تفسير سورة إبراهيم

تفسير البغوي
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب معالم التنزيل المعروف بـتفسير البغوي .
لمؤلفه البغوي . المتوفي سنة 516 هـ
مكية إلا آيتين من قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً ﴾ إلى قوله :﴿ فإن مصيركم إلى النار ﴾. وهي اثنتان وخمسون آية

وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿وَمِنْ عِنْدِهِ﴾ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالدَّالِ ﴿عُلِمَ الْكِتَابُ﴾ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ (١) دَلِيلُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ (الْكَهْفِ -٦٥) وَقَوْلُهُ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾ (الرَّحْمَنِ -١، ٢). سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ
مَكِّيَّةٌ [وَهِيَ إِحْدَى وَخَمْسُونَ] (٢) آيَةً إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا" إِلَى قَوْلِهِ: "فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ" (٣) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) ﴾.
﴿الر كِتَابٌ﴾ أَيْ: هَذَا كِتَابٌ ﴿أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ يَعْنِي: الْقُرْآنَ، ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ أَيْ: لِتَدْعُوَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الضَّلَالَةِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ (٤). ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ [بِأَمْرِ رَبِّهِمْ] (٥).
وَقِيلَ: بِعِلْمِ رَبِّهِمْ (٦).
(١) قال الطبري: وقد روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبر بتصحيح هذه القراءة وهذا التأويل، غير أن في إسناده نظرا. ثم ساق حديثا منقطع الإسناد. انظر: تفسير الطبري ١٦ / ٥٠٦. وقال الهيثمي فيه: "رواه أبو يعلى، وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك" انظر: مجمع الزوائد: ٧ / ١٥٥.
(٢) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٣) أخرج النحاس في تاريخه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سورة إبراهيم عليه السلام نزلت بمكة سوى آيتين، وهما: "ألم تر إلى الذين... " نزلتا في قتلى بدر من المشركين. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وعن الزبير: نزلت سورة إبراهيم عليه السلام بمكة. قال ابن الجوزي: وهي مكية من غير خلاف علمناه بينهم إلا ما روي عن ابن عباس وقتادة.. انظر: الدر المنثور: ٥ / ٣، المحرر الوجيز: ٨ / ١٩٢، البحر المحيط: ٥ / ٤٠٣، زاد المسير: ٤ / ٣٤٣.
(٤) انظر: الطبري: ١٦ / ٥١١-٥١٢.
(٥) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٦) قال أبو جعفر الطبري في التفسير: (١٦ / ٥١٢) :"وأضاف تعالى ذكره إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم لهم بذلك إلى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الهادي خلقه، والموفق مَنْ أحب منهم للإيمان، إذ كان منه دعاؤهم إليه، وتعريفهم ما لهم فيه وعليهم. فبيّن بذلك صحة قول أهل الإثبات الذين أضافوا أفعال العباد إليهم كسبا، وإلى الله جل ثناؤه إنشاء وتدبيرا، وفساد قول أهل القدر الذين أنكروا أن يكون لله في ذلك صنع".
﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ أَيْ: إِلَى دِينِهِ، وَ"الْعَزِيزُ"، هُوَ الْغَالِبُ، وَ"الْحَمِيدُ": هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ.
﴿اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٣) ﴾.
﴿اللَّهِ الَّذِي﴾ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ: " اللَّهُ " بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَخَبَرُهُ فِيمَا بَعْدَهُ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْخَفْضِ نَعْتًا لِلْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١). وَكَانَ يَعْقُوبُ إِذَا وَصَلَ خَفَضَ.
وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: الْخَفْضُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، مَجَازُهُ: إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٢) ﴿الَّذِي لَهُ ما فٍي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ (٣).
﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ﴾ يَخْتَارُونَ، ﴿الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أَيْ:
(١) انظر: الطبري: ١٦ / ٥١٢-٥١٣.
(٢) قال الطبري: (١٦ / ٥١٣-٥١٤) :"وقد اختلف أهل العربية في تأويله إذا قرئ كذلك: فذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقرؤه بالخفض، ويقول: معناه: بإذن ربهم إلى صراط (الله) العزيز الحميد الذي له ما في السموات. ويقول: هو من المؤخر الذي معناه التقديم، ويمثله بقول القائل: "مررت بالظريف عبد الله"، والكلام الذي يوضع مكان الاسم النعت، ثم يجعل الاسم مكان النعت، فيتبع إعرابه إعراب النعت الذي وضع موضع الاسم، كما قال بعض الشعراء:
لو كنت ذا نبل وذا شزيب ما خفت شدات الخبيث الذيب
وأما الكسائي؛ فإنه كان يقول فيما ذكر عنه؛ من خفض أراد أن يجعله كلاما واحدا، وأتبع الخفض الخفض، وبالخفض كان يقرأ" ثم قال: "والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان؛ قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القراء، معناهما واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقد يجوز أن يكون الذي قرأ بالرفع أراد معنى من خفض في إتباع الكلام بعضه بعضا، ولكنه رفع لانفصاله من الآية التي قبله، كما قال جل ثناؤه: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم" إلى آخر الآية ثم قال: "التائبون العابدون" (سورة التوبة: ١١١-١١٢).
(٣) قال الطبري: (١٦ / ٥١٤) : ومعنى قوله: "الله الذي له ما في السموات وما في الأرض"، الله الذي يملك جميع ما في السموات وما في الأرض. يقول لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنزلنا إليك هذا الكتاب لتدعو عبادي إلى عبادة من هذه صفته، ويدعوا عبادة من لا يملك لهم ولا لنفسه ضرا ولا نفعا من الآلهة والأوثان. ثم توعد جل ثناؤه من كفر به، ولم يستجب لدعاء رسوله إلى ما دعاه إليه من إخلاص التوحيد له، فقال: "وويل للكافرين من عذاب شديد"، يقول: الوادي الذي يسيل من صديد أهل جهنم، لمن جحد وحدانيته، وعبد معه غيره، من عذاب الله الشديد".
يَمْنَعُونَ النَّاسَ عَنْ قَبُولِ دِينِ اللَّهِ، ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ أَيْ: يَطْلُبُونَهَا زَيْغًا وَمَيْلًا يُرِيدُ: يَطْلُبُونَ سَبِيلَ اللَّهِ جَائِرِينَ عَنِ الْقَصْدِ.
وَقِيلَ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الدُّنْيَا، مَعْنَاهُ: يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا عَلَى طَرِيقِ الْمَيْلِ عَنِ الْحَقِّ، أَيْ: لِجِهَةِ الْحَرَامِ. ﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ (١).
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ بِلُغَتِهِمْ لِيَفْهَمُوا عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ هَذَا وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ؟
قِيلَ: بُعِثَ مِنَ الْعَرَبِ بِلِسَانِهِمْ، وَالنَّاسُ تَبَعٌ لَهُمْ، ثُمَّ بَثَّ الرُّسُلُ إِلَى الْأَطْرَافِ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُتَرْجِمُونَ لَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ (٢).
﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ أَيْ: مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ بِالدَّعْوَةِ، ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: بِنِعَمِ اللَّهِ (٣)
(١) يعني: هؤلاء الكافرين الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، هم في ذهاب عن الحق بعيد، وأخذ على غير هدى، وجور عن قصد السبيل. انظر: تفسير الطبري: ١٦ / ٥١٥.
(٢) أورد محمد بن أبي بكر الأرزي هذا السؤال مطولا، وأجاب عنه من وجوه: الأول: إن نزول القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام بلسان واحد كاف، لأن الترجمة لأهل بقية الألسن تغني عن نزوله لجميع الألسن، ويكفي التطويل، كما جرى في القرآن العزيز. الثاني: أن نزوله بلسان واحد أبعد عن التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والخلاف. الثالث: أنه لو نزل بألسنة الناس وكان معجزا في كل واحد منها، وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها كما كلم أمته التي هو منها لكان ذلك أمرا قريبا من القسر والإلجاء، بل على التمكين من الاختيار، فلما كان نزوله بلسان واحد كافيا كان أولى الألسنة قوم الرسول، لأنهم أقرب إليه وأفهم عنه. انظر: مسائل الرازي وأجوبتها من غرائب آي التنزيل، لمحمد بن عبد القادر الرازي الحنفي ص (١٥٧-١٥٨).
(٣) انظر: تفسير الطبري: ١٦ / ٥٢٠-٥٢٣، الدر المنثور: ٥ / ٦.
335
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِوَقَائِعِ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. يُقَالُ: فُلَانٌ عَالِمٌ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ، أَيْ بِوَقَائِعِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِمَا كَانَ فِي أَيَّامِ اللَّهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْمِحْنَةِ، فَاجْتَزَأَ بِذِكْرِ الْأَيَّامِ عَنْهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمْ (١).
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ وَ"الصَّبَّارُ": الْكَثِيرُ الصَّبْرِ، وَ"الشَّكُورُ": الْكَثِيرُ الشُّكْرِ، وَأَرَادَ: لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالشُّكْرَ مِنْ خِصَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
(١) ورد الطبري هذا القول والشاهد الذي استشهدوا به على ذلك، وقال ابن عطية في المحرر الوجيز: (٨ / ٢٠٣) :"ولفظة الأيام" تعم المعنيين، لأن التذكير يقع بالوجهين جميعا".
336
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (٧) ﴾.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ (١) قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعِلَّةُ الْجَالِبَةُ لِهَذِهِ الْوَاوِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَهُمْ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ كَانُوا يُعَذِّبُونَهُمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ غَيْرِ التَّذْبِيحِ، وَبِالتَّذْبِيحِ، وَحَيْثُ طَرَحَ الْوَاوَ فِي "يُذَبِّحُونَ" وَ"يُقَتِّلُونَ" أَرَادَ تَفْسِيرَ الْعَذَابِ الَّذِي كَانُوا يَسُومُونَهُمْ (٢) ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ يَتْرُكُوهُنَّ أَحْيَاءً ﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ (٣).
﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ﴾ أَيْ: أَعْلَمَ، يُقَالُ: أَذَّنَ وَتَأَذَّنَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، مِثْلُ أَوْعَدَ وَتَوَعَّدَ،
(١) أخرج الطبري عن ابن عيينة في تفسيرها، قال: أيادي الله عندكم وأيامه.
