هذه السورة مكية، وقيل أن آيتي ٥٨، ٧١ مدنيتان، وعدد آياتها ثمان وتسعون آية. وقد ابتدأت هذه السورة الكريمة بذكر معجزات خارقة للعادة في الوجود الإنساني، ذلك أن الفلسفة الأيونية كانت قائمة على أن الأسباب وعلاقتها بالمسببات لا تخالف قط حتى بنوا نظرية الألوهية على العلّيّة، وقالوا : إن العالم نشأ عن الله تعالى نشوء العلة من المعلول من غير إرادة من الفاعل المختار، فجاءت السورة في كثير من آياتها بما هو خرق لهذه النظرية. إن من أسباب الخلق أن الشيخ الكبير لا ينجب وأن المرأة العاقر لا تلد فإذا أنجب الرجل الهرم من عجوز عاقر، فذلك خرق لنظرية الأسباب، إذ يوجد الولد من عاقر عجوز لا تنجب ومن شيخ هرم لا ينسل.
وقد ابتدأت السورة الكريمة بذكر نبي الله زكريا﴿ ذكر رحمت ربك عبده زكريا ١ إذ نادى ربه نداء خفيا ٣ قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ٤ وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا ٥ يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ٦ ﴾.
والله تعالى يجيب دعاءه فيقول سبحانه له :﴿ يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ٧ ﴾ ولكن تأثره بمجرى الأسباب العادية يثير استغرابه فيقول :﴿ أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيّا ٨ قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تلك شيئا ٩ ﴾.
ولكن الاستغراب لا يزال يتردد في نفسه فيقول :﴿ رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ١٠ ﴾.
أعطاه ولدا من امرأة عاقر، وكان ذلك خرقا للأسباب في عصر الأسباب، وقد وهبه الله تعالى حبا وحنانا، وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيّا.
ثم جاء بالمعجزة الكبرى الخارقة لمجرد الأسباب والمسببات وبيان أنها لا تلزم الفاعل المختار وهي خلق عيسى من غير أب من عذراء بتول فقال تعالى :﴿ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ١٦ ﴾ ونزل إليها روح القدس جبريل عليه السلام الذي شرفه الله تعالى بأن أضافه إليه ﴿ فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ١٧ قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ١٨ قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ١٩ قالت أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّا ٢٠ قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ٢١ ﴾.
جاءها المخاض وألجأها إلى جذع النخلة، وجاءت الخوارق للعادة متوالية تعلن خرق نظرية الأسباب والمسببات، فتهز جذع النخلة فتساقط رطبا جنيا والماء يجري من تحتها ﴿ فكلي واشربي وقرّي عينا فإما ترينّ من البشر أحدا فقولي إنّي نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ٢٦ ﴾ ولكنهم يجابهونها بما كانت تخشى يقولون :﴿ يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ٢٨ ﴾، ولكن يجيء سر خارق للعادة يشير له الجميع، وهو أن يتكلم من هو في المهد بالحكمة، ﴿ فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ٢٩ قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا٣٠ وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا ٣١ وبرّا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ٣٢ والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ٣٣ ﴾.
كان عيسى ابن مريم عليه السلام معجزة في الحمل به وفي ولادته وفي طفولته في المهد وهو مخلوق عبد الله تعالى، وإذا كان وجوده على غير مجرى العادات فهو بخلقه أدل على قدرة الله تعالى من غيره وإذا عبده النصارى فمن جهلهم ﴿ ما كان لله أن يتّخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ٣٥ ﴾ ولكن من بعده اختلفت الفرق على نحل متباينة فويل لهم من مشهد يوم عظيم﴿ أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ٣٨ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ٣٩ ﴾.
ويجيء في السورة أخبار الأنبياء السابقين وما اقترن برسالتهم من معجزات وما جاءوا به من شرائع، فابتدأ بقصة أبي العرب إبراهيم عليه السلام، وفيها تتجلى محبة الأبناء للآباء فيريد لمحبته أباه أن يجنبه عبادة الأوثان ويدعوه إلى تركها فيقول :﴿ يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا ٤٤ يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ٤٥ ﴾ ويرده أبوه ردا جافيا فيضطر لاعتزاله وقلبه معلق بمحبته وطلبه الهداية له، ويذهب به فرط محبته إلى أن يستغفر له ويقول :﴿ سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ﴾، ﴿ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ٤٩ ﴾.
ثم ذكرت قصة موسى وكيف وهب الله من رحمته معه أخاه هارون نبيا، ثم ذكر أخبار إسماعيل عليه السلام منفردا عن أولاد إبراهيم عليه السلام، وفي هذا إشارة إلى أنه عمود نسب متفرع من إبراهيم عليه السلام وأنه سيكون منه محمد خاتم النبيين ﴿ واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ٤٥ ﴾ وترجع السورة في التاريخ فتشير إلى إدريس عليه السلام ﴿ إنه كان صديقا نبيا ٥٦ ورفعناه مكانا عليا ٥٧ ﴾، ويشير سبحانه إلى النبيين أجمعين :﴿ أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدا وبكيا ٥٨ ﴾ وقد أشار سبحانه إلى أن الخلاف جعل منهم الصالحين، والذين أضاعوا الصلاة ﴿ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا ٥٩ إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا ٦٠ ﴾ وتفصل السورة الكريمة جزاء المتقين وعقاب الكافرين في بيان معجز ككل آيات القرآن وسوره.
وتجئ العبر في الآيات المختلفة الكثيرة، فيذكر الناس بالبعث﴿ أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ٦٧ فوربّك لنحشرهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ٦٨ ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ٦٩ ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا ٧٠ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ٧١ ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ٧٢ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ٧٣ ﴾.
ويضرب الأمثال للمشركين بالذين مضوا من الذين عادوا النبيين وأهلكهم الله، وهم أحسن منهم أثاثا ورئيا.
ويبين الله اهتداء المهتدين وضلال الضالين :﴿ قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يدعون إما العذاب وإما الساعة فسيعملون من هو شر مكانا وأضعف جندا ٥٧ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردّا ٧٦ ﴾.
وتشرح السورة الكريمة نفس الكافر وغروره :﴿ أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ٧٧ أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا ٧٨ ﴾، ثم بين سبحانه أن ذلك مكتوب عليه وأنه سيرث أعقاب هذا القول، ويقول :﴿ واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا ٨١ كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ٨٢ ﴾.
ويبين سبحانه سيطرة الشياطين على الكافرين :﴿ ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ٨٣ فلا تعجل عليهم إنما نعدّ لهم عدّا ٨٤ ﴾.
ويذكر الله الناس جميعا بما يكون يوم الآخرة، ﴿ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ٨٥ ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ٨٦ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ٨٧ ﴾.
وبين مقالة الكافرين ﴿ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ٨٨ لقد جئتم شيئا إدا ٨٩ تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ٩٠ أن دعوا للرحمن ولدا ٩١ وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، ٩٢ إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ٩٣ لقد أحصاهم وعدهم عدا ٩٤ وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ٩٥ ﴾.
وختم السورة الكريمة ببيان المؤمنين، وما كتب لهم من جزاء يوم القيامة، فقال تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ٩٦ فإنما يسّرناه بلسانك لتبشر به التقين وتنذر به قوما لدّا ٩٧ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ٩٨ ﴾.
وهكذا نجد السورة ابتدأت بأن الحكمة الله تعالى اقتضت أن يخلق يحيى عليه السلام من شيخ هرم امرأته عاقر، ويخالف بذلك الأسباب والمسببات، ثم يأتي سبحانه بخلق عيسى عليه السلام من غير أب ليكون وجوده عليه السلام معجزة، وهو عبد من عباد الله ويختمها بالمعجزة الكبرى وهو القرآن، ﴿ فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدّا ٩٧ ﴾.
معاني السورة الكريمة
ﰡ
﴿ كهيعص ١ ذكر رحمة ربك عبده زكريا ٢ إذ نادى ربه نداء خفيّا ٣ قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ٤ وإني خفت الموالي من وراءي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليّا ٥ يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيّا ٦ يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيي لم نجعل له من قبل سميّا ٧ قال رب أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيّا ٨ قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ٩ قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ١٠ فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ١١ يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ١٢ وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا ١٣ وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا ١٤ وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ١٥ ﴾
هذا عصر كثرت فيه خوارق العادات، لأنها كانت تصحيحا للعقول. وإزالة لفكرة خاطئة وقعت فيها الفلسفة التي كانت سائدة في هذا العصر، وهي نظام الأسباب العادية، وترتيب مسبباتها عليها، وأنه هو النظام المطرد المستقر الذي لا يمكن تغييره، وهو النظام الموجود، حتى زعموا أن الله خلقت عنه الأشياء، منفعلة بالعلية، وأنه ليس باختيار من الله تعالى وإرادة، فكل ما في الوجود، جاء منفعلا عن علة وهو علة لغيره، حتى يتوالى كله بنظام العِليّة، فالأب عِلّة لوجود ابنه، إذا كان قويا والأم علّة لوجود ولدها إذا كانت سليمة قوية ليست عاقرا.
وكان لا بد لتصحيح هذه الفلسفة ولبيان بطلانها أن تكون أشياء بغير أسبابها التي استقرت أفهامهم على أنها أسباب طبيعية لها، وفي هذه السورة الكريمة كان أمران فيهما نقض لنظام الأسباب والمسببات يدل على أن الوجود خلق بإرادة مختار، وأن الله تعالى فعال لما يريد :
الأمر الأول : ولادة عاقر وزوجها بلغ من الكبر عتيا.
الأمر الثاني : ولادة ولد من غير أب وإذا كانت الأولى فيها الولادة من أم غير صالحة للإنجاب، فالثانية ولادة من أم لم يثبت عدم صلاحيتها للإنجاب ولكن من غير أب مطلقا صالحا للإنجاب أو غير صالح.
﴿ كهيعص ١ ﴾.
قلنا في الحروف التي تبدأ بها بعض السور : إن معناها قد اختص به علم الله تعالى، ولنا أن نتعرف الحكمة في ابتداء بعض السور بها، وأشرنا إلى أنها تنبه لإعجاز القرآن، وأنه مؤلف من الحروف التي يتألف منها كلامكم ومع ذلك عجزتم أن تأتوا بمثلها، وأنها تنبه الأذهان للاستماع، وقد كان المشركون تعاهدوا على ألا يسمعوا لهذا القرآن ويلغوا فيه :﴿ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ٢٦ ﴾ ( فصلت )، فإذا تليت عليهم تلك الحروف بغِنَّها ومدها نبهتهم فيستمعون إليها، تهجم عليهم الآيات المفهومة المدركة، فيستمعون إليها راغمين غير مختارين وهي أسماء للسور، وذكر الكتاب.
﴿ ذكر ﴾ خبر ﴿ كهيعص ﴾ وهذا يشير إلى أنها الكتاب أو بعضه، و﴿ عبده ﴾ منصوبة بالرحمة ؛ لأن الرحمة مصدر بمعنى المرة من الرَّحْم، ويصح أن يجعل مفعولا ل﴿ ذكر ﴾، على أن تكون إضافة الذكر إلى الرحمة من إضافة المصدر لفاعله، وإنا نرى أن ذلك بعيد ويحتاج إلى تأويل، وما لا تحتاج لتأويل أولى مما يحتاج لتأويل.
﴿ إذ نادى ربه نداء خفيا ٣ ﴾.
أي دعاه دعاء الضارع الخاضع المتوكل، الذي لا يرجو إلا ربه، وعبر بالنداء لأنه طلب منه، التجأ فيه إليه، وهو طلب لشخصه ولأسرته، وقد كان هذا الطلب في ذاته دعاء وعبادة، كما قال تعالى :﴿... ادعوني أستجب لكم... ٦٠ ﴾( غافر )، ودعاه في خفاء، ولذا قال سبحانه :﴿ إذ نادى ربه نداء خفيا ٣ ﴾، و﴿ خفيا ﴾ صفة مبالغة من خفي، أي أنه بالغ في إخفاء دعاءه فلا يعلمه قومه، ولأنه مناجاة لله وضراعة إليه، وهو لا يلتجأ إلا إليه وحده :﴿ واذكر ربّك في نفسك تضرّعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال... ٢٠٥ ﴾ ( الأعراف )، وقال تعالى :﴿ ادعوا ربكم تضرّعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ٥٥ ﴾ ( الأعراف )، وفي هذا إشارة إلى أن الدعاء تضرع وفي الجهر به اعتداء ؛ لأنه يكون فيه دعوة لغير الله وشكوى للناس من ربه.
﴿ قال ربّ إنّي وهن العظم منّي واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ٤ وإنّي خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا ٥ ﴾.
﴿ وهن العظم ﴾، أي ضعف، ووهن العظم دليل على وهن الجسم كله، لأنه عمود الدين وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن منه، كذا قال القرطبي في تفسيره١.
ذكر أولا ما دل على الضعف الحقيقي، ثم ذكر ما يدل ظاهرا على الضعف، وهو أنه يعلوه الشيب فقال :﴿ واشتعل الرأس ﴾ الاشتعال الانتشار، و﴿ شيبا ﴾ تمييز محول عن الفاعل، والمعنى اشتعل شيب الرأس، أي انتشر الشيب فيه، والاشتعال مع أنه بمعنى الانتشار إلا أنه غلب على انتشار النار.
وهنا نجد ثمة استعارة، فقد شبه انتشار بياض الشيب باشتعال النار، إذ يكون الشيب عند انتشاره لامعا كوهج النار، ولأن فيه إفناء الشعر الأسود، كما تحرق النار ما يكون حطبها، ولأنه أمارة الفناء للعمر كما تفني النار ما تحرقه، وأسند الشيب إلى الرأس مع أنه يكون في الشعر من قبيل اسم المحال وإرادة الحال، إذ جلد الرأس هو منبت الشعر ويكون فيه، وإن في هذا النص من البلاغ ما يليق بالقرآن الكريم أبلغ القول في الإنسانية كلها، إذ هو كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإن نسبة الاشتعال إلى الرأس ما يثير الاهتمام فيحاول العقل تعرف اشتعال الرأس فيجيء التمييز ﴿ شيبا ﴾ بما يفيد اشتعال الشعر، ولم يذكر الشعر بل اكتفى بذكر محله.
وقال الله تعالى عن زكريا :﴿ ولم أكن بدعائك رب شقيا ﴾ في هذه الجملة السامية الدلالة على رجائه من الله تعالى، وفيها ذاتها ضراعة، وعبر هنا بالدعاء، وفي الأولى بالنداء للدلالة على أن النداء استغاثة وتلهف ورجاء، ودعاء وعبادة وتقيّ، وذكر ﴿ رب ﴾ في هذه لبيان أن نعمه سبحانه وتعالى موصولة دائما منذ خلقه إلى أن يبعثه نبيا، و﴿ شقيا ﴾ بالأمر إذا تعب فيه ولم ينل ثمرته، أو طرد من خير، والمعنى لم أكن منذ خلقتني بدعائك محروما متعبا، بل كانت نعمة واستجابة دعائي قائمة دائمة موصولة، وفي نفي الشقاء في الدعاء ماضيا تأكيد للرجاء قابلا، وأن ذلك من طرائق الاستجابة والرغبة فيها، وإن ذكر النعمة الماضية شكر لها وإيذان لشكر فاعله.
الاعتراض الأول : أنه في الأثر :"إننا معشر الأنبياء لا نورث"١.
الاعتراض الثاني : أنه إذ يطلب الولد يرثه إنما يعترض على تقسيم الله تعالى للميراث ويستكثر على الموالي ما يأخذوه.
والجواب عن الاعتراض الأول : أن هذا الأثر كان بالنسبة للنبي، وإلا فقد ورث سليمان داوود –عليهما السلام – أو على أنه غالب أمرهم، أو على أن الوراثة هي وراثة العلم والنبوة ولكن ذلك بعيد.
وأما الجواب عن الاعتراض الثاني : فهو أنه لا مضارة في الوراثة، وإنما أراد أن يضم إليهم في تحمل أعباء العلم الذي حمله زكريا، ويؤيد ذلك قراءة خفت بفتح الخاء وتشديد الفاء، والمرأة العاقر التي لا تلد، وقوله :﴿ وكانت امرأتي عاقر ﴾، أي ثبت عقرها ودوامه يدل عليه التعبير ب"كان" الدالة على الدوام والاستمرار، أي أنه لا أصل له في الولادة كبره وعقمها، ولكن رجاؤه من الله تعالى مسبب الأسباب، ولذا قال متجها إليه، لأنه فوق الأسباب الظاهرة ﴿ فهب لي من لدنك وليا ﴾ ( الفاء ) لبيان ترتيب ما بعدها على ما قبلها، فهو مترتب على رجائه في الله تعالى، وترك الرجاء من جهة الأسباب العادية وكان التعبير ب ( هب )، أي أنه هبة مجردة من فضلك وإرادتك أنت الفاعل المختار، وكان قوله ﴿ من لدنك ﴾ تأكيد بأنه من قبل الله تعالى لا دخل للأسباب العادية فيه، بل إنه خرق لهذه الأسباب.
﴿ وليا ﴾، أي يليني ويخلفني في مالي وما أوتيت من علم وحكم وحكمة.
﴿ يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيّا ٦ ﴾.
الوراثة مترتبة على أنه ولي أو هو معنى ولايته عنه، ولذا انفصلت عن الجملة السامية السابقة، لأنها مترتبة عليها أو لأنها بمنزلة السبب، وهذه بمنزلة المسبب، وما الموروث ؟ قالوا : إن الوراثة تكون وراثة في الجسم والعقل والغرائز والصفات الفطرية وبعض المكتسبة، كي تكون الوراثة في المال والعلم والحكمة والسجايا الفطرية، وقد نفى بعض العلماء الوراثة لقول النبي صلى الله عليه وسلم :( نحن معشر الأنبياء لا نورث )١ ولكن الأكثر على أن الوراثة في المال بالنسبة لزكريا عليه السلام هي ثابتة، ولعل ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم غالب ما عليه الأنبياء أو خاص بالمرسلين أصحاب الشرائع منهم كموسى وعيسى ونوح وإبراهيم -عليهم السلام- وإلى هذا نميل، لأنه من المؤكد أنه ورث سليمان داوود بنص القرآن الكريم.
وقوله تعالى :﴿ يرث من آل يعقوب ﴾، ﴿ من ﴾ هنا تدل على الابتداء، أي يرث ميراثا من آل يعقوب.
هذا هو الطلب الأول الذي دعا ربه ضارعا إليه، أما الطلب الثاني فهو أنه خصه بأن يكون مرضيا، أي تكون سجاياه وأعماله وأخلاقه مرضية مستقيمة، ولذا قال تعالى :﴿ وجعله رب رضيا ﴾، ﴿ رضيا ﴾ هنا فعيل بمعنى مفعول، أي اجعله مرضيا عندك، أي أن أخلاقه وأفعاله وصفاته المكتسبة موضع رضا منك، ولم يقل : وكن راضيا عنه، لأنه يطلب ما يطلب في خلق الولي وتكوينه، أي اجعله في تكوينه محاولا رضاك، وأن ترضى عنه، بحيث يتخذ الأسباب لينال رضاك أنت العليم الحكيم فلا يكون شقيا، ولا يكون عصيا بل يكون رضيا منك، ولم يقل : وكن راضيا عنه، لأنه يطلب ما يطلب في خلق الولي وتكوينه، أي اجعله في تكوينه محاولا رضاك، وأن ترضى عنه، بحيث يتخذ الأسباب لينال رضاك أنت العليم الحكيم فلا يكون شقيا، ولا يكون عصيا بل يكون رضيا برا تقيا.
﴿ يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ٧ ﴾.
ابتدأ الإجابة بندائه باسمه إدناء، وعناية وإظهار المحبة واختصاصه، وتمكينا لإجابته في ندائه الضارع، وأردف ذلك النداء المقرب بقوله :﴿ إنا نبشرك بغلام ﴾، ﴿ نبشرك ﴾ أضاف سبحانه التبشير إلى ذاته العلية ذاكرا بضمير المتكلم العظيم فوق كل عظمة الذي لا يتقيد بأسباب الناس وعاداتهم، بل إنه الفعال لما يريد ﴿ بغلام اسمه يحيي ﴾، وتأكيد للتبشير سماه الله تعالى، فسماه الله تعالى، فسماه يحيى، ولهذا الاسم مناسبة واضحة بالنسبة لأبويه، فأبوه شيخ فان، وكأنما رد إليه شبابه في حياة ولده فكان له إحياء، وأمه عاقر، كأنما خلق الله تعالى الحياة في رحم جف فلم يرب جنينا، فكان منه الولد، وذلك بلا ريب خرق للأسباب والمسببات العادية التي فرضها فلاسفة اليونان الذين قارنوا ظهور المسيح عليه السلام ومريم أمه، وزكريا كافلها، و﴿ لم نجعل له من قبل سميا ﴾، أي شبيها في خلاله وسجاياه، فقد كان حصورا من الصالحين وليس له سمي، فالتسمية من الله، وقد سبق يحيى بها كل الأسماء التي سمى بها الرجال.
﴿ قال رب أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا ٨ ﴾.
الاستفهام ليس للاستنكار، فكيف يستنكر نبي قدرة الله تعالى على الأشياء من غير وسائط وأسباب، وهو خالق الوسائط والأسباب، وإنما كان هذا السؤال للتنبيه إلى موضع الغرابة، وليؤمن من لم يكن آمن بقدرة الله تعالى، وأنه لا يحتاج في خلقه إلى وسائط وليسمع الناس بيان الله تعالى أنه هين عليه، وأنه ليس بغريب من الله تعالى، فقد خلق الإنسان ولم يك شيئا، وأن الله تعالى غني عن الوسائط والأسباب، وشكرا لنعمة الله في إجابة الدعاء فقد أجاب سبحانه مع ظهور ما يبعد الإجابة، ولكن ليس على الله ببعيد.
وموضع البعد أنه شيخ فان قد تصلبت عظامه وصار كالحطام الذي لا تجري فيه الحياة، فقد بلغ من الكبر عتيا، وامرأته عاقر لم تنجب ولم يكن من شأن أمثالها في العادة أن تنجب، وقوله :﴿ وقد بلغت من الكبر عتيا ﴾، أي بلغت من كبر السن حدا صرت فيه صلب العظام معروق اللحم، وقد قال الزمخشري في معنى كلمة ( عتي ) واشتقاقها :"أي بغلت عتيا وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود القاحل، ويقال : عتا العود من أجل الكبر والطعن في السن العالية، أو بلغت من مدارح الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا اه١.
