تفسير سورة النّاس

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الناس من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

فقد تضمنت أيضا استعاذة، ومستعاذا به، ومستعاذا منه.
فالاستعاذة تقدمت.
وأما المستعاذ به : فهو الله :﴿ رب الناس * ملك الناس * إله الناس ﴾ فذكر ربوبيته للناس، وملكه إياهم وإلهيته لهم، ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان، كما تقدم.
فذكر أولا معنى هذه الإضافات الثلاث. ثم وجه مناسبتها لهذه الاستعاذة، فتقول :
الإضافة الأولى : إضافة الربوبية المتضمنة لخلقهم وتدبيرهم، وتربيتهم، وإصلاحهم، وجلب مصالحهم، وما يحتاجون إليه، ودفع الشر عنهم، وحفظهم مما يفسدهم. هذا معنى ربوبيته لهم، وذلك يتضمن قدرته التامة، ورحمته الواسعة، وإحسانه، وعلمه بتفاصيل أحوالهم، وإجابة دعواتهم وكشف كرباتهم.
الإضافة الثانية : إضافة الملك : فهو ملكهم المتصرف فيهم، وهم عبيده ومماليكه، وهو المتصرف لهم المدبر لهم كما يشاء، النافذ القدرة فيهم، الذي له السلطان التام عليهم، فهو ملكهم الحق : الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب، وهو مستغاثهم ومعاذهم وملجأهم، فلا صلاح لهم، ولا قيام، إلا به وبتدبيره، فليس لهم ملك غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدو، ويستصرخون به إذا نزل العدو بساحتهم.
فالإضافة الثالثة : إضافة الإلهية، فهو إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه، ولا معبود لهم غيره، فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم، فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته، كما لا شريك معه في ربوبيته وملكه.
وهذه طريقة القرآن الكريم يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة.
وإذا كان وحده هو ربنا ومالكنا وإلهنا، فلا مفزع لنا في الشدائد سواه. ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره، فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى، ولا يحب سواه، ولا يذل لغيره، ولا يخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه ؛ لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه وتتوكل عليه : إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك، ومولي شأنك وهو ربك، فلا رب سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقا، وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك، وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين ؛ بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك، وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه.
فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه، ولا يلجئوا إلى غير حماه، فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم، ومتولي أمورهم جميعا بربوبيته وملكه وإلهيته لهم، فكيف لا يلتجئ العبد عند النوازل ونزول عدوه به إلى ربه ومالكه وإلهه ؟
فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة : من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوة، وأشدهم ضررا، وأبلغهم كيدا.
ثم إنه سبحانه كرر الاسم الظاهر، ولم يوقع المضمر موقعه فيقول : رب الناس وملكهم وإلههم تحقيقا لهذا المعنى، وتقوية له، فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه، ولم يعطف بالواو لما فيهم من الإيذان بالمغايرة.
والمقصود : الاستعاذة بمجموع هذه الصفات حتى كأنها صفة واحدة.
وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب.
وأخر الإلهية لخصوصها ؛ لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه دون غيره إلها. فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه، وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه، ولكن المشرك ترك إلهه الحق، واتخذ إلها غيره باطلا.
ووسط صفة الملك بين الربوبية والإلهية ؛ لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره، فهو المطاع إذا أمر. وملكه لهم تابع لخلقه إياهم، فملكه من كمال ربوبيته، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه، وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها، فهو الرب الحق، الملك الحق، الإله الحق، خلقهم بربوبيته، وقهرهم بملكه، استعبدهم بإلهيته.
فتأمل هذه الجلالة، وهذه العظمة، التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام، وأحسن سياق :﴿ رب الناس * ملك الناس * إله الناس ﴾.
وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى.
أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى :
فإن الرب : هو القادر الخالق، البارئ المصور، الحي القيوم، العليم السميع البصير، المحسن المنعم، الجواد المعطي، المانع، الضار النافع، المقدم المؤخر، الذي يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى.
وأما الملك : فهو الآمر الناهي، المعز المذل، الذي يصرف أمور عباده كما يحب، ويقلبهم كما يشاء، وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى، كالعزيز، الجبار، المتكبر، الحكم، العدل، الخافض، الرافع، المعز، المذل، العظيم، الجليل، الكبير، الحسيب، المجيد، الوالي، المتعالي، مالك الملك، المقسط، الجامع، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك.
وأما الإله : فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال. فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح : أن «الله » أصله الإله. كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه، إلا من شذ منهم، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى.
فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى، فكان المستعيذ بها جديرا بأن يعاذ ويحفظ، ويمنع من الوسواس الخناس، ولا يسلط عليه.
وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه، وإن باديه إلى الخافي يسير.

فصل


وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها، وهو الشر الداخل في الإنسان، الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة. فسورة الفلق : تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد، وهو شر من خارج.
وسورة الناس : تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه، وهو شر من داخل.
فالشر الأول : لا يدخل تحت التكليف، ولا يطلب منه الكف عنه ؛ لأنه ليس من كسبه.
والشر الثاني في سورة الناس : يدخل تحت التكليف، ويتعلق به النهي، فهذا شر المعائب، والأول شر المصائب، والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب، ولا ثالث لهما.
فسورة الفلق تتضمن الاستعاذة من شر المصيبات، وسورة الناس تتضمن الاستعاذة من شر العيوب التي أصلها كلها الوسوسة.

فصل


إذا عرف هذا، فالوسواس : فَعْلال من وَسْوَس.
وأصل الوسوسة : الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس، فيحترز منه.
فالوسواس : الإلقاء الخفي في النفس، إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه، وإما بغير صوت، كما يوسوس الشيطان إلى العبد.
ومن هذا : وسوسة الحلي، وهو حركته الخفية في الأذن.
والظاهر - والله تعالى أعلم - أنها سميت «وسوسة » لقربها، وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من شياطين الإنس، وهو الإذن، فقيل : وسوسة الحلي ؛ لأنه صوت مجاور للأذن، كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في أذن من يوسوس له، ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس، ويؤكد عند من يلقيه إليه، كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها، فقالوا : وسوس وسوسة. فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه.
ونظير هذا : ما تقدم من متابعتهم حركة اللفظ بإزاء متابعة حركة معناه، كالدوران، والغليان، والنزوان، وبابه.
ونظير ذلك : زلزل، ودكدك، وقلقل، وكبكب الشيء ؛ لأن الزلزلة حركة متكررة وكذلك الدكدكة، والقلقلة، وكذلك كبكب الشيء : إذا كبه في مكان بعيد، فهو يُكَبُّ فيه كبا بعد كب، كقوله تعالى :﴿ فكبكبوا فيها هم والغاوون ﴾ [ الشعراء : ٩٤ ].
ومثله :«رضرضة » إذا كرر رضه مرة بعد مرة، ومثله «ذَرْذَرَه » إذا ذره شيئا بعد شيء، ومثله «صَرْصَر الباب » : إذا تكرر صريره، ومثله :«مَطْمَطَ الكلام » : إذا مطه شيئا بعد شيء، ومثله :«كفكف الشيء » : إذا كرر كَفَّه، وهو كثير.
وقد علم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يصب ؛ لأن الثلاثي لا يدل على تكرار، بخلاف الرباعي المكرر، فإذا قلت : ذَرّ الشيء وصر الباب، وكف الثوب، ورض الحب : لم يدل على تكرار الفعل، بخلاف ذرذر، وصرصر، ورضرض، ونحوه.
فتأمله، فإنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني، وقد تقدم التنبيه على ذلك، فلا وجه لإعادته.
وكذلك قولهم :«عج العجل » : إذا صوت. فإن تابع صوته، قالوا : عجعج : وكذلك :«ثَجَّ الماء » إذا صُبَّ، فإن تكرر ذلك قيل : ثجثج.
والمقصود : أن الموسوس لما كان يكرر وسوسته ويتابعها، قبل : وسوس.

فصل


إذا عرف هذا فاختلف النحاة في لفظ الوسواس : هل هو وصف، أو مصدر ؟
على قولين، ونحن نذكر حجة كل قول. ثم نبين الصحيح من القولين بعون الله تعالى وفضله.
أما من ذهب إلى أنه مصدر فاحتج بأن الفعل منه «فعلل »، والوصف من فعلل إنما هو «مُفعلَل »، كمدحرَج، ومُسرْهف، ومبيطر، ومسيطر.
وكذلك هو من فعل بوزن «مَفْعَل »، كمقطع، ومخرج *** وبابه، فلو كان الوسواس صفة لقيل : موسوس، ألا ترى أن اسم الفاعل من زلزل :«مُزلزِل »، لا «زلزال »، وكذلك من «دكدك » :«مدكك ». وهو مطرد فدل على أن الوسواس مصدر وصف به على وجه المبالغة، أو يكون على حذف مضاف، تقديره : ذو الوسواس.
قالوا : والدليل عليه أيضا قول الشاعر :
تسمع للحلي بها وسواسا ***. . .