(٢) وزاد الطبري ذلك بيانا فقال في التفسير: (١٦ / ٥٢٤) :"وأدخلت الواو في هذا الموضع؛ لأنه أريد بقوله: "ويذبحون أبناءكم" الخبر عن أن آل فرعون كانوا يعذبون بني إسرائيل بأنواع من العذاب غير التذبيح وبالتذبيح. وأما في موضع آخر من القرآن، فإنه جاء بغير الواو: "يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم" (البقرة - ٤٩) في موضع، وفي موضع: "يقتلون أبناءكم" (الأعراف - ١٤١)، ولم تدخل الواو في المواضع التي لم تدخل فيها لأنه أريد بقوله: "يذبحون" وبقوله: "يقتلون": تبيينه صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم. وكذلك العمل في كل جملة أريد تفصيلها، فبغير الواو تفصيلها، وإذا أريد العطف عليها بغيرها وغير تفصيلها فبالواو". وراجع ما كتبه -بتفصيل أوسع- أبو جعفر بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي في كتابه "ملاك التأويل" تحقيق د. محمود كامل أحمد: ١ / ٥٣-٥٧.
(٣) يقول تعالى: فيما يصنع بكم آل فرعون من أنواع العذاب، بلاء لكم من ربكم عظيم، أي: ابتلاء واختبار لكم، من ربكم عظيم. وقد يكون "البلاء في هذا الموضع نعماء، وقد يكون من البلاء الذي يصيب الناس من الشدائد". انظر: تفسير الطبري: ١٦ / ٥٢٥.
﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ﴾ نِعْمَتِي فَآمَنْتُمْ وَأَطَعْتُمْ ﴿لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ فِي النِّعْمَةِ.
وَقِيلَ: الشُّكْرُ: قَيْدُ الْمَوْجُودِ، وَصَيْدُ الْمَفْقُودِ.
وَقِيلَ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ بِالطَّاعَةِ لَأَزِيدَنَّكُمْ فِي الثَّوَابِ.
﴿وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ﴾ نِعْمَتِي فَجَحَدْتُمُوهَا وَلَمْ تَشْكُرُوهَا، ﴿إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (١).
﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) ﴾.
﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ أَيْ: غَنِيٌّ عَنْ خَلْقِهِ، حَمِيدٌ: مَحْمُودٌ فِي أَفْعَالِهِ، لِأَنَّهُ فِيهَا مُتَفَضِّلٌ وَعَادِلٌ.
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ﴾ خَبَرُ الَّذِينَ، ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ يَعْنِي: مَنْ كَانَ بَعْدَ قَوْمِ نوح وعاد ١٩٢/ب وَثَمُودَ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: كَذَبَ النَّسَّابُونَ (٢).
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ عَدْنَانَ ثَلَاثُونَ قَرْنًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى (٣).
وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَكْرَهُ أَنْ يَنْسِبَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ أَبًا إِلَى آدَمَ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أُولَئِكَ الْآبَاءَ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
(١) قال الطبري: (١٦ / ٥٢٨) : وقوله: "ولئن كفرتم... " يقول: ولئن كفرتم، أيها القوم، نعمة الله، فجحدتموها بترك شكره عليها وخلافه في أمره ونهيه، وركوبكم معاصيه = "إن عذابي لشديد"، أعذبكم كما أعذب مَنْ كفر بي من خلقي.
(٢) أخرجه الطبري: ١٦ / ٥٢٩ و٥٣٠، وزاد السيوطي نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. انظر: الدر المنثور: ٥ / ٩.
(٣) وروي عن ابن عباس أنه قال: "كان بين زمن موسى وبين زمن نوح قرون ثلاثون لا يعلمهم إلا الله". وحكى عنه المهدوي أنه قال: "كان بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون"، وقال ابن عطية بعد أن ساق هاتين الروايتين في المحرر الوجيز: ٨ / ٢٠٦: "وهذا الوقوف على عدتهم بعيد، ونفي العلم بها جملة أصح، وهو لفظ القرآن". ونقل ابن الجوزي في زاد المسير: (٢ / ٣٤٨) عن ابن الأنباري، في تفسير الآية، قال: أي: لا يحصي عددهم إلا هو، على أن الله تعالى أهلك أمما من العرب وغيرها، فانقطعت أخبارهم، وعفت آثارهم، فليس يعلمهم أحد إلا الله. وانظر: تفسير القرطبي: ٩ / ٣٤٤، ٣٤٥.
﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بِالدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ، ﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ﴾ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَضُّوا عَلَى أَيْدِيهِمْ غَيْظًا (١) كَمَا قَالَ ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ (آلِ عِمْرَانَ -١١٩).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا سَمِعُوا كِتَابَ اللَّهِ عَجِبُوا وَرَجَعُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ (٢).
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: كَذَّبُوا الرُّسُلَ وردوا ما جاؤوا بِهِ (٣) يُقَالُ: رَدَدْتُ قَوْلَ فُلَانٍ فِي فِيهِ أَيْ كَذَّبْتُهُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي أَنَّ الْأُمَمَ رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: وَضَعُوا الْأَيْدِيَ عَلَى الْأَفْوَاهِ إِشَارَةً إِلَى الرُّسُلِ أَنِ اسْكُتُوا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِ الرُّسُلِ يُسْكِتُونَهُمْ بِذَلِكَ (٤).
وَقِيلَ: الْأَيْدِي بِمَعْنَى النِّعَمِ. مَعْنَاهُ: رَدُّوا مَا لَوْ قَبِلُوا كَانَتْ أَيَادِيَ وَنِعَمًا فِي أَفْوَاهِهِمْ، أَيْ: بِأَفْوَاهِهِمْ، يَعْنِي بِأَلْسِنَتِهِمْ.
﴿وَقَالُوا﴾ يَعْنِي الْأُمَمَ لِلرُّسُلِ، ﴿إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ مُوجِبٍ لِلرِّيبَةِ مُوقِعٍ لِلتُّهْمَةِ.
﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (١٠) ﴾.
﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾ هَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى نَفْيِ مَا اعتقدوه، ﴿فَاطِرِ السمواتِ وَالْأَرْضِ﴾ خَالِقُهُمَا (٥) ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ أَيْ: ذُنُوبَكُمْ وَ"مِنْ" صِلَةٌ،
(١) أخرجه عبد الرزاق، والفريابي، وأبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وصححه الحاكم في المستدرك، قال الهيثمي: "رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن محمد وهو ضعيف" انظر: الدر المنثور: ٥ / ١٠، زاد المسير: ٤ / ٣٤٨، مجمع الزوائد: ٧ / ٤٣.
(٢) انظر: زاد المسير: ٤ / ٣٤٩، البحر المحيط: ٥ / ٤٠٨.
(٣) انظر: الدر المنثور: ٥ / ١٠، وقد عزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولأبي عبيد وابن المنذر عن مجاهد.
(٤) انظر: البحر المحيط: ٥ / ٤٠٨. وقال الطبري في التفسير: (١٦ / ٥٣٥) :"وأشبه هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل هذه الآية: القول الذي ذكرناه عن عبد الله بن مسعود: أنهم ردوا أيديهم في أفواههم، فعضوا عليها، غيظا على الرسل، كما وصف الله جل وعز به إخوانهم من المنافقين، فقال: (وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) (سورة آل عمران - ١١٩)، فهذا هو الكلام المعروف، والمعنى المفهوم من "رد اليد إلى الفم".
(٥) في "ب": خالق السموات والأرض.
338
﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ إِلَى حِينِ اسْتِيفَاءِ آجَالِكُمْ فَلَا يُعَاجِلُكُمْ بِالْعَذَابِ.
﴿قَالُوا﴾ لِلرُّسُلِ: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ فِي الصُّورَةِ، وَلَسْتُمْ مَلَائِكَةً وَإِنَّمَا ﴿تُرِيدُونَ﴾ بِقَوْلِكُمْ، ﴿أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاكُمْ.
339
﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (١٤) ﴾.
﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، ﴿وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (١).
﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ﴾ وَقَدْ عَرَفْنَا أَنْ لَا نَنَالَ شَيْئًا إِلَّا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، ﴿وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾ بَيَّنَ لَنَا الرُّشْدَ، وَبَصَّرَنَا طَرِيقَ النَّجَاةِ. ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ﴾ اللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ، مَجَازُهُ: وَاللَّهِ لِنَصْبِرَنَّ، ﴿عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ يَعْنُونَ: إِلَّا أَنْ تَرْجِعُوا، أَوْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِنَا (٢).
﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾.
﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أَيْ: مِنْ بَعْدِ هَلَاكِهِمْ.
(١) أي: وما كان لنا أن نأتيكم بحجة وبرهان على ما ندعوكم إليه "إلا بإذن الله"، يقول: إلا بأمر الله لنا بذلك "وعلى الله فليتوكل المؤمنون" يقول: وبالله فليثق به مَنْ آمن به وأطاعه، فإنا به نثق، وعليه نتوكل. انظر: تفسير الطبري: ١٦ / ٥٣٨.
(٢) قال الرازي: فإن قيل: كيف قالوا لرسلهم "أو لتعودن... " والرسل لم يكونوا على ملة الكفار قط... فالجواب من وجوه: الأول: أن العَوْد في كلام العرب يستعمل كثيرا بمعنى الصيرورة، يقولون: عاد فلان يكلمني، وعاد لفلان مال، وأشباه ذلك. ومنه قوله تعالى: "حتى عاد كالعرجون القديم". الثاني: أنهم خاطبوا الرسل بذلك بناء على زعمهم الفاسد واعتقادهم أن الرسل كانوا أولا على ملل قومهم، ثم انتقلوا عنها. الثالث: أنهم خاطبوا كل رسول ومَنْ آمن به، فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد. انظر: مسائل الرازي وأجوبتها من غرائب آي التنزيل ص (١٥٩).
﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي﴾ أَيْ: قِيَامَهُ بَيْنَ يَدَيَّ كَمَا قَالَ: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ (الرَّحْمَنِ -٤٦)، فَأَضَافَ قِيَامَ الْعَبْدِ إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا تَقُولُ: نَدِمْتُ عَلَى ضَرْبِكَ، أَيْ: عَلَى ضَرْبِي إِيَّاكَ، ﴿وَخَافَ وَعِيدِ﴾ أَيْ عِقَابِي.
﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (١٦) ﴾.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا﴾ أَيِ: اسْتَنْصَرُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْأُمَمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ صَادِقِينَ فَعَذِّبْنَا، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ (الْأَنْفَالِ -٣٢).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: وَاسْتَفْتَحُوا يَعْنِي الرُّسُلَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا يَئِسُوا مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمُ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ وَدَعَوْا عَلَى قَوْمِهِمْ بِالْعَذَابِ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ (نُوحٍ -٢٦) وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (يُونُسَ -٨٨). ، الْآيَةَ
﴿وَخَابَ﴾ خَسِرَ. وَقِيلَ: هَلَكَ، ﴿كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ وَالْجَبَّارُ: الَّذِي لَا يَرَى فَوْقَهُ أَحَدًا. وَالْجَبْرِيَّةُ: طَلَبُ الْعُلُوِّ بِمَا لَا غَايَةَ وَرَاءَهُ (١). وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقِيلَ: الْجَبَّارُ: الَّذِي يُجْبِرُ الْخَلْقَ عَلَى مُرَادِهِ، وَالْعَنِيدُ: الْمُعَانِدُ لِلْحَقِّ وَمُجَانِبُهُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: هُوَ الْمُعْرِضُ عَنِ الْحَقِّ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الْمُتَكَبِّرُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: "الْعَنِيدُ" الَّذِي أَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (٢).
﴿مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ﴾ أَيْ: أَمَامَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ﴾ (الْكَهْفِ -٧٦) أَيْ: أَمَامَهُمْ (٣).
(١) ومن "الجبار"، تقول: هو جبار بين الجَبَرية، والجَبْرِيَّة والجَبَرُوُّة، والجَبَروت. انظر: تفسير الطبري: ١٦ / ٥٤٣.
(٢) انظر في هذه الأقوال: الدر المنثور: ٥ / ١٤-١٥، والطبري: ١٦ / ٥٤٣-٥٤٥.
(٣) وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول: إنما يعني بقوله: "من ورائه" أي من أمامه، لأنه وراء ما هو فيه، كما يقول لك: "وكل هذا من ورائك"، أي سيأتي عليك، وهو من وراء ما أنت فيه، لأن ما أنت فيه قد كان قبل ذلك وهو من ورائه. وكان بعض نحويي أهل الكوفة يقول: أكثر ما يجوز هذا في الأوقات، لأن الوقت يمر عليك، فيصير خلفك إذا جزته... انظر: تفسير الطبري: ١٦ / ٥٤٧.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ (١).
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ كَمَا يُقَالُ هَذَا الْأَمْرُ مِنْ وَرَائِكَ يُرِيدُ أَنَّهُ سَيَأْتِيكَ، وَأَنَا مِنْ وَرَاءِ فُلَانٍ يَعْنِي أَصِلُ إِلَيْهِ (٢).
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ" أَيْ: بَعْدَهُ (٣).
﴿وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ﴾ أَيْ: مِنْ مَاءٍ هُوَ صَدِيدٌ، وَهُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ أَبْدَانِ الْكُفَّارِ مِنَ الْقَيْحِ وَالدَّمِ (٤).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: مَا يَسِيلُ مِنْ فُرُوجِ الزُّنَاةِ، يُسْقَاهُ الْكَافِرُ (٥).
﴿يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (١٧) ﴾.
﴿يَتَجَرَّعُهُ﴾ أَيْ: يَتَحَسَّاهُ وَيَشْرَبُهُ، لَا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ جُرْعَةً جُرْعَةً، لِمَرَارَتِهِ وَحَرَارَتِهِ، ﴿وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ وَ"يَكَادُ": صِلَةٌ، أَيْ: لَا يُسِيغُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ (النُّورِ -٤٠) أَيْ: لَمْ يَرَهَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: لَا يُجِيزُهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَكَادُ لَا يُسِيغُهُ، وَيُسِيغُهُ فَيَغْلِي فِي جَوْفِهِ.
(١) انظر: الطبري: ١٦ / ٥٤٧، وقال الزجاج: الوراء يكون بمعنى بمعنى الخلف والقدام... وليس من الأضداد. انظر: زاد المسير: ٤ / ٣٥٢.
(٢) انظر التعليق السابق.
(٣) قال ابن الأنباري: "من ورائه" أي: من بعد يأسه، فدل "خاب" على اليأس، فكنى عنه، وحملت "وراء" على معنى "بعد"، كما قال النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
أراد: ليس بعد الله مذهب. انظر: زاد المسير: ٤ / ٣٥٢.
(٤) انظر: الطبري ١٦ / ٥٤٨، الدر المنثور: ٥ / ١٥ وعزاه فيه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة، ولابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في "البعث والنشور" عن مجاهد. وانظر: زاد المسير: ٤ / ٣٥٢-٣٥٣.
(٥) في زاد المسير: (٤ / ٣٥٣) عن محمد بن كعب: هو غُسالة أهل النار، وذلك ما يسيل من فروج الزناة. وقال ابن قتيبة: المعنى: يسقي الصديد مكان الماء، كأنه قال: يجعل ماؤه صديدا، ويجوز أن يكون على التشبيه، أي: يسقى ماءً كأنه صديد. انظر: القرطين أو كتابي مشكل القرآن وغريب القرآن لابن قتيبة، جمع بينهما: ابن مطرف الكناني: ١ / ٢٣٦.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: "وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ"، قَالَ: يُقَرَّبُ إِلَى فِيهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ (مُحَمَّدٍ -١٥)، وَيَقُولُ: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾ (١) (الْكَّهْفِ -٢٩).
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ يَعْنِي: يَجِدُ هَمَّ الْمَوْتِ وَأَلَمَهُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ مِنْ أَعْضَائِهِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: حَتَّى مِنْ تَحْتِ كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ جَسَدِهِ.
وَقِيلَ: يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ قُدَّامِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ.
﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ فَيَسْتَرِيحُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: تُعَلَّقُ نَفْسُهُ عِنْدَ حَنْجَرَتِهِ فَلَا تَخْرُجُ مِنْ فِيهِ فَيَمُوتُ، وَلَا تَرْجِعُ إِلَى مَكَانِهَا مِنْ جَوْفِهِ فَتَنْفَعُهُ الْحَيَاةُ. نَظِيرُهَا ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا﴾ (الْأَعْلَى -١٣).
﴿وَمِنْ وَرَائِهِ﴾ أَمَامَهُ، ﴿عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ شَدِيدٌ، وَقِيلَ: الْعَذَابُ الْغَلِيظُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (١٨) ﴾.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ﴾ يَعْنِي: أَعْمَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ -كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ﴾ (الزُّمَرِ -٦٠) -أَيْ: تَرَى وُجُوهَ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ مُسْوَدَّةً، ﴿كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ وَصَفَ الْيَوْمَ بِالْعُصُوفِ، وَالْعُصُوفُ مِنْ صِفَةِ الرِّيحِ لِأَنَّ الرِّيحَ تَكُونُ فِيهَا، كَمَا يُقَالُ: يَوْمٌ حَارٌّ وَيَوْمٌ بَارِدٌ، لِأَنَّ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ فِيهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: فِي يَوْمٍ عَاصِفِ الرِّيحِ، فَحَذَفَ الرِّيحَ لِأَنَّهَا قَدْ ذُكِرَتْ مِنْ قَبْلُ. وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ
(١) أخرجه الطبري في التفسير: ١٦ / ٥٤٩-٥٥٠، والترمذي في أبواب صفة جهنم، باب ما جاء في صفة شراب أهل النار: ٧ / ٣٠٣-٣٠٤، وقال: "هذا حديث غريب، هكذا قال محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن بسر، ولا يعرف عبيد الله بن بسر إلا في هذا الحديث". وأخرجه الحاكم في المستدرك: ٢ / ٣٥١ وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ٥ / ٢٦٥، والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ٢٤٣-٢٤٤. وضعفه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح: ٣ / ١٥٨١.
342
اللَّهُ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ، يُرِيدُ: أَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا فِيهَا غَيْرَ اللَّهِ كَالرَّمَادِ الَّذِي ذَرَتْهُ الرِّيحُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿لَا يَقْدِرُونَ﴾ يَعْنِي: الْكُفَّارَ ﴿مِمَّا كَسَبُوا﴾ فِي الدُّنْيَا، ﴿عَلَى شَيْءٍ﴾ في الآخرة، ١٩٣/أ ﴿ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾.
343
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) ﴾.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ والكسائي "خالقُ السمواتِ وَالْأَرْضِ" وَفِي سُورَةِ النُّورِ "خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ" مُضَافًا.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ " خَلَقَ " عَلَى الْمَاضِي " وَالْأَرْضِ " وَكُلٌّ بِالنَّصْبِ.
وَ" بِالْحَقِّ " أَيْ: لَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا وَإِنَّمَا خَلَقَهُمَا لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ سِوَاكُمْ أَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْكُمْ.
﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ مَنِيعٍ شَدِيدٍ، يَعْنِي أَنَّ الْأَشْيَاءَ تُسَهَّلُ فِي الْقُدْرَةِ، لَا يَصْعُبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ وَإِنْ جَلَّ وَعَظُمَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [أَيْ: خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَظَهَرُوا جَمِيعًا] (١) ﴿فَقَالَ الضُّعَفَاءُ﴾ يَعْنِي: الْأَتْبَاعَ، ﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ أَيْ: تَكَبَّرُوا عَلَى النَّاسِ وَهُمُ الْقَادَةُ وَالرُّؤَسَاءُ: ﴿إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا﴾ جَمْعُ تَابِعٍ، مِثْلُ: حَرَسٍ وَحَارِسٍ، ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ﴾ دَافِعُونَ، ﴿عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾.
