاء في القرآن بعض من لغات القبائل الأخرى، حتى لا يعطى لقريش سيادة في الإسلام كما كان لها سيادة في الجاهلية، لذلك يأتي بلغات القبائل الأخرى، فمرة يأتي بتاء التأنيث ومرة لا يأتي بها.
والتأنيث إما أن يكون حقيقيا١٩ أو مجازيا٢٠. والتأنيث الحقيقي هو المقابل للمذكر، مثل : المرأة. والتأنيث المجازي مثل : " الصيحة " و " الحجرة ". وكانت القبائل العربية تتجاوز في المؤنث المجازي ؛ فمرة تأتي " التاء " ومرة لا تأتي٢١.
وإن كان هناك فصل بين الفعل والفاعل، فالفاصل قائم مقام التأنيث فيقول سبحانه :﴿ وأخذ الذين ظلموا الصيحة.. ( ٦٧ ) ﴾[ هود ] : فكأن الصيحة لها مقدرة على أن تأخذ بما أودعه فيها مرسل الصيحة من قوة الأخذ، وأخذه أليم شديد.
وينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى :﴿ .. فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ٩٤ ) ﴾[ هود ].
ونلحظ أن كل عذاب إنما يحدد له الحق سبحانه موعدا هو الصبح، مثل قوله تعالى :﴿ .. إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ( ٨١ ) ﴾[ هود ].
ومثل قول الحق :﴿ .. فساء صباح المنذرين ( ١٧٧ ) ﴾ [ الصافات ].
والصبح هو وقت الهجمة على الغافل الذي لم يغادره النوم بعد٢٢، مثل زوار الفجر الذين يقبضون على الناس قبيل النهار.
ويقول الحق سبحانه :﴿ .. فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( ٩٤ ) ﴾[ هود ] : ولم يقل سبحانه : " فأصبحوا في دارهم جاثمين " ؛ لأن بعضهم قد لا يكون في بيته، بل في مكان آخر لزيارة أو تجارة.
ومثال ذلك : قصة أبي رغال، وكان في مكة، لكن الحجر الذي قتله بإرادة الله سبحانه نزل عليه في البق
١ - هما نبي الله صالح، ونبي الله لوط عليهما السلام. قال تعالى: ﴿فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه.. (٦٦)﴾ [هود]. وقال تعالى: ﴿فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود (٨٢)﴾ [هود].
أما [ولما جاء أمرنا] فقد جاءت في نبي الله هود في قوله تعالى: ﴿ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه..(٥٨)﴾ [هود]، وكذلك نبي الله شعيب في قوله تعالى: ﴿ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه..(٩٤)﴾ [هود]..

٢ - قبره وأقبره: دفنه في قبر. وهذا الفعل يتعدى بنفسه، ويتعدى بالهمزة، قال تعالى: ﴿ثم أماته فأقبره (٢١)﴾ [عبس] وجمع القبر: قبور، وقال تعالى: ﴿وإذا القبور بعثرت (٤)﴾ [الانفطار] [القاموس القويم ٢/٩٥] بتصرف..
٣ - أنشره: أحياه وأوجده، وقوله تعالى: ﴿ثم إذا شاء أنشره (٢٢)﴾ [عبس] أي: بعثه من قبره، وقال تعالى: ﴿فأنشرنا به بلدة ميتا..(١١)﴾ [الزخرف] أي: أحييناها بماء المطر؛ لأنها كانت ميتة من قبل. [القاموس القويم]..
٤ - السجيل: الطين المتحجر، والمنضود: المتتابع المنتظم السقوط عليهم، ويقول تعالى: ﴿والنخل باسقات لها طلع نضيد (١٠)﴾ [ق] أي: مرصوص بنظام [القاموس القويم ١/ ٣٠٤].
٥ - اليم: البحر أو النهر العذب، قال تعالى: ﴿فأغرقناهم في اليم..(١٣٦)﴾ [الأعراف] وقوله: ﴿فاقذفيه في اليم.. (٣٩)﴾ [طه] النهر العذب [القاموس القويم صـ ٣٧٢ حـ ٢]..
٦ - الصر، الصرصر: البرد الشديد. قال تعالى: ﴿كمثل ريح فيها صر.. (١١٧)﴾ [آل عمران]. والريح: الهواء المتحرك في الجو، وأصلها "روح" قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها، والجمع: رياح، وتجمع أيضا على "أرواح"- على الأصل- وقال تعالى: ﴿.. بريح صرصر عاتية (٦)﴾ [الحاقة] أي: شديدة مدمرة – على سبيل الاستعارة- كأنها إنسان جبار طاغ عات، [القاموس القويم]..
٧ - سبأ: اسم رجل يجمع عدة قبائل نشأت في اليمن، وسميت باسمه مدينة كبيرة باليمن، كانت عاصمة ملك اليمن. قال تعالى: ﴿.. وجئتك من سبأ بنبأ يقين (٢٢)﴾ [النمل] [القاموس القويم ١/ ٢٩٩]..
٨ - السيل: الماء الكثير يجري ويسيل على الأرض، وسيل العرم، أي: سيلان العرم، وهي سدود اليمن، أو سيل المطر الشديد [القاموس القويم ١/ ٣٤٠]..
٩ - الخمط: كل نبات فيه مرارة وحموضة تعافه النفس. قال تعالى: ﴿.. ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل (١٦)﴾ [سبأ] لما غضب الله على سبأ جعل طعامهم هذه الأشياء، وذلك كناية عن شدة الفقر، [القاموس القويم ١ /٢١١]..
١٠ - الأثل: شجر طويل مستقيم الخشب كثير الأغصان، أوراقه دقيقة، وثمره حب أحمر مر لا يؤكل، قال تعالى: ﴿.. ذواتي أكل خمط وأثل شيء من سدر قليل (١٦)﴾ [سبأ] كناية عن ضيق العيش وشدة الفقر. [القاموس القويم ١/٧]..
١١ - السدر: شجر النبق، وهو شجر شائك له ثمر، فيه حلاوة قليلة، واحدته سدرة، وهو كناية عن ضيق العيش، فقد ضيق الله عليهم الرزق لعدم شكرهم. [القاموس القويم ١/٣٠٧]..
١٢ - كل ما غشيك فقد دهمك. ويقال: يدهمهم أي: يفجؤهم. راجع لسان العرب..
١٣ - أنزلناه: ابتدأنا إنزال القرآن العظيم، ليلة القدر: ليلة الشرف والعظمة. [كلمات القرآن للشيخ حسنين مخلوف]..
١٤ - تمام الحديث: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن اقترب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" من حديث أبي هريرة.
١٥ - أخرجه البخاري في صحيحه [٧٤٠٥] والإمام أحمد في مسنده [٢/٣١٥] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
١٦ - صفات الجمال هي الصفات المعبرة عن الرحمة والمغفرة والأمن والسلام مثل: الرحيم، الغفور، السلام، المؤمن. أما صفات الجلال فهي الصفات المعبرة عن القهر والجبروت والضر مثل: القهار، الجبار، الضار، المميت..
١٧ - متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه [٤٦٦٣] ومسلم في صحيحه [٢٣٨١] من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه..
١٨ - يقول رب العزة سبحانه: ﴿ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل (١٠٢) لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (١٠٣)﴾[الأنعام]..
١٩ - المؤنث الحقيقي هو الذي يلد، ويتناسل، ولو كان تناسله من طريق البيض والتفريخ، ولابد في لفظ المؤنث الحقيقي من علامة تأنيث ظاهرة أو مقدرة مثل: فاطمة، ليلى، هند، عصفورة، بقرة.. إلخ. قال تعالى: ﴿إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني..(٣٥)﴾ [آل عمران]، وقوله تعالى: ﴿قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم..(١٨)﴾ [النمل: ١٨]..
٢٠ - المؤنث المجازي هو الذي لا يلج ولا يتناسل، سواء أكان لفظه مختوما بعلامة تأنيث ظاهرة؛ مثل: ورقة، وسفينة.. ، أم مقدرة، مثل: دار، وشمس، ولا سبيل لمعرفة المؤنث المجازي إلا من طريق السماع الوارد عن العرب..
٢١ - يجوز التأنيث وتركه إذا كان الفاعل حقيقي التأنيث ولم يتصل بالعامل- أي: فصل فاصل بين الفعل والفاعل المؤنث- مثل قوله تعالى: ﴿فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك..(٢٥)﴾ [القصص] وقوله تعالى: ﴿إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن.. (١٠)﴾ [الممتحنة] وإذا كان الفاعل مؤنثا مجازيا، كقوله تعالى: ﴿فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها..(١٨)﴾ [محمد]، وأن يكون الفاعل جمع تكسير، كقوله تعالى: ﴿قالت الأعراب آمنا..(١٤)﴾ [الحجرات] وقوله تعالى: ﴿وقال نسوة في المدينة..(٣٠)﴾ [يوسف]. وهناك تفصيلات كثيرة أخرى أنظرها في ["النحو الوافي" لعباس حسن [٤/٥٨٦، ٥٨٧]، و"النحو المصفى" للدكتور محمد عيد [ص ٤٠٢-٤٠٦]]..
٢٢ - وقد قال سبحانه: ﴿ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر (٣٨)﴾ [القمر] والبكرة أول النهار. ويستعان للإسراع إلى الأمر في أي وقت: [القاموس القويم].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك صوفا لمن أخذتهم الصيحة من أهل " مدين " :
﴿ كأن لم يغنوا١ فيها ألا بعدا٢ لمدين كما بعدت ثمود ( ٩٥ ) ﴾ :
أي : أن من يمر على أهل " مدين " بعد ذلك كأنهم لم يكن لهم وجود.
والحق سبحانه يقول :﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا.. ( ٢٤ ) ﴾[ يونس ] : فالإنسان الذي ارتقى حتى وصل إلى الحضارات المتعددة، إلى حد أنه قد يطلب القهوة بالضغط على زر آلة، فإذا شاء الله سبحانه أزال كل ذلك في لمح البصر.
هذه الحياة المرفهة يستمتع فيها الإنسان كمخدوم، وهي غير الجنة التي ينال فيها الإنسان ما يشتهي بمجرد أن يخطر الأمر بباله.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ كأن لم يغنوا فيها... ( ٩٥ ) ﴾[ هود ] : ومادة " الغنى " منها : الغناء- بكسر الغين- وهو ما يغنيه المطربون، ومنها الغناء-بفتح الغين- وهو يؤدي إلى الشيء الذي يغنيك عن شيء آخر، فالغنى بالمال يكتفي عما في أيدي الناس.
وهكذا الغناء ؛ لأن الأذن تسمع كثيرا، والعين تقرأ كثيرا، لكن الإنسان لا يردد إلا الكلام الذي يعجبه، والملحن بطريقة تعجبه ؛ فالغناء هو اللحن المستطاب الذي يغنيك عن غيره.
والغناء، أي : الإقامة في مكان إقامة تغنيك عن الذهاب إلى مكان آخر، وتتوطن في هذا المكان الذي يغنيك عن بقية الأماكن.
إذن : فقول الحق سبحانه :﴿ كأن لم يغنوا٣ فيها.. ( ٩٥ ) ﴾[ هود ] : أي : كأنهم لم يقيموا هنا، ويستغنوا بهذا المكان عن أي مكان سواه.
ويقول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن الكريم :﴿ .. منها قائم وحصيد٤ ( ١٠٠ ) ﴾[ هود ] : أي : أن الأطلال٥ قائمة بما تحتويه من أحجار ورسوم٦، مثل معابد قدماء المصريين ؛ وأنت حين تزورها لا تجد المعابد كلها سليمة، بل تجد عمودا منتصبا، وآخر ملقى على الأرض، وبابا غير سليم، ولو كانت كلها حصيدا ؛ لاختفت تماما، ولكنها بقايا قائمة، ومنها ما اندثر٧.
وهذا يثبت لنا صدق الأداء القرآني بأنه كانت هناك حضارات، لأنها لو ذهبت كله ؛ لما عرفنا أن هناك حضارات قد سبقت.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ .. ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ( ٩٥ ) ﴾[ هود ] : وكلمة " ألا " - كما عرفنا -من قبل- هي " أداة استفتاح " ليلتفت السامع وينصت، فلا تأخذه غفلة عن الأمر المهم الذي يتكلم به المتكلم، وليستقبل السامع الكلام كله استقبال المستفيد.
وكلمة " بعدا " ليست دعاء على أهل مدين بالبعد ؛ لأنها هلكت بالفعل، ومادة كلمة " بعدا " هي : " الباء " و " العين " و " الدال " وتستعمل استعمالين : مرة تريد منها الفراق ؛ والفراق بينونة إلى لقاء مظنون، أما إذا كانت إلى بينونة متيقنة ألا تكون، ولذلك جاء بعدها :﴿ .. كما بعدت ثمود ( ٩٥ ) ﴾[ هود ] : وهي تدل على أنه بعد لا لقاء بعده إلا حين يجمع الحق سبحانه الناس يوم القيامة.
والشاعر٨ يقول :
يقولون لا تبعدْ وهم يدفنوني **** وأين مكان البعد إلا مكانيا
فهذا هو البعد الذي يذهب إليه الإنسان ولا يعود٩.
ولماذا خص الحق سبحانه ثمود بالذكر هنا، وقد سبق أن قال سبحانه عن أقوام آخرين : " ألا بعدا " ؟.
لأن الصيحة قد جاءت لثمود١٠، وبذلك اتفقوا في طريقة العذاب.
وتنتهي هنا قصة شعيب عليه السلام مع مدين، ونلحظ أن لها مساسا برسل مثل موسى عليه السلام، مثلما كان لقوم لوط مساس بإبراهيم عليه السلام.
وهكذا نعلم أن هناك رسلا قد تعاصرت، أي : أن كل واحد منهم أرسل إلى بيئة معينة ومكان معين، ولأن المرسل إليهم هم عبيد الله كلهم ؛ لذلك أرسل لكل بيئة رسولا يناسب منهجه عيوب هذه البيئة.
وإبراهيم عليه السلام هو عم لوط عليه السلام، وموسى عليه السلام هو صهر شعيب عليه السلام، وقد ذهب موسى إلى أهل مدين قبل أن يرسله الله إلى فرعون.
ونحن نعلم أن الأماكن في الأزمنة القديمة كانت منعزلة، ويصعب بينها الاتصال، وكل جماعة تعيش في موقع قد لا يدرون عن بقية المواقع شيئا، وكل جماعة قد يختلف داؤها عن الأخرى.
لكن حين أراد الحق سبحانه بعثه محمد صلى الله عليه وسلم كرسول خاتم، فقد علم الحق سبحانه أزلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميعاد مع ارتقاء البشرية، وقد توحدت الداءات.
فما يحدث الآن في أي مكان في العالم، ينتقل إلينا عبر الأقمار الصناعية في ثوان معدودة، لذلك كان لا بد من الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم.
أما تعدد الرسل وتعدد اللقطات لكل رسول بالقرآن، فليست تكرارا كما يظن السطحيون ؛ لأن الأصل في القصص القرآني أن الحق سبحانه قد أنزله لتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الآيات تنزل من السماء الدنيا بالوحي لتناسب الموقف الذي يحتاج فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تثبيت للفؤاد١١.
ويبين الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتذكر إخوانه من الرسل وما حدث لهم مع أقوامهم وانتصار الله لهم في النهاية، وحين أراد الحق سبحانه أن يقص قصة محبوكة جاء بسورة يوسف.
وهكذا فليس في القرآن تكرار، بل كل لقطة إنما جاءت لتناسب موقعها في تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولنا أن نلحظ أن قصة شعيب عليه السلام مع قومه، ما كان يجب أن تنتهي إلا بأن تأتي فيها لقطة من قصة موسى عليه السلام، وهو صهر شعيب عليه السلام.
والملاحظ أن الحق سبحانه قد ذكر هنا من قصة موسى عليه السلام لقطتين :
اللقطة الأول : وهي الإرسال بالآيات إلى فرعون.
واللقطة الثانية : هي خاتمة فرعون لا مع موسى عليه السلام، ولكن مع الحق سبحانه يوم القيامة، يقول تعالى :﴿ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ( ٩٨ ) وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ( ٩٩ ) ﴾ [ هود ].
وكان لشعيب عليه السلام مهمة تثبيت قلب موسى عليه السلام من الهلع، حين أعلن له أن خائف من أن يقتله قوم فرعون لأنه قتل رجلا منهم، فقال له شعيب عليه السلام ما ذكره الحق سبحانه في قوله :﴿ .. نجوت من القوم الظالمين ( ٢٥ ) ﴾[ القصص ] : وهكذا ثبته وهيأ له حياة يعيش فيها آمنا لمدة ثماني حجج أو أن يتمها عشر حجج١٢، مصداقا لقول الحق سبحانه :﴿ قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني١٣ ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن اشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ( ٢٧ ) قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل ( ٢٨ ) ﴾ [ القصص ]. وهكذا باشر شعيب عليه السلام مهمة في قصة موسى عليه السلام.
ومن هذا ومن ذاك يعطينا الحق سبحانه الدرس بأن الفطرة السليمة لها تقنينات قد تلتقي مع قانون السماء ؛ لأن الحق سبحانه لا يمنع عقول البشر أن تصل إلى الحقيقة، لكن العقول قد تصل إلى الحقيقة بعد مرارة من التجربة، مثلما قنن الحق سبحانه الطلاق في الإسلام، ثم أخذت به بلاد أخرى غير مسلمة بعد أن عانت مر المعاناة.
ومثلما حرم الحق سبحانه الخمر، ثم أثبت العلم مضارها على الصحة، فهل كنا مطالبين بأن نؤجل حكم الله تعالى إلى أن يهتدي العقل إلى تلك النتائج ؟
لا ؛ لأن الحق سبحانه قد أنزل في القرآن قانون السماء الذي يقي الإنسان شر التجربة ؛ لأن الذي أنزل القرآن سبحانه هو الذي خلقنا وهو مأمون علينا، وقد أثبتت الأيام صدق حكم الله تعالى في كل ما قال بدليل أن غير المؤمنين بالقرآن يذهبون إلى ما نزل به القرآن ليطبقوه.
وفي قصة موسى عليه السلام مثل واضح على مشيئة الحق سبحانه، فها هو فرعون الكافر قد قام بتربية موسى بعد أن التقطه لعله يكون قرة عين له١٤، رغم أن فرعون كان يقتل أطفال تلك الطائفة١٥.
ثم تلحظ أخت موسى أخاها، ويرد الحق سبحانه موسى عليه السلام إلى أمه١٦.
وقد صور الشاعر هذا الموقف بقوله :
إذا لم تصادف في بنيك عناية
من الله فقد كذب الراجي وخاب المأمل
فموسى١٧ الذي رباه جبريل كافر
وموسى الذي رباه فرعون مرسل
وقد جاءت قصة موسى عليه السلام هنا موجزة، في البداية وفي النهاية ؛ ليبين لنا الحق سبحانه أن لشعيب دورا مع واحد من أولى العزم من الرسل، وهو موسى عليه السلام.
وكان مقصد موسى عليه السلام قبل أن يبعث-هو ماء مدين، فحدث ما يمكن أن نجد فيه حلا لمشاكل الجنسين- الرجل والمرأة- وهي رأس الحربة التي توجه إلى المجتمعات الإسلامية ؛ لأن البعض يريد أن تتبذل المرأة في مفاتنها، لإغواء الشباب في أعز أوقات شراسة المراهقة.
لكن القرآن حل هذه المسألة في رحلة بسيطة، ولنقرأ قول الحق سبحانه عن موسى :﴿ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان١٨.. ( ٢٣ ) ﴾[ القصص ] : أي : تمنعان الماشية من الاقتراب من المياه، وكان هذا المشهد ملفتا لموسى عليه السلام، وكان من الطبيعي أن يتساءل : ألم تأتيا إلى هنا لتسقيا الماشية ؟ ! وقال القرآن السؤال الطبيعي.
﴿ ما خطبكما١٩.. ( ٢٣ ) ﴾[ القصص ] : فتأتيه الإجابة من المرأتين :﴿ قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء٢٠ وأبونا شيخ٢١ كبير ( ٢٣ ) ﴾ [ القصص ].
وهكذا نعلم أن خروج المرأة له علة أن الأب شيخ كبير، وأن خروج المرأتين لم يكن بغرض المزاحمة على الماء، ولكن بسبب الضرورة، وانتظرتا إلى أن يسقي الرعاة، بل ظلتا محتجبتين بعيدا ؛ لذلك تقدم موسى عليه السلام ليمارس مهمة الرجل :﴿ فسقى لهما.. ( ٢٤ ) ﴾[ القصص ] : وهذه خصوصية المجتمع الإيماني العام، لا خصوصية قوم، ولا خصوصية قربى، ولا خصوصية أهل، بل خصوصية المجتمع الإيمان العام.
فساعة يرى الإنسان امرأة قد خرجت إلى العمل، فيعرف أن هناك ضرورة ألجأتها إلى ذلك، فيقضي الرجل المسلم لها حاجتها.
وأذكر حين ذهبت إلى مكة في عام ١٩٥٠م أن نزل صديقي من سيارته أمام باب منزل، وكان يوجد أمام الباب لوح من الخشب عليه أرغفة من العجين التي لم تخبز بعد، وذهب به إلى المخبز، ثم عاد به بعد خبزه إلى نفس الباب. وقال لي : إن هذه هي عادة أهل مكة، إن وجد إنسانا لوحا من العجين غير المخبوز ؛ فعليه أن يفعل ذلك ؛ لأن وجود هذا اللوح أمام الباب إنما يعني أن الرجل رب البيت غائب.
وهذا كله مأخوذ من كلمة :﴿ فسقى لهما.. ( ٢٤ ) ﴾[ القصص ] : وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأمر الجنود أن تدق الأبواب لتسأل أهل البيوت عن حاجاتهم.
والأمر الثالث والمهم هو أن المرأة التي تخرج إلى مهمة عليها ألا تستمرئ٢٢ ذلك، بل تأخذها على قدر الضرورة، فإذا وجدت منفذا لهذه الضرورة، فعليها أن تسارع إلى هذا المنفذ، ولذلك قالت الفتاة لأبيها شعيب :﴿ .. يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ( ٢٦ ) ﴾[ القصص ] : وينهي شعيب عليه السلام هذا الموقف إنهاء إيمانيا حكيما حازما، فيقول لموسى :﴿ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك.. ( ٢٧ ) ﴾[ القصص ].
وهكذا يعلم موسى- عليه السلام- أن شعيبا لا يُلقى بابنته هكذا دون مهر٢٣، لا.. بل لا بد أن يكون لها مهر، وأيضا تصبح أختها محرمة عليه٢٤.
وهذه القصة وضعت لنا مبادئ تحل كل المشكلات التي يتشدق بها خصوم الإسلام.
وها نحن نجد في الغرب صيحات معاصرة تطالب بأن تقوم المرأة بالبقاء في المنزل لرعاية الأسرة والأولاد ؛ ليس لأن المرأة ناقصة، ولكن لأن كمال المرأة في أداء أسمى مهمة توكل
١ - غنى القوم في ديارهم: طال مقامهم فيها، قال تعالى: ﴿فأصبحوا في ديارهم جاثمين (٩٤) كأن لم يغنوا فيها..(٩٥)﴾ [هود] [القاموس القويم مادة [غنى]]..
٢ - بعد بعدا وبعدا: هلك. قال تعالى": ﴿.. ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود(٩٥)﴾ [هود] أي: هلاكا لمدين كما هلكت ثمود. [القاموس القويم: مادة [بعد]]..
٣ - غنى القوم في ديارهم: طال مقامهم فيها. قال تعالى: ﴿فأصبحوا في ديارهم جاثمين (٩٤) كأن لم يغنوا فيها..(٩٥)﴾ [هود] وقد غنيت الدار بأهلها: عمرت بهم. قال تعالى: ﴿فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس..(٢٤)﴾ [يونس] أي: كأنها لم تعمر. [القاموس القويم: مادة [غنى]]..
٤ - قائم: اسم فاعل من قام، قال تعالى: ﴿وهو قائم يصلي في المحراب..(٣٩)﴾ [آل عمران] وقوله تعالى: ﴿ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد (١٠٠)﴾ [هود] أي: منها ما هو إلى الآن قائم عامر بأهله كالزرع، ومنها ما هلك فصار كالزرع الحصيد [القاموس القويم: مادة قوم]]..
٥ - الأطلال: جمع طلل، وهو ما شخص من آثار الديار القديمة، وقيل: طلل كل شيء شخصه. [انظر لسان العرب]..
٦ - الرسوم: جمع الرسم. وهو بقية الأثر. وقيل: وهو ما لصق بالأرض منها، ورسم الدار: ما كان من آثارها لا صفا بالأرض..
٧ - الدثور: الدروس وامحاء الذكر، وكل شيء امحي وذهب أثره فقد دثر [اللسان بتصرف]..
٨ - الشاعر: هو: مالك بن الريب المازني، شاعر من الظرفاء الأدباء الفتاك، اشتهر في أوائل العصر الأموي، شهد فتح سمرقند وتنسك ومرض في مرو وأحس بالموت فقال قصيدته التي منها هذا البيت وعدتها ٥٨ بيتا أوردها أبو علي القالي كاملة في أماليه [٣/١٥١-١٥٤] توفي عام ٦٠ هجرية، انظر الأعلام للزركلي [٥/٢٦١]..
٩ - البعد: الهلاك، بعد: هلك. فقوله تعالى: [.. ألا بعد لمدين كما بعدت ثمود (٩٥)} [هود] أي: هلاكا لمدين كما هلكت ثمود. والبعد: خلاف القرب، قال تعالى: ﴿يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين..(٣٨)﴾ [الزخرف] أي: مقدار بعد أحدهما من الآخر [القاموس القويم]..
١٠ - قال رب العزة سبحانه: ﴿فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية (٥)﴾ [الحاقة] أي: أهلكوا بالصيحة التي تجاوزت الحد في قوتها. والطغيان: تجاوز الحد، قال تعالى: ﴿إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية (١١)﴾ [الحاقة] أي: زاد وتجاوز الحد فأغرق البلاد [القاموس القويم ١/ ٤٠٢]..
١١ - يقول الحق سبحانه: ﴿وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين (١٢٠)﴾ [هود]. ثبت الأمر: رسخ واستقر ضد تزلزل واضطرب. ويقول تعالى: ﴿يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت..(٢٧)﴾ [إبراهيم] أي: يقوي إيمانهم بالقول الصحيح الثابت وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وذلك ثبات معنوي. [راجع: القاموس القويم ١/ ١٠٥].
١٢ - الحجة –بكسر الحاء-: السنة الكاملة اثنا عشر شهرا، وجمعها: حجج. قال تعالى: ﴿على أن تأجرني ثماني حجج...(٢٧)﴾ [القصص] أي: ثماني سنوات كاملة. [القاموس القويم]..
١٣ - أجر فلان فلانا أجرا: أثابه على عمل أو صار أجيرا له، وبالوجهين فسر قوله تعالى: ﴿على أن تأجرني ثماني حجج..(٢٧)﴾ [القصص] وسمي المهر أجرا مجازا. وقال تعالى: ﴿فأتوهن أجورهن..(٢٤)﴾[النساء] أي: مهورهن. وقال تعالى: ﴿فله أجره عند ربه..(١١٢)﴾ [البقرة] أي: ثواب عمله. [القاموس القويم ١/٨]..
١٤ - يقول رب العزة سبحانه: ﴿وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون (٩)﴾ [القصص]..
١٥ - قال تعالى: ﴿إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين (٤)﴾ [القصص].
١٦ - قال تعالى: ﴿وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين (١٠) وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون (١١) وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون (١٢) فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (١٣)﴾ [القصص]..
١٧ - موسى السامري الذي رباه جبريل خالف أمر ربه بفتنة، فعزل اجتماعيا وكتب عليه العذاب، بخلاف موسى الرسول عليه السلام..
١٨ - ورد يرد وردا وورودا: حضر أو أشرف على المكان- دخله أم لم يدخله، وورد الماء، قصده وبلغه ووصل إليه، واسم الفاعل منه: وارد، واسم المفعول: مورود [القاموس القويم].
أمة من الناس: جماعة كثيرة منهم. [كلمات القرآن للشيخ حسنين مخلوف].
تذودان: تمنعان أغنامهما عن الماء. [كلمات القرآن]..

١٩ - ما خطبكما: ما شأنكما؟ أو ما مطلوبكما؟ [كلمات القرآن]..
٢٠ - يصدر الرعاء: يصرف الرعاة مواشيهم عن الماء [كلمات القرآن]
والصدور: الرجوع والانصراف، يقال: ورد إلى البئر ثم صدر عنها أي: رجع. وصدور دوابه: أرجعها بعد ورودها. [القاموس القويم]..

٢١ - شاخ الإنسان يشيخ: أسن أو ظهرت فيه آثار كبر السن، ويطلق الشيخ على من جاوز الخمسين من عمره. وله جموع كثيرة منها: أشياخ، وشيوخ، ومشايخ ورد منها في القرآن جمع واحد هو: شيوخ، قال تعالى: ﴿ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا..(٦٧)﴾ [غافر] [القاموس القويم ١/ ٣٦٣]..
٢٢ استمرأ الطعام: وجده مريئا أي: جيدا مستساغا، واستمرأ الشيء: أحبه واستزاد منه. [المعجم الوسيط] بتصرف..
٢٣ - المهر: الصداق، والجمع: مهور، وهو الصدقة جمعها صدقات، قال تعالى: ﴿وآتوا النساء صدقتهن نحلة..(٤)﴾ [النساء] قال في فقه السنة [٢/٢١٨]: "لم تجعل الشريعة حدا لقلته، ولا لكثرته، إن الناس يختلفون في الغنى والفقر، ويتفاوتون في السعة والضيق، ولكل جهة عاداتها وتقاليدها، وكل النصوص جاءت تشير إلى أن المهر لا يشترط فيه إلا أن يكون شيئا له قيمة، بقطع النظر عن القلة والكثرة، ويجوز تعجيل المهر وتأجيله، أو تعجيل البعض وتأجيل البعض الآخر حسب عادات الناس وعرفهم"..
٢٤ - الجمع بين الأختين من المحرمات تحريما مؤقتا، يزول التحريم بزوال أسبابه، وذلك بطلاق الأخت طلاقا بائنا وبعد انقضاء عدتها، والحالة الثانية هي وفاتها، ودليل هذا التحريم قوله تعالى: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم..(٢٣)﴾ إلى قوله ﴿.. وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما (٢٣)﴾ [النساء]. وانظر فقه السنة [٢/١٦٩]..
ونحن نعلم أن الآيات إذا وردت في القرآن إنما تنصرف إلى ثلاثة أشياء : آيات كونية تعاصر كل الناس ويراها كل واحد، مثل آيات الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والأرض الخاشعة إذا ما نزل عليها الماء اهتزت وربت١، وكلها آيات كونية تلفت العقل إلى النظر في أن وراء هذا الكون الدقيق تكوينا هندسيا أقامه إله قادر.
وهناك آيات تأتي لبيان صدق الرسول في البلاغ عن الله، وهي المعجزات مثل : ناقة ثمود المبصرة٢، وشفاء عيسى عليه السلام للأكمه والأبرص٣ بإذن الله.
ثم آيات الأحكام التي تبين مطلوبات المنهج ب " افعل " و " لاتفعل ".
وهنا قال الحق سبحانه :﴿ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ( ٩٦ ) ﴾[ هود ] :
فهناك آيات تدل على صدقه، وفوق ذلك سلطان ظاهر، إما أن يكون سلطانا يقعر الغالب، أو سلطانا حجة تقنع العقل.
وسلطان القوة قد يقهر الغالب، لكنه لا يقهر القلب، والله سبحانه يريد قلوبا، لا قوالب ؛ لذلك قال سبحانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ لعلك باخع٤ نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( ٣ ) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( ٤ ) ﴾[ الشعراء ] : إذن : فالحق سبحانه يطلب القلوب لا القوالب، قلوب تأتي إلى الله تعالى طواعية بدون إكراه.
لذلك فالسلطان الأهم هو سلطان الحجة ؛ لأنه يقنع الإنسان أن يفعل.. ولم يكن لموسى عليه السلام سلطان من القوة ليظهر، بل كان له سلطان الحجة، وهو قول الحق سبحانه :﴿ وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ( ١٠٤ ) حقيق٥ على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل ( ١٠٥ ) ﴾[ الأعراف ]، فيرد عليه فرعون :﴿ قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ( ١٠٦ ) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين٦ ( ١٠٧ ) ونزع يده فإذا هي بيضاء٧ للناظرين ( ١٠٨ ) ﴾[ الأعراف ] : وبياض اليد مسألة ذاتية في موسى عليه السلام، وطارئة أيضا، فلم تكن مرضا كالبهاق مثلا، بدليل الاحتياط في قوله تعالى :﴿ واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء٨.. ( ٢٢ ) ﴾[ طه ]
أما العصا فهي الحجة التي دفعت فرعون إلى أن يأتي بالسحرة، ليغلبهم موسى أمام الفرعون والملأ، فيتبع السحرة موسى ويؤمنوا برب موسى وهارون٩.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه قد أرسل موسى عليه السلام بتسع آيات وهي : العصا التي تصير ثعبانا يلقف ما صنع السحرة، واليد البيضاء من غير سوء، ثم أخذ آل فرعون بالسنين، ونقص في الأنفس والثمرات، لأن الجدب يمنع الزرع، ونقص الأموال يحقق المجاعة، وكذلك أرسل الحق سبحانه على قوم فرعون الطوفان والجراد والقمل والضفادع، هذه هي الآيات التسع١٠ التي أرسلها الحق سبحانه على آل فرعون، بسبب عدم إيمانهم برسالة موسى عليه السلام.
وهناك آيات أخرى أرسلها الحق سبحانه لقوم موسى بواسطة موسى عليه السلام، هي نتق الجبل١١، وضرب البحر بالعصا١٢، ثم ضرب الحجر بالعصا لتتفجر اثنتا عشرة١٣ عينا، وكذلك نزول التوراة في ألواح١٤.
إذن : فالكلام في الآيات التسع المقصود بها الآيات التي أرسل بها موسى إلى فرعون، أما هذه الآيات فقد كانت بعد الخروج من مصر أو مصاحبة له كضرب البحر بالعصا.
والدليل على أن قصة موسى مع فرعون خاصة، أن موسى كانت له رسالتان : الرسالة الأولى مع فرعون، والرسالة الثانية مع بني إسرائيل.
ولذلك نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى يخبرنا في آخر السورة بالخلاف بين موسى عليه السلام وبني إسرائيل :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه.. ( ١١٠ ) ﴾ [ هود ] : إذن : فقصته مع بني إسرائيل تأتي بعد إيتائه الكتاب، أي : التوراة.
وهنا يتكلم الحق سبحانه عن آيات موسى عليه السلام مع فرعون فيقول :﴿ ولقد أرسلنا موسى بآيتنا وسلطان مبين ( ٩٦ ) ﴾[ هود ] : أي : سلطان محيط لا يدع
للخصم مكانا أو فكاكا. ١٥
١ - يقول تعالى: ﴿.. وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (٥) [الحج]. "أي: فإذا أنزل الله عليها المطر اهتزت أي تحركت بالنبات وحييت بعد موتها، وربت أي: ارتفعت، ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون من ثمار وزروع" قاله ابن كثير في تفسيره [٣/٢٠٨]..
٢ - قال تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها..(٥٩)﴾ [الإسراء]..

٣ قال تعالى-حكاية عن عيسى عليه السلام: ﴿وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله..(٤٩)﴾ [آل عمران] والكمه: أن يولد أعمى، أو يفقد بصره، والأبرص: من أصابه مرض جلدي يحدث بقعا بيضاء في الجلد تشوه [القاموس القويم]..
٤ - بخع نفسه بخعا وبخوعا: قتلها هما وغيظا وحزنا، قال تعالى: ﴿فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (٦)﴾ [الكهف]، وقال تعالى: ﴿باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (٣)﴾ [الشعراء] [القاموس القويم ١/ ٥٦] بتصرف..
٥ - حقيق على أن: حريص على أن، أو خليق بأن.. [كلمات القرآن]..
٦ - مبين: أي: ظاهر أمره لا يشك فيه. [كلمات القرآن]..
٧ - ونزع يده: أخرجها من طوق قميصه. بيضاء: غلب شعاعها شعاع الشمس [كلمات القرآن].
٨ -إلى جناحك: إلى جنبك تحت العضد الأيسر. [كلمات القرآن]..
٩ - قال تعالى: ﴿فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى (٧٠)﴾ [طه]..
١٠ - قال تعالى: ﴿ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل..(١٠١)﴾ [الإسراء]. وقال تعالى: ﴿فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (١٠٧) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين (١٠٨)﴾ [الأعراف]. وقال تعالى: ﴿وادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه..(١٢)﴾ [النمل]. وقال تعالى: ﴿ولقد أخذنا آلأ فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ١٣٠ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون (١٣١) وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين (١٣٢) فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (١٣٣) ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل (١٣٤) فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون (١٣٥) فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (١٣٦)﴾ [الأعراف]..
١١ - قال تعالى: ﴿وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة..(١٧١)﴾ [الأعراف]. ونتقه: رفعه من مكانه وحركه وجذبه. [القاموس القويم]..
١٢ - قال تعالى: ﴿فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (٦٣)]﴾ [الشعراء] والطود: الجبل الثابت العالي [القاموس القويم ١/ ٤٠٨]..
١٣ - قال تعالى: ﴿فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا..(٦٠)﴾ [البقرة]..
١٤ - قال تعالى: ﴿وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة..(١٤٥)﴾ [الأعراف]. والألواح: جمع لوح، وهو الصفحة العريضة من خشب أو غيره يكتب عليه. [القاموس القويم ٢/ ٢٠٦]..
١٥ الفكاك: فكاك الرهن والأسير: ما فك به. والمراد به هنا: الهروب [المعجم الوسيط] بتصرف..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ إلى فرعون وملئيه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد١ ( ٩٧ ) ﴾ :
والملأ : هم القوم الذين يملأون العيون، ويتصدرون المجالس ويقال : " فلان ملء العين " أي : لا تقتحمه العيون ؛ لأنه واضح ظاهر.
فالملأ- إذن- هم أشراف القوم، وهم -عادة- الذين يزينون للطاغية الاستخفاف بالرعية.
والحق سبحانه يقول :﴿ فاستخفّ٢ قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ( ٥٤ ) ﴾ [ الزخرف ] : وحين يتكلم الحق سبحانه عن فرعون والملأ والقوم، نجده يبين ويفصل بين الملأ من جهة، وفرعون من جهة أخرى، وكذلك يفصل بين الفرعون والملأ من جهة، والقوم من جهة أخرى.. فلكل طرف من تلك الأطراف الثلاثة أسلوب يعامله الحق سبحانه به.
وهنا يبين لنا الله سبحانه أن الملأ قد اتبعوا أمر فرعون، هذا الأمر الذي يصفه الحق سبحانه بقوله :﴿ .. وما أمر فرعون برشيد ( ٩٧ ) ﴾[ هود ] : والرشد يقابله الغيّ، وهذا القول يدلنا على أن الملأ من قوم فرعون لم يتدارسوا أمر فرعون بتأنّ، ولم تستقبله عقولهم بالبحث، وهم لو فعلوا ذلك لما اتبعوا أمر فرعون.
١ - الرشد: ضد الغي والضلال، وضد السفه وسوء التدبير. ورشد فلان: أصاب وجه الصواب والخير والحق. ونفي الرشد نفى للحق والخير والحق. ونفى الرشد نفي للحق والخير والصواب. [القاموس القويم ١/ ٢٦٥] بتصرف..
٢ - خف الحمل: قل ولم يكن ثقيلا، ومن المجاز: خف عقله: طاش وحمق، ومنه: استخفه: أي: استضعف عقله وسخره وسيره على هواه وحمله على الطيش والحمق. قال تعالى: ﴿فاستخف قومه فأطاعوه..(٥٤)﴾ [الزخرف] [القاموس القويم ١ /٢٠٠]..
ويبيّن الحق سبحانه لنا عدم رشد أمر فرعون، فهو يذكر لنا ما يحدث له يوم القيامة هو وقومه، فيقول تعالى :
﴿ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد١ المورود ( ٩٨ ) ﴾ :
وكلمة " يقدم " هي من مادة " القاف " و " الدال " و " الميم ". وعند استخدام هذه المادة في التعبير قولا أو كتابة، فهي تدل على الإقبال بالمواجهة ؛ فيقال : " قدم فلان " دليل إقباله عليك مواجهة، وإذا قيل : " أقبل فلان " فهذا يعني الإقبال بشيء من العزم، و " قدم القوم يقدمهم " أي : أنهم يتقدمون في اتجاه واحد، ومن يقودهم يتقدمهم.
ويفهم من هذا أن فرعون اتبعه الملأ، والقوم اتبعوه الملأ وفرعون، وماداموا قد اتبعوه في الأولى ؛ فلا بد أن يتبعوه في الآخرة.
ويأتي القرآن بآيات ويبينها، مثل قول الحق سبحانه :﴿ فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيّا٢ ( ٦٨ ) ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمان عتيّا ( ٦٩ ) ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليّا ( ٧٠ ) ﴾[ مريم ].
فالحق سبحانه ينزع من كل جماعة الأشد فتوة وسطوة، ويلقيه في النار، لأنه أعلم بمن يجب أن يصلى السعير.
ويقول الحق سبحانه :﴿ وإن منكم إلا واردها٣ كان على ربك حتما مقضيا٤ ( ٧١ ) ثم ننجّي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيّا ( ٧٢ ) ﴾[ مريم ].
ولم يقل الحق سبحانه : " وإن منهم إلا واردها ". وإنما قال :﴿ وإن منكم إلا واردها... ( ٧١ ) ﴾[ مريم ] : وبذلك عمم الخطاب للكل، أو أنه يستحضر الكفار ويترك المؤمنين بمعزل.
وهنا يقول الحق سبحانه عن قوم فرعون :﴿ .. فأوردهم النار وبئس الورد المورود٥ ( ٩٨ ) ﴾[ هود ] : وحين تكلم كتاب الله الكريم عن " الورود "، وهو الكتاب الذي نزل بلسان عربي مبين، نجد أن الورود يأتي بمعنى الذهاب إلى الماء دون شرب من الماء، قلت : " وردَ يردُ وروداً "، وإن أردت التعبير عن شرب الماء مع الورود، فقل : " وردَ يردُ وردا " بدليل أن الحق سبحانه يقول هنا :﴿ .. وبئس الورد المورود ( ٩٨ ) ﴾[ هود ] : أي : أنهم يشعرون بالبؤس لحظة أن يروا ماء جهنم ويشربون منه.
إذن : فكلمة " الورد " تطلق على عملية الشرب من الماء، وقد تطلق على ذات الواردين مثل قوله :﴿ ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا٦ ( ٨٦ ) ﴾[ مريم ].
وقد قال الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى٧ في معلقته :
فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيّم٨.
والشاعر هنا يصف الركب ساعة يرى المياه الزرقاء الخالية من أي شيء يعكرها أو يكدرها، فوضع القوم عصا الترحال.
وكان الغالب قديما أن يحمل كل من يسير عصا في يده، مثل موسى عليه السلام حين قال :﴿ هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى٩ ( ١٨ ) ﴾ [ طه ].
ويقول الشاعر١٠ :
فألقت عصاها واستقر بها النوى١١ **** كما قر عينا بالإياب١٢ المسافر
فساعة رأى الرطب المياه زرقاء، فهذا يعني أنها مياه غير مكدرة.
ونحن نعلم أن المياه لا لون لها، ولكنها توصف بالزرقة إن كانت خالية من الشوائب، شديدة الصفاء، فتنعكس عليها صورة السماء الزرقاء.
والشاعر يصف قومه ساعة أن وصلوا إلى الماء الصافي وتوقفوا وأقاموا في المكان.
وهكذا نجد أن الورود يعني الذهاب إلى الماء دون الشرب منه. والورد للماء يفرح النفس أولا، ثم يورده ويرويه ما يشربه منها، ومن يرد الماء لا شك أنه يعاني من ظمأ يريد أن يرويه، وحرارة كبد يريد أن يبردها.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ .. وبئس الورد المورود ( ٩٨ ) ﴾[ هود ] : وفي هذا تهكم شديد، لأنهم –قوم فرعون- ساعة يرون الماء يشعرون بقرب ري الظمأ وإبراد الحرارة، ولكنهم يشربون من ماء جهنم، فبئس ما يشربون، فهو يطعمهم أولا، ثم يؤيسهم بعد ذلك.
كما في قوله سبحانه :﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي١٣ الوجوه.. ( ٢٩ ) ﴾ [ الكهف ] : فهم ساعة يسمعون كلمة " يغاثوا " يفهمون أن هناك فرج قادما لهم، فإذا ما علموا أنه ماء كالمهل يشوي الوجوه، عانوا من مرارة التهكم.
ولله المثل الأعلى : فأنت قد تجد من يدعوك لأطايب الطعام، وبعد ذلك تغسل يديك، فيلح عليك من دعاك إلى تناول الحلوى، فتستشرف نفسك إلى تناول الحلوى، بينما يكون من دعاك قد أوصى الطباخ أن يخلط الحلوى بنبات " الشطة " فيلتهب جوفك ؛ أليس في هذا تهكم شديد ؟ !
والحق سبحانه يبين لهم أن الورد إنما جاء لترطيب الكبد، لكن أكبادهم ستشعل بما تشربونه من هذا الماء، وكذلك الطعام الذي يأكله أهل النار.
والحق سبحانه يقول :﴿ ولا طعام إلا من غسلين١٤( ٣٦ ) ﴾ [ الحاقة ] : وهكذا تصير النكبة نكبتين.
وبعض الناس قد فهم قول الحق سبحانه :﴿ وإن منكم إلا واردها... ( ٧١ ) ﴾[ مريم ] :
بمعنى أنهم جميعا سوف يردون جهنم.
ولكن الحق سبحانه يقول أيضا :﴿ ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليّا ( ٧٠ ) ﴾[ مريم ] : إذن : فالحق سبحانه يعطي لكل الناس صورة للنار، فإذا رأى المؤمنون النار وتسعرّها١٥، ولم يدخلوها، عرفوا كيف نجَّتهم كلمة الإيمان منها فيحمدون الله سبحانه وتعالى على النجاة.
١ - يقدم قومه: يتقدمهم كما يتقدم الوارد. فأوردهم النار: أدخلهم فيها بكفره وكفرهم.
الورد المورود: المدخل المدخول فيه، وهو النار، [كلمات القرآن]..