وأصل عتى عتوو. كسر ما قبل الواو الأولى فقلبت ثم اجتمعت الواو والياء وكانت إحداهما ساكنة فقلبت ياء وأدغمت الياء في الياء، وقرئت ﴿ عتيا ﴾ بكسر العين وبضمها٢.
٢ اختلف في (عتيا)، فحمزة والكسائي وحفص: بكسر العين، وقرأها الباقون بالضم. الشيخ محمود خليل الحصري – القراءات العشر من الشاطبية والدرة - الشمرلي. مختصرا..
﴿ قال كذلك قال ربك هو عليّ هيّن وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ٩ ﴾.
﴿ كذلك ﴾ خبر لمبتدأ محذوف تقديره مثلا الأمر كذلك، وقائل هذا هو الملك الذي تولى الوحي بين زكريا وربه، أي قال الملك : الأمر كذلك، فقد قدره الله تعالى، وأحكم ما قدر، ثم نقل عن الله تعالى قوله :﴿ قال ربك هو علي هين ﴾ وعبر ب ﴿ ربّك ﴾ للإشارة إلى أنه خالقه ومربيه والقائم على كل أموره، وأنه لا غرابة في أن يكون هذا من الحي القيوم ﴿ هو علي هين ﴾، الضمير ﴿ هو ﴾ يعود إلى ﴿ غلام ﴾ في قوله، ﴿ أنّى يكون لي غلام ﴾ وهو يعود إلى الولد مع وجوب هذه الأحوال التي تجعله قريبا، و﴿ هين ﴾، أي سهل لين لا يثير عجبا ولا استغرابا، و﴿ هين ﴾ تشير إلى أنه لا غرابة فيه، ثم ساق سبحانه بعد ذلك ما يدل على قربه، فقال سبحانه :﴿ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ﴾، وهذه مقدمة قياسية تزيل الغرابة وتبين أنه لا غرابة على قدرة الله تعالى، وتقديره هذه المقدمة هكذا.
وقد خلقتك من قبل هذا ولم تك شيئا، لأني خلقتك من عدم لا بعد شيء، وإذا كان ذلك ممكنا وواقعا وقد وقع فبالأولى يكون الخلق من شيء، وإن كان من أب شيخ وأم عاقر فهما شيء، والخلق من شيء أقرب في الوجود من الخلق من عدم.
﴿ قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ١٠ ﴾.
الآية هنا العلامة التي يعرف بها أن امرأته حملت، وأن الولادة آتية لا ريب، فإن الولد قرة عينه وإنه آت لا محالة لوعد الله تعالى به. وإن الله لا يخلف الميعاد ﴿ قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ﴾، وقد قال تعالى في سورة آل عمران :﴿ قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبّح بالعشيّ والإبكار ٤١ ﴾.
وقد ذكر الأيام في سورة آل عمران، والليالي في سورة مريم، للدلالة على أن العلامة هي ألا يكلم الناس ثلاثة أيام بلياليها، وكان ذكر الليالي في هذه السورة لأنها مكية، وما كان العرب الأميون في مكة يعرفون الأيام إلا بالليالي، حيث يرون القمر فهو شهر الأميين، والأيام الثلاثة قد حبس الله تعالى لسانه عن النطق، فما كان يتكلم إلا بالإشارة، كما قال تعالى في سورة آل عمران :
﴿... ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا... ٤١ ﴾، أي بالإشارة وأوضح الإشارات الكتابة، وقوله تعالى :﴿ سويا ﴾ حال من ضمير﴿ تكلم ﴾، أي سوي الخلق سليم الحواس، أي وحاستك سليمة، ولماذا كانت العلامة الدالة على وفاء الله ببشراه وتنفيذها بالفعل هي حبسه عن الكلام ثلاثة أيام متتابعة، وهو سليم الحواس ؟، تلك إرادة الله تعالى ولا يعلم إرادة الله إلا الله سبحانه وتعالى، وقد نتلمس معرفة بعض أسرار ذلك الحبس فنقول إنه سبحانه وتعالى قد أراد به العتب، لذكر غرابة البشرى، وقد يكون إعفاء لزكريا وامرأته من لجاجة القول عند الفضوليين من الناس، وقد يكون للانصراف إلى العبادة والعكوف في منزله أو المسجد الأقصى، قد يكون لذلك أو لغيره، والعلم عند الله العليم الخبير. ولمّا تأكد مجيء الولد وكان على وشك المجيء، كان التسبيح والتكبير هو شكر الله تعالى، وكان ذلك منه ومن قومه، لأنه ليكون لهم ولي لزكريا، له حنانه وعطفه ومحبته، ولذا قال تعالى :
﴿ فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ١١ ﴾.
﴿ المحراب ﴾ هو المصلى، ويظهر أنه كان يلازمه عندما وعده ربه أو كان قريبا منه دائما، ولذا كان خروجه مبتدأ منه، وسمي المصلى محرابا، لأنه يحارب الشيطان بلزومه فهو مشتق من المحرب، أو يحارب التعب ويأنس فيه بالله والقرب منه، فيكون مشتقا من الحرب والتعب وجهاد النفس.
ومهما يكن اشتقاقه فهو أشرف مكان خرج على قومه منه وأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا، ﴿ فأوحى ﴾ أي أشار إليهم، وكأنه كان إلى محبوس اللسان، كما يدل على ذلك مخاطبته لقومه بالإشارة والرمز، وقد كان هو في ذكر دائم، كما قال تعالى :﴿... واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشيّ والإبكار ٤١ ﴾ ( آل عمران ).
وقد دعا قومه للمشاركة في هذا بالإشارة لشكر الله تعالى لما تأكد من العلامة أن الله تعالى وهبه الولد الذي يكون وليا.
والتسبيح : التقديس، والتسبيح في العشي والإبكار يفيد أنه تسبيح طوال النهار وطرفا من الليل، وكانت دعوة قومه للتسبيح معه، لأنه ذلك الولي الذي جعله رضيا سيكون مصدر خير لهم، ولأنه يكون خلفا من الإيمان بالأسباب والمسببات إلى الإيمان بالله الفعال لما يريد.
﴿ يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ١٢ ﴾.
ناداه سبحانه بالبعيد إعلاء له وتشريفا، وناداه باسمه محبة له وتقريبا، وقد دل ذلك النداء على أنه بلغ حد الخطاب، ولذا تضمن معنى كبير وكمل، وعطف عليه بقوله :﴿ وآتيناه الحكم صبيا ﴾، فالواو عاطفة تحمل على ما تضمنه معنى ﴿ يا يحيى ﴾ من بلوغ الرشد، واستواء الشخصية الإنسانية وذلك أمر خارق للعادة فإن الصبي يشدو في الكمال حتى يبلغ مبلغ الرجال، فيخاطب كما يخاطب الرجال، ولكنه بلغ مبلغ الرجال، وهو مبلغ من يعطيه الله تعالى الحكم، والحكم هنا الحكمة، وذلك كما في كلام حكيم تميم أكثم بن صيفي ( الصمت حكم، وقليل فاعله ) أي الصمت حكمة وقليل فاعله، والكتاب الذي أخذه هو التوراة، فقد كانت التوراة شريعة النبيين الذين جاءوا من بعد موسى يقرءونها وينفذون أحكامها، ويعلمونها للناس ويحكمون بما اشتملت عليه من نظم، فداود وسليمان –عليهما السلام- كانا ينفذان في ملكهما حكم التوراة، ويقيمان ما اشتملت من حدود وقصاص من غير تفريط فيها، ومعنى ﴿ بقوة ﴾، أي خذه منفذا له بقوة لا تخشى فيه لومة لائم، ولا معذرة لأثيم.
﴿ وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا ١٣ ﴾.
ذكر الله تعالى ثلاث صفات هي صفات الكمال لإنسان يعيش في وسط مجتمع يغذيه بماله وعاطفته، ويجنب عنه السوء.
الصفة الأولى : ذكرها الله تعالى بقوله :﴿ وحنانا ﴾، والحنان الشفقة والرأفة والرفق في معاملة الناس، والفيض عليهم من حبه، والحدب عليهم، والواو عاطفة على ﴿ وآتيناه الحكم صبيا ﴾، فذلك بدا فيه منذ كان صبيا، وهو ما أودعه الله تعالى في فطرته، ولذا قال :﴿ من لدنا ﴾، أي أن الله تعالى أعطاه تلك الصفة منه لا بتربية ولا تعليم فهو مهدى حنون شفيق بمقتضى تكوينه الفطري.
والصفة الثانية : الطهارة وذكرها الله تعالى بقوله :﴿ وزكاة ﴾، أي طهارة، وهي طهارة إيجابية فهو طاهر في نفسه، ويفيض بطهارته على غيره، ولذا نقول : إن ( زكاة ) تتضمن طهارة النفس، والفيض على قومه بالصدقات، فتكون طهارة لذاته وطهارة لمجتمعه من الموبقات، فإن الزكاة طهارة للمجتمع.
والصفة الثالثة : التقوى وقد قال تعالى ﴿ وكان تقيا ﴾، أي كانت نفسه مملوءة بالتقوى وهي خوف الله تعالى، وخوف الشر لقومه، فكان نبيا، وكان إنسانا كاملا سوى الخلق والنفس، وتحققت فيه أمنية أبيه ولذا قال تعالى :
﴿ وبرا بوالديه ولم يكن جبّارا عصيا ١٤ ﴾.
هذان الوصفان يضافان إلى الأوصاف الثلاثة السابقة، أول الوصفين إيجابي، والثاني سلبي.
أما الوصف الأول : فهو أنه كان برا بأبويه، وهو استجابة لزكريا، لأنه كان يخاف الموالي من ورائه، فجاءه البر به وبأمه، والذي به تقر أعينهما، ولا يجدون شقوة في عشرته بل يصاحبهما صحبة طيبة كريمة برة.
والوصف الثاني : سلبي، وهو أنه لم يكن جبارا مستكبرا مستطيلا على الناس بقوته أو رهبته، بل كان أليفا متطامنا مطمئن النفس عادلا، لا يرهب، ولا يتجبر، ووصف الجبار بأنه عصى، وكل جبار عصى، لأن يعصى بالبعد عن الناس ويعصى بمجافاتهم، ويعصى بعداوتهم، ويعصى بالظلم، فالظلم مرتعه وخيم، ويشقى فوق ذلك بغضب الله تعالى عليه، وحسب الظلم شقاء، فإنه لا يظلم إلا شقي، ولا يسعى مع ظالم إلا شقي، والعصي فعيل من عصى، من العصيان وهو مبالغة
السلام هو الأمن، والأمن يتضمن الأمن من عذاب الله، والظفر برضاه، وهو أكبر ما يأخذه العبد، وهذا الأمن والرضا من وقت ولادته، فهو مبارك آمن يوم ولد، ويوم يموت، ويوم ببعث حيا.
قلنا : إن العصر الذي قارب عيسى هو عصر الإيمان بالأسباب والمسببات العادية حتى ادعى أن الكون نشأ من منشئه على نظام : العلة والمعلول.
وإذا كانت تلك سمة هذا العصر فكان عصر الخوارق المبطلة لذلك التفكير الضال، وقلنا إن يحيى كان حمله خارقا للعادة، لأنه كان من أب بلغ من الكبر غيبا وأم كانت عاقرا لا تنجب.
وعيسى كان من غير أب، بل سبق ذلك خوارق أخرى في الحمل بأمه، وفي كفالتها ومدة حضانتها، فقد كانت وهي في حضانة زكريا تعيش في المسجد محررة له كما نذرتها أمها في أثناء الحمل بها، إذ قالت مخاطبة ربها :﴿ إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ٣٥ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرحيم ٣٦ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ٣٧ هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ٣٨ ﴾ ( آل عمران ).
نرى أن خرق نظام الأسباب والمسببات ابتدأ بما كان من رزق مريم الذي أثار عجب زكريا، وقد رأى الأسباب تطوى ولا تحول بين الله تعالى وما يريد، فدعا ربه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة.
فخرق نظام الأسباب العادية ومسبباتها كان في أم عيسى قبل أن تجيء إرهاصات ولادته، بل كانت هذه هي الإرهاصات الأولى، ولذا كان اصطفاء الله مريم البتول لتكون أم المسيح، إذ قال عز من قائل ﴿ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ٤٢ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ٤٣ ﴾ ( آل عمران )، كانت هذه كلها إرهاصات لما اختارها الله تعالى له.
قال الله تعالى :
﴿ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ١٦ ﴾.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب هو القرآن الكريم، فهو الكتاب الكامل الذي إذا ذكرت كلمة الكتاب انتهت إليه، فهو الجدير وحده بأن يسمى الكتاب، لأنه كامل في نسبته إلى الله تعالى، إذ هو خطابه لعباده، وكامل فيما اشتمل عليه من شرائع وحكم ومواعظ وقصص.
﴿ إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ﴾ النبذ : الطرح والرمي، وانتبذ معناه نبذه نبذا شديدا، والمعنى أنها اعتزلت الناس ونبذتهم، وانفردت لعبادة الله وحده، لا تأنس إلا به، ولا يعمر قلبها إلا بذكره، والمعنى انفردت من أهلها في مكان شرقي بيت المقدس الذي كان فيه محرابها، ومحراب كافلها زكريا عليه السلام
ولذا قال تعالى :﴿ فاتخذت من دونهم حجابا ﴾، والفاء للترتيب والتعقيب، أي أنه صاحب الانتباذ أو أعقبه أن اتخذت حجابا من دونهم يحول بينهم وبينها، فلا يرونها في عزلتها، ولا تراهم، وذلك إحكام للعزلة التي أرادتها بإلهام من الله تعالى، لتكون أمّا لعيسى، وقد كانت في هذه الخلوة الروحية على استعداد لتلقى أمر ربها، وقد قال تعالى في الاصطفاء في السورة آل عمران مخاطبا لها بالوحي، أو بالإلهام الروحي :﴿ وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاء وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ٤٢ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ٤٣ ﴾ ( آل عمران ).
في هذه الخلوة الروحية التي كان يتحدث فيها الملائكة، كان لقاء جبريل الأمين لها، ولذا قال تعالى :﴿ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ﴾، الروح هو جبريل، وقد عبر عنه بروح القدس، وأضيفت الروح إلى الله، لأنه خالقها، ولأنه المختص برسالته إلى خلقه، وكذلك كان التعبير في قوله تعالى :﴿... فنفخنا فيها من روحنا... ٩١ ﴾ ( الأنبياء )، أي جبريل الأمين، والفاء للترتيب، أي أنه بعد أن اتخذت حجابا بينها وبين الناس منتبذة دونهم مكانا شرقيا، أرسلنا إليها في هذه الخلوة الروحية جبريل، فتمثل لها بشرا سويا، أي ظهر لها في صورة رجل سوي مستوى الخلق والتكوين حسن الصورة، وقد جاءها كذلك، لأن البشر لا يرون الملك من الملائكة إلا على صورة البشر، قال تعالى :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ٩ ﴾ ( الأنعام )، لأن البشر بحالهم البشرية لا يستطيعون أن يروا ملكا وهو في صورته الروحية.
﴿ قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ١٨ ﴾.
أي ألجأ إلى الله تعالى حذرة خائفة، وذكرت الله تعالى بوصف الرحمن كأنها تستغيث من الناس برحمة الله تعالى، وأنها في هذه الساعة تلجأ إلى رحمة الرحمن الرحيم، ثم تتجه إلى الذي دنا منها مستنجدة بتقواه، فتقول :﴿ إن كنت تقيا ﴾، طاهرا متصونا مرجوا تخاف الله تعالى وتخشاه، فهي تلجأ إلى الرحمن، وتحثه على أن يخافه ويتقيه، ويكون امرءا يخاف عذابه ويرجو ثوابه، هنا يتقدم الملك الذي تمثل بشرا سويا يعلن حقيقته ومهمته، وأنه ما جاء لينال منها شرا وأن ما سبق إلى وهمها ينفيه نفيا قاطعا، ويزكيها ويقوي اصطفاء الله تعالى كما جاء في سورة آل عمران :﴿ وبرا بوالديه ولم يكن جبّارا عصيا ١٤ ﴾.
﴿ إنما ﴾ أداة حصر، أي لست إلا رسول ربك، أي أنا مرسل من ربك الذي خلقك ويعلم حالك وطهارتك، وأنه اصطفاك من نساء العالمين، لتكوني موضع معجزته الكبيرة وهي خلق إنسان من غير أب، وقوله :﴿ لأهب لك ﴾ اللام متعلقة برسول أي رسالتي لأهب لك، لأكون أداة هبة لله لك، أو طريق هبة الله لك، فليس هو الذي يهب إنما يهب الله تعالى، وهذا معنى القراءة الأخرى ( ليهب لك١ بإسناد الهبة لله تعالى مباشرة، وعلى كلتا القراءتين الهبة من الله تعالى العزيز الوهاب، والرسالة في قراءة ( ليهب لك ) موضوعها الرسالة وحدها.
وقوله تعالى :﴿ غلاما زكيا ﴾، أي غلاما طاهرا ناميا في جسمه ونفسه وروحه، وكل ما يتصل بالنمو الإنساني الكامل.
﴿ قالت أنّى يكون لي غلام ولم يسسني بشر ولم أك بغيا ٢٠ ﴾.
﴿ أنّى ﴾ بمعنى كيف وهي للاستغراب لتأثرها بنظرية الأسباب التي كانت سائدة، ولان هذا هو النظام الذي كانت تعرفه ويعرفه الناس، وموضع الاستغراب أن يكون لها غلام ولم يكن أحد من الرجال قد مسها، أي خالطها مخالطة جنسية بزواج شرعي، أي أنها لم تزف إلى رجل في الحلال، ولم تك بغيا أي امرأة مبغية مقصودة من الرجال، بل كانت عفيفة نزيهة طاهرة، وبغي : قال بعض الصرفيين : إنها على وزن ( فعول ) دخلها الإعلال بأن اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالتسكين فعلت وأدغمت الياء، وعندي أنها على وزن ( فعيلة ) بمعنى مفعول، ولم تلحقها التاء، وذلك مثل قتيل وجريح، والمرأة المتفحشة يقال لها بغي لأنها تُبتغى من الرجال ويطلبونها.
فنفت لذلك السيدة البتول بذلك الزواج، وأن تكون قد زفت لبشر، وأنها لم تكن تبتغي من الرجال، وهذا موضع استبعادها مأسورة بحكم الأسباب العادية، وقد سيطرت النظرية التي تفرض الأسباب والمسببات في كل الوجود.
﴿ قال كذلك قال ربك هو على هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ٢١ ﴾.
﴿ قال ﴾ : أي جبريل، ﴿ كذلك ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك، قد تقرر في علم الله المكنون وقدره المحتوم، فلا تغيير فيه استبعدتيه أو لم تستبعديه، ﴿ قال ربك هو على هين ﴾، أي قال ربك الذي خلقك ولم تكوني شيئا وكلأك وحماك ورباك واصطفاك على نساء العالمين، لهذه الخاصة التي منحك الله تعالى إياها، هو علي الله هين، لأنه يكون أي شيء في الوجود بقوله تعالى :﴿... كن فيكون ١١٧ ﴾ ( البقرة )، فليس خلق شيء بعزيز على الله خالق لا شيء ﴿ ولنجعله آية للناس ﴾ ( الواو ) عاطفة على فعل محذوف يفهم من الكلام ﴿ هو علي هين ﴾ فثبتت قدرتنا الكاملة في تغيير الأسباب العادية ومسبباتها، وإن إرادتنا لا على الغلام، والآية هي الدلالة على قدرة الله تعالى المطلقة على خرق الأسباب والمسببات، فأي دلالة أقوى في الدلالة على أن الله تعالى فعال لما يريد، لا تتقيد بالأسباب والمسببات، كما يتوهم الفلاسفة ومن يلف لفهم ويسير في دروبهم.
﴿ ورحمة منا ﴾، أي أن ذلك الغلام سيكون آية دالة على كمال القدرة الربانية وسيكون رحمة منا، إذ نبعثه بالرحمة والرأفة والتسامح الإنساني.
ويقول سبحانه في بيان أن ذلك أمر محتوم ﴿ وكان أمرا مقضيا ﴾ قررنا بحكته، وفي حدود قدرتنا، ونفذناه بحكمتنا العالية التي لا تعلو إليها مدارك البشر، إنه هو العليم الخبير السميع البصير.
جاء في بعض الروايات أنها حملت بنفخ جبريل في بعض ثيابها، فروى أن جبريل عليه السلام حين قال لها :﴿ كذلك قال ربك هو علي هين ﴾ نفخ في جيب درعها، وعن ابن عباس أخذ جبريل ردن قميصها١ فنفخ فيه حملت من ساعتها بعيسى، وإن هذا يتلاقى مع قوله في سورة الأنبياء :﴿ والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا... ٩١ ﴾ فهو لم ينفخ في الفرج، ولكن نفخ في مريم ذاتها، وذلك بالنفخ في فتحات من قميصها، وعلى أي حال الكلام في ذلك ليس ذا جداء، فإن جبريل روح من الله تعالى وليست له خواص الآدمي، بل له الخواص الروحية التي لا تتصل بالمادة.
قيل : كان الحمل بعيسى ومريم في نحو الثالثة عشرة من عمرها، ولا يهمنا مقدار سنها، إنما يهمنا أنها كانت عذراء وأنها حملت من غير زوج مطلقا، بل جاء حملها أمرا خارقا لنظام الأسباب والمسببات الذي كان يؤمن به الفلاسفة، ولا يؤمنون بأن الله فعّال لما يريد، فجاءت ولادة عيسى
من غير أب أمرا خارقا لهذا النظام، ولذا قال الشهرستاني : بحق إن عيسى بوجوده معجزة في ذاتها.
وعندما أحست بالحمل واعتزلت الناس وانفردت عنهم، وانتبذتهم في مكان قصي بعيد وشددت في نبذهم وعدم الانغمار في جمعهم، لأنها صارت تصاحب من نفسها من يؤنسها في وحدتها، وهو الحمل الذي تسعد به كل امرأة في هذه الدنيا، ولذا قال تعالى :﴿ فانتبذت به ﴾، أي انتبذت مصاحبه له ﴿ مكانا قصيا ﴾، ﴿ مكانا ﴾ ظرف، أي في مكان ﴿ قصيا ﴾ بعيد عن الناس حتى لا يروها فيقلقوها بفضولهم، وفي الناس في كل العصور فضول، يقولون فيه ما لا يعنيهم ولا يهمهم.