﴿قَالُوا﴾ يَعْنِي الْقَادَةَ الْمَتْبُوعِينَ: ﴿لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ﴾ أَيْ: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَدَعَوْنَاكُمْ إِلَى الْهُدَى، فَلَمَّا أَضَلَّنَا دَعَوْنَاكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ (٢)، ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ مَهْرَبٍ وَلَا مَنْجَاةٍ.
(١) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٢) في "أ": الضلال.
343
قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُونَ فِي النَّارِ: تَعَالَوْا نَجْزَعُ، فَيَجْزَعُونَ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ، فَلَا يَنْفَعُهُمُ الْجَزَعُ، ثُمَّ يَقُولُونَ: تَعَالَوْا نَصْبِرُ، فَيَصْبِرُونَ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ فَلَا يَنْفَعُهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾ (١).
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ (٢) بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ النَّارِ اسْتَغَاثُوا بِالْخَزَنَةِ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾ (غَافِرٍ -٤٩)، فَرَدَّتِ الْخَزَنَةُ عَلَيْهِمْ: "أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى"، فَرَدَّتِ الخزنة عليهم: ﴿ادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ (غَافِرٍ -٥٠) فَلَمَّا يَئِسُوا مِمَّا عِنْدَ الْخَزَنَةِ نَادَوْا: ﴿يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ (الزُّخْرُفِ -٧٧) سَأَلُوا الْمَوْتَ، فَلَا يُجِيبُهُمْ ثَمَانِينَ سَنَةً وَالسَّنَةُ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ يَوْمًا، وَالْيَوْمُ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ لَحَظَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الثَّمَانِينَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ، فَلَمَّا يَئِسُوا مِمَّا قَبْلَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْبَلَاءِ مَا تَرَوْنَ فَهَلُمُّوا فَلْنَصْبِرْ، فَلَعَلَّ الصَّبْرَ يَنْفَعُنَا كَمَا صَبَرَ أَهْلُ الدُّنْيَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَنَفَعَهُمْ، فَأَجْمَعُوا عَلَى الصَّبْرِ، فَطَالَ صَبْرُهُمْ ثُمَّ جَزِعُوا فَنَادَوْا: "سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ"، أَيْ: مِنْ مَنْجَى.
قَالَ: فَقَامَ إِبْلِيسُ عِنْدَ ذَلِكَ فَخَطَبَهُمْ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ" الْآيَةَ، فَلَمَّا سَمِعُوا مَقَالَتَهُ مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ فَنُودُوا: ﴿لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾ (غَافِرٍ -١٠) قَالُوا فَنَادَوُا الثَّانِيَةَ: "فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ"، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ الْآيَاتِ (السَّجْدَةِ -١٢، ١٣) فَنَادَوُا الثَّالِثَةَ: ﴿رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ (إِبْرَاهِيمَ ٤٤)، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ: ﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾ الْآيَاتِ (إِبْرَاهِيمَ -٤٤)، ثُمَّ نَادَوُا الرَّابِعَةَ: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾، الْآيَةَ (فَاطِرٍ -٣٧) قَالَ: فَمَكَثَ عَلَيْهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نَادَاهُمْ: "أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ"، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ قَالُوا: الْآنَ يَرْحَمُنَا، فَقَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ: "رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ"، قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ (الْمُؤْمِنُونَ ١٠٥-١٠٨) فَانْقَطَعَ عِنْدَ ذَلِكَ الرَّجَاءُ وَالدُّعَاءُ عَنْهُمْ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَنْبَحُ بَعْضُهُمْ فِي وُجُوهِ بَعْضٍ، وَأُطْبِقَتْ عَلَيْهِمُ النَّارُ.
(١) رواه الطبراني عن كعب بن مالك مرفوعا، وأخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه وفيه أنس بن القاسم. قال ابن أبي حاتم: هو مجهول. انظر: مجمع الزوائد: ٧ / ٤٣، الدر المنثور: ٥ / ١٧، الجرح والتعديل: ٢ / ٢٨٨.
(٢) انظر: الدر المنثور: ٥ / ١٨، تفسير الطبري: ١٦ / ٥٦٤.
344
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٢) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ﴾ يَعْنِي: إِبْلِيسَ، ﴿لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ أَيْ: فُرِغَ مِنْهُ فَأُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُوضَعُ لَهُ مِنْبَرٌ فِي النَّارِ، فَيَرْقَاهُ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْكَفَّارُ بِاللَّائِمَةِ فَيَقُولُ لَهُمْ:
﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ﴾ فَوَفَّى لَكُمْ بِهِ، ﴿وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ وَقِيلَ: يَقُولُ لَهُمْ: قُلْتُ لَكُمْ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ. ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ وِلَايَةٍ. وَقِيلَ: لَمْ آتِكُمْ بِحُجَّةٍ فِيمَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ، ﴿إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ﴾ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ: لَكِنْ ﴿دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ بِإِجَابَتِي وَمُتَابَعَتِي مِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ وَلَا بُرْهَانٍ، ﴿مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ﴾ بِمُغِيثِكُمْ، ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ بِمُغِيثِيَّ.
قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ " بِمُصْرِخِيِّ " بِكَسْرِ الْيَاءِ، وَالْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ لِأَجْلِ التَّضْعِيفِ، وَمَنْ كَسَرَ فَلِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، حُرِّكَتْ إِلَى الْكَسْرِ، لِأَنَّ الْيَاءَ أُخْتُ الْكَسْرَةِ، وَأَهْلُ النَّحْوِ لَمْ يَرْضَوْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لُغَةُ بَنِي يَرْبُوعٍ. وَالْأَصْلُ (بِمُصْرِخِينِيَّ) فَذَهَبَتِ النُّونُ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ، وَأُدْغِمَتْ يَاءُ الْجَمَاعَةِ فِي يَاءِ الْإِضَافَةِ (١).
﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: كَفَرْتُ بِجَعْلِكُمْ إِيَّايَ شَرِيكًا فِي عِبَادَتِهِ وَتَبَرَّأْتُ مِنْ ذَلِكَ.
﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ﴾ الْكَافِرِينَ، ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَارِثُ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ دُخَيْنٍ الْحَجَرِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ ذَكَرَ الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: "يَقُولُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكُمُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ، فَيَأْتُونِي فَيَأْذَنُ اللَّهُ لِي أَنْ أَقُومَ فَيَثُورُ مِنْ مَجْلِسِي مِنْ أَطْيَبِ رِيحٍ شَمَّهَا أَحَدٌ، حَتَّى
(١) انظر: البحر المحيط: ٥ / ٤١٩، زاد المسير: ٤ / ٣٥٧.
آتِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَيُشَفِّعَنِي وَيَجْعَلَ لِي نُورًا مِنْ شَعْرِ رَأْسِي إِلَى ظُفْرِ قَدَمِي، ثُمَّ يَقُولُ الْكُفَّارُ: قَدْ وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ فَمَنْ يَشْفَعُ لَنَا؟ فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ غَيْرُ إِبْلِيسَ، هُوَ الَّذِي أَضَلَّنَا، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ لَهُ: قَدْ وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ فَقُمْ أَنْتَ فَاشْفَعْ لَنَا، فَإِنَّكَ أَنْتَ أَضْلَلْتَنَا. فَيَقُومُ فَيَثُورُ مِنْ مَجْلِسِهِ أَنْتَنُ رِيحٍ شَمَّهَا أَحَدٌ، ثُمَّ تُعَظَّمُ جَهَنَّمُ (١) وَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ﴾ الْآيَةَ (٢).
﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) ﴾.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ﴾ يُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتُسَلِّمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ.
وَقِيلَ: الْمُحَيِّي بِالسَّلَامِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾ أَلَمْ تَعْلَمْ، وَالْمَثَلُ: قَوْلٌ سَائِرٌ لِتَشْبِيهِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ. ﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ وَهِيَ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ وَهِيَ النَّخْلَةُ يُرِيدُ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةِ الثَّمَرِ (٣).
(١) في "ب": "يعظم لجهنم" وكذلك في الطبري. وفي الطبعة البولاقية منه "يعظم نحيبهم". قال الشيخ شاكر: وهو غير ما اتفقت عليه المخطوطة، والدر المنثور، وابن كثير،... وأنا في شك من الكلمة، وظني أنا: "يُقَطَّم لجهنم" من قولهم: "قطَّم الشارب": إذا ذاق الشراب فكرهه، وزوى وجهه، وقطَّب.
(٢) أخرجه الدارمي في الرقائق، باب في الشفاعة: ٢ / ٣٢٧، وابن جرير الطبري في التفسير: ١٦ / ٥٦٢-٥٦٣. وعزاه السيوطي لابن المبارك في الزهد، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، وابن عساكر. وقال: "أخرجوه بسند ضعيف". وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه عبد الرحمن بن زياد، وهو ضعيف، وقال الشيخ محمود شاكر: وهذا خبر ضعيف، لا يقوم. ورشدين بن سعد المصري: ضعيف متروك، عنده معاضيل ومناكير. انظر: الدر المنثور: ٥ / ١٨، مجمع الزوائد: ١٠ / ٣٧٦، انظر: الدر المنثور: ٥ / ١٨، تفسير ابن كثير: ٢ / ٥٣٠.
(٣) وهذا ما رجحه الطبري في التفسير: ١٦ / ٥٧٣، لصحة الخبر في ذلك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ "فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: فقال: "هي النخلة". أخرجه البخاري في العلم، باب قول المحدث حدثنا وأخبرنا: ١ / ١٤٥، وفي البيوع وفي التفسير وفي مواضع أخرى، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب مثل المؤمن مثل النخلة، برقم (٢٨١١) : ٤ / ٢١٦٤-٢١٦٥، والمصنف في شرح السنة: ١ / ٣٠٧.
346
وَقَالَ ظَبْيَانُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (١) هِيَ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ (٢).
﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾ فِي الْأَرْضِ، ﴿وَفَرْعُهَا﴾ أَعْلَاهَا، ﴿فِي السَّمَاءِ﴾ كَذَلِكَ أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ: رَاسِخٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهَا عَرَجَتْ، فَلَا تُحْجَبُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ (فَاطِرٍ -١٠).