٢ - جثيا: باركين على ركبهم لشدة الهول. عتيا: عصيانا، أو جراءة أو فجورا، صليا: دخولا أو مقاساة لحرها. [كلمات القرآن]..
٣ - واردها: أي: بالغ النار، وواصل إليها، فمنهم من يردها ليدخلها، ومنهم من لا يدخلها ويكون وصوله إليها ورؤيتها ليدرك مقدار نعمة الله سبحانه عليه بالنجاة منها. [القاموس القويم ٢/ ٣٣٠]، وورود في [كلمات القرآن]: واردها، أي: بالمرور على الصراط الممدود عليها..
٤ - حتم الله الأمر حتما: أوجبه، وهذا أمر حتم: أي: لازم لابد منه ولا فكاك عنه. والحتم: القضاء النافذ. قال تعالى: ﴿.. كان على ربك حتما مقضيا (٧١)﴾ [مريم] أي: أن ورود المخاطبين من الكفار النار ليعذبوا فيها هو قضاء نافذ لازم، وقيل: يردها المؤمنون أيضا ليدركوا مقدار نعمة الله عليهم بالنجاة منها. مقضيا: أي: محكوما به مفروغا منه، لا راد له، ولا معقب عليه. [القاموس القويم ١/ ١٤١]..
٥ - بئس الورد المورود: أي: بئس الموضع الذي يرده الإنسان فيلاقي فيه العذاب الأليم. [القاموس القويم ٢ /٣٣٠]..
٦ - الورد: الماء أو موضعه، أو الإبل الواردة على سبيل المجاز. قال تعالى: ﴿و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا (٨٦)﴾ [مريم] أي: جماعة يردونها ويدخلونها كما ترد الإبل الماء. [القاموس القويم ٢/ ٣٣٠].
٧ حكيم الشعراء في الجاهلية، من قبيلة مضر، ولد في بلاد "مزينة" بنواحي المدينة، كان أبوه وخاله وابناه كعب وبجير شعراء، وكذلك أختاه سلمى والخنساء، توفي عام [١٣ ق هـ]. [انظر: الأعلام لخير الدين الزركلي]..
٨ - الجمام: ما اجتمع منه في البئر والحوض وغيرها. ووضع العصى: كناية عن الإقامة، لأن المسافرين إذا أقاموا وضعوا عصيهم. والتخيم: ابتناه الخيمة. [راجع: شرح المعلقات السبع للزوزني- ص ٨٢]. والمعلقة من بحر الطويل..
٩ هش الشجر يهشه هشا: ضربه بعصا ليسقط ورقه لتأكله الماشية، قال تعالى: ﴿وأهش بها على غنمي..(١٨)﴾ [طه] أي: أسقط بعصاي أوراق الأشجار على غنمي لتأكلها.
ومآرب أخرى: أي: حاجات وأغراض كثيرة أخرى كاتقاء ضرر أو غير ذلك، [القاموس القويم ١/ ١٧] بتصرف..

١٠ - هو: معقر بن حمار. [قاله ابن منظور في لسان العرب- مادة: نوى]..
١١ - النية والنوى": الوجه الذي ينويه المسافر من قرب أو بعد، والنية والنوى جميعا: البعد، والنوى: الدار، والنوى: التحول من مكان إلى مكان آخر أو من دار إلى دار غيرها، وقد أورد ابن منظور هذا البيت في اللسان مادة: نوى..
١٢ - الإياب: الرجوع والعودة. آب يؤوب: يرجع. ومنه قوله تعالى: ﴿وإن إلينا إيابهم (٢٥)﴾ [الغاشية] أي: رجوعهم. والمآب: المرجع، اسم زمان واسم مكان، [القاموس القويم ١/ ٤٢]..
١٣ -كالمهل: مثل دردى الزيت أو كالمذاب من المعادن. كلمات القرآن] والمهل: المعدن المذاب والقطران وعكر الزيت المغلي، والقيح. [القاموس القويم ٢/ ٢٤٢].
١٤ - الغسلين: غسالة أبدان أهل النار، أو ما يسيل من جلود أهل النار من القيح وغيره مما تعافه النفس وتكرهه. قال تعالى: ﴿ولا طعام إلا من غسلين (٣٦)﴾ [الحاقة]. [القاموس القويم ٢/ ٥٤]..
١٥ - سعرت النار: اشتعلت، وأسعرها: أوقدها وهيجها، وسعرها-بالتشديد-: هيجها. قال تعالى: ﴿وإذا الجحيم سعرت (١٢)﴾ [التكوير] أي: أوقدت بشدة [القاموس القويم ١/ ٣١٣]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود١ ( ٩٩ ) ﴾ :
أي : أن اللعنة قد بقيت لهم، وما زلنا نحن المسلمين نلعنهم إلى الآن، ثم يصيرون إلى اللعنة الكبرى، وهي لعنة يوم القيامة :﴿ بئس الرّفد المرفود ( ٩٩ ) ﴾ : والرفد : هو العطاء، فهل تعد اللعنة في الآخرة عطاء ؟
إن هذا تهكم منهم أيضا، مثلما مثل قول الحق سبحانه :﴿ .. وبئس الورد المورود ( ٩٨ ) ﴾[ هود ].
١ - رفده يرفده رفدا: أعطاه وأعانه، والرفد: العطاء والمعونة، قال تعالى: ﴿وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود (٩٩)﴾ [هود] أي: العطاء المعطى لهم، وهو اللعنة التي أتبعوها في الدنيا والآخرة، وسمى اللعنة رفدا تهكما وسخرية، [القاموس القويم ١/ ٢٧٠]..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد١ ( ١٠٠ ) ﴾ :
وقد أهلك الحق سبحانه تلك القرى بالعذاب ؛ لأنها كذبت أنبياءها. والخطاب موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتثبيت فؤاده، والحق سبحانه إنما يبين له أن الكافرين لن يكونوا بمنجي من العذاب ؛ كما أخذ الله سبحانه الأمم السابقة الكافرة بالعذاب.
وقول الحق سبحانه :﴿ نقصه عليك... ( ١٠٠ ) ﴾[ هود ] : يتطلب أن نفرق بين المعنى الشائع عن القصة، والمعنى الحقيقي لها، فبعض الناس يقول : إن القرآن فيه قصص، والقصص عادة تمتلئ بالتوسع، وتوضع فيها أحداث خيالية من أجل الحبكة.
ولهؤلاء نقول : أنتم لم تفهموا معنى كلمة " القصة " ٢ في اللغة العربية، لأنها تعني –في لغتنا- الالتزام الحرفي بما كان فيها من أحداث، فهي مأخوذة من كلمة : " قصّ٣ الأثر "، ومن يقص الأثر إنما يتتبع مواقع الأقدام إلى أن يصل إلى الشيء المراد.
إذن : فقصص٤ القرآن يتقصى الحقائق ولا يقول غيرها، أما ما اصطلح عليه في عرف العامة أنه قصص، بما في تلك القصص من خيالات وعناصر مشوقة، فهذا ما يسمى – لغويا- بالروايات، ولا يعتبر قصصا.
وقصص الإهلاك للأمم التي كفرت إنما هو عبرة لمن لا يعتبر، والناس تعلم أن ما رواه القرآن من قصص هو واقع تدل عليه آثار الحضارات التي اندثرت، وبقيت منها بقايا أحجار ونقوش على المقابر.
ونحن نجد في آثار الحضارات السابقة ما هو قائم من بقايا أعمدة ونقوش، ومنها ما هو محطم.
ولذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن :﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين ( ١٣٧ ) وبالليل أفلا تعقلون ( ١٣٨ ) ﴾[ الصافات ] : أي : أنكم تشاهدون من الآثار ما هو قائم وما هو حطيم.
ويقول الحق سبحانه عن تلك القرى :
﴿ وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تثبيب٥ ( ١٠١ ) ﴾.
١ - قوله تعالى: ﴿ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد (١٠٠)﴾ [هود] أي: منها باق، ومنها هالك. وقال تعالى: ﴿.. حتى جعلناهم حصيدا خامدين (١٥)﴾ [الأنبياء] أي: جعلناهم كالزرع المحصود، أي: أهلكناهم. [القاموس القويم ١/ ١٥٦]..
٢ - قص الكلام أو الأخبار، يقصها قصا وقصصا: تتبعها ورواها وحكاها. قال تعالى: ﴿فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف..(٢٥)﴾ [القصص] أي: قص عليه أخباره وحدثه بها. وقال تعالى: ﴿ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك..(١٦٤)﴾ [النساء] أي: ورسلا ذكرنا لك أخبارهم، ورسلا لم نذكر لك أخبارهم. [القاموس القويم ٢/ ١٢٠]..
٣ - قص الأثر قصصا: تتبعه. ومنه قوله: ﴿.. فارتد على آثارهما قصصا (٦٤)﴾ [الكهف] أي: يتتبعان آثارهما تتبعا. [القاموس القويم ٢ /١٢٠]..
٤ - القصص: مصدر يطلق على ما يروى من الأخبار. قال تعالى: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب..(١١١)﴾ [يوسف]، وقال تعالى: ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص..(٣) [يوسف]. وقال تعالى: {نحن نقص عليك نبأهم بالحق..(١٣)﴾ [الكهف]. [القاموس القويم ٢/ ١٢٠]..
٥ - التثبيب: الإهلاك والتخسير، والتباب: الهلاك قال تعالى: ﴿.. وما كيد فرعون إلا في تباب (٣٧)﴾ [غافر]. وتببه تتثبيبا: أهلكه، قال تعالى: ﴿.. وما زادوهم غير تثبيب (١٠١)﴾ [هود]. [القاموس القويم ١/ ٩٦]..
ويبين الحق سبحانه هنا أنه حين أخذ تلك الأقوام بالعذاب لم يظلمهم ؛ لأن معنى الظلم أن يكون الإنسان الحق، فتسلبه هذا الحق.
وفي واقع الأمر أن تلك الأمم التي كفرت وأخذها الله بالعذاب، هي التي ظلمت نفسها بالشرك، وكذبت تلك الأقوام الرسل الذين جاءوا وفي يد كل منهم دليل الصدق وأمارات الرسالة.
وهكذا ظلم هؤلاء الكفار أنفسهم ؛ لذلك لابد أن نعلم أن الحق سبحانه منزه عن أن يظلم أحدا.
وهم حين أشركوا بالله -تعالى- آلهة أخرى، لماذا لم تتحرك تلك الآلهة المزعومة وتتدخل لتحمي من آمنوا بها ؟ !
ويخبرنا الحق سبحانه أن الحجارة التي عبدوها تلعنهم، وهم في النار، وهذه الأحجار تكون وقودا للنار.
والحق سبحانه يقول عن النار :﴿ فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة١... ( ٢٤ ) ﴾[ البقرة ] : وهؤلاء الذين عبدوا واحدا من الناس أو بعضا من الأصنام، إنما تجنوا، بالجهل على هذا الإنسان الذي عبدوه أو تلك الأحجار التي صلوا لها أو قدسوها.
والشاعر المسلم تأمل غار حراء وغار ثور –وكلاهما من الأحجار- فوجد أن غار حراء قد شهد نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم، وغار ثور حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اختفى فيه ومعه الصديق أبو بكر في أثناء الهجرة من مكة إلى المدينة، فتخيل الشاعر أن غار ثور قد حسد غار حراء وقال :
كَمْ حسدناَ حراء حين يَرى الرُّوحَ **** أميناً يغْزُوكَ بالأنْوارِ
فَحِراءٌ وثَوْرٌ صَارَا سَوَاءً **** بِهما تشفّع لأمة الأحجار
فغار حراء شهد جبريل وهو يهبط بالنور على محمد صلى الله عليه وسلم، لكن غار ثور نال أيضا الشرف لحمايته الرسول في الهجرة.
ويقول الشاعر على لسان الأحجار :
عَبَدُونَا وَنحْنُ أعبَدُ**** لله مِنَ القَائِمِينَ بالأسحارِ٢.
قد تجنّوْا جَهْلاً كَمَا قَد تجنّوْا **** على ابنِ مريمَ والحوَاري٣
للمغَالي جزاؤه والمغَالي فيه **** تنجيه رحْمَةُ الغفّارِ
وهكذا لا تغني عنهم آلهتهم المعبودة شيئا سواء أكانت بشرا أم حجارة، لم تغن عنهم شيئا ولم ترفع عنهم العذاب الذي تلقوه عقابا في الدنيا وسعيرا في الآخرة، وإذا كانوا قد دعوهم من دون الله في الدنيا، فحين جاء العذاب لم تتقدم تلك الآلهة لتحميهم من العذاب.
وينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ .. وما زادوهم غير تتبيب ( ١٠١ ) ﴾ [ هود : أي : أن تخلي تلك الآلهة التي أشركوها مع الله تعالى أو عبدوها من دون الله. هذا التخلي يزيدهم ألما وإهلاكا نفسيا وتخسيرا، لأن التتبيب هو القطع والهلاك.
والحق سبحانه يقول :﴿ تبت يدا أبي لهب وتب٤ ( ١ ) ﴾[ المسد ] : كذلك الأخذ الذي أخذ الله به القرى التي كذبت أنبياءها.
لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد٥ ( ١٠٢ ) ﴾ :
١ - الوقود: ما يشتعل به النار من حطب وغيره. قال تعالى: ﴿النار ذا الوقود (٥)﴾ [البروج] أي: ذات الحطب الذي يلقي فيها ليزيدها اشتعالا؛ وذلك يدل على حرص الكفار القاعدين حولها على زيادة اشتعالها ليعذبوا بها المؤمنين أشد العذاب- كما حدث في قصة أصحاب الأخدود- ولكن النار في الآخرة يكون وقودها الناس والحجارة، والمراد بالناس هنا: الكفار والعصاة الذين يكون مصيرهم إلى النار. قال تعالى: ﴿.. وأولئك هم وقود النار (١٠)﴾ [آل عمران]. [القاموس القويم ٢/ ٣٤٨] بتصرف..
٢ - الأسحار: جمع السحر. بفتح السين والحاء. وهو الجزء الأخير من الليل إلى مطلع الفجر. قال تعالى: ﴿.. والمستغفرين بالأسحار (١٧)﴾ [آل عمران]، وقال: ﴿وبالأسحار هم يستغفرون (١٨)﴾ [الذاريات]. [القاموس القويم ١/ ٣٠٥]..
٣ - الحواري: هم الحواريون، وهم الخلصاء والأصفياء للأنبياء، قال تعالى: ﴿قال الحواريون نحن أنصار الله..(٥٢) [آل عمران] والحواري: الخالص النقي من كل شيء. [القاموس القويم ١/١٧٧]..
٤ - تب يتب تبا وتبابا: خسر وهلك، قال تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب (١)﴾ [المسد] وهو دعاء عليه بالخسران والهلاك، ودعا عليه أولا بان تهلك يداه لأنهما آلة البطش والإيذاء. [القاموس القويم ١/٩٦]..

٥ - الأليم: المؤلم شديد الإيلام والوجع. قال تعالى: ﴿.. ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (١٠)﴾ [البقرة]. والألم: الوجع الشديد. [القاموس القويم ١/ ٢٦] بتصرف..
أي : أن الأخذ الذي أخذ به الله القرى الكافرة، إنما هو مثل حي لكل من يكفر.
والحق سبحانه يقول :
﴿ والفجر ( ١ ) وليال عشر ( ٢ ) والشفع والوتر ( ٣ ) والليل إذا يسر ( ٤ ) هل في ذلك قسم لذي حجر١ ( ٥ ) ﴾ [ الفجر ] : أي : أن الحق سبحانه يقسم لعل كل صاحب عقل يستوعب ضرورة الإيمان، ويضرب الأمثلة بالقوم الذين جاءهم الأخذ بالعذاب، فيقول سبحانه :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ( ٦ ) إرم ذات العماد ( ٧ ) التي لم يخلق مثلها في البلاد ( ٨ ) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ( ٩ ) وفرعون ذي الأوتاد ( ١٠ ) الذين طغوا في البلاد ( ١١ ) فأكثروا فيها الفساد ( ١٢ ) فصب عليهم ربك سوط عذاب ( ١٣ ) إن ربك لبالمرصاد٢ ( ١٤ ) ﴾ [ الفجر ] : فهو سبحانه قد أخذ كل هؤلاء أخذ العزيز المقتدر.
وقوله سبحانه هنا :﴿ وكذلك.. ( ١٠٢ ) ﴾[ هود ] : أي : مثل الأخذ الذي أخذت به القرى التي كذبت رسلها، فظلمت نفسها.
والأخذ هنا عقاب على العمل، بدليل أنه أنجى شعيبا عليه السلام وأخذ قومه بسبب ظلمهم، فالذات الإنسانية بريئة، ولكن الفعل هو الذي يستحق العقاب.
ومثال ذلك : نجده في قصة نوح عليه السلام حين قال له الحق سبحانه :﴿ إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح.. ( ٤٦ ) ﴾[ هود ] : فالذي وضع ابن نوح في هذا الموضع هو أن عمله غير صالح ؛ لذلك فلا يقولن نوح : إنه ابني فليس الإهلاك بعلّة الذات والدم والقرابة، بل الإهلاك بعلّة العمل، فأنت لا تكره شخصا يشرب الخمر لذاته، وإنما تكرهه لعمله، ونحن نعلم أن البنوة للأنبياء ليست بنوة الذوات، وإنما بنوة الأعمال.
وكذلك نجد الحق سبحانه ينبه إبراهيم عليه السلام ألا يدعو لكل ذريته، فحين كرم الحق سبحانه إبراهيم عليه السلام وقال :﴿ إني جاعلك للناس إماما٣.. ( ١٢٤ ) ﴾[ البقرة ].
جاء الطلب والدعاء من إبراهيم عليه السلام لله تعالى﴿ ومن ذريتي٤.. ( ١٢٤ ) ﴾ [ البقرة ] : لأن إبراهيم عليه السلام أراد أن تمتد الإمامة إلى ذريته أيضا، فجاء الرد من الله سبحانه :﴿ .. لا ينال عهدي الظالمين ( ١٢٤ ) ﴾[ البقرة ] : وظلت هذه القضية في بؤرة شعور إبراهيم عليه السلام، وعلم تماما أن البنوة للأنبياء ليست بنوة ذوات، بل هي بنوة أعمال.
ولذلك نجد دعاء إبراهيم عليه السلام حين نزل بأهله في واد غير ذي زرع، وقال :﴿ ب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات... ( ١٢٦ ) ﴾[ البقرة ].
وهنا انتبه إبراهيم عليه السلام وأضاف :﴿ من آمن منهم... ( ١٢٦ ) ﴾[ البقرة ].
فجاء الرد من الحق سبحانه موضحا خطأ القياس ؛ لأن الرزق عطاء ربوبية يستوي فيه المؤمن والكافر، والطائع والعاصي ؛ فلا تخلط بين عطاء الربوبية٥ وعطاء الألوهية تكليف، وعطاء الربوبية رزق، لذلك قال الحق سبحانه :﴿ .. ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ( ١٢٦ ) ﴾ [ البقرة ].
فأنت يا إبراهيم دعوت برزق الأهل بالثمرات لمن آمن، لأن بؤرة شعورك تعي الدرس، لكن هناك فرقا بين عطاء الألوهية في التكليف، وعطاء الربوبية في الرزق، فمن كفر سيرزقه ربه، ويمتعه قليلا ثم يكون له حساب آخر.
إذن : فأخذ الحق سبحانه للظالمين بكفرهم هو عنف التناول لمخالف، وتختلف قوة الأخذ بقوة الآخذ، فإذا كان الآخذ هو الله سبحانه، فهو أخذ عزيز مقتدر.
وهو أخذ لمن ظلموا أنفسهم بقمة الظلم وهو الكفر، وإن كان الظلم لحقوق الآخرين فهو فسق، وأيضا ظلم النفس فسق ؛ لأن الحق سبحانه حين يحرم عليك أن تظلم غيرك فهو قد حرم عليك أيضا ظلم نفسك ويصف الحق سبحانه أخذه للظالمين بقوله :﴿ .. إن أخذه أليم شديد ( ١٠٢ ) ﴾ [ هود ] : أي : أن أخذه موجع على قدر طلاقة قدرته سبحانه.
وهب أن إنسانا أساء إلى إنسان، فالحق سبحانه أعطى هذا الإنسان أن يرد السيئة بسيئة، حتى لا تتراكم الانفعالات وتزداد.
لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم٦ به.. ﴾ [ النحل ] : حتى لا تبيت انفعالاتك عندك قهرا، ولكن من كان لديه قوة ضبط النزوع فعليه أن ينظر في قول الحق سبحانه :﴿ والكاظمين الغيظ٧.. ( ١٣٤ ) ﴾{ آل عمران ].
إذن : فإما أن ترد السيئة بعقاب مماثل لها، وإما أن تكظم غيظك، أي : لا تُترجم غيظك إلى عمل نزوعي، وإما أن ترتقي إلى الدرجة الأعلى وهي أن تعفوا ؛ لأن الله تعالى يحب من يحسن بالعفو٨.
ولذلك حين سألوا الحسن البصري : كيف يحسن الإنسان إلى من أساء إليه ؟
أجاب : إذا أساء إليك عبد، ألا يغضب ذلك ربه منه ؟ قالوا : نعم قال : وحين يغضب الله من الذي أساء إليك ؛ ألا يقف إلى جانبك ؟ أفلا تحسن إلى من جعل الله يقف إلى جانبك ؟
ولهذا السبب يروى عن أحد الصالحين٩ أنه سمع أن شخصا اغتابه ؛ فأهدى إليه-مع خادمه- طبقا من بواكير١٠ الرطب، وتعجب الخادم متسائلا : لماذا تهديه الرطب وقد اغتابك ؟
قال العارف بالله : بلغه شكري وامتناني لأنه تصدق علي بحسناته عندما اغتباني، وحسناته –بلا شك- أنفس من هذا الرطب.
ولذلك يقال : إن الذي يعفو أذكى فهما ممن عاقب، لأن الذي يعاقب إنما يعاقب بقوته ؛ والذي يعفو فهو الذي يترك العقاب لقوة الله تعالى، وهي قوة لا متناهية.
وهكذا نفهم قول الحق سبحانه :﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى١١ وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ( ١٠٢ ) ﴾ [ هود ].
أي : أخذ موجع على قدر قوة الله سبحانه ؛ وهو أخذ شديد ؛ لأن الشدة تعني : جمع الشيء إلى الشيء بحيث يصعب انفكاكه ؛ أو أن تجمع شيئين معا وتقبضهما بحيث يصعب تحلل أي منهما عن الآخر. وهذه أقوى غاية القوة.
١ - والفجر: قسم من الله تعالى بالوقت المعروف [وقت الفجر].
وليسا عشر: العشر الأول من ذي الحجة.
والشفع والوتر: يوم النحر، ويوم عرفة.
والليل إذا يسر: إذا يمضي ويذهب أو يسار فيه.
هل في ذلك: أي: في المذكور الذي أقسمناه به.
قسم لذي حجر؟: مقسم به حقيق بالتعظيم لدى العقلاء -نعم- (وجواب القسم(لنعذبن الكافرين) [كلمات القرآن] للشيخ حسنين محمد مخلوف..

٢ - بعاد: قوم هود، سموا باسم أبيهم.
إرم: هو اسم جدهم وبه سميت القبيلة.
ذات العماد: الشدة، أو الأبنية الرفيعة المحكمة بالعمد.
جابوا الصخر: قطعوه ونحتوا فيه بيوتهم.
ذي الأوتاد: الجيوش الكثيرة التي تشد ملكه.
سوط عذاب: عذابا شديدا مؤلما دائما.
إن ربك لبالمرصاد: يرقب أعمالهم ويجازيهم عليها. [كلمات القرآن]..

٣ - قوله تعالى: ﴿إني جاعلك للناس إماما...(١٢٤)﴾ [البقرة] أي: قدوة يقتدي به الناس، ويقول تعالى: ﴿يوم ندعو كل أناس بإمامهم..(٧١)﴾ [الإسراء] أي: برسولهم فيقال: يا أتباع إبراهيم، وأمة موسى، ويا أمة محمد –أو بكتابهم، فيقال: يا أمة التوراة، ويا أمة الإنجيل، ويا أمة القرآن [القاموس القويم ١/ ٣٣]..
٤ - الذرية: للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث من نسل الإنسان. قال تعالى: ﴿وله ذرية ضعفاء..(٢٦٦)﴾ [البقرة] وقال تعالى: ﴿ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب..(٢٦)﴾ [الحديد] وقال تعالى: ﴿.. وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (٣٦)﴾ [آل عمران] وقال تعالى: ﴿ومن ذريتنا أمة مسلمة لك..(١٢٨)﴾ [البقرة] وقال تعالى: ﴿ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين (٧٤)﴾ [الفرقان] بالجمع، وقال تعالى: ﴿ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم..(٨٧)﴾ [الأنعام] بالجمع، ورسمت بغير ألف في المصحف، وقال تعالى: ﴿وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (١٢٤)﴾ [البقرة]. [القاموس القويم ١/٢٤٢] بتصرف..
٥ - عطاء الربوبية عام، وعطاء الألوهية خاص، فالعطاء العام لكل مخلوق، والعطاء الخاص لأهل التكليف عن الإيمان السخي واليقين النقي. من حكم الشيخ..
٦ - عاقبه عقابا: جازاه سوءا بما فعل، قال تعالى ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به..(١٢٦)﴾[النحل] والعقاب والمعاقبة: إيقاع الجزاء على الذنب. قال تعالى: ﴿.. إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم (٤٣)﴾ [فصلت].[القاموس القويم ٢/٢٩]..
٧ - الكاظمين الغيظ: الحابسين غيظهم في قلوبهم، [كلمات القرآن]، وكظم الغيظ: إمساكه وحبسه في النفس والصبر عليه. [القاموس القويم ٢/ ١٦٣]..
٨ - يقول الله سبحانه: ﴿وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين (١٣٣) الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (١٣٤)﴾ [آل عمران].
ويقول الحق سبحانه أيضا: ﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (٣٤)﴾ [فصلت]..

٩ - هو الحسن البصري، روى أن رجلا قال له: إن فلانا قد اغتابك فبعث إليه رطبا على طبق وقال: قد بلغني أنك هديت إلي من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام. أورده الغزالي في الإحياء (٣/١٥٤)..
١٠ - البواكير: جمع باكور أو باكورة، وهي أول ما يدرك من الثمر، وهي أيضا المعجل من كل شيء [المعجم الوسيط: مادة [ب ك ر]] بتصرف..
١١ - القرى: حمع قرية وهي البلدة الكبيرة وتكون أقل من المدينة، أو هي كل مكان اتصلت به الأبنية. قال تعالى: ﴿واسأل القرية التي كنا فيها..(٨٢)﴾ [يوسف] أي: أهل القرية، مجاز مرسل علاقته المحلية. وكذلك قوله تعالى: ﴿وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم (١٣)﴾ [محمد] والمراد: أهلها أشد من أهل مكة الذين أخرجوك، وقوله تعالى: ﴿إذا أخذ القرى وهي ظالمة..(١٠٢)﴾ [هود] أي: أخذ أهلها وهم ظالمون. [القاموس القويم: مادة [ق ر ى]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع١ له الناس وذلك يوم مشهود٢ ( ١٠٣ ) ﴾ :
من يخاف عذاب الآخرة، فإن هذه الآيات التي تخبر عن الذي حدث للأمم السابقة، إنما تلفته إلى ضرورة الإيمان بأن الله سبحانه يحاسب كل إنسان على الإيمان وعلى العمل.
ومن يسمع لقصص الأقوام السابقة ؛ ويعتبر بما جاء فيها ؛ وينتفع بالخبرة التي جاءت منها ؛ فهو صاحب بصيرة نافذة ؛ فكل ما حدث للأقوام السابقة آيات ملفتة.
ولذلك يقال : " إن لكل آية مواليد ؛ هي العبر بالآيات " ومن لا يؤمن فهو لن يعتبر ؛ مصداقا لقول الحق سبحانه. ﴿ وكأين٣ من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون٤ ( ١٠٥ ) ﴾[ يوسف ].
إذن : فقد شاء الحق سبحانه أن يلفتنا بالآيات لنعتبر بها ونكون من أولي الألباب٥ ؛ فلا تدخل في دائرة من لا يخافون العذاب ؛ أولئك الذين يتلقون العذاب خزيا في الدنيا وجحيما في الآخرة ؛ وعذاب الآخرة لا نهاية له ؛ والفضيحة فيه أمام كل الخلق.
لذلك قال الحق سبحانه :﴿ .. ذلك يوم مجموع له للناس وذلك يوم مشهود ( ١٠٣ ) ﴾[ هود ]. أي : أن الفضيحة في هذا اليوم تكون مشهودة من كل البشر ؛ من لدن آدم إلى آخر البشر ؛ لذلك تكون فضيحة مدوية أمام من يعرفهم الإنسان ؛ وأمام من لا يعرفهم.
وقول الحق سبحانه :﴿ ذلك يوم مجموع له الناس.. ( ١٠٣ ) ﴾[ هود ] : وكلمة " مجموع " تقتضي وجود " جامع " ؛ و " المجموع " يتناسب مع قدرة " الجامع " ؛ فما بالنا والجامع هو الحق الخالق لكل الخلق سبحانه وتعالى.
ولا يجتمع الخلق يومها عن غفلة ؛ بل يجتمعون وكلهم انتباه ؛ فالحق سبحانه يقول :﴿ .. إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ( ٤٢ ) ﴾[ إبراهيم ].
ويقول الحق سبحانه أيضا :﴿ واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا.. ( ٩٧ ) ﴾[ الأنبياء ].
وهنا يقول سبحانه :﴿ .. وذلك يوم مشهود ( ١٠٣ ) ﴾ [ هود ] : أي : أن كل الخلق سيشهدون هذا الفضح المخزي لمن لم يعتبر بالآيات.
١ - مجموع: اسم مفعول من جمع. والأمر الجامع: الأمر العظيم الذي يجتمع الناس له. والجامع: اسم فاعل من جمع، وهو من أسماء الله الحسنى، قال تعالى: ﴿ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه..(٩)﴾ [آل عمران] وقال تعالى: ﴿وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه..(٦٢)﴾ [النور] [القاموس القويم. مادة [ج م ع ]]..
٢ - مشهود: اسم مفعول، قال تعالى: ﴿وذلك يوم مشهود (١٠٣)﴾ [هود] أي: حضره الناس، وشاهدوا هوله أو حضرته ملائكة العذاب، وقوله: ﴿إن قرآن الفجر كان مشهودا (٧٨)﴾ [الإسراء] أي: إن قرآن الفجر تشهده الملائكة وتسجل ثوابه، ومشهد: اسم مكان، واسم زمان ومصدر ميمي، كما في قوله تعالى: ﴿فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم (٣٧)﴾ [مريم] [القاموس القويم: بتصرف ص ٣٥٩ جـ١]..
٣ - ﴿وكأين من آية.. (١٠٥)﴾ [يوسف]: أي: كم من آية. أو كثير من الآيات. [كلمات القرآن للشيخ حسنين مخلوف]..
٤ - معرضون: اسم فاعل من "أعرض" و أعرض عن الشيء: ولى منصرفا عنه غير راغب فيه. قال تعالى: ﴿وأعرض ونأى بجانبه..(٨٣)﴾ [الإسراء] [القاموس القويم: مادة [ع ر ض ]]..
٥ - الألباب: جمع لب. وهو العقل. وقد وردت في القرآن ١٦ مرة. يقول تعالى: ﴿.. إنما يتذكروا أولوا الألباب (١٩)﴾ [الرعد]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك في ميعاد هذا اليوم :
﴿ وما نؤخره إلا لأجل معدود١ ( ١٠٤ ) ﴾ :
وهكذا نعلم أن تأخر مجيء يوم القيامة ؛ لا يعني أنه لن يأتي ؛ بل سوف يأتي –لا محالة- ولكن لكل حدث ميعاد ميلاد، ولكم في تتابع مواليدكم ما يجعلكم تثقون بأن مواليد الأحداث إنما يحددها الله.
وقول الحق سبحانه :﴿ وما نؤخره إلا لأجل.. ( ١٠٤ ) ﴾[ هود ].
يتطلب أن نعرف أن كلمة " الأجل " تطلق مرة على مدة عمر الكائن من لحظة ميلاده إلى لحظة نهايته.
والحق سبحانه يقول :﴿ .. لكل أجل كتاب٢ ( ٣٨ ) ﴾[ الرعد ] : وتطلق كلمة " الأجل " مرة أخرى على لحظة النهاية وحدها، مصداقا لقول الحق سبحانه :﴿ .. فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون٣ ( ٣٤ ) ﴾ [ الأعراف ] : ولنعرف جميعا أن كل أجل-وإن طال- فهو معدود، وكل معدود قليل مهما بدا كثيرا ؛ لذلك فلنقل أن كل معدود قليل، ما دمنا قادرين على إحصائه.
١ - معدود: اسم من الفعل [عدّ] قال تعالى: ﴿أياما معدودة..(٨٠)﴾ [البقرة] أي: محسوبة قليلة، هي أيام شهر رمضان، وقال تعالى: ﴿وما نؤخره إلا لأجل معدود (١٠٤)﴾ [هود] وقال تعالى: ﴿لقد أحصاهم وعدهم عدا (٩٤)﴾ [مريم]. والأجل: مدة الشيء وغاية الوقت ووقت الحياة أو وقت الدين أو وقت الموت. والمراد به هنا يوم القيامة. [القاموس القويم: [مادة ع د د ]، و [مادة أ ج ل ]] بتصرف
.