ولكن لابد من المواجهة عندما ترجع إليهم حاملة معها غلاما طاهرا زكيا ناميا.
ولم يذكر علماء الأخبار شيئا يتعلق بمدة حمله، فكان ذلك على مجرى المعتاد في الحمل وهو تسعة أشهر حتى يأخذ الجنين أدواره كلها علقة ثم مضغة فعظاما، ثم تكسى العظام لحما، وكان الأمر الخارق للعادة أنه لم تكن نطفة في قرار مكين تولدت عنها العلقة، والنفخ في القميص من روح الله جبريل لا يوجد نطفة، ولكن روى عن ابن عباس – رضي الله عنهما- ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال، قال القرطبي : لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل، ولعله يؤيد ذلك النظر العطف بالفاء في الحمل ثم في الانتباذ ثم في مجيء المخاض، ولا مانع عندنا من قبول ذلك، ولكن لا دليل عليه، وإن صح يكون أمرا خارقا آخر، ولم يذكر ما يدل عليه من القرآن ولا السنة المرفوعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
﴿ فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ٢٣ فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ٢٤ وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا٢٥ فكلي واشربي وقرّي عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ٢٦ ﴾
﴿ فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ٢٣ ﴾.
من إخباره إلى حمله على المجيء وساقه إليه غير مختار فيه، ولذا كان معناه ألجأها المخاض وهو الطلق عند النساء أو مقدمة الولادة، وكان إلجاؤها إلى جذع النخلة، لأنها احتاجت إلى شيء تعتمد عليه وتتعلق به لشدة الحمل وكره الولادة كما قال في الولادة وصعوبتها﴿... ووضعته كرها... ١٥ ﴾ ( الأحقاف )، وهو صعوبتها واحتمالها بعسر شديد، وهو في ذاته كره، ولكن الوالدة تتحمله لمحبة الولد وشغفها فيه.
وجذع النخلة عادة يكون يابسا سواء أكانت النخلة مثمرة أم كانت غير مثمرة، وسواء أكانت في أرض زراعية أم كانت غير زراعية، والنخل يكون في الأرض غير الزراعية، و"أل" للجنس كقولك : ادخل السوق واشتر شيئا، فليس ثمة سوق معينة، ولا تكون للعهد، لأنه لم تذكر من قبل شجرة، ولا يكون في الذهن شجرة معينة.
وقد كانت مريم العذراء البتول في كربين :
الكرب الأول : احتملته ورضيته بحكم الفطرة وهو كره الولادة كما ذكرنا.
والكرب الثاني : العار الذي زعمته ويستقبلها، فإنها البريئة الطاهرة تستقبل اتهاما وهي البريئة وذلك عبؤه على البريء ثقيل، ولذا قالت :﴿ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ﴾.
تنادي "ليت" الدالة على التمني، وكأنها تقول إنها تتمنى الموت، وتنادي أداة تمنى الموت قبل هذا، لأن ذلك وقت تمني الموت فرارا من عار الاتهام الظالم، وهي البريئة الطاهرة التي اصطفاها رب العالمين.
وأنها ما قالت الذي قالته تململا مما أراد رب العالمين لها من كرامة، وإنما كان ذلك استشعارا من ضعفها وصعوبة الاحتمال، وإن كانت راضية بما قضى الله وبما أمر، غير خالعة ربقة، ولا متمردة على طاعة، ﴿ وكنت نسيا منسيا ﴾، المنسي والنسي : الشيء المنسي، كذبح الشيء المذبوح، نقص الشيء المنقوص، فالنسي الشيء الذي من شأنه أن ينسى، لأنه مهمل في ذاته، والمنسى بالفعل.
وقد قال الزمخشري في هذا الأمر الذي كانت عليه العذراء البتول- محللا الألفاظ – وهو إمام البلاغة : المنسى ما من شأنه أن ينسى ويطرح وينسى كخرقة الطامث ونحوها، كالذبح اسم ما شأنه أن يذبح، قال تعالى :﴿ وفديناه بذبح عظيم ١٠٧ ﴾ ( الصافات )، وعن يونس : العرب إذا ارتحلوا عن الدار قالوا : انظروا أنساؤكم أي الشيء اليسير نحو العصا والقدح.
تمنت لو كانت شيئا تافها لا يؤبه له من شأنه وحقه أن ينسى في العادة، وقد نسى وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو من حقه، وذلك لما لحقها من فرط الحياء ( أي الحال التي توجب الاستحياء ) من الناس على حكم العادة البشرية لا كراهة لحكم الله، أو لشدة التكليف عليها إذ بهتوها، وهي عارفة ببراءة الساحة وبضد ما قرفت به، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام، لأنه مقام دحض١ قلّما تثبت فيه الأقدام : أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم، وفضل باهر تستحق به المدح، ويستوجب التعظيم، ثم تراه عند الناس لجهلهم عيبا يعاب به أو يعنف بسببه، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله تعالى بسببها.
﴿ فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ٢٤ وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ٢٥ ﴾.
﴿ فناداها ﴾ الفاء عاطفة، وهي تفيد الترتيب، وضمير الفاعل يعود على جبريل، لأنه المذكور، وهو روح الله تعالى الذي أرسله الله تعالى :﴿ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ﴾ وقالوا :﴿ من تحتها ﴾، أنه كان قد جعله ﴿ من تحتها ﴾ قابلا للغلام الطاهر عند نزوله كما تستقبل القابلة المولود، وذلك من كلاءة الله تعالى وحمايته لها، إذ كانت معزولة عن النساء وهي عذراء ليس لها تجربة في الحمل والولادة من قبل، فكان من رعاية الله تعالى أن يسخر لها روح القدس، ليكون القريب منها في هذه العزلة وهذا الانفراد عن المعاون والقريب، وقيل : إن ضمير الفاعل يعود على عيسى ويكون ذلك النداء خارقا للعادة ولكن نستبعد هذا، أولا : لأنه لم يكن هنا ذكر للغلام حتى يعود إليه، وثانيا : لأن الله لم يذكره آية خارقة لنظام الأسباب والمسببات. والنداء ﴿ ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ﴾ ( أن ) المدغمة في ( لا ) التفسيرية، أي كان النداء لا تحزني ﴿ قد جعل ربك تحتك سريا ﴾، السري يطلق بمعنى الأمثل الكامل، ويقولون : السري من الرجال هو الأمثل الكامل، ولقد قال الحسن في عيسى عليه السلام : كان والله سريا من الرجال وإن ذلك استثارة لمحبة الأمومة وعاطفتها، إذ إن بشراها بأنه سيكون له شأن أي الشأن، يسري عنها، ويذهب بحزنها، فلا يشغلها ما تنتظره من ملامة كما يكون معها من الغلام الأمثل الذي هو الفرحة التي تذهب الترحة، ويفسر بعض العلماء السري بأنه جدول ماء كان تحت الهضبة التي هي فيها، ونقول ما كان حزنها لطعام وشراب إنما كان حزنها لخشية الملام الذي تتوقعه، وهي البريئة، وتقول ذلك وإن كان ذكر الأكل والشرب قد يرشح لمعنى جدول الماء، وقد روى أن النبي ٍ صلى الله عليه وسلم قد فسر السري بجدول الماء١،
والباء في قوله تعالى :﴿ وهزي إليك بجذع النخلة ﴾ يقول الزمخشري أنها صلة للتأكيد كقوله تعالى :﴿... ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة... ١٩٥ ﴾ ( البقرة ). وأرى أن الباء للدلالة على تسهيل وصول الرطب إليها، ذلك أنها تهز في مكان هو الجذع تتساقط عليها الرطب من عل، وذلك بلا ريب تيسيرا للوصول، فلا تهز من أعلى بل تهز بمكان قريب منها، وهي النفساء والتي تتعبها الحركة الكثيرة.
وقوله ﴿ إليك ﴾ للإشارة إلى قرب المكان الذي تهز منه بشدة إليها، وقال الزمخشري : إن في قوله تعالى :﴿ تساقط عليك رطبا جنيا ﴾ تسع قراءات، وكل يتعلق بحركات الفاء، ولا فرق كبير بين معاني هذه القراءات، ولذا لا حاجة إلى ذكرها ولتراجع في موضعها، والرطب البلح الطيب السهل في تناوله، والجني : القريب الجني، أي أنه لم تمض عليه مدة تفسده، وجاء في الكشاف وقالوا كان من العجوة، وقيل : ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل، وقيل : إذا عسر ولادتها لم يكن لها خير من الرطب.
وقد قال أكثر المفسرين : إن جذع النخلة كان جافا، وهي جافة، ولم يكن فيها ثمر فأثمرت فكان ذلك خارقا للعادة، ونقول : إن الآيات الكريمات الخاصة بالحمل بعيسى عليه السلام وولادته ثرية بالخوارق فلا نزيد عليها إلا ما يثبت بالنص، ولا نفرض من غير نص.
﴿ فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ٢٦ ﴾.
( الفاء ) للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانت البراءة متوافرة، وقد تهيأ الطعام والشراب وكان معك غلام سوي سيكون الأمثل بين الرجال، ﴿ فكلي واشربي وقري عينا ﴾، فكلي من الرطب الجني، واشربي من الجدول السري، ﴿ وقري عينا ﴾ بما وهبك الله تعالى من غلام زكي، وقرار العين سكونها، وإن الإنسان في اضطرابه وخوفه تدور عينه ولا تستقر، فكنّي بقرار العين عن السكون والاطمئنان، فقرار العين يعلن عن قرار النفس، والأمر بقرار العين وإن لم تكن تحت سلطان الإرادة أمر باطمئنان النفس وإبعاد الهواجس المخيفة، وألا تتوقع سوءا ؛ لأن الله معها وقامت الخوارق الدالة على أنه سبحانه وتعالى معها ومن كان الله معه فإنه يجب أن يكون مطمئنا قرير العين والنفس.
ولقد صرح الملك بما يجب عليها لاتقاء فضول الناس قال الملك :﴿ فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ﴾ ( إن ) حرف شرط، و( ما ) تأكيد لفعل الشرط، بدليل التوكيد بالنون الثقيلة، كتوكيد القسم، وهو توكيد لأنها سترى من البشر كثير ولا ترى منهم ومن فضولهم ما لا يسرها، وأومأ إليها بأن تنذر لله تعالى صوما عن الكلام ﴿ إني نذرت للرحمن صوما ﴾ وكأنه أشار إليها أن تنذر الصوم عن القول تقربا إلى الله تعالى، فالسكوت من لغو القول قربة يتقرب بها إلى الله تعالى، وعبر عن الله تعالى بوصفه الكريم ( الرحمن )، للإشارة إلى أن ذلك الصوم من رحمة الله تعالى بها وتقريبه إليها. وهي إذ تقول ذلك لقومها تؤكد بعدها عن لغوهم، وعن سفه سفهائهم، ولذا أكدت النفي بقولها :﴿ فلن أكلم اليوم إنسيا ﴾، أي لن أكلم إنسانا قط طيبا أو فاجرا، برا أو بغيا، ولذا قالت :﴿ إنسيا ﴾، أي منسوبا للإنس، والعلاقة بينه وبين الإنسان أنه إنسي مجرد من غير نظر إلى حاله في تقواه أو فجوره.
﴿ فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا ٢٧ يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ٢٨ فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ٢٩ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ٣٠ وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا ٣١ وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ٣٢ والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ٣٣ ﴾
﴿ فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا ٢٧ يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ٢٨ ﴾.
الفري العظيم القبح فقوله تعالى :﴿ فريا ﴾، أي أمرا عظيما، وهو أنك أتيت بولد لا نسب له، وهو من يكون من زنى، ومن الأدب في التعبير أن يقول عن ولد الزنى إنه ﴿ فريا ﴾، والفري القطع وهو هنا الكذب المقطوع به، وفي بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى في مبايعتهن :﴿.. ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن... ١٢ ﴾ ( الممتحنة )، أي لا يأتين بزنى يفترينه فعلا وقولا.
وقد أرسلوا القول في هذا الافتراء الكاذب عليها، وقد أقر الله نفسها به رأت من عناية الله تعالى بها وإجراء خوارق العادات لأجلها وولدها، وهي شاهدة لها ولولدها الغلام الزكي بالكرامة والإكبار.
﴿ فأشارت إليه كيف يتكلم من كان في المهد صبيّا ٢٩ ﴾.
أشارت إليهم ليستمعوا إلى ما عدوه مادة الاتهام ليعرفوا أنه كان الحمل به أمرا من الله، فأثار ذلك عجبهم، وقالوا مستبعدين مستنكرين إشارتها، ولعلهم جرت في نفوسهم ما هو أبعد مما اتهموا ﴿ كيف نكلم من كان في المهد صبيا ﴾ الاستفهام للإنكار أو الاستغراب، أي غريب أن نكلم من كان في المهد صبيا، وذكرت كلمة ﴿ نكلم ﴾ للإشارة إلى موضع الاستنكار أو لتفسير معنى ﴿ في المهد ﴾، أو للمبالغة في الاستنكار، أي أن الاستنكار لأمرين : كونه ﴿ في المهد ﴾ فهذا عجب، وكونه ﴿ صبيا ﴾، وهذا أعجب أيضا، والمراد ب ( المهد ) الحجر سواء أكان سريرا أم وسادة أم غيرهما
﴿ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ٣٠ وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا ٣١ وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ٣٢ والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ٣٣ ﴾.
كان كلامه الحكيم الفيصل بين الحق والباطل وأبلغ ما يكون ردا لالتهام الذي لا يقوم إلا بمجرى العادات، فتبين لهم أنه فوق مجرى العادات الحاكمة التي يحسبها فلاسفتهم أن الأسباب والمسببات قانون لا يقبل التخلق، ونسوا أن خالق الأسباب والمسببات فوق كل نظام، لأنه خالق كل نظام وفعال لم يريد.
ونلاحظ قبل أن نتكلم في معاني هذه الآيات أنها عندما واجهت القوم لم تقل كما أمرت ﴿ إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ﴾، ولكنها نفذت الأمر بالفعل فلم تتكلم معهم بل أشارت إليه أن يرد، فهي نفذت مدلول الأمر ولم تنطق به ولو نطقت لكان ذلك نقضا للصوم الذي نذرته.
وقد أثار العلماء بحثا حول نطقه صغيرا بهذا الكلام الذي لا ينطق به إلا نبي يوحي إليه، أكان هذا الكلام نتيجة بعثه نبيا، وأنه بذلك بعث وهو صبي في المهد، وقد أجاب الأكثرون عن ذلك بأنه تكلم في المهد ليتحقق وفاء أمه بنذرها، ولتحقق براءة أمه من اتهامها بالزنى، وهي البريئة العذراء البتول التي اصطفاها الله على نساء العالمين، ثم عاد إلى ما يكون عليه الأطفال حتى بلغ المبلغ الذي ينطق فيه من يكون في سن النطق، وأثاروا بحثا حول ما جاء بقوله من أنه أوتي الكتاب، وجعله نبيا، وإيصائه بالصلاة والزكاة، وبره بأمه ونطقه بقوله ﴿ والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ﴾.
وأجيب عن ذلك بأن لك هذا الذي أخبر به سبق بلفظ الماضي، ومعناه للمستقبل كقوله تعالى :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه... ١ ﴾ ( النحل )، وذلك لتأكيد الوقوع، ولأن الأزمان عند الله واحدة، لا فرق فيها بين ماض وقابل، فلكها في علم الله تعالى واحد، ولكن كون بعضها ماضيا وبعضها قابلا إنما هو بالنسبة لعلمنا نحن وحدنا، فالله في علمه المكنون ألهم عيسى عليه السلام في المهد أن ينطق بهذه الأمور على أنها واقعة وهي ستكون لا محالة.
أول قول لعيسى في المهد :﴿ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ٣٠ ﴾ ابتدأ بإظهار العبودية لله سبحانه وتعالى، وكأنه عليه السلام يرد على الذي أخرجوه من مرتبة العبد الخالص الزكي الطاهر إلى مرتبة الألوهية، وهو لن يستنكف أن يكون عبد لله. والثاني : أنه آتاه كتابا يدعو الناس إلى إتباعه، وهو التوراة والإنجيل فهو يدعو إلى العمل بهما، والثالث أنه جعله نبيا. وهذا الجعل في علم الله تعالى أكنّه إلى أن يبلغ من ينبأ ويحمل رسالة وهو بالنسبة لنا الوقت الذي قاله إخبار بالماضي للدلالة على مؤكد في المستقبل.
والكتاب ذكر بالتعريف ب( أل )، وقد أشرنا إلى أنه التوراة والإنجيل، فإن الإنجيل لم ينسخ التوراة، ولكن نسخ بعض أحكامها، وما يغاير فيها لا يؤخذ به، وما لم ينص عليه فيها يؤخذ بأحكامها.
المبارك النافع الهادي المرشد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والداعي إلى الحق والتنزيه، وقد كان عيسى عليه السلام واضح البركات : كان يخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ويحي الموتى، وينادى الموتى فيخرجون من قبورهم وأنزل الله تعالى على يديه المائدة من السماء، على أن تكون عيدا لأولهم وأخرهم، فأي بركة أعظم يعطاه مبارك ؟.
ثم قال :﴿ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ﴾، الإيصاء : الأمر المؤكد الواجب الإتباع أوصاه الله تعالى ﴿ بالصلاة ﴾، ويكنى بها عن إصلاح نفسه وتطهيرها والتقريب من الله تعالى، وأن يكون ربانيا في ذات نفسه، ﴿ والزكاة ﴾ إعطاء الفقير حقه، وتطهير المجتمع من آثام الفقر فكان الإيصاء بالصلاة والزكاة إصلاحا للنفس والمجتمع، فبالصلاة صلاح النفس وتطهيرها لتألف وتؤلف، وبالزكاة يكون التعاون الاجتماعي بين الغني والفقير.
وقد قرر الغلام الطاهر أن ذلك كتب عليه مادام حيا، لا يترخص في ترك الصلاة ولا يسوغ تركها، ولا مسوغ لترك الزكاة إذا توافرت موجباتها.
وإن جعل هذه الأفعال بالماضي لتأكيد حصوله في المستقبل، ولأن الماضي والمضارع والأمر إنما هو بالأزمان التي يتفاوت العلم بها عندنا، أما بالنسبة لله تعالى فعلمه أزلي لا تحده الأزمان.
الأمر الأول : إيجابي وهو بر أمه، وحسن صحبتها والإحسان إليها جزاء ما قالت بسببه فقد وضعته كرها وحملته كرها، وقالت من الأذى النفس والملام وتحملت ما تحملت في سبيل ذلك حتى برأها الله تعالى بكلامه هو، ومهما يكن فقد تحملت قبل أذى كثيرا، فكانت جديرة بحسن الصحبة والإحسان، وهو البر الطاهر الكريم، بالآدمية الروحية.
الأمر الثاني : سلبي، وهو قول تعالى :﴿ ولم يجعلني جبارا شقيا ﴾، الجبار هو الظالم المتكبر المتطاول على الناس بالحق الذي يؤذي الضعفاء ويستعلي عليهم، وقد كان من نعمة الله تعالى التي أنعم الله تعالى على عيسى عليه السلام أنه لم يجعله جبارا، وقد وصف الجبار بأنه شقي مطرود من رحمة الله، وقد كتبت عليه الشقوة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو أنه مبغض إلى الناس يتمنون به النازلات ويتحيّنون له الفرص ليردّوه وهو يتوجّس بنفسه من الناس وممن يحيطون به، فهو في شقاء دائم لنفرة الناس منه، فلا سعادة في نفسه وإن حسبه الناس سعيدا فهو شقي، ولذا قال :"من مشي مع ظالم فقد أجرم١.
ونكرر ما لاحظناه، وهو أن ما جاء على لسان الغلام الطاهر هو ما سيكون له في المستقبل بالنسبة لزمان الإنسان.
هذا بيان لعيسى عليه السلام، بينت الآيات فيه كيف حملت به أمه، وبينت أن الذي نفخ فيها روح القدس، وهو مخلوق من الله تعالى، فيكون ما ينفخه مخلوقا أيضا، فيكون دعوى أنه الله دعوى لا أساس لها من الصحة، بل باطلة في ذاتها، وفيما اقترن بولادته فهو مخلوق كسائر المخلوقات، وإذا كان مخلوقا فهو محدث، وليس بقديم، ولم ينشأ عن الله نشوء العلة من المعلول، كما ينشأ المسبب عن السبب، بل خلقه وأبدعه مختارا مريدا، أنشأه من حيث لم يكن، لذا قال تعالى :
﴿ ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ٣٤ ﴾.
الإشارة إلى المذكور من التبشير به على لسان جبريل عليه السلام ونفخه في مريم من جيب قميصها إلى ولادته ونطفه غلاما زكيا، وإن ذلك كله خارق لنظام الأسباب والمسببات الذي كان يؤمن به فلاسفة الإسكندرية التي ولدت منها ديانة التثليث. ﴿ قول الحق ﴾ هنا قراءتان : قراءة بضم اللام١، ويكون ﴿ قول الحق ﴾ بدلا من ﴿ عيسى ﴾، أي عيسى هو قول الحق، والإضافة من إضافة الاسم إلى الوصف، كقولهم خاتم حديد، أي خاتم هو حديد، وكان عيسى ﴿ قول الحق ﴾، لأنه نشأ بالقول، إذا قال الله تعالى :( كن ) فكان كما قال تعالى :﴿... وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه... ١٧١ ﴾ ( النساء )، وعلى النصب٢ يكون ﴿ قول ﴾ مفعول لفعل محذوف، ويكون حذفه لبيان اختصاصه بأنه قول الحق وتقدير الكلام أخص قول الحق، وأنه خلق بقوله تعالى :( كن فيكون )، كما أشرنا، وكما سيقول الله تعالى فيما يتلو ذلك من آيات بينات، وقوله تعالى :﴿ الذي فيه يمترون ﴾ الامتراء : الشك المقترن بملاحات ومجادلات بل مهاترات أحيانا.
وكذلك كان شخص عيسى عليه السلام موضع ملاحات وخلافات بين طوائف مسيحية، فإنه منذ انعقد مجمع نيقية سنة ٣٢٥ ميلادية والمناقشات جارية حول شخص المسيح عليه السلام، فمن ادعاه بنوته لله تعالى وألوهيته وفرضها على المسيحيين الموحدين، والخلافات والملاحات تجري، فقد ضموا إلى ألوهيته ألوهية روح القدس، ثم اختلفوا أهو أنشأ من الله أم من المسيح أم منهما، ثم كان الخلاف في المشيئة أهي من الناسوت واللاهوت أم منهما، إلى آخر ما اختلفوا، ثم ثبت في النصرانية الأخيرة من قال : إن المسيح شخصية خرافية لا وجود لها، اخترعتها الأفلاطونية الحديثة لتجعل مذهبها دينا من الأديان، فيسهل الإقناع بها، وذلك لتوافق النصرانية المثلثة مع هذه الفلسفة تماما.