فهذا مصدر بمعنى الوسوسة سواء.
قال أصحاب الرأي الآخر : الدليل على أنه وصف : أن «فعلل » ضربان :
أحدهما : صحيح لا تكرار فيه، كدحرج، وسرهف، بيطر، وقياس مصدر هذه الفَعْلَلَة، كالدحرجة والسرهفة، والبيطرة، والفعلان - بكسر الفاء - كالسرهاف والدحراج. والوصف منه : مفعلل كمدحرج ومبيطر.
والثاني : فعل الثنائي المكرر كزلزل، ودكدك ووسوس، وهذا فرع على فعلل المجرد عن التكرار ؛ لأن الأصل السلامة من التكرار، ومصدر هذا النوع والوصف منه : مساو لمصدر الأول ووصفه، فمصدره يأتي على الفَعْللة، كالوسوسة، والزلزلة، والفِعْلال كالزلزال.
وأقيس المصدرين وأولاهما بنوعي فعلل :«الفعلان » ؛ لأمرين :
أحدهما : أن «فعلل » مشاكل «لأفعل » في عدد الحروف، وفتح الأول والثالث والرابع وسكون الثاني، فجعل «إفعال » مصدر «أفعل »، و«فعلال » مصدر «فعلل » ليتشاكل المصدران، كما يتشاكل الفعلان، فكان الفعلان أولى بهذا الوزن من الفعللة.
الثاني : أن أصل المصدر أن يخالف وزنه وزن فعله، ومخالفة فعلال لفعلل أشد من مخالفة فعللة له. فكان فعلال أحق بالمصدرية من فعللة، أو تساويا في الاطراد، من أن فعللة أرجع في الاستعمال، وأكثر هذا هو الأصل.
وقد جاءوا بمصدر هذا الوزن المكرر مفتوح الفاء.
فقالوا : وسوس الشيطان وسواسا، ووعوع الكلب وعواعا، إذا عوى، وعظعظ السهم عظعاظا، والجاري على القياس «فعلال » بكسر الفاء أو «فعللة ».
وهذا المفتوح نادر ؛ لأن الرباعي الصحيح أصل للمتكرر، ولم يأت مصدر الصحيح، مع كونه أصلا، إلا على فعللة وفعلال بالكسر، فلم يحسن بالرباعي المكرر، لفرعيته، أن يكون مصدره إلا كذلك ؛ لأن الفرع لا يخالف أصله ؛ بل يحتذي فيه حذوه، وهذا يقتضي أن لا يكون مصدره على «فعلال » بالفتح، فإن شذ حفظ، ولم يزد عليه.
قالوا : وأيضا فإن فعلالا المفتوح الفاء قد كثر وقوعه صفة مصوغة من «فعلل » المكرر، ليكون فيه نظير فعال من الثلاث ؛ لأنهما متشاركان وزنا، فاقتضى ذلك أن لا يكون لفعلال من المصدرية نصيب، كما لم يكن لفعال فيها نصيب، فلذلك استندروا وقوع وسواس، ووعواع، وعظعاظ مصادر، وإنما حقها أن تكون صفات دالة على المبالغة في مصادر هذه الأفعال.
قالوا : وإذا ثبت هذا : فحق ما وقع منها محتملا للمصدرية والوصفية أن يحمل على الوصفية حملا على الأكثر الغالب، وتجنبا للشاذ.
فمن زعم أن الوسواس مصدر مضاف إليه «ذو » تقديرا فقوله خارج عن القياس والاستعمال الغالب.
ويدل على فساد ما ذهب إليه أمران :
أحدهما : أن كل مصدر أضيف إليه «ذو » تقديرا، فتجرده للمصدرية أكثر من الوصف به، كرضي وصوم وفطر، وفعلال المفتوح لم يثبت تجرده للمصدرية إلا في ثلاثة ألفاظ فقط : وسواس، ووعواع، وعظعاظ، على أن منع المصدرية في هذا ممكن ؛ لأن غاية ما يمكن أن يستدل به على المصدرية قولهم : وسوس إليه الشيطان وسواسا، وهذا لا يتعين للمصدرية، لاحتمال أن يراد به الوصفية : وينتصب وسواسا على الحال، ويكون حالا مؤكدة. فإن الحال قد يؤكد بها عاملها الموافق لها لفظا ومعنى، كقوله تعالى :﴿ وأرسلناك للناس رسولا ﴾ [ النساء : ٧٩ ]، و﴿ سخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ﴾ [ النحل : ١٢ ].