(١) نقله عنه الطبري: ١٦ / ٥٧٣، وابن الجوزي في زاد المسير: ٤ / ٣٥٨، وزاد قولا ثالثا فيها، وهو: أنها المؤمن، وأصله الثابت، أن يعمل في الأرض، ويبلغ عمله السماء، وهذا رواه عطية عن ابن عباس أيضا.
(٢) في "ب": الشام.
347
﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) ﴾.
﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا﴾ تُعْطِي ثَمَرَهَا، ﴿كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ ١٩٣/ب وَالْحِينُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْوَقْتُ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ هَا هُنَا فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: الْحِينُ هَا هُنَا: سَنَةٌ كَامِلَةٌ، لِأَنَّ النَّخْلَةَ تُثْمِرُ كُلَّ سَنَةٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ إِطْلَاعِهَا إِلَى صِرَامِهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ ظُهُورِهَا إِلَى إِدْرَاكِهَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: شَهْرَانِ مِنْ حِينِ تُؤْكَلُ إِلَى حِينِ الصِّرَامِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: "كُلَّ حِينٍ": أَيْ: كُلَّ غَدْوَةٍ وَعَشِيَّةٍ، لِأَنَّ ثَمَرَ النَّخْلِ يُؤْكَلُ أَبَدًا لَيْلًا وَنَهَارًا، صَيْفًا وَشِتَاءً، إِمَّا تَمْرًا أَوْ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا، كَذَلِكَ عَمَلُ الْمُؤْمِنِ يَصْعَدُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ وَبَرَكَةُ إِيمَانِهِ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا، بَلْ تَصِلُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ (١).
وَالْحِكْمَةُ فِي تَمْثِيلِ الْإِيمَانِ بِالشَّجَرَةِ: هِيَ أَنَّ الشَّجَرَةَ لَا تَكُونُ شَجَرَةً إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: عِرْقٌ رَاسِخٌ، وَأَصْلٌ قَائِمٌ، وَفَرْعٌ عَالٍ، كَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَبْدَانِ.
(١) انظر هذه الأقوال الخمسة في معنى "الحين"، وقولا سادسا عن علي: أنه ثمانية أشهر، في: تفسير الطبري: ١٦ / ٥٧٥-٥٧٩، الدر المنثور: ٥ / ٢٤-٢٥، وزاد المسير: ٤ / ٣٥٩، البحر المحيط: ٥ / ٤٢٢. قال الطبري: "وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول مَنْ قال: عنى بالحين، في هذا الموضع؛ غدوة وعشية وكل ساعة؛ لأن الله تعالى ذكره ضرب ما تؤتي هذه الشجرة كل حين من الأكل لعمل المؤمن وكلامه مثلا، ولا شك أن المؤمن يُرفع له إلى الله في كل يوم صالح من العمل والقول، لا في كل سنة، أو في كل ستة أشهر، أو في كل شهرين، فإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن المَثَل لا يكون خلافا للممثَّل به في المعنى، وإذا كان ذلك كذلك كان بَيِّنًا صحة ما قلنا. فإن قال قائل: فأي نخلة تؤتي أكلها في كل وقت أكلا صيفا وشتاء؟ قيل: أما في الشتاء: فإن الطلع من أكلها، وأما في الصيف: فالبلح والبسر والرطب والتمر، وذلك كله من أكلها".
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مِثْلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَ هِيَ النَّخْلَةُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا" (١).
وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي تَشْبِيهِهَا بِالنَّخْلَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَشْجَارِ: أَنَّ النَّخْلَةَ شِبْهُ (٢) الْأَشْجَارِ بِالْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا إِذَا قُطِعَ رَأْسُهَا يَبِسَتْ، وَسَائِرُ الْأَشْجَارِ تَتَشَعَّبُ مِنْ جَوَانِبِهَا بعد قطع رؤوسها (٣) وَلِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْإِنْسَانَ فِي أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ إِلَّا بِالتَّلْقِيحِ وَلِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ فَضْلِ طِينَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمْ" قِيلَ: وَمَنْ عَمَّتْنُا؟ قَالَ: "النَّخْلَةُ" (٤) ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (٥).
﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (٢٦) ﴾.
﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ وَهِيَ الشِّرْكُ، ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ وَهِيَ الْحَنْظَلُ (٦).
(١) متفق عليه، وسبق تخريجه قبل قليل ص (٣٤٦) تعليق (٣).
(٢) في "ب": أشبه.
(٣) في "ب": رأسها.
(٤) حديث ضعيف أخرجه أبو نعيم في الحلية: ٦ / ١٢٣، وأبو يعلى في مسنده، وابن أبي حاتم، وابن عدي في "الكامل": ٦ / ٢٤٢٤، والعقيلي في "الضعفاء" وابن السني وابن مردويه معا في الطب، قال الهيثمي: فيه مسرور بن سعيد، وهو ضعيف. وقال العقيلي: حديثه غير محفوظ. انظر: مجمع الزوائد: ٥ / ٣٩، فيض القدير: ٢ / ٩٥، كشف الخفاء: ١ / ١٩٥، تمييز الطيب من الخبيث ص (٣٦)، تنزيه الشريعة المرفوعة لابن عراق: ١ / ٢٠٩، وانظر في الحكمة من تشبيه الإيمان بالنخلة أيضا: زاد المسير: ٤ / ٣٥٩-٣٦٠.
(٥) أي: ويمثل الله الأمثال للناس، ويشبه لهم الأشباه ليتذكروا حجة الله عليهم، فيعتبروا بها ويتعظوا، فينزجروا عما هم عليه من الكفر به إلى الإيمان. انظر: تفسير الطبري: ١٦ / ٥٦٧.
(٦) قال الطبري: ١٦ / ٥٨٥: وقد روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتصحيح قول من قال: هي الحنظلة، خبر فإن صح، فلا قول يجوز أن يقال غيره، وإلا فإنها شجرة بالصفة التي وصفها الله بها. ثم ساق حديثا للترمذي والحاكم عن أنس ضعفه الشيخ محمود شاكر. انظر: الطبري: ١٦ / ٥٧٠-٥٧١، ٥٨٥.
وَقِيلَ: هِيَ الثُّومُ.
وَقِيلَ: هِيَ الْكُشُوثُ (١) وَهِيَ الْعَشَقَةُ (٢) ﴿اجْتُثَّتْ﴾ يَعْنِي انْقَلَعَتْ، ﴿مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ ثَبَاتٍ.
مَعْنَاهُ: وَلَيْسَ لَهَا أَصْلٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ، وَلَا فَرْعٌ صَاعِدٌ إِلَى السَّمَاءِ، كَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَا يَصْعَدُ لَهُ قَوْلٌ طَيِّبٌ وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ.
﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (٢٧) ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَهِيَ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يَعْنِي قَبْلَ الْمَوْتِ، ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾ يَعْنِي فِي الْقَبْرِ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ.
وَقِيلَ: "فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا": عِنْدَ السُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ، "وَفِي الْآخِرَةِ": عِنْدَ الْبَعْثِ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (٣).
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله، فلذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ (٤).
(١) في "ب": الكشوب. وفي لسان العرب: ٢ / ١٨١: "الكشوث، والأكشوث، والكشُوئي: كل ذلك نبات مجتث مقطوع الأصل. وقيل: لا أصل له، وهو أصغر يتعلق بأطراف الشوك وغيره. وقال الجوهري هو: نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض... ".
(٢) العَشَقَةُ: شجرة تخضر ثم تدق وتصفر، وهي عند المولدين: اللَّبْلاب، وجمعها العَشَق. انظر: لسان العرب ١٠ / ٢٥٢.
(٣) وهو ما رجحه الطبري، حيث قال: (١٦ / ٦٠٢) : والصواب من القول في ذلك ما ثبت به الخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، وهو أن معناه: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا"، وذلك تثبيته إياهم في الحياة الدنيا بالإيمان بالله وبرسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وفي الآخرة" بمثل الذي ثبتهم به في الحياة الدنيا، وذلك في قبورهم حين يسألون عن الذي هم عليه من التوحيد والإيمان برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(٤) أخرجه البخاري في التفسير، سورة إبراهيم، باب "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت": ٨ / ٣٧٨، والمصنف في شرح السنة: ٥ / ٤١٢.
349
وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَنْبَأَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ يُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ الْآيَةَ (١).
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لِيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ، لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا" قَالَ قَتَادَةُ: وَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ:
وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ" (٢).
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ الْمُظَفَّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي جَدِّي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ حِسَّ النِّعَالِ إِذَا وَلَّى عَنْهُ النَّاسُ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ يُجْلَسُ وَيُوضَعُ كَفَنُهُ فِي عُنُقِهِ ثُمَّ يُسْأَلُ" (٣).
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ، وَلِلْآخَرِ النَّكِيرُ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ كَافِرًا قَالَ:
(١) أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار برقم (٢٨٧١) : ٤ / ٢٢٠.
(٢) أخرجه البخاري في الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر: ٣ / ٢٣٢، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار، برقم (٢٨٧٠) : ٤ / ٢٢٠٠-٢٢٠١، والمصنف في شرح السنة: ٥ / ٤١٥.
(٣) أخرجه ابن حبان، في الجنائز، باب في الميت يسمع ويسأل، ص (١٩٦) من موارد الظمآن، والإمام أحمد في المسند: ٢ / ٣٤٧، والمصنف في شرح السنة: ٥ / ٤١٣.
350
سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلًا فَقُلْتُ مِثْلَهُ، لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ فَيُقَالُ لِلْأَرْضِ الْتَئِمِي عَلَيْهِ فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، فَتَخْتَلِفُ أَضْلَاعُهُ، فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ" (١).
وَرُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ قَبَضَ رُوحَ الْمُؤْمِنِ وَقَالَ: "فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فِي قَبْرِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ [فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ فَيَنْتَهِرَانِهِ وَيَقُولَانِ لَهُ الثَّانِيَةَ: مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ وَمِنْ نَبِيُّكَ] (٢) وَهِيَ آخِرُ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَيُثَبِّتُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ (٣). ١٩٤/أ
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ التُّرَابِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ بِسْطَامٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى (٤) الْفَرَّاءُ أَبُو إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى عَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الرَّجُلِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: "اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا اللَّهَ لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ" (٥).