٢ انظر المرجع السابق..
﴿ ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ٣٥ ﴾.
نفى سبحانه وتعالى أن يكون له ولد مثبتا له سبحانه بلحن القول وبصريحه أن ذلك ليس من شأنه، ولا من صفات الكمال والجلال، اتصف سبحانه وتعالى بها مخالفا الحوادث فقال :﴿ ما كان لله أن يتخذ من ولد ﴾، أي ما ساغ، وما استقام أن يتخذ من ولد أي ولد كان، عيسى أو غيره، لأنه منزه عن مشابهته للحوادث، ولأنه دليل الاحتياج، والله غني الحميد لا يحتاج لأحد، ولأنه خالق الوجود فنسبة كل موجود إليه كنسبة المخلوق للخالق، ولأنه لو كان له ولد لكانت له صاحبة تلده، ولذا قال تعالى :﴿ بديع السماوات والأرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ١٠١ ﴾ ( الأنعام )، وقد صرح سبحانه تنزيهه عن ذلك فقال تعالى :﴿ سبحانه ﴾، أي تقدست ذاته المتصفة بالكمال، والغنى عن كل البشر، والذي ليس كمثله شيء – عن ذلك :﴿ إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾، أي إذا حكم بوجود أمر أراد أن يوجد تكون إرادته وحده هي الموجدة وحدها من غير أوساط، ولا وسائط، وقد شبه حاله في ذلك في سرعة الإيجاد ومن غير وسائط بما إذا قال كن فيكون لسرعة الإيجاد، ولأنه وحده الفعال لما يريد، فلا مكان لغير إرادته سبحانه.
﴿ وإن الله ربّي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ٣٦ ﴾.
هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله تعالى بأن يقوله بعد أن قص ولادة عيسى عليه السلام وامتراء الناس في أمره، وقد ادّعوا بنوته وألوهيته، فأمر نبيه أن يقرر الحق في العبادة فقال، ﴿ وإن الله ربي وربكم ﴾، أي إن الله تعالى خالقي وخالقكم، والقائم على شؤوني وشؤونكم، وإن ذلك يقتضي أن نعبده، ولذا بعد أن قرر الربوبية أمر بالعبودية له سبحانه وتعالى وحده، لأن الألوهية تلازم الربوبية، وفي ذلك إبطال لأوهام المشركين الذين يقرون لله تعالى بالخلق والربوبية، وأنه رب السماوات والأرض وما بينهما، ومن فيهما، وما فيهما من خلقه، ومع ذلك في العبادة يشركون به الأوثان ويتخذونها أندادا له سبحانه وتعالى عما يشركون، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد.
و ( الفاء ) في قوله تعالى :﴿ فاعبدوه ﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فالعبادة مترتبة على الإقرار بالربوبية، لأنه الحق، وإن ذلك هو الصراط المستقيم، ولذا قال تعالى :﴿ هذا صراط مستقيم ﴾ الإشارة إلى عبادة الله وحده وتنزهه عن أن يتخذ ولدا، وأنه لا يليق بذاته المتصفة بالكمال، أي هذا وحده هو الصراط، أي الطريق الموصل إلى الحق، والخط المستقيم هو أقرب الخطوط للحق، ولذا قال تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله... ١٥٣ ﴾ ( الأنعام ).
وهنا قراءتان في قوله تعالى :﴿ وإن الله ربي وربكم فاعبدوه ﴾ قراءة بكسر ﴿ إن ﴾ وقراءة أخرى بفتحها١، وعلى القراءة الأولى كان ما قلناه في معاني القرآن، أما على القراءة الثانية فإن هنا محذوفا، وهو ( لام ) الجر، أي ولأن الله ربي وربكم فاعبدوه إلى آخر النص الكريم، وتكون الفاء للتصريح بما تضمنه المحذوف.
﴿ فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ٣٧ ﴾.
كانت آخر الآيات السابقة لهذه الآية قوله تعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم تذكر النسبة إليه لأنه ملاحظ في كل خطاب في بيان ما يجب بيانه :﴿ وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صرا ط مستقيم ٣٦ ﴾، قد بين سبحانه أن عبادة الله تعالى وحده هي الصراط المستقيم، ومن حاد عنه زاغ وضل عن الهداية، ولكن هل تلقاه الناس بالطاعة والخضوع، فقد ضلوا في ذلك ضلالا بعيدا، فمنهم من أشرك، ومنهم من قال أنه اتخذ ولدا، واختلفوا في ذلك على فرق شتى، ولذا قال تعالى :﴿ فاختلف الأحزاب ﴾، ( الفاء ) عاطفة على ما قبلها في قوله تعالى :﴿ هذا صراط مستقيم ﴾ وهو عطف عملهم واعتقادهم على الاعتقاد المستقيم الذي لا ريب فيه.
و﴿ الأحزاب ﴾ جمع حزب، وهو الجماعة التي تنتحل نحلة وتتميز بها وتناصرها، وتؤيدها وتنحاز بها عن غيرها، وتدافع عنها وتلاحى دونها، والكافرون أحزاب ونحل متباينة، فالنصارى طوائف، واليهود طوائف، والمشركون طوائف، فمنهم عبدة الأوثان، ومنهم عبدة النيران، ومنهم عبدة الشمس، ومع أن الطريق واضح هو المستقيم اختلف الكافرون ذلك الاختلاف، على نواح شتى وأهواء متباينة، فكلمة ﴿ الأحزاب ﴾ ليست مقصورة على فرق النصرانية، إنما المراد بها كل الذين أشركوا مع الله سواء أكان ما أشركوه صنما أم شمسا أم نارا أم شخصا، وحزب الله هم المؤمنون، كما قال تعالى :﴿... أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ٢٢ ﴾ ( المجادلة )، والمؤمنون ليسوا داخلين في هذه الصفة ﴿ الأحزاب ﴾، وقد اختلفوا على نحو ما أشرنا، وصدق قول الله تعالى :﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله... ١٥٣ ﴾ ( الأنعام )، فغير صراط الله تعالى مثارات الشيطان ومنازله.
و﴿ من ﴾ في قوله :﴿ من بينهم ﴾ قال كثير من المفسرين زائدة، ونحن لا نرى في القرآن حرفا زائدا، بل نقول إن ﴿ من ﴾ تؤدي معنى سليما فليس قولك ( فاختلف الأحزاب بينهم )، كقوله تعالى :﴿ فاختلف الأحزاب من بينهم ﴾ إن ﴿ من ﴾ تدل على أن اختلاف الأحزاب صادر عنهم هم، ومن بينهم، فإن التناحر بين الأهواء والأوهام الضالة هو الذي صدر عنهم هم، ومن بينهم، ومن مضطربهم، وقد حكم الله تعالى بمآلهم في هذا الاختلاف فقال :﴿ فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ﴾ ( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فالهلاك في المشهود من أوهامهم وأهوائهم، والمشهد هو اسم مصدر بمعنى شهود يوم عظيم في أنه حساب وفيه العقاب، والجزاء بجهنم.
والمعنى الذي يظهر لنا، فهلاك شديد يوم الشهود العظيم، وهو يوم القيامة وقال :﴿ للذين كفروا ﴾ فأظهر في موضع الإضمار لإثبات سبب الهلاك، وهو الكفر والجحود، وتحكم الأوهام وسيطرة الفساد الفكري والضلال المبين.
﴿ فاسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمين اليوم في ضلال مبين ٣٧ ﴾.
﴿ اسمع بهم وأبصر ﴾ لفظان يستعملان للتعجب في اللغة العربية، أو لأفعل التفضيل المستفهم به، أي ما أسمعهم وما أبصرهم، فهم حديد والسمع والبصر، والمعنى أن حالهم في قوة سمعهم للحق وقوة بصرهم وإدراكهم للحق حال المتعجب منه المستغرب وليس ذلك بعجب على الله ولا غريب عليه سبحانه، لأنه عليم بكل شيء، فليس شيء بغريب على علمه سبحانه، إنما الغرابة علينا، وهذا غير حالهم اليوم لأنهم اليوم في ضلال مبين واضح، أي حالهم يوم الشهود، فقد زالت الغفلة وزال الضلال، وزالت الأوهام التي أضلتهم، ولذا قال تعالى :﴿ لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ﴾، ﴿ اليوم ﴾ المراد به الحياة الدنيا، فهم في ضلال في الحياة الدنيا بسبب الأهواء وتحكمها في مداركهم وأحاسيسهم، والأوهام وسيطرتها على عقولهم، ونقول : وضع الظاهر موضع الضمير، لإثبات أن السبب في هذا الضلال هو ظلمهم لأنفسهم بعدم الإدراك الصحيح، وظلم العباد للنبيين، وفتنة المؤمنين، الاستدراك في قوله تعالى :﴿ لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ﴾، لبيان التفاوت بين حدة سمعهم وبصرهم التي توجب العجب، وحالهم في هذا اليوم في الدنيا التي كانوا فيها عمين عن الحق، ووقوعهم في الضلال المبين البين الواضح.
﴿ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ٣٩ ﴾.
﴿ وأنذرهم يوم الحسرة ﴾، أي أنذرهم بهذا اليوم الذي يكون حسرة ﴿ إذ قضي الأمر ﴾، إذ تبين أمر الله تعالى قضاه، بأن قدره وجوده ونفذه، و﴿ إذ ﴾ ظرف متعلق بالحسرة، أي أنه الحسرة لأنه قضي الأمر وجاء التنفيذ. والحسرة، لأنهم فرطوا في أمورهم ويقولون يا حسرتنا على ما فرطنا في جنب الله، والحسرة، لأنهم رأوا العذاب وعاينوه، والحسرة لأنهم أنكروه، وهم اليوم قد عاينوه، والحسرة لأنهم خسروا أنفسهم وكذبوا بلقاء الله.
وقد وصفهم الله تعالى بوصفين أحدهما ذريعة الآخر :
الوصف الأول : أنهم في غفلة فقال تعالى :﴿ وهم في غفلة ﴾ الجملة حالية أي والحال أنهم في هذه الدنيا في غفلة، والتعبير بقوله :﴿ وفي غفلة ﴾ يفيد أنهم قد استغرقتهم الغفلة واستولت عليهم وحاطتهم كأنها ظرف لهم قد استقروا فيه، والغفلة قد جاءتهم من غرور بالحياة الدنيا، ومن استيلاء الأهواء على نفوسهم، فصاروا لا يصدرون إلا عنها، وجاءتهم من سيطرة الأوهام عليهم، وجاءتهم من أنه لا مرشد ولا هادي، وليس فيهم أمر بمعروف أو نهى عن منكر.
والوصف الثاني : أنهم ﴿ لا يؤمنون ﴾ وعبر الله سبحانه عن ذلك بقوله تعالى :﴿ لا يؤمنون ﴾ وهذه الجملة حالية كأختها، والحال أنهم لا يؤمنون، وكان النفي نفيا للمضارع للإشارة على استمرارهم على الإيمان وهو نتيجة للغفلة التي أحاطتهم وسكنوها، لأن الإيمان بصر الحقائق وإدراك لها.
﴿ إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون ٤٠ ﴾.
أخبر الله تعالى عن نفسه بعبارة تدل على عظمة الله وجلاله، وأكد ضمير ﴿ إنا ﴾ب﴿ نحن ﴾، للدلالة على أنه لا باقي إلا الله تعالى، والجميع ميت، كما قال تعالى مخاطبا نبيه :﴿ إنك ميت وإنهم ميتون ٣٠ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ٣١ ﴾ ( الزمر )، وقوله تعالى :﴿ نرث الأرض ومن عليها ﴾، أي نحن نرث الأرض ونرث من عليها، فموضع ﴿ ومن ﴾ في قوله تعالى :﴿ ومن عليها ﴾ النصب ب﴿ نرث ﴾، ومعنى وراثتها أنه هو وحده الباقي بعد الأرض ومن فيها فكلها إلى نهاية، وقد شبه وجوده العزيز الجبار بأنه يكون بعدها، كي يكون الوارث بعد المورث، فالمورث يموت والوارث يموت بعده، ولكن الله حي لا يموت، وليس المعنى أن الله يرث الأرض ويرث ما ترك الناس من المال والنسب، فالله غني من المخلوقات كما قال تعالى :﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ١٥ ﴾ ( فاطر )، ثم قال :﴿ وإلينا يرجعون ﴾ وهو البعث، وقدم الجار والمجرور عن الفعل الذي يتعلق به، لبيان أن المرجع إليه وحده، وهو وحده مالك يوم الدين يوم الجزاء، يوم القيامة، يوم توفى كل نفس ما كسبت.
ذلك طرف من أخبار أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وقد ذكرت أخبار إبراهيم في عدة مواضع من القرآن الكريم، ولا تكرار فيها قط، بل ذكر في كل موضع جزء من أخباره يخالف الآخر، ففي سورة البقرة كانت أخبار بناء الكعبة وصلة إبراهيم بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وفي آخرها خبر إحياء الموتى، وفي سورة الأنعام كان تأمله في النجم والقمر والشمس حتى اهتدى إلى الله، وفي سورة التوبة كان وصف إبراهيم المصور لشخصه الكريم بأنه أواه حليم، وفي سورة إبراهيم كانت دعوته لذريته :﴿ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ٣٧ ﴾، وفي السورة نفسها كانت قصة هبة الله له إسماعيل وإسحاق :﴿ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق... ٣٩ ﴾، وفي سورة الأنبياء كانت قصة تحطيمه الأوثان وإلقائه في النار :﴿ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ٦٩ ﴾ وهكذا نرى أنه لا تكرار في القرآن وقصصه، وإذا كانت قصة إبراهيم وموسى ونوح وغيرهم قد تكرر ذكرها في القرآن فليس تكرارا لأخبار واحدة، وإنما تتناول الأجزاء نواحي مختلفة، ولا تتكرر ناحية.
قال تعالى في ابتداء قصة إبراهيم :
﴿ واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ٤١ ﴾.
الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب هو القرآن، و( ال ) للاستغراق، المعنى أي أنه هو الكتاب الجدير بأن يسمى كتابا، وهو الكامل والمستغرق لكل صفات الكمال، والقصر فيه قصر إضافي، أي أنه لا كتاب يوصف بالكمال المطلق سواه، وقوله تعالى :﴿ إنه كان صديقا نبيا ﴾ والصديق هو البالغ أقصى درجات الصدق في القول والعمل والإذعان للحق، وهو الذي يصدق الحق إذا ألقي إليه، لا يمارى فيه ولا يمتنع عن الإقرار به والإذعان له، وأي دلالة أبلغ من التصديق والإذعان عندما رأى في المنام أنه يذبح ابنه فهم بأن يذبحه، وقد قال تعالى في ذلك :﴿ فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ١٠٢ فلما أسلما وتله للجبين ١٠٣ وناديناه أن يا إبراهيم ١٠٤ قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ١٠٥ إن هذا لهو البلاء المبين ١٠٦ وفديناه بذبح عظيم ١٠٧ وتركنا عليه في الآخرين ١٠٨ سلام على إبراهيم ١٠٩ ﴾ ( الصافات ) وهو نبي من أولي العزم من الرسل، وجد خاتم النبيين.
وإن هذا الجزء من قصة إبراهيم فيه علاقة الأبوة بإبراهيم واحترامها والتلطف فيها والرفق بها والمحبة لها.
﴿ إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ٤٢ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ٤٣ ﴾.
ابتدأ بندائه بقوله :﴿ يا أبت ﴾ وهو نداء المحبة العاطفة المقربة، وذلك شأن الداعي الكامل يبتدئ بما يقرب ولا ينفر.
و﴿ إذ ﴾ متعلقة ب ﴿ اذكر ﴾، أي اذكر حال دعوته لأبيه تلك الدعوة الرفيقة المقربة الميسرة الهادية المرشدة، وأمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يذكرها في الكتاب لتتلى على الناس ويأخذوها سنة في الدعوة إلى الحق، وخصوصا الأقربين الأدنين لهم، والتاء في قوله تعالى :﴿ يا أبت ﴾ عوض عن ياء المتكلم، وذكرها بدل الياء مبالغة في التلطف والرفق، بل ربما يكون فيها من تدلل الأبناء على الآباء معنى محبب مقرب.
وابتدأ بأن قال غير موجه لوما ولكن ساق إرشاده مساق الاستفهام المستدني، لا مقام الآمر المستعلي سائلا له سؤال المستفهم في سياقه، ولكن المنبه بأرفق تعبير :﴿ يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ﴾، لقد وصف معبوده وهو الصنم بثلاث صفات سلبية :
الوصف الأول : أنه لا يسمع، وكيف يعبد من يسمع ما لا يسمع، فهو أقل كمالا منه وهو عاجز، لأن عدم السماع عجز.
الوصف الثاني : أنه لا يبصر وأنت تبصر، ومن يبصر أكمل مما لا يبصر، فكيف تعبد هذا الذي ينقص عنك، وأنت خير وأفضل منه.
الوصف الثالث : أنه لا يدفع عنه ضرا ولا يجلب له نفعا، وهذا قوله تعالى :﴿ ولا يغني عنك شيئا ﴾، أي لا يدفع شيئا، ومجموع هذه الصفات السلبية تفيد أنه لا يجلب لا أي نفع، لأنه فاقد لصفات الله التي يكون بها القدرة على النفع.
وقد قال الزمخشرى في ذلك :( انظر حين أراد أن ينصح أباه، ويعظه فيما كان متورطا في من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز من الغباوة التي ليس بعدها غباوة، كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق، مع استعمال المجاملة والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا )، حدث أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام إنك خليلي، حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس وأدنيه جواري )١.
يقول العلماء التحلية قبل التخلية، بين أن الأوثان عاجزة في ذاتها عن جلب النفع ودفع الضرر، وذلك كاف للامتناع عن عبادتها، فإنما يعبد العاقل من هو أعلى منه قدرة وفهما وإدراكا، وهذه دونه في الخلق والتكوين، فمن يعبد ؟ أخذ يبين له المعبود فقال بنداء المتوسل المتحبب :﴿ يا أبت إني قد جاءني من العلم ﴾ لم يرم أباه بالجهل، وقد منعه الخلق الودود من ذلك، بل قال له ﴿ جاءني من العلم ﴾ والمعرفة ﴿ ما لم يأتك ﴾ تعفف عن أن يرميه بالجهل، وتعفف عن ادعاء العلم الكامل حتى لا يكون مستطيلا بفضل علمه على أبيه ومستعليا عليه، بل قال :﴿ من العلم ﴾، أي بعض العلم، وذلك يجعلني أدعوك إلى الحق، وذكره العلم داع لأن يتبعه، لأن الأب الرفيق العاطف يحب لابنه العلم، ولو كان أعلى منه، وإذا كان له بعض الذي يسره، ولا يضره، فإنه يتبعه، ولذا قال :﴿ فاتبعني أهدك صراطا سويا ﴾ ( الفاء ) هنا تفصح عن شرط مقدر تقديره : إذا كنت قد أوتيت هذا العلم فاتبعني أهدك، كما يتبع السائر في طريق لا يعلمه الرائد الخريت١ العارف.
والصراط : الطريق كما ذكرنا، والسوي : المستوى الذي لا عوج فيه ولا أمت، وقد قال الزمخشري في هذا النداء من ذلك الابن البار بأبيه : ثنى عليه السلام بدعوته إلى الحق مترفقا متلطفا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهبني وإياك في سير وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجيك من أن تضل وتتيه ).
﴿ يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا ٤٤ ﴾.
ناداه بالأبوة وكرره تعطيفا وتلطيفا وتقربا، وكان النهي﴿ لا تعبد الشيطان ﴾ وعبادة الشيطان في أنه أطاع غوايته التي توعد بها عباد الله فقال :﴿... لأغوينهم أجمعين ٧٢ إلا عبادك منهم المخلصين ٧٣ ﴾ ( ص )، فطاعته في معنى عبادته، ولأن الأهواء والأوهام هي التي سهلت عبادة الأحجار وذلك كله من الشيطان، بل هو من غوايته، والشيطان عدو الله، وعدو آدم فهو عدو الإنسانية يرديها ويوقعها في أشد الضلال، ويبعد من الحق، ولذلك كان النهي، وهو في ذاته يكون بقوة لا تخلو من مساعدة، ثم وصف الشيطان بأنه عاص مبعد عن رحمة الرحمن فقال :﴿ إن الشيطان كان للرحمن عصيا ﴾، عصي على وزن فعيل من عصى، أي أنه مبالغ في العصيان، وعبر عن الذات العلية ب ( الرحمن ) للإشارة إلى أن عصيان الشيطان رحمة، وطاعته نقمة، فمن عصاه فقد رحم، ومن أطاعه ألقى بنفسه في وهدة الشقوة، وبعد عن السعادة ورحمة الرحمن.
ويقول الزمخشري في ذلك أيضا :( ثم ثلث بتثبيطه ونهيه كما كان عليه بأن الشيطان الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزي ونكال. وعدو أبيك آدم، وجنسك كلهم هو الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزي ونكال. وعدو أبيك آدم، وجنسك كلهم هو الذي ورطك في هذه الضلالة، وأمرك بها وزينها لك فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان، إلا أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره ولم يلتفت إلى ذكر معاداته لآدم وذريته، كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه ).
ونقول إن الشرك هو أعظم ما وسوس به إبليس وألقى به الأوهام في نفس، وما دونه قد ناله الغفران، وقد قال تعالى :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... ٤٨ ﴾ ( النساء ).
﴿ يا أبت إني أخاف أن يمسّك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ٤٥ ﴾.