نعم، إنما تتعين مصدرية الوسواس إذا سمع : أعوذ بالله من وسواس الشيطان، ونحو ذلك مما يكون الوسواس فيه مضافا إلى فاعله، كما سمع ذلك في الوسوسة. ولكن أين لكم ذلك ؟ فهاتوا شاهده، فبذلك يتعين أن يكون الوسواس مصدرا لا بانتصابه بعد الفعل.
الوجه الثاني : من دليل فساد من زعم أن «وسواسا » مصدر مضاف إليه «ذو » تقديرا : أن المصدر المضاف إليه «ذو » تقديرا لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع ؛ بل يلزم طريقة واحدة، ليعلم أصالته، في المصدرية، وأنه عارض الوصفية فيقال : امرأة صوم، وامرأتان صوم، ونساء صوم ؛ لأن المعنى ذات صوم، وذاتا صوم، وذوات صوم، و«فعلال » الموصوف به ليس كذلك ؛ بل يثنى ويجمع ويؤنث فتقول : رجل ثرثار، وامرأة ثرثارة، ورجال ثرثارون، وفي الحديث «أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون »، وقالوا :«ريح رفرافة »، أي : تحرك الأشجار، وريح سفسافة، أي : تنخل التراب، و«درع فضفاضة » أي : متسعة، والفعل من ذلك كله «فعلل »، والمصدر فعللة وفعلال بالكسر، ولم ينقل في شيء من ذلك فعلال بالفتح، وكذلك قالوا : تمتام، وفأفاء، ولضلاض، أي ماهر في الدلالة، وفجفاج كثر الكلام، وهرهار، أي : ضحاك، وكهكاه، ووطواط، أي : ضعيف، وحشحاش، وعسعاس، أي : خفيف، وهو كثير، ومصدره كله الفعللة، والوصف «فعلال » بالفتح، ومثله : هفهاف، أي : خميص، ومثله دحداح، أي قصير، ومثله : بجباج أي جسيم، وتختاخ : أي ألكن، شمشام : أي سريع، وشيء خشخاش أي مصوت، وقعقاع مثله، وأسد فضفاض : أي كاسر، وحية نضناض : تحرك لسانها.
فقد رأيت فعلال في هذا كله وصفا لا مصدرا، فما بال الوسواس أخرج عن نظائره وقياس بابه ؟
فثبت أن وسواسا وصف لا مصدر، كثرثار، وتمتام، ودحداح وبابه.
ويدل عليه وجه آخر : وهو أنه وصفه بما يستحيل أن يكون مصدرا ؛ بل هو متعين الوصفية، وهو «الخناس » فالوسواس، والخناس : وصفان لموصوف محذوف، وهو الشيطان.
وحسن حذف الموصوف هاهنا غلبة الوصف، حتى صار كالعلم عليه، والموصوف إنما يقبح حذفه إذا كان الوصف مشتركا، فيقع اللبس كالطويل والقبيح، والحسن ونحوه، فيتعين ذكر الموصوف ليعلم أن الصفة له لا لغيره.
فأما إذا غلب الوصف واختص، ولم يعرض فيه اشتراك، فإنه يجري مجرى الاسم، ويحسن حذف الموصوف : كالمسلم، والكافر، والبر، والفاجر، والقاصي، والداني، والشاهد، والوالي، ونحو ذلك، فحذف الموصوف هنا أحسن من ذكره.
وهذا التفصيل أولى من إطلاق من منع حذف الموصوف ولم يفصل.
ومما يدل على أن الوسواس وصف لا مصدر : أن الوصفية أغلب على فعلال من المصدرية كما تقدم، فلو أريد المصدر لأتي بذو المضافة إليه، ليزول اللبس، وتتعين المصدرية.
فإن اللفظ إذا احتمل الأمرين على السواء فلا بد من قرينة تدل على تعيين أحدهما. فكيف والوصفية أغلب عليه من المصدرية ؟ !
وهذا بخلاف صوم وفطر وبابهما، فإنها مصادر لا تلبس بالأوصاف، فإذا جرت أوصافا علم أنها على حذف مضاف، أو تنزيلا للمصدر منزلة الوصف، مبالغة، على الطريقتين في ذلك.
فتعين أن «الوسواس » هو الشيطان نفسه، وأنه ذات لا مصدر، والله أعلم.

فصل


وأما الخناس : فهو فعال، من خنس يخنس : إذا توارى واختفى.
ومنه قول أبي هريرة رضي الله عنه :«لقيني النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة، وأنا جنب، فانخنست منه ».