٢ - الكتاب: له عدة معان، منها القرآن، والتوراة، والإنجيل، والرسالة، ومصدر كتب، ويسمى ما كتب وسجل في صحف، ومصدر كاتب، قال تعالى: ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه...(٢)﴾ [البقرة] وقال تعالى: ﴿اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم..(٢٨)﴾ [النمل. وقال تعالى: ﴿وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله..(٦)﴾ [الأحزاب] أي: في حكمه وتقديره أو في القرآن الكريم في آيات المواريث، وقال تعالى: ﴿لولا كتاب من الله سبق..(٦٨)﴾ [الأنفال] أي: ولولا قضاء من الله من قبل سجله سبحانه عنده؛ فلا تغيير له، وهو إباحة الفداء، وقال تعالى: ﴿.. لكل أجل كتاب (٣٨)﴾ [الرعد] أي: موعد مكتوب مسجل عند الله. وقال تعالى: ﴿.. إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا (١٠٣)﴾ [النساء] أي: فرضا مسجلا عنده سبحانه، كل صلاة في وقت وفي ميعاد محدد معين [القاموس القويم: مادة [ك ت ب]] بتصرف..
٣ - تأخر واستأخر: ضد تقدم. قال تعالى: ﴿قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون (٣٠)﴾ [سبأ] أي: لا تتأخرون ولا تطلبون التأخير ولا التأجيل، ولا تتقدمون لأنه محدد بوقت معلوم يستحيل تقديمه أو تأخيره [القاموس القويم: مادة [أ خ ر]]..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي١ وسعيد ( ١٠٥ ) ﴾ :
وهنا جمع الحق سبحانه جماعة في حكم واحد، فقوله تعالى :﴿ لا تكلم نفس... ( ١٠٥ ) ﴾ [ هود ] : يعني : لا تتكلم أي نفس٢ إلا بإذن الله، وقد كانوا يتكلمون في الحياة الدنيا بطلاقة القدرة التي منحهم إياها الله سبحانه حين أخضع لهم جوارحهم.
وجعل الحق سبحانه الجوارح مؤتمرة بأمر الإنسان ؛ وشاء سبحانه أن يجعل بعض من خلقه نماذج لقدرته على سلب بعض تلك الجوارح ؛ فتجد الأخرس الذي لا يستطيع الكلام ؛ وتجد المشلول الذي لا يستطيع الحركة ؛ وتجد الأعمى الذي لا يبصر، وغير ذلك.
وبتلك النماذج يتعرف البشر على حقيقة واضحة هي أن ما يتمتعون به من سيطرة على جوارحهم هو أمر موهوب لهم من الله تعالى ؛ وليست مسألة ذاتية فيهم.
وقول الحق سبحانه :﴿ يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه.. ( ١٠٥ ) ﴾ [ هود ] : يبين لنا سبحانه حقيقة تسخير الجوارح لطاعتنا في الدنيا، فهي ترضخ لإرادتنا ؛ لأنه سبحانه شاء أن يسخرها لأوامرنا ولانفعالاتنا، ولا أحد فينا يتكلم إلا في إطار الإذن العام للإرادة أن تنفعل لها الجوارح.
وقد يسلب الله سبحانه هذا الإذن فلا تنفعل الجوارح للإرادة، فتجد الحق سبحانه يقول في آية أخرى :﴿ لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا ( ٣٨ ) ﴾[ النبأ ].
ويقول الحق عز وجل في آية أخرى :﴿ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( ٢٧ ) ﴾[ الصافات ].
وهناك آية أخرى يقول فيها الحق سبحانه :﴿ هذا يوم لا ينطقون ( ٣٥ ) ولا يؤذن لهم فيعتذرون ( ٣٦ ) ﴾[ المرسلات ].
ويقول الحق سبحانه أيضا :﴿ يوم تأتي كل نفس تجادل٣ عن نفسها.. ( ١١١ ) ﴾ [ النحل ].
وفي موضع آخر يقول سبحانه :﴿ وقفوهم٤ إنهم مسؤولون ( ٢٤ ) ﴾[ الصافات ].
وهكذا قد يخيل للبعض أن هناك آيات تناقض بعضها، فهناك آيات تسمح بالكلام، وهناك آيات تنفي القدرة على الكلام.
وأقول : يجب أن نفهم أن الكلام الذي سيعجز الأشقياء عن نطقه يوم القيامة هو الكلام المجدي النافع٥، وسيتكلم البعض كلام السفسطة الذي لا يفيد، مثل لومهم بعضهم البعض، وذكره لنا القرآن في قوله سبحانه :﴿ وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا٦ من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا.. ( ٢٩ ) ﴾ [ فصلت ] :
وهذا كلام لا يشفع لصاحبه ولا يجدي.
إذن : فالممنوع هو الكلام المجدي المفيد، أو أن مقامات القيامة متفاوتة ؛ فوقت يتكلمون فيه ؛ ووقت يؤخذون فيه، فينبهرون ولا يتكلمون، ويأمر الحق سبحانه الجوارح المنفعلة أن تتكلم وتشهد عليهم٧.
ويقسم الحق سبحانه أحوال الناس قسمين، كما في قوله تعالى في آخر الآية :﴿ .. فمنهم شقي٨ وسعيد ( ١٠٥ ) ﴾ [ هود ] : وجاء بالاسم المحدد لكل من القسمين : " شقي " وسعيد " ؛ لأن الاسم يدل على الثبوت، فالشقاء ثابت لمن نعت بالشقي ؛ والسعادة ثابتة لمن نعت بالسعيد٩.
١ - شقي شقا وشقاء وشقاوة: ساءت حالته المادية أو المعنوية، فهو شقي، واسم التفضيل: أشقى قال تعالى: ﴿قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا..(١٠٦)﴾ [المؤمنون] أي: حالة الشقاء والضلال وفساد النفوس. والشقي: المحروم من الخير، قال تعالى: ﴿.. ولم أكن بدعائك رب شقيا (٤)﴾ [مريم]، أي: لم يسبق لي أن كنت محروما من الخير حين أدعوك. [القاموس القويم: مادة [ش ق ى]]..
٢ - النفس: الروح وذات الشيء وحقيقته مصداقا لقوله تعالى: ﴿هو الذي خلقكم من نفس واحدة.. (١٨٩)﴾ [الأعراف] هي نفس آدم عليه السلام، وقوله: ﴿تعلم ما في نفسي..(١١٦)﴾ [المائدة] أي: ما أستره في ضميري، وقوله: ﴿وما أبرئ نفسي..(٥٣)﴾ [يوسف] أي: ذاتي وقوله: ﴿وإذ قتلتم نفسا فادّارأتم فيها..(٧٢)﴾ [البقرة] أي: إنسانا والنفس لها حالات، فتكون أمارة، وتكون لوامة، وتكون مطمئنة وراضية، وترتفع درجتها لتكون مرضية قد رضي الله عنها وأرضاها، وقوله تعالى: ﴿ويحذركم الله نفسه..(٢٨)﴾ [آل عمران] أي: غضبه [القاموس القويم ص ٢٧٨ جـ٢]..
٣ - جادل: خاصم بالحق، وبالباطل، واستعمل في الباطل في قوله تعالى: ﴿ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا..(١٠٩)﴾ [النساء]، واستعمل في الحق في قوله تعالى: ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن.. (١٢٥)﴾ [النحل]، وقد نهى الله حجاج بيته عن الجدال بكل أنواعه صيانة لعلاقة المحبة بينهم، قال تعالى: ﴿فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج.. (١٩٧)﴾ [البقرة] [القاموس القويم: مادة [ج د ل]]..
٤ - قفوهم: احبسوهم في موقف الحساب. [كلمات القرآن للشيخ حسنين مخلوف]..
٥ - أي: أنهم لا ينطقون بحجة تجب لهم، وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم، ولوم بعضهم بعضا، وطرح بعضهم الذنوب على بعض، فأما التكلم والنطق بحجة لهم فلا، وهذا كما تقول للذي يخاطبك كثيرا، وخطابه فارغ عن الحجة: ما تكلمت بشيء وما نطقت بشيء، فسمى من يتكلم بلا حجة فيه له غير متكلم. قاله القرطبي في تفسيره (٤/ ٣٤١٧]..
٦ - أضل فلان غيره: أوقعه في الضلال، والضلال: النسيان والضياع، قال تعالى: ﴿.. وضل عنهم ما كانوا يفترون (٣٠)﴾ [يونس] أي: غاب عنهم ما عبدوه. وقال تعالى:}الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا..(١٠٤)} [الكهف] أي: ضاع عملهم ولم يحقق الرجاء منه، أو لم يجدوا ثوابا يوم القيامة [القاموس القويم: مادة [ض ل ل ]] بتصرف..
٧ - يقول الحق سبحانه: ﴿يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (٢٤)﴾ [النور] وقد أورد السيوطي في الدر المنثور [٦/ ١٦٥] عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم، فيقال: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك، فيقول: كذبوا، فيقال: أهلك وعشيرتك، فيقول: كذبوا، فيقال: احلفوا، فيحلفون ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم، ثم يدخلهم النار، عزاه لأبي يعلى وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه..
٨ - شقى –من باب فرح- شقا وشقاء وشقاوة: ساءت حاله المادية أو المعنوية فهو شقي، واسم التفضيل: أشقى.. وسعد: كفرح وسعد [ككرم] يسعد ويسعد سعدا وسعودا وسعادة نال الخير: ﴿.. فمنهم شقي وسعيد (١٠٥)﴾ [هود] [القاموس القويم: ١/ ٣٥٣]، [١/٣١٣] بتصرف مختصر..
٩ - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿.. فمنهم شقي وسعيد (١٠٥)﴾ [هود] سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله فعلام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ فقال: "بل على شيء قد فرغ وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له) أخرجه الترمذي في سننه [٣١١١] وابن أبي عاصم في السنة [١/٧٤] وأحمد في مسنده [١/٦] قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"..
ثم يبين لنا الحق سبحانه منازل من شقوا، ومنازل من سعدوا ؛ ولذلك يعدل عن استخدام الاسم إلى استخدام الفعل، فيقول سبحانه :
﴿ فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق١ ( ١٠٦ ) ﴾ :
والذين حكموا على أنفسهم بالشقاء لخروجهم عن منهج الله ؛ يجمعهم الشقاء ؛ لكنهم يدخلون النار أفرادا وزمرا.
والحق سبحانه يقول :﴿ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا٢.. ( ٧١ ) ﴾[ الزمر ].
وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ كلما دخلت أمة لعنت٣ أختها.. ( ٣٨ ) ﴾[ الأعراف ] :
وهكذا نفهم أن الكافرين –في الوصف الثابت- أشقياء، لكنهم لحظة دخول النار إنما يدخلونها أفرادا ؛ بل ويدخل معهم بعض من المسلمين العصاة، ويتلقى كل واحد منهم عقابه المناسب لما ارتكب من الذنوب والمعاصي ؛ ويعاني كل منهم من شقاء يتناسب مع آثامه ؛ وبذلك يجتمعون في الشقاء ويختلفون في نوع من شقاء يتناسب مع آثامه، وبذلك يجتمعون في الشقاء ويختلفون في نوع وكمية العذاب ؛ كل حسب ذنوبه، ولا يظلم ربه أحدا.
وجاء الحق سبحانه هنا بالفعل " شقوا " ليبين لنا أنهم هم الذين اختاروا الشقاء ؛ وأتوا به لأنفسهم ؛ لأن الحق سبحانه خلق عباده وترك لكل منهم حق الاختيار ؛ وأنزل لهم المنهج ؛ ليصونوا أنفسهم ؛ وأعان –من اختار الإيمان- على الطاعة.
ثم يذكر الحق سبحانه في نفس الآية موقف من أدخلوا على أنفسهم الشقاء، فيقول عنهم.
﴿ .. ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ( ١٠٦ ) ﴾[ هود ] : ونحن نعلم أن الذي يتنفس في النار سيخرج الهواء من صدره ساخنا مثلما يأخذ الشهيق ساخنا.
١ - زفير: إخراج شديد للنفس من الصدر، وشهيق: رد النفس إلى الصدر. [كلمات القرآن للشيخ حسنين مخلوف]..
٢ - الزمر: جمع زمرة، وهي الفوج والجماعة. قال تعالى: ﴿وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا...(٧١)﴾ [الزمر]، وقال تعالى: ﴿وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا...(٧٣)﴾ [الزمر]. [القاموس القويم: مادة [ز م ر] بتصرف..
٣ - اللعنة: السخط والإبعاد عن الرحمة، فاللعن: السب والدعاء بالطرد من رحمة الله. [القاموس القويم. مادة: لعن]..
ويواصل الحق سبحانه وتعالى وصف ما يتلقاه أهل الشقاء في النار، فيقول سبحانه :
﴿ خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال١ لما يريد ( ١٠٧ ) ﴾ :
وكلمة " الخلود " تفيد المكث طويلا ؛ مكوثا له ابتداء ولا نهاية له ؛ وإذا أبّد فهو تأكيد للخلود.
والذين شقوا إنما يدخلون النار ؛ بدءا من لحظة :﴿ يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه.. ( ١٠٥ ) ﴾[ هود ] : وهو عذاب لا نهاية له بالنسبة للكافرين.
وأما عذاب المسلم العاصي على ما ارتكب من آثام ؛ فبدايته من لحظة انتهاء الحساب إلى أن تنتهي فترة عذابه المناسبة لمعاصيه ؛ ويدخل الجنة من بعد ذلك٢.
ولهذا قال الحق سبحانه :﴿ إلا ما شاء ربك... ( ١٠٧ ) ﴾[ هود ] : وهكذا ينقص الحق سبحانه الخلود في النار بالنسبة لأنصاف المؤمنين، فالحق سبحانه ﴿ .. فعال لما يريد ( ١٠٧ ) ﴾ : ولا يحكمه أي شيء.
وإياكم أن تظنون أن قدر الله يحكمه ؛ فالقدر فعله، ولا أحد يسأل الله سبحانه عما يفعل، لأن ذات الله هي الفاعلة ؛ فإن شاء سبحانه أن ينقص خلود مسلم عاص في النار ؛ فالنقص يكون في النهاية ؛ وبذلك يتحقق أيضا نقص خلوده في الجنة، لأنه لا يدخلها إلا بعد أن يستوفي عقابه.
وبهذا التصور ينتهي الإشكال الذي اختلف حوله مائة وخمسون عالما ؛ فقد ظن بعضهم أن الحق سبحانه يغلق أبواب النار على من أدخلهم إياها، ويستمر ذلك إلى ما لا نهاية، وكذلك من دخل الجنة من البداية سيظل فيها أبدا، ولن يلحق الله أصحاب الكبائر بالجنة، ومن قال بذلك الرأي إنما يسوي بين من ارتكب الكبيرة وبين الكافر بالله، وهذا أمر غير متصور، وهو بعيد عن رحمة الله.
وإذا كان هذا البعض من العلماء قد استدل على رأيه بالآية الكريمة التي جاءت في سورة الجن، والتي يقول فيها الحق سبحانه :﴿ إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ( ٢٣ ) ﴾[ الجن ].
فنحن نقول : إن الحق سبحانه يربب لطفه للكافر حتى يؤمن، وللعاصي حتى يتوب، وهذا من رحمة الله سبحانه، فتأبيد الخلود في العذاب لم يرد إلا في آيتين٣، وهذا دليل على عظيم رحمة الله وسعة عفوه سبحانه.
ولذلك قيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه رحمة الله للعالمين، وكلمة " العالمين : جمع " عالم " والعالم هو ما سوى الله تعالى.
ولذلك هناك رحمة للكافر ؛ هي عطاء الله له في الدنيا.
وهكذا نعلم أن الله سبحانه هو الذي يملك نواميس الكون، ولم يتركها تفعل وحدها، بل يزاول سبحانه سلطانه عليها، وما دام القدر هو فعله سبحانه ؛ فهو يغير فيه كما يشاء.
فهو سبحانه رب الزمان والمكان والحركة، ومادام هو رب كل شيء فإنه فعال لما يريد، وهنا تخضع أبدية الزمان لمراده ومشيئته.
وقول الحق سبحانه :﴿ مادامت السماوات والأرض.. ( ١٠٧ ) ﴾[ هود ] : نفهم منه أن الجنة أو النار لا بد أن يوجد لهما ما يعلوهما ويظللهما، ولا بد أن يوجدا فوق أرض ما.
وإذ قال قائل : إن الحق سبحانه قد ذكر في القرآن أن السماء سوف تمور٤ وتنفطر٥.
نقول ردا عليه : لا تأخذ آية في القرآن إلا بضميمه٦ مثيلاتها.
ولذلك قال الحق سبحانه :﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات٧... ( ٤٨ ) ﴾ [ إبراهيم ].
والحق سبحانه يورث أرض الجنة لمن يشاء ؛ لأنه سبحانه هو القائل على لسان المؤمنين يوم القيامة :﴿ وأورثنا الأرض نتبوأ٨ من الجنة حيث نشاء.. ( ٧٤ ) ﴾[ الزمر ] : أو لأن الإنسان له أغيار، وما حوله له أغيار.
ومن العجيب أن الإنسان المخدوم بالمادة الجامدة ؛ وبالنبت النامي ؛ وبالحيوان الذي يحس ويتحرك ؛ هذا الإنسان قد يكون أطول عمرا من بعض المخلوقات المسخرة لخدمته ؛ لكنه أقل عمرا من الشمس ومن القمر.
لكن الحق سبحانه هنا يصور عمر الإنسان في الآخرة ؛ فكأنه سبحانه يعطي الأمد على أطول ما عرفنا من الأعمار ؛ ولذلك قال سبحانه :﴿ ما دامت السماوات والأرض.. ( ١٠٧ ) ﴾[ هود ] : وإذا علق الله سبحانه شيئا على شيء، فلا بد أن يوجد هذا التعليق.
والحق سبحانه يتكلم عن أهل النار من الكفار، فيقول تعالى :﴿ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط٩.. ( ٤١ ) ﴾ [ الأعراف ] : فهل سيلج الجمل في سم الخياط ؟ إن ذلك محال.
ولذلك أقول : فلنأخذ التعليقات في نطاق أنه سبحانه :﴿ .. فعال لما يريد ( ١٠٧ ) ﴾[ هود ].
وقد جاء في الكتاب قول سيدنا عيسى عليه السلام :
﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( ١١٨ ) ﴾ [ المائدة ]
فكان مقتضى السياق أن يقول سبحانه : وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم.
وهذه نظرة سطحية لمدلولات القرآن، بعقول البشر، أما ببلاغة الحق سبحانه فيكون الأمر مخالفا، فأمر التعذيب أو الغفران موكول لله سبحانه بيده وحده، وليس لأحد أن يسأله لم فعل هذا ؟ ولم ترك هذا ؟
لذلك كان هذا هو معنى العزة ؛ ولذلك كان سبحانه عزيزا، وهو سبحانه أيضا حكيم في أي أمر يحكم فيه سواء أكان بالتعذيب أو المغفرة.
لذلك جاء سبحانه بالخاتمة التي تثبت للحق سبحانه التعذيب أو المغفرة.
ففي تعذيب الكافرين قال سبحانه ﴿ فعال لما يريد ( ١٠٧ ) ﴾. وفي الكلام عن الطائعين الذين أدخلوا الجنة قال سبحانه :
﴿ وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادمت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ١٠ ( ١٠٨ ) ﴾ :
١ - فعل يفعل فهو فاعل. وفاعل: اسم فاعل من فعل، وفعال: صيغة مبالغة من فعل، قال تعالى: ﴿والذين هم للزكاة فاعلون (٤)﴾ [المؤمنون]، وقال تعالى: ﴿.. إن ربك فعال لما يريد (١٠٧)﴾ [هود] [القاموس القويم: مادة [ف ع ل] بتصرف..
٢ - عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناسا أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن لهم في الشفاعة فيجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحية تكون في حميل السيل). أخرجه مسلم في صحيحه حديث (١٨٥)، وأحمد في مسنده (٣/ ٥، ١١]..
٣ - وذلك في قوله تعالى: ﴿إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا (٦٤) خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا (٦٥)﴾ [الأحزاب] وكذلك في سورة الجن: ﴿.. ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا..(٢٣)﴾ [الجن]..
٤ - مار الشيء يمور مورا: تحرك وذهب وجاء في سرعة. قال تعالى: ﴿يوم تمور السماء مورا (٩)﴾ [الطور] [القاموس القويم مادة [مور]]..
٥ - يتفطر الشيء وينفطر: يتشقق قال تعالى: ﴿إذا السماء انفطرت (١)﴾ [الانفطار] أي: انشقت يوم القيامة، وقوله تعالى: ﴿تكاد السماء يتفطرن منه..(٩٠)﴾ [مريم] أي: يتشققن من هول كفرهم وادعائهم أن لله ولدا- كما يفهم من قوله تعالى: ﴿وقالوا اتخذ الرحمان ولدا (٨٨) لقد جئتم شيئا إذا (٨٩) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا (٩٠)﴾ [مريم]. [القاموس القويم: مادة [فطر] بتصرف..
٦ - الضميم: المضموم إلى غيره. [المعجم الوسيط: مادة [ضمم]]. والمراد ضم الآيات المتماثلة وفهمها فهما شاملا..
٧ - بدل الشيء: غيره. وبدل الكلام: غيره أو حرفه بحيث يؤدي معنى غير المراد منه، قال تعالى: ﴿فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم..(٥٩)﴾ [البقرة] أي: غيروه بكلام آخر، أو حرفوه ليؤدي معنى آخر غير المراد منه، وقوله تعالى: ﴿ثم بدل حسنا بعد سوء..(١١)﴾ [النمل] أي: عمل الخير والحسن بعد عمل السوء. وقال تعالى: ﴿.. وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا (٢٨)﴾ [الإنسان] أي: جعلناهم بدلا منهم، كقوله تعالى: ﴿.. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (١٩)﴾ [إبراهيم] [القاموس القويم: مادة [بدل]]..
٨ - بوأه: أسكنه، وبوأه في الأرض، مكن له فيها، قال تعالى: ﴿وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت...(٢٦)﴾ [الحج] أي: هيأناه له ومكناه منه. وقال تعالى في قصة يوسف عليه السلام: ﴿يتبوأ منها حيث يشاء..(٥٦)﴾ [يوسف] أي: ينزل في أي مكان يريده من أرض مصر، وهذا كناية عن اتساع جاهه [القاموس القويم: مادة [ب و أ ]] بتصرف..
٩ - السم- مثلثة السين- الثقب الضيق، قال تعالى: ﴿حتى يلج الجمل في سم الخياط..(٤٠)﴾ [الأعراف] أي: ثقب الإبرة [القاموس القويم: مادة [س م م ]]..
١٠ - جذ الشيء، يجذه جذا: قطعه أو كسره، أو فتته. والجذاذ: القطع المكسرة المفتتة والحطام. قال تعالى: ﴿فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم.. (٥٨)﴾ [الأنبياء] والمجذوذ: المقطوع، قال تعالى: ﴿.. عطاء غير مجذوذ (١٠٨)﴾ [هود] أي: أنه عطاء دائم غير مقطوع. [القاموس القويم: مداة [جذذ]]..
فالحق سبحانه يعطي المؤمنين ما شاء، ويؤكد خلودهم في الجنة، وعطاؤه لهم لا مقطوع ولا ممنوع.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه :
﴿ فلا تك في مرية١ مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص٢ ( ١٠٩ ) ﴾ :
فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مرية ؟
هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم في شك ؟
لا، ولكنه قول الآمر الأعلى سبحانه للأدنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في صدد هذا الأمر ؛ وبذلك ينصرف أمر الحق سبحانه إلى الدوام.
مثلما قال الحق سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ أقم الصلاة.. ( ٧٨ ) ﴾[ الإسراء ].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقيم الصلاة قبلها، ولكن قول الحق سبحانه هنا إنما يمثل بداية التشريع.
ومثل هذا أيضا قول الحق سبحانه في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين... ( ١ ) ﴾[ الأحزاب ].
فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتقي الله ؟
نقول : لا، إنما هو لإدامة التقوى، فإنه إذا أمر الأعلى الأدنى بأمر هو بصدد فعله، انصرف هذا الأمر إلى الدوام، واتباع أمته للتقوى والإعراض عن النفاق والكفر، وهو خطاب للرسول وأمته، فللرسول الدوام والترقي والحصانة، ولأمته الاتباع لمنهج الله.
ومثل هذا قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا... ( ١٥٣ ) ﴾[ البقرة ] : وهو سبحانه يناديهم بالإيمان ؛ لأنهم اعتقدوا اعتقاد الألوهية الواحدة، ومن يسمع منهم هذا الخطاب عليه أن يداوم على الإيمان.
وما دام قد آمن بالإله الواحد قبل الخطاب، فقد استحق أن ينال التكريم من الحق سبحانه بأن يخاطبه ويصفه بأنه من المؤمنين، فإذا نودي عليهم بهذه الصفة فهي علامة السمو المقبول.
وإذا طلبت الصفة ممن توجد الصفة فيه، فاعلم أنه سبحانه يطلب دوام الصفة فيه واستمرارها، وفي الاستمرارية ارتقاء.
وقول الحق سبحانه هنا :﴿ مما يعبد هؤلاء.. ( ١٠٩ ) ﴾[ هود ] : نجد أن التحقيق لا يثبت لهم عبادة٣ ؛ لأن معنى العبادة ائتمار عابد بأمر معبود. وهؤلاء إنما يعبدون الأصنام، وليس للأصنام منهج يسير عليه من آمنوا بها.
ولكن الحق سبحانه أثبت لهم هنا أنهم عبدوا الأصنام، وهم قد قالوا من قبل :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى٤... ( ٣ ) ﴾[ الزمر ].
وهو إيمان فقد حجية التعقل الإيمان، أي : أن تستقبل أنت بذاتك القضية الإيمانية وتناقشها لتدخل عليها باقتناع ذاتك.
وهم قد دخلوا إلى الإيمان بعبادة الأصنام باقتناع الغير، وهم الآباء، فإيمانهم إيمان تقليد، وفي التقليد جفاف الفطرة السليمة وهو لا ينفع.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد جعل النسب في الكون إما ليثبت نسبة إيجابية، أو نسبة سلبية٥.
﴿ ما يعبدون.. ( ١٠٩ ) ﴾[ هود ] : أي : على ما قالوا إنه عبادة، ولكنه ليس عبادة، لأن العبادة تقتضي أمرا ونهيا، وليس للأصنام أوامر أو نواه، وعبادتهم هي عبادة تقليدية للآباء ؛ ولذلك قالوا :﴿ بل نتبع ما ألفينا٦ عليه آباءنا.. ( ١٧٠ ) ﴾[ البقرة ] : ولذلك يقرر الحق سبحانه هنا جزاءهم، فيقول تعالى :﴿ .. وإنا لموفوهم٧ نصيبهم٨ غير منقوص ( ١٠٩ ) ﴾ [ هود ] : أي : سنعطيهم جزاءهم كاملا ؛ لأنهم يفسدون في الكون، رغم أن الحق سبحانه قد جعل لكم منهم حق الاختيار في أن يفعل الشيء أو لا يفعله، وإن لم تنضبط حركة الاختيار، فالتوازن الاجتماعي يصير إلى اختلال.
ومادام للإنسان حق الاختيار ؛ فقد أنزل الحق سبحانه له المنهج الذي يضم التكاليف الإيمانية.
وهم حين قلدوا الآباء قد ساروا في طريق إفساد الكون ؛ لذلك يوفيهم الحق سبحانه نصيبهم من العذاب.
والمفهوم من كلمة " النصيب " ٩ أنها للرزق، ويذكرها الحق سبحانه هنا لتقرير نصيب من العذاب، وفي هذا تهكم عليهم، وسخرية منهم.
١ - المرية-بكسر الميم، وبضمها-: الجدل والشك، قال تعالى: ﴿فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك..(١٧)﴾ [هود] وقرئ مرية- بضم الميم. [القاموس القويم: مادة [م ر ى]]..
٢ - النقص: مصدر نقص. قال تعالى: ﴿ولنبلوكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات..(١٥٥)﴾ [البقرة]، ومنقوص: اسم مفعول منه، قال تعالى: ﴿.. وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص (١٠٩)﴾ [هود] أي: كاملا، لا ننقص منه شيئا. [القاموس القويم: مادة [نقص]]..
٣ - عبد الله يعبده، عبادة وعبودة: أطاعه فهو عابد اسم فاعل. وعبده بالتضعيف، سخره وأذله، يقول الحق سبحانه: ﴿وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل (٢٢)﴾ [الشعراء] والعبد بالنسبة للناس الرقيق المملوك، ويجمع على جموع منها: عباد، وعبيد وعبد- وعبد، والعبد بالنسبة لله الإنسان الحر أو الرقيق، فكلاهما مملوك لله خاضع لحكمه وإرادته، وعباد الأصنام هم عباد الأفكار هي تخريف وتحريف عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وكل عابد لفكرة منحرفة، فهو منحرف عن الحقيقة [القاموس القويم ١/ ٣، ٤ بتصرف]..
٤ - الزلفى: القرب، والمنزلة، والدرجة قال تعالى: ﴿وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى..(٣٧)﴾ [سبأ] أي: قربا، مفعول مطلق مرادف، أو تقربكم درجة ومنزلة قريبة منا. [القاموس القويم: مادة [ز ل ف]]..
٥ - فالكون فيه ألفاظ مفردة نعرف معانيها مثل: السماء، والأرض، ونفهم تصور الشيء، أما عندما نذكر لهذا الشيء صفة فهذا معناه النسبة، مثل قولنا: الأرض كروية. [مستنبط من كلام فضيلة الشيخ]..
٦ - ألفى الشيء: وجده قال تعالى: ﴿إنهم ألفوا آباءهم ضالين (٦٩)﴾ [الصافات]، وقال تعالى: ﴿وألفيا سيدها لدا الباب..(٢٥)﴾ [يوسف] أي: وجداه. [القاموس القويم: مادة [ل ف ي]]...
٧ - وفى إليه حقه: أوصله إليه كاملا، ويتعدى لمفعولين فيقال: وفاه حقه، واسم الفاعل، موف: اسم منقوص. [القاموس القويم: ٢/ ٣٤٧]..
٨ - قال القرطبي في تفسيره [٤/ ٣٤٢٣]:
"فيه ثلاث أقوال:
أحدها: نصيبهم من الرزق، قاله أبو العالية.
الثاني: نصيبهم من العذاب. قاله ابن زيد.
الثالث: ما وعدوا به من خير أو شر. قاله ابن عباس"..

٩ - النصيب: القسم والحصة من الشيء. قال تعالى: ﴿أولئك لهم نصيب مما كسبوا..(٢٠٢)﴾ [البقرة]
أي: لهم حظ وقسم وحصة هي حق لهم من كسبهم. [القاموس القويم: مادة [ن ص ب]]..