ناداه أيضا نداء المتلطف المتحبّب المدني ما بينهما ﴿ يا أبت ﴾ قال مفرطا في شفقته وإن لم يكن في شفقة الابن على أبيه إفراط قط، وخصوصا في مقام الحرص على نجاته، قال :﴿ إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ﴾، هنا إشارات بيانية، إذا الظاهر إصابته بالعذاب المقرر للمشركين، وهو أن يدخل الجحيم، ولكنه أولا عبر بالمس، وكأنه لا يريد التهويل على نفسه وعلى أبيه بأنه سيصيبه العذاب لذلك الشرك والشرك ظلم عظيم، هذه هي الأولى، أما الثانية أنه ذكر أن العذاب كان من الرحمن. إنه كان ممن من شأنه الرحمة، ولكنه آثر الطريق المعوج فكان العذاب، والثالثة أنه يخشى عليه من أن ينهمك في المعاصي فيكون وليا للشيطان في الدنيا، ويكون قرينا له في الآخرة، وكأنه كان مخيرا بين ولاية الرحمن ورحمته، وشقوة الشيطان وولايته فاختار ولاية الشيطان وصار وليه وساء قرينا.
وكانت عبارته في التخويف في أدب، ولم يصرح بالعقاب الشديد، وإن نبه إليه في شدة، بأنه سيكون ولي الشيطان وقرينه، وبئس ولايته، وأن يكون له قرينا.
﴿ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا ٤٦ ﴾.
﴿ أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ﴾، هذا استفهام إنكاري توبيخي من ذلك الأب المخبط وكان موضوع التوبيخ هو انصرافه عن آلهته وبعد عنها، وكأنه يجب أن يكون مثله منغمرا في ضلال، وهو بذلك يضرب صفحا عن كل ما قاله، ويقول بلسان الحال : سمعنا وعصينا وينقلب عليه بالتوبيخ عن تركه له ولملة آبائه المشركين، وقد أكد التوبيخ بالتأكيد بالضمير بقول :﴿ أنت ﴾ وفي ذلك تأكيد التوبيخ استصغارا لشأنه، وما كان صغيرا، بل كان الكبير بإدراكه وبدعوته إلى الوحدانية، وهو يستنكر أن يرغب عن آلهته، ولم يتعرض لما يدعو إليه ويرغب فيه، وكأنه معرض عنه وعن أدلته وآياته.
وقد أعقب التوبيخ بالتهديد، والإنذار الشديد، في عبارة فيها معنى القسم والتأكيد بمؤكداته﴿ لئن لم تنته لأرجمنك ﴾ الرجم : الرمي بالرجام والحجارة واللام هي الموطئة للقسم واللام في ﴿ لأرجمنك ﴾ اللام التي تكون في جواب القسم، وقد أكد بنون التوكيد الثقيلة وهو تهديد بالقتل بأقسى أنواعه، فهو الضرب بالحجارة حتى يموت إن لم ينته عن هذه الدعوة التي أصابت إيمانه بالأوثان فخيبت رجاءه فيه، وإن كان أمرا غير محمود في نظره المنحرف الضال.
هذا إيعاد إن عاد، ثم حسم الأمر بقوله :﴿ واهجرني مليا ﴾ وقد تضمن التهديد التحذير، كأنه قال له فاحذرني ولذا عطف على الفعل الذي تضمّنه التهديد بالرجم واهجرني مليا، فهي عطف على الفعل الذي تضمنه التهديد بالرجم.
﴿ مليا ﴾، أي ملاوة من الزمن الطويل، ويدعوه أبوه إلى أن يهجره هجرا غير جميل، ولا يهتم بأمره ولا يجالسه ولا يقاربه، وهذه مبالغة في الاستنكار، وقد صم أذنيه عن الحق ولا يريد أن يسمعه.
﴿ سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ٤٧ ﴾.
هو يقابل الإساءة الحسنة، ويعذر أباه في إساءته، لأنه في ضلال بعيد وإفك أثيم قد استغرق نفسه وأعمى بصيرته، وأصابه بغشاوة على قلبه ﴿ سلام عليك ﴾، معناه أمن يفيض عليك وهو تحية له وهو يفارقه ويريد له السلامة في غيبته، وأن يكون في أمن، فهو يفارقه على مودة، وإن كان يقول مقالة القطيعة، وقد قال بعض المفسرين أن ذلك من قبيل قوله تعالى :﴿... وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ٦٣ ﴾ ( الفرقان ).
وربما نرى نحن أن سياق الآية لا يدل على الابتعاد عنه، وليس كقوله تعالى :﴿ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ٥٥ ﴾ ( القصص )، لا نرى ذلك لأن لا ينسجم مع وعده باستغفار الله تعالى له، كما قال :﴿ سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ﴾.
وقد قال الزمخشري : إن استغفار إبراهيم لأبيه كان مشروطا فيه التوبة، ونحن نرى أن سياق الآية لا يدل على اشتراط التوبة بل هو استغفار لمشرك، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ١١٣ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ١١٤ ﴾ ( التوبة ).
وهذا النص ﴿ سأستغفر لك ربي ﴾، هو الموعدة التي وعد إبراهيم أباه بها، وقوله تعالى :﴿ سأستغفر ﴾ السين لتأكيد الاستغفار في المستقبل، ﴿ إنه كان بي حفيا ﴾ الضمير يعود إلى ﴿ ربي ﴾ الذي يكون في موضع عناية واستجابة لي، فمعنى ﴿ إنه كان بي حفيا ﴾، أي كنت موضع رحمته وبره، وأنه لهذا يظن أنه سيجيب دعائي، ولكن تبين له من بعد أنه عدو لله فتبرّأ منه.
﴿ وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ٤٨ ﴾.
"الواو" عاطفة والمعطوف عليه ﴿ سأستغفر لك ربي ﴾، أي إني أخرج عنكم سالما مستغفرا غير هاجر كما أردت، وفي الوقت أسألكم، ﴿ وأعتزلكم ﴾، أي أفارقكم مفارقة مواد محب ولست هاجر لكم ولا مجافيا، ﴿ وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ﴾، أي تعبدون، أعتزلكم وعبادتكم المشركة الآثمة لاجئا إلى الله تعالى، ولذا قال :﴿ وأدعو ربي ﴾، أي أعبده لأنه ربي الذي خلقني القائم على كل أموري.
وإطلاق الدعاء بمعنى العبادة، لأنه التجأ إلى الله تعالى، وهي ضراعة إليه، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( الدعاء مخ العبادة )١، وقد ذكر التصريح بالعبادة بعد ذلك في قوله تعالى :﴿ فلما اعتزلتم وما يعبدون من دون الله ﴾ ﴿ عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ﴾، أي خائبا ضائعا غير مقبول في دعائي وعبادتي، فإن ذلك هو الشقاء الأكبر، وهذا الرجاء كان لفرط إخلاصه لله تعالى، وخشيته من غضبه وطرده، فإن الحبيب دائما يخشى من غضب محبوبه، ويعمل على رضاه ويخشى من غضبه، وخليل الله الذي اختاره الله تعالى خليلا، وقال :﴿... واتخذ الله إبراهيم خليلا ١٢٥ ﴾ ( النساء )، كان أشد ما يخشاه غضب ربه، وأن يرد عبادته فيشفى بهذا الرد، وقال :﴿ عسى ﴾ الدالة على الرجاء تواضعا لله واستصغارا لعبادته، وكان بهذا المخلص البر الحبيب المحبوب، إذ غلب الخوف ليصلح أمره وأنه إذ اعتزلهم حرم من أنس أهله، فوهبه البنين والذرية، ولذل قال تعالى :
﴿ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ٤٩ ﴾.
"الفاء" عاطفة على ﴿ وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ﴾، فالله عوضه عن الغربة الأنس بالولد والأحفاد، أما الولد فإسحاق، وأما الحفيد فيعقوب، وكانوا بذلك فئته التي اعتز بعد الله تعالى بها، وكان أنسه في هذا الاعتزال، ﴿ وكلا جعلنا نبيا ﴾، أي جعلنا كل واحد منهما نبيا، و( كلا ) مفعول مقدم ل ( جعلنا )، وقدم لأهميته، وللإشارة إلى أن بدله من أبيه المشرك الذي نهره وهدده بالرجم ثم طرده محروما من محبته، بدله من هذا أنبياء من ذريته استأنس بهم بعد وحشة الاعتزال.
وقد يقال : لم يذكر سبحانه أنه وهب له إسماعيل وهو أكبر من إسحاق، ويظهر أن ذلك كان وهو مقيم وحده مع أمه هاجر في مكة، فلم يكن له أنس القرب، إلا بعد أن ذهب إليه وأخذا ببناء الكعبة كما قال تعالى :﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل من إنك أنت السميع العليم ١٢٧ ﴾ ( البقرة ).
﴿ ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا ٥٠ ﴾.
الضمير في ﴿ لهم ﴾ يعود إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولم يذكر الموهوب إعلاء لشأنه ولفخامته، وحسبه أنه هبة الله، وأنه من رحمته سبحانه، فكان العقل يذهب في تقديره أعلى المذاهب التي تليق بهبة الله ورحمته، فهي تشمل النبوة، وتشمل الأموال، وتشمل الجاه والسلطان، وتشمل العزة والكرامة، والعلو في الأرض ووراثتها، والإمامة فيها وكل ذلك كان في ذرية إبراهيم، وفي إسحاق ويعقوب والأسباط.
النعمة الثانية التي أنعمها على إبراهيم وذريته هي قوله تعالى، ﴿ وجعلنا لهم ﴾، أي لإبراهيم وذريته ﴿ لسان صدق عليا ﴾، ﴿ لسان صدق ﴾ من إضافة الاسم إلى وصفه، أي لسانا صادقا عليا، رافعا لهم، وليس خافضا لمآثرهم، والمراد الكلام الطيب والذكر الطيب، من قبيل إطلاق الآلة على ما يكون، فأطلق اللسان وأريد الكلام، وهذا استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام إذا قال في دعائه عليه السلام ﴿ واجعل لي لسان صدق في الآخرين ٨٤ ﴾( الشعراء ). وقد آتى الله إبراهيم ذلك فقال تعالى :﴿... وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين... ٨٧ ﴾ ( الحج )، وقال تعالى :﴿ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ١٢٣ ﴾ ( النحل ).
الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، أمره سبحانه أن يذكر من ذرية إسحاق ويعقوب موسى وهارون، ومن ذرية إبراهيم إسماعيل وهو أبو العرب ونبي العرب، ومن ذريته محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر في البشارة به على أنه من أولاد عم بني إسرائيل لأنه أخو إسحاق وهو الكبير، والكتاب هو القرآن، وإذا أطلق الكتاب انصرف إليه، لأن المطلق ينصرف إلى الفرد الأكمل، والأكمل بين الكتاب هو القرآن، لأنه كتاب الله تعالى بلفظه ومعناه ﴿ نزل به الروح الأمين ١٩٣ على قلبك لتكون من المنذرين ١٩٤ ﴾ ( الشعراء )، وإن الله أمر نبيه أن يذكره في القرآن، لأنه سجل الأنبياء ومعجزاته، وأخبارهم لا تعرف بطريق متواتر من غير تغيير ولا تبديل إلا عن طريقه. وكذلك معجزاته، فإنها أحداث تقضت في وقتها وما عاينها من الأخلاف أحد، ولكنها سجلت في القرآن المتواتر المحفوظ بوعد الله العظيم، ﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ٩ ﴾ ( الحجر )، وإن الله لا يخلف الميعاد وذكر موسى هنا في قوله تعالى :
﴿ واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا ٥١ ﴾.
ذكر موسى هنا لناحية معينة فيه وهي أنه من ذرية إبراهيم، وقد وعد الله إبراهيم أن يؤنسه بأولاده وذريته عندما اعتزل أهله وما يعبدون فكافأه الله تعالى بأنس الولد والذرية، واستجاب دعاءه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، وكان من هذا اللسان الصادق أن يكون له ذرية من الأنبياء فكان منهم من أولى العزم موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الجزء من قصص موسى ذكر ما لم يذكر في مواضع كثيرة من قصصه، وهو صفته التي كانت من أبرز صفاته أنه كان مخلصا، قرئ ( مخلصا ) بكسر اللام، و( مخلصا ) بفتحها والقراءتان متلاقيتان، فقراءة الكسر معناها أنه أخلص نفسه الله، وبدا ذلك في حياته، فقد نشأ في بيت فرعون رافعا بعيشه مستمكنا بسلطان، ومع ذلك نفر من دينه وملته ورضي بأن يكون من بني إسرائيل المستزلين المستضعفين في أرض مصر﴿... يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم... ٤٩ ﴾ ( البقرة )، ثم هاجر ابن النعمة الفرعونية إلى حيث يستأجر زارعا كادحا، فأي شيء يدل على الإخلاص أكثر من هذا.
وعلى القراءة الثانية، وهي قراءة فتح اللام يكون المعنى أن الله تعالى أخلصه له وجعله كليمه، وذلك ثابت من حياة موسى عليه السلام، فقد ولدته أمه في وقت فرعون وآله يذبحون أبنائهم، فألهم سبحانه أم موسى أن تضعه في تابوت وتلقيه في اليم، ويلتقطه آل فرعون ليكون في المستقبل عدوا لهم وحزنا، وقد أرادوه قرة عين لهم ﴿ وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت ﴾، أي أخته – ﴿... هل أدلتكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ١٢ ﴾ ( القصص )، وبذلك رجع إلى أنه وخلص لها فتربى في مهدها وكنف فرعون، وبذلك صنع على عين الله، كما قال تعالى :﴿... لتصنع على عيني ٣٩ ﴾ ( طه ) فكيف بعدها لا يكون مخلصا وخالصا لله، واختاره أن يكون له كليما.
وكل قراءة قرآن فيكون المعنيان مرادين بمجموع القراءتين، فهو مخلص في شخصه، وأخلصه الله سبحانه لذاته العلية.
الوصف الذي اصطفاه الذي اصطفاه الله تعالى به أن جعله رسولا نبيا، فقال تعالى :﴿ وكان رسولا نبيا ﴾، الرسول- فيما يظهر من عبارات القرآن – من أرسل بكتاب مشتمل على أحكام، والنبي من ينبأ مخاطية الله له بالوحي أو يرسل رسولا، أو من وراء حجاب، وقد كان موسى كذلك، فقد أرسل بالتوراة فيها كل الشرائع المصلحة للإنسانية في رسالته وبعضها باق سجله القرآن ولم ينسخه.
﴿ وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ٥٢ ﴾.
كان خطاب الله تعالى لموسى بالكلام، ولذا قال تعالى، { وناديناه من جانب الطور الأيمن، أي الجهة اليمنى من الطور، أي أن مناجاة ربه كانت من جهة الطور الأيمن، واليمين ميمون، فهذه إشارة إلى اليمن، وما هنا مجمل مذكور مفصلا في سورة القصص، فقد قال تعالى بعد أن أنهى الإجارة مع شعيب :
﴿ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ٢٩ فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ٣٠ وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولي مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ٣١ ﴾ ( القصص ).
وهذا واضح في أنه تفصيل لبيان كيف كان النداء، ولم يكن تكرارا، بل كان بيانا لما أجمل هنالك، وبيان المجمل ليس تكرارا، هذه منزلة عالية، وهو أنه كليم الله، كلمه من وراء حجاب، ولذا قال تعالى :﴿ وقربناه نجيا ﴾، أي كان خطاب الله تعالى تقريبا إذ ناجاه وخاطبه ﴿ نجيا ﴾، وكأنها مسارة له، لأنه لم يسمع ذلك النداء غيره في ساعة هذا النداء، تعالى الله سبحانه علوا كبيرا.
﴿ ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ٥٣ ﴾.
أحس موسى عليه السلام بعظم التكليف الذي كلفه، وهو أن يدعو إلى الإيمان طاغية الدنيا في عصره، وأنه مهما يكن عظم التكليف فهو راض به قائم بحقه، ولكن طلب أن يكون معه أخوه هارون وزيرا له ومعاونا ليحمل العبء كاملا ويعاونه فإن له بيانا ليس لموسى، وقد طلب موسى ذلك فقد قال الله تعالى :﴿ قال رب اشرح لي صدري ٢٥ ويسر لي أمري ٢٦ واحلل عقدة من لساني ٢٧ يفقهوا قولي ٢٨ واجعل لي وزيرا من أهلي ٢٩ هارون أخي ٣٠ اشدد به أزري ٣١ وأشركه في أمري ٣٢ ﴾ ( طه )، فكان من نعمة الله تعالى على موسى أن جعل له من رحمته أخاه هارون نبيا، والرحمة كانت في هبته له نبيا، ذهبا معا إلى فرعون وخاطباه قائلين :﴿ إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى ٤٧ ﴾ ( طه ).
هؤلاء من ذرية إبراهيم الذين كانوا من إسحاق، وقد كان لإبراهيم ذرية أخرى – كان منهم خاتم النبيين – هو إسماعيل عليه السلام، وقد قال تعالى في ذكر إسماعيل :
﴿ واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ٥٤ وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ٥٥ ﴾.
وقد أفرد القرآن إسماعيل بالذكر، لأنه كان يقيم بالبلاد العربية، وأقام هو وأمه حول الكعبة، لسدانتها وحراستها، وإفراده بالذكر تشريف له وإكرام، فإذا كان أخوه إسحاق عليه السلام أبا أنبياء بني إسرائيل الذين قاموا بتنفيذ التوراة وتفسيرها، فإن من ذرية إسماعيل عليه السلام خاتم النبيين الذي جاء بالكتاب المهيمن على كل الكتب المنزلة، والذي فيه كل الأنبياء ومعجزاتهم.
والكتاب كما ذكر هو القرآن وهو أكمل الكتب كما نوهنا، ولأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فالكتاب الذي نزل عليه وهو القرآن، وقد ذكرنا وجوه كماله، وأنه سجل الأنبياء وشرائعهم الباقية ومعجزاتهم، ولا ترى لها مصدرا متواترا صادقا سواه، كما ذكرنا.
وقد وصفه الله تعالى بأربعة أوصاف تدل على الكمال الإنساني الذي لا يعلو عليه كمال.
الوصف الأول : أنه كان ﴿ صادق الوعد ﴾، أي إذا وعد لا يخيس، ولا يكذب بل ينفذه، وكل الأنبياء كذلك ولكن وصف الله به إسماعيل، لأنه كان أخص أوصافه واشتهر به، فإن إبراهيم أباه عندما رأى الرؤيا يذبح إسماعيل لم يجبن إسماعيل بل قال :﴿ ستجدني إن شاء الله من الصابرين ١٠٢ ﴾ ( الصافات )، وصدق وعده، فاستعد لأن يذبح، وقال الله تعالى :﴿... يا إبراهيم ١٠٤ قد صدقت الرؤيا... ١٠٥ ﴾ ( الصافات )، فهو الذبيح الأول، وصدق الوعد والوفاء به والرضا بتنفيذ وعدم الحيف فيه، وقد كان إسماعيل كذلك فيما وعد وأوفى.
الوصف الثاني : أنه كان ﴿ رسولا نبيا ﴾، كما قال تعالى :﴿ وكان رسولا نبيا ﴾ فقد جاء بشرائع ومنحه الله تعالى النبوة فقد كان ينزل عليه الوحي، ويكلمه الله تعالى بإحدى طرق الكلام، كما قال تعالى :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا... ٥١ ﴾( الشورى )، وقد يقال : إن شريعته كانت شريعة أبيه إبراهيم، ونقول إنه أرسل بها، ولا مانع من أن يخاطب بالشريعة الواحدة رسولان، وقد ذكر الله تعالى أن إبراهيم كان رسولا وإسماعيل كان رسولا نبيا.
ومن العلماء من قال : إن أهله الذين اتبعوه أجمعون، وذلك القول له، وجهه، وقد أمر نبي الله إسماعيل عليه السلام بأمرين : بالصلاة، وهذا رمز للتهذيب الجماعة التي يدعوها والتربية الروحية التي يكون بالصلاة، وما يشبهها في روحانيتها، تكون الركن الأول في المقاصد الدينية، ثم يجئ الأمر الثاني وهو الأمر بالزكاة، فإنها تكون الركن الاجتماعي الذي يكون به التعاون بين الجماعة في تحقق الركن الإنساني في الصلات بين الناس، وهذا يمثل الركن الثاني من المقاصد الدينية، ولا بد للثاني من الأول فهو لا يتحقق على وجهه الأكمل إلا بالأول، فالأول هو الرباط الروحي، والثاني رباط مادي لا يؤدي مؤداه إلا بتربية الروح.
الوصف الرابع : وهو أعلى الأوصاف التي وصف بها إسماعيل عليه السلام هو رضا الله تعالى، فقد قال عز من قائل :﴿ وكان عند ربه مرضيا ﴾ ( مرضى ) اسم مفعول من رضي، وقد زكي الله إسماعيل بأنه مرضى﴿ عند ربه ﴾ فهو رضي في ذاته ومرضى عند ربه الذي خلقه وكونه وقام على وجوده، وهذا أعلى ما يصل إليه المؤمن، ولذا قال تعالى بعد ذكر نعيم الجنة المقيم﴿... ورضوان من الله أكبر... ٧٢ ﴾ ( التوبة ) فرضوان الله أكبر من كل جزاء، ولذا قال :﴿ وكان عند ربه مرضيا ﴾ و( كان ) في كل الأوصاف الله تعالى للدوام والاستمرار، اللهم أدم علينا نعمتك وامنحنا رضاك.
تلك أخبار النبيين تذكر لما فيها من عبرة، ولما فيها من دعوة إلى الإقتداء بهم وسلوك طريقهم، فهم أسوة الأبرار، وطريقهم هو طريق الأخبار، وإذا كان طريق إبليس طريق الأشرار، فطريقهم هو طريق الأخبار.
وابتدأ بذكر إدريس فقال عز من قائل :
﴿ واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ٥٦ ورفعناه مكانا عليا ٥٧ ﴾.
الكتاب هو القرآن كما أشرنا من قبل، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وإدريس قيل : إنه كان قبل نوح، ولا نجد ما يدل على ذلك من كتاب ولا سنة، وإنما هي أخبار كتاب قصص الأنبياء.
ورد في تفسير القرطبي ( إدريس عليه السلام أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب وليس المخيط، وأول من خط في علم النجوم والحساب )، وإذا صح هذا فربما يكون أقدم من نوح، ولكنا في مثل هذا نقول علمه عند الله، وإنه لا يزيل إبهاما في القرآن، ولا يأتي بعلم جديد، وإنه لمن أمر فالظن لا يغنى من الحق شيئان ويؤكد الزمخشري أنه جد أبى نوح عليه السلام، ويقول بعض العلماء : إنه إلياس عليه السلام المذكور في سورة الصافات، وقد قال عن إلياس عليه السلام في سورة الصافات :
﴿ وإن إلياس لمن المرسلين ١٢٣ إذ قال لقومه ألا تتقون١٢٤ أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين ١٢٥ الله ربكم ورب آبائكم الأولين ١٢٦ فكذّبوه فإنهم لمحضرون ١٢٧ إلا عباد الله المخلصين ١٢٨ وتركنا عليه في الآخرين ١٢٩ ﴾ ( الصافات ).