وحقيقة اللفظ : اختفاء بعد ظهور، فليست لمجرد الاختفاء، ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله تعالى :﴿ فلا أقسم بالخنَّس ﴾ [ التكوير : ١٥ ]. قال قتادة : هي النجوم تبدو بالليل، وتخنس بالنهار، فتختفي ولا ترى، وكذلك قال علي رضي الله عنه : هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى.
وقالت طائفة :﴿ الخنس ﴾ : هي الراجعة التي ترجع كل ليلة إلى جهة المشرق، وهي السبعة السيارة.
قالوا : وأصل «الخنوس » : الرجوع إلى وراء، و{ ا

فصل


وقوله :﴿ الذي يوسوس في صدور الناس ﴾ :
صفة ثالثة للشيطان، فذكر وسوسته أولا، ثم ذكر محلها ثانيا، وأنها في صدور الناس ثالثا.
وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد، ونفوذا إلى قلبه وصدره، فهو يجري منه مجرى الدم، وقد وكل بالعبد، فلا يفارقه إلى الممات.
وفي «الصحيحين » من حديث الزهري عن علي بن حسين، عن صفية بنت حيي رضي الله عنها : قالت :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا، فحدثته، ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«على رسلكما، إنها صفية بنت حيي » فقالا : سبحان الله يا رسول الله ! فقال :" إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا - أو قال – شيئا " ».
وفي «الصحيح » أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، فإذا قضى أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضي أقبل، حتى يخطر بين الإنسان وقلبه، فيقول : اذكر كذا، اذكر كذا – لكت لك يكن يدكر - حتى لا يدري : أثلاثا صلى أم أربعا ؟ فإذا لم يدر : أثلاثا صلى أم أربعا ؟ سجد سجدتي السهو ».
ومن وسوسته : ما ثبت في «الصحيح » عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ ومن خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق الله ؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته ».
وفي «الصحيح » : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا :«يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به. قال صلى الله عليه وسلم :«الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ».
ومن وسوسته أيضا : أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله، ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه، قال تعالى حكاية عن صاحب موسى أنه قال :﴿ إني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ﴾ [ الكهف : ٦٣ ]، وتأمل حكمة القرآن الكريم وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه :﴿ الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس ﴾، ولم يقل : من شر وسوسته، لتعم الاستعاذة شره جميعه. فإن قوله :﴿ من شر الوسواس ﴾ [ الناس : ٤ ] يعم كل شره، ووصفه بأعظم صفاته، وأشدها شرا، وأقواها تأثيرا، وأعمها فسادا، وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة، فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية، فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه ويمنيه، ويشهيه، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في خيال، حتى تميل نفسه إليه، فيصير إرادة، ثم لا يزال يمثل ويخيل ويمني ويشهي وينسي علمه بضررها، ويطوي عنه سوء عاقبتها، فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط، وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادة عزيمة جازمة، فيشتد الحرص عليها من القلب، فيبعث الجنود في الطلب، فيبعث الشيطان معهم مدادا لهم وعونا، فإن فتروا حركهم، وإن ونوا أزعجهم، كما قال تعالى :﴿ ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ﴾ [ مريم : ٨٣ ]، أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا، كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزتهم وأثارتهم، فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب، وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة، قد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم، وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم، بتلك النخوة والكبر، ولا يرضاه أن يصير قوادا لكل من عصى الله، كما قال بعضهم :
عجبت من إبليس في تيهه *** وقبح ما أظهر من نخوته
تاه على آدم في سجدة *** وصار قوادا لذريته
فأصل كل معصية وبلاء : إنما هو الوسوسة، فلهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه، وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا.
فمن شره : أنه لص سارق لأموال الناس، فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله تعالى عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف، وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله تعالى، فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم، ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم، فيدخل سارقا، ويخرج مغيرا، ويدل على عوراتهم، فيأمر العبد بالمعصية، ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومناما أنه فعل كذا وكذا.
ومن هذا : أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس، فيصبح والناس يتحدثون به، وما ذاك إلا أن الشيطان زينه له، وألقاه في قلبه، ثم وسوس إلى الناس بما فعل وألقاه إليهم، فأوقعه في الذنب، ثم فضحه به، فالرب تعالى يستره، والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته، فيغتر العبد ويقول : هذا ذنب لم يره إلا الله تعالى، ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته، وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة.
ومن شره : أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة، كما في صحيح البخاري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ويعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم - إذا هو نام - ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها : عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة. فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ».
ومن شره : أن يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم :«أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح، فقال صلى الله عليه وسلم : ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه، أو قال : في أذنيه » رواه البخاري.