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
{ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت١ من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب٢ ( ١١٠ ) :
وسورة هود هي السورة الوحيدة في القرآن التي جاء فيها ذكر رسول الله واحد مرتين، فقد ذكر الحق سبحانه أنه أمر موسى عليه السلام بأن يذهب إلى فرعون، وأن يريه الآيات، ولم يزد٣، ثم انتقل من ذلك الإبلاغ فقال سبحانه :﴿ يقدم قومه يوم القيامة... ( ٩٨ ) ﴾[ هود ] : أي : أنه أعقب أولية البلاغ بالختام الذي انتهى إليه فرعون يوم القيامة، فيورد قومه النار.
ثم يأتي الحق سبحانه هنا إلى موسى عليه السلام بعد ابتداء رسالته ؛ ولذلك يقول تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب... ( ١١٠ ) ﴾ [ هود ].
ونحن نعلم أن ذكر موسى عليه السلام في البداية كان بمناسبة ذكر ما له علاقة بشعيب عليه السلام حين ورد موسى ماء مدين، ولكن العجيب أنه عند ذكر شعيب لم يذكر قصة موسى معه، وإنما ذكر قصة موسى مع فرعون.
وقد علمنا أن موسى عليه السلام لم يكن آتيا إلى فرعون إلا لمهمة واحدة، هي أن يرسل معه بني إسرائيل٤ ولا يعذبهم.
وأما ما يتأتى بعد ذلك من الإيمان بالله فقد جاء كأمر تبعي، لأن رسالة موسى عليه السلام لم تكن إلا لبني إسرائيل ؛ ولذلك جاء هنا بالكتاب ليبلغه إلى بني إسرائيل منهجا، أما في الموضع الأول فقد ذكر سبحانه الآيات التي أرسل بها موسى إلى فرعون.
ونحن نعلم أن سورة هود عرضت لمواكب الرسل : نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم –عليهم جميعا السلام- وجاء الحديث فيها عن موسى عليه السلام مرتين : مرة في علاقته بفرعون، ومرة في علاقته ببني إسرائيل.
وفي كل لقطة من اللقطات مهمة أساسية من مهمات المنهج الإلهي للناس عموما، من أول آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة ؛ إلا أنه عند ذكر كل رسول يأتي باللقطة التي تعالج داء موقوتا عند القوم.
فالقدر المشترك في دعوات كل الرسل هو قوله سبحانه :﴿ اعبدوا الله مالكم٥ من إله غيره... ( ٥٩ ) ﴾ [ الأعراف ] : ثم يختلف الأمر بعد ذلك من رسول لآخر، فمنهم من يأمر قومه ألا يعبدوا الأصنام ؛ ومنهم من يأمر قومه ألا ينقصوا الكيل والميزان.
وهكذا نجد في كل لقطة مع كل رسول علاج داء من داءات٦ تلك الأمة، أما الإسلام فقد جاء ليعالج داءات البشرية كلها ؛ لذلك جمعت كل القيم الفاضلة في القرآن كمنهج للبشرية٧.
لذلك فالحق سبحانه لا يقص علينا القصص القرآني للتسلية، أو لقتل الوقت، أو لتعلم التاريخ ؛ ولكن لنلتقط العبرة من رسالة كل رسول إلى أمته التي بعث إليها ليعالج داءها.
وبما أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ستكون آخر عهد لالتقاء البشر بالبشر٨، وستكون فيها كل أجواء وداءات الدنيا، لذلك فعليهم التقاط تلك العبر ؛ لأن رسالتهم تستوعب الزمان كله، والمكان كله.
والحق سبحانه هنا يقول :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه.. ( ١١٠ ) ﴾[ هود ] :
ونحن نعلم أنه إذا تقدم أمران على ضمير الغيبة، فيصح أن يعود الضمير إلى كل أمر منهما.
وقوله سبحانه :﴿ فاختلف فيه.. ( ١١٠ ) ﴾ : يصح أن يكون الاختلاف في أمر موسى، ويصح أن يكون الاختلاف في أمر الكتاب، والخلاف في واحد منهما يؤدي إلى الخلاف في الآخر ؛ لأنه انفصال بين موسى عليه السلام، والكتاب الذي أنزله الله عليه.
وهكذا فالأمران يلتقيان : أمر الرسالة في الكتاب، وأمر الرسول في الاصطفاء ؛ ولذلك لم يجعلهما الحق سبحانه أمرين، بل هما أمر واحد ؛ لأن الرسول لا ينفصل عن منهجه.
وقوله الحق :﴿ آتينا موسى الكتاب... ( ١١٠ ) ﴾ : أمر يتعلق بفعل الحق سبحانه، ولله٩ ذات، ولله صفات، ولله أفعال.
وهو سبحانه منزه في ذاته عن أي تشيبه، ولله صفات، وهي ليست ككل الصفات، فالحق سبحانه موجود، وأنت موجود، لكن وجوده قديم أزلي لا ينعدم، وأنت موجود طارئ ينعدم.
ونحن نأخذ كل ما يتعلق بالله سبحانه في إطار. ﴿ ليس كمثله شيء.. ( ١١ ) ﴾[ الشورى ] : فإذا تكلم الحق سبحانه عن الفعل فخذ كل فعل صدر عنه بقوته سبحانه غير النهائية.
وقوله سبحانه هنا :﴿ آتينا موسى الكتاب.. ( ١١٠ ) ﴾ [ هود ] : نفهم منه أن هذا الفعل قد استلزم صفات متكاملة، علما وحكما، وقدرة، وعفوا، وجبروتا، وقهرا، فهناك أشياء كثيرة تتكاثف لتحقيق هذا الإتيان.
وقد يسأل سائل : ومادام موسى عليه السلام قد أوتي الكتاب، واختلف فيه، فلماذا لم يأخذ الحق سبحانه قوم موسى كما أخذ قوم نوح، أو قوم عاد، أو قوم ثمود، أو بقية الأقوام الذين أخذهم الله بالعذاب ؟
ونقول : ما نجوا من عذاب الله بقدرتهم ؛ بل لأن الحق سبحانه قد جعل عذابهم آجلا١٠، وهو يوم الحساب.
وذلك قال سبحانه في الآية نفسها :﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم.. ( ١١٠ ) ﴾[ هود ] : وبذلك حكم الحق حكما فاصلا، كما حكم على الأمم السابقة التي كانت مهمة رسلهم هي البلاغ، ولم تكن مهمة رسلهم أن يحاربوا من أجل إرساء دعوة أو تثبيت حق ؛ ولذلك كانت السماء هي التي تتدخل بالأمر النهائي.
لكن اختلف الأمر في رسالة موسى عليه السلام، فقد سبق فيه قول الله تعالى بالتأجيل للحساب إلى يوم القيامة.
ثم يقول الحق سبحانه هنا :﴿ .. وإنهم لفي شك منه مريب ( ١١٠ ) ﴾[ هود ] : كأنهم في شك من يوم القيامة، وفي شك من الحساب، مثل قوله سبحانه في أول الآية عن الاختلاف في الكتاب وموسى عليه السلام.
١ - سبق: يسبق سبقا: تقدم، فهو لازم، وسبقه: تقدمه، فهو متعد، واسم الفاعل: سابق، واسم المفعول: مسبوق، قال تعالى: ﴿لولا كتاب من الله سبق..(٦٨)﴾ [الأنفال] أي: تقدم وثبت فيه الحكم من قبل، وهو اللوح المحفوظ [القاموس القويم ١/ ٣٠١] والكلمة: قضاء الله وحكمه السابق في اللوح المحفوظ. قال تعالى: ﴿ولولا كلمة سبقت من ربك (١١٠)﴾ [هود] أي: قضاؤه بتأجيل الحكم بين الناس إلى يوم القيامة. [القاموس القويم: مادة [س ب ق]، [ك ل م ] بتصرف..
٢ - الريب: الشك. قال تعالى: ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه..(٢)﴾ [البقرة] ورابه الأمر، يريبه ريبا وريبة: شك فيه. والريب: حادث الدهر المفاجئ. وريب المنون: الموت، قال تعالى:﴿أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون (٣٠)﴾ [الطور] أي: حادث الموت. وقال تعالى: ﴿لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم..(١١٠)﴾ [ التوبة] أي: مصدر شك ونفاق، وأرابه: أوصله إلى الشك وأدخل الشك في نفسه، واسم الفاعل: مريب. قال تعالى: ﴿.. وإنهم لفي شك منه مريب (١١٠﴾ [هود] على سبيل التوكيد أي: في شك موصل إلى شك، وأراب الرجل، فهو مريب: صار موضع ريبة وشك ولا يطمئن إليه الناس. قال تعالى: ﴿مناع للخير معتد مريب (٢٥)﴾ [ق] [القاموس القويم: مادة [ر ى ب]]..
٣ - وذلك في قوله تعالى: ﴿ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين (٩٦) إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد (٩٧)﴾ [هود]..
٤ - وذلك قوله تعالى: ﴿وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين (١٠٤) حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل (١٠٥)﴾ [الأعراف]..
٥ - ما -هنا- نافية بمعنى: ليس. أي: ليس لكم إله غيره..
٦ - الداء: المرض ظاهرا أو باطنا، والعيب ظاهرا أو باطنا، ويقال: فلان ميت الداء: لا يحقد على من يسيء إليه. وداء الأسد: الحمى، وداء الظبي: الصحة والنشاط، وداء الملوك: النقرس، وداء الكرم الدين والفقر، ودار الضرائر: الشر الدائم، وداء البطن: الفتنة العمياء، وداء الذئب: الجوع، والجمع أدواء. [المعجم الوسيط مادة [د و أ]] ويجوز التأنيث فيقال: داءة وجمعها: داءات، وهي الأمراض سواء أكانت مادية أم معنوية..
٧ - يقول الحق: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...(١٣)﴾ [الشورى] إذن: جمعت قيم الأديان في الكتاب الخاتم المنزل على الرسول الخاتم لتوحيد الإنسانية على الحق والخير والسلام..
٨ - مقصود فضيلة الشيخ أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي آخر الأمم منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة، ورسولها محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل..
٩ - توحيد الذات هي لغة القلب بالوحدانية والتفريد والتجريد لله، يقول الحق: ﴿قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمي (١٦٢) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (١٦٣)﴾ [الأنعام] وللذات عطاءات كلما ذكرته موحدا فأنت في رقي دائم وتستحق من الله عطاء الصفات- فتستحق الرحمة من الرحيم، والرزق من الرزاق، والجبر من الجبار، فمن أحب الذات وهبت له عطاءات الصفات، وفي أسمائه الحسنى الزاد المطلوب- [من مفهوم الخواطر]..
١٠ - وهذه هي الكلمة التي ذكرها الله سبحانه هنا: ﴿ولو كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم..(١١٠)﴾ [هود] قال القرطبي في تفسيره (٤/ ٣٤٢٣]: "الكلمة: أن الله عز وجل حكم أن يؤخرهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح، ولولا ذلك لقضي بينهم أجلهم بأن يثيب المؤمن ويعاقب الكافر".
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير١ ( ١١١ ) ﴾ :
إذن : فالحق سبحانه قد أخذ قوم الرسل السابقين على موسى بالعذاب، أما في بدء رسالة موسى عليه السلام فقد تم تأجيل العذاب ليوم القيامة.
ويبين الحق سبحانه : لا تعتقدوا أن تأجيل العذاب ليوم القيامة يعني الإفلات من العذاب، بل كل واحد سيوفى جزاء عمله ؛ بالثواب لمن أطاع، وبالعقاب لمن عصا، فأمر الله سبحانه آت –لا محال٢- وتوفية الجزاء إنما تكون على قدر الأعمال، كفرا أو إيمانا، صلاحا أو فسادا، وميعاد ذلك هو يوم القيامة.
وهنا وقفة في أسلوب النص القرآني، حتى يستوعب الذين لا يفهمون اللغة العربية كملكة٣، كما فهمها العرب الأقدمون.
ونحن نعلم أن العربي القديم لم يجلس إلى معلم، لكنه فهم اللغة ونطق بها صحيحة ؛ لأنه من أمة مفطورة٤ على الأداء البياني الدقيق، الرائع.
فاللغة –كما نعلم- ليست جنسا، وليست دما، بل هي ظاهرة اجتماعية، فالمجتمع الذي ينشأ فيه الطفل هو الذي يحدد بلغته، فالطفل الذي ينشأ في مجتمع يتحدث العربية، سوف ينطق بالعربية، والطفل الذي يوجد في مجتمع يتحدث اللغة الإنجليزية، سينطق بالإنجليزية ؛ لأن اللغة هي ما ينطق به اللسان حسبما تسمع الأذن.
وكانت غالبية البيئة العربية في الزمن القديم بيئة منعزلة، وكان من ينشأ فيها إنما يتكلم اللغة السليمة.
أما العربي الذي عاش في حاضرة مثل مكة، ومكة –بما لها من مكانة- كانت تستقبل أغرابا كثيرين ؛ ولذلك كان أهل مكة يأخذون الوليد فيها لينقلوه إلى البادية، حتى لا يسمع إلا اللغة العربية الفصيحة، وحتى لا يحتاج إلى من يضبط لسانه على لغة العرب الصافية.
ولنقرب هذا الأمر، ولننظر إلى أن هناك في حياتنا الآن لغتين : لغة نتعلمها في المنازل والشوارع ونتخاطب بها، وتسمى " اللغة العامية " ؛ ولغة أخرى نتعلمها في المدارس، وهي اللغة المصقولة٥ المميزة بالفصاحة والضبط.
وكان أهل مكة يرسلون أبناءهم إلى البادية لتلتقط الأذن الفصاحة٦، وكانت اللغة الفصيحة هي " العامية " في البادية، ولم يكن الطفل في البادية يحتاج إلى معلم ليتعلمها ؛ لأن أذنه لا تسمع إلا الفصاحة.
وكانت هذه هي اللغة التي يتوقف فيها إنسان ذلك الزمان كملكة، وهي تختلف عن اللغة التي نكتسبها الآن، ونصقلها في مدارسنا، وهي لغة تكاد تكون مصنوعة، فما بالنا بالذين لم يتعلموا العربية من قبل من المستشرقين، ويتعلموا اللغة على كبر.
وهؤلاء لم يمتلكوا صفاء اللغة، لذلك حاولوا أن يطعنوا في القرآن، وادعى بعض من أغبيائهم أن في القرآن لحنا٧، قالوا ذلك وهم الذين تعلموا اللغة المصنوعة، رغم أن من استقبلوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أهل الفصاحة، لم يجدوا في القرآن لحنا، ولو أنهم أخذوا لحنا على القرآن في زمن نزوله ؛ لأعلنوا هذا اللحن ؛ لأن القرآن نزل باللغة الفصيحة على أمة فصيحة ؛ بليغة، صناعتها الكلام.
ولأمر ما أبقى الله سبحانه صناديد٨ قريش وصناديد العرب على كفرهم لفترة، ولو أن أحدا منهم اكتشف لحنا في القرآن لأعلنه.
وذلك حتى لا يقولن أحد أنهم قد آمنوا فستروا على القرآن عيوبا فيه. ولو كان عند أحدهم مهمز لما منعه كفره أن يبين ذلك، فهل يمكن لهؤلاء المستشرقين الذين عاشوا في القرن العشرين أن يجدوا لحنا في القرآن، وهم لم يمتلكوا ناصية اللغة ملكة، بل تعلموها صناعة، والصنعة عديمة الإحساس الذوقي.
ومثال ذلك : عدم فهم هؤلاء لأسرار اللغة في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فالحق سبحانه يقول :﴿ إن كلا لما ليوفينّهم٩ ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير ( ١١١ ) ﴾ [ هود ]. أي : أن كل واحد من الذين صدقوا أو من الذين كذبوا، له توفية في الجزاء، للطائع الثواب ؛ وللعاصي العقوبة.
وكلمة " إن " –كما نعلم- هي في اللغة " حرف توكيد " في مقابلة من ينكر ما يجيء بعدها.
والإنكار –كما نعلم- مراحل، فإذا أردت أن تخبر واحدا بخبر لا يعلمه، فأنت تقول له مثلا : " زارني فلان بالأمس ".
وهكذا يصادف الخبر ذهن المستمع الخالي، فإن قال لك : " لكن فلانا كان بالأمس في مكان آخر " فأنت تقول له : " إن فلانا زارني بالأمس ".
وحين يرد عليك السامع : " لكنني قابلت فلانا الذي تتحدث عنه أمس في المكان الفلاني ".
وهنا قد تؤكد قولك : " والله لقد زارني فلان بالأمس ".
إذن : فأنت تأتي بالتوكيد على حسب درجة الإنكار١٠.
وحين يؤجل الحق سبحانه العذاب لبعض الناس في الدنيا، قد يقول غافل : لعل الله لم يعد يعذب أحدا.
ولذلك بين الحق سبحانه مؤكدا أن الحساب قادم، لكل من الطائع المصدق، والعاصي المكذب، فقال سبحانه :﴿ وإن كلا لما ليوفينّهم ربك أعمالهم.. ( ١١١ ) ﴾[ هود ].
والذين لم تستقم لهم اللغة كملكة، كالمستشرقين، وأخذوها صناعة، توقفوا عند هذه الآية وقالوا : لماذا جاء بالتنوين في كلمة " كلا " ؟
وهم لم يعرفوا أن التنوين١١ يغني عن جملة، فساعة تسمع أو تقرأ التنوين، فاعلم أنه عوض عن جملة، مثل قول الحق سبحانه :﴿ فلولا إذا بلغت الحلقوم١٢ ( ٨٣ ) وأنتم حينئذ تنظرون ( ٨٤ ) ﴾ [ الواقعة ] : و " كلا " في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها توجز أن كلا من الطائع المؤمن، والعاصي الكافر، سوف يلقي جزاءه ثوابا أو عقابا.
أما قوله سبحانه ﴿ لما ﴾ في نفس الآية، فنحن نعلم أن " لما " تستعمل في اللغة بمعنى " الحين " و " الزمان " مثل قول الحق سبحانه :﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا١٣ وكلمه ربه.. ( ١٤٣ ) ﴾[ الأعراف ].
ومثل قوله سبحانه :﴿ ولما فصلت١٤ العير قال أبوهم إني لأجد ريح١٥ يوسف.. ( ٩٤ ) ﴾ [ يوسف ] : أي : حي فصلت العير وخرجت من مصر قال أبوهم :﴿ إني لأجد ريح يوسف.. ( ٩٤ ) ﴾[ يوسف ].
و " لما " تأتي أيضا للنفي مثل قوله سبحانه :﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم.. ( ١٤ ) ﴾[ الحجرات ] أي : أن الإيمان لم يدخل قلوبهم بعد ذلك وتحمل كلمة " لما " الإذن بأن الإيمان سوف يدخل قلوبهم بعد ذلك.
وحين تستخدم كلمة " لما " في النفي تكون " حرفا " مثلها مثل كلمة " لم "، ولكنها تختلف عن " لم " لأن " لم " تجزم الفعل المضارع، ولا يتصل نفيها بساعة الكلام، بل بما مضى، وقد يتغير المواقف. أما " لما " فيتصل نفيها إلى وقت الكلام، وفيها إيذان بأن يحدث ما تنفيه. وهكذا نفهم أن قول الحق سبحانه :﴿ وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير١٦ ( ١١١ ) ﴾ [ هود ] : أي : ان كلا من الطائع والعاصي سيوفى حسابه وجزاءه ثوابا أو عقابا، حين يأتي أجل التوفية، وهو يوم القيامة.
وقد جاءت " لما " لتخدم فكرة العقوبة التي كانت تأتي في الدنيا، وشاء الله سبحانه أن يؤجل العقوبة للكافرين إلى الآخرة، وأنسب حرف للتعبير عن ذلك هو " لما ".
وحين تقرأ ﴿ ليوفينهم ﴾ تجد اللام، وهي لام القسم بأن الحق سبحانه سيوفيهم حسابهم إن ثوابا أو عقابا.
والله سبحانه بما يفعل العباد خبير، وهو سبحانه يعلم أفعال العبد قبل أن تقع، ولكنها حين تقع لا يمكن أن تنسى أو تذهب أدراج الرياح ؛ لأن من يعلمها هو " الخبير " صاحب العلم الدقيق، والخبير يختلف عن العالم الذي قد يعلم الإجماليات لكن الخبير هو المدرب على التخصص.
ولذلك غالبا ما تأتي كلمتا " اللطيف والخبير " معا ؛ لأن الخبير هو من يعلم مواقع الأشياء، واللطيف هو من يعرف الوصول إلى مواقع تلك الأشياء.
ومثال هذا : أنك قد تعرف مكان اختباء رجل في جبل مثلا، هذه المعرفة وهذه الخبرة لا تكفيان للوصول والنفاذ إلى مكانه ؛ بل إن هذا يحتاج إلى ما هو أكثر، وهو الدقة واللطف.
والحق سبحانه جاء بهذا الحديث عن موسى عليه السلام ليسلي رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن بعضا من الكافرين برسالة محمد عليه الصلاة والسلام قالوا : مادام الله يأتي بالعذاب ليبيد من يكفرون برسله، فلماذا لا يأتي لنا العذاب١٧ ؟
ولهذا جاء ما يخبر هؤلاء بأن الحق سبحانه سيوقع العقوبة على الكافرين، لا محالة، فإياك أن يخادعوك- يا رسول الله- في شيء أو يساوموك على شيء، مثلما قالوا : نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة١٨.
وقد سبق أن قطع الحق سبحانه هذا الأمر بأن أنزل :﴿ قل يا أيها الكافرون ( ١ ) لا أعبد ما تعبدون ( ٢ ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( ٣ ) ولا أنا عابد ما عبدتم ( ٤ ) ﴾[ الكافرون ] : وهذا هو قطع العلاقات التام في تلك المسألة التي لا تقبل المساومة، وهي العبادة.
ونحن نعلم أنا لعبادة أمر قلبي، لا يمكن المساومة فيه، وقطع العلاقات في مثل هذا الأمر أمر واجب ؛ لأنه لا يمكن التفاوض حوله ؛ فهي ليست علاقات ظرف سياسي، ولكنه أمر رباني، يحكمه الحق سبحانه وحده.
وقول الحق سبحانه :﴿ قل يا أيها الكافرون ( ١ ) لا أعبد ما تعبدون ( ٢ ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( ٣ ) ولا أنا عابد ما عبدتم ( ٤ ) ﴾ [ الكافرون ] : هذا القول الكريم يشعر من يسمعه ويقرؤه أنهم سيظلون على عبادة غير الله، وأن محمدا سيظل على عبادة الله، وأن كلمة " الله " ستعلو ؛ لأن الحق سبحانه يأتي بعد سورة " الكافرون " بقوله تعالى :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ( ١ ) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ( ٢ ) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا١٩ ( ٣ ) ﴾ [ النصر ].
وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ فاستقم٢٠ كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا٢١ إنه بما تعملون بصير ( ١١٢ ) ﴾ :
١ - الخبير: من أسماء الله الحسنى، قال تعالى: ﴿.. وهو الحكيم الخبير (١٨)﴾ [الأنعام]، والخبير: العالم ببواطن الأمور، قال تعالى: ﴿.. فاسأل به خبيرا (٥٩)﴾ [الفرقان] [القاموس القويم: مادة [خ ب ر]]..
٢ - المحال: ما اقتضى الفساد من كل جهة كاجتماع الحركة والسكون في جسم واحد، والمحال من الأشياء: ما لا يمكن وجوده، والمحال من الكلام: ما عدل به عن وجهه، والمحالة: الحيلة والجمع: محال، ومحاول- بفتح الميم فيهما- ويقال: لا محال من ذلك، أي: لا بد منه المعجم الوسيط: مادة [ح و ل]] بتصرف..
٣ - الملكة-بفتح الميم واللام والكاف-: صفة راسخة في النفس أو استعداد عقلي خاص لتناول أعمال معينة بحذق ومهارة، مثل الملكة العددية، والملكة اللغوية [المعجم الوسيط: مادة [ملك]]..
٤ - فطر الشيء فطرا، شقه. والجمع: فطور، والاسم الفطرة. قال تعالى: ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها..(٣٠)﴾ [الروم] أي: خلقته التي خلق الناس عليها، وقوله تعالى: ﴿.. هل ترى من فطور (٣)﴾ [الملك] أي: من صدوع، أي: هل ترى من خلل أو فساد في الخلق، والاستفهام هنا للنفي، أي لا ترى أي خلل. [القاموس القويم: مادة [فطر]..
٥ - المصقول: اسم مفعول من الفعل:"صقل" وصقل الشيء صقلا وصقالا: جلاه، يقال: صقل السيف والمرآة ونحوهما، ويقال: صقل كلامه: هذبه ونمقه، وصقل الدابة: تعهدها بالتربية، وتستخدم هذه الكلمة أيضا للتعبير عن إجادة شيء مثل اللغة، والموهبة، فيقال: صقل لغته، أي تدرب عليها حتى أجادها، وصقل موهبته بالدراسة، أي: تدرب على استخدامها حتى أجادها [المعجم الوسيط: مادة [صقل]] بتصرف..
٦ - ومما يبين أن اللغة العربية في الجزيرة العربية مصاحبة للفطرة السليمة والملكة الراسخة ما حكي، أن سقاء أمر ابنه أن يمسك بفم قربة الماء، فقال العلام لأبيه: "يا أبت إن القربة غلبتني فوها أدرك فاها لا طاقة لي بقيها" وفي هذا المنطق قواعد لإعراب الأسماء الخمس أو الست فهي تعرب بالواو رفعا، وبالألف نصبا، وبالياء جرا، والأمثلة لا حصر لها وفي المراجع مزيد لكل من أراد..
٧ - لحن لفلان يلحن لحنا: كلمه كلاما يفهمه دون غيره لما فيه من تورية، أو تعريض، أو إشارة خفية، قال تعالى: ﴿ولتعرفنهم في لحن القول..(٣٠)﴾ [محمد] أي: إنك ستعرف المنافقين في أسلوبهم في القول بإخفائه وتحريفه، أي: ستعرفهم في خطأ القول وزلات اللسان. ولحن في كلامه: أخطأ وفي "المعجم الوسيط": لحن القول: فحواه، وما يفهمه السامع المتأمل فيه من وراء لفظه، ويمكن أن يفسر بذلك أيضا. والمراد باللحن في اللغة: الخطأ فيها والخروج عن قواعدها [القاموس القويم: مادة [لحن] بتصرف]..
٨ - الصنديد: الشديد. والجمع صناديد، ويقال: يوم حامي الصناديد، شديد الحر. ويقال: برد صنديد، وريح صنديد، ومطر صنديد أي: شديد وصناديد القدر: دواهيه. [المعجم الوسيط: مادة [صندد]] بتصرف..
٩ - وفى الشيء يفي وفيا: تم ولم يذهب منه شيء، ووفى الرجل بالعهد وفاء: قام به ونفذه، فهو واف. واسم التفضيل: أوفى قال تعالى: ﴿ومن أوفى بعهده من الله...(١١١)﴾ [التوبة] أي: أن الله أعظم وفاء ممن سواه. وقال تعالى: ﴿ثم يجزاه الجزاء الأوفى (٤١)﴾ [النجم] أي: الجزاء الأتم الأكمل ووفى إليه حقه: أوصله إليه كاملا، ويتعدى هذا الفعل لمفعولين فيقال: وفاه حقه. واسم الفاعل موف "اسم منقوص". قال تعالى: ﴿.. وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص (١٠٩)﴾ [هود] [القاموس القويم: مادة [وفى]]..
١٠ - إن التوكيد للمنكر من فنون البلاغة، يقول الإمام السيوطي في الإتقان [٣/ ١٩٣]: "ويتفاوت التأكيد بحسب قوة الإنكار وضعفه. كقوله تعالى حكاية عن رسل عيسى إذ كذبوا في المرة الأولى ﴿إنا إليكم مرسلون (١٤)﴾ [يس]، فأكد بإن وإسمية الجملة. وفي المرة الثانية: ﴿قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون (١٦)﴾ [يس]، فأكد بالقسم وإن واللام وإسمية الجملة، لمبالغة المخاطبين في الإنكار حيث قالوا: ﴿ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون (١)﴾ [يس]..
١١ - التنوين في اللغة: هو نون ساكنة تتبع آخر الاسم لفظا وتفارقه خطا، وهو أنواع منها تنوين التمكين والتنكير والعرض والترنم. [راجع شرح الأشموني على الألفية [١/١٨]]..
١٢ - الحلقوم: الحلق. والحلقوم علميا الآن: هو تجويف خلف تجويف الفم، وفيه ست فتحات: فتحة الفم، وفتحتا المنخرين، وفتحتا الأذنين، وفتحة الحنجرة، ويمر الطعام والشراب من الحلقوم إلى المرء، أما النفس فهو يمر من الحلقوم إلى الحنجرة، قال تعالى: ﴿فلولا إذا بلغت الحلقوم (٨٣)﴾ [الواقعة] كناية عن الاحتضار للموت، أي: بلغت الروح الحلقوم وهي خارجة من الجسد [القاموس القويم: مادة [ح ل ق]]..
١٣ - الميقات: الوقت المحدد لعمل من الأعمال قال تعالى: ﴿فتم ميقات ربه أربعين ليلة..(١٤٢)﴾ [الأعراف] أي: تم الزمن المحدد لمناجاة ربه. وقال تعالى: ﴿إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين (٤٠)﴾ [الدخان] أي: وقتهم المحدد لبعثهم وحسابهم، والجمع: مواقيت [القاموس القويم: مادة [وقت]]..
١٤ - فصل عن المكان: جاوزه، قال تعالى: ﴿ولما فصلت العير..(٩٤)﴾ [يوسف] أي: خرجت وجاوزت المدينة [القاموس القويم: مادة [فصل]]..
١٥ - قوله: ﴿إني لأجد ريح يوسف..(٩٤)﴾ [يوسف] أي: ريحا تحمل رائحته، أو الريح بمعنى الرائحة، أي: رائحته [القاموس القويم ١ /٢٨٠]..
١٦ - الخبير: من أسماء الله الحسنى قال تعالى: ﴿... وهو الحكيم الخبير (١٨)﴾ [الأنعام] وخبر الأمر، وخبر بالأمر، كعلمه، وعلم به- وزنا ومعنى- فهو به خبير، والخبير: العالم ببواطن الأمور، قال تعالى: ﴿.. فاسأل به خبيرا (٥٩)﴾ [الفرقان]. [القاموس القويم: مادة [خبر]]..
١٧ - إن وعد الله له توقيته المراد له مصداقا لقوله تعالى: ﴿ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار (٤٢)﴾ [إبراهيم] وقوله: ﴿سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (٤٤) وأملي لهم إن كيدي متين (٤٥)﴾ [القلم]..
١٨ - ذكر الواحدي في أسباب النزول [ص ٢٦١] "أن رهطا من قريش قالوا: يا محمد هلم اتبع ديننا ونتبع دينك، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا قد شركناك فيه وأخذنا بحظا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يدك قد شركت في أمرنا وأخذت بحظك، فقال: معاذ الله أن أشرك به غيره، فأنزل الله تعالى: ﴿قل يا أيها الكافرون (١)﴾ [الكافرون] إلى آخر السورة، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فأيسوا منه عند ذلك..
١٩ - يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إذا جاء نصر الله – يا محمد – على قومك من قريش، والفتح: فتح مكة، ورأيت الناس: من صنوف العرب وقبائلها يدخلون في دين الله أفواجا: أي في دين الله الذي ابتعثك به أفواجا: يعني زمرا (جماعات)، فوجا فوجا، فسبح بحمد ربك: أي فسبح ربك وعظمه بحمده وشكره، واستغفره: وسله أن يغفر ذنوبك، إنه كان توابا: أي: ذا رجوع لعبده المطيع إلى ما يحب. [مختصر تفسير الطبري- بتصرف]..
٢٠ - استقام الشيء: خلا من العوج، واستقام المؤمن: سلك الطريق القويم، قال تعالى: ﴿فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم..(٧)﴾ [التوبة] أي: حافظوا على الوفاء لهم بعهدكم ما داموا هم يحافظون على عهودكم، ولم ينكثوا العهد معكم. [القاموس القويم: مادة [قوم]]..
٢١ - طغا يطغو طغوانا وطغوى: فعل واوى، بمعنى: تجاوز الحد في الجور والتعدي، وطغى يطغى وطغى طغيانا: فعل يائي، بمعنى: تجاوز الحد، قال تعالى: ﴿الذين طغوا في البلاد (١١)﴾ [الفجر] أي: ظلموا وتجاوزوا الحد في العصيان. [القاموس القويم: مادة [طغى]]..
والاستقامة معناها : عدم الميل أو الانحراف- ولو قيد شعرة- وهذا أمر يصعب تحقيقه ؛ لأن الفاصل بين الضدين، أو بين المتقابلين هو أدق من الشعرة في بعض الأحيان.
ومثال ذلك : حين ترى الظل والضوء، فأحيانا يصعد الظل على الضوء، وأحيانا يصعد الضوء على الظل، وسنجد صعوبة في تحديد الفاصل بين الظل والنور، مهما دقت المقاييس.
وهكذا يصبح فصل الشيء عن نقيضه صعبا، ولذلك فالاستقامة أمر شاق للغاية.
وساعة أن نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( شيبتني هود وأخواتها )١.
ولولا أن قال الحق سبحانه في كتابه الكريم :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم٢.. ( ١٦ ) ﴾[ التغابن ].
فلولا نزول هذه الآية لتعب المسلمون تماما، وقد أنزل الحق سبحانه هذا القول بعد أن قال :﴿ اتقوا الله حق تقاته٣.. ( ١٠٢ ) ﴾[ آل عمران ] : وعز ذلك على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الحق سبحانه ما يخفف به عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن قال سبحانه :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم.. ( ١٦ ) ﴾ [ التغابن ].
إذن : فالأمر بالاستقامة هو أمر بدقة الأداء المطلوب لله أمرا ونهيا، بحيث لا نميل إلى جهة دون جهة.
وهكذا تطلب الاستقامة كامل اليقظة وعدم الغفلة.
ويقول الحق سبحانه :﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك.. ( ١١٢ ) ﴾[ هود ] : وهذا إيذان بألا ييأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقوف صناديد قريش أمام دعوته صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم سيتساقطون يوما بعد يوم.
وقول الحق سبحانه :﴿ .. ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ( ١١٢ ) ﴾[ هود ] : يعني ألا نتجاوز الحد، فالطغيان هو مجاوزة الحد.
وهكذا نعلم أن الإيمان قد جعل لكل شيء حدا، إلا أن حدود الأوامر غير حدود النواهي ؛ فالحق سبحانه إن أمرك بشيء، فهو يطلب منك أن تلتزمه ولا تتعده.
وقال الحق سبحانه :﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها٤... ( ٢٢٩ ) ﴾ [ البقرة ] : وهذا القول في الأوامر، أما في النواهي فقد قال سبحانه :﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها٥... ( ١٨٧ ) ﴾[ البقرة ] : أي : أن تبتعد عنها تماما.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى٦ يوشك أن يرتع٧ فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه )٨.
وحين ينهانا الحق سبحانه عن الاقتراب من شيء فهذه هي استقامة الاحتياط، وهي قد تسمح لك بأن تدخل في التحريم ما ليس داخلا فيه، فمثلا عند تحريم الخمر، جاء الأمر باجتنابها أي : الابتعاد عن كل ما يتعلق بالخمر حتى لا يجتمع المسلم هو والخمر في مكان.
وجعل الحق سبحانه أيضا الاستقامة في مسائل الطاعة، وهو سبحانه يقول :﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا٩.. ( ١٤١ ) ﴾[ الأنعام ] : والنهي عن الإسراف هنا : ليعصمنا الحق سبحانه من لحظة نتذكر فيها كثرة ما حصدنا، ولكننا لا نجد ما نقيم به الأود١٠ فقد يسرف الإنسان لحظة الحصاد لكثرة ما عنده، ثم تأتي له ظروف صعبة فيقول : " يا ليتني لم أعط ". وهكذا يعصمنا الحق سبحانه من هذا الموقف.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( سددوا )١١ وقاربوا اعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل )١٢ ؛ لأن الدين قوي متين١٣، و( لن يشاد الدين أحد إلا غلبه )١٤.
وهكذا نجد الحق سبحانه ونجد رسوله صلى الله عليه وسلم أعلم بنا، والله لا يريد منا عدم الطغيان من ناحية المحرمات فقط، بل من ناحية الحل أيضا، فيوصينا سبحانه بالرفق واللين والهوادة، وأن يجعل الإنسان لنفسه مكنة الاختيار.
ومثال ذلك : أن يلزم الإنسان نفسه بعشرين ركعة كل ليلة، وهو يلزم نفسه بذلك نذرا لله تعالى في ساعة صفاء، لكنه حين يبدأ في مزاولة ذلك القدر يكتشف صعوبته، فتكرهه نفسه.
ولذلك يأمرنا الحق سبحانه بالاستقامة وعدم الطغيان ؛ استقامة في تحديد المأمور به والمنهي عنه ؛ ولذلك كان الاحتياط في أمر العبادات أوسع لمن يطلب الاستقامة.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الحلال بيّن١٥ والحرام بيّن، وبينما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ؛ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ١٦ لدينه وعرضه ).
ولذلك يطلب الشارع الحكيم سبحانه منا في الاحتياط أن نحتاط مرة بالزيادة، وأن نحتاط مرة بالنقص، فحين تصلي خارج المسجد الحرام، يكفيك أن تكون جهتك الكعبة، أما حين تصلي في المسجد الحرام، فأنت تعلم أن الكعبة قسمان : قسم بنايته عالية، وقسم اسمه " الحطيم " ١٧ وهو جزء من الكعبة، لكن نفقتهم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قصرت ؛ فلم يبنوه١٨.
لذلك فأنت تتجه ببصرك إلى البناء العالي المقطوع بكعبيته، وهذا هو الاحتياط بالنقص.
أما الاحتياط بالزيادة، فمثال ذلك : هو الطواف، وقد يزدحم البشر حول الكعبة، ولا تسمح ظروفك إلا بالطواف حول المسجد.
وهكذا يطول عليك الطواف، لكنه طواف بالزيادة، فعند الصلاة يكون الاحتياط بالنقص، أما عند الطواف فيكون الاحتياط بالزيادة.
وهكذا نجد الاحتياط هو الذي يحدد معنى الاستقامة.
وينهى الحق سبحانه الآية بقوله تعالى :﴿ .. إنه بما تعملون بصير ( ١١٢ ) ﴾[ هود ].
وفي الآية السابقة قال سبحانه :﴿ .. إنه بما يعملون خبير ( ١١١ ) ﴾[ هود ].
وعلمنا معنى الخبير، أما المقصود بالبصير هنا فهو أنه سبحانه يعلم حركة العبادة ؛ لأن حركة العبادة مرئية.
١ - عن أبي جحيفة قال: قالوا يا رسول الله نراك وقد شبت؟ قال " شيبتني هود وأخواتها" أخرجه أبو نعيم في الحلية [٤/٣٥٠] وأورده الهيثمي في المجمع [٧/٣٧] من حديث عقبة بن عامر وعزاه للطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح" وأخوات سورة هود التي شيبت رسول الله هي سورة الواقعة والمرسلات والنبأ والتكوير، انظر الترمذي في سننه [٣٢٩٧]..
٢ - اتقى: أصله [أوتقى] على وزن [افتعل]، قلبت واو الفعل تاء، وأدغمت في تاء الافتعال، واتقى الله تجنب ما يغضبه، وما يسبب عذابه، وذلك بطاعة الله، وبالعبد عن معصيته، قال تعالى: ﴿.. لعلكم تتقون (٢١)﴾ [البقرة] أي: تحفظون أنفسكم من عذاب الله بطاعته وترك معصيته. [القاموس القويم مادة [و ق ي]]..
٣ -- التقاة: الاتقاء والتقوى، وأصلها: وقية، قلبت الواو تاء، والياء ألفا، وجمعها تقى، قال تعالى: ﴿إلا أن تتقوا منهم تقاة..(٢٨)﴾ [آل عمران] أي: إلا أن تخافوا منهم شرا، وتحذروا منهم مكروها، لا تريدونه لأنفسكم. [القاموس القويم: مادة [وقى]]..
٤ - اعتدى: ظلم وجار، قال تعالى: ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم..(١٩٤)﴾ [البقرة] أي: فعاقبوه على اعتدائه، وسمى عقاب المعتدي اعتداء؛ للمشاكلة، وعدا يعدو، عدوا جرى، وعدا عليه عدوا وعدوانا: ظلمه وصال عليه، مثل: اعتدى عليه. والمراد بعدم الاعتداء هنا عدم تجاوز حدود الله التي نهى سبحانه عن اقترفها. [القاموس القويم: مادة [عدا] بتصرف]..
٥ - قربت الأمر، أقربه قربانا وقربا: فعلته أو دانيته، ومنه قول الله تعالى: ﴿ولا تقربوا الزنى..(٣٢)﴾ [الإسراء] وقوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشجرة..(٣٥) [البقرة] أي: لا تأتيها ولا تلمساها ولا تأكل منها والنهي من باب أولى عن الشيء وكذلك: ﴿ولا تقربوا الزنى..(٣٢)﴾ [الإسراء] فإنه نهى عن القرب منه، وهو نهي عن المس وعن القبلة ونحوها مما يقرب الإنسان من الوقوع فيه. [القاموس القويم: مادة [ق ر ب]]..
٦ - قال النووي في شرحه: "معناه أن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكل ملك منهم حمى يحميه عن الناس ويمنعهم دخوله، فمن دخله أوقع به العقوبة، ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى، خوفا من الوقوع فيه" [٣/ ١٢٢٠] ط. فؤاد عبد الباقي..
٧ - الرتع: الأكل بشره، والرتع في الخصب هو الرعي فيه، وأرتع القوم، وقعوا في خصب ورعوا [اللسان: مادة رتع]..
٨ - متفق عليه: أخرج البخاري في صحيحه [٢٠٥١] ومسلم في صحيحه [١٥٩٩] من حديث النعمان بن بشير..
٩ - أسرف: جاوز القصد والاعتدال، فهو سرف، ويكون في المال وفي غيره، قال تعالى: ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (٦٧)﴾ [الفرقان] أي: معتدلا في إنفاق المال. وقال تعالى: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله.. (٥٣)﴾ [الزمر] أي: جاوزوا القصد والاعتدال في أمور كثيرة، فأكثروا الذنوب على نفوسهم، وقال تعالى: ﴿فلا يسرف في القتل..(٣٣)﴾ [الإسراء] أي: لا يقتل أكثر من القاتل، كما كانوا يفعلون في الجاهلية، فيقتلون بالشريف عددا عن قبيلة القاتل، وقال تعالى: ﴿ولا تطيعوا أمر المسرفين (١٥١)﴾ [الشعراء] والإسراف يكون في أمور كثيرة لا في إنفاق المال وحده، ومن حكم الصالحين: لا إسراف في الخير ولا خير في الإسراف [القاموس القويم: مادة [سرف]]..
١٠ - الأود: أي ما يكون قوتا ضروريا له فتقوم به حياته..
١١ - سد الشيء سدادا وسدودا: استقام، يقال: سد السهم، وسد فلان: أصابه قوله وفعله، وسد قوله وفعله: استقام وأصاب، فهو سديد والسداد: الاستقامة والقصد، والصواب من القول والفعل. [المعجم الوسيط: مادة [سدد] بتصرف]..
١٢ - متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه [٦٤٦٣] ومسلم في صحيحه [٢٨١٦] عن أبي هريرة..
١٣ -عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق) أخرجه أحمد في مسنده [٣/١٩٩]..
١٤ - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) أخرجه النسائي في سننه [٨/١٢٢]..
١٥ - بين: صيغة مبالغة من البيان: أي: شديد الوضوح..
١٦ - استبرأ من الدين والذنب: طلب البراءة منه، واستبرأ الشيء: تقصى بحثه ليقطع الشبهة عنه [المعجم الوسيط: مادة [برأ]]..
١٧ - الحطيم: الجدار، وهو هنا جدار الكعبة، قال الأزهري: الذي فيه المرزاب، وإنما سمى حطيما لأن البيت رفع وترك ذلك محطوما [اللسان: مادة: حطمِِ].
١٨ - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر (هو حجر الكعبة) أمن البيت هو؟ قال: نعم. قلت: فلم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة. قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن الرزق بابه بالأرض" متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه [١٥٨٤] ومسلم في صحيحيه [١٣٣٣- رواية رقم ١٠]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ ولا تركنوا١ إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ( ١١٣ ) ﴾ :
والكافرون- كما نعلم- قد عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة، وأن يعبدوا هم الله سنة، ولكن الحق سبحانه قطع وفصل في هذا الأمر.
ويأتي هنا توكيد هذا الأمر ؛ فيقول سبحانه :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا٢.. ( ١١٣ ) ﴾ [ هود ] : والركون هو الميل والسكون والمودة والرحمة، وأنت إذا ركنت للظالم ؛ أدخلت في نفسه أن لقوته شأنا في دعوتك.
والركون أيضا يعني : المجاملة، وإعانة هذا الظالم على ظلمه، وأن تزين للناس ما فعله هذا الظالم.
وآفة الدنيا هي الركون للظالمين ؛ لأن الركون إليهم إنما يشجعهم على التمادي في الظلم، والاستشراء فيه، وأدنى مراتب الركون إلى الظالم ألا تمنعه من ظلم غيره، وأعلى مراتب الركون إلى الظالم أن تزين له هذا الظلم ؛ وأن تزين للناس هذا الظلم.
وأنت إذا استقرأت وضع الظلم في العالم كله لوجدت أن آفات المجتمعات الإنسانية إنما تنشأ من الركون إلى الظالم ؛ لكنك حين تبتعد عن الظالم، وتقاطعه أنت ومن معك ؛ فلسوف يظن أنك لم تعرض عنه إلا لأنك واثق بركن شديد آخر ؛ فيتزلزل في نفسه ؛ حاسبا حساب القوة التي تركن إليها ؛ وفي هذا إضعاف لنفوذه ؛ وفي هذا عزلة له وردع ؛ لعله يرتدع عن ظلمه.
والركون للظالم إنما يجعل الإنسان عرضة لأن تمسه النار بقدر آثار هذا الركون ؛ لأن الحق سبحانه يقول :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم٣ النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ( ١١٣ ) ﴾[ هود ].
فأنتم حين تركنون إلى ظالم إنما تقعون في عداء مع منهج الله ؛ فيتخلى الله عنكم ولا ينصركم أحد ؛ لأنه لا ولي ولا ناصر إلا الله تعالى.
١ - ركن يركن ركنا وركونا. مال إليه وسكن، وركن الشيء: جانبه الأقوى. قال تعالى: ﴿.. أو آوي إلى ركن شديد (٨٠)﴾ [هود] أي: ألجأ إلى حصن قوي يحميني، أو إلى رجل قوي يحميني وينصرني عليكم، كأنه ركن ممتنع حصين، وقال تعالى: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار..(١١٣)] [هود] أي: لا تميلوا إليهم وتعتمدوا عليهم. وقال تعالى: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (٧٤)﴾ [الإسراء] أي: تميل إليهم [القاموس القويم: مادة [ركن]]..
٢ - الظلم: مجاوزة الحد ومفارقة الحق أو هضمه وانتقاصه، وهو ضد العدل، قال تعالى: ﴿وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (١١٨)﴾ [النحل] والظالم اسم فاعل يقول الحق: ﴿وهو ظالم لنفسه...(٣٥)﴾ [الكهف]، والظلام صيغة مبالغة يقول الحق: ﴿إن الإنسان لظلوم كفار (٣٤)﴾ [إبراهيم] وظلام صيغة مبالغة يقول الحق: ﴿وما أنا بظلام للعبيد (٢٩)﴾ [ق]، ومظلوم اسم مفعول يقول الحق: ﴿ومن قتل مظلوما..(٣٣)﴾ [الإسراء] [القاموس القويم١/٤١٦، ٤١٧]..
٣ - مسه يمسه مسا: أجرى يده عليه من غير حائل.
ومسته النار: أصابته، وباشرت جلده، فآذته.
ومسه المرض- على المجاز- أصابه قال تعالى: ﴿.. وإذا مسه الشر كان يئوسا (٨٣)﴾ [الإسراء] [القاموس القويم: مادة [مس]]..

ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا١ من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ( ١١٤ ) ﴾ :
وهذا أمر بالخير ؛ يوجهه الله سبحانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن نلحظ في هذه الآيات من سورة هود أنها تحمل أوامر ونواهي ؛ الأوامر بالخير دائما ؛ والنواهي عن الشر دائما.
ونلحظ أن الحق سبحانه قال :﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك.. ( ١١٢ ) ﴾[ هود ].
ثم وجه النهي للأمة كلها :﴿ ولا تطغوا... ( ١١٢ ) ﴾ [ هود ]. ولم يقل " فاستقم ولا تطغى " لأن الأمر بالخير يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته معه ؛ وفي النهي عن الشر يكون الخطاب موجها إلى الأمة، وفي هذا تأكيد لرفعة مكانة النبي صلى الله عليه وسلم.
ونرى نفس الأمر حين يوجه الحق سبحانه الحديث إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيقول سبحانه وتعالى :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا... ( ١١٣ ) ﴾ [ هود ]. ولم يقل : " ولا تركن إلى الذين ظلموا ".
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأمته :﴿ أقم الصلاة... ( ١١٤ ) ﴾ [ هود ] : والإقامة تعني : أداء المطلوب على الوجه الأكمل، مثل إقامة البنيان ؛ وأن تجعله مؤديا للغرض المطلوب منه.
ويقال : " أقام الشيء " أي : جعله قائما على الأمر الذي يؤدي به مهمته.
وقول الحق سبحانه :﴿ وأقم الصلاة طرفي٢ النهار... ( ١١٤ ) ﴾[ هود ] : أي : نهايته من ناحية، ونهايته من الناحية الأخرى ؛ لأن طرف الشيء هو نهايته.
وتتحدد نهاية الطرفين من منطقة وسط الشيء، فالوسط هو الفاصل بين الطرفين ؛ فما على يمين الوسط يعد طرفا ؛ وما على يسار الوسط يعد طرفا آخر ؛ وكل جزء بعد الوسط طرف.
وعادة ما يعد الوسط هو نقطة المنتصف تماما، وما على يمينها يقسم إلى عشرة أجزاء، وما على يسارها يقسم إلى عشرة أجزاء أخرى، وكل قسم بين تلك الأجزاء التي على اليمين والتي على اليسار يعد طرفا.
وقول الحق سبحانه :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار.. ( ١١٤ ) ﴾ [ هود ] : يقتضي أن تعرف أن النهار عندنا إنما نتعرف عليه من بواكير الفجر الصادق، وهذا هو أول طرف نقيم فيه صلاة الفجر، ثم يأتي الظهر ؛ فإن وقع الظهر قبل الزوال٣ حسبناه من منطقة ما قبل الوسط، وإن كان بعد الزوال حسبناه من منطقة ما بعد الوسط.
وبعد الظهر هناك العصر، وهو طرف آخر٤.
وقول الحق سبحانه :﴿ وزلفا من الليل... ( ١١٤ ) ﴾[ هود ] : يقتضي منا أن نفهم أن كلمة ﴿ زلفا ﴾ هي جمع : زلفة، وهي مأخوذة من : أزلفه، إذا قربه.
والجمع أقله ثلاثة : ونحن نعلم أن لنا في الليل صلاة المغرب، وصلاة العشاء، ولذلك نجد الإمام أبا حنيفة يعتبر الوتر واجبا٥ ؛ فقال : إن صلاة العشاء فرض، وصلاة الوتر واجب ؛ وهناك فرق بين الفرض والواجب٦.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك مباشرة :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات٧.. ( ١١٤ ) ﴾[ هود ] : وهذا التعقيب يضع الصلاة في قمة الحسنات، وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بأن قال :( الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر )٨.
واختلف العلماء في معنى السيئات والحسنات، وقال بعضهم : الحسنة هي ما جعل الله سبحانه على عملها ثوابا، والسيئة هي ما جعل الله على عملها عقابا.
وأول الحسنات في الإيمان أن تشهدوا أن لا إله إلا الله، وهذه حسنة أذهبت الكفر ؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات.
ولذلك قال بعض العلماء : إن المسلم الذي ارتكب معصية أو كبيرة من الكبائر، لا يخلد في النار ؛ لأنه إذا كانت حسنة الإيمان قد أذهبت سيئة الكفر، أفلا تذهب ما دون الكفر ؟
وهكذا يخفف العقاب على المسلم فينال عقابه من النار، ولكنه لا يخلد فيها ؛ لأننا لا يمكن أن نساوي بين من آمن بالله ومن لم يؤمن بالله.
والإيمان بالله هو أكبر حسنة، وهذه الحسنة تذهب الكفر، ومن باب أولى أن تذهب ما دون الكفر.
وتساءل بعض العلماء : هل الفرائض هي الحسنات التي تذهب السيئات ؟
وأجاب بعضهم : هناك أحاديث صحيحة قد وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حسنات في غير الفرائض، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صوم يوم عرفة إلى صوم يوم عرفة يذهب السيئات٩.
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإنسان الذي يستقبل نعمة الله بقوله : الحمد لله الذي رزقنيه من غير حول١٠ مني ولا قوة، والحمد لله الذي كساني من غير حول مني ولا قوة١١. وهذا القول يكفر السيئات.
ألم يقل صلى الله عليه وسلم إنك إذا قلت : سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم١٢ فهذا القول كفارة١٣ ؟
إذن : فالحسنات مطلقة سواء أكانت فرضا أم غير فرض، وهي تذهب السيئات، والسيئة هي عمل توعد الله- سبحانه- من يفعله بالعقوبة.
وتساءل أيضا بعض العلماء : إن السيئة عمل، والعمل إذا وقع يرفع ويسجل، فكيف تذهبها الحسنة ؟
وأجابوا : إن ذهاب السيئة يكون إما عن طريق من يحفظ العمل، ويكتبه عليك، فيمحوه الله من كتاب سيئاتك، أو أن يعفو الله سبحانه وتعالى عنك ؛ فلا يعاقبك عليه، أو يكون ذهاب العمل في ذاته فلا يتأتى، وما وقع لا يرتفع ؛ أو يحفظها الله إن وقعت ؛ لأنه هو سبحانه القائل :﴿ وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد١٤ ( ١٨ ) ﴾[ ق ].
ويقول سبحانه :﴿ وإن عليكم لحافظين ( ١٠ ) كراما كاتبين ( ١١ ) ﴾ [ الانفطار ].
وهكذا يكون إذهاب السيئة، إما محوها من الكتاب، وإما أن تظل في الكتاب، ويذهب الله سبحانه عقوبتها بالمغفرة.
والحق سبحانه يقول :﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم١٥ إن ربك واسع المغفرة.. ( ٣٢ ) ﴾[ النجم ] : واجتناب الكبائر لا يمنع من وقوع الصغائر.
والحق سبحانه يقول :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر١٦.. ( ٤٥ ) ﴾ [ العنكبوت ] : وحين ننظر إلى مواقيت الصلاة، نجدها خمسة مواقيت، فمن تعلق قلبه بالصلاة، إنما ينشغل قلبه طوال وقت حركته بإقامة الصلاة، ثم يأتي وقت الليل لينام، وكل من يرتكب معصية سينشغل فكره بها لمدة، ولو لم يأت له وقت صلاة لأحس بالضياع، أما إذا ما جاء وقت الصلاة، فقلبه يتجه لله سبحانه طالبا المغفرة.
وإن وقعت منه المعصية مرة، فقد لا تقع مرة أخرى، أو أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر في وقت الاستعداد لها، فمن جلس لينم على غيره، أو يظلم الناس، إذا ما سمع أذان الصلاة وقام وتوضأ ؛ فقد رحم الناس في وقت وضوئه ووقت صلاته ووقت ختمه للصلاة.
وهنا أعمال كثيرة من الفروض والحسنات وهي تمحو السيئات، وعلى المسلم أن ينشغل بزيادة الحسنات، وألا ينشغل بمحو السيئات ؛ لأن الحسنة الواحدة بعشرة أمثالها وقد يضاعفها الله سبحانه، أما السيئة فإنما تكتب واحدة١٧.
وينهى الحق سبحانه هذه الآية الكريمة بقوله :﴿ .. ذلك ذكرى للذاكرين ( ١١٤ ) ﴾[ هود ] : أي : أن إقامة الصلاة طرفي النهار، وزلفا من الليل هي حسنات تذهب السيئات ؛ وفي ذلك ذكرى وتنبيه للنفس إلى شيء غفل عنه، أي : أن هذا الشيء كان موجودا من قبل، ولكن جاءت الغفلة لتنسيه، والإخبار الأول أزال الجهل بهذا الشيء، والإخبار الثاني يذكرك بالحكم ؛ لأن آفة الإنسان أن الأمور التي تمر به من المرائي والمدركات، تتوالى وتصير الأشياء التي في بؤرة١٨ الشعور إلى حاشية الشعور، فيغفل الإنسان عما صار في حاشية الشعور، ولا بد من مجيء معنى جديد ليذكر بما غاب في حاشية الشعور.
ومثال ذلك : إنك إذا ألقيت حجرا في بحر، فهذا الحجر يستقر في بؤرة تصنع حولها دوائر من المياه، وتذهب هذه الدوائر إلى أن تختفي من رؤية الإنسان، ودليل ذلك أن قد تتذكر أحداثا مرت عليك من عشرين عاما أو أكثر، هذه الأحداث كانت موجودة في حاشية الشعور، ثم جاءت لك ما ينبهك إليها.
والمخ كآلة التصوير الفوتوغرافية يلتقط أحيانا من مرة واحدة، وأحيانا من مرتين، أو أكثر، والالتقاط من أول مرة إنما يتم لأن المخ في تلك اللحظة كان خاليا من الخواطر.
ونحن نجد أن من فقدوا أبصارهم إنما ينعم الله سبحانه عليهم بنعمة أخرى، هي قدرتهم الكبيرة على حفظ العلم ؛ لأنه حين يسمع الكفيف العلم لا تشغله الخواطر المرئية التي تسرق انتباه بؤرة الشعور، أما المبصر، فقد تسرق بؤرة شعوره ما يمر أمامه، فيسمع العلم لأكثر من مرة إلى أن يصادف العلم بؤرة الشعور خالية فيستقر فيها.
وهكذا تفعل الذكرى ؛ لأنها تستدعي ما في حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور، فإذا انشغلت عن طاعة وذهبت إلى معصية، فالذكرى توضح لك آفاق المسؤولية التي تتبع المعصية، وهي العقاب.
ولذلك يقال : " لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة ".
والحق سبحانه يقول هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل.. ( ١١٤ ) ﴾[ هود ].
وأنت حين تنظر إلى أركان الإسلام، ستجد أنك تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله مرة واحدة في العمر، والركن الثاني، وهو الصلاة، وهو ركن لا يسقط أبدا، فهي كل يوم خمس مرات، فيها تنطق بالشهادة، وتزكي ببعض الوقت ليبارك لك الله-سبحانه وتعالى- فيما بقي لك من وقت، وفيها تصوم عن الطعام والشراب وكل ما يفسد الصيام، وأنت تتجه لحظة قيام الصلاة إلى البيت الحرام.
ففي الصلاة تتضح العبادات الأخرى، ففيها أركان الإسلام الخمس.
ولذلك لا تسقط الصلاة أبدا ؛ لأنك إن لم تستطع الصلاة واقفا ؛ فلك أن تصلي قاعدا، وإن لم تكن تستطيع الحركة فلك أن تحرك رموش عينيك، وأنت تصلي١٩.
وهكذا تجد في الصلاة كل أركان الدين، ولأهميتها نجد أنها تبقى مع الإنسان إلى آخر رمق في حياته، وهي قد أخذت أهميتها في التشريع على قدر أهميتها في التكليف، وكل تكاليف الإسلام قد جاءت بواسطة الوحي إلا الصلاة، فقد جاءت مباشرة من الله تعالى، فقد استدعى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم إليه ليفرض عليه الصلاة٢٠ وهي تحية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم نظرا لأنها شرعت في قرب محمد صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى.
لذلك جعل الحق سبحانه الصلاة المفروضة في القرب وسيلة لقرب أمة رسوله صلى الله عليه وسلم جميعا ؛ ولذلك فهي الباقية.
ويحكى أن الإمام عليا- كرم الله وجهه ورضي عنه- أقبل على قوم وقال لهم : أي آية في كتاب الله أرجى عندكم ؟
أي : ما هي الآية التي تعطي الرجاء والطمأنينة والبشرى بأن الحق سبحانه يقبلنا ويغفر لنا ويرحمنا، فقال بعضهم : هي قول الحق سبحانه :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.. ( ١١٦ ) ﴾[ النساء ].
فقال الإمام علي : حسنة، وليست إياها، أي : أنها آية تحقق ما طلبه، لكنها ليست الآية التي يعنيها.
فقال بعض القوم : إنها قول الحق سبحانه :﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ( ١١٠ ) ﴾ [ النساء ].
فكرر الإمام على : حسنة، وليست إياها.
فقال بعض القوم : هي قول الحق سبحانه :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا٢١ على أنفسهم لا تقنطوا٢٢ من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا.. ( ٥٣ ) ﴾[ الزمر ].
فقال الإمام علي : حسنة، وليست إياها.
فقال بعضهم هي قوله سبحانه :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة٢٣
١ - زلف إليه يزلف زلفة وزلفى: قرب ودنا، قال تعالى: {فلما رأوه زلفة..(٢٧)﴾ [الملك] أي: قربا وهو وصف بالمصدر بلفظه، ويعرب حالا، أي: ذا قرب، أي: قريبا قربا شديدا.
والزلفى: القرب والمنزلة والدرجة، قال تعالى: ﴿وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى..(٣٧)﴾ [سبأ] أي: قربا، مفعول مطلق مرادف، أو تقربكم درجة ومنزلة قريبة منا. والزلفة: الطائفة من الليل، وجمعها: زلف، قال تعالى: ﴿وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل(١١٤)﴾ [هود] أي: أوقاتا وساعات من الليل. قيل: في أوله، وقيل: في آي وقت فيه. [القاموس القويم: مادة [زلف]]..
٢ - الطرف- بفتح الراء-: الجانب ومنتهى الشيء. قال تعالى: ﴿ليقطع طرفا من الذين كفروا...(١٢٧)﴾ [آل عمران] أي: يهلك جانبا منهم، أي: طائفة منهم. وقال تعالى: ﴿وأقم الصلاة طرفي النهار..(١١٤)﴾ [هود] أي: صباحا ومساء، والمراد، جميع الأوقات، ويؤيده قوله تعالى: ﴿.. ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى (١٣٠)﴾ [طه] أي: جميع الأوقات [القاموس القويم، مادة: طرف]..
٣ - الزوال: الوقت الذي تكون فيه الشمس في كبد السماء. [المعجم الوسيط: مادة [زول]]..
٤ - قال مجاهد: الطرف الأول صلاة الصبح، والطرف الثاني صلاة الظهر والعصر، واختاره ابن عطية، وقيل: الطرفان الصبح والمغرب، قاله ابن عباس والحسن وعن الحسن أيضا: الطرف الثاني العصر وحده، وقاله قتادة والضحاك، نقله القرطبي في تفسيره [٤/٣٤٢٨]..
٥ - قال الشوكاني في نيل الأوطار [٣/٣٠]: "ذهب الجمهور إلى أن الوتر غير واجب بل سنة، وخالفهم أبو حنيفة فقال: إنه واجب، وروى عنه أنه فرض، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحد وافق أبا حنيفة في هذا، ومن الأدلة الدالة على عدم وجوب الوتر ما اتفق عليه الشيخان من حديث طلحة ابن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات في اليوم والليلة. قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع)..
٦ الفرض: ما ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه ويكفر جاحده ويعذب تاركه، وهو على نوعين: فرض عين وفرض كفاية، ففرض العين ما يلزم كل واحد إقامته، ولا يسقط عن البعض بإقامة البعض كالإيمان ونحوه، وفرض الكفاية ما يلزم جميع المسلمين إقامته، ويسقط بإقامة البعض عن الباقين كالجهاد وصلاة الجنازة، أما الواجب: فهو اسم لما لزم علينا بدليل فيه شبهة كخبر الواحد والقياس والعام المخصوص والآية المؤولة كصدقة الفطر والأضحية. [التعريفات للجرجاني- صفحات ١٤٤، ٢٢٢]..
٧ - ذكر القرطبي في تفسيره [٤/٣٤٣٠] أن سبب نزول هذه الآية أن رجلا من الأنصار خلا بامرأة فقبلها وتلذذ بها فيما دون الفرج، روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها وأنا هذا فاقض في ما شئت، فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فانطلق الرجل فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، فتلا عليه: ﴿وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين (١١٤)﴾ [هود] فقال رجل من القوم: هذا له خاصة؟ قال: (لا بل للناس كافة) قال الترمذي: " حديث حسن صحيح"..
٨ أخرجه مسلم في صحيحه (٢٣٣) وأحمد في مسنده (٢/ ٤٨٤) وابن ماجه في سننه (١٠٨٦) من حديث هريرة..
٩ - عن قتادة بن النعمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام يوم عرفة غفر له سنة أمامه وسنة بعده)..
١٠ - الحول: الحذق، وجودة النظر، والقدرة على دقة التصرف في الأمور [المعجم الوسيط: مادة [حول]]..
١١ - عن معاذ بن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل طعاما ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومن لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) أخرجه أبو داود في سننه [٤٠٢٣] وكذا ابن ماجه (٣٢٨٥]..
١٢ - عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال: سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن الباقيات الصالحات، وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها وهي من كنوز الجنة).
قال المنذري في الترغيب [٢/٢٤٨]: "رواه الطبراني بإسنادين أصلحهما فيه عمر بن راشد، وبقية رواته محتج بهم في الصحيح ولا بأس بهذا الإسناد في المتابعات ورواه ابن ماجه من طريق عمر أيضا باختصار"..

١٣ - الكفارة: ما شرعه الله من القربات لمحو الذنوب وغفرانها، مثل كفارة اليمين، قال تعالى: ﴿فكفارته إطعام عشرة مساكين..(٨٩)﴾ [المائدة] [القاموس القويم: مادة [كفر]] وقال ابن منظور في اللسان [مادة: كفر]: "تكرر ذكر الكفارة في الحديث، وهي عبارة عن الفعلة والخصلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي: تمحوها وتسترها..
١٤ - لفظ النواة يلفظها لفظا: رماها، ولفظ الكلمة: قالها: قال تعالى: ﴿ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (١٨)﴾ [ق] أي: كل كلمة يتكلمها الإنسان تسجل عليه بواسطة ملك عتيد، وعتيد: أي: حاضر مستعد لإثبات هذا القول في كتاب الحسنات والسيئات. [القاموس القويم: مادة [لفظ، عتد]].
.

١٥ - اللمم: صغائر الذنوب، قال تعالى: ﴿الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم..(٣٢)﴾ [النجم] [القاموس القويم: مادة [لمم]].
قال العفوي عن ابن عباس في قوله: ﴿إلا اللمم..(٣٢)﴾ [النجم]: "كل شيء بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة تكفره الصلوات فهم اللمم، وهو دون كل موجب، فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار، وأخر عقوبته إلى الآخرة" ذكره ابن كثير في تفسيره [٤/٢٥٦]..

١٦ - الفحشاء: الفحش، وهو العمل القبيح المنكر، قال تعالى: ﴿الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء..(٢٦٨) [البقرة] أي: يأمركم بالبخل أو فعل القبيح عامة، ومن البخل، والفواحش هي الأمور القبيحة المنكرة [القاموس القويم: مادة [فحش]].
والمنكر: ما يستقبحه الشرع الشريف، وما تستنكره العقول السليمة، قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..(١٠٤)﴾
[أل عمران] [القاموس القويم: مادة [نكر]]..

١٧ - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب وإن عملها كتبت) أخرجه مسلم في صحيحة [١٣٠] كتاب الإيمان..
١٨ - بؤرة الشيء: مركزه، أو وسطه، وبؤرة الشعور: مركزه، أي: داخل مركز الإحساس والشعور [الإدراك] في المخ، والبؤرة في اللغة: الحفرة، وهي مأخوذة من البئر، أما البؤرة في "علم الطبيعة" فهي نقطة تتلاقى عندها الأشعة الضوئية أو الحرارية أو الصوتية إذا لم يعترض دونها شيء [المعجم الوسيط: مادة [بأر] بتصرف وإضافة ]..
١٩ - عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلي جنب) أخرجه الإمام أحمد في مسنده [٤/٤٢٦] والبخاري في صحيحه [٢/٥٨٤، ٥٨٦- الفتح] قال الشيخ سيد سابق في فقه السنة [١/١٠١] (من عجز عن القيام في الفرض صلى على حسب قدرته، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وله أجره كاملا غير منقوص)..
٢٠ - وذلك في ليلة الإسراء والمعراج عند سدرة المنتهى ذكره البخاري في أول كتاب الصلاة [١/٤٥٨] فيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام، ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعني فوضع شطرها. فرجعت إلى موسى قلت: وضع شطرها. فقال: راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعته فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لدى، فرجعت إلى موسى فقال: راجع ربك فقلت: استحييت من ربي "حديث ٣٤٩"..
٢١ - أسرف: جاوز القصد والاعتدال، ويكون الإسراف في المال وفي غيره، قال تعالى: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله..(٥٣)﴾ [الزمر] أي: جاوز القصد والاعتدال في أمور كثيرة، فأكثروا الذنوب على أنفسهم، وقال تعالى: ﴿ولا تطيعوا أمر المسرفين (١٥١)﴾ [الشعراء] والإسراف يكون في أمور كثيرة، لا في إنفاق المال وحده، ومن حكم الصالحين: "لا إسراف في الخير، ولا خير في الإسراف" [القاموس القويم: مادة [سرف]] بتصرف..
٢٢ - قنط يقنط قنوطا: انقطع أمله في الخير، أو يئس منه، فهو قانط، وقرأ حفص بفتح النون في الماضي في قول الله تعالى: ﴿وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا..(٢٨)﴾ [الشعراء] وفي قوله تعالى: ﴿.. فلا تكن من القانطين (٥٥)﴾ [الحجر]، وقرئ: "من القنطين" –بكسر النون- كما قرئ بالحركات الثلاث في النون في قوله تعالى:﴿.. ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون (٥٦)﴾ [الحجر].
وقنوط: صيغة مبالغة، قال تعالى: ﴿.. وإن مسه الشر فيئوس قنوط (٤٩)﴾ [فصلت] أي: شديد اليأس معدوم الأمان. [القاموس القويم: مادة [قنط]] بتصرف..

٢٣ - فحش وفحش فحشا، فهو فاحش أي: جاوز الحد، وفعل القبيح، والفاحشة: الفعلة القبيحة. قال تعالى: ﴿وإذا فعلوا فاحشة..(٢٨)﴾ [الأعراف] وقال تعالى: ﴿واللاتي يأتين الفاحشة..(١٥)﴾ [النساء] أي: الزنا، وقال تعالى: ﴿ولا تقربوا الفواحش..(١٥١)﴾ [الأنعام] أي: لا تقربوا الأمور القبيحة المنكرة [القاموس القويم: مادة [فحش]]..
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ( ١١٥ ) ﴾ :
وجاءت كلمة " اصبر " لتخدم كل عمليات الاستقامة.
وكذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر.. ١( ١٣٢ ) ﴾[ طه ] : والصبر نوعان : صبر " على "، وصبر " عن " وفي الطاعات يكون الصبر على مشقة الطاعة، مثل صبرك على أن تقوم من النوم لتصلي الفجر، وفي اتقاء المعاصي يكون الصبر عن الشهوات.
وهكذا نعلم أن الصبر على إطلاقه مطلوب في الأمرين : في الإيجاب للطاعة، وفي السلب عن المعصية.
ونحن نعلم أن الجنة حفت٢ بالمكاره ؛ فاصبر على المكاره، وحفت النار بالشهوات ؛ فاصبر عنها٣.
وافرض أن واحدا يرغب في أكل اللحم، ولكنه لا يملك ثمنها، فهو يصبر عنها ؛ ولا يستدين.
ولذلك يقول الزهاد : ليس هناك شيء اسمه غلاء، ولكن هناك شيء اسمه رخص النفس.
ولذلك نجد من يقول : إذا غلا شيء علي تركته، وسيكون أرخص ما يكون إذا غلا.
والحق سبحانه يقول :﴿ واصبر٤ على ما أصابك.. ( ١٧ ) ﴾[ لقمان ]، وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ( ١١٥ ) ﴾[ هود ] : وهم الذين أدخلوا أنفسهم في مقام الإحسان، وهو أن يلزم الواحد منهم نفسه بجنس ما فرض الله فوق ما فرض الله، من صلاة أو صيام، أو زكاة، أو حج لبيت الله ؛ لأن العبادة ليست اقتراحا من عابد لمعبود، بل المعبود هو الذي يحدد ما يقربك إليه.
وحاول ألا تدخل في مقام الإحسان نذرا٥ ؛ لأنه قد يشق عليك أن تقوم بما نذرته، واجعل زمان الاختيار والتطوع في يدك ؛ حتى لا تدخل مع الله في ود إحساني ثم تفتر عنه، وكأنك –والعياذ بالله- قد جربت مودة الله تعالى، فلم تجده أهلا لها، وفي هذا طغيان منك.
وإذا رأيت إشراقات فيوضات على من دخل مقام الإحسان تنكرها عليه، وإلا لسويت بين من وقف عند ما فرض عليه، وبين من تجاوز ما فرض عليه من جنس ما فرض الله.
وجرب ذلك في نفسك، والتزم أمر الله باحترام مواقيت الصلاة، وقم لتصلي الفجر في المسجد، ثم احرص على أن تتقن عملك، وحين يجيء الظهر ثم إلى الصلاة في المسجد، وحاول أن تزيد من ركعات السنة، وستجد أن كثافة الظلمانية قد رقت في أعماقك، وامتلأت بإشراقات نورانية تفوق إدراكات الحواس، ولذلك لا تستكثر على من يرتاض٦ هذه الرياضة الروحية، حين تجد الحق سبحانه قد أنار بصيرته بتجليات من وسائل إدراك وشفافية، ولذلك لا نجد واحدا من أهل النور والإشراق يدعي ما ليس له، والواحد منهم قد يعلم أشياء عن إنسان آخر غير ملتزم، ولا يعلنها له ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد خصه بأشياء وصفات لا يجب أن يضعها موضع التباهي والمراءاة.
وحين عرض الحق سبحانه هذه القضية أراد أن يضع حدودا للمرتاض ولغير المرتاض، في قصة موسى عليه السلام حينما وجد موسى وفتاه عبدا صالحا، ووصف الحق سبحانه العبد الصالح بقوله تعالى :﴿ .. عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا٧ علما ( ٦٥ ) ﴾[ الكهف ].
وقال العبد الصالح لموسى عليه السلام :﴿ .. إنك لن تستطيع معي صبرا ( ٦٧ ) ﴾[ الكهف ] : وبين العبد الصالح لموسى- بمنتهى الأدب- عذره في عدم الصبر، وقال له :﴿ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا٨ ( ٦٨ ) ﴾[ الكهف ].
ورد موسى عليه السلام :﴿ .. ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمر ( ٦٩ ) ﴾[ الكهف ].
فقال العبد الصالح :﴿ .. فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا٩ ( ٧٠ ) ﴾ [ الكهف ] : ولكن الأحداث توالت ؛ فلم يصبر موسى ؛ فقال له العبد الصالح :﴿ هذا فراق بيني وبينك.. ( ٧٨ ) ﴾ [ الكهف ] : وهذا حكم أزلي بأن المرتاض للرياضة الروحية، ودخل مقام الإحسان لا يمكن أن يلتقي مع غيره المرتاض على ذلك، وليلزم غير المرتاض الأدب مثلما يلتزم المرتاض الأدب، ويقدم العذر في أن ينكر عليه غير المرتاض معرفة ما لا يعرفه.
ولو أن المرتاض قد عذر غير المرتاض، ولو أن غير المرتاض تأدب مع المرتاض لاستقر ميزان الكون.
والحق سبحانه يبين لنا مقام الإحسان وأجر المحسنين، في قوله تعالى :﴿ إن المتقين في جنات وعيون ( ١٥ ) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ( ١٦ ) ﴾[ الذاريات ].
ويبين الحق سبحانه لنا مدارج الإحسان، وأنها من جنس ما فرض الله تعالى، في قوله سبحانه :﴿ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون١٠ ( ١٧ ) ﴾ [ الذاريات ].
والحق سبحانه لم يكلف في الإسلام ألا يهجع المسلم إلا قليلا من الليل، وللمسلم أن يصلي العشاء، وينام إلى الفجر.
وتستمر مدارج الإحسان، فيقول الحق سبحانه :﴿ وبالأسحار١١ وهم يستغفرون( ١٨ ) ﴾ [ الذاريات ] : والحق سبحانه لم يكلف المسلم بذلك، ولكن الذي يرغب في الارتقاء إلى مقام الإحسان يفعل ذلك.
ويقول الحق سبحانه أيضا :﴿ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم١٢ ( ١٩ ) ﴾ [ الذاريات ] : ولم يحدد الحق سبحانه هنا هذا الحق بأنه حق معلوم، بل جعله حقا غير معلوم أو محدد، والله سبحانه لم يفرض على المسلم إلا الزكاة، ولكن من يرغب في مقام الإحسان فهو يبذل من ماله للسائل والمحروم.
وهكذا يدخل المؤمن إلى مقام الإحسان، ليود الحق سبحانه.
ولله المثل الأعلى : نحن نجد الإنسان حين يوده غيره ؛ فهو يعطيه من خصوصياته، ويفيض عليه من مواهبه الفائضة، علما، أو مالا، فما بالنا بمن يدخل في ود مع الله سبحانه وتعالى.
١ - اصطبر: على وزن افتعل، ويفيد زيادة الصبر والتحمل. قال تعالى:﴿وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها(١٣٢)﴾ [طه] وقال تعالى: ﴿فاعبده واصطبر لعبادته(٦٥)﴾ [مريم] وقال تعالى: ﴿إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر(٢٧)﴾ [القمر]. [القاموس القويم: مادة (صبر) بتصرف..
٢ - حف القوم بالبيت، أو من حوله: أطافوا به وأحدقوا حوله. قال تعالى: ﴿وحففناهما بنخل..(٣٢)﴾ [الكهف] أي: جعلنا النخل يحيط بالجنتين. [القاموس القويم: مادة [حفف]].
وحف الشيء حفا وحفافا: استدار حوله وأحدق به. ويقال: حف الشيء بالشيء وحوله. ومن حوله. [المعجم الوسيط: مادة [حفف]]..

٣ - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) أخرجه مسلم في صحيحه [٢٨٢٢] قال النووي في شرحه: (أما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات والمواظبة عليها والصبر على مشاقها وكظم الغيظ والعفو والحلم والصدقة والإحسان إلى المسيء والصبر عن الشهوات، وأما الشهوات التي النار محفوفة بها فالظاهر أنها الشهوات المحرمة كالخمر والزنا والنظر إلى الأجنبية والغيبة واستعمال الملاهي ونحو ذلك، وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه، لكن يكره الإكثار منها مخافة أن يجر إلى الشهوات المحرمة أو يقسي القلب أو ينشغل عن الطاعات أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا للصرف فيها".
٤ - والصبر إما أن يكون على المأمورات، وهي الطاعة، وإما صبر على المحذورات، وهي النواهي، وإما صبر على المقدورات، وهذا الصبر على القضاء والقدر فإذا تحقق الثلاثة كنت من أهل الفلاح، مصداقا لقول الحق ﴿يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (٢٠٠)﴾ [آل عمران]..
٥ - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا، وإنما يستخرج به من البخيل) أخرجه مسلم في صحيحه ﴿١٦٤٠] والترمذي في سننه [١٥٣٨] وكذا النسائي [٧/١٧] قال النووي في شرحه: (معناه أنه لا يأتي بهذه القربة تطوعا محضا مبتدأ وإنما يأتي بها في مقابلة شفاء المريض وغيره مما تعلق النذر عليه)..
٦ -راضه روضا ورياضا ورياضة، ذلله. يقال: راض المهر، وراض نفسه بالتقوى، وراض القوافي الصعبة، وارتاض صار مروضا، يقال: ارتاض المهر: ذل، وارتاضت القوافي، ذللت والرياضة- عند الصوفية- تهذيب الأخلاق النفسية بملازمة العبادات والتخلي عن الشهوات [المعجم الوسيط: مادة [روض]] بتصرف..
٧ - لدن: ظرف مكان، أو ظرف زمان، بمعنى [عند] مبني على السكون، وإذا أضيف إلى ياء المتكلم فصلت بينهما نون الوقائية وأدغمت في نونها مثل قوله تعالى: {.. قد بلغت من لدني عذرا (٧٦)﴾ [الكهف]، وجاءت مضافة إلى ضمير المخاطب في قوله تعالى: ﴿وهب لنا من لدنك رحمة..(٨)﴾ [آل عمران]، وإلى ضمير المتكلمين [نا] في قوله تعالى: ﴿.. وعلمناه من لدنا علما (٦٥)﴾ [الكهف]، وتضاف إلى ضمير الغائب كقوله تعالى: ﴿ليذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين..(٢)﴾ [الكهف] [القاموس القويم: مادة [لدن]]..

٨ - خبر الأمر، وخبر بالأمر، مثل: علمه، وعلم به- وزنا ومعنى- فهو به خبير، قال تعالى: ﴿.. فاسأل به خبير (٥٩)﴾ [الفرقان]. وقال تعالى: ﴿سآتيكم منها بخبر..(٧)﴾ [النمل] أي: بنبأ. وقال تعالى: ﴿وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (٦٨)﴾ [الكهف] أي: علما. [القاموس القويم: مادة [خبر]]..
٩ - الذكر: القرآن والكتب المنزلة كلها، قال تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا لحافظون (٩)﴾ [الحجر] هو القرآن الكريم. وقال تعالى: ﴿ذكر رحمة ربك عبده زكريا(٢)﴾ [مريم] أي: قصة رحمة الله لعبده زكريا وقال تعالى: ﴿ورفعنا لك ذكرك(٤)﴾ [الشرح] أي: شرفك وحديث الناس عنك بالخير. [القاموس القويم: مادة (ذكر) ].
وجاء في [مختصر تفسير الطبري: ص ٣٣٧] في تفسير هذه الآية :﴿حتى أحدث لك منه ذكرا..(٧٠)﴾ [الكهف].. يقول: "حتى أذكر" أن لك ما ترى من الأفعال التي أفعلها وتستنكرها أنت، وأبين لك شأنها، وأبتدئك الخبر عنها"..

١٠ - هجع يهجع هجوع: نام ليلا، قال تعالى: ﴿كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (١٧)﴾ [الذاريات] [القاموس القويم: مادة [هجع]]..
١١ - السحر- بفتح السين والحاء- الجزء الأخير من الليل إلى مطلع الفجر، وجمعه: أسحار، قال تعالى: ﴿.. والمستغفرين بالأسحار (١٧)﴾ [آل عمران]، وقال تعالى: ﴿وبالأسحار هم يستغفرون (١٨)﴾ [الذاريات] [القاموس القويم: مادة[سحر]]..
١٢ - السائل: الفقير، أو من يسأل عن شيء، قال تعالى: ﴿وأما السائل فلا تنهر (١٠)﴾ [الضحى] يحتمل المعنيين: السائل الذي يطلب الصدقة، والسائل المستفهم عن شيء، وقوله تعالى: ﴿فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسأ لن المرسلين (٦)﴾ [الأعراف] أي: لنحاسبن الناس والرسل يوم القيامة. [القاموس القويم] مادة: [سأل]].
والمحروم: الممنوع من الخير، قال تعالى: ﴿بل نحن محرومون (٦٧)﴾ [الواقعة] أي: حرمنا ثمر الحديقة وحرمنا الخير كله، والحرمان: المنع، والمحروم أيضا: اسم مفعول ويطلق على الفقير، وقال تعالى: ﴿وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (١٩)﴾ [الذاريات] [القاموس القويم: مادة [حرم]]..

يقول الحق سبحانه بعد ذلك :
﴿ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية١ ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا٢ فيه وكانوا مجرمين ( ١١٦ ) ﴾ :
وكلمة " لولا " هنا تحضيضية، والتحضيض إنما يكون حثا لفعل لم يأت زمنه، فإن كان الزمن قد انتهى ولا يمكن استدراك الفعل فيه، تكون " لولا " للتحسر والتأسف.
وفي سورة يونس يقول الحق سبحانه :﴿ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس.. ( ٩٨ ) ﴾ [ يونس ] : وذكرهم بالآيات، ونحن قد علمنا أن " لولا " لها استعمالان في اللغة، فهي إن دخلت على جملة اسمية، فهي تدل على امتناع لوجود، كقول إنسان لآخر : " لولا أن أباك فلانا لضربتك على ما أذنبت " وتسمى " لولا " في هذه الحالة " حرف امتناع لوجود ".
وإذا دخلت " لولا " على جملة فعلية، فهي أداة تحضيض، وتحميس، وحث المخاطب على أن يفعل شيئا، مثلما تشجع طالبا على المذاكرة، فتقول له : " لولا ذاكرت بجد واجتهاد في العام الماضي لما نجحت ووصلت إلى هذه السنة الدراسية ".
وفي هذا تحميس له على بذل مزيد من الجهد، أما إذا قلت لراسب : " لولا ذاكرت لما رسبت " فهذا توبيخ وتأسيف له على ما فات، وشحن طاقته لما هو آت ؛ لأن الزمن قد فات وانتهى وقت المذاكرة ؛ لذلك تكون " لولا " -هنا- للتقريع والتوبيخ٣. والحق سبحانه وتعالى يرشدنا إلى أن بقية الأشياء هي التي ثبتت أمام أحداث الزمن، فأحداث الزمن تأتي لتطوح بالشيء التافه أولا، ثم بما دونه ثم بما دونه، ويبقى الشيء القوي ؛ لأنه ثابت على أحداث الزمن ؛ وبقية الأشياء دائما خيرها.
والحق سبحانه قد بين لنا أنه قد أهلك الأمم التي سبقت ؛ لأنه لم توجد فئة منهم تنهي عن الفساد في الأرض، وجاء الإهلاك الامتناع من يقاوم الفساد بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وضرب الحق سبحانه لنا المثل بالبقية في كل شيء، وأنها هي التي تبقى أمام الأحداث، ففي قصة شعيب عليه السلام يقول الحق سبحانه :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( ٨٤ ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( ٨٥ ) بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين.. ( ٨٦ ) ﴾[ هود ] : ومعنى ذلك أن نقص المكيال أو الميزان قد يزيد التاجر ما عنده، ولكنه لا يلتفت إلى ما هو مدخور.
ولذلك قال شعيب عليه السلام :﴿ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط٤ ولا تبخسوا٥ الناس أشيائهم( ٨٥ ) ﴾[ هود ].
فأنت إن نظرت إلى شيء قد ذهب، فامتلك القدرة على أن تحقق فيه بالفهم، لتجده مدخرا لك باقيا.
ولنا المثل في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- حينما سألها عن شاة أهديت له، وكانت تعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب من الشاة كتفها٦، فتصدقت بكل الشاة إلا جزءا من كتفها، فلما سألها : ما فعلت بالشاة ؟ قال : ذهبت كلها إلا كتفها.
هكذا نظرت عائشة-رضي الله عنها- هذا المنظور الواقعي ؛ بأن الباقي من الشاة هو كتفها فقط، وأنها تصدقت بباقي الشاة، ويلفتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتة إيمان ويقين، ويقول لها :( بقي كلها إلا كتفها )٧.
هكذا نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما بقي من الشاة من خير.
ويؤيد ذلك حديث قاله صلى الله عليه وسلم :( وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت )٨.
ويلفتنا القرآن الكريم إلى المنظور، وإلى المدخور، فيقول الحق سبحانه :﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات٩ الصالحات خير عند ربك ثوابا.. ( ٤٦ )[ الكهف ]، ويصف الحق سبحانه هذا المدخور بقوله :{ .. ثوابا وخير أملا١٠ ( ٤٦ ) ﴾[ الكهف ].
وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ .. والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردّا١١ ( ٧٦ ) ﴾ [ مريم ].
إذن : لا بد أن تنظر إلى الباقيات في الأشياء ؛ لأنها هي التي يعول عليها.
ويلفتنا الحق سبحانه إلى ذلك في أكثر من موضع من القرآن الكريم، فيقول تعالى :﴿ والآخرة خير وأبقى ( ١٧ ) ﴾[ الأعلى ].
ويقول سبحانه :﴿ وما عند الله خير وأبقى.. ( ٦٠ ) ﴾[ القصص ] : إذن : فإياك أن تنظر إلى الذاهب، ولكن انظر إلى الباقي.
وإذا عضت الإنسان الأحداث في أي شيء، نجد أن سطحي الإيمان يفزع مما ذهب، ونجد راسخ الإيمان شاكرا لله تعالى على ما بقي.
وها هو ذا سيدنا عبد الله بن جعفر- رضي الله عنه- حينما جرحت ساقه جرحا شديدا، وهو في الطريق إلى الشام، ولحظة أن وصل إلى قصر الخلافة قال الأطباء : لابد من التخدير لنقطع الساق المريضة، فقال : والله ما أحب أن أغفل عن ربي طرفة عين.
وكان هذا القول يعني أن تجري له جراحة بتر الساق دون مخدر، فلما قطعت الساق، وأرادوا أن يأخذوها ليدفنوها ؛ لتسبقه إلى الجنة إن شاء الله ؛ قال : ابعثوا بها، فجاءوا بها إليه، فأمسكها بيده وقال : اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو ؛ فقد عافيت١٢ في أعضاء. هكذا نظر المؤمن إلى ما بقي.
وحين يتكلم القرآن الكريم عن مراتب ومراقي الإيمان يقول مرة :﴿ فأولئك يدخلون الجنة.. ( ٤٠ ) ﴾[ غافر ].
ويقول عن أناس آخرين﴿ أولئك عليهم صلوات من ربهم.. ( ١٥٧ ) ﴾[ البقرة ] : والجنة باقية بإبقاء الله لها، ولكن رحمة الله باقية ببقاء الله، وهكذا تكون درجة الرحمة أرقى من درجة الجنة. وهكذا تجد في كل أمر ما يسمى بالباقيات.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ فلولا كان من القرون١٣ من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد١٤ في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم.. ( ١١٦ ) ﴾ [ مريم ] : أي : لولا أن كان في الناس بقية من الخير وبقية من الإيمان، وبقية من اليقين، وكانوا ينهون عن الفساد في الأرض، لولاهم لخسف الله الأرض بمن عليها.
والبقايا في كل الأشياء هي نتيجة الاختيار، والاختبار ؛ مصداقا لقول الحق سبحانه :﴿ فأما الزبد١٥ فيذهب جفاء١٦ وأما ما ينفع الناس فيمكث١٧ في الأرض.. ( ١٧ ) ﴾[ الرعد ]. وفي العصر الحديث نقول : " البقاء للأصلح ".
إذن : فالحق سبحانه إنما يحفظ الحياة بهؤلاء الذين ينهون عن الفساد في الأرض ؛ لأنهم يعملون على ضوء منهج الله، وهذا المنهج لا يزيد ملكا لله، ولا يزيد صفة من صفات الكمال لله، لأنه سبحانه خلق الكون بكل صفات الكمال فيه، ومنهجه سبحانه إنما يصلح حركة الحياة، وحركة الأحياء.
وهكذا يعود منهج السماء بالخير على مخلوقات الله، لا على الله الذي كون الكون بكماله.
واقرأ إن شئت قول الحق سبحانه :﴿ والسماء رفعها ووضع الميزان ( ٧ ) ألا تطغوا١٨ في الميزان ( ٨ ) ﴾[ الرحمان ] : فكما رفع الحق سبحانه السماء بلا عمد، وجعل الأمور مستقرة متوازنة ؛ فلكم أن تعدلوا في الكون في الأمور الاختيارية بميزان دقيق ؛ لأن اعوجاج الميزان إنما يفسد حركة الحياة.
ومن اعوجاج الميزان أن يأخذ العاطل خير الكادح، ويرى الناس العاطل، وهو يحيا في ترف من سرقة خير الكادح، فيفعلون مثله، فيصير الأمر إلى انتشار الفساد.
وينزوي أصحاب المواهب، فلا يعمل الواحد منهم أكثر من قدر حاجته ؛ لأن ثمرة عمله إن زادت فهي غير مصونة بالعدالة.
وهكذا تفسد حركة الحياة، وتختل الموازين، وتتخلف المجتمعات عن ركب الحياة.
والحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض.. ( ١١٦ ) ﴾[ هود ] : وشاء الحق سبحانه أن يجعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم بشرط أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر.
قال الله تعالى :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف١٩ وتنهون عن المنكر٢٠.. ( ١١٠ ) ﴾[ آل عمران ]. وجعلها الحق سبحانه الأمة الخاتمة، لأنه لا رسالة بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانت الرسالات قبلها تأتي بعد أن يتقلص الخير في المجتمعات، وفي النفوس.
فقد وضع الحق سبحانه المنهج لأول الخلق في النفس الإنسانية، وكانت المناعة ذاتية في الإنسان، إن ارتكب ذنبا فهو يتوب ويرجع بعد أن يلوم نفسه، ولكن قد يستقر أمره على المعصية، وتختفي منه " النفس اللوامة "، ويستسلم للنفس الأمارة بالسوء، فيجد من المجتمع من يقومه، فإذا ما فسد المجتمع، فالسماء تتدخل بإرسال الرسل، إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أمّنها الحق سبحانه أنه سيظل فيها إلى أن تقوم الساعة من يدعو إلى الخير، ومن يأمر بالمعروف، ومن ينهي عن المنكر٢١ ؛ ولذلك لن يوجد أنبياء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيدا لهذا المعنى :( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل )٢٢.
والعالم : هو كل من يعلم حكما من أحكام الله سبحانه، وعليه أن يبلغه إلى الناس.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( نضّر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها، وأداها إلى من لم يسمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع )٢٣.
ويقول الحق سبحانه :﴿ .. أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ( ١١٦ ) ﴾[ هود ] : وقد أنجى الحق سبحانه بعضا ممن نهوا عن الفساد في الأرض.
ونرى أمثلة على ذلك في القرية التي كانت حاضرة البحر، وكانت تأتيهم حيتانهم شرعا٢٤ يوم السبت الذي حرموا فيه الصيد على أنفسهم، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم.
ويقول الحق سبحانه :﴿ وإذ قالت أمة منهم لم تعظون٢٥ قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة ٢٦ إلى ربكم ولعلهم يتقون ( ١٦٤ ) فلما نسوا ما ذكّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس٢٧ بما كانوا يفسقون٢٨ ( ١٦٥ ) ﴾[ الأعراف ] : هكذا أنجى الله سبحانه الذي نهوا عن السوء في تلك القرية، وقد نرى في بعض المجتمعات عنصرين :
الأول : أنه لا توجد طائفة تنهى عن الفساد.
والعنصر الثاني : أن ينفتح على المجتمع باب الترف على مصراعيه، وفي انفتاح باب الترف على مصراعيه مذلة للبشر ؛ لأنك قد تجد إنسانا لا تترفه إمكاناته ؛ فيزيد هذه الإمكانات بالرشوة والسرقة والغصب.
وكل ذلك إنما ينشأ لأن الإنسان يرى مترفين يتنعمون بنعيم لا تؤهله إمكاناته أن يتنعم به.
ويقول الحق سبحانه وتعالى عن إهلاك مثل هذه المجتمعات :﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها٢٩.. ( ١٦ ) ﴾ [ الإسراء ] : وبعض الناس يفهمون هذه الآية الكريمة على غير وجهها ؛ فهم يفهمون الفسق على أنه نتيجة لأمر من الله- سبحانه وتعالى- والحقيقة أنهم إنما قد خالفوا أمر الله ؛ لأن الحق سبحانه يقول :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين٣٠ له الدين.. ( ٥ ) ﴾[ البينة ] : أي : أن الحق سبحانه أمر المترفين أن يتبعوا منهج الله، لكنهم خالفوا المنهج الإلهي مختارين ؛ ففسقوا عن أمر ربهم.
وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه.. ( ١١٦ ) ﴾[ هود ] : وقوله سبحانه :[ ظلموا ] تبين أن مادة الترف التي عاشوا فيها جاءت من الظلم، وأخذ حقوق الناس وامتصاص دماء الكادحين.
ومادة [ ترف ] تعني النعمة يتنعم بها الإنسان : ومنها : أَترف، وأُترف، وكلمة [ أترف ] أي : أطغته ال
١ -- أولوا البقية: أصحاب التمييز والعقل والنظر في العواقب وأصحاب الفضل الباقي والخير الثابت قال تعالى: ﴿فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض..(١١٦)﴾ [هود] والبقية: الباقية والشيء الباقي [القاموس القويم: مادة [بقى]]..
٢ - ترف ترفا: تنعم، وأترفه الله: نعمه وأعطاه ما يشتهي. قال تعالى: ﴿وأترفناهم في الحياة الدنيا..(٣٣)﴾ [المؤمنون]، وقال تعالى: ﴿واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه..(١١٦)﴾ [هود] أي: جروا وراء شهواتهم وتمادوا في الترف فأبطرهم وأطغاهم. [القاموس القويم: مادة [ترف]]..
٣ - لولا: حرف شرط لا يعمل، ويدل على امتناع الجواب لوجود الشرط، وجملة الشرط (اسمية) ويحذف الخبر وجوبا إذا كان كونا عاما، وإذا وليها مضمر يكون ضمير رفع منفصل مثل ﴿.. لولا أنتم لكنا مؤمنين (٣١)﴾ [سبأ]، وجملة الجواب [فعلية] وتقترن باللام إذا كانت مثبتة في الغالب، وتتجرد منها إذا كانت منفية، قال تعالى: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا..(٢١)﴾ [النور] تجرد الجواب من اللام لأنه منفي بالحرف [ما]، وقد يحذف جواب الشرط بعد "لولا" إذا دل عليه دليل كقوله تعالى: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم (٢٠)﴾ [النور] وتقدير الجواب: "لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم، كما وضحته الآية التي بعدها في نفس السورة.
وتستعمل "لولا" أداة عرض وتحضيض مثل [هلا] فتختص بالدخول على المضارع كقوله تعالى: ﴿لولا تستغفرون الله.. (٤٦)﴾ [النمل]، وتدخل على ماض في تأويل المضارع كقوله تعالى: ﴿لولا أخرتني إلى أجل قريب..(١٠)﴾ [المنافقون] أيك لولا تؤخرني- وتستعمل "لولا" للتوبيخ والتنديم فتختص بالماضي، كقوله تعالى: ﴿لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء..(١٣)﴾ [النور] وقوله تعالى: ﴿ولولا إذ سمعتموه ققلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا..(١٦)﴾ [النور] وقوله تعالى: ﴿فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا..(٤٣)﴾ [الأنعام] ولولا هنا بمعنى [هلا] للتوبيخ، ويؤيده قراءة: "هلا إذ جاءهم بأسنا" [القاموس القويم: مادة [لولا]]..