وإذا صح أن إدريس هو إلياس فتكون سورة الصافات قد بينت دعوته، وأن قومه أنكروا وكذبوا، وقد وصف الله تعالى في هذه الآية إدريس بثلاث صفات :
الوصف الأول والثاني :﴿ إنه كان صديقا نبيا ﴾، فهو صديق لا يقول إلا حقا، ويصدق الحق وينفذه ولا يتردد في تنفيذه ومعه الإذعان له من غير تململ، بل باطمئنان ورضا وقبول، وكان نبيا قد كلف بتبليغ رسالة به.
الوصف الثالث : أن الله تعالى رفعه منزلة عالية، وقد عبر سبحانه وتعالى من ذلك بقوله :﴿ ورفعناه مكانا عليا ٥٧ ﴾، والرفعة هنا معنوية، والمكان المراد به منزلة عليا، وقد زعم بعض المفسرين أن ذكر المكان يدل على أنها رفعة مادية، ولا نرى وجها لتخصيص ذكر المكان بالرفعة الحسية، فإن ذلك تخصيص من غير مخصّص قام الدليل عليه، وإنما نقول : إنها نعمة من الله تعالى على عبده ونبيّه الصديق الأمين لأمر اقتضى ذلك في علمه المكنون، ولم يبينه لنا فحق علينا أن نقول ما نعلمه، ونسلم بصدق ما لم نعلمه، والله هو العليم المحيط بكل شيء علما.
وابتدأ بذكر إدريس فقال عز من قائل :
﴿ واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ٥٦ ورفعناه مكانا عليا ٥٧ ﴾.
الكتاب هو القرآن كما أشرنا من قبل، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وإدريس قيل : إنه كان قبل نوح، ولا نجد ما يدل على ذلك من كتاب ولا سنة، وإنما هي أخبار كتاب قصص الأنبياء.
ورد في تفسير القرطبي ( إدريس عليه السلام أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب وليس المخيط، وأول من خط في علم النجوم والحساب )، وإذا صح هذا فربما يكون أقدم من نوح، ولكنا في مثل هذا نقول علمه عند الله، وإنه لا يزيل إبهاما في القرآن، ولا يأتي بعلم جديد، وإنه لمن أمر فالظن لا يغنى من الحق شيئان ويؤكد الزمخشري أنه جد أبى نوح عليه السلام، ويقول بعض العلماء : إنه إلياس عليه السلام المذكور في سورة الصافات، وقد قال عن إلياس عليه السلام في سورة الصافات :
﴿ وإن إلياس لمن المرسلين ١٢٣ إذ قال لقومه ألا تتقون١٢٤ أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين ١٢٥ الله ربكم ورب آبائكم الأولين ١٢٦ فكذّبوه فإنهم لمحضرون ١٢٧ إلا عباد الله المخلصين ١٢٨ وتركنا عليه في الآخرين ١٢٩ ﴾ ( الصافات ).
وإذا صح أن إدريس هو إلياس فتكون سورة الصافات قد بينت دعوته، وأن قومه أنكروا وكذبوا، وقد وصف الله تعالى في هذه الآية إدريس بثلاث صفات :
الوصف الأول والثاني :﴿ إنه كان صديقا نبيا ﴾، فهو صديق لا يقول إلا حقا، ويصدق الحق وينفذه ولا يتردد في تنفيذه ومعه الإذعان له من غير تململ، بل باطمئنان ورضا وقبول، وكان نبيا قد كلف بتبليغ رسالة به.
الوصف الثالث : أن الله تعالى رفعه منزلة عالية، وقد عبر سبحانه وتعالى من ذلك بقوله :﴿ ورفعناه مكانا عليا ٥٧ ﴾، والرفعة هنا معنوية، والمكان المراد به منزلة عليا، وقد زعم بعض المفسرين أن ذكر المكان يدل على أنها رفعة مادية، ولا نرى وجها لتخصيص ذكر المكان بالرفعة الحسية، فإن ذلك تخصيص من غير مخصّص قام الدليل عليه، وإنما نقول : إنها نعمة من الله تعالى على عبده ونبيّه الصديق الأمين لأمر اقتضى ذلك في علمه المكنون، ولم يبينه لنا فحق علينا أن نقول ما نعلمه، ونسلم بصدق ما لم نعلمه، والله هو العليم المحيط بكل شيء علما.
الإشارة إلى النبيين المذكورين في هذه السورة زكريا ويحيى وعيسى وإبراهيم وأولاده وموسى وهارون وإدريس، فهؤلاء جميعا قد ذكروا في هذه السورة، وكلهم من ذرية آدم، قوله :﴿ من النبيين ﴾ ( من ) بيانية، وقوله :﴿ من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم ﴾، ( من ) هنا تبعيضية، فالمذكورون بعض هذه الذرية، فمن بعض من حمل الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام إبراهيم وهود وصالح وشعيب، ﴿ ومن ذرية إبراهيم ﴾ إسماعيل وإسحاق ويعقوب، ومن ذرية إسرائيل موسى وداود وسليمان، وهكذا أنعم الله تعالى على هؤلاء بنعمة التوحيد، ونعمة الوحي، ونعمة الاصطفاء على العالمين، ونعمة الجهاد في دعوة الحق وحرمته.
وقد ذكر الله تعالى أن ممن أنعم الله تعالى من هداهم الله تعالى بهدى الأنبياء والمرسلين، ولذا قال تعالى :﴿ وممن هدينا واجتبينا ﴾، ( الواو ) عاطفة على قوله تعالى :﴿ من النبيين ﴾ ف( من ) بيانية، والله أنعم على النبيين ومن تبعهم، فقوله :﴿ وممن هدينا ﴾، أي الذين اتبعوهم على صراط مستقيم، ﴿ واجتبينا ﴾ الذي اخترناهم لنبوة وجهاد كداود، وطالوت الذي جعله الله تعالى رئيسا لبنى إسرائيل قادهم إلى الحرية والعزة وإن لم يكن من أبناء كبرائهم.
وإن هؤلاء الأنبياء المصطفين الأخبار والتابعين الأبرار قد صفت نفوسهم واستقامت قلوبهم، وصغت إلى الحق أفئدتهم فكانوا إذا تليت عليهم آياته في كتبه الذي أنزلها الرحمن خروا ساجدين باكين، ولذا قال تعالى :﴿ إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ﴾ سجدا : جمع ساجد، وبكيا جمع باك، أي أنهم لفرط تأثرهم بآيات الرحمة التي تنزل من عند الرحمن، ولذا اختير ذلك الوصف ﴿ الرحمن ﴾ في التعبير عن الذات، فهم يبكون لشعورهم برحمة الله، ويسجدون شكرا لله تعالى على ما أنعم، وأن ذلك كان من أمر الصالحين فكان أبو بكر بكّاءا عند تلاوة القرآن الكريم، وكان الإمام الشافعي إذا صلى بالناس بكى وبكوا عند تلاوته حتى سمى القارئ البكاء، ومن كان من الصالحين لا تدمع عيناه يبكي قلبه. وإن ذلك من الوعي الطيب، إذ يحس السامع للتلاوة، بأنه يسمع الله تعالى ينادي فيرتجف ويقشعر بدنه، ولقد قال الله تعالى :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله... ٢٣ ﴾ ( الزمر ).
قد ذكر الله تعالى من خلف أولئك الأبرار من النبيين والصديقين.
﴿ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ٥٩ ﴾.
( الفاء ) للترتيب والتعقيب، فهي تفيد أنه جاء عقب هؤلاء الأطهار من تنكبوا طريقهم، وخرجوا عن منهاجهم، وليس معنى ذلك أنه لم يكن فيهم من خالف المنهاج من أقوامهم، بل كان كل نبي من هؤلاء الأنبياء من لقي مقاومة من قومه، فمن قوم إدريس من قاومه، وقالوا :﴿... وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي... ٢٧ ﴾ ( هود )، وهذا كان شأن كل المصطفين الأخيار من قووم في عصره، فكيف يقال خلف هؤلاء مع أنهم كان أمثالهم في عصرهم، ونقول : إن أولئك الأخلاف الذين خالفوا النبيين كانوا في أقوام من أتباعهم من حرفوا أقوال النبيين، وحرفوا القول عن مواضعه كبني إسرائيل، والذين حملوا إنجيل عيسى كان منهم من تخلف عن هدايته وتنكب عن سبيله.
وصف الله تعالى الأخلاف الذين انحرفوا بسبب هذا الانحراف ونتيجته، فقال عز من قائل :﴿ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ﴾، وذكر أسباب انحرافهم فحصره في أمرين أو ذكر أن أكبر أسبابه أمران :
الأمر الأول : أنهم ﴿ أضاعوا الصلاة ﴾، ومعنى إضاعة الصلاة إضاعة الدين، لأنها عمود كل دين، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ( لا دين من غير صلاة )، فهي سمة الدين وشعاره، ومعنى إضاعتها إهمالها، أو الصلاة من غير إقامتها على وجهها، أو الصلاة التي فقدت الخشوع والخضوع، وهذا لبابها، أو الإتيان بصلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، بل تلابسها.
الأمر الثاني : هو إتباع الشهوات، فإنه إذا سيطرت الشهوات على النفس، وصارت سيدا مطاعا انحرف الاعتقاد تبعا لها، وحينئذ يتخذون إلههم هواهم وكان معبودهم وسرى ذلك إلى كل أعمالهم.
وقد نبه سبحانه إلى النتيجة من ذلك فقال تعالى :﴿ فسوف يلقون غيا ﴾، الغي ضد الرشاد وهو الغواية، وهي تنكب الطريق المستقيم، وإن إتباع الشهوات وجعل الأهواء لها السلطان الأكمل سبيل الفساد والغواية، وبها تنكب الرشاد، وذلك أن الهدى والعقل نقيضان لا يجتمعان في قلب واحد، فإذا كان سلطان الهوى ذهب العقل وقوله :﴿ فسوف يلقون ﴾ ( سوف ) هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل، وقوله تعالى :﴿ يلقون ﴾، أي يجدون أمامهم وهو نتيجة طبيعية لترك الصلاة وإتباع الشهوات.
الاستثناء هنا منقطع، وليس استثناء متصلا، ف﴿ من تاب وآمن ﴾ لا يدخل في عموم من اتبعوا الشهوات وأضاعوا الصلاة، ف ﴿ إلا ﴾ بمعنى ( لكن )، وهي مقابلة بين المؤمن وغيره، فالأول يتبع الشهوات، والثاني مؤمن تواب إلى ربه راجع إليه طالب، وقوله تعالى :﴿ إلا من تاب ﴾ يشمل من غوي منهم الأهواء والشهوات ورجع إلى ربه، ومن لم يسيطر عليه هواه ابتداء واتبع سبيل الحق، ويكون التعبير عنه ب﴿ تاب ﴾ إشارة إلى الإذعان الكامل، لأن المؤمن التواب وصل إلى أعلى درجات الإيمان، لأنه يستصغر أفعاله أمام الله ويحسب نفسه مقصرا فلا يدل بالطاعة، بل يستشعر الخشية الدائمة ويغلب عليه الخوف ولا يغلب عليه رجاء الثواب، لأنه يستنكر خطأه، ويستقل طاعته.
﴿ فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا ﴾، الإشارة إلى التائبين الراجعين إلى الله تعالى، والإشارة إلى الموصوفين بأوصاف تدل على أنه هذه الأوصاف سبب الحكم، وهو أنهم ﴿ يدخلون الجنة ﴾ التي هي جزاء المتقين، ﴿ ولا يظلمون شيئا ﴾، أي لا ينقصون أي شيء من النقص، بل يأخذون جزاءهم جزاء وفاقا لما عملوا من طيبات، ولتجردهم من شهوات الدنيا وخلاصهم من أهوائها المردية.
﴿ جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا ٦١ ﴾.
﴿ جنات عدن ﴾ : هي جنة الإقامة الدائمة، كما قال تعالى :﴿... لهم فيها نعيم مقيم ٦١ ﴾ ( التوبة )، وقد وعد الرحمن عباده بالغيب، وذكر ﴿ الرحمن ﴾ هنا إشارة إلى أن ذلك من رحمة الله تعالى، إذ كان منه الغفران وهو رحمة، وكان منه قبول التوبة، وهو رحمة وأن الحسنات يذهبن السيئات، وكان منه عفوه وغفرانه إلا أن يشرك به.
وقوله تعالى :﴿ بالغيب ﴾ متعلق ب﴿ وعد ﴾، لأنه وعدهم سبحانه وهم غائبون عنه، وقد آمنوا بهذا الوعد واطمأنوا إليه، وهو غائب، فهو آمنوا بالبعث والجزاء والرحمة وهو غائب عنهم، فكانوا مؤمنين بالغيب وهو سبيل إدراك الحق، والإيمان بحقائق يوم القيامة، وقد أكد سبحانه صدق وعده وأنه لا يخلف الميعاد بقوله تعالى :﴿ إنه كان وعده مأتيا ﴾ الضمير في ﴿ إنه ﴾ يعود على ﴿ الرحمن ﴾، و﴿ مأتيا ﴾ اسم مفعول، أي أنه يجعله – سبحانه وتعالى- آتيا لا محالة، وذلك كقوله تعالى :﴿... إن الله لا يخلف الميعاد ٩ ﴾ ( آل عمران ) وبعض المفسرين فسر الوعد بأنه جنة عدن، وهو مأتى لا محالة لمن وعدوا به، وترى أن الوعد هو ما يتعلق بنعيم الجنة، والله تعالى يمكن عباده من وعده، فيكون آتيا بالنسبة له، ومأتيا منهم إذ يمكنهم سبحانه وتعالى منه، و﴿ جنات ﴾ بدل أو عطف بيان من قوله تعالى :﴿ فأولئك يدخلون الجنة ﴾، وهنا يرد سؤال كيف يكون البدل جمعا، والمبدل منه مفردا ؟ ونقول : إن اسم الجنس وهو ( الجنة ) عام يدخل في عمومه الكثير من الجنات فهو بدل جمع من جمع، وهناك قراءة ( جنة عدن )١ بالإفراد والله تعالى أعلم.
﴿ لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ٦٢ ﴾.
اللغو هو الكلام الذي لا يكون له فائدة مذكورة عند العقلاء، وهو الذي يؤدى إلى المشاحنة والمنازعة، ومبادلة القول والجدال، وكل ذلك بعيد عن الحياة الفاضلة التي تكون في الجنة، ولذا قال تعالى في آية أخرى :﴿... لا لغو فيها ولا تأثيم ٢٣ ﴾ ( الطور )، وإن اللغو في الدنيا ليس من دأب الفضلاء، وسماعه ليس من شأن العقلاء. وقال في أوصاف الأبرار :﴿ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ٥٥ ﴾ ( القصص ).
وقوله تعالى :﴿ إلا سلاما ﴾ الاستثناء فيها منقطع، بمعنى لكن يسمعون سلاما، أي أمنا واطمئنانا وبعدا عن المشاحة والمنازعة والمخاصمة.
هذه هي الحياة المعنوية الطيبة الهادئة التي لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد ذكر سبحانه وتعالى أن الجسم فيها ينال حظه في مواقيته فقال تعالى :﴿ ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ﴾، أي أن طعامهم يأتيهم في أوقات منتظمة مستمرة وهي تجيء في البكور، وفي العشية.
أي على عادة المتناولين لهذه الحياة من غير زهادة ولا إفراط في الأخذ منها ليترفوا فيها، وفي ذلك الاعتدال تكون استقامة الحياة من غير مرض ولا عناء.
﴿ تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ٦٣ ﴾.
الإشارة هنا للبعيد إعلاء لشأنها وتشريفا وتكريما لها ﴿ نورث ﴾، أي يجعلها سبحانه وتعالى ميراثا لمن كان تقيا، وسميت ميراثا أورث الله تعالى به، لأنه خلف للعمل الصالح، ولأنه ترك الأهواء والشهوات فأخذ بديلا لها تلك الجنة وهي أغلى وأدوم، وسمى سبحانه وتعالى ذلك توريثا، لأنها خلف، كما يملك الوارث بالخلافة بيد أن ذلك ميراث عن عمل صالح بنعيم دائم فهو دائم بدوام المال الموروث، وقد قال في هذا الزمخشري ما نصه :( نورث : استعارة أي نبقى عليه الجنة كما نبقى على الوارث المال الموروث، ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية، وهي الجنة، فإذا دخلوا الجنة أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال ).
وقوله تعالى :﴿ نورث من عبادنا من كان تقيا ﴾ ( من ) مفعول، و( من ) للتبعيض وقوله تعالى :﴿ كان تقيا ﴾ تفيد الملازمة للتقوى لا يتحول عنها، لأن ﴿ كان ﴾ تدل على الدوام والاستمرار.
﴿ وما نتنزل ﴾ هذا بيان من متكلم ما هو ؟ أهو من الملائكة أم من المتقين ؟إن النص يحتملهما، وقد روى أن ذلك من الملائكة، وروى البخاري والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال جبريل عليه السلام :( ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا، فنزلت هذه الآية١، ومعناها على ذلك، ﴿ وما نتنزل ﴾، أي نتنزل نحن الملائكة ﴿ إلا بأمر ربك ﴾الذي خلقك، فلا ننزل من تلقاء أنفسنا بل إرادة، وروى أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم :( أنا أشوق إليك ).
وقد قيل : إن المشركين قالوا : قلاه الله وودعه، وقد قال تعالى في سورة الضحى :﴿ ما ودعك ربك وما قلى ٣ ﴾ هذا تخريج تؤيده الرواية الصحيحة، ونتنزل أي ننزل وقتا بعد آخر.
وهناك تخريج آخر وهو أن قائل ذلك هم المتقون الذين نزلوا الجنة، وأدخلهم الله تعالى فيها، ويكون معنى التنزل النزول إليها مترفقين، ويكون كلامهم إعلانا لشكرهم لله تعالى.
ونحن نميل إلى التخريج الأول ونرجحه، لأنه قد ورد فيه حديث صحيح، وهو معقول في ذاته، ولأن التعبير بالتنزل يدل على النزول وقتا بعد آخر، وذلك يتفق مع نزولا جبريل، ولا يتفق مع دخول الجنة، لأنه يكون دفعة واحدة، ولأنه هو الذي يناسب نفي النسيان في قوله بعد ذلك :﴿ وما كان ربك نسيا ﴾ ( فعيل ) من ( نسى )، أي ناسيا نسيانا شديدا حتى يترك نبيه، وقد أرسله لبيان شريعته، والدعوة بقرآنه الحكيم الذي هو تنزيل من حكيم حميد.
وقد ذكر الملائكة قدرة الله تعالى، وأنه هو الملك للملائكة والإنس والجن، فقالوا كما حكى الله تعالى عنهم :﴿ له ما بين أيدينا وما خلقنا ومابين ذلك ﴾، له ما مضى من أمرنا لا يعلمه سواه، وله ما بين أيدينا مما هو مبهما، وما خلقنا مما تركنا، وما بين ذلك هو حاضرنا، وملكيته سبحانه لحاضرنا، وهو ما بين ملك المتصرف العالم علما محيطا.
﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميّا ٦٥ ﴾ ﴿ رب السماوات والأرض ﴾ خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو رب السماوات والأرض الذي يملك كل شيء ما بين أيدينا وما خلفنا ويعلم كل خلقه، هو رب السماوات ورب الأرض ورب ما بينهما من فضاء، وإذا كان هو الرب الخالق لك شيء ولا خالق سواه فإنه وحده الذي يستحق العبادة، ولذا قال تعالى :﴿ فاعبده واصطبر لعبادته ﴾، و( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لأنه إذا كان الخالق القائم بحق الربوبية، الحي القيوم فهو وحده المستحق للعبادة، ولكن هذه العبادة لا يستقيم لها الإنسان وسط الأهواء والأوهام، وما يألف الناس من عبادة الأحجار والأشخاص ليس الطريق الإنساني إليها معبدا، ولذلك كان المؤمن يحتاج إلى صبر فقال تعالى :﴿ واصطبر لعبادته ﴾ أصل اصطبر"اصتبر" قلبت تاء الافتعال طاء لقرب التاء من الطاء، ومعنى الافتعال هنا الصبر، وتحمل ما يكلفه النفس من جهود، ونبه سبحانه إلى أنه ملا مشابه له من الحوادث، فقال :﴿ هل تعلم له سميا ﴾، أي شبيها، والاستفهام للإنكار بمعنى النفي، أي لا تعلم له شبيها فهو منزه عن الحوادث كقوله تعالى :﴿... ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ١١ ﴾ ( الشورى )، وهذا النفي بالاستفهام الإنكاري دليل على استحقاقه وحده للعبادة لأنه لا شبيه له.
الإنسان ينظر دائما إلى حاضره ولا ينظر إلى قابله، وينكر القابل إذا لم يتفق مع حاضره إلا أن يكون ممن هداهم الله وآمنوا بالغيب إيمانهم بالشاهد، ولم يحصروا علمهم في المحسوس لا يخرجون عنه، وقد قال تعالى :
﴿ ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا ٦٦ ﴾.
الإنسان المأسور بالحسّ الذي لا ينفذ عقله إلى ما وراء الحس من غيب ستره الله تعالى، ولا يؤمن به إلا بنقل صادق، وعلى ذلك يكون المراد بعض الإنسان لا كل آحاده، وعبر عن هذا البعض باسم الكل، لأن ما يقوله بعضهم مساير لإحساس الكثيرين منهم، أو لحال الإنسان قبل أن يجيئه النقل القاطع الجازم، ولأنه مشتق من طبيعة الإنسان المأسور بالحاضر المحسوس، لا القابل المغيب.
وبعضهم يقول : إن الجنس هو المتحدث عنه، فجنس الإنسان يدرك الحس وحده، إلا من رحم بك.
ويقول تعالى :﴿ ويقول الإنسان ﴾ عبر المضارع للإشارة إلى تكراره، وأنه يذكره مرارا، وللإشارة إلى صورة قوله المتكرر﴿ أئذا ما متّ لسوف أخرج حيا ﴾ الاستفهام في ظاهر اللفظ ومدلوله داخل على ﴿ لسوف أخرج حيّا ﴾ وتركيب القول، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى. لسوف أخرج حيّا إذا ما مت، وتأخرت ﴿ لسوف ﴾ على "إذا" لأمرين :
الأمر الأول : أن الاستفهام له الصدارة.