ومن شره : أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها، فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه، فإن خالفه وسلكه ثبطه فيه وعوّقه ووشوش عليه بالمعارضات والقواطع، فإن عمله وفرغ منه قيّض له ما يبطل أثره، ويرده على حافرته.
ويكفي من شره : أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم، وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم.
ولقد بلغ شره أن أعمل المكيدة، وبالغ في الحيلة، حتى أخرج آدم من الجنة، ثم لم يكفه ذلك حتى استقطع من أولاده شرطة للنار، من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، ثم لم يكفه ذلك حتى أعمل الحيلة في إبطال دعوة الله من الأرض، وقصد أن تكون الدعوة له، وأن يعبد من دون الله، فهو ساع بأقصى جهده على إطفاء نور الله، وإبطال دعوته، وإقامة دعوة الكفر والشرك، ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض.
ويكفي من شره : أنه تصدى لإبراهيم صلى الله عليه وسلم خليل الرحمن حتى رماه قومه بالمنجنيق في النار، فرد الله تعالى كيده عليه، وجعل النار على خليله بردا وسلاما.
وتصدى للمسيح صلى الله عليه وسلم حتى أراد اليهود قتله وصلبه، فرد الله كيده، وصان المسيح ورفعه إليه.
وتصدى لزكريا ويحيى عليهما السلام حتى قتلا.
واستثار فرعون حتى زين له الفساد العظيم في الأرض، ودعوى أنه ربهم الأعلى.
وتصدى للنبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر الكفار على قتله بجهده، والله تعالى يكبته ويرده خاسئا.
وتفلت على النبي صلى الله عليه وسلم بشهاب من نار، يريد أن يرميه به وهو في الصلاة، فجعل النبي يقول :«ألعنك بلعنة الله ».
وأعان اليهود على سحرهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان هذا شأنه، وهمته في الشر، فكيف الخلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته ؟
ولا يمكن حصر أجناس شره، فضلا عن آحادها، إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه.
ولكن ينحصر شره في ستة أجناس، لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدا منها أو أكثر :
الشر الأول :( شر الكفر والشرك، ومعاداة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ).
فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه، واستراح من تعبه معه، وهو أول ما يريد من العبد، فلا يزال به حتى يناله منه، فإذا نال ذلك صيره من جنده، وعسكره، واستنابه على أمثاله وأشكاله، فصار من دعاة إبليس ونُوَّابه، فإذا يئس منه من ذلك، وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقله إلى :
المرتبة الثانية من الشر ( وهي البدعة ) :
وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي ؛ لأن ضررها في نفس الدين، وهو ضرر متعد، وهي ذنب لا يتاب منه، وهي مخالفة لدعوة الرسل، ودعا إلى خلاف ما جاءوا به، وهي باب الكفر والشرك، فإذا نال منه البدعة، وجعله من أهلها بقي أيضا نائبه، وداعيا من دعائه.
فإن أعجزه من هذه المرتبة، وكان العبد ممن سبقت له من الله موهبة السنة، ومعاداة أهل البدع والضلال، نقله إلى :
المرتبة الثالثة من الشر ( وهي الكبائر ) :
على اختلاف أنواعها، فهو أشد حرصا على أن يوقعه فيها، ولاسيما إن كان عالما متبوعا، فهو حريص على ذلك، لينفر الناس عنه، ثم يشيع من ذنوبه ومعاصيه في الناس، ويستنيب منهم من يشيعها ويذيعها، تدينا وتقربا بزعمه إلى الله تعالى، وهو نائب إبليس ولا يشعر، ف ﴿ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ﴾ [ النور : ١٩ ]، هذا إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها. فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها، لا نصيحة منهم، ولكن طاعة لإبليس ونيابة عنه، كل ذلك لينفر الناس عنه، وعن الانتفاع به.
وذنوب هذا - ولو بلغت عنان السماء – هي أهون عند الله من ذنوب هؤلاء، فإنها ظلم منه لنفسه، إذا استغفر الله وتاب إليه قبل الله توبته، وبدل سيئاته حسنات.
وأما ذنوب أولئك : فظلم للمؤمنين، وتتبع لعورتهم، وقصد لفضيحتهم، والله سبحانه بالمرصاد، لا تخفى عليه كمائن الصدور، ودسائس النفوس.
فإن عجز الشيطان عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة :( وهي الصغائر ) التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :«إياكم ومحقرات الذنوب، فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض. . . » وذكر حديث معناه : أن كل واحد منهم جاء بعود حطب، حتى أوقدوا نارا عظيمة، فطبخوا واشتووا.
ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها، فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالا منه.