٤ - أقسط: عدل، وأزال الظلم أو الجور قال تعالى: ﴿.. وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (٩)﴾ [الحجرات] واستعمل القرآن الكريم كلمة [القسط] – بكسر القاف وسكون السين- بمعنى العدل كما في قوله تعالى: ﴿قل أمر ربي بالقسط..(٢٩)﴾ [الأعراف] أي: بالعدل
وقال تعالى: ﴿وأقيموا الوزن بالقسط..(٩)﴾ [الرحمان أي: بالعدل
وقال تعالى: ﴿وأوفوا المكيال والميزان بالقسط..(٨٥)﴾ [هود]: أي: بالعدل، [القاموس القويم: مادة [قسط]]..

٥ - بخسه حقه بخسا: نقصه حقه ولم يوفه. قال تعالى: ﴿ولا تبخسوا الناس أشياءهم..(٨٥)﴾ [الأعراف] [القاموس القويم: مادة [بخس]].
٦ - أخرج أبو الشيخ في "أخلاق النبي" صلى الله عليه وسلم [ص ٢٠١] عن ابن عباس (كان أحب اللحم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف). وأخرج البخاري في صحيحه [٤٧١٢] عن أبي هريرة قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم، فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه)..
٧ - أخرجه أحمد في مسنده [٦/٥٠] والترمذي في سننه [٢٤٧٠] من حديث عائشة، قال الترمذي: "حديث صحيح"..
٨ - أخرجه أحمد في مسنده [٤/٢٤، ٢٦] ومسلم في صحيحه [٢٩٥٨] والترمذي في سننه [٢٣٤٢] وصححه..
٩ - بقى بقاء: ضد فنى، وباق: اسم فاعل، مؤنثه: باقية، قال تعالى: ﴿ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (٢٧)﴾ [الرحمان] وقال تعالى: ﴿ما عندكم ينفد وما عند الله باق (٩٦)﴾ [النحل].
والبقية: الباقية، والشيء الباقي، وجمع بقية: بقيات. وجمع باقية، باقيات قال تعالى: ﴿.. والباقيات الصالحات كخير عند ربك ثوابا وخير أملا (٤٦)﴾ [الكهف] أي: الأعمال النافعة الباقية التي يبقى خيرها في الناس هي خير ثواب عند الله [القاموس القويم: مادة [بقى]]..

١٠ - أمل يأمل أملا وإملا وأملا: رجا يرجو، والأمل: الرجاء، قال تعالى ﴿.. والباقيات الصالحات كخير عند ربك ثوابا وخير أملا (٤٦)﴾ [الكهف] لأنه رجاء عند الله متحقق، لا شك فيه. [القاموس القويم: مادة [أمل]]..
١١ - مرد: اسم مكان أو زمان، او مصدر ميمي. قال تعالى: ﴿وأن مردنا إلى الله..(٤٣)﴾[غافر] أي: رجوعنا إليه-على المصدرية- أو مرجعنا إليه- على أنه اسم مكان أو زمان، وقال تعالى: ﴿وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له..(١١)﴾ [الرعد] أي: لا صرف له ولا إرجاع له- على المصدرية- فهو واقع بهم حتما [القاموس القويم: مادة [ردد]] وجاء في [كلمات القرآن للشيخ محمد حسنين مخلوف ] أن كلمة [خير مردا]، أي: مرجعا وعاقبة..
١٢ - عفا النبت: كثر وطال، وعفا القوم كثروا، يقول الحق: ﴿ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا..(٩٥)﴾ [الأعراف] أي: كثروا وعزوا واغتنوا، والعفو في المال ما زاد عن النفقة، يقول الحق ﴿ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو..(٢١٩)﴾ [البقرة] وعفا عن الذنب عفوا: تجاوز عنه، وعفو: صيغة مبالغة أي: كثير العفو، يقول الحق: ﴿إن الله لعفو غفور (٦٠)﴾ [الحج]، ويقول الحق: ﴿خذ العفو وأمر بالعرف..(١٩٩)﴾ [الأعراف] أي: خذ ما عفا عنه الناس وسمحوا به عن طيب خاطر، ومن دعاء القرآن الكريم: ﴿واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (٢٨٦)﴾ [البقرة] [القاموس القويم [١/٢٧، ٢٨]..
١٣ - القرن من الناس: أهل زمان واحد. قال تعالى: ﴿.. فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (٦) [الأنعام]، وجمعه: قرون. قال تعالى: {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا..(١٣)﴾ [يونس] [القاموس القويم: مادة [قرن]]..
١٤ - فسد فسادا، والفساد: ضد الصلاة، وأفسده غيره: جعله فاسدا قال تعالى: ﴿.. ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين (٦٤)﴾ [المائدة]، وقال تعالى: ﴿.. ولا تعثوا في الأرض مفسدين (٦٠)﴾ [البقرة]، وكلمة مفسدين حال مؤكدة لمعنى الفعل "تعثوا" أي: لا تفسدوا في الأرض فسادا [القاموس القويم: مادة [فسد]]..
١٥ - زبد الماء: ما يعلوه-عند جيشانه واضطرابه- من الرغوة وحطام الأشياء، وزبد المعادن: خبثها ونفايتها، قال تعالى: ﴿فاحتمل السيل زبدا رابيا..(١٧)﴾ [الرعد] وقال تعالى: ﴿فأما الزبد فيذهب جفاء..(١٧)﴾ [الرعد] شبه الله-سبحانه- الباطل بالزبد الذي يلقي ويرمي؛ لأنه لا ينفع الناس. [القاموس القويم: مادة [زبد]]..
١٦ - جفأت القدر: رمت زبدها عند الغليان: وجفأ السيل غثاءه: رماه وقذفه، ومن عادة الطهاة أن يلقوا ما جفأت القدر بعيدا ليبقى الطعام خالصا من الشوائب، قال تعالى: ﴿فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض..(١٧)﴾ [الرعد] أي: لا ينتفع به، ويلقى بعيدا، أو يذهب ضياعا كالجفاء [القاموس القويم: مادة [جفأ]]..
١٧ - مكث مكثا ومكثا: أقام في مكانه، وتفيد التأني وعدم العجلة، قال تعالى: ﴿فمكث غير بعيد..(٢٢)﴾ [النمل] أي: استمر الهدهد في غيبته مدة لكنها غير طويلة، وقال تعالى: ﴿فيمكث في الأرض..(١٧)﴾ [الرعد] أي: يبقى مدة طويلة فيها؛ فيزيدها خصبا، وقال تعالى: ﴿امكثوا إني آنست نارا..(١٠)﴾ [طه] أي: أقيموا في مكانكم منتظرين، وقال تعالى: ﴿وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث..(١٠٦)﴾ [الإسراء] أي: على مهل وتأن بغير عجلة في أزمنة متطاولة [القاموس القويم: مادة [مكث]]..
١٨ - طغى يطغو طغوانا وطغوى: بمعنى تجاوز الحد في الجور والتعدي وطغى يطغى طغيانا: تجاوز الحد. "وطغوى" من الواوى، و"طغيان" من اليائي. قال تعالى: ﴿الذين طغوا في البلاد (١١)﴾ [الفجر] أي" ظلموا وتجاوزوا الحد في العصيان، وقال تعالى: ﴿فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية (٥)﴾ [الحاقة] أي بالصيحة التي تجاوزت الحد في قوتها [القاموس القويم: مادة [طغى]]، وجاء في [كلمات القرآن للشيخ محمد حسنين مخلوف ]: ﴿.. ووضع الميزان (٧)﴾ [الرحمان]: شرع العدل وأمر به الخلق و﴿ألا تطغوا..(٨)﴾ [الرحمن]: لئلا تتجاوزوا العدل والحق..
١٩ - المعروف: ضد المنكر، وهو الذي تعارف الناس عليه وعرفوا أنه حسن. قال تعالى: ﴿قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى..(٢٦٣]﴾ [البقرة]، وقال تعالى: ﴿.. وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (١٩٩)﴾ [الأعراف] [القاموس القويم: مادة [عرف]] بتصرف..
٢٠ - المنكر: ما يستقبحه الشرع الشريف، وما تستنكره العقول السليمة، قال تعالى: ﴿ولتكن أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..(١٠٤) [آل عمران] [القاموس القويم: مادة [نكر]]..
٢١ - عن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس) أخرجه مسلم في صحيحه [١٠٧٣]..
٢٢ - ذكر العجلوني في كشف الخفاء [١٧٤٤] وقال": قال السيوطي في الدرر: لا أصل له" وكذا قال ابن حجر والدميري والزركشي..
٢٣ - أخرجه أحمد في مسنده [١/٤٣٧]وابن ماجه في سننه [٢٣٢] من حديث ابن مسعود..
٢٤ - شرع: ظهر وأشرف فهو شارع أي: بارز ظاهر، وجمعه شرّع: {إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا.. (١٦٣)﴾ [الأعراف] بارزة واضحة في الماء. [القاموس القويم: ١/٣٤٦]..

٢٥ - وعظه يعظه وعضا وعظة: نصحه بالطاعة وبالعمل الصالح، وأرشد إلى الخير، قال تعالى مصورا عناد الكافرين: ﴿قالوا سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين (١٣٦)﴾ [الشعراء] فهم لشدة عنادهم وكفرهم يستوي عندهم الأمران: الوعظ، وعدم الوعظ.
والموعظة: ما يوعظ به من قول أو فعل، قال تعالى: ﴿.. وموعظة للمتقين (٦٦)﴾ [البقرة] وقال تعالى: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة..(١٢٥)﴾ [النحل]. [القاموس القويم: مادة [وعظ]]..

٢٦ - المعذرة: مصدر ميمي، واسم للعذر، وللحجة، وعذره: قبل عذره وسامحه. قال تعالى: ﴿معذرة إلى ربكم..(١٦٤)﴾ [الأعراف] أي: اعتذار له ببذل الجهد في السعي لهداية الناس. وقال تعالى: ﴿ولو ألقى معاذيره (١٥)﴾ [القيامة] [القاموس القويم: مادة عذر].
٢٧ - بؤس يبؤس بأسا: شجع واشتد، فهو بئيس، أي: شديد. ويقال: فارس بئيس، أي: قوي شجاع، قال تعالى: ﴿.. وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون (١٦٥)﴾ [الأعراف] أي: عذاب شديد: [القاموس القويم: مادة [بؤس]]..
٢٨ - فسقت الرطبة فسوقا وفسقا: خرجت من قشرتها، ومن هذا المعنى المادي أخذ المعنى المعنوي، فقيل: فسق الرجل: خرج من طاعة الله خروجا فاحشا، والفسق أعم من الكفر، فقد يكون فاسقا ولا يكون كافرا، كالمسلم العاصي، قال تعالى: ﴿.. إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا..(٦)﴾ [الحجرات]. وقال تعالى: ﴿أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا..(١٨)﴾ [السجدة] أي: كافرا غير مؤمن، فالفسوق هنا- في الآية الأخيرة- بمعنى: الكفر، [القاموس القويم: مادة [فسق]] بتصرف..
٢٩ - مرنا مترفيها: أمرنا متنعميها بطاعة الله، ففسقوا: فتمردوا، وعصوا، [كلمات القرآن للشيخ محمد حسنين مخلوف]..
٣٠ - أخلص دينه لله: طهره وصفاه من شوائب الشرك والرياء، قال تعالى: ﴿.. فاعبد الله مخلصا له الدين [٢]﴾ [الزمر]، وقال تعالى: ﴿إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار (٤٦)﴾ [سورة ص] أي: إنا أخترناهم وخصصناهم بفضيلة خالصة خاصة هي ذكرى الدار الآخرة، فذكراها والتذكير بها من شأن الأنبياء والرسل، وهي فضيلة عظيمة خاصة بهم [القاموس القويم: مادة [خلص]]..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ وما كان ربك ليهلك١ القرى بظلم وأهلها مصلحون ( ١١٧ ) ﴾ :
وساعة تقرأ أو تسمع [ ما كان ] يتطرق إلى ذهنك : ما كان ينبغي٢.
ومثال ذلك : هو قولنا : " ما كان يصح لفلان أن يفعل كذا " وقولنا هذا يعني أن فلانا قد فعل أمرا لا ينبغي أن يصدر منه.
وهناك فرق بين نفي الوجود ؛ ونفي انبغاء الوجود.
والحق سبحانه يقول :﴿ وما علمناه الشعر وما ينبغي له.. ( ٦٩ ) ﴾[ يس ].
وهذا لا يعني أن طبيعة الرسول صلى الله عليه وسلم جامدة، ولا يستطيع –معاذ الله- أن يتذوق المعاني الجميلة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جبل٣على الرحمة ؛ وقد قال فيه الحق سبحانه :﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك.. ( ١٥٩ ) ﴾[ آل عمران ].
ولهذا نفهم قوله الحق :﴿ وما علمناه الشعر وما ينبغي له... ( ٦٩ ) ﴾[ يس ] : أي : أن الحق سبحانه لم يشأ له أن يكون شاعرا.
وهكذا نفهم أن هناك فرقا بين " نفي الوجود " وبين " نفي انبغاء الوجود ".
والحق سبحانه يقول هنا :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم.. ( ١١٧ ) ﴾[ هود ] : أي : لا يتأتى، ويستحيل أن يهلك الله القرى بظلم ؛ لأن مراد الظالم أن يأخذ حق الغير لينتفع به ؛ ولا يوجد عند الناس ما يزيد الله شيئا لأنه سبحانه واهب كل شيء ؛ لذلك فالظلم غير وارد على الإطلاق في العلاقة بين الخالق سبحانه وبين البشر.
وحين يورد الحق سبحانه كلمة " القرى " - وهي أماكن السكن- فلنعلم أن المراد هو " المكين "، مثل قول الحق سبحانه :﴿ واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة٤ البحر.. ( ١٦٣ ) ﴾[ الأعراف ].
وقوله الحق أيضا :﴿ واسأل القرية٥ التي كنا فيها.. ( ٨٢ ) ﴾[ يوسف ].
والحق سبحانه في مثل هاتين الآيتين ؛ وكذلك الآية التي نتناولها الآن بهذه الخواطر إنما يسأل عن المكين.
والله سبحانه يقول هنا :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم.. ( ١١٧ ) ﴾[ هود ] : أي : أنه منزه عن أن يهلكهم بمجاوزة حد، لكن له أن يهلكهم بعدل ؛ لأن العدل ميزان، فإن كان الوزن ناقصا كان الخسران، ومن العدل العقاب، وإن كان الوزن مستوفيا كان الثواب.
وفي مجالنا البشري ؛ لحظة أن نأخذ الظالم بالعقوبة ؛ فنحن نتعبه فعلا ؛ لكننا نريح كل المظلومين ؛ وهذه هي العدالة فعلا.
ومن خطأ التقنينات الوضعية البشرية هو ذلك التراخي في إنفاذ الحقوق في التقاضي ؛ فقد تحدث الجريمة اليوم ؛ ولا يصدر الحكم بعقاب المجرم إلا بعد عشر سنوات، واتساع المسافة بين ارتكاب الجريمة وبين توقيع العقوبة ؛ إنما هو واحد من أخطاء التقنينات الوضعية ؛ ففي هذا تراخ في إنفاذ حقوق التقاضي ؛ لأن اتساع المسافة بين ارتكاب الجريمة وبين توقيع العقوبة ؛ إنما يضعف الإحساس ببشاعة الجريمة.
ولذلك حرص المشرع الإسلامي على ألا تطول المسافة الزمنية بين وقوع الجريمة وبين إنزال العقوبة، فعقاب المجرم في حموة٦ وجود الأثر النفسي عند المجتمع ؛ يجعل المجتمع راضيا بعقاب المجرم، ويذكر الجميع ببشاعة ما ارتكب ؛ ويوازن بين الجريمة وبين عقوبتها.
ويقول الحق سبحانه هنا :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون٧ ( ١١٧ ) ﴾[ هود ].
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه :﴿ .. لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون٨ ( ١٣١ ) ﴾ [ الأنعام ] : إذن : لا بد من إزاحة الغفلة أولا، وقد أزاح الله سبحانه الغفلة عنا بإرسال الرسل وبالبيان وبالنذر ؛ حتى لا تكون هناك عقوبة إلا على جريمة سبق التشريع لها٩.
وهكذا أعطانا الله سبحانه وتعالى البيان اللازم لإدارة الحياة، ثم جاء من بعد ذلك الأمر بضرورة الإصلاح :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ( ١١٧ ) ﴾ [ هود ] : والإصلاح في الكون هو استقبال ما خلق الله سبحانه لنا في الكون من ضروريات لننتفع بها، وقد كفانا الله ضروريات الحياة ؛ وأمرنا أن نأخذ بالأسباب لنطور بالابتكارات وسائل الترف في الحياة.
وضروريات الحياة من طعام وماء وهواء موجودة في الكون، والتزاوج متاح بوجود الذكر والأنثى في الكائنات المخلوقة، أما ما نصنعه نحن من تجويد لأساليب الحياة ورفاهيتها فهذا هو الإصلاح المطلوب منا.
وسبق أن قلنا : إن المصلح هو الذي يترك الصالح على صلاحه، أو يزيده صلاحا يؤدي إلى ترفه وإلى راحته، وإلى الوصول إلى الغاية بأقل مجهود في أقل وقت.
والقرى التي يصلح أهلها ؛ لا يهلكها الله ؛ لأن الإصلاح إما أن يكون قد جاء نتيجة اتباع منهج نزل من الله تعالى ؛ فتوازنت به حركة الإنسان مع حركة الكون، ولم تتعاند الحركات ؛ بل تتساند وتتعاضد، ويتواجد المجتمع المنشود.
وإما أن هؤلاء الناس لم يؤمنوا بمنهج سماوي، ولكنهم اهتدوا إلى أسلوب عمل يريحهم، مثل الأمم الملحدة التي اهتدت إلى شيء ينظم حياتهم ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يمنع العقل البشري أن يصل إلى وضع قانون يريح الناس.
لكن هذا العقل لا يصل إلى هذا القانون إلا بعد أن يرهق البشر من المتاعب والمصاعب، أما المنهج السماوي فقد شاء به الله سبحانه أن يقي الناس أنفسهم من التعب، فلا تعضهم الأحداث.
وهكذا نجد القوانين الوضعية وهي تعالج بعض الداءات التي يعاني منها البشر، لا تعطي عائد الكمال الاجتماعي، أما قوانين السماء فهي تقي البشر من البداية فلا يقعون فيما يؤلمهم.
وهكذا نفهم قول الحق سبحانه :﴿ .. وأهلها مصلحون ( ١١٧ ) ﴾[ هود ] : لأنهم إما أن يكونوا متبعين لمنهج سماوي، وإما أن يكونوا غير متبعين لمنهج سماوي، لكنهم يصلحون أنفسهم.
إذن : فالحق سبحانه وتعالى لا يهلك القرى لأنها كافرة ؛ بل يبقيها كافرة مادامت تضع القوانين التي تنظم حقوق وواجبات أفرادها، وإن دفعت ثمن ذلك من تعاسة وآلام.
ولكن على المؤمن أن يعلن لهم منهج الله ؛ فإن أقبلوا عليه ففي ذلك سعادتهم، وإن لم يقبلوا ؛ فعلى المؤمنين أن يكتفوا من هؤلاء الكافرين بعدم معارضة المنهج الإيماني.
ولذلك نجد –في البلاد التي فتحها الإسلام- أناسا بقوا على دينهم ؛ لأن الإسلام لم يدخل أي بلد لحمل الناس على أن يكونوا مسلمين، بل جاء الإسلام بالدليل المقنع مع القوة التي تحمي حق الإنسان في اختيار عقيدته.
يقول الله جل علاه :﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ( ٨ ) ﴾ [ الممتحنة ]. فإذا كانت بعض المجتمعات غير مؤمنة بالله، ومصلحة ؛ فالحق سبحانه لا يهلكها بل يعطيهم ما يستحقونه في الحياة الدنيا ؛ لأنه سبحانه القائل :﴿ من كان يريد حرث١٠ الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ( ٢٠ ) ﴾ [ الشورى ].
١ - هلك، يهلك هلكا وهلوكا وهلاكا، ومهلكا- بفتح اللام وبكسرها- وتهلكة: مات وفنى، فهو هالك قال تعالى: ﴿كل شيء هالك إلا وجهه..(٨٨﴾ [القصص] وقال تعالى: ﴿ليهلك من هلك عن بينة (٤٢)﴾ [الأنفال] وقال تعالى: ﴿ما شهدنا مهلك أهله..(٤٩)﴾ [النمل] وقوله تعالى: ﴿هلك عني سلطانيه (٢٩)﴾ [الحاقة] أي: ذهب وضاع ولم يبق لي عز ولا سلطان، وقوله تعالى: ﴿إن امرؤ هلك ليس له ولد..(١٧٦)﴾ [النساء] أي: مات وليس له ولد يرثه، وأهلكه: أماته وأفسده، أو كان سببا في هلاكه قال تعالى: ﴿وأنه أهلك عادا الأولى (٥٠)﴾ [النجم] أي: أفناهم وأبادهم. [القاموس القويم: مادة هلك] بتصرف..
٢ - قال الإمام أبو يحيى زكريا الأنصاري في "فتح الرحمن" [ص ١٩٥]: "نفى الله الظلم عن نفسه بأبلغ لفظ يستعمل في النفي، لأن اللام فيه لام الجحود، والمضارع يفيد الاستمرار، فمعناه: ما فعلت الظلم فيما مضى، ولا أفعله في الحال، ولا في المستقبل فكان غاية في النفي"..
٣ - جبل الله الخلق جبلا: خلقهم، ويقال: جبله على كذا: طبعه، وفي الأثر: "جبلت القلوب على حب من أحسن إليها" وجبل الشيء: شده وأوثقه، وجبل فلانا على الشيء والأمر: جبره [المعجم الوسيط: مادة [جبل]]..
٤ - حاضرة البحر، أي: مشرفة عليه، مجاورة له غير بعيدة عنه. [القاموس القويم ١/ ١٥٩] بتصرف..
٥ - القرية: البلدة الكبيرة، تكون أقل من المدينة، أو هي كل مكان اتصلت به الأبنية، قال تعالى: ﴿ادخلوا هذه القرية...(٥٨)﴾ [البقرة]، ثم قال: ﴿واسأل القرية التي كنا فيها..(٨٢)﴾ [يوسف] أي: أهل القرية، مجاز مرسل علاقته المحلية، وكذلك قوله تعالى: ﴿وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم (١٣)﴾ [محمد] والمراد: أهلها أشد من أهل مكة الذين أخرجوك [القاموس القويم ٢/ ١١٥.
٦ - حموة الألم: سورته، وشدته، سواء أكان الألم ماديا أم معنويا [المعجم الوسيط: مادة [حمو]] بتصرف..
٧ - أصلح الأمر إصلاحا: أزال إفساده، قال تعالى: ﴿ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها..(٥٦)﴾ [الأعراف]، وأصلح بين الرجلين: أزال ما بينهما من خلاف وخصام، قال تعالى: ﴿فأصلحوا بين أخويكم..(١٠)﴾ [الحجرات] ومصلحون: جمع مصلح. والمصلح. اسم فاعل، من الفعل "أصلح" قال تعالى: ﴿والله يعلم المفسد من المصلح..(٢٢)﴾ [البقرة]. وقال تعالى: ﴿.. قالوا إنما نحن مصلحون (١١)﴾ [البقرة]، وقال تعالى: ﴿وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (١١٧)﴾ [هود]. وقال تعالى: ﴿.. إنا لا نضيع أجر المصلحين (١٧٠)﴾ [الأعراف]. [القاموس القويم: مادة [صلح]] بتصرف..
٨ - غفل عن الأمر، يغفل غفولا: تركه عمدا، أو عن غير عمد، وأغفله- متعد بالهمزة-: تركه عن عمد وأغفل غيره عن الأمر: جعله يغفل عنه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا..(٢٨)﴾ [الكهف] أي: جعلناه غافلا عن ذكرنا. والغفلة: سهو يعترى الإنسان من قلة التحفظ وعدم اليقظة، قال تعالى: ﴿لقد كنت في غفلة من هذا..(٢٢)﴾ [ق] أي: غافلا عن إدراك القيامة، وغافلا عن أحداث ما بعد الموت، وقال تعالى: ﴿ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم..(١٠٢)﴾ [النساء] أي: تسهون عنها وتتركون حراستها فينقضون عليكم، وقال تعالى: ﴿.. وما الله بغافل عما تعملون (٧٤)﴾ [البقرة] أي: أن الله عالم، يعلم بكل ما تعملون، لا يسهو عن شيء منه، وقال تعالى: ".. أولئك هم الغافلون (١٧٩)} [الأعراف] أي: الذين لا يدركون الحق ولا يهتدون إليه فيعرضون عنه [القاموس القويم: مادة [غفل]] بتصرف..
٩ - يقول الحق سبحانه: ﴿.. وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (١٥)﴾ [الإسراء]..
١٠ حرث الأرض، يحرثها حرثا: أثارها وهيأها للزرع، أو ألقى فيها الحب للزرع، وحرث الأرض: زرعها، قال تعالى: ﴿أفرأيتم ما تحرثون (٦٣) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (٦٤)﴾ [الواقعة]، ويطلق الحرث على الزرع، قال تعالى: ﴿ويهلك الحرث والنسل..(٢٠٥)﴾ [البقرة] أي: يهلك المزروعات، والنسل من الإنسان والحيوان، وقال تعالى: ﴿نساؤكم حرث لكم..(٢٢٣)﴾ [البقرة] على التشبيه بالأرض المهيأة للزرع فهن يلدن لكم الذرية، ومن المجاز قوله تعالى: ﴿من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه..(٢٠)﴾ [الشورى] أي: في ثواب الآخرة، وقوله تعالى: ﴿أن اغدوا على حرثكم..(٢٢)﴾ [القلم] أي: على زرعكم أو حديقتكم المزروعة [القاموس القويم: مادة [حرث]]..
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك :
﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ( ١١٨ ) ﴾ :
ونحن نعلم أن الإنسان قد طرأ على هذا الكون بعد أن خلق الله -سبحانه- في هذا الكون كل مقومات الحياة ؛ المسخرة بأمر الله لهذا الإنسان ؛ ليمارس مهمة الخلافة في الأرض ؛ ولم تتأب١ تلك الكائنات على خدمة الإنسان، سواء أكان مؤمنا أم كافرا ؛ لأن الحق -سبحانه- هو الذي استدعى الإنسان إلى الوجود، وما دام قد استدعاه ؛ فهو -سبحانه- لن يضن عليه بمقومات هذا الوجود ؛ من بقاء حياة، وبقاء نوع.
وهذا هو عطاء الربوبية الذي كفله الله -سبحانه- لكل البشر مؤمنهم وكافرهم، وهو عطاء يختلف عن عطاء الألوهية المتمثل في المنهج الإيماني : " افعل " و " لاتفعل ".
ومن يأخذ عطاء الألوهية مع عطاء الربوبية فهو من سعداء الدنيا والآخرة٢.
إذن : فقدرة الله -سبحانه- قد أرغمت الكون –دون الإنسان- أن يؤدي مهمته، وكان من الممكن أن يجعل البشر أمة واحدة مهتدية لا تخرج عن نظام أراده الله-سبحانه وتعالى-٣ كما لم تخرج الشمس أو القمر أو الهواء أو أي من الكائنات الأخرى المسخرة عن إرادته.
لأن الحق –تبارك وتعالى- أثبت لنفسه طلاقة القدرة في تسخير أجناس لمراده ؛ بحيث لا تخرج عنه، وذلك يثبت الله -سبحانه- القدرة ولا يثبت له المحبوبية.
أما الذي يثبت له المحبوبية فهو أن يخلق خلقا ؛ ويعطيهم في تكوينهم اختيارا.
ويجعل هذا الاختيار كل واحد فيهم صالحا أن يطيع، وصالحا أن يعصي، فلا يذهب إلى الإيمان والطاعة إلا لمحبوبية الله-تعالى.
وهكذا نعلم أن الكون المسخر المقهور قد كشف لنا سيّال٤ القدرة، والجنس الذي وهبه الله الاختيار إن أطاع فهو يكشف لنا سيال المحبوبية.
والحق -سبحانه- هو القائل :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ( ٢٩ ) ﴾[ الكهف ].
ولكن أيترك الإنسان حتى يأتي له الغرور في أنه يملك الاختيار دائما ؟ لا.. فمع كونك مختارا إياك أن تغتر بهذا الاختيار ؛ لأن في طيك قهرا٥، ومادام في طيك قهر فعليك أن تتأدب ؛ ولا تتوهم أنك مختار في أن تؤمن بالله أو لا تؤمن ؛ ولا تتوهم أنك منفلت من قبضة الله -تعالى- فهو يملك زمامك٦ في القهريات التي تحفظ لك حياتك مثل : الحيوان والنبات والجماد، ولكنه -سبحانه- ميزك بالعقل.
وخطأ الإنسان دائما أنه قد يعطي الأسماء معاني ضد مسمياتها، فكلمة " العقل " مأخوذة من " عقل " ٧ وتعني : " ربط " ؛ فلا تجمح٨ بعقلك في غير المطلوب منه ؛ لأن مهمة العقل أن يكبح جماحك، وتذكر دائما : في قبضة من أنت ؛ وفي زمام من أنت ؛ وفي أي الأمور أنت مقهور ؟
وما دمت مقهورا في أشياء فاختر أن تكون مقهورا لمنهج الله سبحانه واحفظ أدبك مع الله، واعلم أنه وقد وهبك كل وجودك سواء ما أنت مختار فيه أو مقهور عليه.
وانظر إلى من سلبهم الحق -سبحانه- بعض ما كانوا يظنون أنها أمور ذاتية فيهم، فتجد من كان يحرك قدمه غير قادر على تحريكها، أو يحاول أن يرفع يده فلا يستطيع.
ولو كانت مثل هذه الأمور ذاتية في الإنسان لما عصته، وهذا دليل على أنها أمور موهوبة من الله، وإن شاء أخذها، فهو -سبحانه- يأخذها ليؤدب صاحبها.
ومادام الإنسان بهذا الشكل، فليقل لنفسه : إياك أن تغتر بأن الله جعل فيك زاوية اختيار، وتذكر أنك على أساس من هذه الزاوية تتلقى التكليف من الله ب " افعل " ٩، ولا تفعل " ؛ لأن معنى " افعل كذا " : أنك صالح ألا تفعل ؛ ومعنى " لا تفعل كذا " : أنك صالح أن تفعل ؛ لأن لديك منطقة اختيار ؛ ولكن لديك في زواياك الأخرى منطقة قهر وتسخير، فتأدب في منطقة الاختيار، كما تأدبت في منطقة الاضطرار والقهر.
وقد وصف الحق -سبحانه- الإنسان بأنه كنود، قال تعالى :﴿ إن الإنسان لربه لكنود١٠ ( ٦ ) ﴾ [ العاديات ] : لأن الإنسان لا يتذكر أحيانا أن مهمة عقله الأولى هي أن يعقل حدوده، وأن يقول لنفسه : مادامت الحيوانية في مقهورة، ومادامت الجمادية في مقهورة ؛ فلأكن مؤدبا مع ربي، وأجعل منطقة الاختيار على مراد منهج الله.
وأنت إن أردت أن تضع إحصائية ل " افعل " ولا " تفعل " لوجدت ما لم يرد فيه تكليف ب " افعل " و " لا تفعل " لا يقل عن خمسة وتسعين في المائة من حركة الحياة، وهو المباح.
وأنزل الله -سبحانه- التكليف لتنضبط به حركة حياتك كلها –إن جعلت التكليف هو مرادك- وهو لن يأخذ أكثر من خمسة في المائة من حركة الحياة، ويعود خير ذلك عليك.
فساعة يقول لك التكليف : عليك أن تزكي عن مالك، فلا بد لك من أن تقدر المقابل، لأنك إن افتقرت واحتجت ؛ سيأتيك من زكاة الآخرين ما يلبي احتياجاتك، فمن " افعل " التي تلتزم بها ويلتزم بها غيرك تأتي الثمرة التي تسد عجز أي ضعف في المجتمع الإيماني بالتراحم المتبادل النابع عن اليقين بالمنهج.
وحين يقول لك التكليف : لا تعتد على حرمات الغير، فهو يقيد حريتك في ظاهر الأمر، لكنه يحمي حرماتك من أن يعتدي عليها الغير، وحين تتعقل أوامر التكليف كلها ستجدها لصالحك ؛ سواء أكان الأمر ب " افعل " أو " لاتفعل ".
وهنا يقول الحق -سبحانه- :﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة.. ( ١١٨ ) ﴾[ هود ] : و " لو " تفيد الامتناع١١. أي : أن الله -تعالى- لم يجعل الناس أمة واحدة، بل جعلهم مختلفين.
وقد حاول بعض من الذين يريدون أن يدخلوا على الإسلام بنقد ما، فقالوا : ألا تتعارض هذه الآية مع قول الله :﴿ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين.. ( ٢١٣ ) ﴾ [ البقرة ] : وظن أصحاب هذا القول أن البشر لم يلتفتوا إلى خالقهم من البداية ؛ ثم بعث الله الأنبياء ليلفتهم إلى المنهج.
ونقول لهؤلاء : لا، فقد ضمن الحق -سبحانه- للناس قوتهم وقوام حياتهم، وكذلك ضمن لهم المنهج الإيماني منذ أن أمر آدم وزوجه بالهبوط إلى الأرض لممارسة مهمة الخلافة فيها، وقال الله -سبحانه- :﴿ فمن اتبع هداي١٢ فلا يضل١٣ ولا يشقى١٤.. ( ١٢٣ ) ﴾[ طه ].
ولو استقصى هؤلاء الآيات التي تعالج هذا الأمر، وهي ثلاثة آيات ؛ فهنا يقول الحق -سبحانه- ﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة.. ( ١١٨ ) ﴾ [ هود ].
وفي الآية التي ظنوا أنها تتعارض مع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول –سبحانه- :
﴿ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( ٢١٣ ) ﴾[ البقرة ] : وهكذا نعرف أن الحق سبحانه وتعالى أنزل المنهج مع آدم –عليه السلام- ثم طرأت الغفلة١٥ ؛ فاختلف الناس، فبعث الله الأنبياء ليحكموا فيما اختلف فيه الناس.
إذن : فقول الله -تعالى- :﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة.. ( ١١٨ ) ﴾ [ هود ] : يعني أنه -سبحانه- لو شاء لجعل الناس كلهم على هداية ؛ لأنه بعد أن خلقهم ؛ وأنزلهم إلى الأرض ؛ وأنزل لهم المنهج ؛ كانوا على هداية، ولكن بحكم خاصية الاختيار التي منحها الله لهم، اختلفوا.
ثم يقول الحق -سبحانه- :﴿ ولا يزالون مختلفين.. ( ١١٨ ) ﴾[ هود ] : أي : أنهم سيظلون على الخلاف.
ويأتي الحق –سبحانه وتعالى- في الآية التالية بالاستثناء فيقول :
﴿ إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( ١١٩ ) ﴾ :
١ - أبى إباء وإباءة، وتأبى عليه: استعصى. وأبى الشيء: كرهه ولم يرضه. وفي التنزيل العزيز: ﴿ويأبى الله إلا أن يتم نوره..(٣٢)﴾ [التوبة]. وفي المثل: "رضى الخصمان وأبي القاضي" يضرب لمن يطالب بحق نزل أصحابه عنه. [المعجم الوسيط: مادة [أبى]] بتصرف..
٢ - يقول الحق سبحانه: ﴿عن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون (٣٠) نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون (٣١) نزلا من غفور رحيم (٣٢)﴾ [فصلت]..
٣ - يقول تعالى: ﴿.. ولو شاء لهداكم أجمعين (٩٩)﴾ [النحل]، ويقول: ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة..(٤٨)﴾ [المائدة]. ويقول أيضا: ﴿ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته..(٨)﴾ [الشورى]..
٤ - سال يسيل سيلا، وسيلانا، ومسيلا، مسالا، فهو سائل، وسيال: جرى وطغى، ويقال: سالت الأرض ونحوها، وسالت بما فيها. وسالت عليه الخيل وغيرها: جرت من كل وجه وتدفقت. وسال بهم السيل، وجاش بنا البحر: وقعوا في أمر شديد، ووقعنا نحن في أشد منه، وسالت الغرة: استطالت وعرضت في الجبهة وقصبة الأنف.
وسيال القدرة الإلهية: ظهور آثارها في جميع المخلوقات، وانتشارها وشمولها لكل شيء في الكون، ما علمنا منه وما لم نعلم [المعجم الوسيط: مادة [سيل]] بتصرف..