الأمر الثاني : أن موضع الإنكار ليس هو الإخراج إنما هو أن يكون بعد الموت وأن يصير رميما، كقوله تعالى :﴿... من يحيى العظام وهي رميم ٧٨ قال يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ٧٩ ﴾ ( يس ).
والمعنى على هذا التخريج : أحقا مؤكدا سوف يخرج حيا مجتمع الأجزاء غير مفرق، و"اللام" لتأكيد الخروج، وسوف لتأكيد الوقوع في المستقبل
﴿ أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ٦٧ ﴾.
الواو عاطفة على فعل مذكور مشار إليه فيما سبق، وتقديره، أيقول ذلك ولا يذكر الإنسان...
"أو" الواو عاطفة ومقامها التقديم وأُخرت، لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الواقع، وإنكار الواقع توبيخ، أي أيقول أصله، وكيف تكوّن، ولا ينسيه إلا الشيطان، وأظهر الإنسان، وكان مساق القول ألا يظهر، وذلك لانصباب التوبيخ عليه، ولتأكيد النسيان الذي هو طبيعة في الحياة الإنسانية، إذ هي تنسى ما يغيب عنها ولا تذكر، ولقد قال الله تعالى في مساق التوبيخ :﴿ أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ﴾، أي لا وجود له، ولا شك أن الخلق من غير صورة وابتداء الإنشاء من طين وتصويره نطفة فعلقة فمضغة مخلقة وغير مخلقة... أصعب من إعادته مصورا يمر على هذه الأدوار التكوينية، بل كان بمجرد قوله كن فيكون، وبمجرد النفخ في الصور، وقد قال تعالى :﴿... كما بدأكم تعودون٢٩ ﴾ ( الأعراف ) وإن جمع الأجزاء المتناثرة أقل صعوبة من إنشائها وإبداعها، قال تعالى :﴿ قل كونوا حجارة أو حديدا ٥٠ أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة... ٥١ ﴾ ( الإسراء ).
﴿ فوربك لنحشرهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ٦٨ ﴾.
أقسم بذاته العلية الكريمة مضافا إلى نبيه، بيانا لإعزازه وإعلانه وتكريمه، وكان القسم بالذات العلية بعنوان الربوبية الكالئة الحامية المتصلة بالإنسان، وبأكرم إنسان وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك إشارة إلى أن البعث من الربوبية، فهو كما أنشأكم وكلأكم ورباكم يبعثكم، فهو لم يخلقكم عبثا، و"الفاء" هنا للتعقيب على التوبيخ بتأكيد الأمر الذي قرره وقدره وأنكروه بل استنكروه، و"اللام" في قوله تعالى :﴿ لنحشرنهم ﴾ لام القسم الواقعة في جوابه، ولذا أكد بنون التوكيد الثقيلة، و"الواو" واو المعية في قوله تعالى :﴿ والشياطين ﴾، أي أنهم يحشرون معهم، وهم الذين أضلوهم، وجعلوهم بالأوهام التي بُثّت فيهم يعبدون ثم ذكر تعالى ما يكون بعد الحشر وهو إحضارهم إلى جهنم، فقال تعالى مقسما :﴿ ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ﴾، ﴿ ثم ﴾ عاطفة على جواب القسم ﴿ لنحشرنهم ﴾ فهو سبحانه بعد أن يحشرهم مع شياطينهم الذين وسوسوا لهم بعبادة الأوثان يحضرون، وإن ذلك وإن ذلك وإن كان خاصا بالكفرة، لأنهم الذين أغواهم الشياطين وأضلوهم، ولكن أضيفت إلى الجميع الأبرار والفجار، لأن الحشر للجميع، والجميع يرون جهنم كي تتلى الآيات من بعد.
والإحضار حول جهنم جاثمين على ركبهم، ولذا قال تعالى :﴿ ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ﴾، والجثى جمع جاث، وهم الجالسون على ركبهم، فقال تعالى :﴿ وترى كل أمة جاثية... ٢٨ ﴾ 'الجاثية"، وذلك يكون في أحوال تناقلات القول، وذلك من تجاثى أهلها على ركبهم، وذلك يكون في حال الاستفزاز والقلق، وكأنهم لهول ما يرون يتجاثون على ركبهم فزعين قد أصابهم الهلع، ويكونون حول جهنم مترقبين ما يكون من أمرهم في جزع.
والعطف ب﴿ ثمّ ﴾ يقتضى فاصلا بأمد ليس قصيرا بين الحشر والإحضار، وذلك الأمد يكون فيه الحساب ويكون ما يقرره الله لأهل البر، وما يقرره للفجار، فكل يحضر حول جهنم ثم يكون الأبرار بعد ذلك للجنة إذ يرون ما آل إليه أمر الكفار، كما سنتلو قوله تعالى :﴿ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ٧١ ﴾.
﴿ ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ٦٩ ﴾.
﴿ ثم ﴾ عاطفة للترتيب والتراخي، لأنه ترتيب أعمال يوم، فيكون الحشر ثم الإحضار إلى جهنم جثيا ثم نزع أشدهم عتوا من الشيع، من كل شيعة أعتادها وأجرَؤُها على الرحمن، وقوله تعالى :﴿ لننزعنّ ﴾ ( اللام ) لام القسم التي تكون في جوابه وهي تنبئ عن قسم مقدر في القول، والنزع الاستخراج لا اختيار للمنزوع فيه، بل متخيّر مأخوذ أخذا لا اختيار له فيه، الشيعة على وزن "فعلة"، وهي الطائفة المتشايعة في عنادها وكبريائها وعصيانها، والنزع من كل طائفة لها هذا التعاون على الشر، وقوله تعالى :﴿ أيهم أشد على الرحمن عتيا ﴾ والعتى مصدر عتا يعتو عتيا بالضم وعتيا بالكسر، وعتوا، وأشد شرا فيهم، و﴿ أيهم ﴾ قد تكون في معنى الاستفهام، والجواب عنه، أي الذي يقال فيهم أيهم أشد على الرحمن، أي أجرأ في الباطل والظلم والاستكبار، وقيل : أشد على الرحمن عتيا، لأنه إذا كان عاتيا على الرحمن جريئا عليه، فهو ممعن في الشر إمعانا، إذ هو غير شاكر للرحمة، لأنه ممعن في الاستكبار على مصدرها ومرسلها، وهكذا ينزع الله تعالى يوم القيامة من فئة متشايعة على الشر أشدهم عتوا وتجبرا ثم الذي يليه كل في طبقته من الشر، وهذا يشير إلى أن من دون هؤلاء عتوا وجحودا، قد يكون في موضع الغفران إذا تاب، وإن الحسنات يذهبن السيئات، وإنه بعد نزع أشدهم عتوا يكون الصليّ في نار جهنم، ولذا قال تعالى :
﴿ ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا ٧٠ ﴾.
أي أنه سبحانه وتعالى ينزع أشدهم عتوا من بين الأشرار فئة فئة، والله تعالى أعلم بمن هم أولى بالنار صليا، و﴿ صليّا ﴾ مصدر صلى يصلى صليا مثل مضى يمضى مضيا، وهوى يهوى هويا، ومعنى ﴿ أولى ﴾، أي أحق بأن يصطلى هذه النار، والعطف ب ﴿ ثم ﴾ يفيد التراخي المعنوي بين النزع من الشيع، وصليها بالنار فإنه يكون العرض، ثم يكون الإلقاء في النار إلقاء، وهكذا يختار من الشيع المستغرقة في الشر المتشايعة فيه أعتاها، ثم يلقى أحقها بالصلى في النار، ويعفو الله سبحانه عن بعض العصاة غير المشركين إذا تابوا أو كانت لهم حسنات تكافئ سيئاتهم، لأن الله تعالى يقول :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء... ٤٨ ﴾ ( النساء )، ويقول :﴿... إن الحسنات يذهبن السيئات... ١١٤ ﴾ ( هود )، ويقول :﴿... ويعفو عن كثير ٣٠ ﴾ ( الشورى ).
﴿ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ٧١ ﴾.
( إن ) هنا نافية، والمعنى ما منكم إلا واردها، وقد التفت سبحانه وتعالى من الغيبة إلى الخطاب، لمواجهة عباده بما قرر لهم وما قدره سبحانه وتعالى عليهم، والورود ليس معناه الدخول، بل إن المؤمن يَرِدُها ولا يُلقى ولا يُعذب فيها، وبذلك يوفق بين قوله تعالى :﴿ وإن منكم إلا واردها ﴾، وقوله تعالى بالنسبة للمؤمنين :﴿... أولئك عنها مبعدون ١٠١ ﴾ ( الأنبياء )، أي مبعدون من عذابها ولا يلقون فيها ولا يدخلونها، وروى أن المؤمنين يوردون عليها وهي ضاورة١، أي خامدة بالنسبة إليهم لا تمسهم ولا يلقون عذابها.
﴿ كان على ربك حتما مقضيا ﴾، ﴿ كان ﴾ ذلك الورود ﴿ على ربك ﴾ الذي خلفك ورباك ﴿ حتما ﴾، أي لازما، ﴿ مقضيا ﴾، أي قضاه الله تعالى وكتبه على نفسه، كما قال تعالى :﴿... كتب ربكم على نفسه الرحمة... ٥٤ ﴾ ( الأنعام )، وإن هذا الكلام لتأكيد الوقوع، وإنه سبحانه وتعالى قد كتبه على ذاته العلية، ولا إلزام عليه من أحد ولا يصح أن يستدل به الذين يقولون بوجوب الصلاح أو الأصلح، فإن هذا ليس من ذلك الباب في شيء، إنما لتأكيد الوقوع والقضاء منه، وهو الذي يقضي ويقدر وهو العزيز الحكيم.
﴿ ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ٧٢ ﴾.
العطف ب﴿ ثم ﴾ هنا للتفاوت البعيد بين النجاة التي كتبها الله للذين اتقوا، والصلي الذي كان لأولى الناس بالصلى في علم الله تعالى، والنجاة تكون للذين اتقوا العذاب ولم يشركوا بالله شيئا فلم يعبدوا الأوثان، ولم يفتنوا أحدا في دينه، ولم يكفروا بآيات الله تعالى ووحدانيته، وذكر الموصول يدل على أن الصلة وهي التقوى السبب في الإنجاء أو التنجية، والتنجية هي المبالغة في النجاة.
هذا بالنسبة للمتقين، أما الكافرون فقال الله تعالى فيهم :﴿ ونذر الظالمين فيها جثيا ﴾، أي جاثين على ركبهم ذلا وفزعا ورعبا وألما، والجثي تصوير لحالهم بالحس الدال على أنهم في أشد الفزع والألم، و﴿ نذر ﴾ معناها نتركهم، وعبر سبحانه وتعالى عن الكافرين ب﴿ الظالمين ﴾، لأنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم وإشراكهم، وظلموا الناس بفسادهم، وظلموهم بالفتنة والصد عن سبيل الله في معاملتهم للمخالفين لهم، وظلموا الفتنة والصد عن سبيل الله في معاملتهم للمخالفين لهم، وظلموا الحق بجحودهم مع رؤية آياته :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا... ١٤ ﴾ ( النمل ).
هذه أحوالهم في الآخرة، ولكنهم عنها عمون، فقد حسبوا أن الآخرة – إن كانت في زعمهم – ستكون لهم كما أن الدنيا تكون لهم، ولذا كانوا يستمرئون عنهم، ولذا قال الله عنهم ﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما، وأحسن نديا ٧٣ ﴾.
﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا ﴾، أي يتلى عليهم القرآن المنزل من الله تعالى، أي تقرأ آياته مرتلة واضحة بينة في ألفاظها وعباراتها المعجزة ومعانيها الواضحة الزاجرة الواعظة المبشرة المنذرة – أعرضوا عنها واستهزءوا بقراءتها وبالمؤمنين، وقالوا للذين آمنوا في شأنهم ساخرين منهم مستهزئين بهم ومستهينين بأمرهم :﴿ أي الفريقين ﴾ المؤمن والكافر، والبر والفاجر ﴿ خير مقاما ﴾ ومنزلة ﴿ وأحسن نديا ﴾، أي منتدى يجتمعون فيه ويسمرون، فهذا للأقوياء الكبراء ذوو المال والجاه والسطوة، وذلك للضعفاء والأرقاء المتسذرلين. ومؤدى القول أن المؤمنين ضعفاء مسترذلون في ذات أنفسهم ومكانهم في هذه، والذين يخالفونهم في منتدى طيب ومال وفير وعزة في النفر، وإذا كانوا كذلك فلا بد أن يكون بعد ذلك كذلك إن كان بعث ونشور، ولا يظنونه، وهذا كقول قوم نوح له :﴿... وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي... ٢٧ ﴾ ( هود ) ولقد قال في شأن الكافرين :﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه... ١١ ﴾ ( الأحقاف )، فهم يتخذون من أن الذين آمنوا ضعفاء دليلا على البطلان، وذلك لغرورهم وضلالهم، وتلك فتنة وقعوا فيها، وذلك أنهم يحكمون على الأمر بأنه باطل لضعف أتباعهم، وبأنهم على حق بقوتهم، وتلك فتنة لهم، ولذلك قال تعالى :﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ٥٣ ﴾ ( الأنعام ).
﴿ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورِئْيا ٧٤ ﴾.
( كم ) هي العددية، أي وكثير من الأمم أهلكناهم قبلكم، وكانوا أحسن أثاثا، فبيوتهم كانت مملوءة بالمتاع الطيب، لأن الأثاث هو متاع البيت، و( الرّئّي ) : المنظر الحسن، أي إذ كنتم تفاخرون المؤمنين بأنكم أهل نديّ حسن فيه الطنافس١ والأرائك والزرابي المبثوثة، وأنهم فقراء يعيشون في شدة، وليس لهم ندى كنديكم، وأنكم بذلك أهل الحق، والمؤمنون هم أهل الباطل، فقد أنصفهم الله منكم وكان هلاك الله نازلا بكم، والقرن الجماعة أو الأمة من الناس التي تعيش في زمن من الأزمان، وإذا كان الهلاك لا يكون إلا لأهل الباطل فليس الغنى والثروة دليلا على أن الحق في جانبهما، الحق لا يعرف إلا بالإيمان، وآيات الله تعالى، وكذلك نجّي الله المؤمنين الفقراء وأهلك الكفار الأغنياء.
﴿ قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ٧٥ ﴾.
يقول تعالى ردا على المشركين في غرورهم بالمال والبنين ومتعة الجاه والسلطان :﴿ قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ﴾ الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم يأمره سبحانه وتعالى بأن يبين لهم الحق والسنة الله تعالى في أمر الضلالة والهداية، فهو سبحانه يمُّد الذين أرادوا الضلالة وسلكوا سبيلها وأخذوا في أسبابها، يمدهم فيها مدا حتى يحسبوا أن الأمر إليهم، كما قال تعالى :﴿ وأملي لهم إن كيدي متين ٤٥ ﴾ ( القلم )، يمهلهم سبحانه ويتركهم في غيهم يعمهون، ويزيدهم بالمال ويعطيهم، حتى يفرقهم الغرور ويجعلهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقال تعالى بلفظ الأمر :﴿ فليمدد له الرحمن مدا ﴾ جاء الخبر على صيغة الأمر، لبيان أن ذلك بإرادة الله وكأنه يأمره به أمرا، وهو استدراج من الله تعالى لهم، كما قال تعالى :﴿... سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ٤٤ وأملى لهم إن كيدي متين٤٥ ﴾ ( القلم )، كما تلونا من قبل.
وأكد سبحانه إمهالهم واستدراجهم بالعطاء بوفرة عليهم بالمصدر ﴿ مدا ﴾، وأسند سبحانه وتعالى المد إلى الرحمن، وذلك لإفادة أن من رحمة الله بعباده أن يمكن كُلا ما يحب، ثم يحاسب كُلا على ما فعل من خير أو شر، فيكافئ كُلا بما فعل إن فخير، وإن شرا فشر.
ويستمر الضال في غيه﴿ فسيعملون من هو شر مكانا وأضعف جندا ﴾، وما يوعدون هو أحد أمرين إما العذاب في الدنيا بالقتال والجهاد واستئصال الشرك، وقد رأوه في جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وقد اجتث الشرك اجتثاثا، وإن لم يكن الجهاد وضرب الشرك وجعل كلمة الله هي العليا، فإنها تكون الساعة تستقبلهم ويكون العذاب يوم القيامة.
وعند الوصول إلى هذه الغاية المحتومة ﴿ فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ﴾، "الفاء" عاطفة على ﴿ ما يوعدون ﴾، و"السين" لتأكيد الفعل في المستقبل ﴿ من هو شر مكانا ﴾ يوم القيامة حيث يكون في الجحيم، وضعفاء المؤمنين في جنات النعيم، وهو رد على قولهم :﴿ أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ﴾، وقوله تعالى :﴿ وأضعف جندا ﴾، إذا كان عذابهم في الدنيا فإن أولئك الضعفاء الذين سخروا منهم سيكونون جند الله تعالى ويسحقونهم سحقا، هذا شأن أهل الضلال الذين اتخذوا أسبابه والذين مدوا في ضلالتهم، وأملى لهم استدراجا
﴿ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردّا ٧٦ ﴾.
﴿ ويزيد الله الذين اهتدوا ﴾ بأن سلكوا طريق الهداية وأزالوا كل غشاوة ونفذوا إلى نور الحق ﴿ هدى ﴾ بأن يستمسكوا بالحق ويهتدوا بهديه. والآيات التي تنزل تزيدهم إيمانا فوق إيمانهم، وكل سورة تنزل قوة في إيمانهم، كما قال تعالى :﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ١٢٤ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ١٢٥ ﴾ ( التوبة ).
وإن الذين اهتدوا تشرب قلوبهم حب الإيمان ويستمرئون الطاعة فيسيرون في طريقها، ويصلون إلى الغاية، وما كان من أعمالهم فهو باق له أجره وثوابه ويرد عليهم يوم القيامة، وإن كل خير يبقى، وكل شر يزول فهو كالزبد يكون له مظهر الوجود ولا يبقى، ولقد قال تعالى :﴿... فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض... ١٧ ﴾ ( الرعد )، والأعمال الصالحة لهذا باقية، ولذا قال تعالى :﴿ والباقيات الصالحات ﴾ وهي ما تكون ثمرة للإيمان القوى المثمر ﴿ خير عند ربك ثوابا ﴾، أي خير جزاء وقبولا عند الله، أما غيرها من الأعمال التي لا تكون ثمرة للإيمان فلا خير فيها ولا تبقى، ولقد قال في مثل ما ينفق الكافرون :﴿ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ١١٧ ﴾ ( آل عمران ).
فالباقيات الصالحات من أهل الإيمان تكون خير جزاء من أعمال الكافرين، و﴿ خير ﴾ أفعل تفضيل، ولكنه ليس على بابه، لأن مقابله لا خير فيه قط، وقوله تعالى :﴿ وخير مردا ﴾، أي خبر ما يرد به المؤمن يوم القيامة فهو يرجع عاريا من كل حلية إلا حلية العمل الذي يكون به الثواب ويكون لغيره العقاب، والخيرية في أفعل التفضيل ليست على بابها إذ لا خير في غيرها إذا كان أفعل التفضيل ليس على بابه، فالمراد به أنه بلغ من الخيرية أعلى درجاته فلا خير يعلوه قط.
﴿ أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ٧٧ أطّلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا٧٨ ﴾.
إن المشركين مغرورون بالدنيا غرتهم بغرورها، وحسبوا أنها لا حياة بعدها، وقدروا لأنفسهم مقاديرها فهم يستمتعون بحاضرهم، ويحسبون أن قابلهم من جنس حاضرهم بل ذهب بهم فرط غرورهم إلى أن حسبوا أن البعث إن كان يكونون فيه الأعلين كما هم في الدنيا.
وقوله تعالى :﴿ أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ٧٧ ﴾، "الفاء" للترتيب والتعقيب، وهي تصور كيف يمد للكافر حتى يصيبه الغرور، وهي مؤخرة عن تقديم وتقدير القول : فأريت، ولكن الاستفهام له الصدارة فقدم على الفاء، والاستفهام للإنكار، إنكار الواقع، وهو بمعنى التنديد لمن كانت حاله كذلك في غروره، وقوله تعالى :﴿ الذي كفر بآياتنا ﴾، أي جحدها وأنكر دلالتها على وحدانية الواحد الأحد الفرد الصمد، وهذا من الاستنكار الذي أفاده الاستفهام، وقال مقسما قسما هو حانث فيه ﴿ لأوتينّ مالا وولدا ﴾، و"اللام" لام القسم الواقعة في جوابه، ولذا كان التوكيد بنون التوكيد الثقيلة، وما كان له أن يحلف تلك اليمين الفاجرة الآثمة بأن سيكون له مال وولد، وقال في قسمه الحانث ﴿ لأتينّ ﴾، أي أنه بإرادته وقدرته الواهمة سيكون له مال قد اتخذه وأخذه لنفسه
قال الزمخشري في قوله :﴿ أطّلع الغيب ﴾ معناه أرتقى على الغيب، من قِبَل قولهم : اطلع الجيل ارتقاه. وأرى أن قوله : اطلع تتضمن الرؤية، وهنا همزة استفهام، وهمزة الفعل، والمعنى أرى الغيب عيانا، أم اتخذ عهدا عند الله تعالى، وإن شيئا من ذلك لم يحدث، فهو لم ير الغيب عيانا، إذ هو مطموس الفكر والنفس والقلب، وهو لا عهد له عند الله، كما قال تعالى :﴿... لا ينال عهدي الظالمين ١٢٤ ﴾ ( البقرة ).
ويذكر المحدثون جميعا أن سبب نزول هذه الآية أن خباب بن الأرت المؤمن الذي عُذب في سبيل الله كان قينا، أي حدادا فصنع للعاص بن وائل شيئا فطالبه بأجرته، فلم يعطه حتى يكفر بمحمد فقال : لا، فقال : إنكم تقولون إنكم ستبعثون، وسيكون لي ذهب فإني معطيك منه، فنزلت هذه الآيات. وقد رد الله تعالى كلامه فقال سبحانه :﴿ سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ﴾ وإن ما يقوله مكتوب في علم الله تعالى الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها فكيف يقال :﴿ سنكتب ما يقول ﴾ بالسين التي تؤكد الكتابة في المستقبل، والله به عليم، وقد أجاب الزمخشري عن ذلك بأن معنى ﴿ سنكتب ﴾، أي سنظهر المكتوب، وأحسب أن معنى ﴿ سنكتب ﴾، أي سنكتبه في كتابه الذي يقرأ عليه والذي ينطق بسيئاته حجة عليه قائمة لا يكون له سبيل لإنكاره، أي نسجّله عليه في صكّه المنشور يوم القيامة.