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة، ( وهي إشغاله بالمباحات ) التي لا ثواب فيها ولا عقاب ؛ بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها.
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة، وكان حافظا لوقته، شحيحا به، يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها، وما يقابلها من النعيم والعذاب، نقله إلى المرتبة السادسة ( وهي : أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه )، ليزيح عنه الفضيلة، ويفوته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفعل الخير المفضول، ويحضه عليه، ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه، وقل من يتنبه لهذا من الناس، فإنه لا يكاد يقول : إن هذا الداعي من الشيطان، فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير، فيقول : هذا الداعي من الله، وهو معذور، ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين ب
فالوسواس يوسوس للجني، كما يوسوس للإنسي.
وعلى هذا القول : فيكون :﴿ من الجنة والناس ﴾ نصب على الحال ؛ لأنه مجرور بعد معرفة، على قول البصريين، وعلى قول الكوفيين : نصب بالخروج من المعرفة، هذه عبارتهم، ومعناها : أنه لما يصلح أن يكون نعتا للمعرفة انقطع عنها. فكان موضعه نصبا.
والبصريون يقدرونه حالا. أي كائنين من الجنة والناس، وهذا القول ضعيف جدا، لوجوه :
أحدها : أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدور الجني، ويدخل فيه، كما يدخل في الإنسي، ويجري منه مجراه من الإنسي، فأي دليل يدل على هذا، حتى يصح حمل الآية عليه ؟
الثاني : أنه فاسد من جهة اللفظ أيضا، فإنه قال :﴿ الذي يوسوس في صدور الناس ﴾ فكيف يبين الناس بالناس. فإن معنى الكلام على قوله : يوسوس في صدور الناس الذين هم، أو كائنين، من الجنة والناس، أفيجوز أن يقال : في صدور الناس الذين هم من الناس وغيرهم ؟ هذا ما لا يجوز، ولا هو استعمال فصيح.
الثالث : أن يكون قد قسم الناس إلى قسمين : جنة، وناس، وهذا غير صحيح. فإن الشيء لا يكون قسيم نفسه.
الرابع : أن «الجنة » لا يطلق عليهم اسم الناس بوجه، لا أصلا ولا اشتقاقا ولا استعمالا، ولفظهما يأبى ذلك، فإن الجن إنما سموا جنا من الاجتنان، وهو الاستتار، فهو مستترون عن أعين البشر، فسموا جنا لذلك، من قولهم جنه الليل وأجنه : إذا ستره، وأجن الميت : إذا ستره في الأرض. قال :
ولا تبك ميتا بعد ميت أجنه علي وعباس وآل أبي بكر
يريد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه، قال تعالى :﴿ وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ﴾ [ النجم : ٣٢ ]، ومنه المجن : لاستتار المحارب به من سلاح خصمه، ومنه الجنة : لاستتار داخلها بالأشجار، ومنه الجنة - بالضم- لما يقي الإنسان من السهام والسلاح، ومنه المجنون : لاستتار عقله.
وأما الناس : فبينه وبين الإنس مناسبة في اللفظ والمعنى، وبينهما اشتقاق أوسط. وهو عقد تقاليب الكلمة إلى معنى واحد.
والإنس والإنسان : مشتق من الإيناس، وهو الرؤية والإحساس. ومنه قوله :﴿ آنس من جانب الطور نارا ﴾ [ القصص : ٢٩ ] أي رآها، ومنه :﴿ فإن آنستم منهم رشدا ﴾ [ النساء : ٦ ] أي أحسستموه ورأيتموه.
فالإنسان سمي إنسانا لأنه يونس، أي يرى بالعين.
والناس فيه قولان :
أحدهما : أنه مقلوب من أنس، وهو بعيد، والأصل عدم القلب.
والثاني : هو الصحيح، أنه من النوس، وهو الحركة المتتابعة، فسمي الناس ناسا للحركة الظاهرة والباطنة، كما سمي الرجل حارث وهمام، وهما أصدق الأسماء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :«أصدق الأسماء حارث وهمام » ؛ لأن كل أحد له هم وإرادة، وهي مبدأ، وحرث وعمل، وهو منتهى، فكل أحد حارث وهمام، والحرث والهم : حركتا الظاهر والباطن، وهو حقيقة النَّوَس.
وأصل ناس : نوس، تحركت الواو، وقبلها : فتحة فصارت ألفا، هذان هما القولان المشهوران في اشتقاق «الناس ».