٥ - لأن الإنسان مختار فيما يستطيع البديل فيه، مقهور فقيما لا يستطيع إبداله، إذن: للاختيار حدود مقرونة بالاستطاعة، والطاقة البشرية..
٦ - الزمام: الخيط الذي يشد في البرة أو في الخشاش ثم يشد إلى طرف المقود. ويقال: "هو زمام قومه" قائدهم ومقدمهم وصاحب أمرهم. وهو زمام الأمر: ملاكه، وألقى في يده زمام أمره: فوضه إليه. ويملك الله زمامك: أي: يملك أمورك كلها [المعجم الوسيط: مادة [زمم]] بتصرف..
٧ - عقل يعقل عقلا: أدرك الأشياء على حقيقتها. وعقل البعير: ضم رسغ يده إلى عضده وربطهما معا بالعقال؛ ليبقى باركا، والعقل: ما يكون به التفكير وتصور الأشياء على حقيقتها، كقوله تعالى: ﴿من بعد ما عقلوه..(٧٥)﴾ [البقرة] أي: أدركوه على حقيقته وعلموه علما ثابتا، قال تعالى: ﴿وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير (١٠)﴾ [الملك] أي: لو كنا ندرك الأمر على حقيقته. وقد نعى القرآن كثيرا على من لا يستعملون عقولهم، وحث على استعمال العقل، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿أفلا تعقلون (٤٤)﴾ [البقرة] [القاموس القويم: مادة [عقل]] بتصرف..
٨ - جمح: أسرع. والجموح: الرجل يركب هواه لا يمكن رده [مختار القاموس – مادة جمح]..
٩ - وكلمة افعل ولا تفعل تدور حول مطلوبات المنهج أمرا ونهيا، فالفرض والواجب والسنة والمستحب مأمور بهم، والحرام والمكروه منهي عنهما، وللأمر عطاؤه مصداقا لقوله تعالى: ﴿نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون (٣١)﴾ [فصلت] وللنهي عقابه أو المغفرة من الله..
١٠ - كند النعمة يكندها: جحدها ولم يشكرها، فهو كاند، وصيغة المبالغة "كنود"، قال تعالى: ﴿إن الإنسان لربه لكنود (٦)﴾ [العاديات] أي: كفور شديد الجحود، [القاموس القويم: مادة [كند]]..
١١ - لو: حرف شرط غير جازم، ومعناه: امتناع الشرط لامتناع الجواب. قال تعالى: ﴿لو نشاء لجعلناه حطاما..(٦٥)﴾ [الواقعة]، ويقترن جوابها باللام للتوكيد، وقد لا يقترن باللام، كقوله تعالى: ﴿لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون (٧٠)﴾ [الواقعة] ويقل اقتران جوابها باللام إذا كان منفيا كقوله تعالى: ﴿ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام..(٢٧)﴾ [لقمان] ثم قال: ﴿ما نفدت كلمات الله..(٢٧)﴾ [لقمان]، وقد يحذف جواب لو كقوله تعالى: ﴿ولو أن قرأنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض..(٣١)﴾ [الرعد] الجواب محذوف تقديره: لكان هذا القرآن العظيم يفعل ذلك، ولكن الله لم يجعل قرآنا بهذه الصفة، [القاموس القويم ٢/ ٢٠٦].
وقد تستعمل "لو" حرفا مصدريا مثل "أن" ويكثر ذلك بعد كلمة "ود" وكلمة "أحب" وما يشبههما، كقوله تعالى: ﴿يود أحدهم لو يعمر ألف سنة..(٩٦)﴾ [البقرة] أي: يود التعمير ألف سنة، والمصدر المؤول مفعول به للفعل "يود".
وقد تستعمل "لو" للتمني، مثل قوله تعالى: ﴿لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا..(١٦٧)﴾ [البقرة] وهي على لسان بعض أهل النار يوم القيامة الذين يتمنون الرجوع إلى الدنيا؛ ليتبرءوا من الكبراء الذين كانوا يتبعونهم في الدنيا ثم تنكروا لهم في الآخرة. [القاموس القويم: مادة [لو]]..

١٢ - هداه الطريق يهديه هديا وهداية وهدى: أعلمه إياه، وعرفه له، وأرشده إليه، فهو هاد. ومن المجاز المعنوي: هداه الحق، أو هداه إلى الحق، دله عليه وأرشده إليه.
والهدى: مصدر الفعل "هدى" ويأتي بمعنى الرشاد، ويوصف به للمبالغة، كقوله تعالى: ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (٣)﴾ [البقرة] أي: هاد للمتقين، وذلك إذا وقفنا على قوله تعالى: ﴿لا ريب فيه..(٢)﴾ [البقرة] فالكتاب هدى للمتقين، أي: هاد لهم، وأما إذا وقفنا على قوله تعالى: ﴿لا ريب فيه..(٢)﴾ [البقرة] فيكون هدى مصدرا بمعنى هداية، أي: في الكتاب هداية للمتقين لا ريب في ذلك. [القاموس القويم: مادة [هدى]] بتصرف..

١٣ - ضل الكافر: غاب عن الحجة المقنعة وعدل عن الطريق المستقيم، ولم يعرف الحق. والضلال: النسيان والضياع، قال تعالى: ﴿قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي..(٥٠)﴾ [سبأ]. [القاموس القويم: مادة [ضلل]]..
١٤ - شقى شقا شقاء وشقاوة: ساءت حاله المادية أو المعنوية، فهو شقي قال تعالى: ﴿قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا..(١٠٦)﴾ [المؤمنون] أي: حالة الشقاء والضلال وفساد النفوس. وقال تعالى: ﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (٢)﴾ [طه] أي: لتحزن وتتألم أسفا على عصيانهم، [القاموس القويم: مادة [شقى]] بتصرف.
١٥ - الغفلة: سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ وعدم اليقظة، يقول الحق: ﴿لقد كنت في غفلة من هذا..(٢٢)﴾ [ق] وتأتي بمعنى عدم الإدراك للحق، وعدم الاهتداء إليه يقول الحق: ﴿أولئك هم الغافلون (١٧٩)﴾ [الأعراف].
وغفل عن الأمر غفولا تركه عمدا أو عن غير عمد، وأغفله متعد بالهمزة: تركه عن عمد، وأغفل غيره عن الأمر: جعله يغفل عنه، يقول الحق: ﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا..(٢٨)﴾ [الكهف] أي: جعلناه غافلا عن ذكرنا [القاموس القويم بتصرف وترتيب ص ٥٧ جـ٢].

أي : أن الحق -سبحانه- قد خلق الخلق للرحمة والاختلاف.
وساعة نرى " اسم إشارة " أو " ضمير " عائدا على كلام متقدم، فنحن ننظر ماذا تقدم، والمتقدم هنا :﴿ ولا يزلون مختلفين ( ١١٨ ) إلا من رحم ربك.. ( ١١٩ ) ﴾[ هود ]، والحق –سبحانه وتعالى- حين تكلم عن خلق الإنسان قال :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( ٥٦ ) ﴾[ الذاريات ] : ومعنى العبادة١ هو طاعة الله -سبحانه- في " افعل " و " لا تفعل " وهذا هو المراد الشرعي من العبادة ؛ ولكن المرادات الاجتماعية تحكمت فيها خاصية الاختيار، فحدث الاختلاف، ونشأ هذا الاختلاف عن تعدد الأهواء.
فلو أن هوانا كان واحدا ؛ لما اختلفنا، ولكنا نختلف نتيجة لاختلاف الأهواء، فهذا هواه يميني ؛ وذاك هواه يساري ؛ وثالث هواه شيوعي ؛ ورابع هواه رأسمالي ؛ وخامس هواه وجودي، وكل واحد له هوى٢.
ولذلك قال الحق –سبحانه :﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم٣ لفسدت السماوات والأرض.. ( ٧١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : ولم يكن العالم ليستقيم ؛ لو اتبع الله -سبحانه- أهواء البشر المختلفة، ولكن أحوال هذا العالم يمكن أن تستقيم ؛ إذا صدرت حركته الاختيارية عن هوى واحد ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )٤.
وفي حياتنا اليومية نلاحظ أن الأعمال التي تسير بها حركة الحياة وبدون أن ينزل تكليف فيها ؛ نجد فيها اختلافا لا محالة ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لو شاء لخلقنا كلنا عباقرة في كل مناحي الحياة ؛ أو يخلقنا كلنا شعراء أو أطباء أو فلاسفة.
ولو شاء -سبحانه- ذلك فمن سيقوم بالأعمال الأخرى ؟ فلو أننا كنا كلنا أطباء فمن يقوم بأعمال الزراعة وغيرها ؟ ولو كنا جميعا مهندسين ؛ فمن يقوم بأعمال التجارة وغيرها ؟
وقد شاء الحق -سبحانه- أن يجعل مواهبنا مختلفة ليرتبط العالم ببعضه ارتباط تكامل وضرورة ؛ لا ارتباط تفضل.
ولذلك يقول الحق –سبحانه :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات٥ ليتخذ بعضهم بعضا سخريا٦.. ( ٣٢ ) ﴾ [ الزخرف ] : وهكذا نعرف أن رفع الدرجات لا يعني تلك النظرة الحمقاء الرعناء٧، والتي تدعى أن في ذلك التقسيم رفعة للغنى وتقليلا لشأن الفقير ؛ لأن الواقع يؤكد أن كل إنسان هو مرفوع في جهة بسبب ما يحسنه فيها ؛ ومرفوع عليه في جهة أخرى بسبب ما لا يحسنه ويحسنه غيره، وغيره مكمل له.
وهكذا يتبادل البشر ما يحققه اختلاف مواهبهم٨، واختلاف المواهب هي مقومات التلاحم.
ولذلك قلنا : إن مجموع سمات ومواهب كل إنسان إنما يتساوى مع مجموع سمات ومواهب كل إنسان آخر، ولا تفاضل إلا بالتقوى ؛ وقيمة كل امرئ ما يحسنه.
وقد ترى صاحب السيارة الفارهة وهو يرجو عامل إصلاح السيارات الذي يرتدي ملابس رثة٩ ومتسخة ؛ ليصلح له سيارته ؛ فيقول له العامل : لا وقت عندي لإصلاح سيارتك ؛ فيلح صاحب السيارة الفارعة بالرجاء ؛ فيرضي العامل ويرق قلبه لحال هذا الرجال صاحب السيارة الفارهة ويذهب لإصلاحها.
لذلك أقول : إذا نظرت لمن هو دونك في أي مظهر من مظاهر الحياة ؛ فلا تغتر بما تفوقت وتميزت به عليه ؛ ولكن قل لنفسك : لا بد أن هذا الإنسان متفوق في مجال ما.
ونحن نعلم أن الله –سبحانه وتعالى- ليس له أبناء ليميز واحدا بكامل المواهب، ويترك آخر دون موهبة.
ولذلك يقول الحق -سبحانه- هنا :﴿ ولا يزالون مختلفين ( ١١٨ ) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم.. ( ١١٩ ) ﴾ [ هود ] : وإن كان الاختلاف١٠ في المقدرات والمنهج ؛ فهذا ما يولد الكفر أو الإيمان، ولنا أن نعرف أن الكفر له رسالة ؛ بل هو لازم ليستشعر المؤمن حلاوة الإيمان. ولو لم يكن للكفر وظيفة لما خلقه الله.
وقد قلت قديما : إن الكفر يعاون الإيمان ؛ مثلما يعاون الألم العافية، فلولا الألم لما جئنا بالطبيب ليشخص الداء، ويصف الدواء الشافي بإذن الله.
ولذلك نقول : الألم رسول العافية.
والحق سبحانه يقول هنا :﴿ ولا يزلون مختلفين ( ١١٨ ) إلا من رحم ربك.. ( ١١٩ ) ﴾ [ هود ] : وأنت إن دققت النظر في الاختلاف لوجدته عين الوفاق.
ومثال ذلك : اختلاف أبنائك فيما يحبونه من ألوان الطعام، فتجد ابنا يفضل صدر الدجاجة، وآخر يفضل الجزء الأسفل منها " الورك "، وتضحك أنت لهذا الاختلاف، لأنه اختلاف في ظاهر الأمر، ولكن باطنه وفاق، لو اتفقنا جميعا في الأمزجة لوجدنا التعاند والتعارض ؛ وهذا ما ينتشر بين أبناء المهنة الواحدة.
ولمن يسأل : هل الخلق للاختلاف أم الخلق للرحمة ؟
نقول : إن الخلق للاختلاف والرحمة معا، لأن الجهة منفكة.
ثم يقول –سبحانه- في نفس الآية :﴿ .. وتمت١١ كلمة ربك لأملأن جهنم من الجِنّة١٢ والناس أجمعين ( ١١٩ ) ﴾[ هود ] : والحق سبحانه قد علم أزلا بمن يختار الإيمان ومن يختار الكفر، وهذا من صفات العلم الأزلي لله- سبحانه وتعالى- ولذلك قال- سبحانه :﴿ وتمت كلمة ربك ﴾ أي : علم -سبحانه- مَن مِن عباده سيختار أن يعمل في الدنيا عمل أهل النار، ومن سيختار أن يعمل عمل أهل الجنة ؛ لسبق علمه الأزلي بمرادات عباده واختياراتهم.
وسبق أن ضربنا مثلا –ولله المثل الأعلى- بعميد الكلية الذي يعلن للأساتذة ضرورة ترشيح المتفوقين في كل قسم ؛ لأن هناك جوائز في انتظارهم، فيرشح كل أستاذ أسماء المتفوقين الذين لمس فيهم النبوغ والإخلاص للعلم، ويطلب العميد من أساتذة من خارج جامعته أن يضعوا امتحانات مفاجئة لمجموع الطلاب ؛ ويفاجأ العميد بتفوق الطلبة الذين لمس فيهم أساتذتهم النبوغ والإخلاص للعلم ؛ وهنا يتحقق العميد من صدق تنبؤ الأساتذة الذين يعملون تحت قيادته.
ولكن قد تحدث مفاجأة : أن يتخلف واحد من هؤلاء الطلبة لمرض أصابه أو طارئ يطرأ عليه من تعب أعصاب أو إرهاق أو غير ذلك ؛ وبهذا يختل تقدير أساتذة ؛ لكن تقدير الحق -سبحانه- منزه عن الخطأ، وما علمه أزلا فهو محقق لا محالة ؛ لذلك بين لنا أنه علم أزلي، ويتحدى الكافر به أن يغيره.
وكلنا يعرف أن الحق -سبحانه- أنزل قوله الكريم :﴿ تبت١٣ يدا أبي لهب وتب ( ١ ) ﴾[ المسد ] : وسمعها أبو لهب ولم يتحدها بإعلان الإيمان- ولو نفاقا.
وقول الحق :﴿ وتمت كلمة ربك ﴾ تبين لنا أن الحق –سبحانه- إن قال شيئا فهو قد تم بالفعل ؛ فلا راد لمشيئته، أما نحن فعلينا أن نسبق كل وعد بعمل سنقوم به بقول :﴿ إلا أن يشاء الله... ( ٢٤ ) ﴾[ الكهف ] : لأن الحق يقول لنا :﴿ ولا تقولن١٤ لشيء إني فاعل ذلك غدا ( ٢٣ ) إلا أن يشاء الله.. ( ٢٤ ) ﴾[ الكهف ] : وفي هذا احترام لوضعنا البشري، وإيمان بغلبة القهر، ومعرفة لحقيقة أننا من الأغيار ؛ لأن كل حدث من الأحداث يتطلب فاعلا ؛ ومفعولا يقع عليه الفعل ؛ ومكانا ؛ وزمانا ؛ وسببا ؛ ولا أحد منا يملك أي واحد من تلك العناصر.
فإن قلت :﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ تكون قد عصمت نفسك من أن تكون كاذبا، أو تعد بما لا تستطيع، لكن إذا كان من يقول هو مالك كل شيء ولا قوة تخرجه عما قال، فهو وحده القادر على أن ينفذ ما يقول.
ولذلك قلنا : إن كل فعل ينسب إلى الله –تعالى- يتجرد عن الزمن ؛ فلا نقول : " فعل ماض " أو " فعل سيحدث في المستقبل " أو " فعل مضارع " ؛ لأن تلك الأمور إنما تقاس بها أفعال البشر، لكن أفعال الله –سبحانه- لا تقاس بنفس المقياس، فسبحانه حين يقرر أمرا فنحن نأخذه على أساس أنه قد وقع بالفعل.
والحق -سبحانه- يقول :﴿ أتى أمر الله١٥ فلا تستعجلوه١٦.. ( ١ ) ﴾ [ النحل ].
وقوله سبحانه ﴿ أتى ﴾ بمعنى : تقرر الأمر ولو ينفذ -بعد- فلا تتعجلوه ؛ وهذا هو تحدي القيومية القاهرة، ولا توجد قوة قادرة على أن تمنع وقوع أمر شاءه الله –سبحانه وتعالى- فهو يحكم فيما يملك، ولا منازع له سبحانه.
وقوله الحق :﴿ لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين.. ( ١١٩ ) ﴾ [ هود ] : فسببه أن الإنس والجن هم الثقلان١٧ المكلفان.
١ - عبد الله يعبده عبادة وعبودة: أطاعه، فهو عابد. قال تعالى: ﴿ما كانوا إيانا يعبدون (٦٣)﴾ [القصص] وقال تعالى: ﴿إياك نعبد..(٥)﴾ [الفاتحة] [القاموس القويم: مادة [عبد]] بتصرف..
٢ - يقول تعالى: ﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا (٢٨)﴾ [الكهف].
٣ - هويه يهواه هوى: أحبه، وأكثر ما يستعمل في الباطل وفي الشهوات الضارة، قال تعالى: ﴿فلا تتبعوا الهوى..(١٣٥)﴾ [النساء] أي: ما تهواه أنفسكم وما تشتهيه فيضلكم ذلك عن الحق. وقال تعالى: ﴿ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا..(٧٧)﴾ [المائدة] [القاموس القويم: ٢/ ٣١٠، ٣١١]..
٤ - أخرجه ابن أبي عاصم في: كتاب "السنة" [١/١٢] من حديث عبد الله بن عمرو، وأورده ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم" [ص ٤٦٠] وضعفه..
٥ - الدرجة: المرقاة يرقي عليها الصاعد إلى أعلى، ويهبط عليها النازل من أعلى، وهي واحدة درجات السلم، تستعار للمنزلة والمكانة المعنوية في الفضل والجاه، وفي الأجر والثواب عند الله. قال تعالى: ﴿هم درجات عند الله... (١٦٣)﴾ [آل عمران] أي: أنهم منازل مختلفة في الفضل وفي الثواب كل بحسب عمله، قال تعالى: ﴿رفيع الدرجات ذو العرش..(١٥)﴾ [غافر] أي: أن الله عنده المنازل العالية ينزل فيها من يشاء من عباده المقربين، والله عال متعال فوق أعلى الدرجات علي القدر، جل شأنه [القاموس القويم: ١/٢٢٥]..
٦ - سخره يسخره: أذله وقهره وأخضعه، قال تعالى: ﴿ليتخذ بعضهم بعضا سخريا..(٣٢)﴾ [الزخرف] وسخره بالتشديد: أخضعه وقهره لينفذ ما يريد منه بدون إرادة ولا اختيار من المسخر، ومنه قوله تعالى: ﴿والسحاب المسخر بين السماء والأرض..(١٦٤)﴾ [البقرة] [القاموس القويم: ١/ ٣٠٦]..
٧ - الرعونة: الحمق: والأرعن: الأهوج في منطقه [لسان العرب/ مادة: رعن]..
٨ - إن اختلاف المواهب هو للتكامل الإنساني نحو تيسير حركة الحياة، بخلاف اختلاف الأهواء ففيها فساد لحركة الحياة..
٩ - الرث: القديم البالي من كل شيء، وأرث الثوب: أخلق: [اللسان: مادة رثث]..
١٠ - إذا كان الاختلاف في المقدرات والمنهج، ينتج ذلك الشيء وضده.
١١ - تم الأمر يتم تما وتماما: كمل وتحقق وهو تام وتميم، ويكون حسيا ومعنويا، قال تعالى: ﴿وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا..(١١٥)﴾ [الأنعام] أي: كملت وتحققت، وتم الشيء: كملت أجزاؤه، قال تعالى: ﴿فتم ميقات ربه أربعين ليلة..(١٤٢)﴾ [الأعراف] أي: كمل العدد المحدد لمناجاة موسى عليه السلام، وأتم الشيء: أكمله على أحسن وجه، قال تعالى: ﴿أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي..(٣)﴾ [المائدة] أي: على أكمل وجه، ليس فيها نقص [القاموس القويم: ١/ ١٠١، ١٠٢] بتصرف..
١٢ - الجنة- بكسر الجيم-: الجن، قال تعالى: ﴿الذي يوسوس في صدور الناس (٥) من الجنة والناس (٦)﴾ [الناس]. [القاموس القويم: ١/ ١٣٢]..
١٣ -تب يتب تبا وتبابا: خسر وهلك قال تعالى: ﴿تبت يدا أبي لهب وتب (١)﴾ [المسد] دعاء عليه بالخسران أو بالهلاك- ودعا عليه أولا بأن تهلك يداه؛ لأنهما آلة البطش والإيذاء.
والتباب: الهلاك. قال تعالى: ﴿وما كيد فرعون إلا في تباب (٣٧)﴾ [غافر] وتببه تتبيبا: أهلكه، قال تعالى: ﴿وما زادوهم غير تتبيب (١٠١)﴾ [هود] أي: إهلاك وتخسير. [القاموس القويم: ١/ ٩٦]..

١٤ - ذكر ابن كثير في تفسيره (٣/٧١] عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية أن جماعة من قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أمور وذلك بعد مشورة اليهود: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم فإنهم قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وسلوه عن الروح ما هو؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبركم غدا عما سألتم عنه) ولم يقل: (إن شاء الله)، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، فنزلت هذه الآية وهذه السورة [الكهف] فيها خبر ما سألوا عنه..
١٥ - أمر الله: عقابه لمن أقام على الشرك وتكذيب رسوله. [قاله القرطبي ٥/ ٣٧٨٩] وقال ابن كثير في تفسيره [٢/٥٦١]: (يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبرا بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع لا محالة)..
١٦ - استعجل الأمر: طلبه عاجلا سريعا، قال تعالى: ﴿ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم..(١١)﴾ [يونس] [القاموس القويم: ٢/٩]..
١٧ - الثقلان: الإنس والجن لأنهما كالحملين الثقيلين على ظهر الأرض. قال تعالى: ﴿سنفرغ لكم أيها الثقلان (٣١)﴾ [الرحمان]، وهو خبر المقصود منه التهديد والوعيد [القاموس القويم: ١/ ١٠٨]..
ويقول الحق –سبحانه- بعد ذلك :
﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت١ به فؤادك وجاءك في هذه٢ الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ( ١٢٠ ) ﴾ :
وساعة ترى التنوين في قوله الحق ﴿ وكلا ﴾ فاعلم أن المقصود هو قصة كل رسول جاء بها الحق -سبحانه- في القرآن الكريم.
وحين يتكلم الحق –سبحانه وتعالى- عن فعل قد أحدثه ؛ فلنا أن ننظر : هل هذا الفعل مأخوذ من صفة له -سبحانه- أم مأخوذ من اسم موجود ؟ فيحق لنا أن نأخذ الاسم ونأخذ الفعل مثل قوله-تعالى :﴿ خلقكم٣.. ( ٧٠ ) ﴾[ النحل ] : نعلم منه أنه –سبحانه- خالق، ولكن إن جاء فعل ليس له أصل في أسماء الله الحسنى، فإياك أن تشتق من الفعل اسما لله.
ومثال ذلك قوله –سبحانه :﴿ وكلا نقص٤.. ( ١٢٠ ) ﴾[ هود ] : والذي يقص هنا هو الله –سبحانه- لكن لا أحد في إمكانه أن يقول : إن الله قصاصا، مثلما لا يحق لأحد أن يقول : إن الله ماكر، رغم أن الله -سبحانه- قد قال :﴿ يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين٥ ( ٣٠ ) ﴾[ الأنفال ] : وكذلك لا يصح لأحد أن يقولك الله المخادع، رغم أن الحق -سبحانه- قد قال :﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم٦.. ( ١٤٢ ) ﴾[ النساء ] : وهكذا نتعلم أدب الحديث عن الله المتصف بكل صفات الكمال والجلال ؛ وأن نكتفي بقول : إن مثل هذا الفعل جاء للمشاكلة٧ ما دام ليس له وجود ضمن أسماء الله الحسنى.
وهنا يقول الحق –سبحانه :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل.. ( ١٢٠ ) ﴾ [ هود ] :
و " أنباء " جمع " نبأ "، وهو الخبر العظيم الذي له أهمية، والذي يختلف به الحال عند العلم به، وأخبار الرسل –عليهم السلام –تتناثر لقطات مختلفة عبر سور القرآن الكريم، موضحة ما جاء به كل رسول معالجا الداء الذي عانى منه قومه، وكذلك ما عاناه كل رسول من عنت القوم المبعوث لهم، وجاء ذكر تلك الأنباء في القرآن لتثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم : لأن الرسول سيصادف في الدعوة المتاعب والصعاب.
وقد ذكر القرآن بعضا من تلك المواقف، يقول الحق –سبحانه :﴿ وزلزلوا٨ حتى يقول الرسول٩ والذين آمنوا معه متى نصر الله.. ( ٢١٤ ) ﴾[ البقرة ].
ويقول الحق -سبحانه- مصورا حال المؤمنين١٠ :﴿ إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت١١ الأبصار وبلغت القلوب الحناجر١٢ وتظنون بالله الظنونا١٣ ( ١٠ ) ﴾[ الأحزاب ] : ومثل هذه المواقف تقتضي تثبيت الفؤاد ؛ بمعنى تسكينه على منطق اليقين الإيماني برب أرسل رسولا ليبلغ منهجا، وما كان الله سبحانه ليرسل رسولا ليبلغ منهجا ثم يسلمه لأعدائه.
فإذا ما ذكر له أخبار الرسل والصعاب التي تعرضوا لها تهون عليه المصاعب التي يتعرض لها، ويثبت فؤاده.
و " الفؤاد " هو ما نقول عنه : " القلب "، وهو وعاء العقائد، بمعنى أن المخ يستقبل من الحواس –وسائل الإدراكات من عين ترى، ومن أذن تسمع، ومن أنف يشم. ومن فم يستطعم، ومن كف تلمس- فتتولد المعلومات التي يصنفها المخ، ويرتبها كقضايا عقلية.
ويناقش المخ تلك القضايا العقلية إلى أن تصح القضية العقلية صحة لا يأتي بعدها ما ينقضها، فيسقطها المخ في الفؤاد لتصير عقيدة ؛ لا تطفو بعدها إلى العقل لتناقش من جديد ؛ ولذلك يسمونها " عقيدة " –من العقدة- فلا تتذبذب بعد ذلك.
إذن : فالفؤاد هو الوعاء القابل للقضايا التي انتهى المخ عن تمحيصها١٤ تمحيصا وصل فيه إلى الحق، وأسقطها على القلب ليدير حركة الحياة على مقتضاها.
وعلى سبيل المثال : نجد الشاب الذي يفكر في مستقبله، فيدرس مزايا وعيوب المهن المختلفة ليختار منها التخصص الذي يتناسب مع مواهبه ؛ وأحلامه، ثم يدرس المحسات التي استقبلها بحواسه ليمحصها بعقله ؛ وما ينتهي إليه عقله يسقطه في قلبه ؛ ليصير عقيدة يدير بها حركة حياته.
مثال هذا : أنه قد استقر في وجدان الناس وعقولهم أن النار محرقة، ولكن من أين جاء هذا اليقين في أن النار محرقة ؟ نقول : جاء من أمر حسي بأن شاهد الناس أن من مسته النار أحرقته.
لا بد -إذن- أن يكون القلب ثابتا ؛ غير مذبذب.
ولذلك يقول الحق –سبحانه :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك.. ( ١٢٠ ) ﴾[ هود ] : لأن الفؤاد هو الوعاء الذي من مهمته أن يكون مستعدا لاستقبال كلمة الحق ؛ وليقبل تنبيه الذكرى، وجلال الموعظة، وكمال الوارد من الحق -سبحانه- وما يأتي من الحق- سبحانه- هو الحق أيضا، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه تغيير.
وحق الحق ينبوع العقيدة الذي ستصدر عنه طاعة التكليف، ولا بد أن يكون الإنسان على ثقة من حكمة المكلف قبل أن يقبل على التكليف ؛ لذلك لزم أن يأتي الدليل على وجود الحق -سبحانه- وهو قمة الوجود الأعلى –قبل أن تأتي الموعظة١٥، ويكون الإيمان بالوجود الأعلى الذي لا يتغير ولا تطرأ عليه الأغيار هو السابق لمجيء تلك الموعظة.
لأن الموعظة قد تتطلب من الإنسان شيئا يكره أن يلتزم به، وهي هنا صادرة من الحق –سبحانه- الذي خلق، ولا يمكن أن يغش أو يخدع مخلوقاته، ويحملها لك رسول منه –سبحانه.
وقد تكره الموعظة إن صدرت عن إنسان مثلك ؛ لأنه لن يعظك إلا بكمال يتميز به ليعدد نقصا فيك، وإن لم يكن الواعظ يتمتع بالكمال الذي يعظ به ؛ فالموعوظ سيرد على الواعظ قائلا : فلتعظ نفسك أولا.
ولذلك نجد قول الحق- سبحانه :﴿ كبر مقتا١٦ عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( ٣ ) ﴾ [ الصف ] : لأن الواعظ الذي يعظ بما لا يطبقه على نفسه يعطي الحجة للموعوظ ليرفض الموعظة ؛ وليقول لنفسه : " لو كان في هذا الأمر خير لطبقه على نفسه ".
وهكذا بينت الآية الكريمة موقف الرسول صلى الله عليه وسلم كمثبت، وأيضا موقف المؤمنين برسالته كمذكرين من الرسول بأنهم سيتعرضون للمتاعب ؛ متاعب مشقة التكليف التي سيعاني منها من لا يأخذ التكليف بعمق الفهم.
فقد يرى بعض المكلفين -مثلا- أن الأمر بغض الطرف١٧ حرمان من شهوة طارئة ولا يسبر غور١٨ الفهم بأن في غض الطرف أمرا لكافة المؤمنين أن يغضوا الطرف عن محارمه، وقد يرى في الزكاة أنها أخذ من ماله، ولا يسبر غور الفهم بأن في الزكاة تأمينا له إن مرت عليه الأغيار وصار فقيرا ؛ عندئذ سيقدم له المجتمع الإيمان التأمين الاجتماعي الذي يحميه وعياله من مغبة السؤال.
وعمق الفهم أمر مطلوب ؛ لأن الحق- سبحانه- هو القائل :﴿ أفلا يتدبرون١٩ القرآن.. ( ٨٢ ) ﴾ [ النساء ] : لأنك حين تتدبر المعاني ستعلم أن التكليف هو تشريف لك ؛ وستقول لنفسك : " ما كلفني الله إلا لخير نفسي ؛ وإن ظهر أنه لخير الناس ".
ومن المتاعب أبضا ما يلقاه المؤمنون من عنت المستفيدين من الفساد ؛ هؤلاء الذين يعيشون على الانتفاع من المفاسد، ويواجهون كل من يريد أن يقضي على الفساد ؛ لأن الفساد في الأرض لا يعيش إلا إذا وجد منتفع بهذا الفساد ؛ والمنتفع بالفساد يكره ويعلن الخصومة لكل مقاوم له.
إذن : فموقف خصوم النبي صلى الله عليه وسلم موقف طبيعي لصالحهم، ولكنهم-لحمقهم- حددوا الصالح بمصالحهم الآنية٢٠ في الحياة الدنيا ؛ ولم ينظروا إلى عاقبة ما يؤول إليه أمرهم في الآخرة نعيما أو عذابا٢١.
ولو أنهم امتلكوا البصيرة ؛ لعرفوا أن من مصلحتهم أن يوجد من يقومهم حتى لا يقدموا لأنفسهم شرا يوجد لهم في الآخرة.
ولو أنهم فطنوا ؛ لعلموا أن الرسول كما جاء لصالح المستضعفين المستغلين بالفساد ؛ جاء أيضا لصالحهم، ولو أنهم كانوا على شيء من التعقل ؛ لكانوا من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولكان من الواجب عليهم كلما حدثتهم أنفسهم بالسعي إلى الفساد ؛ وسمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينتظرهم نتيجة لهذا الفساد ؛ أن يتبعوه وأن يشكروه ؛ لأنه خلصهم من طاقة الشر الموجودة فيهم.
وهنا يوضح الحق -سبحانه- لرسوله : أنت لست بدعا من الرسل٢٢، وكل رسول تعرض للمتاعب مثلما تتعرض أنت لمثلها٢٣، وأنت الرسول الخاتم، ولأن الدين الذي جئت به لن يأتي بعده دين آخر ؛ لذلك لابد أن تتركز المتاعب كلها معك ؛ فكن على ثقة تماما أنك مصادف للمتاعب.
ولذلك نثبت فؤادك بما نقصه عليك من أنباء الرسل ؛ لأن هذا الفؤاد هو الذي سيستقبل الحقائق الإيمانية من قمة " لا إله إلا الله " إلى أن يكون ذكرى تذكرك والمؤمنين معك.
وهكذا بينت الآية موقف الرسول صلى الله عليه وسلم كمثبت ؛ وموقف المؤمنين كمذكرين من الرسول ؛ لأنهم سيتعرضون للمتاعب أيضا.
ونحن نعرف جميعا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار حين بايعوه في العقبة على نصرته، وقالوا : إن نحن وفينا بما عاهدناك عليه ؛ فماذا يكون لنا ؟ ولم يقل لهم صلى الله عليه وسلم :( ستملكون الدنيا، وستصبحون سادة الفرس والروم )، بل قال لهم :( لكم الجنة )٢٤.
لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن منهم من سيموت قبل أن تتحقق تلك الانتصارات ؛ لذلك وعدهم بالقدر المشترك الذي يتساوى فيه من يموت بعد إعلانه للإيمان، وبين من سيعيش ليشهد تلك الانتصارات.
وهكذا تبينا كيف تضمنت الآية الكريمة تثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيفية إعداد هذا الفؤاد لاستقبال الحق والموعظة وذكرى المؤمنين معه.
هذا هو الطرف الأول فماذا عن الطرف الثاني ؛ الطرف المكذب للرسول ؟
كان ولا بد أن يتكلم الحق –سبحانه- هنا عن المكذبين للرسول ؛ لأن استدعاء المعاني يجعل النفس قابلة للسماع عن الطرف الآخر.
ومادام الحق -سبحانه- قد تكلم عن تثبيت وعاء الاستقبال، والموعظة، وتذكير المؤمنين ؛ لحظة أن تخور٢٥ منهم العزائم، فلا بد –إذن-أن يتكلم-سبحانه- عن القسم الآخر ؛ وهو القسم المكذب، فيوضح –سبحانه-لرسوله أن له أن يتحداهم ولا يتهيب.
يقول الحق –سبحانه :
﴿ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم٢٦ إنا عاملون ( ١٢١ ) ﴾ :
١ ثبته: جعله ثابتا متمكنا، قال تعالى: ﴿ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (٧٤)﴾ [الإسراء] أي: جعلناك ثابتا ودفعنا عنك أسباب الضعف [القاموس القويم: ١/ ١٠٥]..
٢ - قوله تعالى: ﴿في هذه الحق..(١٢٠)﴾ [هود]: "أي هذه السورة، قاله ابن عباس ومجاهد وجماعة من السلف، وعن الحسن في رواية عنه وقتادة: في هذه الدنيا، والصحيح: في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء، وكيف أنجاهم الله والمؤمنين بهم وأهلك الكافرين، جاءت فيها قصص حق، ونبأ صدق وموعظة يرتدع بها الكافرون وذكرى يتذكر بها المؤمنون" قاله ابن كثير في تفسيره [٢/ ٤٦٥]..
٣ - يقول رب العزة سبحانه: ﴿والله خلقكم ثم يتوفاكم..(٧٠)﴾ [النحل].
٤ - قص الكلام أو الأخبار: يقصها قصا وقصصا تتبعها ورواها وحكاها، قال تعالى: ﴿فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف.. (٢٥)﴾ [القصص] وقص الأمر قصا تتبعه، ومنه قوله تعالى: ﴿فارتد على آثارهما قصصا..(٦٤)﴾ [الكهف]. والقصص مصدر يطلق على ما يروى من الأخبار، ومنه قوله تعالى: ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص..(٣)﴾ [يوسف] [القاموس القويم بتصرف جـ ٢ ص ١٢٠..
٥ -مكر يمكر مكرا: دبر الشر لغيره في خفية واحتيال، قال تعالى: ﴿إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة..(١٢٣)﴾ [الأعراف]، وقال تعالى: ﴿إذا لهم مكر في آياتنا..(٢١)﴾ [يونس] أي تدبير سيء بقصد صرفها عن وجهها وصد الناس عنها. وإذا أسند المكر إلى الله سبحانه فمعناه إبطال مكر الماكرين وإيقاع العقوبة بهم من حيث لا يشعرون كقوله تعالى: ﴿ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (٥٤)﴾ [آل عمران]، وقوله تعالى: ﴿ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون (٥٠)﴾ [النمل] [القاموس القويم: ٢/ ٢٣١، ٢٣٢]..
٦ - خدعه يخدعه خدعا وخديعة: أظهر له خلاف ما يخفيه ليوقعه في مكروه من حيث لا يعلم، قال تعالى: ﴿وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله..(٦٢)﴾ [الأنفال] وخادعه: خدعه أو حاول ذلك قال تعالى: ﴿إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم...(١٤٢)﴾ [النساء] أي: يظهرون الإيمان نفاقا ليخدعوا الله ورسوله والمؤمنين، والله مبطل خداعهم، وكاشف أمرهم، ومعاقبهم على خداعهم [القاموس القويم: ١/ ١٨٨]..
٧ - "المشاكلة: ذكر الشيء بلفظ غيره، لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا، فالأول: كقوله تعالى: ﴿تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك..(١١٦)﴾ [المائدة]، وقوله: ﴿ومكروا ومكر الله..(٥٤)﴾ [آل عمران]، فإن إطلاق النفس والمكر في جانب البارئ تعالى إنما هو لمشاكلة ما معه. ومثال التقديري قوله تعالى: ﴿صبغة الله..(١٣٨)﴾ [البقرة] أي: تطهير الله؛ لأن الإيمان يطهر النفوس، فعبر عن الإيمان بـ "صيغة الله" للمشاكلة بهذه القرينة" الإتقان للسيوطي [٣/٢٨٢]..
٨ - زلزل الشيء: حركه حركة عنيفة مكررة، قال تعالى: ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها (١) [الزلزلة] أي: أصابها الزلزال عند قيام الساعة، وقوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم (١)﴾ [الحج]. وقوله تعالى: ﴿وزلزلوا زلزالا شديدا (١١)﴾ [الأحزاب] أي: أزعجوا وخافوا وقلقوا واضطربوا شديدا- على التشبيه بالشيء المادي. [القاموس القويم: ١/ ٢٨٨]..
٩ - قال القرطبي في تفسيره [١/٩٤٩]: (الرسول هنا شعيبا في قول مقاتل، وهو اليسع وقال الكلبي: هذا في كل رسول بعث إلى أمته وأجهد في ذلك حتى قال: متى نصر الله؟ وروى عن الضحاك قال: يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وعليه يدل نزول الآية. والله أعلم..
١٠ - وذلك في غزوة الأحزاب، في شوال سنة خمس من الهجرة على الصحيح المشهور، وفيها تحالفت قريش ومن تابعها مع يهود بني النضير وبنمي قريظة، فكان مجموعهم عشرة آلاف، أما المسلمون فكانوا ثلاثة آلاف، وظل المسلمون محاصرين داخل المدينة قريبا من شهر. [باختصار من تفسير ابن كثير [٣/ ٤٧٠]]..
١١ - زاغ يزيغ زيغا وزيغانا: مال عن القصد، وزاغ البصر: اضطرب ولم يحقق ما يرى، أو انحرف عن القصد فلم ير شيئا. قال تعالى: ﴿ما زاغ البصر وما طغى (١٧)﴾ [النجم] أي: ما انحرف بصر الرسول صلى الله عليه وسلم عن رؤية الملك، ولا طغى فرأى أكثر مما أمامه، بل رأى الملك رؤية صادقة، وقوله تعالى في وصف فزع بعض الناس في المدينة حين أحاطت بهم الأعداء في غزوة الأحزاب: ﴿وإذا زاغت الأبصار..(١٠)﴾ [الأحزاب] أي: اضطربت لشدة الفزع، [القاموس القويم: ١/ ٢٩٤] بتصرف..
١٢ - الحنجرة –في اللغة-: الحلقوم والحلق، وهي علميا تسمى القصبة الهوائية، ويمر منها النفس زفيرا وشهيقا، قال تعالى: ﴿وبلغت القلوب الحناجر..(١٠)﴾ [الأحزاب] كناية عن شدة الكرب والضيق..
١٣ - الظنون: ما يحصل في النفس عن أمارة فهو شك راجح، وفعله من أفعال الرجحان – من باب نصر- والظن: مصدر، والظن: اسم لهذا الخاطر الذي يحصل في النفس، قال تعالى: ﴿إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا (٢٨)﴾ [النجم] وجمعه: ظنون، وقرئ: ﴿وتظنون بالله الظنونا (١٠)﴾ [الأحزاب] الظنونا- يألف في الوصف، وفي الوقف –وبغير ألف قراءة. [القاموس القويم: ١ /٤١٧ ]..
١٤ - محص الشيء ومحصه: خلصه من عيوبه، يقال: محص المعدن بالنار: خلصه مما يشوبه، ومحص السيف، جلاه، ومحص الله التائب من الذنوب: طهره منها. ومحص فلانا: امتلاه واختبره [المعجم الوسيط]..
١٥ - الموعظة: ما يوعظ به من قول أو فعل، قال تعالى: ﴿وموعظة للمتقين (٦٦)﴾ [البقرة] وقوله تعالى: ﴿وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة..(١٢٥)﴾ [النحل] ووعظه يعظه وعظا وعظة: نصحه بالطاعة وأرشده إلى فعل الخير [القاموس القويم بتصرف ٢/ ٣٤٥]..
١٦ - مقته يمقته مقتا: أبغضه بغضا شديدا؛ لأمر قبيح فعله.
ومقت الله: غضبه وانتقامه وعذابه، كقوله تعالى: ﴿إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم..(١٠)﴾ [غافر] أي: أن غضب الله عليكم أكبر من بغض بعضكم بعضا. وانتقام بعضكم من بعض، وقوله تعالى: ﴿إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا (٢٢)﴾ [النساء] أي: أن زواج من سبق أن تزوجها الأب يعتبر فعلة فاحشة شديدة القبح، وتكون سببا في مقت الناس وبغضهم الشديد لمرتكبها، وسببا في مقت الله وغضبه وانتقامه من فاعلها؛ لأنها عقوق بالآباء وخلط للأنساب [القاموس القويم: ٣/٢٣١]..