ونمد له في غروره مدا، وسمي ذلك عذابا، لأنه سبب لعذابه، فذكر المسبب وأريد السبب، وذلك جائز في المجاز المرسل والله تعالى أعلم.
﴿ ونرثه ما يقول ويأتينا فردا ٨٠ ﴾.
﴿ ونرثه ما يقول ﴾، أي نجعل ما يقول خلفا يتركه في الدنيا ويأتينا يوم القيامة فردا : منفردا عن ماله وولده، ﴿ ما يقول ﴾ : هو الذي تألى أن يكون له مال وولدا ليكونا زينته في الحياة الدنيا فهو يعطاهما، ولكن يخلفها من بعده ويتركهما حيث كانا في الدنيا، ويجئ منفردا، كما قال تعالى :﴿ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة... ٩٤ ﴾ ( الأنعام )، فلا مال ولا ولد يبقى، إنما الباقيات الصالحات كما قال تعالى. ويصح أن نقول : إن ما يقول هو دعاء الأنداد والإشراك بالله تعالى، وفتنة المؤمنين في دينهم، وادعاؤه أنه أولى بالنجاة من المؤمنين إن كانت، وإنكاره البعث، وقوله :﴿.... أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد... ٥ ﴾ ( الرعد ). وهذا الذي يقوله في الدنيا من افتراء على الله وكذب، وكل هذا سيكون ميراثه يوم القيامة ينال عذابه ويدخل جهنم وبئس المهاد.
وإضافة الميراث لله سبحانه، لأنه سبحانه هو الذي يقوم بعمل التوريث في الدنيا، فيورثه أخلافه، على التفسير الأول، وهو الذي يورثه العقاب الأليم على المعنى الثاني وهو الذي نختاره، والله – تعالى – أعلم بمراده.
﴿ واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا ٨١ كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ٨٢ ﴾.
هذا فريق من الكافرين، وجعل سبحانه وتعالى الضمير يعود إلى جمعهم، لأنهم جميعا اتخذوا آلهة، فقوم اتخذوا أصناما آلهة، وآخرون عبدوا النجوم، وغيرهم عبدوا الملائكة وقالوا بنات الله – تعالى – وبعضهم عبدوا الأشخاص، كالهنود الذين عبدوا كرشنه، والبوذيين الذين عبدوا بوذا. وكل يرى في معبوده نصيرا ينصره، وشفيعا يشفع له، وعبدة الأصنام كانوا يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى، وقالوا :﴿... ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى... ٣ ﴾( الزمر )،
هذا على أن الضمير يعود على العابدين الذين عبدوا آلهة من دون الله – تعالى-، بل يصل الأمر إلى أن ينكروا عبادتهم لهم، كقوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ٢٣ } ( الأنعام )، وكما قال تعالى :﴿ ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ٥ وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ٦ ﴾ ( الأحقاف )، ويصح أن يعود الضمير على الآلهة التي اتخذوها من دون الله، بتنزيل الأوثان منزلة العقلاء في زعمهم، والمعنى أن الأصنام التي أرادوها عزا لهم ستكون ضدا عليهم، وتتبرأ منهم فلا يكونون عونا لهم بل يكونون عونا عليهم، كما قال تعالى :﴿ وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ٧٦ ﴾ ( النحل ).
وقال تعالى في سورة إبراهيم :﴿ وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيض ٢١ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ٢٢ ﴾.
وربما يكون من الممكن أن نقول : إن الضمير يعود إلى العابد والمعبود، فكلا الفريقين يكفر بالآخر ويكون عليه ضدا، والله أعلم بمراده
﴿ ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزّهم أزّا ٨٣ فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدّا ٨٤ ﴾.
هذا بيان لتمكين الله الشياطين من الكافرين باستفزازهم وتهييجهم للشر، ﴿ ألم تر ﴾ الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، وفيه تنبيه إلى تمكن الشياطين، ونفي النفي إثبات، والاستفهام الذي بمعنى النفي داخل على منفي ب "لم" والمعنى قد أرسلنا الشياطين، أي مكناهم من الكافرين يغوونهم، ﴿ تؤزهم ﴾، أي تستفزهم وتهيجهم إلى الشر تهييجا شديدا، وإن ذلك يزيل عجب النبي صلى الله عليه وسلم من إصرار الكافرين على كفرهم واستهزائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، واجتماعهم على الباطل ورد الحق، فالله سبحانه بين أن ذلك من تسليط الشياطين عليهم تستفزهم، وتهيجهم إلى الشر ليستحقوا نقمة الله كاملة وسخطه عليهم، وأنه سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد، لا يزكيهم، وأنه يعدّ عليهم ما يفعلون عدّا، وكلما أمعنوا في شرهم كان عليهم العذاب بالمقدار إمعانهم، ولذا قال تعالى :﴿ فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا ٨٤ ﴾، "
﴿ يوم ﴾ متعلق بمحذوف معناه نؤجلهم إلى يوم يكون جزاء المتقين وجزاء المجرمين. والمتقون يحشرون مجتمعين على كرم الله تعالى لهم، فيكونون وفدا، أي ركبا مكرما فيكونون وافدين كرماء، كما يفد الركبان على الرؤساء الأجواد، ويحلون محل الكرامة في ساحتهم، وقوله تعالى :﴿ إلى الرحمن ﴾، أي أن الحشر إلى الرحمن الرحيم الذي يرحم عباده المؤمنين بجنة أورثوها بعملهم الطيب، ويستقبلهم عملهم الطيب كأنه رجل له عبير وعرف الأطهار المطمئنين، ويدخلون الجنة تجرى من تحتها الأنهار، أنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عمل مصفى، وهذا إكرام وفد الأبرار، هذا وفد المتقين.
﴿ ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ٨٦ ﴾.
﴿ ونسوق المجرمين ﴾، أي ندفعهم مسوقين كالبهائم مهانين غير مكرمين، لا إلى الرحمن رب العالمين، وإنما يساقون إلى جهنم وهم عطاش وكأنهم يذهبون إلى وِرد ماء يردونه ولكن يكون السَّوْق والدفع إلى جهنم فيكون وردهم جهنم وبئس الورد المورود لهم، والورد الذهاب إلى الماء، وفي هذا تشبيه، أي أنه شبهت جهنم لهم بالورد الذي يردونه على أنه ماء، فإذا هو جهنم، فهي استعارة تمثيلية.
﴿ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ٨٧ ﴾.
أي أنهم يكونون منقطعين للنار مخلدين فيها لا يشفع لهم شافع، كما قال تعالى :﴿... ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ١٨ ﴾ ( غافر )، وقوله تعالى :﴿ لا يملكون الشفاعة ﴾، أي لا يتمكنون من أن يشفع شفيع، فلا يقبل عدل، ولا تنفعهم شفاعة، ثم قال تعالى :﴿ إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ﴾، الاستثناء هنا منقطع قد قوبل فيه حالهم بحال المؤمنين، ومعنى الاستثناء هنا : لكن من اتخذ عند الله عهدا يشفع له، والعهد هنا هو شهادة أن لا إله إلا الله، وعبادة الله وحده وهذا العهد تكون به الشفاعة لمن يأذن الله تعالى له، كما قال تعالى :﴿ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ١٠٩ ﴾ ( طه )، وكما قال تعالى :﴿ ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ٨٦ ﴾ ( الزخرف )، فلا شفاعة لمن لا يشهد بالحق، والشفاعة لمن شهد بالحق لمن يأذن الله تعالى له بالشفاعة، وقال تعالى :﴿ وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ٢٦ ﴾ ( النجم ).
هذا هو القسم الثاني من الكافرين، والأول قد ذكرناه، وهم الذين يعبدون غير الله من أوثان ونار وكواكب وشمس، وبعد أن بين آمالهم، وعاقبتهم يوم القيامة، ذكر الذين فجروا وكذبوا على الله تعالى :
﴿ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ٨٨ ﴾.
سرى هنا إلى الذين قالوا إنا نصارى من الأفلاطونية الحديث، والأفلاطونية الحديثة أخذتها من الهند، حيث إن البراهمة قالوا : إن كرشنه ابن براهما، وبوذا ابن الله، ولقد أعظم الذين قالوا إنا نصارى، أعظموا الأمر وأضلوا أنفسهم، فزعموا أن الله اتخذ ولدا، أي أراد أن يكون له ولدا، واتخذ ولدا، لاحتياجه إليه، ثم أذاعوا بهتانا عظيما، فقالوا إنه قديم بقدم الله تعالى﴿ بديع السماوات والأرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة... ١٠١ ﴾ ( الأنعام )، وذكر الله تعالى بوصف الرحمة، لأنه سبحانه رحيم بالجميع فكيف يكون مختصا بولد أو بصاحبة، ورحمته عامة للعالمين.
﴿ لقد جئتم شيئا إدّا ٨٩ تكاد السماوات يتفطرّن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا ٩٠ ﴾.
أي لقد جئتم بهذا القول شيئا إدا، أي منكرا تنكره العقول، ولا يليق بذات الله العلية، ولقد قال الراجز :
لقد لقي الأقران منّي نُكرا
داهية دهياء إدّا إمرا
وأي منكر يكون داهية للعقول أن يقول قائل :﴿ اتخذ الرحمن ولدا ﴾.
ويلاحظ أنه انتقل الكلام الكريم من الغيبة إلى الخطاب، ليوجه القول الشديد إليهم وينبههم إلى عظيم ما ارتكبوا، وأنهم أتوا بأمر تطابقت العقول المدركة على إنكاره، وهو خطير في ذاته لا يقوله إلا مأفون في غفلة عن التفكير السليم المنطقي، ولقد كنا كلما تذاكرنا مع القائلين لهذا القول يقولون : إن ذلك فوق العقول لا تدركه، وما هو بمدرك في ذاته، ولذا شاع بين فلاسفة النصارى كلمة المنطق الديني في مقابل المنطق العقلي البرهان، وقالوا : إن منطق الدين لا تطبق عليه مقاييس البرهان والاستدلال، ويقولون لأنه فوق العقل، ونقول لهم : إن منطقهم الديني أمر منكر في العقول، وهو إدٌّ في العقول، وهو أمر مع أنه نكر، هائل في بطلانه، وأثره في تضليل الأفهام، وغفلة العقول :
هذا الهول من ذلك القول الذي قاله النصارى مقلدين للفلسفة المشتقة من الديانة الوثنية عند البراهمة والبوذيين، وهو قول يحاولون إدخاله في العقول، وهو بالنسبة للمحسوس ﴿ تكاد السماوات يتفطّرن منه ﴾ التفطّر : معناه التشقق أجزاء مختلفة متعددة متكررة، وقرئ ( ينفطّرن )١ من قبيل فعل المطاوعة، وهو من فطره بمعنى شقّه، وانشق مما يحتاج إلى معالجة، ومما يصعب فطره، فلا يقال كسرت القلم فانكسر، لأن كسر القلم لا يحتاج إلى معالجة ومحاولة، ولكن يقال : كسرت الحجر فانكسر، أو كسرت الباب فانكسر.
وما المراد من هذا التصوير السامي العالي : أيراد به بيان هول هذه الكلمة، وأنها لو نزلت على السماء والأرض لتفطرت السماء وانشقت الأرض، وهدت الجبال هدا، فالتصوير بيان بطريق التشبيه أو الاستعارة لضخامة البطلان فيها، من حيث إنها لو كانت محسوسا يُحس ونزل على السماوات لتفطرت وتقطعت أوصال نجومها، ولو نزلت على الأرض لانشقت وهدت جبالها التي هي كالأوتاد.
ثم إن هذه الكلمة كانت تسوغ تعجيل العقاب عليهم بأن تنفطر السماء عليهم، وتنشق الأرض وتهد الجبال هدا، ولكن الله تعالى يمسك السماء والأرض، كما قال تعالى :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ٤١ ﴾ ( فاطر )، وإن ذلك بسبب هذا الافتراء والادعاء الباطل
﴿ أن دعوا للرحمن ولدا ٩١ وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ٩٢ ﴾.
﴿ أن دعوا ﴾ المصدر المنسبك من "أن" والفعل مجرور بلام التعليل المحذوفة، والمعنى تنفطر السماوات والأرض لادعائهم أن للرحمن ولدا، وهو ادعاء ادعوه، ودعاء لهم في عبادتهم، فقد ادعوه افتراء على الله واتخذوه إلها في ضمن آلهة ثلاثة تابعين للمصدر الذي قلدوه فيها، وهو زعمهم الأب والابن وروح القدس، و﴿ ولدا ﴾ مفعول ل﴿ دعوا ﴾، إذ دعوه بغير علم ولا حجة، غير عارفين لمقام الألوهية، ولا مدركين، وذكر وصف الرحمن في هذا المقام، لأن هذا الوصف يحمل دليل بطلان قولهم، لأن رحمة الرحمن لكل عباد الله، فلا يختص ابنا مدعى ولا مفترى.
﴿ ينبغي ﴾ فعل مطاوعة من بغى، أي طلب بشدة لحاجته، وفعل المطاوعة كما ذكرنا هو الفعل بمعالجة، ومحاولة، وذلك لا يكون من الله سبحانه وتعالى، وذكر وصف الرحمن جل جلاله ؛ لأنه كما ذكرنا ينافي وصف الرحمة للعالمين، ولذا قال تعالى في وصفه بالرحمة للعالمين وأنها تعمهم، ولا يخص بعضهم، ولا يكون ولد بالولادة لأنه لا صاحبة، ولا بالتبني لأنه ليس من جنسه :
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه : يقول الله تبارك وتعالى :"كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذبيه إياي فتقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن له كفؤا أحد"١، ولذا ما كان ينبغي أن يكون للرحمن ولدا، لأنه تطاول على مقام الألوهية من قائليه، لأن العباد جميعا بالنسبة له على سواه، وعيسى عليه السلام عبد الله ورسوله. وكما قال تعالى :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون... ١٧٢ ﴾ ( النساء ).
و( إنْ ) في قوله تعالى :﴿ إن كل من في السماوات ﴾ نافية، أي ما كل من في السماوات والأرض إلا آتيه خاضعا خانعا لله سبحانه وتعالى، قائما بالعبودية، فالجميع خاضع له خضوع العبيد الأحياء وغير الأحياء، ﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض... ١٥ ﴾ ( الرعد ).
وقوله تعالى :﴿ إلا آتي الرحمن عبدا ﴾، إلا آتيه مقبلا على الله تعالى إقبال العبد في خضوع وخنوع، خضوع العابد للمعبود، وهو الله جل جلاله، ويقول الإمام الزمخشري في تفسير هذه الآية : والمعنى ما من معبود لهم في السماوات والأرض من الملائكة ومن الناس إلا وهو يأتي الرحمن، أي يأوي إليه ويلتجئ إلى ربوبيته عبدا منقادا مطيعا خاضعا خاشعا راجيا كما يفعل العبيد، وكما يجب عليهم لا يدعي لنفسه ما يدعيه له هؤلاء الضُّلال، ونحوه قوله تعالى :﴿ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه... ٥٧ ﴾ ( الإسراء )، وكلهم منقلبون في ملكه مقهورون بقهره، وهو مهيمن عليهم، محيط بهم، ويحمل أمورهم، وتفاصيلها، وكيفيتهم، وكميتهم، ومجيئهم، لا يفوته شيء من أحوالهم.
﴿ وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ٩٥ ﴾.
أي آتى الله تعالى منفردا عما كان يعتز به من مال وبنين وعشيرة، ونفر وقوة، ولا شفيع ولا نصير، ولكن يلقون الله تعالى بأعمالهم مجردة، وبأشخاصهم مجردين، وإن ذلك يوم القيامة، يوم يحاسب كل واحد على ما قدمت يداه، ويؤتى كتابه فيه إحصاء ما عمل، وتنطق أيديهم وأفواههم بما كانوا يقترفون.
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّا ٩٦ ﴾.
﴿ إن الذين آمنوا ﴾، فسبقوا إلى الإيمان مذعنين لله، وقووا إيمانهم بالعمل الصالح، فالإيمان من غير صالح يزكيه وينميه مآله أن يكون خاويا فارغا، وقال الله تعالى في ثمرته الاجتماعية بالنسبة لعلاقتهم الإنسانية :﴿ سيجعل لهم الرحمن ودا ﴾، بضم الواو وبكسرها، وبهما كانت القراءة، فقرئ بالضم. وقُرئ بالكسر، والود المحبة من غير حمل عليها، بل بانجذاب القلوب المؤمنة، فإن الإيمان يصفى قلوبهم، وينير بصائرهم، فينجذب بعضهم لبعض من غير تحبيب، بل بمقتضى الطهر الجامع. والإخلاص الذي يؤلف القلوب، ويؤاخى بين الناس، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"إن لله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانهم من الله يوم القيامة" قالوا : ومن هم يا رسول الله، قال :"قوم تحابوا بروح من الله على غير أرحام تربطهم ولا أموال يتعاطون، والله إنهم لنور، وإنهم لعلى نور"، ثم تلا قوله تعالى :﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون ٦٢ ﴾ ( يونس ).
وكذلك كان المؤمنون الأولون، حتى إن الرجل من الأنصار بعد المؤاخاة كان يشاطر أخاه في ماله غير ضنين، بل إن بعضهم كان ذا زوجتين فهمّ بأن يطلق إحداهما ليتزوجها أخوه، ولذا وصف الله الأنصاري بقوله تعالى :﴿.... ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة... ٩ ﴾ ( الحشر ).
ولقد كانت المحبة الصادقة والمودة الرابطة قوة المسلمين في مكة، حيث لا قوة لهم من مال أو جاه أو سلطان، فقد كانت هذه المودة دافعة أبا بكر لأن يشترى الأرقاء من المؤمنين، ويعتقهم، وقد صاروا فيما بعد قوة المسلمين في الجهاد وذوي شأن بين أهل الإيمان.
وإنه من وقت زال الود الجامع للمؤمنين زالت وحدتهم، وذهبت قوتهم، ولا أستطيع أن أقول : إنهم خرجوا عن الإيمان، ولكن المؤكد أنهم لم يعملوا عملا صالحا، بل تنابذوا وذهبت ريحهم.
﴿ فإنما يسّرناه بلسانك لتبشّر به المتقين وتنذر به قوما لدا ٩٧ ﴾.
الضمير في ﴿ يسّرناه ﴾ يعود إلى القرآن، لأنه حاضر في قلوب المؤمنين يملأ أجواءهم بعطره ونوره فلا يحتاج إلى ذكر معين سابقا، لأنه مذكور دائما حاضر في القلوب لا يغيب عنها، و"الفاء" للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر تقديره : إذا كانت حجتك الكبرى هذا القرآن العظيم، فإنما يسرناه بلسانك العربي، وسهلناه على كل عربي يقرؤه من غير عوج ولا عُجمة فيه ولا إبهام، لتبشر به المؤمنين الذين يدخل الإيمان قلوبهم، لأنهم يذعنون للحق إذا جاءهم، والناس أقسام ثلاثة :
القسم الأول : قسم آمن بالحق إذ جاءهم كأولئك الذين كانوا خلية الإيمان الأولى من أمثال أبي بكر وبلال وصهيب وزيد بن حارثة.
والقسم الثاني : قسم قلبُه منفتح للحق يجيب داعيه، ويحضر ناديه، وهؤلاء ومن سبقهم هم الذين يبشرهم القرآن بالجزاء الأوفى.
والقسم الثالث : اللّدّ وهم الذين يجادلون بغير الحق، وهؤلاء ينذرهم القرآن الإنذار الشديد لكيلا يكون لهم عذر في كفرهم، ولتقوم الحجة عليهم، كما قال تعالى :﴿... وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ٢٤ ﴾( فاطر )، وقال تعالى :﴿... وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ١٥ ﴾ ( الإسراء )، واللسان هو اللغة وهي هنا العربية.
واللد جمع ألد وهو الشديد الخصومة، ومنه قوله تعالى :﴿... وهو ألد الخصام ٢٠٤ ﴾ ( البقرة ).
وقال الشاعر العربي :
أبيت نجيا للهموم كأنني أخاصم أقواما ذوي جدل لدّا
ومن شأن أهل الجدل والخصومة أن يكون عقلهم في انحياز جانبي إلى تفكير، لا يفتحون عقولهم لما يلقى عليهم فلا يستمعون إلى الحق إذا دعوا، ويسيرون طريقهم غير مدركين حقا، والإنذار يزعج حسهم، وربما يهتدون، وإلا فهم في طريق الغواية سائرون.
وإن هؤلاء ربما يمهلهم الله إلى يوم القيامة، حيث الحساب ثم العقاب على ما اقترفوا
﴿ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ٩٨ ﴾.
القرن : الجماعة من الناس التي تعيش في عصر واحد، فالقرن الجماعة، وليس الزمن، والرّكز هو الصوت الخفي، ومعنى ذلك أنهم أبيدوا، وصارت آثارهم تنبئ عنهم ليكونوا عبرة المعتبرين، وليكونوا المَثُلات لمن يرتكبون مثل ما فعلوا، والركز يقال لكل شئ مختف، فيقال ركز الرمح، أي اختفى في الأرض والرّكاز المال المختفي. كذلك قال المزخشري في الكشاف.
وإن هذا بلا ريب إنذار للمشركين في الدنيا بالهلاك والدمار، كما كان لقوم نوح إذ أغرقهم، ولقوم هود وصالح إذ جاءتهم ريح صرصر عاتية، ولقوم لوط إذ جعل سبحانه وتعالى أرضهم عاليها سافلها.
وهكذا، ولكن المشركين لم ينزل سبحانه ذلك بهم، ولكنه ذكره لبيان عاقبة الكفر أولا، وعظيم قدرته ثانيا، وما يتعرضون له ثالثا، أما مشركو مكة فلم ينزل بهم ذلك العذاب المستأصل، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فلا بد أن تبقى طائفة من أمته ظاهرة على الحق داعية إليه سبحانه، وقد كان من أولئك المشركين من هداه الله وكان قوة للمؤمنين وعزا للإسلام، وكان من ذرية العاتين من صار من نصراء المؤمنين كعكرمة بن أبي جهل، والله بكل شيء عليم.