وأما قول بعضهم : أنه من النسيان، وسمي الإنسان إنسانا لنسيانه. وكذلك الناس سموا ناسا لنسيانهم : فليس هذا القول بشيء، وأين النسيان، الذي مادته ( ن س ي ) إلى الناس الذي مادته ( ن و س ) ؟ وكذلك أين هو من الإنس الذي مادته ( ا ن س ) ؟
وأما إنسان فهو فعلان من ( أ ن س )، والألف والنون في آخره زائدتان، لا يجوز فيه غير هذا البتة، إذ ليس في كلامهم : أنسن، حتى لا يكون إنسانا إفعالا منه، ولا يجوز أن يكون الألف والنون في أوله زائدتين، إذ ليس في كلامهم : انفعل، فيتعين أنه فعلان من الأنس.
ولو كان مشتقا من «نسي » لكان : نسيانا، لا إنسانا.
فإن قلت : فهلا جعلته إفعلالا، وأصله إنسيان، كليلة إضحيان، ثم حذفت الياء تخفيفا فصار إنسانا ؟
قلت : يأبى ذلك عدم إفعلال في كلامهم، وحذف الياء بغير سبب، ودعوى ما لا نظير له، وذلك كله فاسد، على أن «الناس » قد قيل : إن أصله الأناس، فحذفت الهمزة فقيل : الناس، واستدل بقول الشاعر :
إن المنايا يطلعن على الأناس الغافلينا ***
ولا ريب أن أناسا فعال، ولا يجوز فيه غير ذلك البتة. فإن كان أصل ناس أناسا، فهو أقوى الأدلة على أنه من «أنس »، ويكون الناس كالإنسان سواء في الاشتقاق.
ويكون وزن ناس - على هذا القول - :«عال » ؛ لأن المحذوف فاؤه.
وعلى القول الأول : يكون وزنه : فعل ؛ لأنه من النوس.
وعلى القول الضعيف : يكون وزنه : فلع ؛ لأنه من نسي، فقلبت لامه إلى موضع العين، فصار ناسا ووزنه فلعا.
والمقصود : أن «الناس » اسم لبني آدم، فلا يدخل الجن في مسماهم، فلا يصح أن يكون :﴿ من الجنة والناس ﴾ بيانا لقوله :﴿ في صدور الناس ﴾ وهذا واضح لا خفاء فيه.
فإن قيل : لا محذور في ذلك. فقد أطلق على الجن اسم الرجال، كما في قوله تعالى :﴿ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ﴾ [ الجن : ٦ ]، فإذا أطلق عليهم اسم الرجال لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم الناس ؟
قلت : هذا هو الذي غر من قال : إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية.
وجواب ذلك : أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس، ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا.
وأنت إذا قلت : إنسان من حجارة، أو رجل من خشب، ونحو ذلك : لم يلزم من ذلك : وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب.
وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس.
وذلك لأن الناس والجنة متقابلان، وكذلك والإنس والجن، فالله تعالى يقابل بين اللفظين كقوله :﴿ يا معشر الجن والإنس ﴾ [ الرحمن : ٣٣ ] وهو كثير في القرآن.
وكذلك قوله :﴿ من الجنة والناس ﴾ يقتضي أنهما متقابلان، فلا يدخل أحدهما في الآخر، بخلاف الرجال والجن، فإنهما لم يستعملا متقابلين. فلا يقال : الجن والرجال، كما يقال : الجن والإنس.
وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ «الناس » ؛ لأنه قابل بين الجنة والناس. فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر.
فالصواب : القول الثاني، وهو أن قوله :﴿ من الجنة والناس ﴾ بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان : إنس وجن. فالجني يوسوس في صدور الإنس، والإنسي أيضا يوسوس في صدور الإنس.
فالموسوس نوعان : إنس وجن، فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب. وهذا مشترك بين الجن والإنس، وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة ؛ لأنه يدخل في ابن آدم، ويجري منه مجرى الدم.
على أن الجني قد يتمثل له، ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي، كما في البخاري عن عروة عن عائشة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إن الملائكة تحدث في العنان - والعنان الغمام - بالأمر يكون في الأرض، فتسمع الشياطين الكلمة، فتقرها في أذن الكاهن، كما تقر القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ».
فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن.
ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة : اشتراكهما في الوحي الشيطاني. قال تعالى :﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ].
فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله، ويوحيه الإنسي إلى إنسي مثله، فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني، ويشتركان في الوسوسة.
وعلى هذا : تزول تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحاب القول الأول. وتدل الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشياطين : شياطين الإنس، وشياطين الجن.
وعلى القول الأول : إنما تكون استعاذة من شر شياطين الجن فقط، فتأمله فإنه بديع جدا.
Icon