١٧ - الطرف: جانب العين، ويطلق على العين وعلى البصر، قال تعالى: ﴿ينظرون من طرف خفي..(٤٥)﴾ [الشورى] أي: من جانب العين في خفاء، وقوله تعالى: ﴿وعندهم قاصرات الطرف عين (٤٨)﴾ [الصافات] أي: غاضات البصر من العفة، وقوله تعالى: ﴿أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك..(٤٠)﴾ [النمل] أي: بصرك، أي مقدار غمضة العين وفتحها. [القاموس القويم، مادة: طرف]..
١٨ - سبره سبرا: حزره، أو خبره، يقال: سبر الجرح: قاس غوره بالمسبار، وسبر فلانا: خبره ليعرف ما عنده والغور: كل منخفض من الأرض، والغور من كل شيء قعره وعمقه، يقال: سبر غوره: تبين حقيقته وسره. ويقال: فلان بعيد الغور: داهية، وماء غور: غائر وفي التنزيل العزيز ﴿قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين (٣٠)﴾ [الملك] [المعجم الوسيط: مادة [سبر]، [وغور]]..
١٩ - دبر الأمر: نظر في عواقبه وأدباره ليقع على ما يرى فيه الخير له، وقوله تعالى: ﴿ثم استوى على العرش يدبر الأمر..(٣)﴾ [يونس] أي: يقضيه ويقدره وينفذه على حسب حكمته وإرادته، وقوله تعالى: ﴿فالمدبرات أمرا (٥)﴾ [النازعات] هم الملائكة يدبرون أمور الخلق بإذن الله وبمقتضى حكمته وإرادته.
وتدبر: تأمل في أدبار الأمور وعواقبها، أو تأمل ليعرف حقائق الأمور، قال تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (٢٤)﴾ [محمد] أي: هل عجزوا وعموا فلا يتأملون معاني القرآن، ويبصرون ما فيها من حكم بالغة فيؤمنون به- وبين همزة الاستفهام وفاء العطف فعل محذوف دائما فسرناه هنا بقولنا: أعجزوا فلا يتدبرون- وقوله تعالى: ﴿أفلم يدبروا القول..(٦٨)﴾ [المؤمنون] أي: أعجزوا فلم يدبروا، والأصل: يتدبروا، قلبت التاء دالا، وأدغمت في الدال. [القاموس القويم: ١/ ٢٢١].
.

٢٠ - المصالح الآنية: العاجلة، نسبة إلى (الآن) وهو الأمر العاجل الحال، وهو ظرف للوقت الحاضر معرف بأل دائما، ومبنى على الفتح، قال تعالى: ﴿قالوا الآن جئت بالحق..(٧١)﴾ [البقرة] [القاموس القويم ١/ ٤٥]..
٢١ - ولذلك قال عنهم رب العزة: ﴿يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (٧)﴾ [الروم] ثم يلفت الحق نظرهم إلى الكون وما فيه وإلى عاقبة المكذبين فيقول: ﴿أو لم يتفكروا في أنفسهم ما حلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون (٨) أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (٩) ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون (١٠)﴾ [الروم]..
٢٢ - يقول رب العزة سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ﴿قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم..(٩)﴾ [الأحقاف] أي: ما كنت مبتدعا من تلقاء نفسي ما أدعو إليه، إن أتبع إلا ما يوحى إلي..
٢٣ - يقول الحق سبحانه مخاطبا نبيه: ﴿قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبون ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (٣٣) ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين [٣٤]﴾ [الأنعام]..
٢٤ - كان ذلك في بيعة العقبة الثانية وهي الكبرى، وذلك أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة الأنصاري: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نكهة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: "الجنة" قالوا: أبسط يدك فبسط يده فبايعوه [سيرة النبي لابن هشام ٢/ ٥٥]..
٢٥ - الخور: الضعف، خار الرجل: ضعف وانكسر، والخوار: الضعيف الذي لا بقاء له على الشدة [لسان العرب- مادة: خور]..
٢٦ - المكانة: رفعة الشأن والرزانة والتؤدة، قال تعالى: ﴿قل يا قوم اعملوا على مكانتكم..(١٣٥)﴾ [الأنعام] أي: برزانة وتؤدة وتبصر، وقرئ: "على مكاناتكم" بالجمع. [القاموس القويم ٢/ ٢٣٢].
والمكانة: الحالة التي يكون عليها المرء من قدرة أو عجز أو إيمان أو كفر، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿اعملوا على مكانتكم..(٩٣)﴾ [هود] أي: على الحالة التي أنتم عليها، وقوله تعالى: ﴿لمسخناهم على مكانتهم..(٦٧)﴾ [يس] أي: على الحالة التي هم عليها حين عنادهم وكفرهم. [القاموس القويم: ٢/ ١٧٩، ١٨٠]..

أي : اصنعوا ما شئتم، ومعنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم مستند إلى رصيد قوي من الإيمان بإله لا يهوله أن يستعد له الخصم ؛ فهو صلى الله عليه وسلم والذين معه لا يواجهون الخصم بذواتهم ؛ ولا بعددهم وعُددهم ؛ وإنما يواجهونه بالركن الركين الذي يستندون إليه، وهو الحق سبحانه وتعالى.
ونحن نرى في حياتنا اليومية أن أي قائد في معركة إنما يشعر بالثقة حين يصل إلى علمه أن مددا سوف يصله من الوطن الذي يحارب من أجله ؛ لأنه سيعزز من قوته، فما بالنا بالمدد الذي يأتي ممن لا ينفد ما عنده١ ؛ وممن لا يجير عليه أحد ؛ فهو يجير ولا يجار عليه.
ولذلك نلاحظ أن الأنبياء استظلوا بتلك المظلة، فموسى-عليه السلام- حين كاد الفرعون أن يلحق به ؛ ورأى قومه أن لا نجاة لهم ؛ فالبحر أمامهم والعدو وراءهم ؛ صرخوا :﴿ إنا لمدركون٢.. ( ٦١ ) ﴾[ الشعراء ]، لكن موسى- عليه السلام- يطمئنهم :﴿ كلا إن معي ربي سيهدين ( ٦٢ ) ﴾[ الشعراء ] : فموسى –عليه السلام- يعلم أنه مستند بقوة الله لا بقوة قومه، وأمده الله- سبحانه- بمعجزة جديدة :﴿ اضرب بعصاك البحر.. ( ٦٣ ) ﴾[ الشعراء ] : فينفلق البحر ؛ ليفسح بين مياهه طريقا يابسة ؛ وسار موسى عليه السلام وقومه، وفكر موسى في قطع السبيل على عدوه حتى لا يسير في نفس الطريق المشقوق بأمر الله عبر معجزة ضرب البحر بالعصا، وأراد موسى –عليه السلام- أن يضرب البحر ضربة ثانية ليعود البحر إلى حالة السيولة مرة أخرى، فيقول له الله- سبحانه :﴿ واترك البحر رهوا٣ إنهم جند مغرقون ( ٢٤ ) ﴾[ الدخان ]. أي : اتركه على ما هو عليه ؛ لينخدع فرعون ويسير في الطريق اليابسة، ثم يعيد الحق- سبحانه- البحر كما كان، وبذلك أنجى الحق -سبحانه- وأهلك بالشيء الواحد ؛ ٤ وهذه لا يقدر عليها غير الله- سبحانه وتعالى وحده.
وهكذا يهب الحق -سبحانه- المؤمنين به القدرة على تحدي الكافرين، والإيمان كله معركة من التحدي ؛ تحد في صدق الرسول كمبلغ عن الله، ومعه معجزة تدل على رسالته، وتحد في نصرة الرسول ومن معه من قلة مؤمنة، فيغلبون الكثرة الكافرة.
والحق- سبحانه يقول :﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ( ٢٤٩ ) ﴾[ البقرة ] : وهكذا يشيع التحدي في معارك الإيمان.
وقد تميز كل رسول بمعجزة يتحدى بها أولا ؛ ثم ينتهي دورها ؛ لينزل له بعدها منهج من السماء ؛ ليبشر به قومه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تميز بمعجزة لا تنتهي، وهي عين منهجه ؛ لأنه رسول إلى كل الأزمان وإلى كل الأمكنة٥ ؛ فكان لابد من معجزة تصاحب المنهج إلى يوم القيامة.
ولذلك نجد كل مؤمن بالرسالة المحمدية يقول : محمد رسول الله والقرآن معجزته إلى أن تقوم الساعة.
والحق –سبحانه- يقول هنا :﴿ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم.. ( ١٢١ ) ﴾[ هود ].
ونحن نعلم أن كل كائن منا له مكان، أي : له حيز وجرم٦. ويقال : فلان له مكانة في القوم، أي : له مركز مرموق ؛ إذا خلا منه لا يستطيع غيره أن يشغله، وهو مكان يدل على الشرف والعظمة والسيادة والوجاهة ونباهة الشأن.
فقوله الحق :﴿ اعملوا على مكانتكم.. ( ١٢١ ) ﴾[ هود ] : أي : اعملوا٧ على قدر طاقتكم من عدة ومن عدد، فإن لمحمد صلى الله عليه وسلم ربا سيهديه وينصره، وفي هذا تهديد لهم ؛ وليس أمرا لهم ؛ لأنهم ككفار لن يمتثلوا لأمر من عدوهم.
ولو أنهم امتثلوا لأمر محمد ورب محمد لما كانوا كافرين ؛ بل لأصبحوا من الطائعين.
وحين يقول لهم –سبحانه- في آخر الآية :﴿ إنا عاملون ( ١٢١ ) ﴾[ هود ] : فمعنى ذلك أن كل ما في قدراتكم هو محدود لأنكم من الأغيار الأحداث٨ ؛ أما فعل الله- تعالى- فهو غير محدود ؛ لأنه- سبحانه- قديم أزلي لا تحده حدود، ولن يناقض عمل المحدث الحادث عمل القديم الأزلي، فقوة الحادث المحدث موهوبة له من غيره، أما قوة الحق- سبحانه- فهي ذاتية فيه.
ونحن نعلم أن أي عمل إنما يقاس بقوة فاعله، وخطأ المستقبلين لمنهج الله أنهم إذا جاء عمل ؛ نسوا من الذي عمِل العمل، ولو كان العمل من فعل البشر لحق للإنسان أن يتكلم، لكن إذا ما كان العمل من الله -تعالى- فليلزم الإنسان حدوده.
ومثال ذلك : هؤلاء الذين جادلوا في مسألة الإسراء التي قال فيها الحق –تبارك وتعالى :﴿ سبحان الذي أسرى٩ بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله١٠.. ( ١ ) ﴾[ الإسراء ].
وقالوا : إننا نضرب إليها أكباد الإبل شهرا، فكيف يقول إنه أتاها في ليلة. ؟
وكان الرد عليهم : إن محمدا لم يقل إنه سرى من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى بقوته هو، بل أسري به، والذي عمل ذلك هو الله –سبحانه- وليس محمدا، فيقسوا هذا العمل بقوة الله تعالى وليس بقوة محمد.
١ - يقول الحق سبحانه: ﴿هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما (٤)﴾ [الفتح]، ويقول تعالى في شأن غزوة حنين: ﴿ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها.. (٢٦)﴾ [التوبة]..
٢ - أدركه: لحقه، قال تعالى: ﴿حتى إذا أدركه الغرق..(٩٠)﴾ [يونس] على المجاز، كأن الغرق عدو مطارد لحق فرعون فأهلكه.
والدرك-بفتح الراء، وبسكونها- اسم مصدر بمغنى الإدراك واللحاق، قال تعالى: ﴿لا تخاف دركا ولا تخشى (٧٧)﴾ [طه] أي: لا تخاف أن يدركك فرعون وجنوده. [القاموس القويم: ١/ ٢٢٦]..

٣ - رها البحر يرهو رهوا: سكن فهو راه. ورهو: مصدر يوصف به بلفظه، قال تعالى: ﴿واترك البحر رهوا..(٢٤)﴾ [الدخان] ساكن الأمواج؛ ليغتروا، فينزلوا فيه، أو ساكن النفس، فهي حال من المفعول به وهو البحر، أو من الفاعل وهو الضمير المستتر "أنت" وهو موسى عليه السلام، أي: يكون هادئا مطمئنا إلى النجاة. [القاموس القويم: ١/ ٢٧٩]..
٤ - فالله سبحانه وتعالى أنجى موسى ومن معه، وأهلك فرعون وجنوده بالشيء الواحد، وهذا دليل على طلاقة القدرة..
٥ -عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون" أخرجه مسلم في صحيحه [٥٢٣] كتاب المساجد..
٦ - الجرم: الجسد أو الجسم، وهو مجسم فيأخذ مكانا وحيزا في الوسط الذي هو فيه..
٧ - الأمر هنا للتهديد، وهو لون من ألوان علوم البلاغة..
٨ - الأحداث: الأشياء الحادثة، أي لم يكن لها وجود ثم وجدت، وتأتي عليها عوامل الفناء والتغير..
٩ - أسرى به: جعله يسري، أو حمله معه على السير ليلا. قال تعالى: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده..(١)﴾ [الإسراء] وهذا يشعر أن الله تعالى كان رفيقا للرسول صلى الله عليه وسلم معينا له في إسرائه، وقوله تعالى: ﴿فاسر بعبادي ليلا إنكم متبعون (٢٣)﴾ [الدخان] أمر الله سبحانه موسى عليه السلام أن يحمل قومه على الإسراء ويكون لهم دليلا ومعينا وهاديا. [القاموس القويم، ١/٣١٢] بتصرف..
١٠ - البركة: زيادة الخير والنماء والسعادة، قل تعالى: ﴿لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض..(٩٦) [الأعراف]، وبارك الله الشيء، وبارك فيه وعليه وحوله. قال تعالى: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها..(٨)﴾ [النمل]، وقوله تعالى: {يوقد من شجرة مباركة زيتونة..(٣٥)[النور] أي: عظيمة الخير، كبيرة النفع. [القاموس القويم: [١/٦٥].
.

ويقول الحق –سبحانه- بعد ذلك.
﴿ وانتظروا إنا منتظرون١ ( ١٢٢ ) ﴾ :
في هذه الآية نلمس الوعيد والتهديد ؛ فالكافرون ينتظرون وعد الشيطان لهم، والمؤمنون ينتظرون وعد الرحمان لهم٢.
ولذلك سيقول المؤمنون للكافرين يوم القيامة :﴿ أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا.. ( ٤٤ ) ﴾[ الأعراف ] : وفي انتظار الكفار تهديد لهم، وفي انتظار المؤمنين تثبيت لقلوبهم، ولو لم تأت الأحداث المستقبلة كما قالها القرآن لتشك المؤمنون، ولكن المؤمنين لم يتشككوا، وهكذا نتأكد أن القول بالانتظار لم يكن ليصدر إلا من واثق بأن ما في هذا القول سوف يتحقق.
وقد جاء الواقع بما يؤيد بعض الأحداث التي جاءت في القرآن.
ألم ينزل قول الحق –سبحانه :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر٣ ( ٤٥ ) ﴾[ القمر ] : وكان وقت نزول هذا القول الحكيم إبان ضعف البداية٤، حتى قال – عمر رضي الله عنه-٥ : أي جمع يهزم ؟ لأن عمر حينئذ كان يلمس ضعف حال المؤمنين، وعدم قدرة بعض المؤمنين على حماية نفسه، ثم تأتي غزوة بدر ؛ ليرى المؤمنون صدق ما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن العجيب أنه صلى الله عليه وسلم خطط على الأرض مواقع مصرع بعض كبار الكافرين٦، بل وأماكن إصاباتهم، وجاء ذلك قرآنا يتلى على مر العصور، مثل قوله الحق :﴿ سنسمه على الخرطوم٧ ( ١٦ ) ﴾ [ القلم ] : وهكذا شاء الحق –سبحانه- أن يأتي الوقع بما يؤيد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، كما شاء – سبحانه- أن ينزل على الرسول لقطات من قصص الرسل الذين سبقوه لشد أزره، وليثبت فؤاده، ويذكر المؤمنين فيزدادوا إيمانا.
١ - انتظره: ترقبه وتوقعه، وقال تعالى: ﴿فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون (٣٠)﴾ [السجدة] أي: ترقب ما سيحل بهم، إنهم مترقبون. [القاموس القويم: ٢/ ٢٧٢]..
٢ - يقول الحق سبحانه: ﴿وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم..(٢٢)﴾ [إبراهيم]..
٣ - ولى المحارب دبره: كناية عن فراره، قال تعالى: ﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر (٤٥)﴾ [القمر] أي: ويفرون، وجمع الدبر: أدبار، قال تعالى: ﴿وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون (١١١)﴾ [أل عمران] أي: يفرون منكم منهزمين، وقوله تعالى: ﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر (٤٥)﴾ [القمر] أي: سيهزم الجيش الذي جمعوه، أو ستهزم جماعتهم. [القاموس القويم: ١/ ١٢٧] بتصرف..
٤ - قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين، نقله القرطبي في تفسيره [٩/٦٥٤٦]..
٥ - أورده ابن كثير في تفسيره معزوا إلى ابن أبي حاتم، قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وهو يقول: ﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر (٤٥)﴾ [القمر] فعرفت تأويلها يومئذ.
.

٦ - أخرج مسلم في صحيحه (٢٨٧٣) عن أنس بن مالك قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة، وأنشأ يحدثنا عن أهل بدر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس، يقول: "هذا مصرع فلان غدا إن شاء" قال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم" وكذا أخرجه أحمد في مسنده [٣/ ٢١٩، ٢٥٨] وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان "يضع يده على الأرض ههنا وههنا، فما أماط أحدهم عن موضع يد رسول الله..
٧ - الخرطوم: الأنف أو مقدم الأنف، والأنف رمز العزة عند العرب، ويقال: شم الأنوف أي: أعزاء، والوسم على الأنف، إذلال وإهانة، قال تعالى: ﴿سنسمه على الخرطوم (١٦)﴾ [القلم] أي: سنذله نهاية الإذلال، قيل: إن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة، وقد ضرب على أنفه بالسيف يوم بدر، قبل مقتله، فصدقت عليه الآية، وأخبرت بما سيحدث له قبل حدوثه، وقد أسلم من أبنائه اثنان، أحدهما سيدنا خالد بن الوليد سيف الله وفاتح العراق وقاهر الروم. [القاموس القويم: ١/١١٩]..
ثم يختتم الحق- سبحانه- سورة هود بقوله الكريم :
﴿ ولله غيب١ السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون ( ١٢٣ ) ﴾ :
أي : أن ما جاء من ذكر حكيم هو أمر غائب عنكم، يخبركم به الله -سبحانه- من خلال ما ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد شاء الحق -سبحانه- أن يحفظ هذا الذكر الحكيم، ثقة منه -سبحانه- أنه إذا أخبرنا في القرآن بخبر لم يجيء أوانه، فنلفهم أنه قد أخبر بما له من أزلية علم بالكون وما يجري فيه، وبما له من قدرة مطلقة تتحكم فيما يؤول إليه أمر المختار من الكائنات-مؤمنهم وكافرهم- فإذا حدثنا القرآن بشيء مما يغيب عن الإنسان، فلنعلم أنه إخبار بصدق مطلق.
وهناك الكثير مما يغيب عن الإنسان، وهناك حجاب بين وسائل إدراك الإنسان وبين بعض المدركات، ومرة يكون الحجاب حجاب زمن، فإذا أخبر الله -تعالى- عن أمر لم نشهده من قديم قد أوغل٢ في الزمن، ولم يقرأه النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب ولم يسمعه من معلم٣ ؛ فهذا كشف لحجاب الماضي.
ولذلك فبعض سور القرآن الكريم يسميها العلماء " ماكنات القرآن " مثل قوله الحق :﴿ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم٤ أيهم يكفل٥ مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ( ٤٤ ) ﴾ ﴿ آل عمران ]. وغير ذلك من الآيات٦ التي تبدأ بقوله الحق :{ ما كنت ﴾.
وقد كان هناك أناس في ذلك الماضي يدركون ما صار غيبا عن الرسول ومن معه ؛ لكن الحق –سبحانه- أظهر هذا الغيب للرسول الذي لم يجلس إلى معلم بشهادة أعدائه، وكذلك كشف الحق -سبحانه- لرسوله حجاب الزمان وحجاب المكان.
ومن ينكشف له حجاب الزمان وحجاب المكان : إنما ينكشف له حجاب المستقبل أيضا، والذي كشف هذا هو الحق -سبحانه- الذي قدر مجيء هذا العالم، وما سوف يحدث فيه إلى أن تقوم الساعة.
وقد طمر٧ الحق -سبحانه- في القرآن أمورا لو كشف عنها في زمن بعثة الرسول ؛ لكان الحديث عنها فوق مستوى العقول والإدراك ؛ وتحدث -سبحانه- عن وقائع مستقبلية بالنسبة للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لم يكن أحد يتوقعها.
وكانت هناك معركة بين أرقى حضارتين معاصرتين للإسلام ؛ حضارة فارس وحضارة الروم، وكانت الحضارتان تتنازعان السيطرة وتوسيع مناطق النفوذ، وهزمت فارس- التي لا تؤمن بإله- امبراطورية الروم التي تعتنق المسيحية، ولا تؤمن برسالة محمد الخاتمة.
لذلك حزن رسول٨ الله صلى الله عليه وسلم لهزيمة الذين يؤمنون بإله في السماء ؛ فيسرِّى الله٩ -سبحانه- الأمر على رسوله، وينزل الحق -سبحانه- قرآنا يتلى على مر العصور وكل الأزمان ؛ يحمل نبوة انتصار الروم بعد هزيمتهم من الفرس.
ويقول سبحانه :﴿ ألم ( ١ ) غلبت الروم ( ٢ ) في أدنى١٠ في الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ( ٣ ) في بضع سنين١١ لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون ( ٤ ) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ( ٥ ) ﴾ [ الروم ] :
هكذا تأتي النبوءة في القرآن تحمل التحديد لميعاد نصر الروم في بضع سنين، و " لبضع " يقصد به من ثلاثة لتسع سنوات.
وإن قيل : تلك نبوءة محمد، نقول : ما علم محمد بأخبار المعسكرين ولا بأسرار السياسة الداخلية لهما ؟
وقد جاء نصر الروم كما حدد القرآن، وكان هذا هتكا للحجب، حجاب الزمان، وحجاب المكان، وحجاب الناس، وأوحى به الحق سبحانه عالم الغيب المطلق لرسوله صلى الله عليه وسلم.
والغيب المطلق هو الذي لا يعرفه إلا الحق –تبارك وتعالى- وليس له مقدمات، ويكشفه الله لمن يرتضيه مصداقا لقوله-سبحانه ﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ( ٢٦ ) إلا من ارتضى من رسول.. ( ٢٧ ) ﴾[ الجن ] : وهذا الغيب١٢ المطلق يختلف عن الغيب المقيد الذي له مقدمات ؛ مع أن يأخذ بها الإنسان ويرتبها حتى يصل إلى اكتشاف سر من أسرار الكون.
والحق -سبحانه- هو القائل :﴿ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء... ( ٢٥٥ ) ﴾[ البقرة ] :
وهكذا نعلم أن كل المكتشفات كانت موجودة في الكون ومطمورة فيه ؛ وجعل الله -تعالى- لكل مستور منها ميلادا، فالبخار واستخدامه في الحركات كان له ميلاد ؛ والكهرباء كان لها ميلاد ؛ واكتشاف الذرة كقوة ومصدر للطاقة كان له ميلاد، وكل مكتشف ومخترع له ميلاد، وتتوالى مواليد الغيب مستقبلا، وفي ميلادها إيمان اليقين بمن أخفاه وأظهره، وهو الله الحكيم.
وقد يأتي هذا الميلاد بكشف وبحث ؛ وقد يظهره الله بدون بحث ؛ أو يظهره صدفة ؛ مثلما أظهر قانون الطفو النابع من قاعدة " أرشميدس " ومثلما أظهر الحق – سبحانه- قانون الجاذبية صدفة ؛ أي : أنه سبب من الأسباب جعل عبدا من عباده يبحث في شيء، فيظهر له شيء لم يكن يبحث عنه ؛ ولذلك نسب الحق –سبحانه- الإحاطة له –سبحانه.
وهنا يقول الحق –سبحانه :﴿ ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله... ( ١٢٣ ) ﴾[ هود ] : ولم يقل : " إليه يرجع الأمر كله "، لأنه سبحانه ضبط كل مخلوق على قدر.
ولله المثل الأعلى : كما تضبط أنت المنبه على ميقات معين، وكما يضبط المقاتل القنبلة لتنفجر في توقيت معين، والكون كله مرتب على هذا الترتيب.
والله- سبحانه- القائل :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( ٨٢ ) ﴾ [ يس ] : فكل شيء إنما يرجع إلى الله في التوقيت الذي شاءه الله.
أو : أن الأمر هو كل ما يتعلق بكائن حي ؛ لأن الحق –سبحانه- قد خلق في الكون أشياء وترك ملكيتها له- سبحانه- والحق -سبحانه- لا ينتفع بها، أما الإنسان فينتفع بها، وإن كان لا يقربها ولا يملكها، مثل : الشمس التي ترسل أشعتها، ويستفيد الإنسان بضوئها١٣ وحرارته، وهي لا تدخل في ملكية الإنسان ؛ لأنها من أساسيات الحياة ؛ لذلك لم يجعل الإنسان الذي خصه الله بخاصية الاختيار حق ملكيتها أو الاقتراب منها ؛ حتى لا يعبث بها.
وكذلك كل أساسيات الحياة جعلها الحق –سبحانه- في سلطته وحده، ولم يأمن أحدا من خلقه عليها، مثل الأرض بعناصرها، وكذلك الماء والهواء حتى لا يعبث أحد بأنفاس الهواء لأحد آخر.
شاء الحق سبحانه أن يجعل الأساسيات في يده دون أن يملكها لأحد ؛ رحمة منه بنا، ذلك أنه- سبحانه- علم أن الإنسان بما تعتريه من أغيار قد يسيء استخدام تلك الأساسيات.
وسخر الله هذه الأساسيات لخدمة كل المخلوقات١٤، وسخر بعض المخلوقات ليسوسها الإنسان، وبعض المخلوقات الآخر لم يستطع الإنسان تسخيره، وحتى قوة الإنسان نفسه ؛ شاء الحق- سبحانه- أن يجعلها أغيارا ؛ فالقوي يسير إلى الضعف١٥ ؛ والفقير قد يصبح غنيا.
وهكذا يثبت لنا أن كل ما نملك موهوب١٦ لنا من الله -تعالى- وليس هنا ما هو ذاتي فينا، وما نملكه اليوم لا يخرج عن الملكية الموقوتة، فإذا جاء يوم القيامة ؛ رجع كل ما نملك لله- سبحانه وتعالى.
ولذلك يقول الحق –سبحانه :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ( ١٦ ) ﴾[ غافر ].
ولذلك أيضا تشهد الجوارح على الإنسان، لأنها تخرج عن التسخير الذي كانت عليه في الدنيا١٧.
وإذا كان الحق-سبحانه- يقول هنا :﴿ ولله غيب السماوات والأرض.. ( ١٢٣ ) ﴾[ هود ]، فهو -سبحانه- يقول في آية أخرى :﴿ له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت١٨ الثرى ( ٦ ) ﴾ [ طه ] : وكان الحق -سبحانه- ينبه البشر منذ نزول القرآن إلى أهمية ما تحت الثرى من كنوز يمتن الله -تعالى- بها على عباده أنه يملكها.
ونحن نعيش الآن باستخراج المكنوز الذي تحت الثرى.
وحين يقول الحق –سبحانه هنا- في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها- :﴿ وإليه يرجع الأمر كله.. ( ١٢٣ ) ﴾ [ هود ] : ففي ذلك تنبيه لكل إنسان، ليعمل مستهدفا النجاة حين لا يكون لنفسه على نفسه سبيل يوم القيامة.
وليعلم كل إنسان أن كل ما يستمتع به هو من فيوضات الحق الأعلى الذي أعطى الإنسان قدرته من باطن قوته -سبحانه- وأعطاه غنى من باطن غناه -سبحانه- وأعطاه حكمة من باطن حكمته –سبحانه وأعطاه قبضا١٩- وبسطا من باطن قدرته -سبحانه- الفيوضات للحق –سبحانه وتعالى.
وحين يشاء فهو يسلب كل الفيوضات ويعود الأمر إليه، لأن الأمر كله له سبحانه.
فإن حدثت في القرآن بأمر تغيب عنك مقدماته ؛ فاعلم أن الذي أنزل هذا الكتاب لا يعزب٢٠ عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم على ثقة أن الحق -سبحانه- حين أمره أن يتوعد أعداء الدين فهو يطمئنه أن المرجع في كل الأمور إليه –سبحانه.
واطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه أن أعداء الدين إن لم يجازوا في الدنيا، فغدا ترجع الأمور كلها إلى الله، وإن كان الحق قد ملكهم أشياء ؛ فسيسلبهم هذه الملكية في الآخرة، وإن كان قد أعطاهم الخيار٢١ في الدنيا ؛ خيار أن يؤمنوا ويطيعوا، أو أن يكفروا ويعصو٢٢ ؛ فهذا الاختيار سيزول عنهم في الآخرة، وكل مالك لملك يصير ملكه بعده إلى الله.
ومادام الأمر كذلك فلنعبد الله وحده –سبحانه- لأنه صاحب الأمر فيما مضى ؛ وله الأمر الآن ؛ وله الأمر فيما يأتي.
وهو -سبحانه- الذي شاء، فجعل للإنسان ثلاثة أزمان : زمان سبق وجود آدم ؛ وزمان من بعد آدم إلى وجود أي منا ؛ ثم زمان مستقبل إلى ما لانهاية ؛ وبذلك يكون لكل منا زمان ماض ؛ وزمان حاضر وزمان مستقبل، وكل منا يدور في فلك الأحداث٢٣.
ومن المنطقي بعد أن تستمتع بوجودك في الحياة ؛ وتنضج عقليا أن تتساءل عن ماضيك، وتاريخ الجنس البشري.
وأنت –في هذه الحالة- تكون رهنا بثقة المحدث : هل يقول الصدق أم يقول الكذب ؟ خصوصا إذا كان الحديث عن تاريخ ما قبل آدم، ولا بد أن تقول لنفسك : لا يمكن أن يحدثني عن ذلك إلا من خلقني٢٤.
وساعة يبلغك رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن بداية الخلق قائلا :( كان الله، ولم يكن شيء غيره )٢٥.
ومعنى ذلك أن الصادق الوحيد الذي يمكن أن نقبل منه كلاما عما فات قبل آدم هو الله –سبحانه وتعالى.
وإن سألت : لماذا وجدت في زمني هذا، ولم أوجد في زمن آخر ؟ هنا ستقول لنفسك إن كنت مؤمنا : " إن مشيئة وإرادة من أوجدني هي التي رجحت وجودي في هذا الزمان عن أي زمن آخر ".
ولا بد أن تسأل نفسك : وما المطلوب مني ؟
وستجد أن المطلوب منك هو حركة الحياة ؛ لأن تلك الحركة هي الفاصل بين الحياة والموت، والحق يقول :﴿ هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها٢٦.. ( ٦١ ) ﴾[ هود : فقد أعطاك الحق -سبحانه- العقل لتفكر، وأعطاك الطاقة لتفعل، وسخر لك الكون بالمطمور فيه من الرزق ؛ لتستخرجه وتتعيش منه.
وهكذا يتضح لك أن كل شيء يحتاج منك أن تتحرك، وأنت في حركتك تحتاج لطاقة تأخذها من الأعلى منك وتعطي للأدنى منك ؛ لذلك أنت تأخذ طاقة من الأعلى منك، وتعطي للأدنى منك.
وأنت تعلم أن قمة المطلوب منك أن تصلي بين يدي الله خمس مرات كل يوم ؛ لتشحن طاقتك وتخرج للحياة بعد أن تجدد ولاءك لمن خلقك وخلق الأكوان كلها، وإن أحسنت الوقوف بين يدي الله سيأتي مستقبلك مبنيا على هذا الإحسان.
والحق -سبحانه- يعطينا مثلا لهاتين الحركتين، فيقول :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع.. ( ٩ ) ﴾ [ الجمعة ].
هذه حركة يأخذ فيها الإنسان طاقة من الأعلى، فالسعي إلى ذكر الله وترك البيع من أجل ذ
١ -غاب الشيء يغيب غيبا: استتر عن العين أو علم الإنسان في المعنوي، والغيب: مصدر، ويسمى به ما غاب واستتر، قال تعالى: ﴿الذين يؤمنون بالغيب..(٣)﴾ [البقرة] والغيب: هو ما غاب عن العيون كالجنة والنار والملائكة والجن، وجمعه: غيوب. قال تعالى: ﴿إنك أنت علام الغيوب (١٠٩){[المائدة]. [القاموس القويم: ٢/ ٦٤].
٢ - وغل في الشيء وغولا: دخل فيه، ووغل: ذهب وأبعد، وتوغل في الأرض: ذهب فأبعد فيها وكذلك أوغل في العلم. [لسان العرب –مادة: وغل]..
٣ - وفي ذلك يقول الله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (٤٨)﴾ [العنكبوت] قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية، قال النحاس: دليلا على نبوته لقريش؛ لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب، ولم يكن بمكة أهل الكتاب، فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم، وزالت الريبة والشك [انظر: تفسير القرطبي – ٧/ ٥٢٤١]..

٤ - الأقلام: جمع قلم، وهو السهم أو خشبة تشبهه يكتب عليه رمز يدل على مقدار يعطي لمن يخرجه باسمه، وكانوا يستعملونه في القرعة، ومن استعماله في القرعة قوله: ﴿إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم..(٤٤)﴾ [آل عمران]، فالأقلام هنا سهام الاقتراع، وقد أجريت القرعة ففاز سهم زكريا فكفل مريم.[القاموس القويم: ٢/ ١٣٢]..
٥ - كفله يكفله كفلا وكفالة: آواه ورعاه ورباه، وأكفله اليتيم، وكفله اليتيم: أسند إليه كفالته ورعايته، كقوله: ﴿وكفلها زكريا..(٣٧)﴾ [آل عمران] جعله كافلا لها، وقال تعالى: ﴿فقال أكفلينها وعزني في الخطاب (٢٣)﴾ [ص] أي: قال: اجعلني كافلا لها راعيا شئونها، مالكا. [القاموس القويم: ٢/١٦٧]..
٦ - هي تسع آيات في القرآن الكريم، منها آية آل عمران التي ذكرها الشيخ هنا، ومنها:
-﴿تلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا...(٤٩)﴾ [هود].
-﴿تلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون (١٠٢)﴾ [يوسف].
-﴿وما كنت بجانب الغربي إذ قضيانا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين (٤٤)﴾ [القصص].
-﴿ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكن كنا مرسلين (٤٥)﴾ [القصص].
-﴿وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون (٤٦)﴾ [القصص].
-﴿وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين (٨٦)﴾ [القصص].
- ﴿وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (٤٨){[العنكبوت].
-{ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا..(٥٢)﴾
[الشورى]..

٧ - طمر الشيء: خبأه، والمطمورة حفيرة تحت الأرض أو مكان تحت الأرض قد هيء خفيا يطمر فيها الطعام والمال، أي يخبأ [لسان العرب-مادة: طمر]..
٨ - إن في حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على هزيمة الروم، وهم أهل كتاب لدليلا على أن الإسلام هو جماع الأديان السماوية، وأن الأديان جميعا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى إليه سائر الجسد بالسهر والحمى- الحديث إن إحساس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهزيمة وحزنه عليها لدليل على رحابة الإسلام وعالميته مصداقا لقوله تعالى: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه..(١٣)﴾ [الشورى]..
٩ - يسرو: يكشف عن فؤاده الأم ويزيله. وسرى عنه: أي: كشف عنه الخوف، وقد تكرر ذكر هذه اللقطة في الحديث، وخاصة في ذكر نزول الوحي عليه، وكلها بمعنى الكشف والإزالة [لسان العرب- مادة: سرو]..
١٠ - أدنى الأرض: أقربها، قال ابن عطية: إن كانت الوقعة بأذرعات- بين بلاد العرب والشام- فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة، وإن كانت الوقعة بالجزيرة- موضع بين العراق والشام- فهي أدنى الأرض بالقياس إلى أرض كسرى.
وإن كانت بالأردن فهي أدنى إلى أرض الروم، [نقله القرطبي في تفسيره [٧/٥٢٦٠]]..

١١ - البضع: هو ما بين الثلاث إلى التسع، أخرج الترمذي في سننه [٣١٩٤] عن نيار بن مكرم لأسلمي قال: لما نزلت: ﴿الم (١) غلبت الروم (٢) في أدنى وهم من بعد غلبهم سيغلبون (٣) في بضع سنين..(٤)﴾ [الروم] فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم؛ لأنهم وإياهم أهل كتاب، وفي ذلك قول الله تعالى: ﴿ويومئذ يفرح المؤمنون (٤) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (٥)﴾ [الروم] فكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان يبعث، فلما أنزل الله تعالى هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة: ﴿الم (١) غلبت الروم (٢) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (٣) في بضع سنين..(٤)﴾ [الروم] قال ناس من قريش لأبي بكر؛ فذلك بيننا وبينكم زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارسا في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى. وذلك قبل تحريم الرهان، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل؟ البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين، فسم بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه، قال: فسموا بينهم ست سنين قال: فمضت الست سنين قبل أن يظهروا فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين؛ لأن الله تعالى قال: في بضع سنين، قال: ، وأسلم عند ذلك ناس كثير، قال الترمذي هذا حديث صحيح حسن غريب..
١٢ - الغيب: مصدر ويسمى به ما غاب واستتر، قال الحق: ﴿الذين يؤمنون بالغيب..(٣)﴾ [البقرة] والغيب: هو ما غاب عن العيون كالجنة والنار والملائكة والجن، وجمعه غيوب، قال تعالى: ﴿وإنك أنت علام الغيوب (١٠٩)﴾ [المائدة] [القاموس القويم جـ ٢/ ٦٤]..
١٣ - وصف الله تعالى الشمس في قرآنه، فقال: ﴿هو الذي جعل الشمس ضياء..(٥)﴾ [يونس] وقال عنها: ﴿.. وجعل الشمس سراجا (١٦)﴾ [نوح] والسراج: المصباح يعطي ضوءا ويبعث حرارة..
١٤ - يقول تعالى: ﴿الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمر رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (٣٢) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (٣٣)﴾ [إبراهيم] وقد جمعت هاتان الآيتان أساسيات الكون التي تحدث عنها فضيلة الشيخ الشعراوي: السماوات –الأرض- الماء- الثمرات - الفلك- البحر- الأنهار- الشمس- القمر- الليل- النهار..
١٥ - وفي ذلك يقول الحق سبحانه: ﴿الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير (٥٤)﴾ [الروم]..
١٦ - يقول الله تعالى: ﴿أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون (٧١) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون (٧٢) ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون (٧٣)﴾ [يس]..
١٧ - وذلك في قوله تعالى: ﴿ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون (١٩) حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (٢٠) وقلوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (٢١) وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصارهم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون (٢٢)﴾ [فصلت].
١٨ - الثرى: التراب الندي أو التراب مطلقا، قال تعالى: ﴿وما تحت الثرى (٦)﴾ [طه] أي: ما تحت جميع طبقات الأرض [القاموس القويم: ١/١٠٧]..
١٩ - يستعمل القبض كناية عن ضيق العيش، والبسط كناية عن سعته، كقوله تعالى: ﴿والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون (٢٤٥)﴾ [البقرة] أي: يضيق الرزق ويوسعه على من يشاء [القاموس القويم: ٢/ ٩٦] بتصرف، وبسط اليد: يكنى به عن الكرم والسخاء أو عن الإسراف وكثرة إنفاق المال، ويقول تعالى عن نفسه: ﴿بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء..(٦٤)﴾ [المائدة] كناية عن الكرم والسخاء [القاموس القويم ١/٦٦]..
٢٠ - عزب الأمر يعزب: بعد وغاب وصعب مطلبه، قال تعالى: ﴿وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (٦١)﴾ [يونس]، أي: لا يغيب ولا يبعد عنه أي شيء، فهو يعلم الصغير والكبير من الأمور والأشياءـ [القاموس القويم ٢/١٨]..
٢١ - الخيار: اسم من الاختيار، وخيرته بين الشيئين أي: فوضت إليه الخيار، وتخير الشيء، اختاره، والاختيار: الاصطفاء وكذلك التخير، [لسان العرب- مادة: خير] بتصرف..
٢٢ - وقد جاء هذا في آيات كثيرة، منها:
-﴿قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..(٢٩)﴾ [الكهف].
-﴿إن هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (٣)﴾ [الإنسان].
ومبدأ الإسلام العام أنه: ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي..(٢٥٦)﴾ [البقرة].

٢٣ - الحدث من أحداث الدهر: النازلة، وحدثان الدهر وحوادثه، نوبه ومصائبه [اللسان-مادة حدث]..
٢٤ - وفي هذا يقول الحق سبحانه: ﴿ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم...(٥١)﴾ [الكهف]، وقال تعالى عن خلق الملائكة: ﴿وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون (١٩)﴾ [الزخرف]..
٢٥ - أخرجه أحمد في مسنده [٤/٤٣١]، والبخاري في صحيحه [٣١٩١] من حديث عمران بن حصين وتمامه: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض"..
٢٦ - استعمره في المكان: جعله يعمره، قال ابن منظور في [اللسان: مادة: عمر] "استعمركم فيها، أي: أذن لكم في عمارتها واستخراج قومكم منها، وجعلكم عمارها"..
Icon