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ وَهُوَ يَبْكِي: فَإِذَا أَنَا مِتُّ فَلَا تَصْحَبُنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَسُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ سَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ: لَا يَهْدِي الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ فِي الْقَبْرِ ﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ مِنَ التَّوْفِيقِ وَالْخُذْلَانِ وَالتَّثْبِيتِ وَتَرْكِ التَّثْبِيتِ.
(١) أخرجه الترمذي في الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر: ٤ / ١٨١-١٨٤، وقال: وهو حديث حسن غريب. وفي الباب عن علي، وزيد بن ثابت، وابن عباس والبراء بن عازب، وأبي أيوب، وأنس، وجابر، وعائشة، وأبي سعيد كلهم رووا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عذاب القبر. وأخرجه ابن حبان في الجنائز، باب الميت يسأل ويسمع، ص (١٩٧) من موارد الظمآن. وحسّنه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح، وقال: هو على شرط مسلم: ١ / ٤٧.
(٢) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٣) قطعة من حديث طويل أخرجه أبو داود في السنة، باب المسألة في القبر: ٧ / ١٣٩-١٤١، والحاكم في المستدرك: ١ / ٣٧، ٣٩، والإمام أحمد في المسند: ٤ / ٢٩٥-٢٩٦. وصححه الألباني في تعليقه على المشكاة ١ / ٤٨. وأخرجه الطبري في التفسير من عدة طرق انظر: ١٦ / ٥٨٩-٥٩٥.
(٤) في "ب": ابن محمد.
(٥) أخرجه أبو داود في الجنائز، باب الاستغفار عند القبر للميت: ٤ / ٣٣٩، والبيهقي في السنن الكبرى: ٤ / ٥٦، وحسنه النووي في الأذكار ص (١٣٧)، وصححه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح: ١ / ٤٨.
351
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) ﴾.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ الْآيَةَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا الْحُمَيدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى] (١) ﴿الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا﴾ قَالَ: هُمْ وَاللَّهِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ (٢).
وَقَالَ عَمْرٌو: هُمْ قُرَيْشٌ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَةُ اللَّهِ (٣).
﴿وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾ قَالَ: الْبَوَارُ يَوْمُ بَدْرٍ، قَوْلُهُ ﴿بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ أَيْ: غَيَّرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ كُفْرًا كَفَرُوا بِهِ فَأَحَلُّوا، أَيْ: أَنْزَلُوا، قَوْمَهُمْ مِمَّنْ تَابَعَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ دَارَ الْبَوَارِ الْهَلَاكِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْبَوَارَ فَقَالَ:
﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا﴾ يَدْخُلُونَهَا ﴿وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ الْمُسْتَقَرُّ.
وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ نُحِرُوا يَوْمَ بَدْرٍ (٤).
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُمُ الْأَفْجَرَانِ مَنْ قُرَيْشٍ: بَنُو الْمُغِيرَةِ، وَبَنُو أُمَيَّةَ، أَمَّا بَنُو الْمُغِيرَةِ فَكُفِيتُمُوهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ (٥).
﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ أَمْثَالًا [وَلَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى نِدٌّ] (٦) ﴿لِيُضِلُّوا﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَجِّ وَسُورَةِ لُقْمَانَ وَالزُّمَرِ: ﴿لِيَضِلَّ﴾ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى مَعْنَى لِيُضِلُّوا النَّاسَ، ﴿عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا﴾ عِيشُوا فِي الدُّنْيَا، ﴿فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾
(١) ساقط من "ب".
(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة إبراهيم باب: "ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا": ٨ / ٣٧٨، بلفظ: هم كفار أهل مكة. وانظر: الدر المنثور: ٥ / ٤١، الطبري: ١٣ / ٢٢٢ (طبع الحلبي). وسائر الإحالات الآتية إلى تفسير الطبري ستكون -إن شاء الله تعالى- إلى هذه الطبعة، حيث كنا فيما سبق -غالبا- نعزو إلى طبعة دار المعارف بتحقيق الشيخ محمود شاكر.
(٣) عزاه السيوطي لابن جرير عن عطاء بن يسار: ٥ / ٤٢.
(٤) عزاه السيوطي لابن جرير، وابن المنذر، والحاكم في "الكنى"، الدر المنثور: ٥ / ٤٢.
(٥) أخرجه البخاري في "التاريخ" وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه. انظر: الدر المنثور: ٥ / ٤١.
(٦) ساقط من "ب".
﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (٣١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (٣٣) ﴾.
﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) ﴾.
﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ جَزْمٌ عَلَى الْجَزَاءِ، ﴿وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ﴾ مُخَالَلَةٌ وَصَدَاقَةٌ. [قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ: "لَا بَيْعَ فِيهِ وَلَا خِلَالَ" بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى النَّفْيِ الْعَامِّ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: "لَا بَيْعٌ وَلَا خِلَالٌ" بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ] (١).
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾ ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ﴾ ذَلَّلَهَا لَكُمْ، تُجْرُونَهَا (٢) حَيْثُ شِئْتُمْ.
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ﴾ يَجْرِيَانِ فِيمَا يَعُودُ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَلَا يَفْتُرَانِ، قَالَ ابن عباس دؤوبُهُما فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (٣).
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ يَتَعَاقَبَانِ فِي الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ، وَالنُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ.
﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ [يَعْنِي: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَأَلْتُمُوهُ] (٤) شَيْئًا، فَحَذَفَ الشَّيْءَ الثَّانِيَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ، عَلَى التَّبْعِيضِ.
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّكْثِيرِ نَحْوُ قَوْلِكَ: فُلَانٌ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ، وَآتَاهُ كُلَّ النَّاسِ، وَأَنْتَ تَعْنِي بَعْضَهُمْ،
(١) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٢) في "ب": تجروها.
(٣) الطبري: ١٣ / ٢٢٥ (طبع الحلبي).
(٤) ما بين القوسين ساقط من "ب".
نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (الْأَنْعَامِ -٤٤).
وَقَرَأَ الْحَسَنُ " مِنْ كُلٍّ " بِالتَّنْوِينِ ﴿مَا﴾ عَلَى النَّفْيِ يَعْنِي مِنْ كُلِّ مَا لَمْ تَسْأَلُوهُ، يَعْنِي: أَعْطَاكُمْ أَشْيَاءَ مَا طَلَبْتُمُوهَا وَلَا سَأَلْتُمُوهَا (١).
﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ أَيْ: نِعَمَ اللَّهِ، ﴿لَا تُحْصُوهَا﴾ أَيْ: لَا تُطِيقُوا عَدَّهَا وَلَا الْقِيَامَ بِشُكْرِهَا.
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ أَيْ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ بِالْمَعْصِيَةِ، كَافِرٌ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي نِعْمَتِهِ.
وَقِيلَ: الظَّلُومُ، الَّذِي يَشْكُرُ غَيْرَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَالْكَافِرُ: مَنْ يَجْحَدُ مُنْعِمَهُ.
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) ﴾.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ﴾ يَعْنِي: الْحَرَمَ، ﴿آمِنًا﴾ ذَا أَمْنٍ يُؤَمَّنُ فِيهِ، ﴿وَاجْنُبْنِي﴾ أَبْعِدْنِي، ﴿وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ يُقَالُ: جَنَّبْتُهُ الشَّيْءَ، وَأَجْنَبْتُهُ جَنْبًا، وَجَنَّبْتُهُ تَجْنِيبًا وَاجْتَنَبْتُهُ اجْتِنَابًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعْصُومًا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ السُّؤَالُ؟ وَقَدْ عَبَدَ كَثِيرٌ مِنْ بَنِيهِ الْأَصْنَامَ فَأَيْنَ الْإِجَابَةُ؟
قِيلَ: الدُّعَاءُ فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِزِيَادَةِ الْعِصْمَةِ وَالتَّثْبِيتِ، وَأَمَّا دُعَاؤُهُ لِبَنِيهِ: فَأَرَادَ بَنِيهِ مِنْ صُلْبِهِ، وَلَمْ يَعْبُدْ مِنْهُمْ أَحَدٌ الصَّنَمَ.
وَقِيلَ: إِنَّ دُعَاءَهُ لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مِنْ بَنِيهِ (٢).
﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ يَعْنِي ضَلَّ بِهِنَّ كَثِيرٌ [مِنَ النَّاسِ] (٣) عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى حَتَّى عَبَدُوهُنَّ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْلُوبُ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ (آلِ عِمْرَانَ -١٧٥)،
(١) انظر: تفسير الطبري ١٣ / ٢٢٦.
(٢) وقال محمد بن أبي بكر الرازي قيل: "إنما سأل هذا السؤال في حالة خوف أذهله عن ذلك العلم -بالعصمة عن الكفر وعبادة الأصنام- لأن الأنبياء -عليهم السلام- أعلم الناس بالله، فيكونون أخوفهم منه، فيكون معذورا بسبب ذلك. وقيل: إن في حكمة الله تعالى وعلمه أن لا يبتلي نبيا من الأنبياء بالكفر، بشرط أن يكون متضرعا إلى ربه طالبا منه ذلك، فأجرى على لسانه هذا السؤال لتحقيق شرط العصمة". انظر: مسائل الرازي وأجوبتها من غرائب آي التنزيل، ص (١٦٤).
(٣) ساقط من "ب".
أَيْ: يُخَوِّفُهُمْ (١) بِأَوْلِيَائِهِ.
وَقِيلَ: نَسَبَ الْإِضْلَالَ إِلَى الْأَصْنَامِ لِأَنَّهُنَّ سَبَبٌ فِيهِ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: فَتَنَتْنِي الدُّنْيَا، نَسَبَ الْفِتْنَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِأَنَّهَا سَبَبُ الْفِتْنَةِ (٢).
﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ أَيْ: مِنْ أَهْلِ دِينِي، ﴿وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ: وَمَنْ عَصَانِي ثُمَّ تَابَ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: وَمَنْ عَصَانِي فِيمَا دُونَ الشِّرْكِ.
وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ (٣).
﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) ﴾.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ أَدْخَلَ "مِنْ" لِلتَّبْعِيضِ، وَمَجَازُ الْآيَةِ: أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي وَلَدًا، ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ وَهُوَ مَكَّةُ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ وَادٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، ﴿عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ سَمَّاهُ مُحَرَّمًا لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عِنْدَهُ مَا لَا يَحْرُمُ عِنْدَ غَيْرِهِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَكَثِيرِ بْنِ [أَبِي كَثِيرِ بْنِ] (٤) الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ -يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ-عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ [قَالَ] (٥) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ، وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضْعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضْعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَلَ إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا،
(١) في "ب": يخوفكم.
(٢) وانظر: مسائل الرازي وأجوبتها ص (١٦٤).
(٣) في "ب": أن يشرك به.
(٤) ليس في "ب".
(٥) ساقط من "ب".
355
وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ أَمْرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لا يضيعّنا ١٩٤/ب ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ حَتَّى بَلَغَ "يَشْكُرُونَ".
وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَبَّطُ أَوْ قَالَ يَتَلَوَّى، وَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرْفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا".
فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ: صَهٍ -تُرِيدُ نَفْسَهَا-ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ -أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ-حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تَخُوضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَمَا تَغْرِفُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَرْحَمُ اللَّهُ أَمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ" أَوْ قَالَ: "لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا".
قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَاهُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِيهِ هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ.
وَكَانَ مَوْضِعُ الْبَيْتِ مُرْتَفِعًا مِنَ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ فَكَانَتْ كَذَلِكَ، حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ -أَوْ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمٍ-مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءَ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلَ مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لِيَدُورَ عَلَى مَاءٍ، وَلَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ، فَأَقْبَلُوا وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَلْفَى ذَلِكَ أَمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْأُنْسَ، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ وَشَبَّ الْغُلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ. وَمَاتَتْ أَمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ
356
إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ (١) ذَكَرْنَا تِلْكَ الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ﴾ الْأَفْئِدَةُ: جَمْعُ الْفُؤَادِ ﴿تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ تَشْتَاقُ وَتَحِنُّ إِلَيْهِمْ.
قَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ أَمِلْ قُلُوبَهُمْ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ قَالَ أَفْئِدَةَ النَّاسِ لَزَاحَمَتْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالْهِنْدُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَحَجَّتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: "أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ" وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ.
﴿وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ مَا رَزَقْتَ سُكَّانَ الْقُرَى ذَوَاتِ الْمَاءِ، ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾.
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٩) ﴾.
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ﴾ مِنْ أُمُورِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: مِنِ الْوَجْدِ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ حَيْثُ أَسْكَنْتُهُمَا بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ. ﴿وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ قِيلَ: هَذَا صِلَةُ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ (٣).
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ﴾ أَعْطَانِي، ﴿إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وُلِدَ إِسْمَاعِيلُ لِإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ إِسْحَاقُ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بُشِّرَ إِبْرَاهِيمُ بِإِسْحَاقَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً (٤).
(١) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب يزفون النسلان في المشي: ٦ / ٣٩٦-٣٩٨.
(٢) انظر فيما سبق: ١ / ١٤٧-١٤٨.
(٣) في البحر المحيط: ٥ / ٤٣٣ جاءت العبارة أوضح فقال: وقيل "وما يخفى... " الآية، من كلام الله عز وجل تصديقا لإبراهيم عليه السلام، كقوله تعالى: "كذلك يفعلون".
(٤) انظر: المحرر الوجيز: ٨ / ٢٥٦.
﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (٤١) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (٤٢) ﴾.
﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ﴾ يَعْنِي: مِمَّنْ يُقِيمُ الصَّلَاةَ بِأَرْكَانِهَا وَيُحَافِظُ عَلَيْهَا، ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ يَعْنِي: اجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي مَنْ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ.
﴿رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ أَيْ: عَمَلِي وَعِبَادَتِي، سَمَّى الْعِبَادَةَ دُعَاءً، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ" (١).
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: اسْتَجِبْ دُعَائِي.
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اسْتَغْفَرَ لِوَالِدَيْهِ وَهُمَا غَيْرُ مُؤْمِنَيْنِ؟ قِيلَ: قَدْ قِيلَ إِنَّ أُمَّهُ أَسْلَمَتْ.
وَقِيلَ: أَرَادَ إِنْ أَسْلَمَا وَتَابَا (٢).
وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُ أَبِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عُذْرَ خَلِيلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ (٣).
﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيِ: اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ، ﴿يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ أَيْ: يَبْدُو وَيَظْهَرُ. وَقِيلَ: أَرَادَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِلْحِسَابِ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْحِسَابِ لِكَوْنِهِ مَفْهُومًا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ الْغَفْلَةُ مَعْنًى يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْأُمُورِ، وَالْآيَةُ لِتَسْلِيَةِ الْمَظْلُومِ وَتَهْدِيدٌ لِلظَّالِمِ.
(١) حديث ضعيف أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك، في الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء: ٨ / ٣١١، وقال: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة". وعن النعمان بن بشير عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الدعاء هو العبادة"، ثم قرأ: "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" (سورة غافر - ٤٠). أخرجه أبو داود في الصلاة، باب الدعاء: ٢ / ١٤١، والترمذي في الدعوات نفسه: ٩ / ٣١١-٣١٢، وقال: "هذا حديث حسن صحيح" وفي التفسير أيضا، وابن ماجه في السنن، كتاب الدعاء، برقم (٣٨٢٨) : ٢ / ١٢٥٨، وصححه ابن حبان ص (٥٩٥) من موارد الظمآن للهيثمي، والحاكم في المستدرك: ١ / ٤٩١، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ٤ / ٢٧٦. وذكره المصنف البغوي في مصابيح السنة: ٢ / ١٣٨ كتاب الدعوات في الحسان.
(٢) انظر: مسائل الرازي وأجوبتها، ص (١٦٦).
(٣) انظر فيما سبق ص (١٠١) من سورة التوبة.
358
﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ أَيْ: لَا تُغْمَضُ مِنْ هَوْلِ مَا تَرَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقِيلَ: تَرْتَفِعُ وَتَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا.
359
﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (٤٤) ﴾.
﴿مُهْطِعِينَ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: مُسْرِعِينَ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْإِهْطَاعُ النَّسَلَانُ كَعَدْوِ الذِّئْبِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُدِيمِي النَّظَرِ.
وَمَعْنَى "الْإِهْطَاعِ": أنهم لا يلتفون يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا يَعْرِفُونَ مَوَاطِنَ أَقْدَامِهِمْ.
﴿مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ﴾ أي: رافعي رؤوسهم.
قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: الْمُقْنِعُ: الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُقْبِلُ بِبَصَرِهِ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ (١).
وَقَالَ الْحَسَنُ: وُجُوهُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى السَّمَاءِ، لَا يَنْظُرُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ.
﴿لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ أَيْ: لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبْصَارُهُمْ مِنْ شِدَّةِ النَّظَرِ، وَهِيَ شَاخِصَةٌ قَدْ شَغَلَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.
﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ أَيْ: خَالِيَةٌ. قَالَ قَتَادَةُ: خَرَجَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ صُدُورِهِمْ، فَصَارَتْ فِي حَنَاجِرِهِمْ، لَا تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَلَا تَعُودُ إِلَى أَمَاكِنِهَا، فَالْأَفْئِدَةُ هَوَاءٌ لَا شَيْءَ فِيهَا، وَمِنْهُ سُمِّيَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ هَوَاءٌ لِخُلُوِّهِ.
وَقِيلَ: خَالِيَةٌ لَا تَعِي شَيْئًا وَلَا تَعْقِلُ مِنَ (٢) الْخَوْفِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: جَوْفَاءُ لَا عُقُولَ لَهَا، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ أَجْوَفَ خَاوٍ هَوَاءً.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ" أَيْ: مُتَرَدِّدَةٌ، تَمُورُ فِي أَجْوَافِهِمْ، لَيْسَ لَهَا مَكَانٌ تَسْتَقِرُّ فِيهِ.
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْقُلُوبَ زَائِلَةٌ عَنْ أَمَاكِنِهَا، وَالْأَبْصَارَ شَاخِصَةٌ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ﴾ خَوِّفْهُمْ، ﴿يَوْمَ﴾ أَيْ: بِيَوْمَ، ﴿يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ﴾ وَهُوَ يوم القيامة، ١٩٥/أ ﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أَشْرَكُوا، ﴿رَبَّنَا أَخِّرْنَا﴾ أَمْهِلْنَا، ﴿إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ هَذَا سُؤَالُهُمُ الرَّدُّ
(١) قال في غريب القرآن (١ / ٢٣٧) من القرطين لابن مطرف الكناني: "والمقنع رأسه: الذي رفعه، وأقبل بطرفه على ما بين يديه. والإقناع في الصلاة هو إتمامها".
(٢) "من" للتعليل.
إِلَى الدُّنْيَا، أَيِ: ارْجِعْنَا إِلَيْهَا، ﴿نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ فَيُجَابُونَ:
﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ حَلَفْتُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، ﴿مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾ عَنْهَا أَيْ: لَا تُبْعَثُونَ. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ﴾ (النَّحْلِ -٣٨).
﴿وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (٤٦) ﴾.
﴿وَسَكَنْتُمْ﴾ فِي الدُّنْيَا، ﴿فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بِالْكَفْرِ وَالْعِصْيَانِ، قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ. ﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ﴾ أَيْ: عَرَفْتُمْ عُقُوبَتَنَا إِيَّاهُمْ، ﴿وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ﴾ أَيْ: بَيَّنَّا أَنَّ مَثَلَكُمْ كَمَثَلِهِمْ.
﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾ أَيْ: جَزَاءُ مَكْرِهِمْ، ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ﴾ قَرَأَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ: ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ﴾ بِالدَّالِ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِالنُّونِ.
﴿لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ قَرَأَ الْعَامَّةُ لِتَزُولَ بِكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى وَنَصْبِ الثَّانِيَةِ.
مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ مَكْرُهُمْ.
قَالَ الْحَسَنُ: إِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ تَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ مَكْرَهُمْ لَا يُزِيلُ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ كَثُبُوتِ الْجِبَالِ.
وَقَرَأَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالْكِسَائِيُّ: " لَتَزُولُ " بِفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى وَرَفْعِ الثَّانِيَةِ، مَعْنَاهُ: إِنَّ مَكْرَهُمْ وَإِنْ عَظُمَ حَتَّى بَلَغَ مَحَلًّا يُزِيلُ الْجِبَالَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إِزَالَةِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَ شِرْكُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾ (مَرْيَمَ -١٩).
وَيُحْكَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نُمْرُودَ الْجَبَّارِ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ حَقًّا فَلَا أَنْتَهِي حَتَّى أَصْعَدَ السَّمَاءَ فَأَعْلَمَ مَا فِيهَا، فَعَمَدَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَفْرُخٍ مِنَ النُّسُورِ فَرَبَّاهَا حَتَّى شَبَّتْ وَاتَّخَذَ تَابُوتًا، وَجَعَلَ لَهُ بَابًا مِنْ أَعْلَى وَبَابًا مِنْ أَسْفَلَ، وَقَعَدَ نُمْرُودُ مَعَ رَجُلٍ فِي التَّابُوتِ، وَنَصَبَ خَشَبَاتٍ فِي أَطْرَافِ التَّابُوتِ، وجعل على رؤوسها اللَّحْمَ وَرَبَطَ التَّابُوتَ بِأَرْجُلِ النُّسُورِ، فَطِرْنَ وَصَعِدْنَ طَمَعًا فِي اللَّحْمِ، حَتَّى مَضَى يَوْمٌ وَأَبْعَدْنَ فِي الْهَوَاءِ، فَقَالَ نُمْرُودُ لِصَاحِبِهِ: افْتَحِ الْبَابَ الْأَعْلَى وَانْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ هَلْ قَرَبْنَاهَا، فَفَتَحَ
[الْبَابَ وَنَظَرَ] (١) فَقَالَ: إِنَّ السَّمَاءَ كَهَيْئَتِهَا ثُمَّ قَالَ: افْتَحِ الْبَابَ الْأَسْفَلَ وَانْظُرْ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ تَرَاهَا؟ فَفَعَلَ، فَقَالَ: أَرَى الْأَرْضَ مِثْلَ اللُّجَّةِ وَالْجِبَالَ مِثْلَ الدُّخَانِ، فَطَارَتِ النُّسُورُ يَوْمًا آخَرَ، وَارْتَفَعَتْ حَتَّى حَالَتِ الرِّيحُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الطَّيَرَانِ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: افْتَحِ الْبَابَيْنِ فَفَتَحَ الْأَعْلَى فَإِذَا السَّمَاءُ كَهَيْئَتِهَا، وَفَتْحَ الْأَسْفَلَ فَإِذَا الْأَرْضُ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ، فَنُودِيَ: أَيُّهَا الطَّاغِيَةُ أَيْنَ تُرِيدُ؟
قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ مَعَهُ فِي التَّابُوتِ غُلَامٌ قَدْ حَمَلَ مَعَهُ الْقَوْسَ وَالنُّشَّابَ فَرَمَى بِسَهْمٍ فَعَادَ إِلَيْهِ السَّهْمُ مُتَلَطِّخًا بِدَمِ سَمَكَةٍ قَذَفَتْ نَفْسَهَا مِنْ بَحْرٍ فِي الْهَوَاءِ -وقيل: طائر أصابها السَّهْمُ-فَقَالَ: كُفِيتُ شُغْلَ إِلَهِ السَّمَاءِ.
قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ نُمْرُودُ صَاحِبَهُ أَنْ يُصَوِّبَ الْخَشَبَاتِ وَيَنْكِصَ اللَّحْمَ، فَفَعَلَ، فَهَبَطَتِ النُّسُورُ بِالتَّابُوتِ، فَسَمِعَتِ الْجِبَالُ حَفِيفَ التَّابُوتِ وَالنُّسُورِ، فَفَزِعَتْ وَظَنَّتْ أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ حَدَثٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ السَّاعَةَ قَدْ قَامَتْ، فَكَادَتْ تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ (٢).
﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) ﴾.
﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ بِالنَّصْرِ لِأَوْلِيَائِهِ وَهَلَاكِ أَعْدَائِهِ، وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ رُسُلِهِ وَعْدَهُ، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الأرْض وَالسَّمَوَاتُ﴾.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ لِأَحَدٍ" (٣).
(١) ساقط من "ب".
(٢) روى الطبري هذه القصة عن علي، وسعيد بن جبير: ١٣ / ٢٤٤-٢٤٥. وضعف هذه القصة ابن عطية في المحرر الوجيز: ٨ / ٢٦٥ فقال: "وفي هذه القصة كلها ضعف من طريق المعنى، وذلك أنه غير ممكن أن تصعد الأنسر كما وصف، وبعيد أن يغرر أحد بنفسه في مثل هذا".
(٣) أخرجه البخاري في الرقاق، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة: ١١ / ٣٧٢، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب في البعث والنشور، برقم (٢٧٩٠) : ٤ / ٢١٥٠، والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ١٢٢.
361
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ -هُوَ ابْنُ يَزِيدَ-عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ، نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ" (١).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ بِأَرْضٍ كَفِضَّةٍ بَيْضَاءَ نَقِيَّةٍ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ وَلَمْ تُعْمَلْ فِيهَا خَطِيئَةٌ (٢).
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ مِنْ فِضَّةٍ وَالسَّمَاءُ مِنْ ذَهَبٍ (٣).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ خُبْزَةً بَيْضَاءَ يَأْكُلُ الْمُؤْمِنُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ (٤).
وَقِيلَ: مَعْنَى التبديل جعل السموات جِنَانًا وَجَعْلُ الْأَرْضِ نِيرَانًا.
وَقِيلَ: تَبْدِيلُ الْأَرْضِ تَغْيِيرُهَا مِنْ هَيْئَةٍ إِلَى هَيْئَةٍ، وَهِيَ تَسْيِيرُ جِبَالِهَا، وَطَمُّ أَنْهَارِهَا، وَتَسْوِيَةُ أَوْدِيَتِهَا وَقَطْعُ أَشْجَارِهَا، وَجَعْلُهَا قَاعًا صفصفًا، وتبديل السموات: تَغْيِيرُ حَالِهَا بِتَكْوِيرِ شَمْسِهَا، وَخُسُوفِ قَمَرِهَا وَانْتِثَارِ نُجُومِهَا، وَكَوْنِهَا مَرَّةً كَالدِّهَانِ، وَمَرَّةً كَالْمُهْلِ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ دَاوُدَ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ-عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غيرَ الأرض والسموات" فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "عَلَى الصِّرَاطِ" (٥).
(١) أخرجه البخاري في الموضع السابق: ١١ / ٣٧٢، ومسلم في الموضع نفسه، برقم (٢٧٩٢) : ٤ / ٢١٥١، والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ١١٣.
(٢) أخرجه البزار، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في "البعث" مرفوعا، وأخرجه موقوفا: عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ في "العظمة"، والحاكم في المستدرك والبيهقي في البعث. قال البيهقي: "والموقوف أصح". انظر: الدر المنثور: ٥ / ٥٦-٥٧.
(٣) أخرجه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"، وابن جرير، وابن المنذر، وابن حاتم. وانظر: الدر المنثور: ٥ / ٥٧.
(٤) أخرجه ابن جرير عنهما، انظر: التفسير: ١٣ / ٢٥٢ (طبع الحلبي).
(٥) أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة، برقم (٢٧٩١) : ٤ / ٢١٥٠. والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ١٠٧-١٠٨.
362
وَرُوِيَ عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ حَبْرًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ؛ قَالَ: "هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ" (١).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَبَرَزُوا﴾ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٤٩) ﴾.
﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ﴾ مَشْدُودِينَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، ﴿فِي الْأَصْفَادِ﴾ فِي الْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ، وَاحِدُهَا صَفَدٌ، وَكُلُّ مَنْ شَدَدْتَهُ شَدًا وَثِيقًا فَقَدْ صَفَّدْتَهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: صَفَدْتُ الرَّجُلَ فَهُوَ مَصْفُودٌ، وَصَفَّدْتُهُ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ مُصَفَّدٌ.
وَقِيلَ: يُقْرَنُ كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي سِلْسِلَةٍ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ (الصَّافَّاتِ -٢٢)، يَعْنِي: قُرَنَاءَهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُقَرَّنَةٌ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ إِلَى رِقَابِهِمْ بِالْأَصْفَادِ وَالْقُيُودِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَبْلِ: قَرْنٌ.
﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) ﴾.
﴿سَرَابِيلُهُمْ﴾ أَيْ: قُمُصُهُمْ، وَاحِدُهَا سِرْبَالُ. ﴿مِنْ قَطِرَانٍ﴾ هُوَ الَّذِي تَهْنَأُ بِهِ الْإِبِلُ.
وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ ويعقوب " منْ قطرآن " عَلَى كلمتين منونتين ١٩٥/ب وَالْقِطْرُ: النُّحَاسُ، وَالصُّفْرُ الْمُذَابُ، وَالْآنُ: الَّذِي انْتَهَى حَرُّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ (الرَّحْمَنِ -٤٤).
﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ أَيْ: تَعْلُو.
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٥١) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٥٢) ﴾.
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
﴿هَذَا﴾ أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ، ﴿بَلَاغٌ﴾ أَيْ: تَبْلِيغٌ وَعِظَةٌ، ﴿لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا﴾ وَلِيُخَوَّفُوا، ﴿بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أَيْ: لِيَسْتَدِلُّوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ أَيْ: لِيَتَّعِظَ أُولُو الْعُقُولِ.
(١) قطعة من حديث طويل، أخرجه مسلم في الحيض، باب بيان صفة مني الرجل والمرأة، وأن الولد مخلوق من مائهما، برقم (٣١٥) : ١ / ٢٥٢.
Icon